الحملة الصليبية على العالم الإسلامي والعالم

يوسف الطويل

قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 4 - 8]. صدق الله العظيم

إهداء

إهداء إلى الأقصى السجين، وفلسطين المغتصبة ... إلى أفغانستان المنسية، والعراق المنكوب ... إلى القائمة الأمريكية الطويلة من الإرهابيين ... ! إلى كل مسلم ليعرف مسئوليته التي سيحاسب عليها يوم لا ينفع مال ولا بنون ... إلى القائمة الطويلة من الأمميين .. مسيحيين ومسلمين وغيرهم .. مستحقي لعنة (شعب الله المختار) من اليهود والصهيونيين المسيحيين ... هذا نداء عاجل للتصدي للهجمة الدونية الوحشية للصليبين الجدد .. الذين نشروا الحرب والدمار في كل مكان حلوا به .. بدءً من إبادة الهنود الحمر واستعباد زنوج أفريقيا .. مروراً بنهب أمريكا اللاتينية وتدمير أوروبا وإذلال آسيا .. وانتهاءً بما يحدث في فلسطين وأفغانستان والعراق .. ومن سيتبعهم. إلى هؤلاء جميعاً أهدى هذا الكتاب المؤلف يوسف العاصي الطويل

إهداء خاص

إهداء خاص إلى روح من علمني معنى الحب والوفاء وحب الخير لكل البشر .. والذي كانت حياته مثالاً رائعاً للتعايش والصداقة بين الشعوب بمختلف ألوانها وأديانها ... والذي جعلني أصل إلى يقين ثابت بأن هؤلاء الأنجلوسكسون دعاة صراع الحضارات وثقافة الهمبرجر والبيبسي كولا لن يطول تسلطهم على العالم .. وان نهج المحبة والإخاء والصداقة بين الشعوب سينتصر .. فالطبيعة الخيرة والمحبة موجودة في كل مكان في العالم .. وكما لفظت حضارات العالم القديم دعاة الحروب والعنصرية والحقد والتعالي وجعلتهم يتوهون في أرجاء الأرض .. فستلفظ حضارتنا المعاصرة هؤلاء أيضا، وسيكون العالم مقبل على مرحلة جديدة من تلاقح الحضارات ... أخي الحبيب سامي لطالما انتظرت صدور هذا الكتاب .. وكنت على علم بكل صغيرة وكبيرة فيه .. وكانت الأفكار قبل أن تجد طريقها إليه تمر أمامك فتضيف إليها الكثير من روحك المشبعة بالمحبة والكارهة للظلم والغطرسة .. وها هو الكتاب يصدر ويرى النور وأنت بعيد عنا بجوار ربك الرحيم .. هكذا شاء القدر .. وهكذا هي الحياة ... لقد رحلت قبل إن ترى هذا الكتاب .. ولو كنت حياً لفرحت من قلبك .. فأنا اعرف الناس بك .. اعرف كيف كنت تحب الله وتحب الحياة والناس.

برحيلك أيها الحبيب رحل أخي وصديقي ذو القلب الأبيض الناصع البياض الطفل الرائع .. الذي آمن بالله صدقاً فأحب الأرض والناس .. وعاش من اجل الناس .. لقد كنت تكره منظر الدماء حتى لو كانت ذبحاً حلالاً .. وتفرح من قلبك عندما ترى عاشقين .. وتحزن بعمق لخبر عن كارثة أصابت بشراً على الشاطئ الآخر من بحر الظلمات. إلى روحك الطاهرة .. والى اسرتنا الصغيرة زوجتى حنان وابنائي محمد وعبد الرحمن وعمر والى غالية وفاطمه ولما وزين وعبد الله وخليفه ويمنى الذين احبتتهم جميعا واعطيتهم كل ما تستطيع .. اهدي هذا الكتاب أخوك يوسف الطويل

تقديم

تقديم بالرغم من أنه مضى أكثر من 18 عاماً على صدور كتابي (الصليبيون الجدد .. الحملة الثامنة) -حيث كان ينشر على حلقات في جريدة الخليج الإماراتية (¬1) - إلا أنني اشعر في كل مره تمر بها امتنا العربية والإسلامية بلحظات عصيبة، بالحاجة إلى إعادة نشره والتذكير به، وبالذات عندما يكون الأمر متعلقاً بأمريكا وبريطانيا ومشروعهما الصليبي في المنطقة (إسرائيل). فهذه المدة الطويلة التي مرت على أول مره نشرت بها الدراسة لم تفقدها أهميتها وموضوعيتها في تفسير ما يجرى على الأرض العربية، بل أكدت الحاجة إلى إعادة نشرها وتنقيحها، وبالذات وأنها تعالج موضوع حساس ومصيري للأمة العربية والإسلامية وهو أسباب تحيز أمريكيا وبريطانيا السافر لإسرائيل وعداءهما لكل ما هو عربي وإسلامي، حيث لم تكتفي هاتان الدولتان بزرع إسرائيل في قلب الأمة العربية ومدها بكل أسباب الوجود، بل لجأت خلال القرن الحالي إلى محاربة وتدمير أية قوة عربية أو إسلامية يمكن أن تهدد إسرائيل، وسعتا بكل ما أوتيتا من قوة إلى تفكيك العالم الإسلامي وأضعافه بكل الوسائل، مستخدمة مبررات وألاعيب مختلفة، والتي كانت للأسف تنطلي على العرب والمسلمين مره باسم التحرر من السيطرة العثمانية ومحاربة النازية والفاشية، وأخرى باسم محاربة المد الشيوعي والقومي، وثالثة بدعوى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأخيراً بدعوى محاربة الإرهاب. ولسنا هنا بحاجة كبيرة إلى إمعان النظر لنتبين الدور الخبيث الذي لعبته هاتان الدولتان مجتمعتين أو منفردتين في تقسيم الدول العربية جغرافياً وسياسياً، ونهب ثرواتها، ومحاربة توجهاتها الوحدوية والنهوضوية، ابتداءً من وعد بلفور ومعاهدة سايكس بيكو ومروراً بحرب 48، 56، 67، 73، وحرب لبنان 82، حتى حرب الخليج، التي دمرت خلالها القوة العسكرية والاقتصادية للأمة العربية، وفرض عليها الجلوس على طاولة المفاوضات مع إسرائيل خاوية اليدين. ¬

(¬1) نشرت هذه الدراسة ما بين 6/ 2/1989 - مارس 1989 في جريدة الخليخ الاماراتية على حلقات تحت عنوان اليهود في التراث الديني المسيحي.

أما حربها الحالية ضد ما تسميه بالإرهاب التي وضعت على قائمتها 60 دوله غالبيتها العظمى، إسلامية وعربية، بدأتها بأفغانستان وفلسطين والعراق، وتقف في الانتظار، دول مثل إيران وسوريا ولبنان والصومال وليبيا والسودان، وحتى دولاً تعتبر حليفه لأمريكا مثل السعودية ومصر .. الخ، فالحديث عنها يطول، ويبدو أن أمريكيا وبريطانيا تريدان أن تتوجا حملتهما الصليبية على العالم الإسلامي والعربي والتي بدأت قبل أكثر من قرنين من الزمن، بهذه الحرب الفاصلة، حيث اتخذتا من أحداث 11 سبتمبر مبرراً لشن هذه الحملة الشرسة ضد الإسلام والمسلمين في كل مكان بدعوى محاربة الإرهاب. وقد قمت في حينه وبعد أحداث 11سبتمببر مباشرة بنشر دراسة عن هذه الحملة في عدد من الصحف والمجلات العربية وعبر مواقع الإنترنت، بينت فيها البعد الديني لهذه الحملة وكيف أن بوش عندما أعلن أنها حرب صليبية فأنه كان يعنى ما يقول حرفياً، وبينت أيضا كيف أن أحداث 11 سبتمبر هي من تدبير أمريكي لا علاقة للمسلمين بها من قريب أو بعيد، ولكن قامت الإدارة الأمريكية والتيار الديني الأصولي المسيحي الذي يحكم أمريكيا الآن بافتعال هذه الأحداث لتبرير شن هذه الحملة على العالم الإسلامي، حيث يؤمن إتباع هذا التيار الأصولي بخرافات ونبوءات توراتية تقول بضرورة قيام معركة فاصلة بين قوى الخير والشر تسمى هرمجيدون في ارض فلسطين كمقدمه ضرورية لعودة المسيح المنتظر الذي سيحكم العالم من مقره في القدس. فقد كانت حرب أفغانستان هي البداية الأولى لهذه الحرب التي تسميها أمريكيا حرب الإرهاب والتي صرح الرئيس بوش بأنها ستشمل 60 دوله وستستمر لعدة سنوات، حيث يسعى التيار المسيحي الأصولي الذي يحكم أمريكيا الآن، بكل الوسائل إلى تطبيق وإخراج النبوءات التوراتية على ارض الواقع ولو كان ذلك بافتعال الأحداث وإخراجها كما يريد، وهذا ما حدث في أحداث 11 سبتمبر، وما تلاها من أحداث، حيث اجمع كافة المختصين والمحليين استحالة تنفيذ هذا العمل من قبل تنظيم كتنظيم القاعدة أو إيه جهة خارجية، نظراً للإمكانيات والتدريب والمعلومات الدقيقة التي لا تتوفر إلا لشخصيات قيادية في المخابرات أو الجيش الأمريكي. كما أن الولايات المتحدة لم تستطع حتى هذه اللحظة الآتيان بديل مقنع على تورط تنظيم القاعدة

في هذه العمليات. لهذا نؤكد أن كل ما حدث ليس إلا تدبير أمريكي مسبق لخلق الذرائع والمبررات لشن هذه الحملة الصليبية على العالم الإسلامي، خدمه لمشروعها الصليبي في المنطقة والمتمثل في دولة إسرائيل. ونفس الشيء يقال عند محاولة معرفة الأسباب الحقيقة لحرب أمريكيا على العراق الشقيق الذي تعرض لمدة أكثر من 13 عاماً لحرب شرسة وحصار همجي وحاقد شنته كلا من بريطانيا وأمريكيا بحجج ومبررات مختلفة، بدأت بدعوى تحرير الكويت وتطبيق قرارات الشرعية الدولية وعمل لجان لتفتيش وأخيرا قامت باحتلاله بدعوى امتلاكه أسلحة دمار شامل ... الخ. ولسنا هنا في سبيل الخوض في هذه الدعاوى والمبررات التي افتعلها أمريكيا والتي يعلم القاصي والداني بطلانها وأنها ما هي إلا شعارات تخفى أمريكيا وراءها الأسباب الحقيقية ومخططاتها الخبيثة في المنطقة العربية والتي تصب في خدمة مشروعها الصليبي في المنطقة والذي يحتل وجود إسرائيل جوهر هذا المشروع الصليبي الذي بدأ التخطيط والتنفيذ له منذ قرون طويلة مع ظهور المذهب البروتستانتي. فليس مصادفة أن تتزامن هذه الحملة الانجلوسكسونية (الانجلوأمريكية) على كثير من الدول والمنظمات وحركات المقاومة الإسلامية مع هجمة مماثلة يشنها العدو الصهيوني على شعب فلسطين، حيث وصلت عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل إلى طريق مسدود بسبب تعنت الحكومة الإسرائيلية وممارساتها المناقضة لكل ما اتفق عليه سواء في مؤتمر مدريد أو في اتفاقيات أوسلو والتي تم التوصل إليها جميعا برعاية وضمانة أمريكية، حيث كان من المفترض أن تمارس الأخيرة دورها في الضغط على الجانب الإسرائيلي لإجباره على تنفيذ ما اتفق عليه. ولكن الذي حدث أن الولايات المتحدة لم تقم بدورها المطلوب، بل اختارت أن تكون في خندق واحد مع الجانب الإسرائيلي، وعملت كل ما في وسعها من اجل تمرير السياسة الإسرائيلية المناقضة لاتفاقيات السلام، بحيث أصبح التفريق بين الموقف الإسرائيلي والموقف الأمريكي من أصعب الأمور، بل إننا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن التعنت الإسرائيلي أضحى مطلباً أمريكياً بالدرجة الأولي.

ولسنا هنا في مجال تقييم اتفاقيات السلام لان ذلك لا يدخل ضمن أهداف هذا الكتاب، ولكن الذي نريد توضيحه والتركيز عليه هو تحديد ماهية الصراع الدائر في منطقتنا منذ قرن من الزمن، وتحديد أبعاده والمتغيرات التي يمكن أن تؤثر فيه، ودوافع الدول التي تدعمه وتقف وراءه وتعمل كل ما بوسعها من اجل استمراره وترسيخ وجود الظاهرة الإسرائيلية في المنطقة، وذلك بعيداً عن كل ما يقال عن اثر اللوبي والصوت الانتخابي اليهودي وظروف الحرب الباردة وغيرها من الأقاويل التي أثبتت الأحداث عدم صحتها إطلاقا، حيث سنركز في هذه الدراسة على البعد الديني للصراع، والذي يمكن أن يوضح لنا طبيعة العلاقة القائمة بين إسرائيل والدول الداعمة لها وعلى رأسها بريطانيا وأمريكيا، والسبب الذي يدفع هذه الدول إلى تبني المطالب الصهيونية والدفاع عنها باستماتة. في كلمة ألقاها بنيامين نتنياهو أثناء صلاة الصباح التي يقيمها المسيحيون الأمريكيون لإسرائيل، في مستهل فبراير 1985م عندما كان سفيراً لإسرائيل لدى الأمم المتحدة، أشاد نتنياهو بـ "الزمالة التاريخية بين المسيحيين المؤمنين واليهود، لان هذه الزمالة قد عملت بنجاح على تحقيق الحلم الصهيوني". وفي كلمته تعجب نتنياهو كثيراً من جهل أولئك الذين يجدون مدعاة للدهشة فيما يقدمه المسيحيون الأمريكيون الإنجيليون من تأييد قوى وراسخ لإسرائيل ويصورونه كظاهرة جديدة، حيث قال: "فأولئك الذين يعرفون التاريخ الحقيقي للانخراط المسيحي العميق في الحركة الصهيونية لا يجدون أي مدعاة لأية دهشة أو تساؤل بشأن الدعم القوى الذي يقدمه لإسرائيل كل المسيحيين المؤمنين في العالم .. والذي جعل الكتاب والقساوسة والصحفيين ورجال الدولة ـ بريطانيين وأمريكيين ـ دعاة متحمسين لإعادة اليهود إلى وطنهم، حيث لم تكن هذه الصهيونية المسيحية قاصرة على الدعوة أو المثاليات بل امتدت إلى الخطوات العملية اللازمة لتحقيق ذلك الذي كان حلماً ". هذا ما قاله نتنياهو قبل أكثر من 23 عاماً، عندما كان سفيراً لبلاده في أميركيا، وها هو الآن يستعد لترأس الحكومة الإسرائيلية التي لن نقول عنها أنها ستكون أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً وسعيا ً إلى التوسع فحسب، بل نضيف إلى

ذلك إنها ستكون أكثر الحكومات إدراكا ووعيا لحقيقة الموقف الأمريكي الرسمي والشعبي من الصراع الدائر في المنطقة. فنتنياهو تربى وتعلم في أمريكيا وعمل سفيراً لبلاده فيها، وتعرف خلال وجوده فيها عن قرب على التيار المسيحي الديني الداعم لإسرائيل، وسعى هذا التيار لتحقيق المشروع الصهيوني بكامله، انطلاقاً من إيمان أتباعه بنبوءات توراتية تعتبر إقامة إسرائيل وعودة اليهود إليها وبناء الهيكل مقدمات ضرورية لعودة المسيح الثانية، وبداية العصر الألفي السعيد حيث سيحكم المسيح العالم من مقره في القدس!! وانطلاقاً من إدراك نتنياهو لهذه الحقائق فقد حرص خلال عمله في أمريكيا وحتى بعد توليه رئاسة الوزراء على التقرب إلى هذا التيار والاجتماع بزعمائه ومؤيديه لكسب دعمهم وتأييدهم لكل ما يقوم به. ففي الوقت الذي كان الجيش الإسرائيلي يتصدى بكل وحشية للمظاهرات العارمة التي اندلعت في فلسطين عام 1996 م بسبب إقدام الحكومة الإسرائيلية على افتتاح نفق بالقرب من المسجد الأقصى، كان نتنياهو يحضر اجتماعاً لمئات المسيحيين البروتستانت أعضاء السفارة المسيحية الدولية في مدينة القدس، غير عابئ بالانتقادات الدولية لهذا القرار، حيث ألقى أمام المجتمعين خطاباً حماسياً مثيراً، أكد فيه انه لن يغلق النفق وان القدس ستظل العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، حيث قوبل خطابه بالتصفيق الحاد والتهليل، وقام بعض القساوسة الحاضرين بمباركة نتنياهو، وامسك به أحدهم ووضع يده على رأسه وهو يرتدى القبعة اليهودية، واخذ يقرأ عليه الأدعية والابتهالات الإنجيلية داعياً الله أن يمده بالقوة للثبات على موقفه، وفي نفس الوقت كان جميع الحاضرين في القاعة يرددون كلمة آمين. وخلال هذا الاجتماع قام نتنياهو بإهداء المجتمعين مجسم لمدينة القدس خالي من أي اثر للمسجد الأقصى وقبة الصخرة، حيث وضع مكانهما مجسم للهيكل اليهودي. ولسنا هنا في مجال سرد للوقائع والشواهد الكثيرة التي توضح اثر العامل الديني في كسب تعاطف المسيحيين البروتستانت، مع دولة إسرائيل وعدائهم لكل ما هو عربي وإسلامي، لأننا لو فعلنا ذلك سنكون بحاجة إلى عدة كتب لتسجيل ذلك. كما أننا لو أردنا متابعة الأحداث الجارية والتصريحات والشواهد اليومية الصادرة عن

المسيحيين البروتستانت فإننا سنضطر لإعادة كتابة هذا العمل كل شهرين أو ثلاثة تقريباً .. ولكننا نكتفي بما ورد في هذا الكتاب من معلومات، والتي نعتقد بأنها كافية لإلقاء الضوء على البعد الديني وأثره في تشكيل السياسة الأمريكية والبريطانية ليس فقط تجاه فلسطين، بل تجاه الأمة العربية والإسلامية .. والعالم، وهذا سيمكننا من معرفة الدوافع الحقيقية لحملتهما الصليبية على العالم الإسلامي، بعيداً عن كل المزاعم التي تحاول أمريكيا وأعوانها ترويجها مثل القول بان الهدف هو محاربة الإرهاب، أو غيرها من الأقوال والمبررات التي أصبح القاصي والداني يدرك بطلانها وعدم كفايتها لتبرير كل هذا الحقد والكراهية التي لا تذخر أمريكا جهداً في صبها على امتنا العربية والإسلامية، ممثلة في فلسطين والعراق وليبيا والسودان وإيران وأفغانستان .. الخ. فما يحدث في أفغانستان والعراق لا يمكن فهمه إلا من خلال علاقته العضوية بما يحدث في فلسطين، وسياسة أمريكيا وبريطانيا تجاه العراق والعالم العربي والإسلامي لا يمكن فهمها إلا من خلال علاقتهما المباشرة بسياستها تجاه فلسطين. وسياسة أمريكيا وبريطانيا تجاه فلسطين لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً بعيدا عن بعدها الديني المرتبط بالمذهب البروتستانتي السائد في هذه الدول الذي أعطى إسرائيل دوراً مركزاً في نظرة هذه الدول للعالم، ودوره في تشكيل العقل والفكر الأمريكي منذ البدايات الأولى وحتى الآن، حيث لم يكن بعيدا عن كل ذلك ما جرى للهنود الحمر والزنوج في أمريكا، أو ما حدث في فيتنام وهوريشيما وأمريكا اللاتينية، فكان الدين حاضراً في كل تلك المشاهد، وكان التراث الديني المستمد من التوارة ونبوءاتها وتفسيراتها هو المحرك لكل ما جرى من حروب صليبية لتطهير أمريكا من الهنود الحمر، ولنهب واستغلال شعوب العالم الاخرى بدعاوى مختلفة، حيث حرص قادة المجتمع الأمريكي السياسيين والروحانيين على السواء، بأن يتخذوا مواقفهم منذ نشأة جمهوريتهم وحتى الآن، على قمة متاحة من الأرض الأخلاقية العالية، مستمدين باستمرار السند والمبرر لكل تصرف أمريكي في شؤون أمريكا والعالم من الدين والأخلاقيات العليا، ومن المصطلحات ذات الرنين الأخلاقي القوى، كـ "الحقوق الإنسانية"، "والقانون الدولي"، و"الحضارة" وما أشبه، ومسبغين على

أنفسهم وعلى بلدهم عباءة الاضطلاع بعبء رسالة حملت العناية الإلهية ذاتها لا أقل، الأمة الأمريكية بها لصالح البشر جميعاً. وقبل أن اختم هذه المقدمة أود الإشارة إلى أمر مهم، وهو أن هذا الكتاب، لا يهدف إلى القول بأن كل مسيحيي العالم يدعمون إسرائيل ويؤيدون ما تقوم به في فلسطين، بل إن هذا الأمر مقتصرٌ فقط على إتباع المذهب البروتستانتي الذين ينتشرون في أمريكيا وبريطانيا وبعض الدول الأوربية واستراليا، أما الطوائف المسيحية الأخرى ـ كاثوليك وارتوذكس ـ فلا يؤمنون بالتفسيرات والنبوءات التوراتية الخاصة بإسرائيل كما وردت في الإنجيل، ولهم موقفهم الخاص من اليهود وإسرائيل، والذي يصل إلى حد العداء. فالصليبيون الجدد الذين نتحدث عنهم في هذا الكتاب، هم أتباع المذهب البروتستانتي، الذي ظهر مع ما سمي بحركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر. أما بالنسبة لموقف المسيحيين العرب، فلا مجال هنا للمس بهم وبمواقفهم المشرفة عبر التاريخ وبنضالهم في سبيل نصرة قضايا أمتهم العربية وعلى رأسها قضية فلسطين، حيث شاركوا بكل قواهم في التصدي للخطر الصهيوني، سواء بدمائهم أو بأقلامهم التي كانت لها صولات وجولات في فضح الخطر الصهيوني، والتصدي له من خلال كتابات ومواقف كثيرة. إن هذه الإشارة وهذا التوضيح كان ضرورياً، حتى لا يظن البعض أننا نهدف إلى تصعيد الصراع بين المسيحية والإسلام في وقت حقق الحوارـ بين الإسلام وممثلي الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية، تفاهما واتفاقاً حول كثير من الأمور، والذي نتمنى أن يستمر للوصول إلى تعايش وتعاون مثمر بين أتباع الديانتين، بعيداً عن محاولات التهويد المنظم التي تخضع لها الفرق المسيحية البروتستانتية. كما إن هذا التوضيح كان ضروريا حتى لا يوضع المسيحيون العرب موضع الاتهام عن جهل أو سوء نية، فالتعايش المسيحي الإسلامي في عالمنا العربي سيظل شاهداً على التسامح والتعاون المثمر بين الأديان بالرغم من كل المحاولات التي يقوم بها أعداء أمتنا العربية من أجل تعكير صفو هذا التعايش. والكتاب الذي بين أيدينا ينقسم إلى خمسة أقسام، تعالج جميعها موضوع رئيس وهو أثر البعد الديني في تشكيل السياسة العدائية البريطانية والأمريكية

تجاه قضية فلسطين والمنطقة العربية والإسلامية .. والعالم، حيث ركزنا في الباب الأول، على إبراز الجذور التاريخية لعلاقة المسيحيين باليهود، والانقلاب الذي حدث لهذه العلاقة مع ظهور المذهب البروتستانتي وانتشاره في بريطانيا وأمريكا؛ نتيجة للأفكار التي جاء بها هذا المذهب والتي مهدت السبيل إلى إقامة إسرائيل وإعادة اليهود إليها، من خلال سعي إتباعه إلى تحقيق ذلك منذ أكثر من أربعة قرون، وقبل ظهور الحركة الصهيونية، وبينا كيف أن الساسة البريطانيين والأمريكيين كانت ولازالت النظرة الدينية البحتة، هي التي تحكم مواقفهم تجاه قضية فلسطين والعالم الإسلامي. وفي الباب الثاني عالجنا الأبعاد الدينية للهجمة الأنجلو أمريكية الشرسة على العراق وعلاقتها بمخطط إسرائيل الكبرى ومعركة هرمجيدون، حسب ما جاء في نبوءات التوراة الحاقدة للانتقام من بابل العراق التي سبت اليهود أيام نبوخذ نصر، وليس كما تزعم أمريكا بأنها جاءت لتحرير الكويت أو لتدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية. أما في الباب الثالث فقد عالجنا ما سميناه حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي والتي كانت بدايتها مع أحداث 11 سبتمبر، والتي اتخذتها إدارة بوش ذريعة لتنفيذ مخططها الرهيب والشيطاني في طول وعرض العالم الإسلامي؛ ولتطلق يدها في شن حرب تشمل 60 دولة غالبيتها إسلامية وتستمر لعدة سنوات تحت مسمى مكافحة الإرهاب. حيث أوضحنا أن هذه الأحداث ما هي إلا صناعه أمريكية، ليست بعيده عن صناع القرار الأمريكي والجماعات الأصولية المسيحية الإرهابية، وأن تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن ليس لهما علاقة بهذه الأحداث. وأن الأولى بالملاحقة هم أتباع التيار الديني الأصولي المسيحي المتطرف، الذين يشكلون خطراً ليس فقط على العرب والمسلمين، بل خطراً على العالم بأسره من خلال إيمانهم بأفكار ومعتقدات عنصرية حاقدة على الإنسانية جمعاء، والتي تستدعى وقفه واعية وشجاعة من أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية ـ في شقها الكاثوليكي والأرثوذكسي ـ لمواجهة التهويد المنظم للبروتستانتية والذي جعل أتباع هذا

المذهب يقتربون من اليهودية أكثر بكثير من كونهم مسيحيين، حيث أصبح يطلق على حركتهم تسميه الصهيونية المسيحية (¬1)، والمسيحية منهم براء. وفي الباب الرابع عالجنا فيه موضوع الإرهاب الأمريكي عبر التاريخ منذ تأسيس أمريكا وحتى الآن، حيث حاولنا إبراز اثر البعد الديني والخرافات التوراتية المتعصبة، في صياغة سياسة أمريكا تجاه العالم أجمع، من خلال إيمان هذه الدولة بخرافات ونبوءات توراتية حاقدة ومتعصبة على البشرية جمعاء، تشرع الإبادة والقتل والسيطرة والنهب على أسس دينية لاهوتية متعصبة، اعتقاداً منها بأن الله اختارها لتحضير العالم، لنوضح حقيقة أن الإرهاب ما هو إلا صناعة أمريكية مارسته ضد شعوب العالم أجمع باسم الشعارات الكاذبة من نشر للحرية والديمقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان ... ابتداءً من إبادة الهنود الحمر واستعباد العبيد ومروراً بحروب أمريكيا الخارجية في أمريكا اللاتينية وأوروبا وفيتنام وكوريا والعراق وأفغانستان، والتي راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر. وعرضنا في هذا الفصل للإرهاب الأمريكي الداخلي، وللعديد من المنظمات الإرهابية الأمريكية المتطرفة التي تنطلق من منطلقات عنصرية متطرفة تشكل خطراً على العالم اجمع، حيث بينا أثر البعد الديني التوراتي على تشكيل الإرهاب الأمريكي الداخلي والخارجي. وفي الباب الخامس والأخير حاولنا وضع تصور لكيفية مواجهه هذه الهجمة الصليبية الدونية على العالم الإسلامي .. والعالم. والتصور الذي وضعناه يقوم في الأساس على ضرورة تعاون وتضامن كافة دول العالم مسيحية وإسلامية وغيرها، من أجل التصدي للخطر الذي تشكله الصهيونية المسيحية على العالم أجمع، والتي قادت العالم إلى أكثر الحروب دماراً ووحشية في التاريخ، وذلك بمواجهه هذا الخطر من الداخل والخارج وتفعيل حوار الحضارات والأديان وبناء مشروع نهضوي عربي، وتسليط الضوء على دور فلسطين الحضاري وكيف يمكن ان تساهم في هذه المواجهة. ¬

(¬1) من الجدير بالذكر هنا أن أول من استعمل تعبير (الصهيونية المسيحية) كان ثيودور هرتزل في وصفه لمؤسس الصليب الأحمر الدولي (هنري دونانت) وكان دونانت من الأثرياء الذين مدوا يد العون إلى الحركة الصهيونية، وكان واحدا من شخصيات مسيحية قليلة جدا لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة دعيت إلى المؤتمر الصهيوني الأول في بال انظر كتاب الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - ص16.

وأخيرا أرجو أن يكون هذا الكتاب إضافة جديدة للمكتبة العربية، يساهم ولو بقدر بسيط في فهم طبيعة الصراع الدائر في المنطقة، وطبيعة القوى التي تديره، حتى نتمكن من وضع تصور مستقبلي شامل لإدارته، يكون مبنياً على أسس سليمة وفهم صحيح ومعطيات دقيقة، لأن الخطأ في فهم طبيعة العلاقة بين إسرائيل والقوى العظمى المؤيدة لها، ترتب عليه أخطاء كبيرة في التعامل معها، واتخاذ العلاج الخاطئ للأمور المصيرية، لا ينتج عنه إلا أخطاء فادحة على كافة المستويات. والحمد لله في البدء والختام يوسف العاصي الطويل رفح /فلسطين 7/ 2007

الباب الأول البعد الديني للتحيز البريطاني الأمريكي لإسرائيل

الباب الأول البعد الديني للتحيز البريطاني الأمريكي لإسرائيل تمهيد على غزارة ما كتب عن القضية الفلسطينية خلال القرن الحالي، فإن هناك صعوبة كبيرة في الكتابة عن بعض جوانبها، وبالذات الجوانب التي تتعلق بأسباب نشوء هذه القضية، والقوى التي عملت على إيجادها. والصعوبة هنا لا تنشأ من القضية ذاتها وعدالتها ووضوح الحق فيها، ولكنها تنشأ من الكتابات العديدة التي كتبت عن هذه النقطة أو تلك، وتناولتها من زوايا متعددة، حتى أصبح تاريخ هذه القضية وكأنه سجل للتاريخ المعاصر بكل تناقضاته وصراعا ته الأيدلوجية والفكرية. فقد عرف تاريخ هذه القضية تصورات متباينة ومتصارعة، على المستوى العالمي، والعربي، والإسلامي، وحتى الفلسطيني. وامتد هذا التباين حتى برز في داخل الأطر السياسية نفسها، حيث تناقضت الشعارات حتى في الميدان الواحد، ونما التباين حتى أصبح كمية هائلة تحتاج وحدها إلى بحث وتمحيص، ونما القصور والتباين حتى تحول إلى صراع مكشوف أو تنافس مدمر. فعلى المستوى العربي والفلسطيني، لم تخرج معظم التحليلات والكتابات، عن إعتبار إسرائيل حاملة طائرات أمريكية في قلب الشرق الأوسط، وان مهمتها الإمبريالية تكمن في عزل الشرق العربي عن المغرب العربي للحيلولة دون تحقيق الوحدة العربية، التي تستولي على إمكانيات اقتصادية وبشرية وجغرافية وسياسية هائلة. فمن ناحية ركز الفكر العربي الثوري على حقيقة إسرائيل الإمبريالية، فقال إن هدفها ضرب الأنظمة الثورية المعادية للإمبريالية في المنطقة العربية. والمثقفون العرب من ناحيتهم، حصروا إسرائيل في كونها، كيان استيطاني عنصري مفرز عن العالمية الرأسمالية. أما الإسلاميون فلم يخرجوا في تحليلاتهم عن هذا وذاك، واعتبروا إسرائيل أداه في يد الاستعمار لضرب الصحوة الإسلامية، والحيلولة دون نشوء أي حكم إسلامي ... وقد نسى هؤلاء جميعا عدة حقائق منها:

أسباب التحيز البريطاني الأمريكي لإسرائيل

1ـ إن قضية فلسطين بدأت قبل وجود أي نظام عربي ثوري، وقبل ظهور الحركات الإسلامية المعروفة وحتى قبل استقلال الدول العربية نفسها. 2ـ إن الدول الشيوعية وعلى رأسها الإتحاد السوفيتي ـ وهى النقيض للنظام الرأسمالي ـ كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل عند نشأتها، وكانت أيضا من أوائل الدول التي فتحت أبواب الهجرة على مصراعيه أمام اليهود! 3ـ إن الإمبريالية الأمريكية تمتلك العديد من القواعد العسكرية والتواجد المباشر وغير المباشر في كثير من الدول العربية، ولكن ذلك لم يحد من تأييدها لإسرائيل. من هنا فإن الحديث عن الإمبريالية والثورية والوحدة العربيةـ التي لم تتحقق حتى على مستوى قطري ـ يصبح حديث مبتور لا معنى له. كما أن الحديث عن دور اللوبي الصهيوني والصوت الانتخابي اليهودي في تشكيل هذه السياسة أمر عارً عن الصحة كما سنوضح. ومن هنا لا بد من البحث عن سبب آخر يمكن أن يوضح لنا حقيقة وجود إسرائيل في المنطقة العربية، والقوى التي تقف وراء هذا الوجود، ودوافعها لذلك ... فلا يزال للحديث عن قضية فلسطين سبيل وسعه، فهناك معالم لابد من جلائها وتأكيدها على الدرب الممتد إلى فلسطين ... كل فلسطين. وأول خطوة نود أن نؤكدها هنا، هي ضرورة توحيد التصور الفكري لقضية فلسطين، طبيعتها ـ القوى التي تقف وراء نشوئها ـ دوافع هذه القوى وأهدافها. وإذا استطعنا أن نصل إلى هذا التصور فإن علاج هذه القضية وتداعياتها سيكون أمرا سهلاً ... فبدون معرفة الداء لا يمكن وصف الدواء. أسباب التحيز البريطاني الأمريكي لإسرائيل هناك تساؤلات كثيرة تطرح نفسها على المتتبع للموقف المتحيز لبعض دول أوروبا بوجه عام، وأمريكيا وبريطانيا بوجه خاص، حيال الصراع العربي الإسرائيلي. فلا بد وأن الكثيرين سألوا أنفسهم عن أسباب هذا التحيز، وعن المكاسب التي تسعى لتحقيقها هذه الدول من وراء هذا التحيز. وسيجد السائل إجابات عديدة على هذا السؤال، من خلال ربط هذا التحيز بالأطماع الاستعمارية لهذه الدول سواء كانت

حساب المصالح

اقتصادية أو سياسية أو عسكرية ـ في هذه المنطقة، هذا بالإضافة إلى ما يقال عن أثر اللوبي الصهيوني في تشكيل هذه السياسة المتحيزة لإسرائيل والمعادية للعرب. فقد اعتاد الناس في عالمنا العربي الإسلامي أن يفسروا التحيز الأميركي لإسرائيل بأسباب سياسية وإستراتيجية، مثل المال اليهودي المؤثر في الحملات الانتخابية، والإعلام اليهودي المتلاعب بالرأي العام الأميركي، والصوت اليهودي الموحد في الانتخابات، ثم موقع إسرائيل رأس حربة في المنطقة العربية، ذات الأهمية الإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة. وأعتقد أن هذه الإجابات والتفسيرات ـ عند التأمل ـ تبدو سطحية وبعيدة عن الدقة، أو هي ـ على أحسن تقديرـ ليست سوى مظاهر تعبر عن ظواهر أعمق وأرسخ، وليست كافية لتبرير هذا التحيز والعداء التام من قبل هذه الدول ـ وبخاصة إنجلترا وأمريكيا ـ لأمتنا العربية والإسلامية. والسبب في عدم كفاية هذا التبرير ـ حسب رأيي ـ هو أن هذا الموقف المتحيز ليس من قبيل التحيز المرحلي الذي يتغير حسب سير المصالح وتغيرها، فيكون متحيزاً لأحد الأطراف عندما يجد أن مصالحه وأطماعه تتطلب ذلك. ولكن هذا التحيز ـ كما أعتقد وسأبين ـ مبنى على أساس عامل مهم جداً يجعل منه موقفاً مبدئياً لا يتغير بسهولة. حساب المصالح: بالرغم من أن تحيز بعض الدول الغربية وأمريكا إلى جانب إسرائيل يحقق لها أهدافاً ومصالح كثيرة ويبقى على أطماعها التوسعية حية في المنطقة العربية، إلا أنه وفي نفس الوقت يضع مصالح هذه الدول في خطر كبير؛ لأنه يزيد من حجم العداء لهذه الدول في المنطقة العربية والإسلامية، بالإضافة إلى أنه يدفع الدول العربية إلى اللجوء إلى دول أو أحلاف معادية لأمريكا وحلفائها، كما كان الحال قبل انهيار المعسكر الشرقي، كما أن موقع إسرائيل في المنطقة العربية لا يكفي لتفسير التحيز الأميركي. فقد كانت إسرائيل دائما مصدر حرج للنفوذ الأميركي في المنطقة العربية، أكثر من كونها مصدر دعم، إضافة إلى أن بعض حكام الدول العربية أغنوا أميركا عن إسرائيل في هذا المضمار.

ومهما حاولنا أن نتكلم عن الأهداف التي تسعى أمريكا وحلفائها إلى تحقيقها من خلال تحيزها إلى جانب إسرائيل، فإن هذا التحيز بحساب المصالح يعد خاسراً وفيه مغامرة كبيرة لا تحمد عقباها على هذه الدول. فأمريكا وحلفائها يمكنهم أن يبقوا على هذه المصالح، بل ويزيدونها من خلال وقوفهم موقفاً عادلاً وليس متحيزاً حيال الصراع العربي الإسرائيلي. فما دامت هذه المصالح مصانة إلى حد كبير بالرغم من وجود التحيز الأمريكي و الأوروبي لإسرائيل، فأنها ستكون مصانة أكثر لو أن هذا الموقف تغير لصالح القضية العربية. فالتاريخ لم يشهد محاولة دولة معينة الحفاظ على مصالحها في منطقة معينة عن طريق معاداتها لدول هذه المنطقة، أو التحيز لمن يعاديها. فأي دولة تريد الحفاظ على مصالحها في منطقة معينة، تسعى بكل الوسائل إلى تعزيز روابطها بدول هذه المنطقة، وتحاول بقدر المستطاع الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يعكر صفو هذه الروابط، حتى لا ينعكس ذلك سلباً على مصالحها. ولهذا فإن حساب المصالح هذا دفع كثير من الدول الأوربية إلى تغيير سياستها حيال الصراع العربي الإسرائيلي، بحيث أصبح هذا الموقف أكثر اعتدالاً ومعقولية من ذي قبل (فرنسا، ألمانيا، بلجيكا وإيطاليا على سبيل المثال)، كما أن هذه الدول تحاول قدر المستطاع الابتعاد عن كل ما يمكن أن يؤثر سلباً على علاقاتها مع الدول العربية. ولكن الموقف البريطاني والأمريكي بالذات بقى كما هو عليه، بل أزداد في تحيزه ودعمه لإسرائيل، وأصبح موقفاً استفزازيا وعدائياً أكثر من أي وقت مضى. ففي أعقاب كل عدوان إسرائيلي على الأمة العربية والشعب الفلسطيني، تجد إسرائيل مكافأة أمريكية تنتظرها، ابتداءً من صفقات الأسلحة المتطورة والمعونات الاقتصادية الضخمة، وانتهاء باستخدام حق الفيتو ضد أي قرار يكون في غير صالح إسرائيل. فأي مصلحة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية ستعود على أمريكيا من خلال نقل سفارتها إلي القدس الشريف، بالرغم من إدراك صانعي القرار في أمريكيا بالمكانة الخاصة للقدس في قلوب ملايين العرب والمسلمين والمسيحيين .. ؟ بالطبع لا توجد أي مصلحة من هذا النوع، حيث أن هذا القرار كغيره من القرارات الأمريكية

نفوذ اللوبي الصهيوني

السابقة سيلحق ضرراً كبيراً بالمصالح الأمريكية ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي أيضا عاجلاً أم آجلاً. كل هذا يجعلنا نفترض أن حساب المصالح كما نفهمه ليس هو المؤثر الوحيد في هذا التحيز، بل لا بد من البحث في عوامل أخرى يمكن أن تبرر هذا التحيز من قبل أمريكيا وإنجلترا بالذات، لصالح إسرائيل والتي يمكن أن تجعلنا نتعرف على السر في أن بريطانيا وأمريكيا من دون دول العالم هما اللتان جعلتا تحقيق الحلم الصهيوني في أرض فلسطين حقيقة واقعة. فبفضل وعد بلفور والانتداب البريطاني على فلسطين، استطاع اليهود إقامة دولتهم، وبفضل الدعم الأمريكي المتواصل، واستطاعت إسرائيل بناء نفسها والتصدي لكافة الأخطار التي واجهتها. فما هو السر في ذلك؟! هل يعود ذلك إلى نفوذ اللوبي الصهيوني وأثر الصوت اليهودي في الانتخابات ـ كما يحلو لكثير من المحللين السياسيين أن يفسروه ـ أم إلى أمر آخر؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه. نفوذ اللوبي الصهيوني يحاول كثير من المحللين إظهار اليهود كنموذج فريد لمجموعة ناجحة في كل مجالات الحياة، تستطيع التأثير على صناع القرار في أمريكيا وإنجلترا من خلال سيطرتها على وسائل الإعلام والاقتصاد في هذه الدول، ومن خلال ما يلجئون إليه من وسائل لممارسة الضغوط على صناع القرار في هاتين الدولتين، هذا بالإضافة إلى ما يقال عما يتميز به اليهود والزعماء الصهاينة من عبقرية ودهاء واستغلال للفرص، أمثال هرتزل، ووايزمان، وسوكولوف وغيرهم. لذلك فإن هؤلاء المحللين يعزون صدور وعد بلفور إلى حاييم وايزمان وطاقاته الجبارة وتصميمه وإخلاصه ومواهبه السياسية والعلمية، كما يعزون نجاح الحركة الصهيونية في أمريكيا إلى اللوبي الصهيوني القوى، وما يتمتع به من تنظيم، وما يملك من وسائل للضغط على الرؤساء الأمريكيين. ان تضخيم نفوذ اللوبي الصهيوني وجعله وكأنه يحكم أمريكيا شيء مبالغ فيه جداً، إلا إذا حاولنا فهم هذا النفوذ على أساس أن هذا اللوبي يعمل في بيئة سياسية

وثقافية ملائمة إلى أقصى الحدود للأفكار الصهيونية، التي تلقى الدعم المادي والمعنوي على المستويين الشعبي والحكومي. فالمال اليهودي في الانتخابات لا يصلح تفسيراً للإجماع السياسي الذي يحظى به دعم إسرائيل في الأوساط السياسية الأميركية، حتى تنافس فيه المتنافسون من كل ألوان الطيف السياسي. إضافة إلى أن في أميركا من أهل الثراء غير اليهود ما يكفي وزيادة لمعادلة المال اليهودي. والإعلام اليهودي لا يكفي تفسيرا لانحياز شعبي كامل يبلغ درجة الاعتقاد، بل هو اعتقاد ديني عميق ـ كما سنرى لاحقا ـ في بلد فيه من التعددية الإعلامية وحرية الكلمة ما يكفي لبلورة رأي مخالف لو كان له أنصا. "كما إن الحديث عن عبقرية اليهود والقول بأنهم عباقرة بطبيعتهم يتطلب منا أن نعود إلى التقاليد الحضارية والظروف التاريخية التي شكلت فكر ووجدان كل من موسى بن ميمون، وفرويد، وإنيشتين وغيرهم. وإلا فلماذا لم يظهر علماء طبيعة متفوقون تفوق أينشتاين بين يهود الفلاشا الإثيوبيين؟ وحتى لو رصدنا العبقرية اليهودية بشكل مطلق بمعزل عن أي سياقات تاريخية أو اجتماعية كما يفعل الصهاينة، فإننا سوف نكتشف أن العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية لم يؤدوا دورا كبيرا في تطوير الحضارة الإنسانية، بل إن فرويد وماركس وكافكا ومعظم عباقرة اليهود قد حققوا إبداعهم عن طريق الانسلاخ الفعلي أو المجازي عن مورثهم اليهودي، وعن طريق الانخراط في الحضارة العلمانية الغربية الحديثة" (¬1). لهذا فأن تضخيم دور الزعماء الصهاينة أمثال هرتزل ووايزمان وغيرهم، وجعلهم وكأنهم بذلوا جهوداً خارقة وفوق العادة للحصول على مطالبهم، أمر عارٍ عن الصحة. فالأفكار الصهيونية كانت موجودة قبل ظهور الحركة الصهيونية بفترة كبيرة، وتبناها أشخاص أوربيون وأمريكان في وقت كان فيه اليهود يرفضون ويحاربون من يفكر بهذه الأمور. وسيتضح لنا هذا الأمر بصورة جلية عند حديثنا عن الحركة الصهيونية والظروف التي ظهرت بها. ¬

(¬1) دفاع عن الإنسان ـ د. عبد الوهاب المسيري ـ عرض/ نشوة نشأت - الجزيرة نت

الصوت الانتخابي اليهودي

الصوت الانتخابي اليهودي بالمثل فإن تضخيم دور الصوت الانتخابي اليهودي في الانتخابات الأمريكية أمر مبالغ فيه ويناقض الواقع " نعم إن الجالية اليهودية نشطه ولها تأثير، ولكن القول بأنها تحكم أمريكيا ليس صحيحاً. فلم يحدث أبداً أن كان الرئيس أو نائب الرئيس يهودياً ونسبة اليهود في الكونغرس لا تزيد إلا قليلاً عن نسبة اليهود في أمريكيا أي 2ـ3% " (¬1) حيث يبلغ تعدادهم حوالي 6 ملايين نسمه تقريباً، أي أن أصواتهم الانتخابية لا تتعدى 2ـ3 % من نسبة الأصوات الانتخابية في أمريكيا، وهذه النسبة ليست بالنسبة الكبيرة والتي تمكن اليهود من التأثير على سير الانتخابات. ولو كان لهذه النسبة أي تأثير لكان للمسلمين والعرب في أمريكيا أثر في تشكيل السياسة الأمريكية، لأن تعدادهم يزيد عن تعداد اليهود هناك، حيث يبلغ 10 مليون عربي ومسلم. كما أن الصوت اليهودي ليس موحدا بالطريقة التي يتخيلها البعض، بل فيه تعدد وتباين واختلاف. كما أن التحيز لإسرائيل أعمق وأرسخ في بعض الولايات الأميركية التي لا تكاد توجد بها جالية يهودية أصلاً. وقد افتخرت صحيفة (جيروسالم بوست) الإسرائيلية مؤخرا بأن "ولاية "مينوساتا" الأميركية يمثلها يهودي دائماً في مجلس الشيوخ منذ عام 1978م رغم أن عدد اليهود بها لا يتجاوز 1%. وبأن المرشحين لهذا المنصب في الولاية يهوديان هما (نورم كولمان) و (ويلستون) الذي قتل في تحطم طائرة أثناء حملته الانتخابية" (¬2). ويكفي أن نعرف أن نسبة اليهود في أميركا أقل من 3%، وأن نسبتهم في مجلس الشيوخ 10% لندرك أن الصوت اليهودي ليس أهم عامل هنا، حيث أن السود يشكلون نسبة كبيرة من السكان، بالإضافة إلى أقليات أخرى، وبالرغم من ذلك لم نسمع عن أي أثر لأصواتهم الانتخابية ولم نسمع عن إي رئيس أمريكي سعى ¬

(¬1) الولايات المتحدة وإسرائيل ـ برنارد ريتش ـ ترجمة مصطفى كمال ـ ص 166 (¬2) جيروسالم بوست 27/ 10/2002م.

تضخيم في غير محله

لاسترضائهم كما يفعل مع اليهود. إذاً فالقضية ليست قضية صوت انتخابي فحسب .. ! تضخيم في غير محله إن هذا التضخيم لأثر الصوت الانتخابي اليهودي ولأثر اللوبي الصهيوني في تشكيل السياسة الخارجية لأمريكا شيء مبالغ فيه وعارٍ عن الصحة. فما كان من الممكن أن يكون للصوت اليهودي واللوبي الصهيوني هذا التأثير لولا وجود عامل مهم ـ غائب عن تحليلات معظم المحللين السياسيين ـ يجعل الأمريكيين والإنجليز بعامة، والسياسيين بخاصة يرضخون، بل يتبنون الأفكار الصهيونية. وفي هذه الدراسة سنحاول البحث عن هذا العامل (الغائب) في مضمون التراث الديني لدى المسيحيين في هاتين الدولتين، والذي كان له الدور الأساسي في كسب التعاطف مع الحركة الصهيونية وبرنامجها الاستيطاني في فلسطين.

الفصل الأول اليهود في التراث الديني المسيحي

الفصل الأول اليهود في التراث الديني المسيحي يستمد التراث الديني في كُلٍّ من بريطانيا وأمريكيا، أصوله من المذهب البروتستانتي السائد في هاتين الدولتين، والذي نشأ مع حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية في روما. ولسنا هنا بصدد بحث تفصيلي لمبادئ هذا المذهب، بقدر ما سنحاول إبراز التغيير الجوهري الذي أحدثه هذا المذهب في تفكير أتباعه حيال اليهود ـ ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ـ والذي ساعد كثيراً على تعاطف الكثيرين من أتباعه مع اليهود وسعيهم لتحقيق آمالهم في العودة إلى أرض فلسطين حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بثلاثة قرون، حيث أحدثت حركة الإصلاح الديني تغييراً جوهرياً ـ بالمقارنة مع موقف الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى ـ في موقفها من اليهود ـ بحيث تولدت عن هذا الموقف نظرة جديدة للماضي والحاضر والمستقبل اليهودي، و كانت المبادئ التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني مغايرة تماماً للمبادئ الكاثوليكية في موقفها من اليهود، ولذلك يصف البعض هذه الحركة بأنها ساهمت في بعث اليهود من جديد. لقد ظل اليهود في نظر العالم المسيحي بأسره (أمة ملعونة) لمدة ألف وخمسمائة عام، لأنهم ـ في اعتقاد المسيحيين ـ قتلة السيد المسيح، حيث عانى اليهود صنوفاً من الاضطهاد والازدراء بناء على هذا التصور الذي ترسخ في العقل المسيحي. ورغم أن هذا التصور ـ من وجهة نظر إسلامية ـ تصور ظالم أنتج ممارسات ظالمة، إلا أنه صمد على مر القرون، مدعوماً بنصوص كثيرة من الإنجيل، وظروف اجتماعية وسياسية خاصة. لكن القرن الخامس عشر الميلادي أظهر تحولات عميقة في النفس المسيحية ـ الغربية على الأقل ـ مع بزوغ ما عرف بحركة الإصلاح، وما استتبعه ذلك من انشقاق سياسي وعقائدي داخل الديانة المسيحية بشكل عام، والكاثوليكية الغربية بشكل خاص، حيث كان من نتائج هذه التحولات أن أصبحت المسيحية الجديدة التي عرفت باسم البروتستانتية ربيبة لليهودية، فقد أصبحت

للتوراة ـ أو العهد القديم ـ أهمية أكبر في نظر البروتستانت من الإنجيل أو العهد الجديد، وبدأت صورة الأمة اليهودية تتغير تبعاً لذلك في أذهان المسيحيين الجدد. ولم يكن الانشقاق داخل الكنيسة ـ رغم الطابع الأيديولوجي الذي اصطبغ به ـ بعيداً عن صراعات السيادة بين الأمم الأوروبية يومها، خصوصاً بين فرنسا وإنجلترا وألمانيا، فقد انحازت الكنيسة الكاثوليكية إلى جانب فرنسا، مما جعل الشعبين الإنجليزي والألماني يميلان إلى اعتناق المذهب البروتستانتي الذي يدعو للتحرر من سلطة الكنيسة. وقد ظهر هذا التحول في النظرة المسيحية إلى اليهود في كتابات رائد الإصلاح البروتستانتي، القس الفيلسوف (مارتن لوثر). فقد كتب لوثر عام 1523 كتابا عنوانه: (المسيح ولد يهودياً) قدم فيه رؤية تأصيلية للعلاقات اليهودية المسيحية من منظور مغاير تماما لما اعتاده المسيحيون من قبل، فكان مما قال في كتابه: "إن الروح القدس شاءت أن تنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم. إن اليهود هم أبناء الرب، ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل من فتات مائدة أسيادها" (¬1). ومع ذلك لم يكن مارتن لوثر حاسماً في موقفه من اليهود، بل كان متردداً مثقلا بتراث الماضي السحيق، ولذلك عاد فألف كتاباً آخر في ذم اليهود سماه (ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم)، بعدما يئس من دفعهم لاعتناق المسيحية. لكن (لوثر) فتح ثغرة في تاريخ المسيحية لصالح اليهود ظلت تتسع إلى اليوم. وظلت كفة الصراع بين مدرسة 0المسيح ولد يهودياً) ومدرسة (ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم) تتأرجح في الضمير الغربي طيلة القرون الأربعة التالية لكتابة هذين الكتابين، حتى حسم الأمر أخيرا للمدرسة الأولى. ومما يلاحظ أن هذا المسار التاريخي لم يعرف العدل ولا التوسط: فاليهود تحولوا من (أمة ملعونة) إلى (أبناء الرب)، من (الغيتو) إلى قمة المجتمع، من (أمة مدنسة) ظلمها المسيحيون كثيراً، إلى (أمة مقدسة) يظلم بها المسيحيون شعوباً أخرى لا صلة لها بتاريخ التدنيس والتقديس هذا. ¬

(¬1) المسيح اليهودي ـ رضا هلال ـ ص63 - مكتبة الشروق الدولية

موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود

كما يلاحظ ـ أيضا ـ "أن المذاهب المسيحية تفاوتت في استيعابها لهذا التحول تفاوتاً كبيراً، فالبروتستانت (الأميركيون والبريطانيون) تمثلوا هذا التحول كأعمق ما يكون، حتى أصبحت اليهودية جزءا من لحمهم ودمهم، والكاثوليك (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا) ظلوا أكثر تحفظاً إلى حد ما، ولذلك لم يبرئ الفاتيكان اليهود من دم المسيح إلا عام 1966م، أما الأرثوذكس (الأوروبيون الشرقيون) فلا يزالون يحتفظون بتلك النظرة المتوجسة تجاه اليهود واليهودية. وهذا ما يفسر التفاوت في المواقف السياسية: حيث التماهي مع الدولة اليهودية في أميركا وبريطانيا، والتحفظ في أوروبا الجنوبية على السياسات الإسرائيلية (خصوصا من طرف فرنسا أكبر الأمم الكاثوليكية الغربية) والريبة في أوروبا الشرقية، وخصوصاً روسيا، لكن ما يهمنا هنا هو التماهي الأميركي البريطاني مع الدولة اليهودية، ومحاولة فهمه" (¬1). موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود: ان الموقف التقليدي للكنيسة الرسمية تجاه اليهود طوال ما يقرب من ألفي عام (حتى المجمع المسكوني الثاني في الفاتيكان عام 1964) كان يقوم على مقولات ثلاث: أولها- أن اليهود بقتلهم المسيح قد قتلوا (الإله). ثانيها_ أن (الشعب المختار) إذن صار هو شعب (الكنيسة). ثالثها- العهد القديم صوره سابقة للعهد الجديد ترمز اليه وتبشر به. وهكذا إذن يقودنا التفسير التقليدي إلى القول بأن اليهود حينما رفضوا الاعتراف بالمسيح على أنه رسول الله قد عزلوا أنفسهم عن (طائفة) ابراهيم فانتفت عنهم صفة (شعب الله المختار) إذ حكموا على انفسهم بالدينونة من جراء خطاياهم .. وقد سبق أن عاقبهم الله بطردهم من فلسطين ونفيهم إلى بابل. ومع هذا فالوعد الذي قطعه اله لابراهيم قد تحقق، فعلى الرغم من خطايا اليهود وبعد عقابهم سمح لهم ¬

(¬1) المسيح اليهودي ـ رضا هلال ـ ص 64

بالعودة إلى فلسطين على أثر قرار قورش ملك فارس. وحينما ارتكبوا اشد المعاصي مره أخرى برفضهم الاعتراف بيسوع المسيح الذي تمم الوعد عاقبهم الله اشد العقاب فبدد شملهم-كشعب- ورمى بهم في ارجاء الارض. وهكذا لم يعد أمامهم أمل في الخلاص الفردي إلا باعتناقهم المسيحية (¬1). لهذا كان موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود ـ ولازال مع حدوث بعض التغيرات لصالح اليهود ـ موقفاً متشدداً، حيث كان ينظر إلى اليهود نظرة عدائية بسبب رفضهم الإيمان بدعوة السيد المسيح وكفرهم بها، ولذلك وصفهم السيد المسيح أكثر من مرة (بخراف بنى إسرائيل الضالة) وبغيرها من الأوصاف، كما أن اليهود كانوا يعتبرون مارقين وكفرة، واتهموا بأنهم قتلة المسيح. وقد كان الكاثوليك يعتقدون أن الغضب الإلهي حل على اليهود بسبب جرائمهم المتكررة عبر تاريخهم، وأنهم بذلك استحقوا فترة النفي البابلي (586ـ539 ق م) من ضمن عقوبات إلهيه عديدة توجت بطردهم النهائي من فلسطين في العام 70م، وأما النبوءات بعودتهم إلى الأرض المقدسة فقد تحققت فعلاً بحسب المعتقد الكاثوليكي عندما سمح لهم قورش ملك الفرس بالعودة من بابل إلى فلسطين (537 ـ515 ق م). "وعلى ذلك فان طرد اليهود من فلسطين على يد الرومان في العام 7م كان نتيجة مباشرة لرفضهم الإيمان بمسيحهم المنتظر عيسى عليه السلام، مما أدى لانتهاء وجودهم كأمة وتشريدهم في أصقاع الأرض، وقد استحقوا هذا العقاب ليس فقط لرفضهم المسيح وتآمرهم على قتله، بل لأنهم كانوا بعد ذلك يتحالفون مع وحش (الرؤيا) عدو المسيح، كلما سنحت لهم فرصة، مما جعلهم الأعداء التقليديين للمسيحية" (¬2). لذلك لم يكن هناك في العقيدة الكاثوليكية التي تلتزم بالتفسير المجازى للإنجيل أدنى فكرة أو احتمال لعودة اليهود إلى فلسطين، أو بعث الأمة اليهودية من جديد، لأن هذه الأمة حسب رأيهم انتهى وجودها بظهور دعوة السيد المسيح. فرجال الدين الكاثوليك كانوا يعتقدون أن الفقرات الواردة في العهد القديم والتي تتنبأ بعودة اليهود إلى فلسطين وبمستقبل مشرق لإسرائيل لا تنطبق على اليهود، ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص139 (¬2) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص271

بل على الكنيسة الكاثوليكية مجازاً، لأن اليهود طبقاً للعقيدة الكاثوليكية اقترفوا إثماً، فطردهم الله من فلسطين إلى منفاهم في بابل، وعندما رفضوا دعوة السيد المسيح نفاهم الله ثانية، وبذلك انتهت علاقة اليهود بأرض فلسطين إلى الأبد. وقد وضح هذه النقطة بطرك الروم الكاثوليك في دمشق في كتاب له مؤرخ في 17ـ11ـ1977 حيث قال: "إنه يفوت بنو قومي أن السيد المسيح نسخ أحكام العهد القديم القومية، فبعد أن لعن سبع لعنات فقهاء العهد القديم (متى 23) ختم بهذا الحكم المبرم قائلاً: هذا بيتكم يترك خراباً (متى 23ـ38) وقد تحققت نبوءة السيد المسيح الذي رفضوه ولم يبق لهم وعد الله التوراتي بالأرض المقدسة" (¬1). هكذا تمسك الفكر الكاثوليكي بحرفية الإدانات واللعنات التي لم يكف النبيون عن توجيهها إلى اليهود، واستخدم تلك الإدانات في القول بأن اليهود وقعوا في الخطيئة، وعاقبهم يهوه على ذلك بدمار الهيكل والسبي من فلسطين، ثم عاد اليهود فأغضبوا الرب بإنكارهم للمسيح عيسى ـ عليه السلام ـ فكان عقابهم ما فعله الرومان وما ترتب عليه من دمار الهيكل ومن شتات. وتبعاً لهذا المنطق الكاثوليكي لم يعد هناك مجال للتمسك بحلم مجيء مسيح آخر يخلص اليهود ويقيم مملكة الله على الأرض. "فالمسيح الذي بشرت به كتب العهد القديم قد جاء، والفداء الذي تحدثت عنه قد حدث بالفعل، ولكن لكل البشر، والخلاص بات في متناول كل البشر، ومملكة الله على الأرض قد قامت ممثلة بالكنيسة الكاثوليكية. وبالتالي لم يعد لليهود بعد أن أغضبوا الرب أي حق في التشبث بدعوى أنهم أمه تنتظر الفداء والخلاص من الشتات، إذ وضع الله حداً لوجودهم كأمه، ولم يعد أمامهم من سبيل الخلاص إلا الخلاص الفردي، باعتناق المسيحية" (¬2). ومن المهم ملاحظة أنه قبل حركة الإصلاح الديني البروتستانتية لم يكن هنالك أدنى فكرة عند المسيحيين بوجوب إعادة تجميع اليهود في فلسطين ولا حتى بإعادة تجميعهم كأمة، لان فلسطين بحسب ـ معتقد الكاثوليك ـ لم تكن سوى ¬

(¬1) العدوان الإسرائيلي القديم، والعدوان الإسرائيلي الحديث على فلسطين ـ محمد عزة دروزة ـ ص 6 - دار الكلمة للنشر، 1979، (¬2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص62

العهد القديم

الأرض المقدسة التي شع منها نور المسيح إلى العالم، وأن القدس هي مدينة العهد الجديد الذي حل محل العهد القديم، وأما بعض نصوص سفر (الرؤيا) بهذا الخصوص فقد فسرت رمزياً وليس حرفياً (¬1). وبهذا فإن النبوءات الواردة في الكتب اليهودية عن نشوء إسرائيل جديدة، فهي بحسب تفسير الكاثوليك تعني نشوء الكنيسة المسيحية بصفتها الوريث الوحيد لإسرائيل، وتجسيداً لمملكة الله على الأرض، تماماً كما كتب ووعظ القديس أوغسطين منذ القرن الخامس. كما يرى البعض أن هذه النبوءات ـالواردة في العهد القديم ـ تحققت فعلاً، عندما أعادهم الملك الفارسي (قورش) من منفاهم في بابل في القرن السادس قبل الميلاد. ولذلك فليس هناك أي نبوءة أخرى في العهد القديم تنص على عودتهم ثانية إلى فلسطين بعد عودتهم من الأسر البابلي. "فالكنيسة الكاثوليكية رأت أن مسيرة التاريخ قد اكتملت بقيامها مملكة الله على الأرض، وبإقامة العرش البابوي في روما، التي أخذ مركز الثقل الديني ينتقل إليها من أورشليم التي أخذت تفقد بريقها ووضعها كعاصمة لمملكة الله، إذ حلت محلها روما. وبانتقال مركز الثقل الديني إلى روما والعرش البابوي، سادت النظرة الكاثوليكية إلى اليهود وفلسطين، وهى نظرة لم يكن فيها مجال لادعاء أي أساس ديني أو غيبي لحق اليهود في القدس أو فلسطين" (¬2). كما أن الكنيسة الكاثوليكية وغيرها من الكنائس الأخرى لم تكن تعترف بأن اليهود هم شعب الله المختار، لأن السيد المسيح حارب بشدة هذه النزعة العنصرية فيهم ودعا اليهود وغيرهم إلى الدخول في ملكوت الله المفتوح أمام جميع الصالحين "لأن الله لا يخص أحداً بالرعاية لأسباب ذاتية، فالشمس تسطع على الجميع سواءٍ بسواء" (¬3). العهد القديم بالرغم من ان المسيحية تشترك مع اليهودية في ما يسمى بالعهد القديم، الا المسيحية أضافت إليه العهد الجديد الذي تحدث عنه السيد المسيح، حيث تختلف ¬

(¬1) المسيحية والإسلام والاستشراف - محمد فاروق الزين ص271 (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص63 (¬3) مقارنة الأديان والاستشراف ـ د. أحمد شلبي ـ ص 119 - مطبوعات معهد الدراسات الإسلامية

المسيحية عن اليهودية في تفسير هذا الجزء المشترك المسمى بالعهد القديم، ولكل من الطرفين تفسير لاهوتي مختلف، وإن بقيت الكثير من طقوس العبادة والحياة المسيحية، لكن الخلاف الجوهري والفاصل في ما بينهما هو على هوية يسوع الناصري (¬1)، وتفسير العهد القديم. ولهذا فقد كان العهد القديم (التوراة) مهملاً قبل حركة الإصلاح الديني، حيث كان الاعتماد الأساسي على العهد الجديد، ورسائل الرسل، والإلهامات غير المكتوبة للباباوات، وكانت اللغة العبرية لغة ميتة، حيث كانت الأساطير الكاثوليكية ترى أن دراسة اللغة العبرية تسلية الهراطقة، وأن تعلمها بدعة يهودية. فالكنيسة الكاثوليكية عملت على تطوير الكنيسة عبر العصور، وخلصتها من الكثير من العناصر الوثنية العالقة بها، وخصوصاً العهد القديم، بل إنه كان هناك اتجاه في بدايات العهد المسيحي لإلغاء العهد القديم، وعدم اعتباره ضمن الكتب القانونية الدينية، لكن اتجاهاً آخر رأى في حذفه خسارة للمسيحية، إذ يعني ذلك حرمان الكنيسة من حقها في وراثة اليهودية. لكن هذا الأمر تطلب من الكنيسة المسيحية محاصرة العناصر الوثنية في العهد القديم، وتقديم تفسيرات مجازية ورمزية لكل ما جاء فيه. فكلمات: القدس، أو أورشليم أو صهيون أو الأرض الموعودة .. الخ عند الكاثوليكية، تحمل معاني روحية، وتقع في السماء، وليست أسماء لأمكنة حقيقية على الأرض. كما رأت في مسألة عودة اليهود إلى فلسطين أنها عودة تمت قبل ميلاد المسيح حينما عاد بعض اليهود من سبي بابل في القرن الخامس قبل الميلاد، وان أمر اليهود انتهى كشعب يحفظ وديعة ويسلمها للمسيحيين، وأن الشعب المختار هو كل من يؤمن بالله. وبناء على هذا التفسير الجديد للعهد القديم اعتبرت المسيحية التقليدية أن ما ورد في العهد القديم هو أحداث وقعت في الماضي، أو نبوءات تم تحقيقها، وان ما جاء في العهد الجديد هو ثورة على العهد القديم، وفقاً لما جاء في إنجيل يوحنا " لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم" ورأت أن كل القصص التي رواها العهد ¬

(¬1) أوجه التشابه .. والاختلاف ـ د. جورج صبرا جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3 عدد8672

موقف الكنيسة الكاثوليكية من الحركة الصهيونية وإسرائيل

القديم هي رموز لحالات روحية وأخلاقية. ذلك إن إسرائيل الجديدة مثلاً هي الكنيسة، وان خراب القدس قد تحقق بالفعل عام 70م على يد تيطوس. كما تؤمن الكاثوليكية التقليدية أن إبراهيم عليه السلام عندما اخذ الوعد من الله بالأرض لم يفهمه على انه تصريح له من الله بسرقة الأرض من مالكها، حتى لو كانت الأرض هبة من الله فهي مشروطة بطاعة الواهب. كما ترى ـ أيضا ـ أن العهد مرتبط بتحقيق وصايا الله وطاعته لا رفض حكمه، وان ارض الميعاد الحقيقية عند المسيح هي الأرض كلها، وكل ارض يتحقق فيها وعد الله. "فمن المحقق للمسيحي الحق ان (الوعد) الذي أنجز بمجئ يسوع المسيح لا يمكن أن يكون وعداً بأرض. فقد رفض يسوع المسيح في ثلاثة مواقف من الإنجيل رفضاً قاطعاً أن يربط رسالته بموضوع امتلاك أرض أو سلطة. وهكذا فالعهد الجديد الذي يعد البشرية كلها بالخلاص الأبدي يجعل من العهد القديم (عهداً) عفى عليه الزمن لأنه يعد شعباً مخصوصاً بأرض مخصوصه" (¬1). وبالنسبة للقدس ـ المدينة التي لم تتجاوب مع دعوة السيد المسيح ورسالته والتي حوكم فيها ـ لا ترى الكنيسة الكاثوليكية فيها علامة من علامات المجيء الثاني للمسيح. "ولعل هذه التفسيرات، وهذا الإيمان، ما أبقى كتاب العهد الجديد منفصلاً عن كتاب العهد القديم، ولم يجمعا معاً في كتاب واحد أطلق عليه الكتاب المقدس، إلا مع ولادة حركة الإصلاح الديني (البروتستانتية) على يد الملك هنري الثامن عام 1538، عندما تمت ترجمته إلى الإنجليزية وإتاحته للناس للقراءة، وقد تم ذلك عندما رفض البابا طلاق هنري من زوجته آنبولين مما دفعه إلى تبنى حركة الإصلاح الديني" (¬2). موقف الكنيسة الكاثوليكية من الحركة الصهيونية وإسرائيل كان موقف الكنيسة الكاثوليكية السابق من اليهود اساساً لموقفها من الحركة الصهيونية عشية المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م حيث جاء في هذا الموقف: " لقد مر ألف وثمانمائة وسبعة وعشرون سنة على تحقيق نبوءة المسيح، بأن القدس ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص151 - 152 (¬2) الأصولية المسيحية .. أصولها ونشأتها ودورها في صنع القرار الأمريكي ـ يوسف الحسن - جريدة الخليج عدد 8674.

سوف تدمر. أما فيما يتعلق بإعادة بناء القدس بحيث تصبح مركزاً لدولة إسرائيلية يعاد تكوينها، فيتحتم علينا أن نضيف أن ذلك يتناقض مع نبوءات المسيح نفسه الذي أخبرنا مسبقا بأن القدس سوف تدوسها العامة (جنتيل) حتى نهاية زمن العامة (لوقا 21/ 24)، أي حتى نهاية الزمن (¬1) ". وإزاء هذا الموقف الرافض للأفكار الصهيونية من قبل الفاتيكان، حاول هرتزل مقابلة البابا حيث تمكن في 25 تشرين ثاني 1904م من مقابلة البابا (بيوس العاشر) ودخل معه في مناقشات طويلة حول علاقة الكنيسة باليهود، وموقف الفاتيكان منهم، فقال له البابا: "أما أن يظل اليهود محتفظين بمعتقدهم ينتظرون مجيء المسيح .. والمسيح عندنا جاء وتمت بعثته للبشر، في هذه الحالة نعتبر اليهود منكرين للاهوت يسوع المسيح، ولا مجال هنا لمساعدتهم في فلسطين ولا في غيرها، هذا هو الوجه الأول، والآخر أن يذهبوا إلى فلسطين شعباً بلا دين بالمرة وفي هذه الحالة نجد أنفسنا في مجال أضيق وغير مستعدين لمؤازرتهم، ومعلوم أن الدين اليهودي هو أساس ديننا، ولكن الدين اليهودي قد جاءت عليه تعاليم المسيح وحلت محله، ولهذه العلة فليس من الممكن أن نقدم اليوم لليهود من المساعدة أكثر مما فعلنا من قبل، والذين أنكروا المسيح من اليهود ولم يعترفوا به مازالوا على هذا الإنكار حتى اليوم" (¬2). ورغم هذا الموقف القوى الواضح من البابا، إلا أن هرتزل قال في رده على البابا: "إن النكبات والاضطهادات لم تكن في اعتقادي خير وسيلة لإقناع قومي بما يكرهون". وأمام هذا اللغط وقبح المواجهة ثارت ثائرة البابا واستفزه قبح أسلوب هرتزل والعبارة التي رد بها، فقال البابا: "أن سيدنا يسوع، آتى إلى هذا العالم ولا قوة له ولا سلاح فقد جاء فقيراً من حطام الدنيا وهو لم يضطهد أحداً. وإنما تعرض للاضطهاد وتخلى عنه الناس، وسلطانه على الأرض لم يظهر إلا بعد انقضاء رسالته ولم يقم للكنيسة كيان إلا بعد مضى ما لا يقل عن ثلاثمائة عام على تأسيسها وقد ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية - محمد السماك ص 151 (¬2) الصهيونية تحرف الأناجيل / سهيل التغلبى - ص 104 - مكتبة مجد - ط 1999، الصهيونية في الستينات، الفاتيكان واليهود للأستاذ محمود نعناعه- الدار القومية للطباعة والنشر - القاهرة 1994.

كان بوسع اليهود خلال تلك الفترة أن يقبلوا رسالة المسيح فلم يقبلوها ورفضوها وما زالوا يرفضونها حتى هذه الساعة" (¬1). وأمام هذه الشجاعة في التعبير عما يعتقده البابا بيوس العاشر ويؤمن به ويمثله، فإن هرتزل دوّن في مذكراته وادعى: "أن البابا بيوس امتعض منى لأني لم أقبلّ يده عند اللقاء ولو كنت قبلّتها كما فعل كونت ليباى ـ الذي أعد لهذا اللقاء ـ لما كان قداسته ذهب هذا المذهب الذي صدر عنه" (¬2). وبعد سبع سنوات على إعلان هذا الموقف، رفض البابا بيوس العاشر من حيث المبدأ، إقامة وطن يهودي في فلسطين (¬3)، حيث وجه البابا رسالة جوابية إلى هرتزل، قال فيها: "لا نستطيع أبداً أن نتعاطف مع هذه الحركة ـ الصهيونية ـ نحن لا نستطيع أن نمنع اليهود من التوجه إلى القدس، ولكننا لا يمكن أبدا أن نقره، إنني بصفتي قيماً على الكنيسة لا أستطيع أن أجيبك بشكل آخر. لم يعترف اليهود بسيدنا، ولذلك لا نستطيع أن نعترف بالشعب اليهودي، وبالتالي، فإذا جئتم إلى فلسطين وأقام شعبكم هناك، فإننا سنكون مستعدين ككنائس ورهباناً لتعميدكم جميعا" (¬4). وبالرغم من هذا الرفض التام من قبل البابا للمطالب الصهيونية، إلا أن الصهاينة لم يكفوا عن المحاولة، وبعد صدور وعد بلفور في عام 1917م، أوفدت الحركة الصهيونية أحد أعضائها وهو الروسي (ناحوم سوكولوف) لمقابلة البابا (بنديكت الخامس عشر) لإقناعه بتأييد الوعد، ولكن البابا حدد موقفه وقال: "لا لسيادة اليهود على الأرض المقدسة (¬5) ". وقد دافعت الصحافة الكاثوليكية في أوروبا وفي الولايات المتحدة نفسها عن موقف البابا هذا، حتى إن المجلة الكاثوليكية ¬

(¬1) الصهيونية تحرف الأناجيل / سهيل التغلبى ص 104 (¬2) يوميات هرتزل، ترجمة هلدا شعبان صايغ - ص225 - سلسلسة كتب فلسطينية- مركز الأبحاث م. ت. ف- ط 1973 (¬3) البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني - يوسف الحسن ص56 (¬4) الإسلام والمسيحية من التنافس والتصادم إلى الحوار والتفاهم ـ إليكس جورافسكى ـ ترجمة د. خلف الجراد ـ ص134 - دار الفكر المعاصر/ بيروت- دار الفكر/دمشق- ط2 2000م. (¬5) الصهيونية تحرف الأناجيل / سهيل التغلبى ص 107

الأمريكية نشرت في عددها الصادر في نيسان ـ إبريل 1918م مقالاً بعنوان: (موقف المسيح من التطلعات السياسية ـ الدينية لليهود) قالت فيه: "بما أن الانتقام هو صفة اليهود المميزة، فإن التدمير الكامل لأعدائهم هو من أعظم إنجازات تطلعاتهم القومية، حيث يرى كثير من اليهود في إشباع مشاعرهم الانتقامية هذا جزءا من عظمة مستقبلهم السعيد". ولهذا دعت المجلة إلى رفض المطالب الصهيونية ومقاومتها لما ستلحقه من دمار على أهالي فلسطين مسيحيين ومسلمين. كما أن البابا (بنديكت) تلقف التضامن الإسلامي المسيحي العربي في فلسطين ضد وعد بلفور، ليجدد رفضه السيادة اليهودية على الأرض المقدسة. "ففي ديسمبر 1920م تألفت هيئة إسلامية ـ مسيحية لمطالبة السلطات البريطانية بإعادة النظر في وعد بلفور، وطالب المؤتمر العربي الثالث في حيفا، باستبدال الانتداب البريطاني بحكومة عربية، كما احتلت أحداث الانتفاضة الفلسطينية في ربيع 1921م الصفحات الأولى في الصحف الكاثوليكية. وفي 14 من حزيران ـ يونيو 1921م أعلن البابا أن الوضع في فلسطين لم يتحسن، بل إنه ازداد سوءا من خلال التعليمات المدنية الجديدة التي استهدفت عملياً على الأقل ولو من غير قصد أصحابها ـ إقصاء المسيحية عن موقعها السابق ووضع اليهود في مكانها، ولذلك فإننا نهيب بحرارة بجميع المسيحيين بمن فيهم الحكومات غير الكاثوليكية أن تحث عصبة الأمم على إعادة النظر في الانتداب البريطاني على فلسطين" (¬1). وفي 15 من أيار ـ مايو 1922م، وجه الفاتيكان مذكرة رسمية إلى عصبة الأمم تنتقد بشدة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وجاء في المذكرة التي وضعها الكاردينال كاسباري: "إن الحبر الأعظم لا يعارض في أن يتمتع اليهود في فلسطين بالحقوق المدنية أسوة بغيرهم من أبناء الجنسيات والمعتقدات الأخرى، ولكنه لا يمكن أن يوافق على منح اليهود امتيازات على غيرهم من السكان" (¬2). وتجاوباً مع هذا الموقف تحركت الدبلوماسية الفرنسية والإيطالية والبرازيلية (وكلها دول ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك ص 152 (¬2) الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك ص 153

كاثوليكية) في اتجاه تأخير إقرار الانتداب البريطاني على فلسطين في عصبة الأمم إلى أن يعاد النظر في وعد بلفور. وفي عملية استيعابية لهذه التحركات، قام (ونستون تشرشل) وكان وزيرا للمستعمرات البريطانية، بحركته الالتفافية فأصدر الورقة البيضاء، التي استهدفت إقناع خصوم الصهيونية بفرض قيود على المستقبل السياسي للمستوطنين اليهود في فلسطين دون إعادة النظر في نص وعد بلفور أو في مضمونه. وفي هذا الإطار أيضا ـ جاءت توضيحات القومندون (هوغارث) من المكتب العربي في القاهرة بأن أي مستوطنة يهودية في فلسطين لن تقام إلا في حدود مراعاة الحريات السياسية والاقتصادية للسكان العرب. وقد عززت حركة تشرشل هذه، الموقف الذي اتخذه الكونجرس الأمريكي بمجلسيه الشيوخ والنواب بتأييد وعد بلفور بمنح اليهود وطنا قومياً دون إلحاق الأذى بالحقوق الدينية للمسيحيين أو غيرهم من المجموعات غير اليهودية". هذان الموقفان البريطاني (الإنجليكاني)، والأمريكي (البروتستنتي) أديا معاً إلى هزيمة موقف الفاتيكان (الكاثوليكي). وبرغم ذلك، وبرغم انشغال البابوية بالانعكاسات السلبية على الكنيسة الكاثوليكية في الدول الشيوعية، فإن الفاتيكان لم يتراجع عن معارضة تهويد فلسطين خلال الثلاثينات من القرن العشرين. "ففي تموز ـ يوليو من العام 1937م، وفي أعقاب الثورة الفلسطينية التي نشبت في عام 1936م ألفت بريطانيا لجنة للتحقيق، أوصت اللجنة بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية مع إبقاء الأماكن الدينية في القدس وبيت لحم تحت إشراف الانتداب البريطاني، حيث عارض العرب المسلمون والمسيحيون توصيات اللجنة، وعارضها الفاتيكان أيضاً. ففي مذكرة وجهها إلى الحكومة البريطانية في السادس من آب ـ أغسطس من ذلك العام، عارض الحبر الأعظم تقسيم فلسطين، وعارض بصورة أخص وضع المناطق المقدسة بما فيها بحيرة طبريا والناصرة ضمن الجزء المخصص للدولة اليهودية. وأعرب الحبر الأعظم عن قلقه الشديد من نتائج مثل هذا التقسيم لفلسطين على المجموعات المسيحية" (¬1). ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك ص 155.

وكنتيجة للثورة الفلسطينية والمعارضة الفاتيكانية وما رافقها من توتر دولي، تراجعت الحكومة البريطانية عن مشروع التقسيم، ثم أصدرت في عام 1939م الورقة البيضاء التي حددت بموجبها عدد اليهود الذين يسمح لهم بالهجرة سنويا إلى فلسطين، ومساحة الأراضي التي يسمح لهم بتملكها، ولكن ذلك لم يرق للدوائر الصهيونية التي حاولت الالتفاف على هذا الأمر من خلال ممارسة بعض الضغوط على الفاتيكان، "حيث كان آخر فصول النزاع اليهودي المسيحي في تلك الفترة محاولة الصهيونية العالمية تجريم البابا بيوس الثاني عشر بتهمة الوقوف مع النازية في الحرب العالمية الثانية، ثم الضغوط الهائلة التي أفضت إلى تبرئة اليهود من دم السيد المسيح" (¬1). ولكن هذه المحاولة لم تنجح في جعل البابا يغيرّ رأيه في مشروع التقسيم. وقد عكست الصحف الأمريكية الكاثوليكية (ساين وتابليت) الحملة الفاتيكانية ضد التقسيم، وركزت على أن فلسطين ليست ولن تكون وطناً قومياً لليهود، حيث ظل هذا الموقف من الثوابت الفاتيكانية حتى إلى ما بعد تصويت الأمم المتحدة على قبول عضوية إسرائيل في المنظمة الدولية. ففي 22 من حزيران - يونيو من العام 1943 م، ورداً على بيان المنظمات الصهيونية الذي صدر في نيويورك (بيان بلتيمور) في أيار ـ مايو 1942م، وجه المبعوث الفاتيكاني إلى الولايات المتحدة الأسقف (أملتو تشيكونياني) مذكرة إلى الحكومة الأمريكية جدد فيها نداءات البابا (بنديكت الخامس عشر) بمعارضة إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وضمن المذكرة صورة عن مذكرة الكاردينال (غسباري) إلى عصبة الأمم في 4 من حزيران - يونيو 1922م والتي جاء فيها: "إذا كانت إقامة وطن يهودي أمراً مرغوباً فيه، فلن يكون من العسير إيجاد مكان مناسب أكثر من فلسطين. إن مشاكل دولية جديدة سوف تترتب على زيادة عدد السكان اليهود هناك، وسيتصدى كاثوليك العالم لهذا الأمر" (¬2). غير أن الصهيونية المسيحية كانت أقدر على انتزاع موقف من الكونجرس، "يدعو فيه الإدارة الأمريكية إلى بذل جهودها لاتخاذ كل الإجراءات اللازمة لفتح ¬

(¬1) تاريخ تطور علاقة المسيحية باليهودية / د. فكتور سحاب الخليج عدد 8674. (¬2) الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك ص 156.

أبواب فلسطين أمام اليهود، وإفساح المجال أمامهم لاستعمارها بحيث يتمكن الشعب اليهودي من إعادة بناء فلسطين كدولة يهودية ديموقراطية حرة". ونتيجة لذلك أوفد الفاتيكان في عام 1944م إلى الولايات المتحدة المونسينيور (توماس ماكماهون) ليحذر من خطر خضوع الغرب إلى المطالب الصهيونية بالضغط على المجموعات المسيحية في الشرق. وأكد ماكماهون خلال ذلك أن المسيحيين في العالم يطالبون بصوت واحد، "أن تحافظ أرض المسيح على قداستها وحرمتها". وقبل اعتراف الأمم المتحدة بإسرائيل بأسبوعين وجه البابا (بيوس الثاني عشر) رسالة رعوية في الأول من أيار ـ مايو 1948م، قال فيها: " في الوقت الحاضر هناك قضية أخرى تحزننا وتدمي قلوبنا. إننا نعني بذلك قضية الأماكن المقدسة في فلسطين التي تعرضت منذ وقت طويل لأحداث محزنة والتي تؤدي يومياً إلى عمليات قتل وتدمير، ومع ذلك فإذا كان هناك جزء من العالم عزيز على ضمير كل إنسان واع ومتحضر، فإن هذا الجزء هو فلسطين .. " ثم دعا المؤمنين إلى تخصيص الصلاة في شهر أيار ـ مايو " لتسوية قضية فلسطين على أساس المساواة حتى يسود السلام والتفاهم" (¬1). وهكذا احتلت الكنيسة الكاثوليكية، موقعاً أمامياً في التصدي للحركة الصهيونية منذ البداية. فالفاتيكان الذي لم يعترف حتى اليوم بإسرائيل اعترافاً قانونياً، يعارض أهداف الحركة الصهيونية اليهودية، ويعارض هجرة اليهود إلى فلسطين. ولا ينتقص من دور الفاتيكان في التصدي للحركة الصهيونية، وثيقة التبرئة التي صدرت في عام 1963. "فالمعروف أن البابا (غريغوري الثالث عشر) أصدر حكم الإدانة ضد اليهود في العام 1581م، ولم يرفع هذا الحكم إلا مؤخرا في عام 1960م عندما كلف البابا (يوحنا الثالث والعشرون) الكاردينال (بيا) إعداد مسودة نص مجمعي عن اليهود، يزيل عنهم تهمة قتل المسيح، حيث نشر نص هذه الوثيقة في عام 1963" (¬2). ¬

(¬1) الصهيونية تحرف الأناجيل - سهيل التغلبى - ص 107 (¬2) الإسلام والمسيحية من التنافس والتصادم إلى الحوار والتفاهم - اليكس جورافسكى - ترجمة د. خلف الجراد ـ ص134

وقد أثارت هذه الوثيقة احتجاجات واسعة في البلدان العربية وبرزت أصداؤها من خلال مناقشات ومداخلات واعتراضات أساقفته هذه البلدان المشتركين في المجمع، "حيث أظهرت المناقشات مقاومة قوية من بطريرك إنطاكية للكاثوليكية (طبوني) وبطريرك الأقباط الكاثوليك (اسطفانس الأول)، يؤازرهما عدد لا بأس به من أساقفة الكاثوليك الشرقيين، الذين اجمعوا على أن التطرق إلى موضوع اليهود ونفي التهمة التاريخية عنهم قد يؤدي إلى الاعتراف بدولة إسرائيل من قبل الفاتيكان من جهة، وقد يخدم مصلحة اليهود سياسياً في نزاعهم مع العرب من جهة ثانية. أما بطريرك الروم ـ الكاثوليك مكسيموس الرابع فقد أشار إلى أن المسودة المقترحة (عن اليهود) يمكن أن تقر وتصدر فقط في حال إذا كانت الكنيسة ستتحدث عن ديانات أخرى، بما في ذلك الإسلام" (¬1). ولكن بالرغم من هذه الاحتجاجات فقد صدرت هذه الوثيقة مسدلة الستار على فصل مهم من فصول النزاع اليهودي المسيحي في تلك الفترة، بعد أن أفضت إلى تبرئة اليهود من دم المسيح. وهنا لا بد أن نشير إلى أمر مهم وهو أن صدور هذه الوثيقة لا يشكل تغييراً جوهرياً في نظرة الكنيسة الكاثوليكية لليهود أو تغييراً في العقيدة الكاثوليكية. فالهدف الذي بسببه صدرت الوثيقة، كان لرد الهجوم العنيف الذي تعرضت له الكنيسة الكاثوليكية من الصهيونية وأعوانها، بدعوى أن الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوروبا كان بسبب تلك الإدانة التي صدرت قبل أربعة قرون والتي تحمل اليهود مسئولية قتل المسيح. وهنا لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يدعي أن تلك الإدانة كانت صحيحة أو أنها تعتبر جزء جوهري من العقيدة المسيحية. وبالتالي فإن التخلي عنها أو إلغائها لا يعتبر تحولاً كبيراً في نظرة الكاثوليك لليهود وعلاقتهم بإسرائيل. فالوثيقة لم تنكر أن اليهود تآمروا على قتل المسيح، ولكنها تنكر أن يتحمل اليهود كشعب ذنب هذا التآمر على مر التاريخ وتعاقب عليه الأجيال بعد الأجيال. مما تقدم يتضح لنا الموقف المتشدد للكنيسة الكاثوليكية من الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، والذي لم يترك إي أمل في إعادة بعث اليهود، أو عودتهم وتملكهم لأرض فلسطين من جديد، حيث انعكس ذلك على موقف أتباعها في ¬

(¬1) المصدر السابق ـ ص134.

موقف البروتستانت من اليهود

العالم، الذين نجد تعاطفهم مع القضية الفلسطينية واضحاً في البلدان الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا .. الخ. موقف البروتستانت من اليهود عندما ظهر المذهب البروتستانتي على يد (مارتن لوثر) في القرن السادس عشر، قلب الموقف الكاثوليكي رأساً على عقب، من خلال التغيرات اللاهوتية التي جاء بها والتي روجت لفكرة أن اليهود أمة مفضلة وأكدت على ضرورة عودتهم إلى أرض فلسطين، كمقدمة لعودة المسيح المنتظر وبزوغ فجر العصر الألفي السعيد. وقد كان من أهم الأسباب التي أدت إلى حدوث هذه التغيرات اللاهوتية، هو ما دعا إليه لوثر من وجوب إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون الخضوع لفهم رجال الدين لها. فأصبح كل بروتستانتي حر في دراسة الكتاب المقدس وتفسيره، واستنتاج معنى النصوص بشكل فردى مع عدم الاعتراف بأن فهم الكتاب المقدس وفقاً على رجال الكنيسة وحدهم. وهذا الوضع أدى إلى فتح الباب على مصراعيه أمام أصحاب البدع والأضاليل، مما أدى إلى تعدد الفرق البروتستانتية نفسها حتى وصل عددها الآن إلى أكثر من 200 فرقة في مذهب لم يتعدَ وجوده أكثر من أربعة قرون! (¬1). كما أنه في ظل هذا المذهب ازداد الاهتمام بالعهد القديم (التوراة) تحت شعار العودة إلى الكتاب المقدس باعتباره مصدر العقيدة النقية، مع عدم الاعتراف بالإلهامات والتعاليم غير المكتوبة التي يتناقلها الباباوات الواحد عن الآخر، والتي تعتبر مصدراً مهماً من مصادر العقيدة المسيحية. وهكذا أصبح العهد القديم يشكل جزءاً مهماً من مصادر العقيدة البروتستانتية، فأصبح هو المرجع الأعلى للسلوك والاعتقاد، ومصدراً للتعاليم الخلقية والمعلومات التاريخية أيضاً، حيث أن العهد القديم يتكون من 39 سفراً يذهب أغلب الباحثين إلى أنه لا يمكن نسبة إلا خمسة أسفارـ تجاوزاً ـ إلى سيدنا موسى، أما الباقية فهي عبارة عن سجل لتاريخ بنى ¬

(¬1) قصة الديانات ـ سليمان مظهر - ص 231 - الوطن العربى, 1984

إسرائيل في فلسطين، بالإضافة إلى بعض الأسفار والنبوءات التي كتبها حاخامات اليهود على فترات متفاوتة من الزمن. وفي ظل هذا الوضع أصبح العهد القديم مصدراً مهماً للمعلومات التاريخية عند العامة، حيث اقتصر تاريخ فلسطين على القصص المتعلقة بالوجود اليهودي فيها دون غيرها، وبالتالي أصبح البروتستانت مهيئين للاعتقاد بأنه لم يكن في فلسطين إلا الأساطير والقصص التاريخية الواردة في العهد القديم، حيث كان يبدو وكأنه لا وجود للشعوب الأخرى التي عاشت في فلسطين. وهكذا رسخت في أذهان البروتستانت فكرة الرابطة الأبدية بين اليهود وفلسطين باعتبارها وطنهم القومي الذي أٌخرجوا منه، والذي يجب أن يعودوا إليه طبقاً للنبوءات الواردة في العهد القديم. كما أن حركة الإصلاح الديني أعطت وزناً كبيراً للغة العبرية باعتبارها اللغة الأصلية للكتاب المقدس. فلكي يفهم المؤمنون كلمة الله بشكل صحيح لا بد لهم من معرفة اللغة الأصلية التي كتب بها، وبالتالي أصبح العلماء والمصلحون وحتى العامة منكبين على دراسة اللغة العبرية وتعلمها. وهكذا يمكننا تقدير الخدمة التي قدمها لوثر لليهود، حيث أعاد بعثهم من جديد وأكد على وجوب عودتهم إلى أرض فلسطين، كمقدمة لعودة المسيح المنتظر. لهذا فإن الكنيسة الكاثوليكية كانت تصفه "بأنه يهودي أو نصف يهودي ـ متهود" وكان الكاثوليك يقولون: "أن لوثر من أصحاب البدع والأضاليل وإنه وأمثاله زاغوا عن طريق الإيمان" (¬1). كما أن كثيراً من الباحثين يذهبون إلى القول بأن المذهب البروتستانتي أصلاً من صنع اليهود والماسون حيث يقول عبد الله التل في كتابه (جذور البلاء): "وجدت الماسونية في البروتستانتية خير سند لها في حربها ضد الكتلكة، وتبادل الفريقان الخدمات، الماسون يساندون البروتستانت لإذكاء الحرب بين الفرق النصرانية، والبروتستانت ينخرطون في محافل الماسون للإستفاده من نشاطهم السري ومؤامراتهم ودسائسهم" (¬2). ويقول عبد الله الزغبي في كتابه (الماسونية في العراء): "لقد ضرب التخطيط اليهودي بالحركة اللوثرية حجراً فأصاب به عصافير: ¬

(¬1) المسيحية ـ د. أحمد شلبي، ص 262 (¬2) جذور البلاء ـ عبد الله التل، ص 18

1ـ أصاب الكرسي البابوي في أكرم أبنائه. 2ـ استغل الدين للمصلحة اليهودية استغلالاً فجاً بعد أن ربط العهد الجديد بالعهد القديم. فقد كان العهد القديم قبل لوثر مهجوراً، مصفداً في أقبية الأديرة، ثم أخذ بالظهور منذ الحركة اللوثرية، وفاز بالترجمة والانتشار لاستغلال ما يرونه مواعيد" (¬1). ويضيف: "أكاد أجزم أن دماً يهودياً يسرى بعروق لوثر، فقد خدم اليهودية خدمة لا تقدر، حسبه إخراج العهد القديم من الخزائن الرطبة والأقبية المظلمة وترجمته وربطه بالعهد الجديد ليصبح جميع مطالعيه ساعين لتنفيذ العهود التي سطرت بعد إبراهيم بقرون وألصقت به" (¬2). ويمكن القول أن جمع الكتابين (العهد القديم والعهد الجديد) في مجلد واحد هو من التحولات البارزة في عالم الأفكار والأديان، حيث إنه مع عصر النهضة وحركة الإصلاح الديني، أخذت التفسيرات الحرفية والشخصية للعهد القديم تنتشر وتسود، وذهب أتباع هذه الحركة إلى الاقتناع بأن ما ورد في العهد القديم هو نبوءة حرفية عن المستقبل. وخرجت من بطن هذه الحركة وتفسيراتها عقائد عبرت عن المدى الذي وصلت إليه عملية تهويد المسيحية، من بينها العقيدة الألفية، "وهى عقيدة تعود في جذورها إلى اليهودية، لكن البروتستانتية أحيتها وجعلتها فكرة مركزية في عقيدتها، وتدور حول عودة المسيح المخلص الذي سيحكم العالم لمدة ألف عام، حيث يسود خلالها السلام والعدل في مجتمع الإنسان والحيوان. وعلى الرغم من أن العهد القديم لم يذكر نصاً حول هذه العقيدة التي تتحدث عن نهاية الأزمنة، فإن عناصر يهودية روجت لهذه العقيدة في عدد من المؤلفات والكتب، تعبيراً عن تطلع يهودي لفكرة الملك المقدس في المستقبل، والذي يأتي علي هيئة ماشيح عبراني، في حين رأت المسيحية التقليدية ¬

(¬1) الماسونية في العراء ـ محمد على الزعبي، ص 106ـ 107 - دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع 1980 (¬2) المصدر السابق- ص 320.

في هذه العقيدة نوعاً من الهرطقة والكفر، واعتبرت الكنيسة الكاثوليكية هي مملكة المسيح" (¬1). وهكذا فإن أهمية الأفكار التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني على يد لوثر، تعود إلى أنها مهدت الطريق أمام نفس الأفكار التي نادت بها الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر من خلال تأكيدها على وجود الأمة اليهودية وضرورة بعث هذه الأمة من جديد وكون فلسطين وطناً لليهود. فهذه الأفكار التي أكدتها البروتستانتية لا تختلف كثيراً عن الصهيونية كفكرة "والتي تنطوي في جوهرها على دعوة اليهود للعودة إلى صهيون، أي مناشدة اليهود في العالم للعودة إلى أرض إسرائيل بحدودها التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة لدى اليهود" (¬2). وهكذا آمن البروتستانت بأن اليهود لابد عائدون إلى الأرض المقدسة كما جاء في النبوءات التوراتية، مما أيقظ قضية انبعاث اليهود وعودتهم الجماعية إلى فلسطين، حيث يظهر المسيح للمرة الثانية، ويحكم لألف عام. وقد آمن بعض البروتستانت بضرورة اعتناق اليهود للمسيحية تمهيدا لقدوم المسيح، وآمن بعضهم بإمكان تحولهم هذا بعد قدومه (¬3). وقد أدى انتشار الأفكار المتعلقة ببعث الأمة اليهودية بين معتنقي المذهب البروتستانتي إلى سعى الكثيرين منهم لتحقيقها طبقاً للنبوءات الواردة في العهد القديم، فمع العودة إلى أهمية الكتاب المقدس، قام الإصلاحيون بترجمته إلى لغات عديدة. كما أصبحت العودة إلى التوراة، وهى القسم الأول والأكبر من الكتاب المقدس، أساساً في المفهوم الديني الجديد، ومحورا للتعليم في المدارس. ومع انبعاث التاريخ القديم، بكل تفاصيله وحكاياته التوراتية، تحولت فلسطين في الضمير البروتستانتي من الأرض المقدسة للمسيحيين، إلى أرض الشعب ¬

(¬1) الأصولية المسيحية أصولها ونشأتها ودورها في صنع القرار الأمريكي ـ يوسف الحسن- جريدة الخليج عدد 8674 (¬2) القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني ـ ص 51 ـ مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عام 1973. (¬3) فلسطين: القضية ـ الشعب ـ الحضارة (التاريخ السياسي من عهد الكنعانيين حتى القرن) ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 286 - دار الاستقلال- ط1 1991

المختار، حيث "يصر المسيحيون البروتستانت على أن إسرائيل الجديدة، ليست الكنيسة المسيحية كما اعتبرهاـ مجازاً ـ القديس (أوغسطين)، بل هي بنو إسرائيل، المفترض عودتهم إلى فلسطين لإقامة مملكة الله على الأرض جغرافياً وليس مجازاً، وهو ما اعتبروه مقدمة ضرورياً للمجيء الثاني ولتحقيق المملكة الألفية السعيدة (رؤيا الفصل 2). أما الكنيسة بالنسبة إلى البروتستانت فهي مملكة الله السماوية في حين أن إسرائيل هي مملكة الله الجغرافية على أرض فلسطين وبالتالي أصبح البروتستانت من اشد أنصار إسرائيل حماساً ودعماً لها" (¬1). ¬

(¬1) المسيحية والإسلام والاستشراف - محمد فاروق الزين ص272

الفصل الثاني بريطانيا والمشروع الصهيوني

الفصل الثاني بريطانيا والمشروع الصهيوني وطدت حركة الإصلاح الديني أقدامها في إنجلترا منذ أن أنفصل الملك (هنري الثامن) عن كنيسة روما في القرن السادس عشر، "حيث لعب الخلاف بينه وبين كنيسة روما حول طلبه الموافقة على طلاق زوجته دوراً رئيسياً في انتشار البروتستانتية في إنجلترا، مما دفع الملك هنري إلى إصدار أمره الملكي سنة 1538م إلى كنائس إنجلترا بإنهاء الوصاية الكهنوتية على الكتاب المقدس وتفسيره، وتمكين كل فرد من المؤمنين من الإطلاع على نصوص الأسفار المقدسة وتفسيرها التفسير الذي يمليه عليه عقله وضميره" (¬1). كما ساهمت طموحات الطبقة الرأسمالية الناشئة في حدوث هذا الانفصال، حيث كان التجار الأثرياء كارهين أشد الكره لسطوة الكنيسة الكاثوليكية وقيودها على التجارة والمعاملات المالية، وبخاصة فيما يتعلق بمسألة الفوائد على رؤوس الأموال (الربا). "حيث كانوا ضائقين أشد الضيق بما رأوه تدخلاً غير مشروع من جانب بيروقراطية كهنوتية أجنبية في أنشطتهم التجارية ومعاملاتهم المالية ومتضررين مما كانت تفرضه على تلك الأنشطة من ضرائب، فكان دعمهم وترحيبهم بحركة الإصلاح الديني للتخلص من نفوذ الكنيسة الكاثوليكية" (¬2). وعلى المستوى الديني, شهدت نهاية الحرب الأهلية ظهور محاولة البيوريتانيين أصحاب المذهب الطهراني في الاستفادة من التسوية الثورية "لغرض استكمال الإصلاح الديني، وإقامة مؤسسة دينية جديدة تستند إلى (البروتستانتية الربانية) ألحقة، تعم كلمتها المملكة وتستبعد الكثلكة مرة وإلى الأبد من الجسم السياسي البريطاني. حيث تم ذلك عند الإطاحة بالملك (جيمس الثاني) الكاثوليكي المذهب، وهربه من البلاد وما تبع ذلك من وضع (لائحة الحقوق) عام 1688م، ووضع الإطار ¬

(¬1) راجع كتاب مواقف من تاريخ الكنيسة - رولاند بينتون ـ ترجمة القس عبد النور ميخائيل - دار الثقافة المسيحية (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص66

الديني الذي توج في فترة لاحقة بإقرار التسامح الديني التام بين جميع المذاهب" (¬1). هذه الأمور وغيرها أدت إلى توطيد البروتستانتية أقدامها في بريطانيا، مما انعكس بصوره مباشرة على الموقف من اليهود، حيث ظهرت في بريطانيا، بين عدد من المسيحيين البروتستانت، رجالاً ونساءً، حركة تدعى (حركة العودة)، وهى حركة منطلقة من إيمان المسيحيين بعودة اليهود إلى فلسطين. وقد اعتقد رواد هذه الحركة أن على العالم، أن يساعد اليهود في استعادة فلسطين. وسيتضح أن مشكلة هؤلاء الرئيسية لم تكن في إقناع العالم بل في إقناع اليهود أنفسهم (¬2). وقد أسس هذه الحركة عالم اللاهوت توماس بريتمان، حيث لاقت دعوته آذاناً صاغية من الكثير من رجال الدولة الكبار، أمثال القاضي وعضو البرلمان (هنري فنش) الذي أصدر أول كتاب عن الصهيونية في لندن في سنة 1628م، وقد كان فنش من المؤمنين بفكرة العصر الألفي السعيد، والتي تعنى عودة المسيح المنتظر، الذي سيقيم مملكة الله في الأرض والتي ستدوم ألف عام، ولابد من عودة اليهود إلى أرض فلسطين كمقدمة لذلك. ثم وصلت حركة الإصلاح الديني إلى ذروتها في إنجلترا في القرن السابع عشر، في عهد ما يسمى بالثورة البيوريتانية، عندما تولى أولفرت كروميل السلطة وأعلن الجمهورية. والحركة البيوريتانية (حركة التطهر) والتي ظهرت وانتشرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، "هي الحركة التي حولت الأفكار والمبادئ الدينية المتعلقة باليهود إلى عقيدة سياسية، أهم أفكارها: فكرة وجود الشعب اليهودي، وفكرة عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين، وفكرة ـ استيطانه وسيادته في فلسطين" (¬3). ففي عهد البيوريتاريين ازداد الاهتمام بالعهد القديم بشكل كبير، وأصبح كتابهم الوحيد الذي يستمدون منه فلسفتهم وأفكارهم ومعتقداتهم وطريقة ¬

(¬1) لوك .. مقدمة قصيرة جداـ تأليف/ جون دون ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوز (¬2) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 292 (¬3) المصدر السابق ـ ص 287

المطالبة بإعادة اليهود إلى فلسطين

سلوكهم. كما ازداد في عهدهم الاهتمام باللغة العبرية بشكل كبير جداً، "حتى جعلها بعضهم اللغة الوحيدة للصلاة وتلاوة الكتاب المقدس، وأقترح بعضهم أن يتضمن منهج التعليم العام في المدارس الثانوية دراسة العبرية، وظهرت لديهم نزعة التخلي عن المبادئ الخلقية المسيحية واستعاضوا عنها بالعادات والأخلاق اليهودية، بل إن إحدى مجموعاتهم المتطرفة دعت الحكومة الإنجليزية لإعلان التوراة دستوراً للقانون، وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فأعتنق اليهودية، أما الذين بقوا على مسيحيتهم فقد أخذوا ينظرون بعطف متزايد إلى أولئك الذين أطلقوا عليهم أسم شعب الله القديم "اليهود" (¬1). وقد انتشرت الحركة البوريتانية بمبادئها وأفكارها، خارج بريطانيا، وكان نشاطها الطويل نواة للاهتمام البريطاني بالمسألة اليهودية. المطالبة بإعادة اليهود إلى فلسطين كان من نتائج انتشار البروتستانتية في إنجلترا، ظهور حركة منظمة تنادى بإعادة اليهود إلى فلسطين. ففي عام 1649م قام اثنان من الإنجليز المقيمين في أمستردام برفع عريضة إلى حكومتهم يطلبون فيها بذل جهد مشترك مع هولندا لتوطين اليهود في فلسطين، حيث جاء في العريضة: "ستكون هذه الأمة الإنجليزية مع سكان الأراضي المنخفضة (هولندا) أول الناس وأكثرهم استعدادا لنقل أبناء إسرائيل وبناتها إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم إبراهيم وأسحق ويعقوب كإرث باق أبداً" (¬2). ولم تكن هذه الأفكار سائدة في إنجلترا وحدها في هذه الفترة، بل إنها امتدت إلى المناطق الأخرى من أوروبا والتي أصبحت البروتستانتية راسخة الأقدام فيها مثل هولندا والدنمرك ومجموعة الدول الاسكندنافية. ولكن بالرغم من أن هذه الأفكار كانت تخبو من حين لآخر، ولاقى الكثير من المؤمنين بها الازدراء والتعذيب، إلا أن الكتابات الكثيرة التي روجت لهذه الأفكار ساعدت على تعزيز فكرة العودة اليهودية إلى فلسطين. ¬

(¬1) الصهيونية غير اليهودية: جذورها في التاريخ الغربى/ تأليف ريجينا الشريف؛ ترجمة احمد عبالله عبد العزيز -ص 53 - المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب، 1985م. الدورية: عالم المعرفة؛ 96 (¬2) الصهيونية والصراع الطبقي ـ د. صادق جلال العظم ـ ص 54 - دار العودة، بيروت، ط 1، 1975.

الأفكار الصهيونية تغزو عقول الطبقات المثقفة

الأفكار الصهيونية تغزو عقول الطبقات المثقفة تأثر كثير من الأدباء والفنانين بأفكار وأساطير العهد القديم، وأصبح مصدر إلهام لكثير منهم "فقد فسحت الأجواء البروتستانتية المجال واسعاً أمام اليهودية لدخول عالم الفن والأدب، وما عادت أهمية التوراة تنحصر في كونها كتاباً دينياً، إذ أضحت مرجعاً لتعليم الأخلاق. وهكذا انطلقت اليهودية مع عصر النهضة لتصبح ركناً أساسيا في الفكر الأوروبي الحديث، ومصدر الهام لشعراء الغرب وأدبائه ورساميه" (¬1). و"اليوم تضم اكبر متاحف الدنيا وأهمها، اللوحات الزيتية للفنانين المسيحيين البروتستانت، الذين خلدوا مرحلة وهج الإصلاح الديني برسمهم حكايات التوراة وأنبياء التوراة عوضاً عن القديسين. ويحتل (رمبراندت) الرسام الهولندي البروتستانتي مكان الصدارة في بعث المشاهد الإسرائيلية القديمة وشخصياتها. فقد استلهم رمبراندت التوراة عندما رسم العديد من اللوحات لإبراهيم ويعقوب وشاوؤل وشمشون وإستر وداود، كما إنه استلهم الحياة اليهودية المعاصرة، فرسم عروساً يهودية ولوحة ليهودي طاعن في السن" (¬2). أما في مجال الأدب فقد أصبح أنبياء اليهود يحتلون بالتدريج مكانة الأبطال اليونانيين الكلاسيكيين في عالم الأدب الغربي. كما شاعت شخصيات العهد القديم في الأعمال الأدبية حتى أن بعض هذه الأعمال حملت أسماء بعض شخصيات العهد القديم، مثل (استر) و (ناتان الحكيم). بالإضافة إلى ذلك ظهر بعض الفلاسفة والعلماء من المؤمنين بضرورة عودة اليهود إلى أرض فلسطين. فقد جاء في كتاب (تعليقات على رسائل القديس بولس) الذي كتبه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، قوله: "إن الله قادر على جمع اليهود في كيان واحد وجعلهم في وضع مزدهر في وطنهم" (¬3). كما أن إسحاق نيوتن مكتشف قانون الجاذبية، في كتابه (ملاحظات على نبوءات دانيال ورؤيا القديس جون) "توصل إلى أن اليهود سيعودون إلى وطنهم، وحاول أن يضع جدولاً زمنياً للأحداث ¬

(¬1) فلسطين: القضية * الشعب * الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 287. (¬2) المصدر السابق ـ ص 288 (¬3) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 73.

تغير في الأفكار

التي ستفضي لذلك، وتوقع تدخل قوة أرضية من أجل إعادة اليهود المشتتين" (¬1). وكان (جوزيف برستلى ـ مكتشف الأوكسجين) شديد الإيمان بعودة اليهود إلى فلسطين، بشرط تحولهم إلى المسيحية، حيث كان هذا الرأي السائد بين البروتستانت. وهكذا فقد كان القرن السابع عشر هو العصر الذهبي لانتشار الأفكار الدينية المتعلقة بعودة اليهود إلى فلسطين. تغير في الأفكار شهد القرن الثامن عشر فترة عدم استقرار في أوروبا بسبب كثرة الحروب وما تبعها من ثورات، حيث بدأ يظهر تغير في مضامين الأفكار المتعلقة بعودة اليهود إلى فلسطين. فبعد أن كانت هذه الأفكار تحمل الطابع الديني البحت، تسربت إليها الأفكار السياسية، حيث أصبح للقوى الأرضية دور يجب عليها أن تقوم به لكي تعيد اليهود إلى فلسطين، هذا التدخل الذي كان مرفوضاً قبل ذلك حتى من اليهود أنفسهم الذين كانوا يرون أن عودتهم إلى أرض فلسطين لا بد وأن تتم بتدخل قوة إلهية. وربما كانت جماعة حراس المعبد (ناطورى كارتا) من الجماعات القليلة التي بقيت محافظة على هذه العقيدة، حيث ترى هذه الجماعة "أن دولة إسرائيل هي ثمرة الغطرسة الآثمة للكافرين العلمانيين من أتباع الحركة الصهيونية، الذين تحدوا مشيئة الرب بإنشاء الدولة دون انتظار تدخله على شكل معجزة وظهور المسيح المخلص، الذي يعتبر في نظرهم الوحيد القادر على إقامة دولة إسرائيل لتكون مملكة للكهنة والقديسين" (¬2). ولهذا "يعتبرون أن قيام الدولة قبل مجيء المسيا ضلال مبين، وإثم عظيم، وقد طلبت الطائفة رسمياً من الرئيس الأمريكي نيكسون بحث طلبها بعودة مدينة القدس إلى العرب. والجدير بالذكر أن أعضاء طائفة ناتوري كارتا (60 ألفا) لا يعترفون بدولة إسرائيل على أساس أن دولة ما تحمل هذا الاسم (لا يمكن أن تنشأ إلا مع عودة المسيح) أي المسيا المنتظر" (¬3). ¬

(¬1) المصدر السابق ـ ص 79 (¬2) أزمة الفكر الصهيوني - د. محمد ربيع - ص80 - المؤسسة العربية للدراسة والنشر (¬3) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 26

اللورد شافتسبرى

كما أن فكرة تحول اليهود إلى المسيحية كأمر لازم لعودة اليهود إلى أرض فلسطين لم تعد ضرورية، ففي عام 1800م نشر (جيمس بيشنو) ـ وهو من المؤمنين بالعصر الألفي السعيد ـ كتابه (عودة اليهود أزمة جميع الأمم) "حيث أعتبر فيه عودة اليهود إلى فلسطين قضية دولية، بالإضافة إلى أنه لم يربط عودتهم بتحولهم إلى المسيحية كما كان سائداً قبل ذلك" (¬1). وأصبح الاعتقاد السائد بأن اليهود سيدخلون المسيحية بظهور المسيح المنتظر الذي سينقذهم من أعدائهم. اللورد شافتسبرى حمل القرن التاسع عشر تطوراً بارزاً في طبيعة (حركة العودة)، حيث ظهرت جماعات بروتستانتية تعتبر عودة اليهود إلى أرض فلسطين ركناً أساسياً في عقيدتها. ففي هذا القرن شهدت إنجلترا نهضة دينية جديدة مشابهة في مبادئها ومعتقداتها لتلك التي كانت سائدة في عهد الثورة البوريتانية، وكان من أبرز ممثلي هذه الفترة اللورد شافتسبرى الذي كان مؤمناً بضرورة قيام دولة يهودية في فلسطين تحقيقاً للنبوءات التوراتية، حيث عبر عن ذلك بقوله: "إن التطلع إلى المجيء الثاني للمسيح والإيمان بأنه سيحدث قد شكلا المبدأ المحرك والقوة الدافعة في حياتي، نظراً لأني نظرت إلى كل ما يحدث في العالم باعتباره خاضعاً لذلك الحدث العظيم وفي مكانة ثانوية بالنسبة إليه" (¬2). لهذا فقد نشر شافتسبرى في عام 1839م مقالاً في إحدى الصحف، لخص فيه فكرته عن العودة اليهودية، التي تقوم على أساس تدخل البشر لتحقيق نبوءات العهد القديم المتعلقة بعودة اليهود إلى فلسطين. كما تقدم اللورد شافتيسبرى بمشروع إلى وزارة الخارجية البريطانية لاستيطان اليهود في فلسطين، على أن يخضعوا للحكم القائم في البلاد، وطالب بضمانات من الدول الأربع الكبرى. وبالرغم من أن مشروع شافتيسبرى لم ينجح، إلا أن صاحبه لم يعرف اليأس، وانتظر مناسبة أخرى. فلما كانت حرب القرم بين العثمانيين والروس على وشك ¬

(¬1) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 87 (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص147

الوقوع سنة 1854م، سجل في مذكراته "أن المنطقة في غليان، وأنها مقبلة على تغيرات، وأن عدداً كبيراً من المناطق سيصبح بلا حكام. ولما تساءل عن القوة التي يمكن إعطاؤها فلسطين، وهل ستكون لهولندي أم إحدى دول الشرق؟ رد على تساؤله بنفسه في مذكراته، كالآتي: "لا. لا. لا. هناك بلد بلا شعب، والله يوجهنا الآن بحكمته ورحمته نحو شعب بلا وطن". وقد تبنى الصهاينة فيما بعد هذه الجملة وأصبحت من أول الشعارات الصهيونية، "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض" (¬1). فقد كان شافتسبرى يعتقد أن فلسطين بلداً مهجوراً من السكان، وكان كغيره من المتدينين البروتستانت الذين "نظروا إلى فلسطين من زاوية أنها ارض التوراة وعهد التوراة، وما رأوا فيها شيئاً غير ذلك، حيث أنهم أرادوا بعث الماضي حياً أمام أعينهم، وهذا ما دعاهم، بوعي منهم وبلا وعى، إلى إغماض عيونهم عن كل ما لا يريدون رؤيته" (¬2). ومن أهم الأعمال التي قام بها شافتسبرى تأسيسه صندوق استكشاف فلسطين في عام 1865م، حيث قال في الخطاب الافتتاحي الذي ألقاه بمناسبة تعينه رئيساً للصندوق: "دعونا لا نتأخر في إرسال أفضل العلماء لتنقيب طول فلسطين وعرضها ولمسح الأرض وتغطية كل زاوية فيها إذا أمكن، ولتجفيفها وقياسها، أي إذا شئتم لإعدادها من أجل عودة مالكيها القدماء. إذ ينبغي علىّ أن أعتقد بأنه لن يطول الزمن كثيراً قبل أن يقع هذا الحدث العظيم" (¬3). واعتقاد شافتسبرى وغيره عن أرض فلسطين بأنها أرض خالية، يخالف الواقع الذي يحاول الصهاينة طمسه لأغراض دعائية. فهذا السير مونتفيور ـ وهو من المؤمنين بضرورة إعادة اليهود إلى أرض فلسطين ـ والذي زار منطقة صفد في عام 1839م يقول: "إنه رأى مساحات من أشجار الزيتون عمرها -على ما أعتقد- يزيد عن 50 سنة، وكروماً ومراع شاسعة وآبار كثيرة، وكذلك التين والبندق والليمون، والتوت وغيرها ... الخ ... وحقولاً غنية بالقمح والشعير والعدس" (¬4). ولكن شافتسبرى وغيره ¬

(¬1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 295 (¬2) المصدر السابق ـ ص 309 (¬3) الصهيونية والصراع الطبقي ـ صادق جلال العظم ـ ص 87. (¬4) تيودور هرتزل عراب الحركة الصهيونية ـ مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـ ص 94

أرادوا من خلال زعمهم السابق، إقناع الحكومة الإنجليزية والشعب الإنجليزي بالدرجة الأولى، بوجوب الإسراع بتوطين اليهود في فلسطين والإعداد لذلك عن طريق إنشاء مزيد من الجمعيات والمنظمات التي تقوم بإجراء الأبحاث والدراسات حول فلسطين. وفعلاً فقد شهد القرن التاسع عشر الميلادي زيادة كبيرة في عدد الجمعيات والمنظمات التي تدعى أنها تهدف إلى استكشاف فلسطين وتطويرها، وكأن هذه الأرض خالية من السكان!! ولهذا فقد تعرضت فلسطين منذ أواخر القرن الخامس عشر -كغيرها من بلاد المشرق الغنى بتاريخه وآثاره- "لرحلات متعددة قام بها رحالة وعلماء أجانب، أفراداُ وجماعات. إلا أن فلسطين قد لاقت ـ من دون سائر بلاد الشرق ـ اهتماماً خاصاً، لكونها أرض التوراة ومهد المسيح، فتوجهت إليها أنظار اللاهوتيين والعلماء لدراسة أرضها وتربتها ومناخها وآثارها، وللتنقيب عن أي أثر أو دليل يعود إلى العهد التوراتي" (¬1)، حيث كانت الدوافع الدينية ـ أحيانا ـ وحدها البارزة وراء البعثات الاستكشافية. ومن ابرز الأمثلة، الأمريكي (إدوارد روبنسون) الذي ابتدأ يعمل مع تلميذه وصديقه (إيلى سميث) في منطقة القدس منذ سنة 1838م. وقد اعترف منافسه السويسري تيتس توبلر بأن أعمال روبنسون، في جغرافية فلسطين، تتجاوز في أهميتها أعمال السابقين جميعاً. أما الكابتن (ويلسون)، وقد كان من المتطوعين الأوائل منذ سنة 1866م لعمليات المسح في القدس وضواحيها، فقد كان يعلن أمام الجميع العطف الكبير الذي كان يحمله دوماً لاستيطان اليهود في فلسطين. كذلك كان يعلن زميله (كيتشنر) صراحة أن عمله في فلسطين ليس كباحث آثار فقط، وإنما كرجل سياسي أيضا، لذلك، فهو يتفحص البلاد أرضها وتربتها تمهيدا للاستيطان اليهودي وللمستقبل المشرق الذي يبدو أن فجره سوف يطل على هذه الأرض. ولكن يبقى الاسم الأول البارز بين هؤلاء اسم الكابتن كلود كوندر (1848ـ1910م)، ويعود ذلك إلى حماسته الصهيونية التي لا حد لها، والى العمل الذي قام به، برسم خريطة مفصلة تشمل فلسطين كلها، وقد سميت حينئذ ¬

(¬1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 301

فلسطين الغربية. أما فلسطين الشرقية (الأردن حالياً) فقد كانت هي الأخرى هدفاً للاستيطان اليهودي، وكانت مهمة (كوندر) الأساسية أن يضع على الخريطة الأماكن التوراتية، وان يرسم الحدود لقبائل بنى إسرائيل الاثنى عشر وقد أتاح هذا العمل الفرصة لكوندر كي يتعرف على فلسطين أكثر من غيره. وقد نشر العديد من الكتب والمقالات عن تاريخ فلسطين وحاضرها ومستقبلها، فكان أكثر كاتب بريطاني (صهيوني) إنتاجاً، وهو الذي وصفه المؤرخ اليهودي (سوكولوف) بأنه أفضل عالم وخبير بفلسطين في عصره. وحين أعلن هيرتسل قيام الصهيونية رسمياً في بازل، كان كوندر من أوائل الذين اعتنقوها. كما أنه وافق فوراً على خطة لورانس اوليفانت باستيطان اليهود أرض جلعاد، شرقي الأردن، وقدم له خبرته في شؤون الأرض والناس. وهكذا مهدت أعمال بعثة (صندوق استكشاف فلسطين) الذي أنشأه شافتسبرى، بالإضافة إلى شهادات الرحالة والعلماء وكتاباتهم، درباً "واضح المعالم للصهيونية السياسية، كما ساهمت في زرع فكرة فلسطين الكبرى التي أصبحت إسرائيل الكبرى" (¬1). وبالرغم من أن شافتسبرى كان من أبرز المهتمين بعودة اليهود إلى أرض فلسطين في القرن التاسع عشر الميلادي، إلا أن ـ هناك ـ كثيراً من ذوى المكانة والنفوذ عملوا جادين لتحقيق هذا الهدف. فقد كان هناك نبلاء بريطانيون وعلى رأسهم (دوق كنت) وكثير من أعضاء مجلس اللوردات، بالإضافة إلى أدباء وشعراء عبروا عن عطفهم وإعجابهم بالشعب اليهودي ودعوه للعودة إلى أرضه في فلسطين؟ ولم يكن شافتيسبرى ـ بحماسته اللامحدودة ـ نسيجاً وحده، بل كان واحداً من مجموعة من كبار الإنكليز الذين صرفوا جل اهتمامهم وعملهم، في العقدين الخامس والسادس من القرن التاسع عشر الميلادي، من أجل إعادة اليهود إلى فلسطين. ومن هؤلاء البارزين الكولونيل (تشارلز هنري تشرشل) الذي كان قنصلاً سابقاً لبريطانيا في دمشق. "فقد كان من كبار المتحمسين للدولة اليهودية، ومن المؤمنين بأن مهمة بريطانيا التاريخية أن تقود اليهود المعذبين في عودتهم إلى وطنهم الأصلي. فقد بعث الكولونيل تشرشل برسالة إلى السير (موسى ¬

(¬1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ص 303ـ 305

اليهود في الأدب الإنجليزي

مونتفيورى)، أحد أقطاب اليهود الأثرياء، يناشده فيها أن يأخذ اليهود قضيتهم على عاتقهم، وهذا أمر لابد منه، إذ تبقى لليهود خطوة البداية. وليتقدم الحركة الأشخاص اليهود البارزون في مجتمعهم. فليجتمعوا، وليتفقوا وليقدموا العرائض. وقد فاقت حماسة تشرشل الإنكليزي عشرات المرات حماسة اليهود الذين كان يخاطبهم. فقد كانت أقصى ردة، لمونتفيورى على حماسة تشرشل، انه اكتفى ذات مرة بإعطائه مبلغاً من المال كي يوزعه على فقراء اليهود لدى عودته إلى الشرق. أما ردة فعل مجلس ممثلي اليهود في لندن، على رسالة مماثلة، فقد كانت في منتهى البرودة والحذر، وتذرع المجلس بضرورة استشارة اليهود في كل أوروبا" (¬1). أما الكولونيل (جورج غولير)، الحاكم البروتستانتي السابق في جنوب استراليا، فقد كان يعتبر أيضاً من أبرز هؤلاء المنادين بعودة اليهود إلى فلسطين، بمساعدة بريطانيا. فمنذ عودته من استراليا إلى بلده، كرس نشاطه للمسألة اليهودية، وقد تفوق على رفاقه لكونه خبيراً بالإدارة، وخبيراً بالاستعمار ووسائله، حيث قال في تقديمه لمشروعه الصهيوني: "إنني بفضل العناية الإلهية ... تمكنت من تأسيس أروع مستعمرة ظهرت حتى الآن في العالم كله. ولذلك فإنني أطمح جاداً إلى أن أصبح مستشاراً في شأن تأسيس أهم مستعمرة يمكن للعالم أن يشهدها ـ أول مستعمرة يهودية في فلسطين" (¬2). اليهود في الأدب الإنجليزي أنعكس التعاطف مع اليهود وآمالهم في العودة إلى فلسطين على الأدب الإنجليزي ـ كما أشرنا سابقاًـ حيث أصبح أنبياء اليهود يحتلون بالتدريج مكانة الأبطال اليونانيين الكلاسيكيين في عالم الأدب الغربي، وحتى اليهود باتوا يصورون كشخصيات متميزة. وجاءت مرحلة حل الأدب فيها مكان النهج الديني، ولمعت أسماء عديدة من الشعراء والأدباء الذين انصرفت أقلامهم إلى وصف الشخصيات والصفات ¬

(¬1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 296 (¬2) المصدر السابق ـ ص 298

اليهودية. وقد فاقت حماسة البعض منهم في تأييده عودة اليهود إلى فلسطين، كل تصور. فحتى بداية القرن التاسع عشر كان اليهودي يصور في القصص الإنجليزي، إما على صورة (شايلوك) (¬1) أو (اليهودي التائه)، "غير أن روايتي (هارنغتون) التي صدرت عام 1817 لماريا ادجورت، و (ايفنهو) 1811م، للسير (والتر سكوت) قدمتا مفهوماً جديداً لليهودي بإبرازه على أنه شخصية طيبة، حيث وجدت ثمة بادرة عابرة حملت بذرة هذا التغيير في رواية طوباياس كوليت (مغامرات فرديناند كونت فادم ـ 1753) التي قدمت ميتاسا على أنه إسرائيلي سخي يمارس فعل الخير مع كلٍّ من اليهود والأمميين بطريقة سوية" (¬2). وقد ساهم في هذا التغيير عدد من الشعراء الكبار أمثال (جون ملتون، وكوليريدج، واللورد بايرون، ووليان بليك، ووليام وردزوورث، وروبرت براونينغ). "وكان من الروائيين (والتر سكوت) الذي ابتدع شخصية ربيكا في روايته الشهيرة (آيفنهو)، و (اسكندر دوماس) الابن الذي نادى بلسان إحدى بطلاته المسرحيات بوطن دائم للشعب اليهودي. أما (دزرائيلى)، الذي أصبح رئيسا للوزراء في بريطانيا، فقد ألف العديد من الروايات، تضمنت اثنتان منها، محتوى سياسياً صهيونياً واضحاً. وقد كان دزرائيلى من كبار المتحمسين للصهيونية" (¬3). وعندما جاء النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي تبنى كلاً من (روبرت براونتج) و (جورج اليوت)، قضية عودة اليهود إلى فلسطين. "فقد جاء في قصيدة براوتنج (يوم الصليب المقدس) عام 1855 قوله: سيرحم الله يعقوب وسيرى إسرائيل في حماه ¬

(¬1) راجع مسرحية تاجر البندقية - وليم شكسبير- ترجمة غازي جمال- دار القلم بيروت - ط1 1978 (¬2) الشخصية اليهودية في الأدب الإنجليزي ـ د. هاني الراهب ـ ص 5 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 1979. (¬3) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 97

عندما ترى يهودا القدس سينضم الغرباء وسيتشبت المسيحيون ببيت يعقوب هكذا قال النبي وهكذا يعتقد الأنبياء" (¬1). أما جورج اليوت، فقد كتبت في عام 1874م رواية (دانيال ديروندا)، حيث تعتبر هذه الرواية أول رواية صهيونية ـ ولو جزئياً ـ في تاريخ الأدب الإنجليزي. "وقد اعتبرت انسيكلوبيديا الصهيونية وإسرائيل أن رواية دانيال ديروندا كانت مقدمة أدبية لوعد بلفور" (¬2). "فإمكانية وجود أنبياء وقادة بين اليهود على غرار العهد القديم، تبدو واضحة فيها، وكذلك تظهر الشخصية اليهودية والتراث اليهودي في أعلى مجدها وشاعريتها. كما أن هدف إنشاء جمهورية يهودية بحته مرسوم ليس فقط كإمكانية وإنما كواجب" (¬3). فالكاتبة جعلت من دانيال بطلاً صهيونياً يكتشف بنفسه قوميته وإرثه اليهودي، حيث يقول ديروندا بعد لقائه بموردخاى: "إن الفكرة التي تتمكن منى هي استعادة وجود سياسي لشعبي، جعلهم أمة أخرى، إعطائهم مركزاً قومياً، مثلما للإنجليز. إنها مهمة تتقدم إلىّ كواجب ... وأنا مصمم على تكريس حياتي لها، على الأقل قد أتمكن من إيقاظ حركة في العقول الأخرى مثلما أوقظت في عقلي" (¬4). أما اللورد (بايون) فقد اختصر قضية عودة اليهود إلى فلسطين والأفكار التي سيطرت على عقول الأدباء والمفكرين البروتستانت، في بيتين من الشعر، حيث قال في مؤلفه (الألحان العبرية): حتى الحمامة وجدت لها عش .. عرين لكل رجل .. ¬

(¬1) فلسطين، القضية * الشعب * الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 290. (¬2) الشخصية اليهودية في الأدب الإنجليزي ـ د. هاني الراهب ـ ص 53 (¬3) المصدر السابق ـ ص 71. (¬4) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 290.

السياسيون والبعث اليهودي

وصخره لكل أرنب .. ولليهود ـ قبر فقط" (¬1). السياسيون والبعث اليهودي بالإضافة إلى هذا الاهتمام بالبعث اليهودي من قبل رجال الدين والأدباء والذي كان مبني على أسس دينية، برز اهتمام آخر في القرن التاسع عشر الميلادي، اصطبغ بالصبغة السياسية، حيث أصبح الوجود اليهودي في فلسطين له أهمية سياسية بالنسبة لإنجلترا لكي تستطيع حماية مستعمراتها فيما وراء البحار، وأصبحت السلطتان الدينية والدنيوية تتاجران بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين. وهكذا تم خلال هذا القرن ربط الأفكار الدينية مع المتطلبات السياسية للإمبراطورية البريطانية، ومنذ ذلك الحين بدأ ما وصفه دافيد بولك "بالاتحاد العجيب بين السياسة الإمبراطورية ونوع من الصهيونية المسيحية الأبوية التي تتجلى في السياسة البريطانية فيما بعد" (¬2). فقد كانت سياسة بريطانيا تجاه فلسطين في هذا الوقت، تغذيها عدة عوامل أهمها: 1ـ محاولتها الحفاظ على ميزان القوى في أوروبا. 2ـ تأمين تجارتها مع الهند المهددة من فرنسا وروسيا. 3ـ الحد من طموحات محمد على في توسيع دولته. كما أن بريطانيا كانت مهتمة بالشرق الأوسط وبخاصة فلسطين لأهميتها الإستراتيجية للإمبراطورية البريطانية. ولذلك سعت لكي توجد لها موطئ قدم في هذه المنطقة الإستراتيجية، فكانت بحاجة إلى من تحميه في هذه المنطقة ليرعى مصالحها، وليكون ذريعة لتدخلها في المنطقة عندما تجد أن هذه المصالح في خطر. فقد كانت فرنسا تتمتع بنفوذ في المنطقة باعتبارها حامية المسيحيين الكاثوليك، وكانت روسيا قد حصلت على حق حماية مصالح الرعايا الأرثوذكس. لهذا سعت بريطانيا للتحالف مع الدولة العثمانية ودعمها لكبح جماح الأطماع التوسعية الروسية ¬

(¬1) مكان تحت الشمس - بنيامين نتنياهو - ترجمة محمد الدويري مراجعة كلثوم السعدي- ص75 - دار الجليل للنشر - ط2 1996 (¬2) إفلاس النظرية الصهيونية ـ نصر شمالي ـ ص 81 منشورات فلسطين المحتلة - ط1، 1981.

اللورد بالمستون

والفرنسية، وطموحات محمد على في بلاد الشام. وقد كانت بريطانيا تعتقد أن توطين اليهود في فلسطين هو الذي يمكن أن يحقق هذا الهدف. اللورد بالمستون عندما تولى اللورد بالمستون وزارة الخارجية في عام 1830م كان أهم نصير سياسي لمشروع اللورد شافتسبرى الخاص بإعادة اليهود إلى فلسطين، هذا بالرغم من أنه لم يكن بروتستانتياً مؤمناً ولم يكن من الرجال الذين تؤثر فيهم الأفكار الدينية. إلا أنه كان سياسياً محنكاً، حيث أدرك ما فعلته الأفكار البروتستانتية المتعلقة بعودة اليهود إلى أرض فلسطين، من آثار في الرأي العام البروتستانتي. ولذلك كانت خطوته الأولى افتتاح قنصلية بريطانية في القدس في عام 1838 م بناءً على إلحاح اللورد شافتسبرى، وقد كانت تعليمات بالمستون للقنصل الجديد تنص على أن من بين مهامه حماية كل اليهود المقيمين في فلسطين. وقد قام اللورد شافتسبرى بوداع القنصل الجديد حيث عبر في مذكراته الخاصة بالمناسبة، عن أمله بأن يأتي اليوم الذي ستحفر فيه فلسطين وتنقب، ويوم ذاك "تبرهن الأرض المقدسة على مصداقية التوراة وصحتها" (¬1). لقد كان بالمستون يرى أن استيطان اليهود في فلسطين سيحقق للمصالح البريطانية مكسبين: الأول: إرضاء الرأي العام البروتستانتي المتدين الذي يتشوق إلى إعادة اليهود إلى فلسطين، مما سيساهم في إيجاد مجموعة موالية لبريطانيا في منطقة ليس لها فيها من يواليها. الثاني: أن استيطان اليهود في فلسطين، وتدفق أموالهم إليها، سيدعم تركيا المنهارة والتي سعى بالمستون إلى تجديد شبابها لكي تستطيع الوقوف في وجه ¬

(¬1) فلسطين، القضية * الشعب * الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 302.

الأطماع الروسية والفرنسية من جهة، ومحاولات محمد على الاستيلاء على بلاد الشام من جهة أخرى (¬1). لهذا فقد حاول بالمستون استغلال النفوذ البريطاني لدى الباب العالي على أثر التدخل الإنجليزي الناجح ضد حملة إبراهيم باشا في بلاد الشام ـ هذا التدخل الذي أدى إلى فشل هذه الحملة ـ أراد بالمستون استغلال هذا النفوذ؛ لكي يحث السلطان على القيام بعمل ملموس لتوطين اليهود في فلسطين. ففي عام 1840م وجه بالمستون رسالة إلى السفير الإنجليزي في القسطنطينية قال فيها: "لا تتوانى عن متابعة نصحي للباب العالي بدعوة اليهود للعودة إلى فلسطين. إنك لا تدرى مدى ما سيثيره مثل هذا الإجراء من اهتمام المتدينين في هذا البلد بقضية السلطان. إن نفوذهم كبير واتصالاتهم واسعة، فضلاً عن ذلك، فإن هذا الإجراء في حد ذاته سيكون ذا فائدة كبيرة للسلطان، إذ سيجلب إلى ملكه عدداً كبيراً من الأثرياء الرأسماليين الذين سيوظفون الناس ويثرون الإمبراطورية" (¬2). وهكذا نرى أن بالمستون كان مدفوعاً لتوطين اليهود في فلسطين بدافع سياسي وبدافع ديني ـ لإرضاء الرأي العام المتدين، صاحب النفوذ. فبالمستون لم يكن بوسعه أن يهمل ضغوط الرأي العام البروتستانتي الذي يؤيد إقامة دولة يهودية في فلسطين. "ففي عام 1839م تلقى بالمستون مذكرة من هنرى اسن، سكرتير البحرية البريطانية، رفعها نيابة عن الكثيرين ممن ينتظرون تحرير إسرائيل. وكانت المذكرة موجهة إلى كل دول شمال أوروبا وأمريكيا البروتستانتية، وتطالب الحكام الأوربيين بأن يقتدوا بقورش وينفذوا إرادة الله عن طريق السماح لليهود بالعودة إلى فلسطين. وقد قام بالمستون برفع المذكرة إلى الملكة فكتوريا التي كانت معروفة بورعها" (¬3). ولم يكن بالمستون، الوحيد في وزارة الخارجية، المؤمن بأهمية توطين ¬

(¬1) التآمر البريطاني على التوجهات النهضوية والوحدوية العربية، قديمة جداً، ولكن العرب للأسف لا يتعلمون ... والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين .. ولكننا لدغنا من الأفعى البريطانية عشرات المرات ولا زلنا .. فهل نؤمن .. !!؟ (¬2) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 124 (¬3) المصدر السابق ـ ص 121.

القس وليام هشلر

اليهود في فلسطين من الناحيتين السياسية والدينية، بل إن هناك الكثيرين غيره كانوا يوافقونه وجهة النظر هذه، أمثال إدوارد متفورد ولورانس اوليفرنت وغيرهما. القس وليام هشلر كان القس هشلر، الذي كان يعمل ملحقاً في السفارة البريطانية في فينا، من أكثر المتحمسين لفكرة إعادة اليهود إلى فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر. "فقد قام في عام 1882 بعقد مؤتمر مسيحي في لندن، دعا إليه كبار المسيحيين للنظر في توطين اليهود المهاجرين من رومانيا وروسيا في فلسطين" (¬1). وقد زار هشلر فلسطين أكثر من مرة وألف في عام 1894م كتاباً بعنوان (إعادة اليهود إلى فلسطين حسب نبوءات الأنبياء) حيث توصل فيه من خلال بعض الحسابات إلى أن اليهود سيعادون إلى فلسطين في عام 1897ـ 1898 م. كما أن القس هشلر نشر مقالاً في العدد الأول من صحيفة (دى فلت) اليهودية، أختتمه بقوله: "أفيقوا يا أبناء إبراهيم، فالله ذاته الأب السماوي، يدعوكم إلى الرجوع إلى وطنكم القديم" (¬2). وأثناء عمل هشلر في السفارة البريطانية في فينا، قدم له أحد أصدقائه كتاب (الدولة اليهودية لهرتزل) فلم يكد هشلر يفرغ من قراءة الكتاب حتى هرع إلى سفير بلاده قائلاً: "إن الحركة التي قدرها الله من قبل قد جاءت" (¬3) - يقصد الحركة الصهيونيةـ وبعد قراءته الكتاب طلب عقد لقاء مع هرتزل، حيث استطاع هرتزل بفضل هذا اللقاء، مقابلة قيصر ألمانيا، والذي كان يأمل منه أن يستغل نفوذه لدى الباب العالي ليقنعه بتوطين اليهود في فلسطين، ولكن هذا المسعى لم ينجح بسبب رفض السلطان عبد الحميد لذلك. ¬

(¬1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 301 (¬2) الاستعمار وفلسطين ـ اسرائيل مشروع استعماري ـ رفيق النتشة ـ ص 169 - - د. ن, 1986 (¬3) تيودور هرتزل عراب الحركة الصهيونية ـ ص 49

الفصل الثالث ظهور الحركة الصهيونية

الفصل الثالث ظهور الحركة الصهيونية بالرغم من أن الكتابات والدراسات المتعلقة بالحركة الصهيونية احتلت حيزاً كبيراً في الأدبيات العربية خلال القرن الحالي، إلا أنها في أغلبها لم تستطع وضع هذه الحركة في حجمها الطبيعي، وبيان دورها الحقيقي في قيام إسرائيل، حيث يعزو معظم الكتاب والمحللين ـ المهتمين بالقضية الفلسطينية ـ للحركة الصهيونية، القيام بالدور الرئيس في إقامة دولة إسرائيل، ويضفون على زعماء هذه الحركة هالة من العبقرية والدهاء والقدرة على المناورة واستغلال الفرص، واستعمال وسائل الضغط المختلفة على الحكومات وصانعي القرار، من خلال ما يقال عن سيطرة اليهود واللوبي الصهيوني على وسائل الإعلام والاقتصاد العالمي. واعتقد ان ما عرضنا له في السابق يكشف ولو جزئياً زيف هذه الدعاوى ويكشف ان دور الحركة الصهيونية وزعمائها لم يكن في أحسن الأحوال إلا كصدى للأفكار التي انتشرت بين المسيحيين البروتستانت. ولذلك فإنه ليس من المغالاة في شيء القول "بأن الصهيونية غير اليهودية، كانت قد انتشرت في أوروبا، ووصلت فكراً وتخطيطاً إلى أعلى مراحل الصهيونية ـ أي مشروع الدولة ـ بينما كان اليهود أنفسهم، سواء في أوروبا الغربية أو أوروبا الشرقية، لا يزالون خارج النشاطات الصهيونية، وفي الكثير من الأحيان كانوا يقفون ضدها، كان بعضهم لا يستوعبها عقلياً، وبعضهم يرفضها دينياً أو نفسياً، وبعضهم لم يسمع بها بعد. ويمكن القول، بصورة عامة، إن اليهود كانوا آخر من اكتشف الصهيونية في أوروبا" (¬1). ويؤكد هذه الحقيقة رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) بقوله: "كان التأييد للفكرة الصهيونية، منذ البداية بين من هم غير يهود، اكبر بكثير منه في الأوساط اليهودية" (¬2). وقد لاحظنا من خلال العرض السابق كيف أن المسيحيين البروتستانت بدؤوا يطالبون بإعادة اليهود إلى فلسطين منذ القرن ¬

(¬1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 285 (¬2) مكان تحت الشمس - بنيامين نتنياهو ص72

السادس عشر الميلادي، ولم يتركوا وسيلة لتحقيق ذلك، من خلال عقد اللقاءات وطرح المشاريع على رجال الدولة، والقيام برحلات استكشافية لدراسة فلسطين وتهيئتها لعودة اليهود إليها، هذا في حين كان اليهود آخر من يفكر في هذا الأمر. "ويعود السبب في إحجام اليهود عن المشاركة والتجاوب مع هذه الدعوات إلى فقره تلموذية شهيره في الجزء المسمى "كيتوبوت" ص111 والتى تتردد في اجزاء اخرى من التلمود، حيث يقول الله انه فرض على اليهود ثلاثة مواثيق: اثنان منهما يتعارضان بوضوح مع المعتقدات الصهيونية وهما: 1 - يجب على اليهود الا يتمردوا على غير اليهود. 2 - يجب الا يقوم اليهود بالهجرة إلى فلسطين قبل مجئ المسيح. 3 - والميثاق الثالث يفرض على اليهود عدم الصلاة بقوة طلباً لقدوم المسيح، حتى لا يأتي قبل موعده المحدد. وقد قامت الغلبية العظمى من اهم حاحامات اليهودية التقليدية بتفسير المواثيق الثلاثة وواصلت اعتبار وجود اليهود في المنفى التزاماً دينياً للتكفير عن الآثام اليهودية التى جعلت الله يقوم بنفيهم" (¬1). فاليهود المتدينون يبنون آمال المستقبل من العبرة بالماضي. "فهم يفسرون التوراة، بان الإسرائيليين القدماء أضاعوا الأرض المقدسة بسبب ارتكابهم المعاصي ضد الآخرين، وبسبب تخليهم عن إلههم الواحد من أجل آلهة أخرى. واليهودية في جوهرها دين ميثاق وعهد وان اختلف هذا العهد من جيل إلى جيل، فهو دائماً يبقى عقداً بين الشعب والله. فالله وعدهم بالأرض، وبأن يعيشوا فيها عيشة ازدهار، لكن في مقابل ذلك، على اليهود من جانبهم أن يقوموا بتنفيذ الشروط الخلقية والمبدئية للعهد، كما يشرحها أنبياء الله في كل عصر. فالله وحده إذاً هو الذي يحكم على سلوك أبناءه اليهود، وهو وحده الذي يرى ـ في مرحلة ما ـ أنهم قد وصلوا إلى حد ¬

(¬1) الاصولية اليهودية في اسرائيل- تأليف اسرائيل شاحاك - نورتون متسفينسكي - ترجمة ناصر عفيفي - ص51.

المثالية الخلقية، مما يستدعى تصحيح العهد، فيرسل لهم مسيحاً ليخلصهم من الشتات، ويعيدهم إلى الأرض المقدسة" (¬1). وعقيدة المسيح المنتظر أو (النزعة المسيحانية) (¬2) لدى اليهود بدأت بالتكوين منذ بداية زوال (دولة) اليهود التي كانت قائمه في فلسطين، أي منذ هدم الهيكل الثاني ثم الهزيمة الكبرى التي لحقت باليهود في باركوخبا عام 132م. فمنذ ذلك الحين، فيما يروى مؤرخو اليهود ظهر الاعتقاد بمجيء (المسيح) الذي سوف يخلص بني إسرائيل من المنفى، ويعيد إليهم مجدهم التليد. "حيث اتخذ هذا الأمل المسيحاني شكل أمل مزدوج: أمل مزدوج في العودة إلى العصر الذهبي لليهود، وأمل في قيام عالم أفضل، مختلف كل الاختلاف عن عالمنا، وهذا الخلاص المسيحاني لن يحدث إلا عند نهاية الزمن. والتعجيل بمعجزة مجيء العصر المسيحاني لا يمكن أن يأتي إلا من الله، وما على الإنسان إلا أن يصلي لله ويحسن عمله أملا في ألا يتأخر الخلاص وكل محاولة للعودة إلى أرض إسرائيل قبل ظهور الإشارات الإلهية، كفر وهرطقة وثورة ضد الإله وعودة اليهود إلى أرض آبائهم شأن من اختصاص الإله وحده، ولا تتم بقرار من بنى البشر" (¬3). كانت هذه هي النظرة التي حكمت تفكير اليهود منذ تدمير الهيكل للمرة الثانية وحتى بداية القرن التاسع عشر، حيث التزموا بهذه الرؤية الدينية طوال هذه الفترة، ولم يبذلوا أي جهد في سبيل العودة إلى فلسطين، وظلوا ينتظرون المسيح المنتظر لكي يخلصهم ويعيدهم إلى فلسطين بمعجزه إلهية، "حيث ملأت قصص المسيح المنتظر كثير من الثرات اليهودي القديم والحديث وكثيراً ما كانت سبباً في نزول بلايا ورزايا كثيرة باليهود في ادوار مختلفة ولا تزال هذه العقيدة إلى اليوم راسخة في نفوس الطبقات المتدينة من اليهود. واذا قام شخص وادعى انه المسيح المنتظر ¬

(¬1) فلسطين، القضية، الشعب، الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ص 327 (¬2) يشير الفكر المشيحاني إلى أن هناك شخصا مرسلا من الآلهة يتمتع بقداسة خاصة، إنسان سماوي، وكائن معجز خلقته الآلهة قبل الدهور، يبقى في السماء حتى تحين ساعة إرساله، وهو نقطة الحلول الإلهي المكثف الكامل في إنسان فرد، وسيأتي ليعدل مسار التاريخ اليهودي؛ بل والبشرى فينهي عذاب اليهود ويأتيهم بالخلاص. راجع دفاع عن الإنسان ـ د. عبد الوهاب المسيري (¬3) صراع اليهودية مع القومية الصهيونية - د. عبد الله عبد الدائم - ص 25 - دار الطليعة, 2000

الذي يحنون اليه منذ ازمان طويلة انكروا ادعاءه وسفهوا قوله ورفضوا الاذغان لما يدعوهم اليه. وكأن الامة اليهودية كانت ترمي لهذه الفكرة إلى غاية معنوية لا يريدون تحقيقها بوجه من الوجوه" (¬1). لقد كانت تظهر بين الفترة والأخرى دعوات من بعض اليهود الذين يدعون أنهم المسيح المنتظر، فيلتف حولهم اليهود ويعقدوا عليهم الآمال ولكن سرعان ما يتضح كذب دعواتهم فتنهى هذه الدعوات بمقتل صاحبها أو تراجعه عن دعوته. "ففي عام 640 م ادعى يهودي من بيت ارامايا من قرية الفلوجة بالعراق، انه المسيح المنتظر، وقد تجمع حوله حوالي 400 شخصاً من مختلف المهن وحرقوا ثلاث كنائس، وقتلوا عمدة المنطقة، ولما بلغ خبر هذا المسيح وأعوانه السلطة أرسلت ثلة من الجيش أعملت فيهم بطشاً وتقتيلاً وقبض على المسيح المنتظر وأعدم" (¬2). ومن أولئك الأدعياء في الشرق الإسلامي خلال القرون الوسطى، دجال ظهر في الشام في آخر خلافة عمر بن عبد العزيز، وآخر من بلدة شرين ادعى انه سيحقق معجزة استعادة فلسطين. وظهر يهودي آخر من بلدة أصفهان يدعى عبيد الله أبو عيسى الأصفهاني، ابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بنى أميه 744م، وقال: "إن عودة فلسطين لن تتم إلا بالقتال، واعد جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل من اليهود، وقد عاشت حركته فترة من الزمن في عهد أبو العباس السفاح، إلا أن الخليفة المنصور قضى على هذه الحركة وهزم جيش اليهود وفر أبو عيسى باتجاه الشمال" (¬3). وفي حوالي 1160 م وفي عهد خلافة المقتفى لأمر الله العباسي حدثت فتنه كان سببها يهودي يدعى داود الروحي، كان قد ادعى أنه المسيح المنتظر. "وداود هذا نشأ في سواد الموصل ثم انتقل إلى بغداد حيث تفقه في علوم اليهود في مدارسهم الكبرى. وقد اختار بلدة العمادية شمال العراق ليعلن نبوأته فيها، إذ كان ينوى الاستيلاء على قلعتها الشهيرة بالقوة فبلغ خبر ذلك صاحب العمادية فقتله" (¬4). ¬

(¬1) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - د. اسرائيل ولفنستون -ص 122 (¬2) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة - ص407 (¬3) اليهودية - د. احمد شلبي - ص214 (¬4) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة ص407

اما في العصر الحديث فقد ظهرت النزعة المشيحانية بين الجماعات اليهودية مع تطور المجتمعات الغربية وظهور النظام المصرفي الحديث والدولة القومية المركزية، "حيث فقدت كثير من الجماعات اليهودية الوظيفية وظائفها كتجار ومرابين، وتزايد بؤس أفراد هذه الجماعات وفقرهم، وعدم استطاعتهم التكيف مع التطور الذي شهدته أوروبا في عصر النهضة. وبالتالي زادت هامشيتهم وزاد الاضطهاد الواقع عليهم، ومن ثم ففي أوقات البؤس والضيق كانت الجماهير اليهودية تتذكر دائما الرسول الذي سيبعثه إله الطبيعة والتاريخ ليصلح أحوالهم" (¬1). وقد ظهرت آخر هذه الدعوات الميشيحانية في عام 1648م عندما ظهر شاب يهوى يدعى (سبتاى زيفى) من أزمير بتركيا لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين، حيث أعلن أنه المسيح المنتظر. وما أن أعلن دعوته حتى تبعه عدد كبير من اليهود المتحمسين، واستمر في نشر دعوته في الأوساط الدينية اليهودية في العالم، فصار له أعوان كثيرون. "وفي سنة 1666م غادر أزمير مع جمهور من أعوانه متجها نحو اسطنبول لممارسة سلطته كملك، ولكن الباخرة التي كانت تقله مع أعوانه داهمتها عاصفة شديدة اضطرها إلى اللجوء إلى مضايق الدردنيل، ومن هناك سيق مكبلاً بالحديد إلى اسطنبول، فسجن، إلا أن سجنه زاد من الإقبال علي دعوته، فأمر السلطان محمد الرابع بنقله إلى سجن أدرنه، وأقنعه بالعدول عن دعوته بعد أن تحداه أن يمنع طلقات الرصاص من اختراق جسده، فما كان من (سبتاى زيفى) إلا أن ادعى الإسلام وغير اسمه إلى (محمد أفندي) " (¬2). وتعد حركة شبتاي تسفي "أهم الحركات المشيحانية التي هزت اليهودية الحاخامية من جذورها حتى لم تقم لها قائمة بعد ذلك، وهو ما مهد الطريق لظهور الحركة الصهيونية التي ترفض القيود الدينية وترفض الأوامر والنواهي وتعلي الذات القومية" (¬3). هكذا كان حال اليهود طوال تاريخهم الطويل حائرين بين الدعوات الميشحانية وبين قيود حاخاماتهم التى تمنعهم من العوده إلى فلسطين بدون انتظار المسيح ¬

(¬1) دفاع عن الإنسان ـ د. عبد الوهاب المسيري ـ عرض/ نشوة نشأت - الجزيرة نت (¬2) مقارنة الأديان ـ د. أحمد شلبي ص 223 (¬3) دفاع عن الإنسان ـ د. عبد الوهاب المسيري ـ عرض/ نشوة نشأت - الجزيرة نت

المنتظر. ففي القرن الثالث عشر قام الحاخام اليعازر بن موشيه الزعيم الروحى للتجمع اليهودي في المانيا بتحذير اليهود الذين يهاجرون بكثافه إلى فلسطين من ان الله سيعاقبهم بالموت. وفي نفس الوقت تقريباً قام الحاخام عيزرا في اسبانيا بكتابة ان اليهودي الذي يهاجر إلى فلسطين انما يهجر الله الذي يوجد فقط في الشتات، حيث يعيش اغلب اليهود وليس في فلسطين. وفي منتصف القرن الثامن عشر كتب الحاخام الالماني الشهير يوناثان ايبشوتز "ان الهجرة المكثفة إلى فلسطين حتى مع موافقة كل دول العالم هي امر محظور قبل مجئ المسيح" (¬1). وبناء على هذه الصهيونية المسيائية المتدينة (إن جاز التعبير)، لا يوجد سبب على الأرض ـ مهما تكن أهميته ـ يستدعى العودة إلى صهيون، إلا أن يكون السبب هو الأمر الإلهي. فالعودة مرتبطة بسلطة الله التي لا تناقش. ولذلك فالصهاينة المتدينون يتهمون، كل من نادى بالعودة إلى فلسطين بدون انتظار عودة المسيح المنتظر، بالهرطقة، أي الكفر. ومن هنا تختلف هذه الصهيونية الدينية، عن الصهيونية السياسية التي قرر رجالها في مؤتمر بازل سنة 1897م العودة إلى الأرض المقدسة، ولم ينتظروا المعجزة الإلهية. "فالصهاينة المتدينون لا يرون في إي مؤتمر سياسي طريقاً للعودة، وهم، أكثر من ذلك ـ لا يرون حتى في عذاب الهولوكوست ومعسكرات النازية سببا للعودة. فالعودة إن لم تقترن بالإرادة الإلهية ـ بقدوم المسيح الجديد ـ هي عودة باطلة (¬2). ولقد رأينا كيف أن اليهود أنفسهم أحجموا عن المشاركة في تأييد أو دعم دعوات المتدينين البروتستانت لهم من أجل العودة إلى أرض فلسطين، حيث كانت هذه المشكلة من أشد الصعاب التي واجهها الصهاينة غير اليهود (البروتستانت). ولكن مع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، ولأسباب كثيرة أهمها، تنامي التيار المسيحي البروتستنتي الداعم لأماني اليهود بالعودة إلى فلسطين، بالإضافة إلى ازدياد اضطهاد اليهود في أوروبا، ظهر عدد من المفكرين اليهود الذين نشروا العديد ¬

(¬1) الاصولية اليهودية في اسرائيل- تأليف اسرائيل شاحاك - نورتون متسفينسكي - ص 52 ترجمة ناصر عفيفي. (¬2) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 327

1ـ يهودا الكعى (1798ـ1878م)

من الكتابات التي هاجمت الأفكار التقليدية، التي ترى بأن الخلاص لن يتم إلا من خلال معجزة إلهية على يد المسيح المخلص، حيث نادى هؤلاء المفكرون بضرورة تحرك اليهود من اجل تحقيق حلم العودة إلى ارض فلسطين من خلال العمل واستغلال كافة العوامل التي تخدمهم في هذا المجال. وبذلك كان هؤلاء المفكرون من أمثال الكعى وكاليشتر وغيرهم، هم الدعاة الأوائل الذين مهدوا الطريق أمام ظهور الحركة الصهيونية على يد هرتسل. لهذا فإن الكثيرون يعتبرون أن الحركة الصهيونية المتعارف عليها الآن، وكما دعا هيرسل إليها في مؤتمر بازل سنة 1897م، "هي الوارث الشرعي لعدد من النداءات والدعوات الفكرية التي ابتدأت تظهر في أواخر الثلاثينات من القرن التاسع عشر الميلادي، لكنها لم تجد تجاوباً ـ ولو محدوداً ـ إلا مع بداية الستينات وهذا فضلا عن أن بعض النداءات والمؤلفات لم تكن لتجد الحد الأدنى من الانتشار والشهرة ـ حتى بين اليهود أنفسهم. ومع ذلك، فإنها في مجموعها مقدمة مهمة لمعرفة الصهيونية، فكراً وحركة سياسية يهودية" (¬1). ففي ستينيات القرن التاسع عشر، أضحى العامل المشترك لدى الرواد الأوائل، أمثال الكعى، وكاليشر وهس، اعتقادهم أن مستقبل الشعب اليهودي مشروط بعودته إلى وطنه التاريخي، وطالبوا بالعمل لتحقيق ذلك بدون انتظار عودة المسيح المخلص. 1ـ يهودا الكعى (1798ـ1878م) كان يهودا الكعى غارقاً مثله مثل باقي اليهود، في الغيبيات الدينية، لما انتشرت في البلقان إشاعة تقول أن سنة 1840م ستكون سنة الخلاص. حيث تعلق معظم اليهود وخصوصاً المتدينين منهم بهذه الشائعة ـ النبوة. "وقبل موعد الخلاص بعام، إي في سنة 1839 م، نشر الكعى كتاباً في تعليم اللغة العبرية، دعا فيه اليهود إلى الاستغراق في الصلاة تمهيداً لتحقيق النبوءة المسيائية، ثم اتبعه بكتاب ثان سنة 1840م سماه (شلوم يروشالايم) حث فيه اليهود على دفع عشر مدخولاتهم ¬

(¬1) الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني - الأب مايكل برير - ترجمة احمد الجمل و زياد منى - ص 161 - دار قدمس للنشر والتوزيع - ط3 2004

2ـ تسفى هيرش كاليشر (1795ـ1874م)

لمساعدة يهود القدس، ولكن لما فشلت النبوة بعدم ظهور المسيح المخلص، ولما وقعت حادثة دمشق الشهيرة في السنة نفسها، أي سنة 1840م وهى الحادثة التي اتهم فيها اليهود بقتل المسيحيين واستنزاف دمهم ـ تخلى الكعى عن الغيبيات الدينية وسيلة وحيدة لخلاص اليهود، وبات يدعو إلى درب عملي، خصوصاً بعد رؤيته أهمية تدخل القناصل والدول الأجنبية لوقف محاكمة اليهود في دمشق" (¬1). لهذا كرس يهودا الكعى ما تبقى من حياته داعياً إلى تخليص اليهود وعودتهم، بالصلاة والعمل. "وقد نشر منذ سنة 1843م سلسلة من الكتيبات والمقالات ركز فيها على أهمية الطلب من شعوب العالم كي تسمح لليهود بالعودة إلى وطنهم، كما طالب اليهود بدفع العشر من اجل العودة، حيث ربط بين الخلاص اليهودي وابتياع الأرض المقدسة (أي فلسطين) من أصحابها غير اليهود" (¬2). 2ـ تسفى هيرش كاليشر (1795ـ1874م) كتب هيرش في عام 1837 يقول: "ان الله امر اليهود بالا يقوموا ابداً بانشاء دولتهم بانفسهم ومن خلال جهودهم. وفي نفس العام الذي حظر فيه هيرش على اليهود اعلان دولة يهودية، حدث زلزال في شمال فلسطين قتل الغالبية العظمى من سكان مدينة صفد والذين كان الكثير منهم من اليهود، وكانوا هاجروا حديثاً إلى فلسطين. وقد ارجع الخاخام البولندي الشهير موشيه تيتلباوم هذا الزلزال إلى عدم رضا الله عن الهجرة اليهودية الزائدة إلى فلسطين وقال تيتلباوم: ليست مشيئة الله ان نذهب إلى ارض اسرائيل عن طريق جهودنا ومشيئتنا (¬3). ولكن هيرش كاليشر منذ 1842م غير آراءه تماماً واعلن أن استرداد صهيون يجب أن يبدأ بالعمل عليه من جانب اليهود أولا، أما المعجزة الميسائية، بقدوم المسيح المنتظر، فتتبع ذلك. لهذا دعا الحاخام كاليشر اليهود للاعتماد على أنفسهم ¬

(¬1) فلسطين، القضية، الشعب، الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـص 313 (¬2) الأرض في الفكر الاجتماعي الصهيوني - كمال الخالدي ص8 - الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين - ط1 1984 (¬3) الاصولية اليهودية في اسرائيل- تأليف اسرائيل شاحاك - نورتون متسفينسكي - ص 53 ترجمة ناصر عفيفي.

لان خلاص بنى إسرائيل لا يمكن تصور حدوثه بواسطة معجزة "فالرب لن ينزل لقيادة شعبه، وهو لن يرسل المسيح من السماء لينفخ النفير ويجمع اليهود المشتتين للتوجه إلى أورشليم" (¬1) ... "فالناس البلهاء فقط، يمكن أن يصدقوا هراء كهذا. أما العقلاء فيعرفون أن الخلاص لا يكون إلا بالتدريج، وهو فوق كل شيء لن يكون إلا نتيجة جهود اليهود أنفسهم. وإذا كانت القدرة الإلهية ستقوم بمعجزة، فأي مغفل لا يكون مستعداً، عندئذ، للذهاب إلى فلسطين؟ إما أن يتخلى المرء عن بيته وماله من أجل المسيح المنتظر، فذاك هو الامتحان الحقيقي، وذاك هو التحدي" (¬2). تم نشر كاليشر أفكاره سنة 1843م في كتاب من جزأين بعنوان (عقيدة صادقة) ثم أكمل تصوره في مجلد أخير نشره سنة 1862م بعنوان (البحث عن صهيون) وهو أكثر كتبه شهرة. ومن أهم الأفكار التي جاء بها كاليشر: "إن خلاص اليهود كما تنبأ الأنبياء به، يمكن أن يتم بوسائل طبيعية، أي بمجهود اليهود أنفسهم، من دون أن يتطلب ذلك مجيء المسيح، وإن الاستيطان في فلسطين يجب أن يتم من دون تأخير. ولهذا فإن كاليشر دعا اليهود إلى الاستيطان في فلسطين، حيث قال: "إن الخلاص يحتاج إلى النشاط الاستيطاني وإلى الاستعمار العملي في فلسطين بدلاً من المعجزة الإلهية" (¬3). ونتيجة لهذه الآراء اتهم كاليشر بالهرطقة وقوبلت آراؤه، كما قوبلت آراء الكعى المماثلة، بعدم التجاوب من قبل اليهود، إن لم يكن بالبرود، وذلك بسبب دعوتهما إلى الإسراع في النهاية، وعدم انتظار المعجزة الإلهية، مما جعل اليهودية الأرثوذكسية تناصبهما العداء. كما أن (ليون بنسكر) ـ أحد قادة الحركة الصهيونية ـ "كان على غرار كاليشر وهس، يرفض الاعتماد على الإيمان الغيبي بالمسيح المنتظر، و وضع اللوم على الإيمان الغيبي بجعل اليهود يتخلفون عن الاهتمام ¬

(¬1) أزمة الفكر الصهيوني ـ د. محمد ربيع ص23. (¬2) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 314 (¬3) الأرض في الفكر الاجتماعي الصهيوني - كمال الخالدي ص8

هرتسل ومؤتمر بازل

بحريتهم القومية ووحدتهم واستقلالهم، مما جعلهم يغرقون إلى الأسفل، فالأسفل" (¬1). هرتسل ومؤتمر بازل مع انتشار كتابات وأفكار المفكرين اليهود، أمثال الكعى وكالشر وهس وبنسكر وغيرهم بين اليهود في دول أوروبا، أصبح الجو مهيئاً لتوحيد جهود المؤمنين بهذا النهج الجديد من خلال حركة يهودية عامة، تزعمها هيرسل مؤسس الحركة الصهيونية، الذي اخذ ينشر أفكاره بين اليهود وغيرهم من المسيحيين البروتستانت، حيث من الملاحظ أن الحركة الصهيونية في مبدأ أمرها لم تلقَ قبولاً واسعاً بين اليهود، في حين أثارت حماساً شارف الهوس بين المؤمنين المسيحيين المتحمسين لتوفير متطلبات المجيء الثاني. وبالمقابل، كانت أقوى معارضة للصهيونية من جانب المتدينين اليهود من الأرثوذكس (المتمسكين بحرفية العقيدة)، واليهود الشرقيين، وبعض الحاخامات، واليهود الإصلاحيين. وقد ظل موقف اليهود المتدينين من الحركة الصهيونية متمسكاً بالشك وعدم الاطمئنان، في أفضل حالاته، وبالرفض الصريح والمناوأة في اشد تلك الحالات، كما في هذه الكلام للحبر المتدين صدوق من لوبلين الذي قال: "أن أورشليم ارفع الذرى التي تتطلع إليها قلوب اليهود .. لكنى أخشى أن يبدو رحيلي وصعودي إلى أورشليم كما لو كانا علامة على تحبيدى للنشاط الصهيوني. وأنى لاتضرع إلى الرب، وان روحي لتتلهف إلى كلمته، وأني لأتمنى من كل روحي أن يكون يوم الفداء آت. وأنى لانتظر بكل يقظة وقع أقدام مسيحه الذي وعدنا به. لكنى، حتى وان عذبت بثلاثمائة قضيب محمى بالنار، لن أتحرك من مكاني، ولن اصعد إلى أورشليم لصالح الصهيونيين. ولقد بلغ إيمان اليهود الأرثوذكس بشيطانية الحركة الصهيونية أن الحاخام يوسف حاييم أعلن بملء (الفم)، عندما زار تيودور هرتزل فلسطين، أن "الشر قد دخل الأرض المقدسة معه" وقال: "إننا لا نعرف حتى الآن ما الذي يمكننا أن ¬

(¬1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 323

نفعله دفاعاً عن أنفسنا في مواجهة هؤلاء الصهيونيين الذين يريدون تدمير كل إسرائيل، فليرحمنا الله" (¬1). وأهم ما يعنينا في المذهب الأرثوذكسي "أنه كان يدافع عن بقاء الشتات اليهودي حيث هو، ويرفض أي استعجال (مسيحاني) وأي عودة بالتالي إلى أرض فلسطين قبل أن تظهر العلائم الإلهية لظهور المسيح. ومن هنا كان ضد أي محاولة بشريه للتعجيل بنهاية العالم، وضد الصهيونية بشكل حاد وقاطع" (¬2). وليس أدل على هذه المعارضة للحركة الصهيونية من جانب اليهود هو أنه عندما بدأ التحضير الجدي لعقد أول مؤتمر صهيوني مع مطلع سنة 1897م، كان مقرراً عقده في ميونخ، ولكن لما أرسلت الدعوات الرسمية، غضب اليهود الغربيون وأعلنوا سخطهم على المؤتمر واعتبرته الصحافة الألمانية اليهودية خيانة، كما أعلنت رابطة رجال الدين اليهود في ألمانيا أن هذا المؤتمر يناقض الدعوة الميسائية، ولذا رفضته بشده، "وقد أدت هذه الحملة إلى نقل مكان المؤتمر إلى بازل بسويسرا، حيث افتتح المؤتمر يوم الأحد 29 أغسطس 1897م في صالة الاحتفالات التابعة لكازينو بلدية بازل، وأصدر المؤتمر قرارات تعرف الآن باسم (برنامج بازل) الذي أصبح الوثيقة النظرية والعملية لأهداف الصهيونية" (¬3)، حيث أعلنت الحركة الصهيونية عن برنامجها السياسي الذي يهدف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في أرض فلسطين. وإذا كان لنا أن نقيم إنجازات المؤتمر الصهيوني الأول، فإنه يمكن القول إن أهم إنجاز له على الإطلاق، تمثل في انعقاد المؤتمر ذاته، أي التقاء الزعماء اليهود واتفاقهم على نهج جديد في التعامل مع المسألة اليهودية. وقد تمثل هذا النهج في رفض تصور اليهود التقليدي حول المسيح المنتظر، والبدء في البحث عن طرق عملية من أجل تحقيق الحلم القديم للشعب اليهودي، بحيث تكون هذا الطرق متكيفة وملائمة مع عوامل الزمن الملائمة لحركتها، وهنا نود أن نؤكد على أن هذا ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص159 (¬2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - أحمد حجازي السقا ص36 (¬3) البروتوكولات واليهودية والصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري ـص74 - دار الشروق- ط 1/ 2003

الأمر لا ينفي الطابع الديني عن هذه الحركة، والذي يحاول كثير من المثقفين العرب إقناعنا والبرهنة عليه من خلال التفرقة بين الصهيونية واليهودية بتأويلات وتفسيرات مختلفة. فهذا هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية - والذي يقول عنه الكثيرون أنه لاديني وعلماني- كان ينظر لنفسه على أنه المسيح المنتظر حيث ادعى انه رأى المسيا في حلم وأنه أي المسيا كان يصلى من أجله، يقول هرتزل: "ظهر لي المسيا الملك على صورة شيخ مسن في عظمته وجلاله فطوقني بذراعيه، وحملني بعيدا على أجنحة الريح والتقينا على واحد من تلك الغيوم القزحيه بصورة موسى، كانت ملامحه هي تلك الملامح التي عرفتها في حداثتي لدى تمثال (ميكل انجلو) والتفت المسيا إلى موسى مخاطبا إياه بقوله: من أجل هذا الصبي كنت اصلي. لكنه خاطبني قائلا: اذهب وأعلن لليهود بأني سوف آتى عما قريب لاجترح المعجزات العظيمة وأسدي عظائم الأعمال لشعبي وللعالم كله" (¬1). اما بن غوريون فيقول: "إن ما ضمن بقاء الشعب اليهودي على مر الأجيال وأدى إلى خلق الدولة، هو تلك الرؤيا المسيانيه لدى أنبياء إسرائيل رؤيا خلاص الشعب اليهودي والإنسانية جمعاء. أن دولة إسرائيل هي أداة لتحقيق هذه الرؤيا المسيانيه" (¬2). "فالصهيونية هي في الأساس حركة يهودية ذات منطلقات دينية أصيله، ولكنها تختلف عن اليهودية التقليدية التي كانت سائدة قبل ذلك، هو في تبنيها طريق جديد لتحقيق الحلم اليهودي من خلال رفضها للتصور التقليدي بضرورة انتظار عودة المسيح المنتظر، وضرورة العمل لتهيئة الظروف للتمهيد لهذه العودة وتحقيق الحلم الصهيوني" (¬3). فقد كانت الصهيونية سواء بالنسبة لليهود أو المسيحيين بمثابة تحقيق لنبوءة قديمة: "ويحمل معجزة للغرباء، ويجمع إسرائيل الشتات، ¬

(¬1) التلمود والصهيونية ـ اسعد رزوق ص236 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 1973 (¬2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 24 (¬3) هناك شبه كبير بين الفكره الصهيونية وفكرة ولاية الفقيه التى نادى بها الامام الخمينى، حيث ان كلاهما رفضتا التفسير التقليدى لانتظار المسيح المنتظر عند اليهود، والمهدي المنتظر عند الشيعه. واتخذتا خطوات إلى الامام كان الفكر التقليدى يعتقد بانهما من مهام المسيح المنتظر أو المهدي المنتظر.

اللجنة الملكية لهجرة الغرباء

ويجتمع اليهود من كافة أقطار الأرض" هكذا قال يشعياه. كما تنبأ حزقيال: "وخلصتكم من الغرباء وجمعتكم من كل الأقطار، أحضركم إلى أرضكم" (¬1). وربما يرفض البعض تحليلنا السابق الذي يحصر أهمية قيام الحركة الصهيونية في مجرد أنها رفضت التصور التقليدي الغيبي الذي كان سائداً قبل ذلك، وإتباع منهج جديد لتحقيق الحلم الصهيوني، ويعتبرون في ذلك انتقاصاً للدور الكبير الذي لعبته الحركة في قيام إسرائيل. وكان من الممكن أن يكون هذا الرفض في محله لو أن هذه الحركة عملت لتحقيق قيام إسرائيل بمفردها، أو أنها كانت أول من تبنى هذه الفكرة، ولكننا لاحظنا من خلال العرض السابق كيف أن التفكير بإعادة اليهود إلى فلسطين بدأ قبل ظهور الحركة الصهيونية بثلاثة قرون على أيدي إتباع المذهب البروتستانتي، الذين لم يتركوا مناسبة إلا استغلوها من أجل تحقيق هذه العودة، كما أنهم قاموا بدراسة فلسطين والبحث فيها من أجل إعدادها وتهيئتها لسكانها الجدد، الذين لم يطلب منهم سوا التجاوب مع هذه الجهود وعدم رفضها. وقد جاء هذا التجاوب من قبل الحركة الصهيونية، التي وجدت كافة الأمور ممهدة أمامها، ولم يكن مطلوب منها سوى تبنى هذه الدعوة نيابة عن اليهود في كل مكان، والعمل على استغلال كافة العوامل الدينية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، بالإضافة إلى المتغيرات الدولية لصالحها، من أجل إقناع الحكومة البريطانية وأمريكيا بضرورة توطين اليهود على أرض فلسطين. ومن هنا بدأ الزعماء الصهاينة يتحركون نحو الحكومة البريطانية لمساعدتهم في ذلك. اللجنة الملكية لهجرة الغرباء بالإضافة إلى العامل الديني والمكاسب السياسية التي ستجنيها بريطانيا من خلال توطين اليهود في فلسطين، برز عامل آخر مهم، وهو هجرة اليهود من دول أوروبا الشرقية إلى دول أوروبا الغربية وأمريكيا فراراً من الاضطهاد. فقد كانت هذه الهجرة تقلق تلك الحكومات، ومنها بريطانيا التي سعت لوضع حل لهذه المشكلة. فشكلت في عام 1902م اللجنة الملكية لهجرة الغرباء، حيث حاولت تقدير أخطار ¬

(¬1) مكان تحت الشمس - بنيامين نتنياهوـ ترجمة محمد الدويرى - ص77

وعد بلفور

هذه الهجرة غير المقيدة، وما يجب أن تتخذه الحكومة البريطانية حيالها. وكان من بين الشهود الذين تحدثوا أمام تلك اللجنة (تيودور هرتزل) مؤسس الحركة الصهيونية، الذي قدم حلاً للمشكلة مبنى على أسس صهيونية، حيث قال في شهادته: "لا شيء يحل المشكلة التي دعيت اللجنة إلى حلها وتقديم الرأي بشأنها، سوى تحويل تيار الهجرة الذي سيستمر بصورة متزايدة من أوروبا الشرقية. إن يهود أوروبا الشرقية لا يستطيعون أن يبقوا حيث هم، أين سيذهبون؟ إذا كنتم ترون أن بقاءهم هناك غير مرغوب فيه، فلا بد من إيجاد مكان آخر يهاجرون إليه دون أن تثير هجرتهم المشاكل التي تواجهكم هنا. لن تبرز هذه المشكلة إذا وجد وطن لهم يتم الاعتراف به قانونياً وطناً يهودياً" (¬1). وقد لاقى اقتراح هرتزل السابق آذاناً صاغية من السياسيين البريطانيين، حيث اقترح تشامبرلين ـ وزير المستعمرات البريطانية ـ إعطاء العريش لليهود لتكون مركز تجميع لهم قرب فلسطين، ولكن هذا الاقتراح فشل لعدة أسباب، فما كان من تشامبرلين إلا أن أقترح في عام 1903م (في عهد حكومة بلفور) إعطاء أوغندا (¬2) لليهود ليقيموا فيها وطناً لهم، ولكن المؤتمر الصهيوني السادس المنعقد في لندن عام 1903م، رفض هذا العرض لبعده عن الهدف النهائي وهو فلسطين، والتي كانت في هذه الفترة خاضعة للسيطرة التركية، ولذلك لم يكن بمقدور الحكومة البريطانية إعطاء أي التزام للحركة الصهيونية تجاه فلسطين. وعد بلفور عندما استطاعت بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، الاستيلاء على فلسطين في عام 1917م، أصدر اللورد بلفور وزير الخارجية البريطاني وعده المشؤوم في 2ـ11ـ1917م، في عهد حكومة لويد جورج، والذي ينص على إعطاء اليهود وطناً ¬

(¬1) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 192 (¬2) الكاتب يميل إلى الشك في صحة هذه الاقتراحات لأنها بعيدة عن الواقع والمنطق، ولا تتمشى مع التوجهات البريطانية العميقة الجذور والتي تسعى إلى توطين اليهود في فلسطين منذ القرن السادس عشر. وربما يكون الهدف من طرح هذه الأقوال هو لتبرئة ساحة انجلترا من جريمة إعطاء فلسطين لليهود وكأنه جاء كحل لمشكلة، ولم يكن نتيجة لتخطيط مسبق قائم على اعتقاد ديني موروث.

هربرت صموئيل ومستقبل فلسطين

قومياً في فلسطين، وهذا النص الحرفي للوعد: "إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى" (¬1). ويصف السير رونالد ستوز في كتابه (استشراقات) الصدى الذي لقيه صدور الوعد بقوله: "لقي الوعد صدى رائعاً واستحساناً في الصحافة، يضاف إلى ذلك ما حظي به من التأييد العام والكبير لدى آلاف الكهنة الإنغليكانيين والقساوسة البروتستانت وغيرهم من الرجال المتدينين في سائر أنحاء الكرة الغربي" (¬2). هربرت صموئيل ومستقبل فلسطين لم يكن صدور وعد بلفور في هذا الوقت أمراً غريباً أو مفاجئاً، بالنسبة لصانعي السياسة البريطانية، حيث أن الحكومة البريطانية كانت قد أعربت في اجتماع لها في بداية الحرب العالمية الأولى، عن عزمها إقامة دولة يهودية في فلسطين. ففي ذلك الاجتماع أعلن رئيس الوزراء البريطاني، اسكويت عن تخلى بريطانيا عن سياستها التقليدية إزاء الإمبراطورية العثمانية وسعيها إلى تجزئتها واقتطاعها، فأعرب له (لويد جورج) ـ وزير الخزانة آنذاك ـ عن اهتمامه بإقامة دولة يهودية في فلسطين. كما أشار وزير الخارجية، (إدوارد غراى) "إلى الفرصة التي قد تتاح لتحقيق الأمنية القديمة للشعب اليهودي وإعادة أمجاد الدولة اليهودية" (¬3). وقد حضر هذا الاجتماع هربرت صموئيل ـ المندوب السامي البريطاني في فلسطين، فيما بعد ـ حيث قدم لهذا الاجتماع دراسة عن مستقبل فلسطين بعد الحرب، تضمنت خمسة احتمالات، كان أحدها ينص على وضع فلسطين تحت الحماية البريطانية، حيث بين أهمية ذلك قائلاً: "إن الإمبراطورية البريطانية ¬

(¬1) فلسطين، القضية * الشعب * الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 457 (¬2) إسرائيل الكبرى، دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني ـ د. أسعد رزوق ـ ص 362 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 1973 (¬3) إسرائيل الكبرى، دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني ـ د. أسعد رزوق ـ ص 227.

الدافع الديني ووعد بلفور

باتساعها وازدهارها الحاضر، ليس لديها ما تضيفه إلى عظمتها. ولكن فلسطين على صغر مساحتها تنتفخ ضخامة في مخيلة العالم، حتى أن كل إمبراطورية مهما كانت عظيمة، قد ترفع من مكانتها ومركزها بامتلاكها لها. إن ضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية سوف يزيد حتى في لمعان التاج البريطاني، وسيشكل جاذباً شديد القوة لشعب المملكة المتحدة والمملكات المستقلة، خصوصاً إذا ظهر كوسيلة معلنة لمساعدة اليهود على احتلال البلاد من جديد. هناك عطف واسع الانتشار، وعميق الجذور في العالم البروتستانتي، على فكرة إرجاع الشعب العبراني إلى الأرض التي أعطيت ميراثاً له، وهناك اهتمام شديد بتحقيق النبوءات التي توقعت ذلك مسبقاً" (¬1). الدافع الديني ووعد بلفور بالرغم من أن اللورد بلفور كانت له دوافعه السياسية والعسكرية التي سعى إلى تحقيقها من وراء إعطاء هذا الوعد للحركة الصهيونية، إلا أننا لا يجب أن نغفل أثر ثقافته الدينية التي لعبت دوراً حاسماً لصالح صدور هذا الوعد، حيث يبدو أن اللورد بلفور كان ينتظر بفارغ الصبر وقوع فلسطين تحت السيطرة البريطانية، حتى يحقق مطالب الحركة الصهيونية والنبوءات الواردة في العهد القديم، مثله في ذلك مثل الجنرال (اللينبى) الذي قال مقولته المشهورة عندما دخل مدينة القدس ـ "ها قد عدنا يا صلاح الدين، اليوم انتهت الحروب الصليبية! " (¬2). فاللورد بلفور كان بروتستانتينياً مؤمناً، ترعرع في أحضان التقاليد البروتستانتية الإسكوتلندية، بكل ما تحمله من حب للعهد القديم، وإيمان شديد بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر. وعن ثقافته تقول ابنة أخته ومؤرخة حياته، (بلانش دوغويل): "لقد تأثر منذ نعومة أظفاره بدراسة التوراة في الكنائس، وكلما اشتد عوده زاد إعجابه بالفلسفة اليهودية، وكان دائماً يتحدث باهتمام عن ذلك، وما زلت أذكر أنني في طفولتي اقتبست منه الفكرة ¬

(¬1) المصدر السابق ـ ص 237. (¬2) الاستعمار وفلسطين ـ رفيق النتشة ـ ص 220

صهيونية لويد جورج

بأن الدين النصراني والحضارة النصرانية، مدينة بالشيء الكثير لليهودية" (¬1). ويقول عنه (ب. جروبر) في كتابه (إسرائيل في العقل الأمريكي): "لقد كان بلفور أكثر فهماً من هرتزل لطموحات الصهيونية" (¬2)، وكان صهيونياً أكثر من أي صهيوني آخر، كما كان يردد ذلك بفخر. وهل كانت طموحات هرتزل وزعماء الحركة الصهيونية تفوق ما جاء في وعد بلفور الذي أكد على وجود اليهود كأمة، ثم دمج الوعد في صك الانتداب الذي وافقت عليه عصبة الأمم؟ وهل كانت طموحات هرتزل وتوقعاته ترقى إلى ما وصل إليه تفكير بلفور، عندما أجاز لليهود توسيع حدودهم شمالاً وشرقاً بحجة الحصول على المياه التي يحتاجونها؟ فقد جاء في مذكرة بلفور حول سوريا وفلسطين وما بين النهرين قوله: "إذا كان للصهيونية أن تؤثر على المشكلة اليهودية في العالم، فينبغي أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود، ولذا فإن من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوة المائية التي تخصها بشكل طبيعي سواء كان عن طريق توسيع حدودها شمالاً، أم عن طريق عقد معاهدة مع سوريا الواقعة تحت الانتداب. وللسبب ذاته يجب أن تمتد فلسطين لتشمل الأراضي الواقعة شرق نهر الأردن" (¬3). صهيونية لويد جورج إذا كانت تلك هي صهيونية اللورد بلفور، فإن صهيونية رئيس وزرائه (لويد جورج)، لا تقل عن ذلك. فقد تربى لويد جورج على يد خاله الواعظ في إحدى الكنائس المعمدانية، المعروفة بتعصبها وإيمانها الشديد بضرورة عودة اليهود إلى أرض فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر. وكانت للويد جورج خلفية كبيرة بالعهد القديم، حيث اعترف بأثره عليه عندما قال: "نشأت في مدرسة تعلمت فيها تاريخ اليهود أكثر من تاريخ بلادي، وبمقدوري أن أذكر أسماء جميع ملوك إسرائيل، ولكنني أشك إن كنت أستطيع ذكر أسماء بضعة ملوك من ملوك إنجلترا أو مثل ذلك العدد من ملوك ويلز. لقد تشربنا تاريخ جنسكم ـ يقصد اليهود ـ في أعظم أيام ¬

(¬1) قبل أن يهدم الأقصى ـ عبد العزيز مصطفى ـ ص 157 - دار التوزيع والنشر الإسلامية, 1990 (¬2) من أوراق واشنطن ـ د. يوسف الحسن ـ ص 125 - دار المستقبل العربى, ط1 1986 (¬3) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 160.

الانتداب البريطاني وتسليم فلسطين

مجده عندما أقام أدبه العظيم الذي سيتردد صداه حتى آخر أيام هذا العالم القديم، والذي سيؤثر في الأخلاق الإنسانية ويشكلها وسيدعم ويلهم الحاضر الإنساني، لا لليهود فحسب، بل للمسيحيين كذلك. لقد استوعبناه وجعلناه جزءاً من أفضل ما في الأخلاق المسيحية" (¬1). وهذا هو حاييم وايزمان يؤكد مدى إعجاب لويد جورج بالعهد القديم، عندما تحدث عن إحدى لقاءاته معه، حيث قال: "وصلت إلى مقر رئيس الوزراء في دوانج ستريت وكانت الشوارع مكتظة بالأهالي المتهليين. ولما دخلت على لويد جورج وجدته يقرأ في مزامير داوود، وعرضت عليه خلاصة مستعجلة لأعمالنا وزياراتنا لبلاد فلسطين" (¬2). وهكذا التقت أهداف الحكومة البريطانية بأهداف الصهيونية التي اغتصبت أراضي الغير تحت مسمّيات دينية متعصبة. أما كون الفلسطينيين قد عاشوا في فلسطين آلاف السنين، وأنهم كانوا وهم ما زالوا سكان البلاد الذين يملكون أكثرية الأرض والعقار، فهو بالنسبة لهم كأنه لم يكن. ومنذ بدايات الصهيونية، كتب مؤسس الحركة الصهيوينة (ثيودور هيرتزل) في يونيو 1895 م في مذكراته: "علينا أن نقذف بسكان فلسطين المفلسين الفقراء خارج فلسطين بإيجاد فرص عمل لهم في دول أخري، وحرمانهم من التوظيف داخل (بلدنا!) وفي حزيران يونيو 1938 م اجتمعت الوكالة اليهودية ليوم كامل في فلسطين حيث قررت بأغلبية ساحقة عملية التهجير الجماعي (الترانسفير) لعرب فلسطين من أراضي الدولة اليهودية المزمع إقامتها" (¬3). الانتداب البريطاني وتسليم فلسطين بعد صدور وعد بلفور، سعت بريطانيا جاهدة للحصول على موافقة الحلفاء لإخضاع فلسطين للانتداب البريطاني، وقد تم لها ذلك بسبب الدعم الأمريكي ¬

(¬1) المصدر السابق ـ ص 161 (¬2) التجربة والخطأ ـ مذكرات حاييم وايزمان ـ ترجمة محمد الشهابى ـ ص 78. (¬3) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م

اللامحدود، والضغوط والمناورات التي استخدمت لإقناع الحلفاء بذلك. "ففي يوم 25 أبريل 1920م وافق المجلس الأعلى للدول المتحالفة عند انعقاده في سان ريمو، على أن يوكل إلى الحكومة البريطانية مهمة الانتداب على فلسطين، وفي 24 يوليو 1922م أسند مجلس جمعية الأمم المتحدة مهمة الانتداب إلى الحكومة البريطانية، غير أن الانتداب لم يطبق رسمياً، لأن تركيا لم تكن قد وافقت على انفصال الولايات العربية عنها. وبمقتضى معاهدة سيفر التي عقدت في 10 أغسطس 1920 م، وافقت تركيا على انفصال الولايات العربية عنها، كما وافقت على تصريح بلفور، بيد أن معاهدة سيفر لم يتم التصديق عليها في الجمعية الوطنية التركية، التي رفضت بعض أحكامها بما في ذلك تصريح بلفور. ولم يصبح فصل الولايات العربية عن تركيا نافذاً بصورة قانونية إلا بعد ثلاث سنوات عندما أبرمت معاهدة لوزان، ووقعت عليها تركيا في 24 يوليو 1923م" (¬1). وبعد أن حصلت بريطانيا على ما تريد لتحقيق الحلم الصهيوني عن طريق وضع فلسطين تحت انتدابها، الذي تم في ظله فتح أبواب فلسطين على مصراعيها أمام الهجرة اليهودية، بالإضافة إلى التسهيلات الكبيرة التي قدمتها سلطات الانتداب لليهود، والتي مكنتهم من إقامة المستعمرات، وشراء الأراضي، وتأسيس نواة الجيش الإسرائيلي. وحتى في بعض الحالات التي وجدت فيها الحكومة البريطانية، أن بعض المسئولين يقفون حائلاً أمام سرعة تنفيذ المشروع الصهيوني كما تريد، قامت هذه الحكومة بإبعاد أمثال هؤلاء المسئولين عن مناصبهم، كما فعلت ذلك مع الجنرال (بولز) الحاكم العسكري لفلسطين في بداية الانتداب. الذي قدم توصيات إلى حكومته، طالبها فيها بانتهاج سياسة عادلة تجاه السكان العرب في فلسطين، بالإضافة إلى مطالبته بإلغاء اللجنة الصهيونية، بسبب تدخلها المستمر في شؤون فلسطين الداخلية. ¬

(¬1) فلسطين في ضوء الحق والعدل ـ هنري كتن ـ ترجمة وديع فلسطين ـ ص 18 - معهد البحوث والدراسات العربية، 1970

هربرت صموئيل

هربرت صموئيل عندما اتضح للسلطات البريطانية أن الجنرال بولز يقف حائلاً في وجهه تحقيق الأهداف الصهيونية، سارعت هذه السلطات بإقالته من منصبه، وعينت مكانه هربرت صموئيل الصهيوني العريق، وسلمته مقدرات فلسطين ووضعته على رأس الإدارة المدنية، بعد استبدال الحكم العسكري بحكم مدني، مع العلم بأن أحكام معاهدات لاهاى، لا تجيز للدولة المحتلة إقامة حكم غير عسكري قبل التوقيع على معاهدة سلام. وقد تم هذا التبديل بعد مداخلات أجراها الرئيس الأمريكي ويلسون والكولونيل هاوس واللورد بلفور، مما حذا بالأخير إلى إصدار التعليمات اللازمة "والإتيان بضباط يعطفون على الأماني الصهيونية، لإحلالهم محل الذين شكا الصهيونيون منهم" (¬1). وبمجرد أن تولى هربرت صموئيل منصبه الجديد، قام بأعمال كثيرة تخدم الأهداف الصهيونية، حيث أعتمد اللغة العبرية كلغة رسمية في فلسطين، وملأ الدوائر الحكومية بالموظفين اليهود. "وفي تصرف غير عادى أمر بإطلاق سراح الزعيم الصهيوني جابوتنسكى، بالرغم من أن سلطات الانتداب كانت قد حكمت عليه بالسجن لمدة 15 عاماً" (¬2). الضباط البريطانيون ... وبناء الجيش الإسرائيلي أطلق هربرت صموئيل يد الضباط البريطانيين، لتقديم المساعدة للمنظمات العسكرية اليهودية، وتغاضى عن كثير من تصرفاتهم التي تتنافى مع مهمتهم في فلسطين. حيث قام كثير من الضباط البريطانيين بتزويد المنظمات اليهودية بالأسلحة اللازمة لها، هذا في الوقت الذي منع السلاح عن العرب. كما قام كثير من هؤلاء الضباط بالإشراف على تدريب هذه المنظمات. ¬

(¬1) إسرائيل الكبرى ـ د. أسعد رزوق ـ ص 443 (¬2) الأيديولوجية الصهيونية (دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة) ـ عبد الوهاب المسيرى- ص 138 - المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب, 1982

وينغيت والتفسير العسكري للتوراة

وينغيت والتفسير العسكري للتوراة كان الكابتن تشالز اورد وينغيت مؤسس الوحدات الليلية الخاصة، "ابناً لعائلة اسكتلندية تنتمي إلى جماعة (اخوان بليموث) إحدى طوائف (المنشقين) في إنجلترا المتشبعة بروح بوريتانية صارمة. حيث كانت قصص التوراة وترانيم سفر المزامير مادة قراءاته الأولى. وظل يلهج بها طوال حياته، حتى أصبحت دارجة على لسانه. وعن طريقهما عرف أول مره شعب إسرائيل وأرض إسرائيل، اللذين ألهبا خياله منذ نعومة أظفاره" (¬1). وفي أثناء توجهه إلى فلسطين، انكب وينغيت على دراسة مشكلات ارض إسرائيل الحديثة. واتضح له بسرعة، أن النضال اليهودي ليس غريبا عنه أبداً. إذ أن قصص التوراة عن حروب بني إسرائيل ضد ملوك الكنعانيين، ومناظر البلد التي كان مولعاً بها، قربته من المسألة اليهودية أكثر فأكثر. وفور وصوله، التحق وينغيت بالقوات البريطانية العاملة في فلسطين، وبدأ نشاطه من أجل تحقيق إقامة الدولة اليهودية، من خلال نشاطه العسكري المميز، حيث قام بتشكيل الوحدات الليلية الخاصة التي لعبت دوراً أساسياً في محاربة الثوار الفلسطينيين، كما لعب دوراً أساسياً في إنشاء الجيش الإسرائيلي من خلال تدريب أفراده وتزويدهم بالمعدات، وقد حدث أن التقى وينغيت بحاييم وايزمان وابن غوريون وقدم لهما خطة مفصلة لإنشاء جيش عبري في فلسطين ليكون جاهزاً لتسلم البلاد في اللحظة المناسبة. لهذا يعتبر وينجيت من أشهر الضابط الإنجليز الذين قدموا مساعدة للمنظمات الصهيونية العسكرية، حيث كان ينظر إلى المساعدة التي يقدمها لليهود كواجب ديني مفروض عليه أن يؤديه. فقد كان وينغيت ـ مثله، مثل معظم الصهاينة غير اليهود ـ من الحرفيين الدينيين، الذين يفسرون العهد القديم تفسيراً حرفياً، ولذا كان مثابراً على تفسير الأحداث التاريخية التي وردت في الإنجيل تفسيراً عسكرياً وكأنها حدثت بالأمس، ¬

(¬1) الثورة العربية الكبرى في فلسطين ـ 1936ـ1939م (الرواية الإسرائيلية الرسمية) - ـ ص 331 - مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

على حد قول بن جوريون. وكان وينغيت مقتنعاً تمام الاقتناع بأنه مرسل في مهمة دينية مقدسة ومحددة لإنقاذ إسرائيل، وفي ذلك يقول عنه موشى ديان: "كان وينغيت يؤمن إيماناً لا يتزعزع بالتوراة. فقبل أن ينطلق في مهمته كان يقرأ في التوراة، المقطع الذي يتحدث عن المنطقة التي سيسلكها، فيجد فيه ضماناً لانتصارنا، انتصار إله يهوذا" (¬1). ويوضح دافيد كوهين ـ وهو أحد الزعماء الصهاينة ـ مدى معرفة وينغيت بفلسطين، ومدى إيمانه بكل ما ورد بشأنها في التوراة، فيقول: "كنت معتاداً على التجول في البلد (فلسطين) برفقة زوار من أبناء الشعب الإنجليزي، كانوا على معرفة بأسماء من تاريخنا، ويعرفون خريطة البلد جيداً ويحفظون مقاطع من التوراة عن ظهر قلب. لكن أياً منهم لم يكن شبيهاً بوينغت في عمق معرفته، واطلاعه المذهل، وقدرته على تفسير ما ورد في التوراة. كان يروى شفاها مقطعاً في أثر مقطع. ها هي حاروشت هغوييم، ديبواره وبراك، جبال غلبواع، تل هاموريه، شوننم وعين دور ـ كل هذا كما لو كان يقرأ في خريطة أمام عينيه ـ هنا تماماً، تقريباً هنا، ... ربما خلف هذه الصخور ... هنا أرسلوا الإشارات الضوئية ... لهذا السبب أو ذاك أصيبوا ... بالتأكيد فروا من هذا الوادي ... ولماذا لم يساعدهم إخوانهم من السبط الفلاني، أما كانوا قاطنين هنا، وراء الجبل؟ وكان يتحدث بألم، بانفعال وغضب، كما لو أن الأمر حدث البارحة، كما لو أن الانقسام الكبير بين آل داود وأسباط إسرائيل أمر يخصه شخصياً" (¬2). و وينغيت هذا لم يكن إلا نموذجاً من النماذج الكثيرة لضباط وجنود ومسئولين إنجليز، عملوا في فلسطين، وكانت النظرة الدينية البحتة هي التي تحكم تصرفاتهم وقراراتهم تجاه فلسطين. وقد علمت من خلال قصص الاجداد ان هذا الضابط عمل في قريتنا (يبنا) قضاء الرملة ومارس كافة انواع الارهاب ضد سكانها وقد ذكر ابن قريتنا، الاديب والقاص محمد جاد الحق في روايته (قبل الرحيل) بعض من جرائمه ¬

(¬1) يوميات قادة العدو -3 - الفاشية - موشي دايان- ترجمة جوزيف صفير - ص 38 - دار المسيرة، بيروت. (¬2) الثورة العربية الكبرى في فلسطين ـ 1936ـ1939م (الرواية الإسرائيلية الرسمية) مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـ ص 332

الدافع الديني للتحيز

حيث يقول: "لقد دأب هذاعلى التفنن في أساليب اقترافه لجرائمه، لكأنه يقوم بعمل يحبه ويتعشقه. وتتراوح جرائمه ما بين الاعتداء على الناس، بالضرب والشتيمة، وسرقة ما يلقاه في حوزتهم، وبين القتل العمد رمياً بالرصاص أو طعناً بالحراب. كان ساديّاً يجد لذته في تعذيب ضحاياه حتى الموت. وليس شرطاً أن يكون هؤلاء ثواراً، أو حتى مجرد رجال راشدين. بل كثيراً ما عمد إلى قتل غلمان، أو مزارعين يلقاهم في الطرقات، أو في أي مكان بين البيارات والحقول أو على رمال الشاطئ. هكذا تناقلت الروايات سيرته. حاول أهل القرية اغتياله في أكثر من مناسبة، دون أن يفلحوا، مما أضفى على غريمهم هذا هالة أسطورية من الرهبة. لكن محاولاتهم ما كانت لتذهب بغير عقاب يوقعه بهم، تمثل في صور عديدة مختلفة. منها العقوبات الجماعية، يفرضها عليهم، اعتباطاً ومن تلقاء نفسه. وكأنه دولة قائمة بذاتها، لا يُسأل عما يفعل. ومنها اللجوء إلى قتل مجموعات من الناس كيفما اتفق، ربما صادفها في طريقه، أو عمد إلى جمعها من المزارعين، أو من بين روَّاد المقاهي وأصحاب الحوانيت، أو المارة. أما أهون تلك العقوبات فقد كان حجز أعداد غفيرة من أهل القرية في ساحتها العامة، لساعات طويلة تحت أشعة الشمس اللاهبة، أو المطر المنهمر، تبعاً للفصل الراهن حينئذ. بل هم مازالوا يذكرون في قهر وأسى كيف ألقى هذا الانكليزي - اليهودي فجر ذات يوم بخليل السلال وولده ابراهيم من فوق الجسر إلى لجة الوادي، ليلقيا حتفهما دون أن تشفع لهما توسلاتهما وضراعتهما شيئاً" (¬1). الدافع الديني للتحيز مما تقدم يمكننا تقدير حجم المساعدة، ودوافعها الدينية، التي قدمتها بريطانيا للحركة الصهيونية. فهذه المساعدة لم تكن بدافع الحصول على مكاسب مادية، أو بسبب أثر اللوبي الصهيوني، أو نتيجة لدهاء وعبقرية الزعماء الصهاينة، بل كان الدافع الأساسي لها كما اتضح لنا، دافعاً دينياً في الأساس. تقول دائرة المعارف البريطانية: "إن الاهتمام بعودة اليهود إلى فلسطين قد بقى حياً في الأذهان بفعل ¬

(¬1) قبل الرحيل - محمد جاد الحق- ص87 - اتحاد الكتاب العرب 1997

النصارى المتدينين، وعلى الأخص في بريطانيا التي كان اهتمامها أكثر من اهتمام اليهود أنفسهم" (¬1). كما أن حاييم وايزمان ـ أول رئيس لدولة إسرائيل ـ وضح هذا الأمر بجلاء في كتابه (التجربة والخطأ) حيث قال: "لقد احتضنت بريطانيا الحركة الصهيونية منذ نشأتها، وأخذت على عاتقها تحقيق أهدافها، ووافقت على تسليم فلسطين خالية من سكانها العرب لليهود في عام 1932م. ولولا الثورات المتعاقبة التي قام بها عرب فلسطين، لتم إنجاز هذا الاتفاق في الموعد المذكور" (¬2). ويقول وايزمان في مكان آخر: "للقارئ أن يسأل، ما هي أسباب حماسة الإنجليز لمساعدة اليهود وشدة عطفهم على أماني اليهود في فلسطين؟ والجواب على ذلك، أن الإنجليز ـ لاسيما من كان منهم من المدرسة القديمة (يقصد البروتستانت) ـ هم أشد الناس تأثراً بالتوراة. وتدين الإنجليز هو الذي يساعدنا في تحقيق آمالنا، لأن الإنجليزي المتدين يؤمن بما جاء في التوراة من وجوب عودة اليهود إلى فلسطين. وقد قدمت الكنيسة الإنجليزية في هذه الناحية أكبر المساعدات" (¬3). وهكذا لعبت بريطانيا دوراً رئيساً في قيام دولة إسرائيل بفضل وعد بلفور وما تبعه من انتداب، كان هدفه الأساسي الإعداد والتحضير لإعلان الاستقلال في عام 1948 م. ¬

(¬1) التجربة والخطأ ـ مذكرات حاييم وايزمان ـ رجمة محمد الشهابى ـ ص 25 (¬2) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 292 (¬3) المصدر السابق ـ ص 18.

الفصل الرابع أمريكيا والمشروع الصهيوني

الفصل الرابع أمريكيا والمشروع الصهيوني كان دافيد بن جوريون والزعماء الصهاينة الآخرين يعلمون، عندما أعلنوا عن قيام دولة إسرائيل في عام 1948 م، بأنه لا بد من وجود حليف قوى يقوم بحماية هذه الدولة الوليدة، حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة المؤهلة للقيام بهذه المهمة بعد أن خرجت من الحرب العالمية الثانية كأقوى قوة في العالم، وأصبحت تلعب دوراً رئيساً في تشكيل السياسة الدولية. وهذا لا يعنى أن بريطانيا قد تخلت عن دعم إسرائيل، أو أن أمريكيا كانت غائبة عن دعم مطالب الحركة الصهيونية في فلسطين قبل ذلك. كلا، إن هذا التغير فرضته المتغيرات الدولية، بحيث أصبحت أمريكيا تحتل مركز الصدارة في دعم الحركة الصهيونية بعد الحرب العالمية الثانية. فأمريكيا مثلها مثل بريطانيا ذات أغلبية بروتستانتية، تغلغلت في تفكير مواطنيها الأفكار والنبوءات التوراتية الخاصة بعودة اليهود إلى فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر، حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بفترة كبيرة من الزمن. هجرة البروتستانت إلى أمريكيا عندما بدأ الاستيطان الأوروبي لأمريكا كان معظم المهاجرين الجدد من البروتستانت، الذين فروا من الاضطهاد الديني الذي ساد أوروبا في ذلك الوقت، حيث هاجر إلي أمريكيا كثير من البيوريتان المتدينين، فراراً من الاضطهاد الديني الذي ساد إنجلترا أثناء حكم آل ستيوارت (¬1)، حيث كانوا ينظرون إلى أنفسهم من منطلق خاص بهم. "فعلى غرار الخروج الجماعي المذكور في العهد القديم والذي هرب فيه اليهود من مصر ورحلوا إلى ارض جديدة وعدهم الرب بها، نظر البيوريتانيون لأنفسهم على أنهم الشعب المختار الجديد، ونظروا إلى العالم الجديد على انه إسرائيل الجديدة. أما العالم القديم بالنسبة لهم، فكان هو مصر التي فروا منها. لقد ¬

(¬1) المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية - ج1ـ د. محمد النيرب - ص33

عقدوا عهداً مع الرب: انه إذا أمن الرب ذهابهم إلى العالم الجديد، فإنهم سيؤسسون مجتمعاً تحكمه القوانين الإلهية" (¬1). وهكذا كان هؤلاء المستوطنون الجدد يحملون معهم تراثهم الديني المستمد من العهد القديم، والذي أخذ يلعب دوراً رئيساً في تشكيل الفكر الأمريكي منذ ذلك الوقت. ومما قوى من أهمية هذا الدور، هو ربط هؤلاء المستوطنين بين تجاربهم التي مروا بها منذ رحيلهم من أوروبا وإنجلترا بالذات، وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين (¬2). حيث اعتبروا أمريكا هي (أورشليم الجديدة) أو (كنعان الجديدة) وشبهوا أنفسهم بالعبرانيين القدماء حين فروا من ظلم فرعون (الملك الإنجليزي جيمس الأول) وهربوا من ارض مصر (إنجلترا) بحثا عن ارض الميعاد (الجديدة) (¬3). فقد رأى البيوريتانيين في تجربتهم الخاصة المتمثلة "بالهروب إلى البراري، من أوروبا المنحوسة مساوية لتجربة اليهود الذين قادهم موسى من مصر، غير أنها كانت أكثر بكثير من تجربة مساوية. لقد آمنوا بأن تجربتهم لم تكن في الحقيقة إلا تجسيداً حياً لتجربة الخروج. وقد فسروا تجربتهم على أنها تكرار للتاريخ الذي شكل شعب الرب القديم" (¬4). فهم مثلهم مثل اليهود فروا من الظلم بحثاً عن الأرض الموعودة التي تدر لبناً وعسلاً، وجابهوا الصعاب في رحلتهم عبر المحيط، كما حدث لليهود في صحراء سيناء عند خروجهم من مصر. كما أنهم جوبهوا بمقاومة السكان الأصليين كما جوبه اليهود بمقاومة أهل فلسطين، وعندما كانوا يعلنون الحرب على أصحاب البلاد الأصليين، كانوا يستحضرون العهد القديم، حيث ثمة تشابه بين تجاربهم في حربهم مع الهنود الحمر، وتجربة اليهود في حربهم ضد الفلسطينيين في الماضي. ¬

(¬1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ تأليف مايكل كوربت وجوليا كوربت، ـ ترجمته د. عصام فايز، ود. ناهد وصفي ص44 (¬2) من أوراق واشنطن ـ د. يوسف الحسن ـ ص 119. (¬3) ارض الميعاد والدولة الصليبية ـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص 5 - دار الشروق - ط2 2001. (¬4) الصهيونية المسيحية (1891ـ1948م) - بول مركلي ـ ترجمة: فاضل جتكرـ ص1،5 - ط 2003 سوريا - قدمس للنشر والتوزيع

لقد عانوا من الانقسام ومن تجارب الحرب الأهلية المرة بين الشمال والجنوب، كما حدث مع اليهود القدماء عندما انقسمت مملكتهم إلى مملكتين إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب. لقد كان هؤلاء المستوطنون يعلمون أن الأرض التي استولوا عليها من سكانها الأصليين ليست أرضهم، كما أنهم يعلمون أن ما يقومون به من عمليات اضطهاد وقتل وتشريد للسكان الأصليين، يتنافى مع أبسط المبادئ الأخلاقية، فكانوا لذلك بحاجة إلى شيء يبرر لهم أفعالهم هذه ويضفي عليها نوعاً من الشرعية والأخلاقية ولو مزيفة، فلم يجدوا هذا التبرير إلا في العهد القديم. فكما أن اليهود القدماء برروا احتلالهم لفلسطين بالإدعاء بأنها الأرض الموعودة التي وهبها الله لشعبه المختار ـ كما يقولون- فإن هؤلاء المستوطنون الجدد فعلوا نفس الشيء بالإدعاء بأن الله أختار العنصر الأنجلوسكسونى البروتستانتي الأبيض لقيادة العالم، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما شبهوا الشعب الأمريكي بالشعب اليهودي الذي يسعى إلى دخول الأرض الموعودة. ولأن زعم هؤلاء المهاجرين الأوائل بأنهم شعب الله المختار، لا وجود له في أي كتاب مقدس، فإن بعضهم سعى إلى إيجاد رابطة بينهم وبين اليهود الذين يدعون أنهم شعب مختار. لهذا فقد زعم أحد الكتاب ويدعى ريتشارد بروترز في كتابه (المعرفة المنزلة للنبوءات والأزمنة) "بأن الإنجليز السكسون هم من أصل يهودي، على أساس أنهم ينحدرون من سلالات الأسباط التي أدعى اليهود أن أفرادها فقدوا بعد اجتياح الآشوريين لمملكة إسرائيل عام 721 قبل الميلاد" (¬1). وربما يفسر هذا الادعاء ما كتبه هيرمان ملفيل في بداية القرن التاسع عشر متحدثاً عن الشعب الأمريكي حيث قال: "نحن الأمريكيون شعب خاص، شعب مختار وإسرائيل العصر الحاضر" (¬2). يقول القس البروتستانتي صموئيل ويكمان في موعظته الشهيرة على ظهر السفينة (أرابلا) التي حملت أول مجموعه من البروتستانت البيورتانيين (التطهيريين) ¬

(¬1) أزمة الفكر الصهيوني ـ د. محمد ربيع ـ ص 46. (¬2) الإمبراطورية الأمريكية ـ كلود جوليان ـ ترجمة ناجى أبو خليل ـ ص 19

الفكر الأمريكي والبعث اليهودي

إلى خليج ماساشوستس: "أن أورشليم كانت لكن نيوانجلاند (المستعمرة الأولى) هي الموجودة الآن، وأن اليهود كانوا لكنكم انتم (البروتستانت التطهيريون) شعب الله المختار، وعهد الله معكم فضعوا اسم نيوانجلاند مكان اسم أورشليم. وعندما وصلت المجموعة الثانية من المستوطنين إلى شاطئ نيو انجلاند على ظهر السفينة (ماي فلاور) عام 1620 م وقعوا فيما بينهم (عهد ماي فلاور) الذي حددوا فيه طريقة الحياة التي يرغبونها وأسس المجتمع المثالي في أورشليم الجديدة أو إسرائيل الجديدة (أمريكا) ... وذلك تمجيداً لاسمه تعالى، وترويجاً للدين المسيحي ... " (¬1). مما تقدم يتضح لنا أهمية الدور الذي لعبه التراث الديني المستمد من العهد القديم في تشكيل الفكر الأمريكي منذ بداياته الأولى، وهذا ما دفع والتر ماكدوجال في كتابه (أرض الميعاد والدولة الصليبية) إلى القول: "أن نشأة أمريكيا كانت نتيجة اندفاعية دينيه، بل أن مغامرة كولمبوس لم تكن إلا مغامرة دينيه وبكلمات كولمبوس، فإن الرب جعله رسولا للجنة الجديدة والأرض الجديدة بعد أن حدثه بها يوحنا المقدس في سفر الرؤيا وأراه النقطة التي يجدها عندها، أن اكتشاف أمريكا قبل أي شيء آخر كان نهاية حج عظيم ونهاية للبحث الروحي العظيم" (¬2). الفكر الأمريكي والبعث اليهودي في ظل هذا الوضع، ومع نهاية القرن الثامن عشر الذي شهد بعث الأمة الأمريكية، أصبح الاعتقاد بالبعث اليهودي يشكل جانباً مهماً من الفكر الأمريكي، "وكان من شأن الحماسة الأمريكية لإعادة اليهود إلى إسرائيل، بعد استثارته، أن يثبت انه أقوى من النزعة الاعادية الانجليزية. لأنه أكثر حيوية ومستنداً إلى قاعدة أوسع. فالطبعة الأمريكية تضيف إلى الاقتناع الإنجليزي بمسؤولية خاصة عن إنقاذ اليهود المشتتين، الإيمان بأن أمريكا نفسها صبت في ذلك القالب منذ بداياتها ¬

(¬1) مختارات من الفكر الأمريكي/ تحرير دايان رافيتش ... [وآخرون]؛ ترجمة نمير مظفر - ص27 - ط.1. - الأردن: دار الفارس، 1998. (¬2) ارض الميعاد والدولة الصليبية ـأمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص6.

السامري على الدولار

الأولى، وبأن مصير إسرائيل يعانق مصيرها" (¬1). ولهذا كان واضحاً منذ البدايات الأولى أثر العهد القديم في الحياة الأمريكية. فقادة الولايات المتحدة وشعبها وكتابها أسموا دولتهم وقت إنشائها بـ (أورشليم الجديدة)، وأسموا مدنهم ومستوطناتهم بأسماء توراتية، منها: صهيون، وأورشليم، وحبرون، واليهودية، وسالم (التي اشتهرت بإحراق الساحرات)، وعدن، وأسموا أولادهم بأسماء آباء العهد القديم وأبطاله، بدل اسماء القديسين وتلاميذ المسيح عليه السلام. السامري على الدولار لو تأملنا ورقة العملة النقدية الأمريكية، فئة دولار واحد، فسنجد رسماً مثيراً لهرم مصري وقد اعتلته قمة ذهبية عليها عين وحيدة، ويخرج من القمة الذهبية خيوط إشعاع، وقد كتب فوق الهرم باللاتينية (المصري الوحيد)، وتحته (إنه يرانا) ـ أو يرقبنا أو يرعانا. وليست مصادفة أن نفس هذا الرسم بتفاصيله يستخدم كرمز أساسي من رموز الماسونية "وهي واحدة من أقدم الحركات اليهودية التي تستهدف السيطرة على العالم، وفروعها وجمعياتها حالياً كثيرة ومنتشرة كالسرطان" (¬2). ولفهم معاني هذا الرمز (الصهيوني في أصوله وتفاصيله) نعود إلى قصة السامري، ذلك الذي خرج مع بني إسرائيل عند خروجهم من مصر، وصنع لهم عجلاً ذهبياً عبدوه، حتى عاد موسى ـ عليه السلام ـ فنسف العجل في اليم نسفا وطرد السامري. لكن اليهود رأوا في السامري أول رسل الصهيونية، وظلوا يحفظون مغزى حركته التحريفية التي قام بها، والتي منحتهم ما ظلوا يؤمنون به حتى اليوم: الذهب، وتصور وثني لإله متجسد. وإكراماً للسامري، الذي دعاه اليهود المصري الوحيد (أو الحقيقي أو الأصلي) حافظوا على الرموز المصرية بين رموزهم الماسونية، وخصوه برمز الهرم ذي القمة الذهبية، ورمز الشمس المشرقة، ورمز العين (إشارة إلى اثنين من أهم المعبودات المصرية القديمة وهما: رع كبير الأرباب ورب الشمس، وحورس رب الانتقام وكان يعتقد أن لعينه خصائص سحرية شافية)، ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية (1891ـ1948) - بول مركلي ـ ترجمة: فاضل جتكرـ ص107 (¬2) لهذا كله ستنقرض أمريكا- الغ بلاتونوف ـ ترجمة: نائله موسى ص32

وخاتم داود

واعتقدوا أن السامري يرعاهم، واتخذوا من الانتساب إليه ذريعة تربطهم بمصر التي عاشوا فيها عبيداً، وخرجوا منها خائفين يترقبون مع نبي لم يؤمن به إلا قليل منهم، ولم يؤمنوا به إلا قليلاً، ذريعة تعطيهم ـ فيما بعد ـ حق المطالبة بما يدعونه إسرائيل الكبرى التي يزعمون أنها من النيل إلى الفرات. وسيكتشف أي باحث في التاريخ حجم حقدهم المسموم ومداه المحموم حين يعرف أن الأرض من النيل إلى الفرات إن هي إلا إمبراطورية تحتمس الثالث الملك المصري الذي استعبد بني إسرائيل، وهاهم العبيد يحلمون بالانتقام من سيدهم والاستيلاء على ممتلكاته. كل هذه المعاني والرموز السرية الماسونية والصهيونية، وكل هذا الحقد التاريخي الفادح، اختزله اليهود في رمز الهرم ذي القمة الذهبية والعين، واختاره الأمريكيون الأوائل شعاراً لعملتهم الأولى (دولار واحد) " (¬1). وخاتم داود خاتم الدولة هو شعارها الرسمي، وهو ـ بلا شك ـ شعار يتم اختياره بعناية للتعبير عن هويتها وانتمائها، وقد اختار المؤسسون الأوائل للولايات المتحدة الأمريكية، درع داود (النجمة السداسية) شعاراً لهم وضعوه على رأس النسر الأمريكي (والنسر رمز توراتي معروف هو الآخر). ولنلاحظ أن اختيار هذا الشعار الصهيوني تم قبل أكثر من قرن كامل من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا. فقد انعقد المؤتمر في 1897م، في حين تولى (جورج واشنطن) ـ الرئيس الأول للولايات المتحدة الأمريكية ـ مقاليد الحكم في 1789 م. إذن فقد سبقت صهيونية أمريكا صهيونية (هرتزل) بل إن صهاينة أمريكا زايدوا على (هرتزل) نفسه كما سنرى. يقول شفيق مقار في كتابه (المسيحية والتوراة): "من المعطيات المهمة التي توجه البحث صوب العالم الجديد (أي أمريكا) احتواء الخاتم الرسمي لدولة الولايات المتحدة الأمريكية، منذ ما قبل ظهور الصهيونية اليهودية بوقت طويل على (مجن داود) النجمة السداسية التي ترفرف اليوم من علم المحطة الصهيونية الأولى (إسرائيل)، والمجن في الخاتم من ثلاث عشرة نجمة تمثل ¬

(¬1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقارـ ص119

أمريكا مهد الصهيونية

كل نجمة منها ولاية من الولايات الثلاث عشرة الأولى التي تألف منها الاتحاد. ويشير جوزيف كامبل، في كتابه (قوة الأسطورة) إلى أن النجوم المستخدمة في الخاتم الأمريكي تشكل 13 نقطة هي عينها النقاط الـ 13 في النجمة اليهودية بحيث أدمجت في خاتم الدولة الأمريكي" (¬1). أمريكا مهد الصهيونية ان الولايات المتحدة، منذ ظهورها، دخلت في تشكيل بنيتها وفي صنع روحها مؤثرات عبرانية بالغة الفعالية ـ لا من غلبة عنصر البروتستانتية الأنجلو سكسونية فحسب، بل ومن دخول اليهود كشركاء مؤسسين، إن صح التعبير، في تكوين أمتها وتحديد مسارها، "فقد غزت اللغة العبرانية العالم الجديد قبل أن ينادي هرتزل بإنشاء الدولة اليهودية بأكثر من قرنين ونصف القرن! وكانت لغة التعليم الأساسية في جامعة هارفارد عند تأسيسها في عام 1636 م، وشريعة موسى كانت هي القانون الذي أراد جون كوتون تبنيه إلى جانب العبرية التي أرادها لغة رسميه لأبناء مستعمرات الدم الأزرق الثلاث عشرة على ساحل الأطلنطي" (¬2). كما إن الحقائق التاريخية التي كشفت عنها البحوث تشير إلى أن أولئك اليهود كانوا من بين مؤسسي الولايات الثلاث عشرة الأولى التي تألف منها الاتحاد. فقد اضطر اليهود، أبناء أوربا بالتبني الذين ازدرتهم أوربا خلال القرون من الخامس عشر إلى السابع عشر الميلادي، إلى الهجرة والبحث عن ملاذ، وقد وجدوا ذلك الملاذ في أمريكا، الأرض التي كان مقدراً لها أن تصبح الابنة المفضلة لأوربا، وهكذا يمكن القول من وجه بعينه إن بين اليهود وأمريكا قضية مشتركة من مبدأ الأمر، وإن ذلك التوافق شكل علاقتهما منذ التقائهما. ولهذا فإن الأمريكيون ينظرون إلى إسرائيل على أنها شديدة الشبه بأمريكا، "أمه مهاجرة، ودولة مهاجرين، وملاذ مضطهدين ومظلومين، ومجتمع رواد استيطان، بلد قوي وشجاع عازم على النضال ¬

(¬1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ـ ص117 (¬2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص152

رؤساء أمريكا والبعث اليهودي

في صف الحق، ونظام ديمقراطي تظلله سيادة القانون (الوحيد في الشرق الأوسط) وواحة ثقافة استهلاكية غربية في صحراء قاحلة تحيط بها من كل جانب، وثمة عدد كبير من الأمريكيين في إسرائيل. فالروابط بالغة المتانة إلى درجة أن إسرائيل ليست بنظر عدد غير قليل من الأمريكيين، سوى ولاية حادية وخمسين" (¬1). ويفصل احد الكاتب الأمريكين هذه القضية المشتركة بقوله: "إن كلاً من الولايات المتحدة وإسرائيل يضمهما عناق حميم في سياق علاقة خاصة غريبة، وسواء كانت إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة أصلاً استراتيجياً أو مشكلة استراتيجية، فإنها تجسد مثلاً أعلى مغروساً بعمق في الفكر الأمريكي منذ السنوات الأولى لظهور أمريكا في العالم الجديد". ولكن هذه العلاقة الخاصة التي يتحدث عنها الكاتب، وغيره من الساسة ورجال الدين والفكر في أمريكيا، "كلفت الولايات المتحدة 91.82 بليون دولار نقداً. أما إذا أضيف إلى ذلك الكلفة غير المباشرة مثل تسهيلات القروض وإلغائها, وما دفعه الاقتصاد الأميركي لشراء نفط عالي السعر بسبب الصراع, أو خلال مراحل المقاطعة, أو مستتبعات الحروب العربية الإسرائيلية وغير ذلك, فإن "سعر" العلاقة الخاصة يصل إلى 1.6 تريليون دولار" (¬2). رؤساء أمريكا والبعث اليهودي لا يملك أي متتبع لسيرة رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية إلا ضرب أكف العجب وهو يرى إيمانهم الصهيوني العميق، وعداءهم الذي لا تشوبه شائبة لكل ما هو عربي وإسلامي. كما سيجد متتبع سيرتهم دورهم واضحاً في إقامة الكيان الصهيوني، وسيكتشف أن هذا الدور لم يكن دور المعاون أو المساند فأمريكا هي المالك الحقيقي للمشروع الصهيوني، وهي المتصرف في أمره كذلك. فقد كان واضحاً منذ البداية أثر الرموز التوراتية على الرؤساء الأمريكيين الأوائل جورج واشنطون وجون آدمز وجفرسون، حيث أخذت الرموز التوراتية تهيمن على كل كبيرة ¬

(¬1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية ـ كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص252 (¬2) الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين المؤلف: نصير عاروري الطبعة: الأولى 2003ـ كامبردج بوك ريفيوز

جورج واشنطن

وصغيرة في الحياة الأمريكية: عملتها، شعارها، خاتمها، أسماء مدنها .. والأهم تفكيرها وطبيعة مؤسسيها. جورج واشنطن كان الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن من أوائل الأمريكان الذين انتسبوا إلى المحافل الماسونية اليهودية، "حيث انتسب إليها في عام 1755 م وترقى في الدرجات إلى أعلاها، وقام بتأسيس محفلاً ماسونياً في فرجينيا دعاه محفل إسكندرية نمره 23 وانتخب رئيساً له، وبعد وفاته أجمع أعضاء المحفل على تسميته (محفل واشنطون الإسكندري) وذلك رغبه أن يبقى ذكر رئيسهم المجيد في الأفواه وأن تكون آثاره الماسونية غرضاً تصوب إليها الأفكار للاقتداء به" (¬1). وانتساب الرئيس جورج واشنطون إلى هذه المحافل يعكس بجلاء خلفياته الدينية التوراتية، حيث كان رجلاً شديد التدين (عبرانياً) وظل حتى أخريات أيامه عظيم التقديس للشعائر والطقوس اليهودية والتاريخ المقدس الذي تضمنه العهد القديم. ففي رسالتين وجههما إلى اثنين من قادة اليهود أعرب واشنطن عن أمله في: "أن يظل الرب صانع المعجزات الذي خلص العبرانيين في الأزمنة القديمة من بغى مضطهديهم المصريين، وزرعهم في ارض الميعاد، يسقيهم من السماء، وأن ينعم ذلك الرب القدير يهوة، على كل منٌ بالولايات المتحدة التي تأسست بقدرته، بالبركات الدنيوية والروحية التي انعم بها على شعبه" (¬2). أما الرئيس الثاني لأمريكا جون آدمز فقد بعث في عام 1818 م برسالة إلى الصحفي اليهودي، مردخاى مانويل نوح عبر فيها عن أمنيته في أن يعود اليهود إلى جوديا ـ يهودا ـ لتصبح أمة مستقلة .. "لأنني اعتقد أنه بعد أن يعودوا إلى مكانه مستقلة، لن يكونوا مطاردين بعدها، سيزيلون من على أنفسهم، التصلب والغرابة في طباعهم" (¬3). ¬

(¬1) أربع كتب في الماسونية ـ شاهين بك مكاريوس ـ ص118 - ط1/ 1994 - مكتبة مدبولي (¬2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص163 (¬3) مكان تحت الشمس ـ بنيامين نتنياهو ـ ترجمة محمود عوده الدويري ص75أو- بنيامين نتنياهو - ارهابي تحت الاضواء - ص 17 - مكتبة مدبولي - ط1 1996

توماس جيفرسون

توماس جيفرسون اقترح الرئيس الثالث لأمريكا توماس جيفرسون، وواضع وثيقة استقلالها، أن يمثل رمز الولايات المتحدة الأمريكية، على شكل أبناء إسرائيل تقودهم في النهار غيمه وفي الليل عمود من النار، بدلاً من الرمز المعمول به حالياً. وواضح أن هذا الشكل المقترح رمزاً للولايات المتحدة يتفق مع النص التوراتى الوارد في سفر الخروج والذي يقول: "كان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب يهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نور ليضئ لهم" (¬1). أما بنيامين فرانكلين "فقد اقترح أن يكون الشعار صورة موسى وهو يشق البحر الأحمر بعصاه" (¬2). وهنا مرة أخرى تتأكد لنا صهيونية الرمز الأمريكي، وهي صهيونية سبقت إعلان الصهيونية اليهودية بأكثر من قرن كامل، ويضعنا (شفيق مقار) أمام رموز أخرى حيث يقول: "ومن تلك المعطيات أيضاً أن الرسم الأول الذي اقترح لعلم الولايات المتحدة كان رسماً لصور موسى خارجاً من مصر على رأس بني إسرائيل، لكنه ـ وقد أثار جدلاً ـ استعيض عنه برسم النسر، والمسألة مجرد استبدال رمز توراتي برمز توراتي آخر" (¬3). كما أن الرئيس جيفرسون -الذي كان صاحب أول إعلان حرب أمريكي ضد بلد عربي هو ليبيا في عام 1801 - كان من ابلغ من تحدث عن المعنى الإسرائيلي لأميركا بل انه ختم خطابه التدشيني لفترة الرئاسة الثانية بتعبير يشبه الصورة التي اقترحها لخاتم الجمهورية "إنني بحاجة إلى فضل ذلك الذي هدى آبائنا في البحر، كما هدى بنى إسرائيل واخذ بيدهم من أرضهم الام ليزرعهم في بلد يفيض بكل لوازم الحياة ورفاه العيش" (¬4). ¬

(¬1) البعد الديني في السياسة الأمريكية اتجاه الصراع العربي الصهيوني ـ د. يوسف الحسن ـ ص41 - مركز دراسات الوحدة العربية - ط3 2000 (¬2) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص275 (¬3) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ـ ص118 (¬4) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص131

جيمس ماديسون

جيمس ماديسون كان جيمس ماديسون الرئيس الرابع لأمريكا، رجلاً شديد التدين اتجه طموحه ـ قبل أن تجتذبه السياسة ـ إلى سلك الكنيسة، ولذا امتاز على غيره من الرؤساء الأمريكيين المؤمنين بإجادته اللغة العبرية وتبحره في آدابها، أي العهد القديم وكتابات الكهنة والأحبار اليهود (¬1). وبتأثير تلك الخلفية العبرانية، كان فعل العامل الديني في حالته قوياً، حيث قام بتعيين الداعية اليهودي الشهير (موردخاي نوح) قنصلا فخرياً للولايات المتحدة الأمريكية في تونس ـ بناء على طلب نوح نفسه ـ سنة 1813م، ليصبح أول يهودي يمثل الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تبع هذا التعيين المشؤوم ان قامت أمريكيا وفي عام 1815م بإعلان الحرب على الجزائر بحجة الدفاع عن المصالح الأمريكية في المنطقة .. ومن الجزائر انتقلت القوات الأمريكية إلى تونس في عام 1816م (¬2). ولما عاد نوح إلى أمريكا، حاول إقامة مشروع (أرارات) تبركاً باسم الجبل الذي تقول التوراة أن سفينة نوح عليه السلام رست عليه، ليكون وطناً قومياً لليهود على جزيرة بنهر نياجرا، ولما فشلت المحاولة اتجه نوح بمشروعه إلى سوريا، وفي هذا الصدد ألقى محاضرة قال فيها: "إن عدد اليهود قد بلغ 7 ملايين (كان هذا في1837 م) وإنهم يتحكمون في ثروات طائلة لا سبيل إلى مقارنتها بما في يد الآخرين، وعلى هذا فـ (إعادة احتلال اليهود لسوريا) ليست مستحيلة، خاصة وأن دولتهم التي وصفها بأنها حكومة عادلة ليبرالية ومتصفة بالتسامح، ستكون عوناً كبيراً لمصالح فرنسا وإنجلترا" (¬3). وفي سنة 1844 م عدل نوح خطته مرة أخرى، عازماً على إقامة وطن اليهود القومي في صهيون (فلسطين)، وكعادته، ألقى نوح محاضرة ضمنها مشروعه الجديد، واقترح أن يتم السعي لدى سلطان تركيا للحصول على موافقته على شراء الأرض اللازمة لإنشاء الوطن اليهودي بأموال اليهود وامتلاكها. ويبدو أن دعوة نوح ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص167 (¬2) الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك ص88 (¬3) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص174

الرئيس المنصر جون كوينسي آدمز

السابقة، كانت صدى لموعظة المبشر ليفى برسونس في عام 1821م التي قال فيها: "في قلب كل يهودي، تتأجج رغبة لا يمكن إخمادها، لاستيطان الأرض التي أعطيت لأجدادهم إذا دمرت الإمبراطورية العثمانية، فان معجزة فقط يمكنها أن تمنع عودة اليهود الفورية إلى أرضهم، من كافة أقطار العالم" (¬1). والمهم هنا هو أن محاضرة نوح تلك لم تلفت نظر اليهود إليها، لكن المسيحيين الصهاينة أولوها اهتماماً كبيراً، وكتب (اسحق ليسر) في صحيفة الغرب يقول: "أثارت محاضرة نوح قدراً كبيراً من الاهتمام بين مواطنينا المسيحيين، فاق بكثير ما أثارته من اهتمام بيننا نحن اليهود" (¬2). الرئيس المنصر جون كوينسي آدمز أصبح جون آدمز الرئيس السادس للولايات المتحدة الأمريكية في عام 1825 م، وخلافاً لأسلافه الثلاثة اكتفى آدمز بفترة رئاسية واحدة، وآدمز لم يشتهر بأنه كان وزيراً لخارجية أمريكا أو رئيس لها فحسب، بل اشتهر بدوره كمنصر بروتستانتي انصب جهده على اختصار الطريق إلى تحقق مخطط الله، عن طريق محاولة إقناع اليهود بتغيير رأيهم فيما يتعلق بمسألة المجيء، والقبول بالمسيح (حسب الإيمان المسيحي) والتعجيل بذلك ببدء العصر الألفي السعيد، حيث كان هذا هو الاعتقاد السائد لدى المسيحيين الصهاينة في ذلك الوقت، وأنه لابد من أن يشرق عصر ذهبي يضع حداً للظلم وللشر المستشري في العالم. وقد علق على ذلك الباحث جروس بقوله: "إن الطموح إلى تحويل اليهود إلى المسيحية اكتسب قوة جعلت منه شبه حملة صليبية اجتماعية في مستهل حياة الجمهورية الأمريكية، وأنه تولدت عنه حركة شاعت بين النخبة الأمريكية كان من أوائل مؤيديها جون كوينسي آدمز، حيث تحول الرمز اللاهوتي إلى مخطط سياسي هو المشروع الصهيوني الذي اضطلعت الولايات المتحدة الأمريكية بدور القائد في تنفيذه" (¬3). ¬

(¬1) مكان تحت الشمس ـ بنيامين نتنياهوـ ترجمة محمد الدويرى ـ ص77 (¬2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار- ص178 (¬3) المصدر السابق- ص182

وكمنصر بروتستانتي عمل آدمز من موقعه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق الحلم الصهيوني، "حيث بدل جهوداً كبيرة أثمرت عن عقد اتفاقية مع الإمبراطورية العثمانية في عام 1830 م، استغلتها الكنيسة البروتستانتية في إطلاق العنان للبعثات التبشيرية البروتستانتية في المنطقة، والتي انتشرت ستون بعثه منها، بقرار من المجلس الأمريكي للبعثات الخارجية من اليونان حتى إيران، ومن اسطنبول وحتى القدس. وهذه البعثات هي التي مهدت الطريق أمام مشاريع الاستيطان اليهودي في فلسطين عملاً بتعاليم الصهيونية المسيحية التي تؤمن بها الكنيسة البروتستانتية الأمريكية" (¬1). حيث لعبت هذه البعثات دوراً تخريبياً في المنطقة العربية والعالم الإسلامي باعتبارها أداة وركيزة للاستعمار والصهيونية، ومعول هدم وتدمير لكل ما يمت للإسلام بصله (¬2). فالتبشير كان ولازال دعامة من دعامات الاستعمار وأداة من أدوات الفكر الغربي، فقد قدم الاستعمار ولا يزال يقدم العون المادي والمعنوي للمبشرين ويقوم بحمايتهم وإزالة الصعاب من أمامهم. "فارتباط التنصير بالاستعمار يكاد يكون عضوياً، حيث مهدت السلطات الاستعمارية لنشاط التنصير ووفرت له الحماية والأمن والدعم المعنوي والمادي، وكان كثير من مبشري القرن التاسع عشر الميلادي يتحركون بعقلية صليبية وكانوا استعماريين يقومون بدور مزدوج في التبشير وخدمة مخططات دولهم الاستعمارية. لقد كان المبشرون هم الرواد الأوائل للاستعمار الثقافي الغربي في عالمنا الإسلامي وبلادنا العربية" (¬3). ويقول علي عبد الحليم محمود: "كان التبشير هو الخطوة الأولى التي مهدت للاستعمار ومكنته من الاستيلاء على بلاد المسلمين وتسخير أرضهم وخيراتها وكثير من أبنائها لخدمة الأغراض السياسية والتبشيرية معاً" (¬4). ويقول باحث آخر: "إن التبشير الديني نفسه ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك ص89 (¬2) راجع كتابنا أحمد ديدات بين القاديانية والإسلام مكتبة مدبولى (¬3) منطقة الخليج العربي أمام التحدي العقدي - سعيد عبد الله حارب ص70 - نشر مكتبة الأمة بدبي ط 1985 (¬4) الغزو الفكري وأثره في المجتمع الإسلامى المعاصرـ على عبد الحليم ـ ص165 - دار المنار- القاهرة 1989

أندرو جاكسون .. وخرافة المعاد

ستار للتبشير التجاري والسياسي وأساس متين للاستعمار، ولنذكر أن أكثر الفتنة الداخلية في الشرق من دينية وسياسية واجتماعية إنما قام به المبشرون الذين استأجرهم الاستعمار" (¬1). أندرو جاكسون .. وخرافة المعاد عبر (أندرو جاكسون) الرئيس الأمريكي السابع (1829ـ1837م) عن تعاطفه مع اليهود عندما كافأ مؤيده اليهودي موردخاي نوح ـ الذي ظهر على مسرح الأحداث في عهده مرة أخرى بتعيينه مشرفاً عاماً على ميناء نيويورك. كما عبر في أحاديثه الخاصة وخطبه عن إيمانه بضرورة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين متبنياً نفس الرؤية التي عبر عنها (حزقيا نايلز) رئيس تحرير مجلة (نايلز ويكلي ريجستر) في مجلته حيث قال: "إن النتائج التي تترتب على إعطاء اليهود ذلك الوطن فلسطين ستتجاوز كل ما يمكن أن يتصوره أي متكهن بالنتائج. فصحارى فلسطين المجدبة ستخضر وتورق وتزهر وتتفتح كالورود، وأورشليم التي باتت في الحضيض (بسبب وجودها في حوزة العرب المسلمين) سوف ترتفع ثانية وتضارع أكبر مدن العالم جمالاً وثراء وروعة" (¬2). وهنا نلاحظ تطابق كامل بين نظرة المسيحيين البروتستانت على ضفتي الأطلسي تجاه فلسطين، من خلال الاعتقاد بأنها صحراء مجذبة وقاحلة. أول تدخل لنصرة اليهود خارج أمريكا شهد عهد الرئيس الأمريكي الثامن (مارتين فان بورين)، (1837ـ1841م)، أول تدخل أمريكي فيما وراء البحار لنصرة الجنس اليهودي. ففي1840 م تلقى وزير الخارجية الأمريكي (جون فور سايث) مكاتبة رسمية سرية وعاجلة من قنصل بلاده في بيروت، تضمنت المكاتبة قصة القبض على عدد من اليهود في دمشق، بسبب قيامهم بذبح أطفال ورجال دين مسيحيين لاستخدام دمهم في صنع فطير عيد الفصح اليهودي. وعلى الفور رد الرئيس بورين، ووزير خارجيته فورسايث على المكاتبة معترضين على التقارير الواردة عن أحداث مزعومة في دمشق .. والتي ¬

(¬1) التبشير والاستعمار في البلاد الإسلامية - د. مصطفى خالدي، د. عمر فروخ ص 34 - ط 3 1964 (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ـ 184

العمل من أجل تحقيق النبوءات التوراتية

اعتبراها "مثالاً سيئاً على التعصب والخرافات الشائعة في العالم القديم، وهي أمراض سعت الولايات المتحدة إلى أن تظل بمنجاة منها". وبناء عليه فقد صدرت التعليمات إلى قنصلي أمريكا في الإسكندرية والقسطنطينية بـ "بذل المساعي الحميدة لصالح أفراد ذلك الجنس اليهودي المضطهد المقهور" (¬1)، كما سارع المبعوث الأمريكي إلى بريطانيا بالإعراب للحكومة البريطانية عن "بالغ القلق إزاء ضروب القسوة التي تمارس تجاه اليهود في الشرق" (¬2). العمل من أجل تحقيق النبوءات التوراتية منذ البداية كان التطلع إلى العصر الالفي السعيد واعادة اليهود إلى ارضهم، يشغل تفكير الرواد الاوائل، ولعل كريستوفر كولومبوس كان أول من حمل هذه العقيدة إلى الولايات المتحدة، فقد كتب في مذكراته إن العالم سوف ينتهي في عام 1650م، وان اكتشافه للعالم الجديد هو جزء من خطة الهية لاقامة جنة الالفية. وقال في مذكراته ايضا: "إن الله جعلني رسولاً إلى الجنة الجديدة والى الأرض الجديدة التي تحدث عنها القديس يوحنا في نبوءاته، وهو الذي أرشدني إلى المكان الذي أجدها فيه" (¬3). وفي عام 1814، نشرت في نيويورك الموعظة المشهورة للقس، جون مكدونالد، أكد فيها الدور المركزي الذي تنبأ به النبي يشعياهو، للدولة الجديدة في أمريكا، في إعادة اليهود إلى أرضهم، حيث قال القس: "يا سفراء أمريكا، انهضوا واستعدوا لإسماع بشرى السعادة والخلاص لأبناء شعب منقذكم، الذين يعانون من الظلم ... أرسلوا أبناءهم واستخدموا أموالهم في سبيل تحقيق هذه الرسالة الإلهية" (¬4). و في نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، بدأ التعاطف الأمريكي مع اليهود يتحول إلى عمل ملموس لتحقيق النبوءات التوراتية، سواء عن طريق أفراد أو ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية (1891ـ1948) - بول مركلي - ترجمة فاضل جتكر ص 111 (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار - 186. (¬3) الدين في القرار الأمريكي - محمد السماك - ص104 (¬4) مكان تحت الشمس - بنيامين نتنياهو- ترجمة محمد الدويرى - ص77

جمعيات أو كنائس. ففي عام 1840 م بعث مؤسس الكنيسة المورمينية، جوزيف سميث، تلميذه اورسون هايد من أجل تسهيل نبوءة (بعث إسرائيل)، ومن بين كتب التوصية التي حملها هايد معه، كتاب من وزير خارجية الولايات المتحدة، وآخر من حاكم ولاية إيلينوى. يقول هايد: "إن فكرة نهضة اليهود في فلسطين تقوى يوماً بعد يوم .. لقد بدأت العجلة الكبرى بالدوران، ولا شك في ذلك، وأن الرب أمر بأن تدور هذه العجلة على محورها" (¬1). وفي عام 1850 م قام (واردكريون) القنصل الأمريكي في القدس، بتأسيس مستوطنة زراعية في منطقة القدس، وخطط لتأسيس مستوطنات أخرى، وحاول الحصول على دعم زعماء اليهود، ولكنهم لم يستجيبوا له رغم أنه تحول عن ديانته المسيحية إلى اليهودية. وكان القنصل الأمريكي يرى أن تلك المستوطنات الزراعية ستكون البداية الأولى لفلسطين الجديدة، حيث ستقيم الأمة اليهودية وتزدهر (¬2). وقد حذا حذو القنصل الأمريكي، بعض المواطنين الأمريكيين، إذ أسسوا مستوطنة زراعية بالقرب من يافا لنفس الغرض. وهكذا، وفي ظل هذا الوضع كان من الطبيعي أن تظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي في أمريكيا عدة مذاهب بروتستانتية نادت بعودة اليهود إلى فلسطين، انطلاقا من إيمانها بالمعتقدات المسيائية. ولم يكتف أصحاب هذه المذاهب بالدعوة، بل عملوا من أجلها (¬3). فقد تبنت كثير من الفرق البروتستانتية الدعوة إلى هذه الأفكار، مثل المشيخيين والمعمدانيين والمرمون والسبتيين وغيرها من الفرق. وقد علق على ذلك هنرى فورد في كتابه ـ اليهودي العالمي ـ بقوله: "لقد سيطر اليهود على الكنيسة في عقائدها وفي حركة التحرر الفكري المسماة بالليبرالية، وإذا كان ثمة مكان تدرس فيه القضية اليهودية دراسة صريحة وصادقة، ¬

(¬1) المصدر السابق- ص78. (¬2) الوجه الآخر .. العلاقات السرية بين النازية والصهيونية ـ محمود عباس ـ ص 286 - ط1984 - دار ابن رشد عمان. (¬3) فلسطين ـ القضية * الشعب * الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 288

يهودي يوبخ الرئيس

فهو موجود في الكنيسة العصرية، لأنها المؤسسة التي أخذت تمنح الولاء دون وعى أو إدراك إلى مجموعة الدعاية الصهيونية" (¬1). كما أنه بدأ واضحاً خلال هذا القرن مدى التعاطف مع اليهود وآمالهم في العودة إلى فلسطين، سواء على المستوى الشعبي أو المستوى الحكومي، حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بفترة كبيره، حيث ازدادت في هذه الفترة المشاريع الهادفة إلى إعادة اليهود إلى فلسطين، واحتل مشروع موردخاى نواه (نوح) الذي تقدم به سنة 1845 أمام جمع من المسيحيين في نيويورك، مركز الصدارة بين مشاريع العودة، فهو ينص ـ إلى جانب التطورات التي أضافها إليه فيما بعد ـ على عودة اليهود نهائيا إلى فلسطين. إلا أنه كمرحلة تمهيدية دعاهم إلى إقامة المستوطنات في منطقة آرارات قرب بافالو وشلالات نياجرا. وقد أيد الرئيس الأمريكي جون آدمز عودة اليهود، في رسالة وجهها إلى نواه" (¬2). يهودي يوبخ الرئيس في عام 1841م تعاقب ثلاثة رؤساء على حكم أمريكا، أولهم (مارتين فان بورين)، الذي انتهت رئاسته في تلك السنة، وثانيهم (ويليم هنري هاريسون)، الذي وافته المنية بعد شهر واحد من تنصيبه رئيساً تاسعاً للولايات المتحدة الأمريكية، والثالث الأخير هو (جون تايلر)، (1841ـ1845م) الذي أصبح الرئيس الأمريكي العاشر، وكان عليه أن يتلقى أول توبيخ يهودي علني لرئيس أمريكي، عندما زل لسانه أثناء تأبينه الرئيس الراحل واصفاً أمريكا بأنها أمة مسيحية، وهو خطأ عاقبة عليه (يعقوب حزقيال) القيادي اليهودي من فرجينيا برسالة قال فيها: "وأين نحن؟ " وبدلاً من أن يغضب الرئيس من هذا المتطفل المنتمي إلى أقلية تريد تعليم الرئيس، والسيطرة على الأغلبية، بدلاً من هذا بادر تايلر إلى الاعتذار مؤكداً أنه يكن ¬

(¬1) اليهودي العالمي (المشكلة الأولى التي تواجه الاعالم) ـ هنري فورد ـ تعريب / خيري حماد ـ ص 59 - دار الافاق الجديدة, 1986 (¬2) فلسطين ـ القضية * الشعب * الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص256

فرانكلين بيرس

لليهود أعمق الاحترام وأصدقه، وبعدها وبخ الرئيس ـعلناًـ الجنرال (وينفيلد سكوت) لأنه رأس مؤتمراً من ضباط الجيش والبحرية لم يمثل فيه اليهود" (¬1). أما خلفه (جيمس نوكس بولك) الرئيس الأمريكي الحادي عشر (1845ـ184 م) فقد عمد إلى تشكيل فيلق الحرس اليهودي الأول في بلتيمور بولاية مريلاند (1846م)، وهو أول فيلق في الجيش الأمريكي يكون كل جنوده وضباطه من اليهود، وبهذا سبقت أمريكا تشكيل الفيلق اليهودي البريطاني بـ 98 سنة، ومعروف دور الفيلق اليهودي البريطاني في اغتصاب فلسطين. وإضافة إلى هذا أعاد بولك تجربة تعيين قناصل يهود لأمريكا في الخارج. فرانكلين بيرس في منتصف القرن التاسع عشر وفي عهد الرئيس، (فرانكلين بيرس)، (1853 - 1857م)، نجح اليهود في احتلال أعلى منصة قضاء أمريكية، وتمكنوا من أن يصبحوا المحكمين الأساسيين في صفقات أمريكا ومعاهداتها. فقد كان بيرس معروفاً بتدينه (أي بهوسه الصهيوني)، وبارتباطاته اليهودية الوثيقة، ومن خلال ذلك التدين حقق اليهود اختراقاً جديداً بالغ الأهمية، تمثل في فتح أبواب المحكمة العليا أمام اليهود، وقام بإسناد منصب وزير بالسلك الدبلوماسي إلى (أوجست بلمونت) في لاهاي، فكان ذلك بمثابة فتح لأبواب المناصب الدبلوماسية العليا أمام اليهود، الذين كان اختراقهم للسلك الدبلوماسي الأمريكي قد اقتصر حتى ذلك الوقت على مستوى القناصل، وبأعداد محدودة للغاية (¬2). وإمعاناً في إظهار الولاء، قام بيرس بتعيين رسام الخرائط اليهودي (جوليوس بين) مشرفاً عاماً على أنشطة وزارة الحرب في تخصصه، وهي مخاطرة كبيرة أوصلت اليهود إلى التحكم في أدق المراكز العصبية للعسكرية الأمريكية. ¬

(¬1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص188 (¬2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص192

أمريكيا تعاقب سويسرا من أجل اليهود

أمريكيا تعاقب سويسرا من أجل اليهود بظهور الرئيس الأمريكي الخامس عشر (جيمس بوكانان) (1857ـ1861م) على مسرح الأحداث، أقدم بوكانان على أول إجراء من نوعه في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، إذ دعا إلى البيت الأبيض وفداً من كبار الحاخامات اليهود ضم: اسحق ماير وايز، وداود عينهورن، واسحق ليسر، وذلك لمعرفة مطالبهم فيما يتعلق بمشروع معاهدة تجارية ألحت وزارتا الداخلية والخارجية على إبرامها مع سويسرا، بدلاً من تلك التي خربها تدخل منظمة بناي بريث (اليهودية الصهيونية المتطرفة) في عهد الرئيس (ميلارد فيلمور)، وحتى يرفع عن نفسه الحرج أمام اليهود اجتمع (الرئيس شخصياً) مع الحاخامات وأعلن عدة تعديلات جذرية على المعاهدة، مع إعلان أن الغرض من هذه التعديلات هو إعلام السويسريين بأن أمريكا لا تقر موقف المقاطعات السويسرية من القانون الذي يقضي بحق المقاطعات في منع اليهود من الإقامة، وإن كانوا يتمتعون بالجنسية الأمريكية. و بوكانان هنا كان يمارس ذلك الحق الذي أعطته أمريكا لنفسها، منذ أن أعلن (جيمس مونرو) مبدأه الخاص بحق أمريكا في التدخل خارج حدودها، وهو المبدأ الذي أقر ـ منذ البداية ـ لصالح اليهود، وها هو بوكانان يواصل تطبيقه ـ ولصالح اليهود كذلك ـ متدخلاً في شؤون المقاطعات السويسرية، وقد واصل الرؤساء التاليين له نفس السياسة حتى حصل اليهود على كل ما أرادوا من القانون السويسري في 1874م، وظلوا يواصلون طريقهم مدعومين من أمريكا حتى أصبحت سويسرا واحدة من أهم قواعد الصهيونية في العالم. ويقارن شفيق مقار بين ما فعله بوكانان، وما فعله السناتور الأمريكي (سكوب جاكسون)، عندما عمد إلى تخريب قانون التجارة لسنة1974م، وأوقف بذلك تنفيذ الاتفاقية التجارية لبيع القمح التي أبرمت بين واشنطن وموسكو في 1972م، معلقاً بيع القمح للاتحاد السوفيتي ومنح وضع الدولة الأكثر رعاية، على فتح أبواب الهجرة أمام اليهود السوفييت (¬1). ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص194

الجماعات المسيحية الصهيونية خلال القرن التاسع عشر

الجماعات المسيحية الصهيونية خلال القرن التاسع عشر في هذا القرن أيضاً ظهرت كثير من الطوائف والجمعيات المسيحية التي دعت إلى ضرورة إعادة اليهود إلى أرض فلسطين، حيث أخذت تنشر دعوتها بين العامة، بالإضافة إلى سعيها للتأثير على الشخصيات المهمة في أمريكيا، حيث ساعدت نصوص الدستور الأمريكي وخاصة في بنده الأول على امتداد وإنشاء المذاهب في أمريكا، والتي بلغ عددها 1200 مذهباً، وحمتها بحيث لا يمكن للكونغرس صياغة أي تشريع يمنع أي مذهب ديني، أو يحد فترة ممارسة الحريات الدينية، وقد جاء ذلك انطلاقاً من أن مجموعات الاستيطان الأولى التي وفدت إلى أمريكا جاء بعضها هرباً من الملاحقات الدينية في موطنها الأصلي (¬1). جماعة أخوة المسيح في عام 1848م أسس جون طوماس الجماعة الدينية المعروفة باسم (أخوة المسيح) والتي تقوم دعوتها التبشيرية بشكل رئيس، على تطبيق النبوءات التوراتية وسفر الرؤيا، على الأحداث الحاضرة والمستقبلية. "وقد ساهمت هذه الطائفة بلسان أحد أتباعها وبقلمه، في إظهار الحركة الصهيونية بمظهر البينة أو العلامة على مجيء المسيح قريباً ليبسط حكمه وسلطانه على العالم أجمع من مقره في القدس، وذلك كما جاء في كتاب (فرانك جنادى) فلسطين واليهود، أو الحركة الصهيونية بينة لظهور المسيح عما قريب في القدس، ليحكم العالم بأسره من هناك" (¬2). جمعية بنى بريث (أبناء العهد) في عام 1843م أنشأ هنرى جونز بالتعاون مع مجموعة من الصهاينة الأمريكيين، جمعية بنى بريث في مدينة نيويورك، بهدف تسهيل إعادة اليهود إلى فلسطين. ومن نيويورك انتشرت فروع الجمعية في أمريكيا وجميع أنحاء العالم. وقد ¬

(¬1) شهود يهوه بين برج المراقبة الأمريكى والتلموذ اليهودي ـ حسين عمر حماده - ص222 - دار قتيبه 1990 (¬2) إسرائيل الكبرى ـ أسعد رزوق ـ ص 219.

جمعية شهود يهوه

أنشئ فرع للجمعية في فلسطين في عام 1888 م من اجل المساهمة في بناء المستعمرات اليهودية لتكون نواة للوطن القومي اليهودي. كما تم فتح فرعين للجمعية في مصر (¬1). وقد استطاعت هذه الجمعية وفروعها المنتشرة في كثير من البلدان التأثير على كثير من الشخصيات المهمة في أمريكيا والعالم، من أجل كسب دعمهم ومساندتهم للمطالب الصهيونية في فلسطين. وقد حرص غالبية الرؤساء والمسؤولين الأمريكيين على المشاركة في المناسبات والحفلات التي تقيمها الجمعية، لكي يشيدوا بالأعمال العظيمة التي تقوم بها هذه الجمعية من أجل خدمة الأهداف الصهيونية (¬2). جمعية شهود يهوه أنشأت هذه الجمعية في ولاية بنسلفانيا الأمريكية في عام1884 م، ثم انتقلت إلى مدينة نيويورك في عام 1909م، حيث أخذت توفد المبشرين إلى جميع أنحاء العالم لكسب التأييد لفكرة إعادة اليهود إلى أرض فلسطين، تحقيقاً للنبوءات التوراتية. وقد وصل نشاط هذه الجمعية إلى البلاد العربية نفسها، حيث تصدى لها رجال الدين المسيحي من كل الطوائف المسيحية، وفندوا دعاوى جماعة شهود يهوه باعتبارها ضلالات وهرطقات تسعى لتصديع الكنيسة وكسر عقائدها خدمة لليهودية والصهيونية التي تهدف: 1. تفسير العهد القديم تفسيراً يهودياً. 2. التبشير بفلسطين وطناً قومياً لليهود العائدين لتأسيس دوله برئاسة المسيح. ¬

(¬1) الماسونية في المنطقة 245 ـ أبو إسلام أحمد عبد الله ـ ص 52 - القاهرة، دار الزهراء للإعلام العربي، ط 1 - 1986م (¬2) الماسونية وموقف الإسلام منها - د. احمد الرحيلي- ص75 - دار العاصمة للنشر والتوزيع- النشرة الأولى 1415هـ

اندرو جونسون

3. التركيز على كتاب يوحنا لتفسيره تفسيراً يهودياً، حيث وجد اليهود في رؤيا يوحنا فخاً لتضليل المسيحيين، فانصرف شهود يهوه إليه ليبشروا بقرب مجيء المسيح، ولكن مسيحهم المنتظر هو مسيح يقيم حكومة عالمية في القدس وزراءها من اليهود (¬1). يقول عبد الله التل، في كتابه جذور البلاء عن هذه الجمعية: "هي جمعية يهودية ترتدي ثوباً مسيحياً مزيفاً، وهى في الواقع من أخطر الجمعيات اليهودية في العالم، ذلك أنها تقوم على مبدأ خداع الجماهير المسيحية الساذجة، وإدخال نبوءات التوراة في النفوس المؤمنة ليصبح الاعتقاد جازماً عند المسيحيين، بوجوب عودة اليهود إلى أرض الميعاد. وطريقة التبشير عند أتباع هذه الجمعية، هي اقتحام بيوت الناس بوقاحة عجيبة والبدء بإلقاء دروس دينية من التوراة اليهودية، لاستدرار عطف السامعين وكسبهم في صف الداعية، إلى ضرورة عودة اليهود لأرض الميعاد، تحقيقاً لأوامر اليهود. ولقد تسربت هذه الجمعية إلى البلاد العربية، وخدعت حكومات عربية كثيرة، فتغاضت عن نشاطها، وفي لبنان استفحل نفوذها، فهب فريق من رجال الدين المسيحي الواعين وهالهم التطبيق العملي لتعاليم هذه الجمعية، وقاد المعركة ضد شهود يهوه، الخورى، جورج فاخورى، وفضح أسرارها وكشف حقيقتها" (¬2). كما قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بطردهم من مصر ووقف البابا شنوده وقيادات الكنيسة المصرية وجها لوجه أمامهم وتم فضح مخططاتهم للمواطنين (¬3). اندرو جونسون بعد اغتيال الرئيس الأمريكي (ابراهام لنكولن)، أصبح (أندرو جونسون 1865 ـ 1869م) الرئيس السابع عشر للولايات المتحدة الأمريكية، حيث أبدى تعاطفه مع اليهود وكان المتحدث الرئيس في حفل افتتاح معبد (فاين ستريت) بمدينة ناشفيل ¬

(¬1) شهود يهوه بين برج المراقبة الامريكى والتلموذ اليهودي ـ حسين عمر حماده ص110 (¬2) جذور البلاء ـ عبد الله التل ـ ص 156 - المكتب الإسلامى, 1978 .. (¬3) كنائس الشرق تكافح أعداء المسيح الجدد ـ شكري عازرـ جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672

يوليسيس جرانت

في 1874م، حيث اصطحبه الحاخام اسحق ماير وايز إلى المعبد في عربته، وحين صعد جونسون إلى المنصة كان يعتمر اليارمولكا ـ الطاقية اليهودية المعروفة ـ وقال إنه: "لم يوجد من امتلأ حباً لليهود مثله بين أبناء ديانته المسيحيين جميعاً، ولم يوجد من اهتم اهتمامه العميق والدائم بنجاح اليهود ورخائهم وازدهار ديانتهم ومعبدهم". ذلك المعبد الذي قال عنه إنه "سيظل النصب المقدس الذي يجسد كد اليهود ومثابرتهم واستحقاقهم النجاح والرخاء والرفاه، لا في مدينة ناشفيل فحسب، بل وفي كل مكان" (¬1). يوليسيس جرانت كان يوليسيس جرانت هو الرئيس الثاني القادم من صفوف العسكرية الأمريكية بعد الحرب الأهلية ليصبح الرئيس الثامن عشر (1869 - 1877م)، وعلى الرغم من بزوغ نجمه كقائد ميداني فذ، فإن القرار الذي سبق أن أصدره ـ وألغاه الرئيس إبراهام لنكولن ـ بإبعاد اليهود خارج تينسى خلال 24 ساعة ظل يطارده، وما كان يمكن لجرانت أن يحصل على الرئاسة لولا المساعدات الجادة التي قدمها إليه عدد من قادة اليهود، إذ أدركوا أن قدوم جرانت المحمل بعقدة الذنب سيعطيهم فرصة أكبر لابتزاز الرئيس، وربما هذا هو ما دفع سيمون وولف -أحد أهم من تولوا الدعاية لجرانت من اليهود، وسنراه بسرعة قنصلاً لأمريكا في مصر ـ للمفاخرة بأن "بوسعه أن يقرر بمنتهى الوضوح، أن الرئيس يوليسيس جرانت فعل من أجل اليهود طوال مدتي رئاسته من 1869م إلى 1877م، أكثر مما فعل أي رئيس أمريكي دخل البيت الأبيض قبله" (¬2). هايز وإجازة السبت نجح رذرفورد هايز (1877ـ1881م) في أن يصبح الرئيس الأمريكي التاسع عشر، وفي عهده، كان عدد الموظفين اليهود في الإدارة الأمريكية قد زاد إلى الحد الذي جعل صوتهم يرتفع مطالباً بمنحهم يوم السبت إجازة اتساقاً مع تحريم التوراة ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص201 (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص202

أول يهودي يمثل أمريكا في مصر ..

للعمل في ذلك اليوم. وعندما تباطأت إدارة هايز في الاستجابة لذلك الطلب، نظراً لما وجدت فيه من ظلم للموظفين الآخرين من غير اليهود، أوعزت القيادات اليهودية إلى مرشح لشغل منصب بالسلك الدبلوماسي أن يعلن أنه، عندما يباشر مهام منصبه، لن يكون بوسعه أن يعمل في يوم السبت، وأعطت المسألة تغطية إعلامية جعلتها قضية عامة. ولما وصلت الرسالة واضحة إلى هايز، سارع بالتصريح للصحفيين بأن "أي مواطن يكون على استعداد لأن يضحي بفرصة كهذه على مذبح معتقداته الدينية لابد أن يكون مواطناً صالحاً، ومن الظلم لدافعي الضرائب الأمريكيين أن نخسره" وأعلن عن موافقته على المطلب اليهودي (¬1). بقى أن نشير إلى أن هايز بدأ رئاسته بتعيين (بنيامين وبييكسوتو) رئيس (البناي بريث) قنصلا لأمريكا لدى روسيا، مع تكليفه بمهمة مماثلة لتلك التي أداها في رومانيا، فقد كان عليه أن يحقق في تصرفات حكومة روسيا غير الطيبة إزاء اليهود، والتي أدت إلى إلغاء المعاهدة التجارية التي كانت مبرمة بين روسيا وأمريكا، لكن المهمة لم تتم، فقد رفض القيصر الروسي استقبال المحقق الأمريكي، معلنا رفضه قبوله ممثلا دبلوماسيا لدى بلاط سانت بطرسبرج. أول يهودي يمثل أمريكا في مصر .. لم يعمر الرئيس العشرون (جميس إبرام جارفيلد 1881م) الجنرال الثالث القادم من الحرب الأهلية، في منصبه طويلاً، إذ تم اغتياله، لكنه ككل الرؤساء من عمر منهم ومن لم يعمر ـ كان قد أدى للصهاينة خدمة متميزة بالفعل، حين عين اليهودي (سيمون وولف) قنصلاً لأمريكا في مصر، معلناً ـ صراحة ـ عن واحدة من أعقد عُقد الصهاينة، سواء منهم اليهود والمسيحيون، وهي عقدة عبودية اليهود في مصر، وفي هذا قال جارفيلد: "إنه يشعر بسعادة غامرة لأنه عين سليل الشعب الذي استعبد في مصر قديماً مبعوثاً دبلوماسياً إلى ذلك البلد من الأمة الأمريكية الحرة العظيمة". ¬

(¬1) المصدر السابق- ص203

المشيخية في البيت الأبيض

وقد كتب سيمون وولف مذكرات مهمة أثناء وجوده في مصر، ترجمت إلى العربية في الستينيات تحت عنوان (مصر وكيف غدر بها)، وفي هذه المذكرات نلاحظ أن التاجر اليهودي وولف، يفحص بضاعته (مصر) جيداً، ممنياً النفس بأن الثمرة أوشكت على النضج والسقوط في يده. ولنلاحظ أنه عمل في مصر في أحرج سنوات حياتها، تلك التي سبقت ـ مباشرة ـ سقوطها في قبضة الاحتلال البريطاني 1882م. ولم يختم جارفيلد حياته قبل أن يبعث رسالة إلى حكومة القيصر الروسي بشأن أوضاع اليهود، لكن القيصر لم يعرالرسالة التفاتاً، ويبدو أن الصد المتكرر الذي واجه به قيصر روسيا محاولات التدخل الأمريكية، نبه الرئيس الحادي والعشرين " (تشستر آلان آرثر) (1881ـ1885م) إلى وجود صعوبات تحول دون التدخل لصالح اليهود أحياناً، ولهذا فقد حاول حل هذه المشكلة بتعيين، أدولفوس سولومونز ـ رئيس البناي بريث ـ ممثلا للولايات المتحدة الأمريكية في هيئة الصليب الأحمر الدولية، التي كانت أمريكا قد انضمت إلى معاهدة جنيف الخاصة بها تواً، وهكذا أصبح بمقدور (بناي بريث) أن تتدخل في شؤون روسيا وغيرها تحت ستار المساعدات الإنسانية عبر هيئة الصليب الأحمر (¬1). المشيخية في البيت الأبيض بعد جارفيلد تولى الرئاسة الأمريكية الرئيس كليفلاند لمرتين منفصلتين، حيث كان كليفلاند مسيحياً بروتستانتياً مشيخياً، أي من إتباع الكنيسة المشيخية التي تعتبر أهم الكنائس المسيحية الصهيونية التي دفعت بأبنائها إلى البيت الأبيض. "والكنيسة المشيخية تستمد تعاليمها من أفكار، جون كالفن (1059ـ1564م) وهو لاهوتي فرنسي بروتستانتي من رجالات الإصلاح الكنسي تحول عن الكاثوليكية علم 1523م، وصار من قادة البروتستانت المشهورين، حيث نشأ عن مبادئه مذهب مهم من المسيحية هو (المذهب الكالفيني) وهو نظام متبع في الكنائس ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص203

وليم بلاكستون والبعثة العبرية نيابة عن إسرائيل

البروتستانتية المعروفة بالكنائس المصلحة، حيث آمن كالفن بأن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد لشريعة الله ونواميسه كما انه لا يعترف بسلطة البابا" (¬1). والمهم هنا هو أن إتباع الكنيسة المشيخية كانوا ولازالوا من أهم مؤيدي اليهود، ولم يقتصر نشاطها في أمريكا بل امتد إلى المنطقة العربية، فالجامعة الأمريكية في القاهرة، وكذلك في بيروت من أعمال الكنيسة المشيخية، والقس صموئيل زويمر) كان مشيخياً، وهو الذي رعى ورأس المؤتمر التبشيري المنعقد في القاهرة ببيت الزعيم (أحمد عرابي) بعد هزيمة عرابي أمام الإنجليز ونجاحهم في احتلال مصر 1882 م، ذلك المؤتمر الذي وضع أسس الهيمنة الغربية لصالح المشروع الصهيوني على منطقتنا (¬2). وفي عهد كليفلاند كانت منظمة بناي بريث الصهيونية، قد بلغت حداً بالغاً من القوة والسطوة، مما جعل الرئيس يرسل إليها برسالة مفتوحة قال فيها إنها "جمعية أنشئت لتحقيق أهداف نبيلة" وإنه: "لا ينبغي أن يقتصر ما تحدثه من أثر على إثارة حماس أعضائها، بل ينبغي أن تستجلب تمنيات النجاح لها من جانب كل من يهمهم الارتقاء بالنوع الإنساني وتنمية الغرائز العليا في الطبيعة الإنسانية". ورجا (الرئيس) أن: "تتقبل الجمعية صادق تمنياته بأن يتضاعف ما كانت قد توصلت إليه من نجاحات تثلج الصدر" (¬3). وليم بلاكستون والبعثة العبرية نيابة عن إسرائيل في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ظهر رجال دين، يطالبون بعمل شعبي لإعادة اليهود إلى فلسطين، وكان من أبرز هؤلاء وليام بلاكستون، "رجل الدين والمؤلف والمليونير الذي ينفق الملايين على التبشير، والذي يعتبر أباً للصهيونية اليهودية، بسبب نشاطه المتواصل من أجل تحقيق النبوءات التوراتية. فقد كان بلاكستون ممولاً، ورجل صناعة كبير، وكان في نفس الوقت شديد التعصب، حج إلى ¬

(¬1) لاهوت التحرير ـ غسان دمشقية ص189 - ط. 1 - دمشق، سوريا: الأهالي للطباعة و النشر 1990. (¬2) حقيقة التبشير بين الماضي والحاضرـ أحمد عبد الوهاب ـ ص161 (¬3) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص204

الرئيس هايسون ومظلمة بلا كستون

الأراضي المقدسة برفقة ابنته في 1888م، وأدعى أن تطويرها زراعياً وتجاريأ لن يتم إلا على أيدي ورثة هذه الأرض وهم اليهود، وعاد ليطلق الشعار الذي استغلته الصهيونية حتى اليوم حيث تحدث عن "الشذوذ المتمثل في أن فلسطين هذه تركت هكذا أرضاً بغير شعب بدلاً من أن تعطى لشعب بغير أرض" (¬1). وفي عام 1878م ألف بلاكستون كتاب (عيسى قادم) الذي بيع منه أكثر من مليون نسخة، وترجم إلى 48 لغة بما فيها العبرية. وقد أثار هذا الكتاب جميع الأمريكيين بكافة طبقاتهم، حيث كان من أكثر الكتب التي تتحدث عن عودة اليهود إلى أرض فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر. وبالإضافة إلى ذلك فقد أسس القس بلاكستون في شيكاغو منظمة سماها (البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل). "وقد عملت هذه المنظمة في مجالات متعددة ودعت اليهود إلى العودة إلى فلسطين، واستمرت هذه المنظمة في العمل حتى يومنا هذا وأصبح أسمها حالياً، أتباع أمريكيا المسيحية" (¬2). وعندما أنشئت الحركة الصهيونية بزعامة هرتزل، "قام القس بلاكستون بإرسال نسخة من التوراة إلى هرتزل، واضعاً خطوطاً وعلامات تحت النصوص التي تشير إلى استعادة فلسطين، ولقد حفظت هذه النسخة في ضريح هرتزل" (¬3). الرئيس هايسون ومظلمة بلا كستون نجح بنيامين هاريسون، مرشح الحزب الجمهوري، في أن يصبح الرئيس الأمريكي الثالث والعشرين (1889ـ 1893م) مزيحاً الرئيس السابق عليه، واللاحق له (كليفلاند). فقد توسطت فترة هاريسون فترتي رئاسة كليفلاند، حيث كان هاريسون هو الوحيد في قائمة رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية القادم من ولاية إنديانا، وهو ـ كذلك الرئيس الأول على رأس المائة الثانية من حكم أمريكا، الذي استهله الرئيس جورج واشنطن 1779م. ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص152 (¬2) من أوراق واشنطن ـ د. يوسف الحسن ـ ص 121 (¬3) الصهيونية غير اليهودية - ريجينا الشريف ص 187

وخلال فترة رئاسته، وجه القس المسيحي الصهيوني بلاكستون (المنتمي إلى الميثوديست أو المنهاجيين) مظلمة إلى هاريسون ممهورة بتوقيع 413 من القيادات المسيحية الأمريكية تطالب بتجميع اليهود في (وطنهم) فلسطين. وقد عبر بلاكستون عن هذا صراحة في مظلمته التي طالب فيها بالمساعدة في إعادة فلسطين لليهود. حيث جاء في هذه العريضة قوله: "لماذا لا نعيد فلسطين لهم ـ اليهود ـ إنها وطنهم حسب توزيع الله للأمم، وهى ملكهم الذي لا يمكن تحويله لغيرهم والذي طردوا منه عنوة. لقد كانت أرضاً مثمرة بفضل فلاحتهم لها، وكانت تعيل ملايين الإسرائيليين الذين كانوا يفلحون سفوحها ووديانها بكل نشاط، كانوا مزارعين ومنتجين، كما كانوا أمة ذات أهمية تجارية كبرى ـ مركز الحضارة والدين. لماذا لا تعيد الدول التي أعطت بموجب معاهدة برلين عام 1878م، بلغاريا للبلغاريين والصرب للصربيين، فلسطين لليهود" (¬1). وقد تسلم الرئيس هارسون هذه العريضة ووعد بأن يأخذها بعين الاعتبار. ومن الجدير بالذكر أن هذه المظلمة وقع عليها عميد أسرة روكفلر، وكبير قضاة المحكمة العليا، ورئيس مجلس النواب بالكونجرس، وعدد كبير من أعضاء مجلس الشيوخ، وكبار القساوسة، ورؤساء تحرير عدد من الصحف أي وقعت عليها أمريكا بالكامل، ممثلة في قادتها السياسيين وقيادات الرأي فيها وهي تلخص وتحدد بصراحة أهم المنطلقات الصهيونية والأكاذيب والأباطيل التي روج الصهاينة مشروعهم من خلالها وهي: ـ أن فلسطين أرض بلا شعب، واليهود شعب بلا أرض. ـ أن اليهود هم أصحاب فلسطين، والمطلوب إعادتهم إليها، راجع السطر الأخير من المظلمة. ¬

(¬1) الولايات المتحدة والفلسطينيون بين الاستيعاب والتصفية ـ د. محمد شديد ـ ترجمة كوكب الريس ـ ص 58 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981

الحكومات الأمريكية والمطالب الصهيونية

ـ أن ازدهار الحياة وخصب الأرض في فلسطين مرتبط بوجود اليهود، وتلك مسألة "إلهية" قدرها الرب ـ في زعمهم ـ بحيث إن أرض فلسطين تظل صحراء قاحلة حتى يأتيها اليهود! ولم تكن مظلمة بلاكستون هي الوحيدة التي قدمت إلى هاريسون، فقد رفع إليه عدد من أغنياء اليهود عريضة بطلب "عقد مؤتمر دولي للنظر في أحقية اليهود في استرداد وطنهم القديم فلسطين". واستجابة لتيار العرائض هذا، وافق الرئيس على الدعوة التي وجهها الكونجرس إلى وزارة الخارجية للاحتجاج لدى حكومة القيصر الروسي على اضطهاد اليهود وعزز هاريسون هذه الدعوة بقوله: "إن إدارتي قد أعربت لحكومة القيصر بروح ودية، ولكن بحزم بالغ، عن عميق قلقها إزاء الإجراءات القاسية التي تتخذ حالياً في روسيا ضد العبرانيين" (¬1). ويلاحظ شفيق مقار: "أن هاريسون لم يشر إلى القوم باسم اليهود، بل استخدم التسمية التوراتية، فقال العبرانيين!! " حيث أضاف هاريسون في رسالته: "إن العبراني لم يكن في أي وقت شحاذاً، بل كان دائماً شخصاً ملتزماً بالقانون، وإنساناً يكسب رزقه بعرق جبينه. وهو غالباً ما يفعل ذلك في ظل ظروف بالغة القسوة وقيود مدنية شديدة القهر. كما أنه من الصحيح أيضاً أنه لم يوجد في أي وقت جنس أو طائفة أو طبقة عنيت بما فيه خير أفرادها كالجنس العبراني" (¬2). الحكومات الأمريكية والمطالب الصهيونية نشأت أمريكا كأرض صهيونية منذ فجر ميلادها الأول، حيث لاحظنا ذلك على مستوى الفكر والعمل، وقد رأينا كيف قدم الرؤساء الأمريكيون الأوائل خدمات جليلة ـ ومباشرة ـ في هذا السياق، وكيف أنهم ـ من حيث العقيدة ـ لم يكونوا أكثر من مجموعة من المتطرفين الصهاينة المهووسين بالعبرانية، وتابعنا مساعيهم لإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين قبل هرتزل بزمان طويل، بل إن المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في بال بسويسرا (1897م) ما كان له أن ينعقد لولا ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية (1891ـ1948) - بول مركلي - ترجمة فاضل جتكر ص 111 (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص 210

الرئيس ويلسون

جهود الرؤساء الأمريكيين المتعاقبة التي ذللت سويسرا لليهود، وجعلتها تلعب واحداً من أهم الأدوار في خدمتهم، وجهود الرئيسين (بنيامين هاريسون) (وجروفر كليفلاند) اللذين مهدا ـ مباشرة ـ لانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول (¬1). الرئيس ويلسون لما وضعت الحركة الصهيونية برنامجها، وسعت إلى تحقيقه عن طريق الحصول على مساعدة الحكومة البريطانية، كان لأمريكا دور كبير في تحقيق أولى المطالب الصهيونية والتي تحققت بفضل وعد بلفور، هذا الوعد الذي لم يصدر إلا بعد اتصالات بين الحكومتين البريطانية والأمريكية، حيث كانت موافقة أمريكيا على الوعد ضرورية. وقد لعب الرئيس ويلسون دوراً رئيساً في صدور وعد بلفور، حيث شارك في الاتصالات التي سبقت صدور الوعد، وأعلن عن تأييده لمنح اليهود وطناً قومياً في فلسطين، حيث صرح عشية صدور الوعد بقوله: "لن تصبح فلسطين مؤهلة للديمقراطية إلا إذا امتلك اليهود فلسطين، كما سوف يمتلك العرب شبه جزيرتهم أو البولونيون، بولونية" (¬2). وعندما صدر وعد بلفور عام 1917م لم يتوانَ الرئيس ويلسون عن تأييد هذا الوعد وإعلان موافقته عليه. ففي آب 1918م قال ويلسون: "أعتقد أن الأمم الحليفة قد قررت وضع حجر الأساس للدولة اليهودية في فلسطين بتأييد تام من حكومتنا وشعبنا" (¬3). وبتاريخ 31ـ8ـ1918م بمناسبة العام العبري الجديد اعلن عن موافقته الرسمية على وعد بلفور (¬4)، وبعث برسالة إلى الحاخام ستيفان وايز، رحب فيها بالتقدم الذي أحرزته الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، وفي البلدان الحليفة بعد تصريح بلفور. وفي 20ـ9ـ1922م صادقت الحكومة الأمريكية بصورة نهائية على مشروع بلفور. ¬

(¬1) رؤساء أمريكا .. قادة صهاينة في البيت الأبيض - محمد القدوسي ـ دراسة منشوره على الانترنت (¬2) إسرائيل الكبرى ـ د. أسعد رزوق ـ ص 407 (¬3) الوجه الآخر .. العلاقات السرية بين النازية والصهيونية ـ محمود عباس ـ ص 29 (¬4) دول محور الشر الإرهابية - أمريكا .. بريطانيا .. إسرائيل ـ محمد عبد الحميد الكفريص8 - دار قتيبة للطباعة والنشر- ط1 2003

خلفاء ويلسون

والرئيس ويلسون كان مدفوعاً لتحقيق آمال اليهود بناءً على خلفيته الدينية. فقد تربى في ظل التعاليم البروتستانتية التي تؤمن بالنبوءات التوراتية، وكان يسعده أن يكون له دور في إعادة اليهود إلى فلسطين، حيث كان يقول: "إن ربيب بيت القسيس ينبغي أن يكون قادراً على المساعدة في إعادة الأرض المقدسة لأهلها" (¬1)، وكان يرى نفسه من خلال خطبه العديدة، بأنه أعطى الفرصة التاريخية لخدمة رغبات الله بتحقيقه للبرنامج الصهيوني. خلفاء ويلسون بعد أن وافق الرئيس ويلسون على وعد بلفور ودعم مطالب الحكومة البريطانية في مؤتمر سان ريمو، الذي كرس الانتداب البريطاني على فلسطين، لخدمة الحركة الصهيونية، أخذ خلفاء ويلسون في الرئاسة يلزمون أنفسهم بالموقف الصهيوني، ويعبرون عن تعاطفهم مع الحركة الصهيونية، حيث عبر الرئيس الأمريكي (هاردنج) في عام 1921 م عن تعاطفه مع الحركة الصهيونية وتأييده الشديد لإنشاء صندوق فلسطين، حيث قال: "إن اليهود سيعادون يوما إلى وطنهم القومي التاريخي، حيث سيبدأون مرحلة جديدة بل مرحلة أعظم من كل مساهماتهم في تقدم الإنسانية" (¬2). وفي عام 1922م اتخذ الكونغرس الأمريكي قراراً، وقع عليه الرئيس (هاردنج) جاء فيه الاعتراف، "بأنه نتيجة للحرب، أعطى بنى إسرائيل الفرصة التي حرموا منها منذ أمد بعيد لإعادة إقامة حياة وثقافة يهوديتين مثمرتين في الأراضي اليهودية القديمة، وأن كونغرس الولايات المتحدة يوافق على إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي" (¬3). كما قام الرئيس الأمريكي هربرت هرمز في عام 1928 م بتهنئة الحركة الصهيونية لإنجازاتها العظيمة في فلسطين. ¬

(¬1) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 195. (¬2) على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيل ـ حمدان حمدان ص121 (¬3) الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكيا الخارجية ـ ريتشارد ستيفن ـ ص 75

مركز ثقل الصهيونية ينتقل إلى أمريكيا

وفي ثلاثينات القرن السابق، ازداد عدد الجمعيات الأمريكية المؤيدة لإقامة دولة يهودية في فلسطين، حيث كان هدفها حشد الرأي العام الأمريكي من أجل تحقيق الأهداف الصهيونية في فلسطين. ففي عام 1930م أسس الكاهن تشارلى أي رسل، اتحاد المنظمات الأمريكية الموالية لفلسطين، والتي كانت تهدف إلى تشجيع التعاون بين اليهود وغيرهم من المسيحيين، بهدف الدفاع عن قضية الوطن القومي اليهودي. وفي عام 1932م أسست اللجنة الأمريكية الفلسطينية للهدف ذاته. وقد ساعدت هذه الجمعيات وغيرها، كثيراً في دعم مطالب الحركة الصهيونية، بسبب وجود وسط بروتستانتي ملائم لترويج الأفكار الصهيونية. مركز ثقل الصهيونية ينتقل إلى أمريكيا في أربعينيات القرن السابق ازداد حجم الدعم الأمريكي للحركة الصهيونية، حيث أدرك الزعماء الصهاينة أن مركز الثقل في عملهم قد بدأ ينتقل من بريطانيا إلى أمريكيا. فبعد أن أصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض في عام 1939م والذي حد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، قابل الزعماء الصهاينة والمتعاطفون معهم، هذا الكتاب بالرفض والاستنكار، و بدأوا يشعرون أن بريطانيا أخذت تتخلى عنهم ولو جزئياً بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، هذا التحول دفع الزعماء الصهاينة لتركيز جهودهم في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد كتب بن جوريون في عام 1940م يصف مشاعره في هذه الفترة، فقال: "أما أنا فلم أكن أشك في أن مركز الثقل بالنسبة لعملنا السياسي، كان قد أنتقل من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، التي كانت قد احتلت المرتبة الأولى في العالم كدولة كبرى". وعندما اجتمع الزعماء الصهاينة في مؤتمر بلتمور في عام 1942م، قرروا نقل جهودهم إلى أمريكيا لكي تساعدهم في تحقيق مطالبهم. فقد أعلن بن جوريون أمام المؤتمر، أن اليهود لم يعد باستطاعتهم الاعتماد على الإدارة البريطانية في تسهيل إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين (¬1). ¬

(¬1) المصدر السابق ـ 70.

العمل من أجل إلغاء الكتاب الأبيض

العمل من أجل إلغاء الكتاب الأبيض كان كل هم الزعماء الصهاينة والمتعاطفين معهم في هذه الفترة، إلغاء الكتاب الأبيض الذي أصدرته بريطانيا في عام 1939م، والذي يحد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين. لهذا فقد نشط المتعاطفون مع الحركة الصهيونية في هذا الوقت. "فبمعونة 1000 زعيم صهيوني في الديار الأمريكية استطاع مجلس الطوارئ الذي شكلته الحركة الصهيونية، الحصول على قرار ضد الكتاب الأبيض من جميع المنظمات اليهودية الكبرى والجمعيات المهمة، أمثال الليونز، والدلكس، والروتارى، ونادى السيدات العاملات في التجارة والمهن الحرة، وغيرها من الجمعيات والنوادي. كما أن نقابات العمال وجمعيات الكنائس انضمت ضد الكتاب الأبيض" (¬1). وفي آذار عام 1944م قدم بعض أعضاء مجلس الشيوخ إلى لجنة الشؤون الخارجية، مشروع قرار يدعو إلى إلغاء الكتاب الأبيض البريطاني، وتأييد خطة إنشاء دولة يهودية في فلسطين، ولكن المستر جورج مارشال وزير الخارجية، ورئيس أركان حرب الجيش الأمريكي آنذاك، تدخل وطلب من اللجنة عدم بحث ذلك الاقتراح، خوفاً من إثارة الرأي العام العربي وانعكاس ذلك على الموقف العسكري، فنزلت لجنة الشؤون الخارجية عند طلب المستر مارشال، وأرجأت البحث في الاقتراح المقدم لها. وبعد بضعة أشهر تغير مجرى الحرب نهائياً لصالح الحلفاء، فأرسل المستر مارشال نفسه كتاباً إلى السناتور واغنر، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، قال فيه: "إن الاعتبارات العسكرية التي حملته فيما مضى على معارضة بحث ذلك الاقتراح قد زالت" (¬2). "وفي فبراير 1945م وقع خمسة آلاف قسيس بروتستانتي أمريكي، عريضة رفعوها إلى الحكومة ومجلس الأمة والكونغرس، يطالبون فيها بفتح أبواب فلسطين ¬

(¬1) الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكيا الخارجية ـ ريتشارد ستيفن ـ ص 70. (¬2) المؤامرة الكبرى، اغتيال فلسطين ـ أميل الغورى ـ ص 150 - دار النيل للطباعة، القاهرة - ط.1 1955م ..

على مصراعيها للهجرة اليهودية، وقد قامت وكالات الأنباء ومحطات الإذاعة والصحافة بدعاية واسعة النطاق لمشروع إنشاء دولة يهودية في فلسطين" (¬1). وبالرغم من أن هذا التعاطف الكبير مع الحركة الصهيونية، من قبل الجمعيات والمؤسسات العامة خلال عشرينات القرن الحالي وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يرافقه موقف عملي واضح من الحكومة الأمريكية، إلا أن ذلك لم يكن لعدم إيمان الرؤساء الأمريكيين ـ في تلك الفترة ـ بأهداف الحركة الصهيونية، بل لأن بريطانيا في ظل انتدابها على فلسطين كانت تقوم بتقديم كافة التسهيلات والمساعدات للحركة الصهيونية. ولذلك لم يكن هناك أي داعٍ لتدخل أمريكيا ما دامت بريطانيا تقوم بنفس العمل وعلى أكمل وجه. فقد كان الرؤساء الأمريكيون في تلك الفترة يعتبرون أن فلسطين هي من جملة المسئوليات البريطانية في الشرق الأوسط، ولذلك فإن (روزفلت) "خلال مدد ولاياته الثلاث كأسلافه، لزم بدقة الموقف الأساسي الذي كان قائماً خلال الفترة التي كان هيوز فيها بالحكم، وهو أن الأحكام الخاصة بإنشاء وطن قومي يهودي الواردة في صك الانتداب، لم تكن في عداد المصالح الأمريكية، بل إنها من الشئون البريطانية" (¬2). يضاف إلى ذلك أمر آخر مهم، وهو ظروف الحرب العالمية الثانية التي فرضت على أمريكيا عدم تأييد المطالب الصهيونية بصورة علنية، والسعي إلى استرضاء العرب حرصاً على الموقف العسكري في المنطقة. "ففي 29 ديسمبر 1942م أشار (هال) على الرئيس روزفلت بالا يبعث بأية رسالة إلى هيئة الصندوق القومي اليهودي، نظراً إلى الموقف في الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية، حيث يسود شعور عنيف ضد الصهيونية في صفوف الشعوب العربية. فقد أكدت كافة التقارير العسكرية والدبلوماسية المرسلة من البلاد العربية، خطورة إثارة العرب بالتصريحات المؤيدة للصهيونية" (¬3). ولهذا فإن روزفلت، وفي محاولة منه لكسب ود الزعماء ¬

(¬1) الاستعمار وفلسطين ـ رفيق النتشة ـ ص 260. (¬2) الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكيا الخارجية ـ ريتشارد ستيفن ـ ص 107 (¬3) الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكيا الخارجية ـ ريتشارد ستيفن ـ ص 114

روزفلت والأفكار الصهيونية

العرب، قطع وعداً للملك عبد العزيز بن سعود ـ عاهل السعودية ـ بأنه لن يؤيد أي حركة من شأنها تسليم فلسطين لليهود. روزفلت والأفكار الصهيونية بالرغم من أن الظروف السياسية والعسكرية، فرضت على روزفلت عدم تأييد مطالب الحركة الصهيونية، بصورة علنية، إلا أنه كان متعاطفاً مع اليهود، وكان أثر العهد القديم واضحاً عليه، فقد أتخذ نجمة داوود شعاراً رسمياً للبريد وللخوذات التي يلبسها الجنود في الفرقة السادسة، وعلى أختام البحرية الأمريكية وطبعة الدولار الجديد، وميدالية رئيس الجمهورية (¬1). كما أنه دعا إلى عقد مؤتمر (ايفيان) في عام 1938م، لحل مشكلة اللاجئين في أوروبا وبالذات اليهود منهم. فقد كان يريد روزفلت أن تكون فلسطين هي الحل لهذه المشكلة، ولكن المؤتمر فشل في اتخاذ أي حل. ففى أثناء الحرب العالمية الثانية قام (موريس أرنست) ـ يهودي ـ وأحد المقربين من الرئيس روزفلت، بزيارة للندن، لمحاولة إيجاد مأوى لليهود المهجرين في بريطانيا وأمريكيا، وإذا برزفلت يعلن بأنه أقتنع تمام الاقتناع بأن ذلك البرنامج لن يحل المشكلة، لا سيما وأن قادة الصهيونية في أمريكيا رفضوا هذا الحل. وأستطرد قائلاً: إنهم على حق في معارضتهم، لأنهم يدركون أن فلسطين يجب أن تصبح عاجلاً أم عاجلاً الملجأ الأمين لمجيئهم. وهكذا نرى أن سياسة روزفلت تجاه فلسطين كانت تبدو غير واضحة، حيث أنه حاول أن يوفق بين عواطفه وميوله الصهيونية، وبين الضرورة السياسية والعسكرية التي فرضتها ظروف الحرب العالمية الثانية. ولكن عندما أصبح انتصار الحلفاء مؤكداً، أظهر ميوله الصهيونية الواضحة، حيث أكد بعد إعادة انتخابه في يناير 1945م تعهده لليهود بمساعدتهم على إنشاء دولة يهودية في فلسطين، ولكن القدر لم يمهله طويلاً حيث توفى في 12 أبريل عام 1945م. ¬

(¬1) الصهيونية العالمية ـ جمال الدين الرماوى ـ ص 126 - مكتبة الوعي العربي.

ترومان ـ قورش ـ العصر الحديث!

ترومان ـ قورش ـ العصر الحديث! عندما تولى ترومان منصب الرئاسة خلفاً لروزفلت، كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين تأييداً للمطالب الصهيونية، حيث كان لجهوده الفضل الأكبر في إنشاء إسرائيل حتى أن الحاخام الأكبر قال له: "لقد وضعك الله في رحم أمك لتعيد إنشاء إسرائيل (¬1). ففي 31 أغسطس عام 1945م، طلب الرئيس ترومان ـ نيابة عن الصهيونية ـ من رئيس الوزراء البريطاني أتلى، إدخال مائة ألف لاجئ يهودي إلى فلسطين، ولكن رد أتلى كان غير مشجع، حيث أنه أشترط أن تتحمل أمريكيا الأعباء العسكرية والاقتصادية لتنفيذ هذا الطلب، ولكن الرئيس ترومان رفض ذلك وقال: أنه لا يرغب في إرسال50,000 جندي لإقرار السلام في فلسطين. ونتيجة لذلك بدأت اتصالات بين الحكومة البريطانية وبين الزعماء الصهاينة المدعومين من أمريكيا، لتحقيق مطالبهم، ولكن هذه الاتصالات فشلت، مما دفع ترومان إلى تأييد الحل الصهيوني المتمثل بتقسيم فلسطين. ترومان ومشروع التقسيم أصدر الرئيس ترومان في 4 أكتوبر بياناً بادر فيه إلى المطالبة بإدخال مائة ألف يهودي فوراً إلى فلسطين، كما أوصى بتطبيق خطة التقسيم حسب الخطوط التي اقترحتها الوكالة اليهودية، وقال ترومان: "إنه كان يعتقد بأن حلاً على هذه الصورة سيصادف تأييداً من الرأي العام في الولايات المتحدة، وصدفة على حد قوله، صدر هذا البيان في يوم عيد كيبور ـ الغفران ـ اليهودي". ولكن لم يمضى وقت طويل حتى صدر رد الفعل العربي على بيان ترومان، ففي رسالة من الملك عبد العزيز بن سعود، إلى ترومان، اتهم فيها اليهود بأنهم يضعون مخططات ضد الأقطار العربية المجاورة، وأنتهي الملك عبد العزيز إلى القول، بأن بيان ترومان قد بدل الموقف الأساسي في فلسطين، خلافاً للوعود السابقة. وفي الرد على ذلك بتاريخ 26 أكتوبر ¬

(¬1) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص64.

1946م، أدعى ترومان، أن تأييد وطن قومي يهودي كان دائماً من صلب السياسة الأمريكية المنسجمة مع نفسها (¬1). وبعد مشاورات عديدة رفع مشروع تقسيم فلسطين إلى الأمم المتحدة، حيث أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أن قامت أمريكيا بالضغط على كثير من الدول لتأييد المشروع، حيث يعتبر البعض إن أهم ما يسجل لهاري ترومان في سياق تأييده للحركة الصهيونية، موقفه من مشروع قرار تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة، إذ لم يكتف ترومان بإعطاء توجيهاته للوفد الأمريكي في الأمم المتحدة بالتصويت إلى جانب التقسيم يوم 29 تشرين الثاني 1947م، بل طلب من المسئولين الأمريكيين أن يمارسوا شتى ألوان الضغط والإغراء من أجل إقناع الحكومات الأخرى بالتصويت إلى جانب التقسيم، ويقول كبير الدبلوماسية سمنر ويلز: "بأمر مباشر من البيت الأبيض فرض المسؤولون الأمريكيون، كل أنواع الضغوط بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، خاصة مع تلك الدول المتمردة أو المعارضة للتقسيم ولم يتوان البيت الأبيض عن استخدام الوسطاء والوكلاء في سبيل ضمان الأكثرية اللازمة للتصويت. كما كتب وكيل الخارجية الأمريكي (روبرت لافل) عن دور البيت الأبيض ما يلي: "إنني لم أتعرض في حياتي قط لمثل ما تعرضت له من ضغوط قبيل مشروع التقسيم خاصة تلك الأيام التي سبقته من صباح الخميس إلى مساء السبت" (¬2). وبالرغم من الجهد الكبير الذي بذلته أمريكا لتمرير قرار التقسيم، إلا أنها بعد فترة تراجعت عن هذا المشروع بسبب صعوبة تنفيذه، واقترحت وضع فلسطين تحت الوصايا، ولكن هذا الاقتراح لم يقبله الزعماء الصهاينة الذين كانوا يعدون العدة لإعلان قيام دولة إسرائيل بمجرد انتهاء الانتداب البريطاني عليها في 15مايو 1948م. وعندما أعلن عن قيام دولة إسرائيل، أعترف الرئيس ترومان بها بعد دقيقة من إعلان قيامها، كما أنه قام بتصرف يخالف كل المبادئ الدبلوماسية المعروفة، ¬

(¬1) الصهيونية الأمريكية ـ ريتشارد ستيفن ـ ص 234. (¬2) على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيلـ حمدان حمدان ص127ـ128

حرب عام 1948 م

عندما أعترف بدولة إسرائيل قبل أن تطلبه رسمياً وقبل انتهاء الانتداب البريطاني بعشر ساعات. حرب عام 1948 م لم يقف تأييد ترومان للحركة الصهيونية عند هذا الحد، بل إنه استطاع أن يحل أصعب مشكلة مرت بها الدولة الوليدة. فعندما دخلت سبع جيوش عربية أرض فلسطين في 15 مايو 1948م، استطاعت هذه الجيوش تحرير كثير من الأراضي الفلسطينية، وضيقت الخناق على الجيش الإسرائيلي، بحيث أصبح في وضع حرج. وهنا أحس الرئيس ترومان بأن القتال الدائر في فلسطين يسير لصالح الجيوش العربية، وأصبح قلقاً على مصير الدولة التي عمل على إنشائها على أرض العرب، فمارس ضغوطاً مباشرة على المندوبين في مجلس الأمن للحصول على قرار بوقف القتال بأي طريقة يمكن التوصل إليها. اتفاقية الهدنة بعد مناقشات ومشاورات وملاحقات وضغوط من الرئيس ترومان شخصياً، وبناءً على اقتراح المستر دوغلاس، المندوب البريطاني، وفي 29 مايو 1948م أقر مجلس الأمن الدولي الموافقة على وقف القتال في فلسطين بموجب هدنة يتم الاتفاق عليها عن طريق وسيط دولي، وقد تم تعيين الكونت برنادوت وسيطاً دولياً، حيث استطاع التوصل إلى اتفاق للهدنة لمدة أربعة أسابيع. ونصت اتفاقية الهدنة الأولى على أن يحتفظ كل طرف بالمكان المتواجدة فيه قواته في ذلك الوقت، ولا يحق لأي طرف استغلال الهدنة والحصول على مكاسب عسكرية، سواء باحتلال الأراضي أو جلب الإمدادات البشرية والأسلحة. ولكن إسرائيل لم تلتزم بهذه الهدنة، حيث عملت على جلب مزيد من المتطوعين والأسلحة من الخارج بمساعدة سرية من أمريكيا وبريطانيا، في الوقت الذي فرض حظر على تصدير الأسلحة للدول العربية (¬1). فأصبح لدى إسرائيل بعد الهدنة الأولى 90,000 مقاتل كقوات هجومية مسلحة ¬

(¬1) أمريكا واسرائيل علاقة حميمه (التورط الأمريكي مع اسرائيل منذ العام 1947 حتى الآن) - جورج و. بول، دوغلاس ب. بول - ترجمة د. محمد زكريا اسماعيل ص 28 - دار بيسان للنشر والتوزيع - ط1 1994

صهيونية ترومان

بالدبابات والمدفعية والطيران. كما أن إسرائيل استطاعت في ظل هذه الهدنة تنظيم جيشها والاستيلاء على مزيد من الأراضي العربية، بحيث أصبح ميزان القوى لصالحها بفارق كبير. وهكذا لعب ترومان دوراً مهماً في حماية إسرائيل عند ولادتها، من خلال الهدنة التي فرضها على الدول العربية. ولهذا يرى البعض أن موافقة الدول العربية على الهدنة كانت خطوة متسرعة وغير محسوبة، وربما جاءت رضوخاً لضغوط خارجية، لأن الجيش الإسرائيلي كان في وضع صعب، وقد عبر مناحيم بيغن ـ في مذكراته ـ عن استغرابه وتعجبه لقبول الدول العربية للهدنة بالرغم من أن الموقف كان في صالحها، كما أن موشى ديان، الذي كان من كبار ضباط الجيش الإسرائيلي في ذلك الوقت، قال: "كانت الهدنة بالنسبة لنا كأنها قطرة ندى قادمة من السماء" (¬1). وقبل انتهاء فترة الهدنة الأولى اقترح الوسيط الدولي برنادوت، أن تجدد الهدنة إلى أجل غير محدود، ووافقت الدول العربية على الهدنة الجديدة في 17 تموز 1948م، ولكن إسرائيل لم تلتزم بالهدنة الجديدة، حيث احتلت مزيداً من الأراضي الفلسطينية وشردت مزيداً من السكان. وبعدها أجبرت الدول العربية على الدخول في مفاوضات مع إسرائيل لعقد هدنة دائمة، حيث وقعت الدول العربية كلاً على انفراد معاهدات للهدنة مع إسرائيل في جزيرة رودس في عام 1949م. وتكمن أهمية اتفاقات الهدنة لدولة إسرائيل في أنها حصلت عن طريقها على مكاسب عديدة، فقد حصلت إسرائيل على مزيد من الأراضي العربية، وأتاحت لها فترة من الاستقرار كانت بأمس الحاجة إليه، لبناء مرافق الدولة الجديدة وجلب مزيد من المهاجرين، واستطاعت إسرائيل في هذه الفترة أن تحقق تفوقاً عسكرياً على الدول العربية. صهيونية ترومان من العرض السابق يمكننا تقدير حجم المساعدة التي قدمها الرئيس ترومان لدولة إسرائيل قبل وبعد إنشائها، ابتداءً من دعوته لفتح أبواب فلسطين أمام الهجرة ¬

(¬1) الاستعمار وفلسطين ـ رفيق النتشة ـ ص 244

اليهودية وتبنيه لقرار التقسيم واعترافه بدولة إسرائيل، وانتهاءً باتفاقية الهدنة التي عقدت بين إسرائيل والدول العربية. فقد كان ترومان صهيونياً أكثر من الصهاينة، حيث انعكس ذلك على سياسته تجاه المسألة الفلسطينية، والتي كانت سياسة رئاسية ثم تنفيذها من جانب واحد رغم معارضة كثير من المستشارين الحكوميين لها، والذين كانوا يرسمون سياسة بلادهم الخارجية بناء على مصالحها القومية، وليس بناء على عواطف دينية أو غيرها. لهذا فقد حدث أكثر من مرة أن تضاربت قرارات ترومان مع قرارات وزارة الخارجية ومستشاريه. ففي إحدى المرات كان مندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، يطالب بشدة بوضع فلسطين تحت الوصاية، من غير أن يعلم بأن الرئيس ترومان قد اعترف قبل ذلك بقليل بدولة إسرائيل. وقد اعترف ترومان نفسه بحقيقة سياسته هذه حيث قال في مذكراته: "لقد كنت أعلم بأن المستشارين جميعاً لا ينظرون إلى المسألة الفلسطينية نظرتي أنا إليها، وأكثر من ذلك، كان الإختصاصيون من موظفي وزارة الخارجية في شئون الشرق الأوسط جميعهم تقريباً ضد فكرة دولة يهودية" (¬1). ولكن ما هي نظرة ترومان للمسألة الفلسطينية، التي جعلته يخالف جميع مستشاريه ويتحدى مشاعر جميع العرب والمسلمين؟! إنها نظرة شخص تربى على تعاليم الكنيسة المعمدانية، التي تتبع مذهب العصمة الحرفية في تفسيرها للكتاب المقدس، وهذا يعنى الإيمان بصورة حرفية بكل ما جاء في العهد القديم من أخبار ومعلومات تاريخية ونبوءات من غير تأويل. لهذا فإن أتباع هذه الكنيسة من أكثر المتحمسين للحركة الصهيونية، حيث يؤمنون بضرورة قيام دولة إسرائيل تحقيقاً للنبوءات التوراتية. ولهذا فقد كان واضحاً أثر هذه الأفكار على ترومان وحياته. "فقد كان يؤمن ـ باعتباره أحد تلاميذ التوراة ـ بالتبرير التاريخي لوطن قومي يهودي، وكانت لديه قناعة بأن وعد بلفور، حقق آمال وأحلام الشعب اليهودي القديمة. كما كان واضحاً أثر الثقافة اليهودية والعهد القديم عليه، وكيف لا وهو يعتبر التلمود اليهودي كتابه المفضل. ولهذا كانت هديته لليهود عام 1946م، في عيد الغفران ـ كيبورـ تأييده لمشروع تقسيم فلسطين. ¬

(¬1) أني أتهم ـ روجيه ديلورم ـ ترجمة نخله كلاس ـ ص 91 - دار الجرمق, 1985.

المساعدات الأمريكية لإسرائيل

كما عرف عن ترومان حبه الشديد للفقرة الواردة في المزمار 137 والتي تقول: "لقد جلسنا على أنهار بابل وأخذنا نبكى حين تذكرنا صهيون" (¬1)، حيث كانت هذه الفقرة جزء رئيسي من صلاته التي كان يقيمها مع القس المتطرف بيليى غراهام في البيت الأبيض، ولكن ترومان غضب من غراهام ومنعه من دخول البيت الأبيض لأنه كان يخبر الصحافة بتفاصيل صلاته الخاصة معه" (¬2). لقد كان ترومان يرى أن خدماته العظيمة التي قدمها لليهود تجعله يرقى إلى مقام الملك الفارسي قورش، الذي أعاد اليهود من منفاهم في بابل، إلى فلسطين. "فعندما قدمه إيدى جاكوبسون إلى عدد من الحاضرين في معهد لاهوتي يهودي، وصفه بأنه الرجل الذي ساعد على خلق دولة إسرائيل. رد عليه ترومان بقوله: "وماذا تعنى بقولك ساعد على خلق؟ إنني قورش .. إنني قورش" (¬3). المساعدات الأمريكية لإسرائيل بعد أن أتم ترومان ـ قورش ـ مهمته على أكمل وجه، لم يكن هناك شيء ذو أهمية كبيرة يمكن أن تقدمه أمريكيا لإسرائيل في الخمسينات ومطلع الستينات من هذا القرن. حيث كان تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية وجلب المهاجرين الجدد من الخارج، والإبقاء على التفوق العسكري، يحتل مكان الصدارة في اهتمامات إسرائيل في هذه الفترة. وقد استطاعت إسرائيل تحقيق هذه الأهداف بمساعدة أمريكيا وحلفائها. فعلى صعيد تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، لعبت أمريكيا دوراً مهماً في تأمين المساعدات المالية لإسرائيل، حيث مارست ضغوطاً كبيرة على ألمانيا لإجبارها على دفع تعويضات لدولة إسرائيل عن اليهود الذين قيل أنهم قتلوا في العهد النازي، حيث كانت هذه التعويضات مصدراً مهماً للأموال اللازمة لعملية التنمية والبناء. ¬

(¬1) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 203 (¬2) الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب - من قسم العالم إلى فسطاطين - اسعد أبو خليل ص34 (¬3) المصدر السابق ـ ص 204.

ومن ناحية أخرى، قدمت أمريكيا كثيراُ من المساعدات المالية لإسرائيل في هذه الفترة. فعلى سبيل المثال، "بلغت المنح التي قدمتها أمريكيا لإسرائيل من سنة 1950م وحتى 1959م حوالي 4035 مليون دولار، وقروضاً قدرها 369 مليون دولار، ومساعدات فنية قدرها 35 مليون دولار، وأجهزة علمية قيمتها 10 مليون دولار، واستثمارات أمريكية بمبلغ 95 مليون دولار، وحصيلة بيع السندات الإسرائيلية مبلغ 347 مليون دولار، هذا عدا الإعفاءات من الضرائب والرسوم التي تمنحها الحكومة الأمريكية على ما يحصل من اليهود وما يتم جمعه عن طريق الجمعيات والمنظمات الأمريكية المؤيدة لإسرائيل" (¬1). وقد كشف السيد (بنحاس سابير) حينما كان وزيراً للمالية، "عن ان اسرائيل قد تلقت بين عامي 1949 - 1956سبعة مليارات دولار. ولكي نقدر دلالة هذا الرقم حق التقدير يكفي ان نذكر القارئ بأن تمويل مشروع مارشال لاوروبا الغربية بين عامي 1948 - 1954 قد رصد له 13 مليار دولار. اى ان دولة اسرائيل ذات المليوني نسمة قد تلقت أكثر من نصف ما تلقته كل شعوب أوروبا التي كانت تعد آنذاك مئتي مليون نسمة" (¬2). أما على صعيد جلب المهاجرين الجدد، فقد تدفق الكثير منهم إلى إسرائيل منذ إعلان قيامها من كافة البقاع بدون أي مشاكل، ولم تكن هناك مشكلة في وصول المهاجرين اليهود إلا بالنسبة ليهود الدول العربية. وقد ساعدت أمريكيا على حل هذه المشكلة. فعلى سبيل المثال، "قامت طائرات سلاح الجو الأمريكي بشكل سرى في مطلع الخمسينيات بنقل 65,000 يهودي يمنى إلى إسرائيل" (¬3). أما بالنسبة إلى تحقيق التفوق العسكري، فقد حققته إسرائيل بمساعدة أمريكيا وحلفائها من خلال حرب 1948م، وما تبعها من تدفق للأسلحة على إسرائيل، في ¬

(¬1) الناصرية (دراسة في فكر جمال عبد الناص) ـ تأليف عبد الله إمام - تقديم ضياء الدين داود- ص 137 - مطبوعات دار الشعب 1971 (¬2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي- ترجمة قصي اتاسي، ميشيل واكيم - ص278 - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر- طبعة 1991 (¬3) اندماج: دراسة في العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية و اسرائيل - د. يوسف الحسنـ ص 63 - القاهرة: دار المستقبل العربى، 1986.

ايزنهاور

ظل فرض حظر على تزويد الدول العربية بالأسلحة. وحتى في اللحظة التي استطاعت إحدى الدول العربية، وهى مصر، الحصول على أسلحة من الخارج في عام 1955م، قامت إسرائيل في عام 1956م بالتعاون مع فرنسا وبريطانيا، بشن العدوان الثلاثي على مصر، لتدمير القوة العربية الجديدة، من أجل الإبقاء على التفوق العسكري الإسرائيلي والحصول على مكاسب جديدة. ايزنهاور مما تقدم يبدو واضحاً أن إسرائيل في هذه الفترة لم تكن بحاجة إلى الدعم الأمريكي الصارخ كما كان الحال في عهد ترومان، ولذلك كان المجال مفتوحاً أمام أيزنهاور لتقليل حجم الدعم الأمريكي العلني لإسرائيل، لامتصاص ردة الفعل العربية الساخطة على التحيز والتآمر الأمريكي التام على العرب أيام ترومان. كما أن الظروف الدولية والإقليمية، ساعدت على تحجيم هذا الدعم. فقد كان تركيز أيزنهاور في هذه الفترة ينصب على احتواء المد السوفيتي في العالم، والحيلولة دون انتشاره في العالم العربي. كما أن ظروف المنطقة العربية ومد القومية العربية الجارف ساهم في تحجيم هذا الدعم إلى أدنى مستوياته. لهذا كان الموقف الأمريكي تجاه العرب يبدو وكأنه معتدل نسبياً، حيث ركزت السياسة الأمريكية في هذه الفترة على تخويف الدول العربية من الخطر السوفيتي، لحثها على الدخول في تحالفات إقليمية لمواجهة الخطر السوفيتي المزعوم، أو لعقد معاهدات سلام مع إسرائيل. وبالرغم من هذا الاعتدال الظاهري للسياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية، إلا أنه لا يجب إغفال حقيقة الالتزام الأمريكي الديني تجاه إسرائيل في هذه الفترة. فعندما انتخب (دوايت أيزنهاور) رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية في شهر نوفمبر سمة 1952م ودخل البيت الأبيض أواخر يناير 1953م اختار معه رجلين لأعلى المناصب في إدارته وتصادف أنهما شقيقان لأب قضى عمره وعمله قسيسا داعيا إلى ملكوت السماء. الشقيق الأول (جون فوستر دالاس) في موقع وزير الخارجية، "وكان المبشر الأعلى صوتا، بأن الدين هو السلاح الأكثر فاعلية ونفاذاً في العالم الثالث، لأنه

جون كنيدى الرئيس الكاثوليكي الوحيد

الهوية التقليدية لشعوبه وأممه ما زالت مع وعيها العذري الفطري، والدين بالنسبة لها عقد سياسي واجتماعي وحيد تقيم به جسراً بين الآخرة والأولى" (¬1). ولهذا لم يكن مستغرباً أن يعبر دالاس عن التزامه الديني تجاه إسرائيل في تصريح أدلى به، أمام جمعية بنى بريت (أبناء العهد) بتاريخ 8 مايو 1958م قال فيه: "إن مدنية الغرب قامت في أساسها على العقيدة اليهودية في الطبيعة الروحية للإنسانية، لذلك يجب أن تدرك الدول الغربية أنه يتحتم عليها أن تعمل بعزم أكيد من أجل الدفاع عن هذه المدنية التي معقلها إسرائيل" (¬2). أما الشقيق الثاني فهو (آلان دالاس) في موقع مدير وكالة المخابرات المركزية، "التي أوكلت إليه مهمة إدارة الحرب الجديدة (الباردة) وسلاحها (إطلاق الأفكار وليس إطلاق النار)، وبما أن الاستراتيجية الأمريكية في العالم الثالث اعتمدت على سلاح الاعتقاد ضد تهديد الإلحاد، فإن وكالة المخابرات الأمريكية تجاسرت على اتخاذ شعارات الإسلام، وهى العقيدة الأكثر انتشاراً في المنطقة لتكون وسيلتها وذخيرة سلاحها. وبهذا العملية تم وضع حجر الأساس لاستغلال الإسلام والجماعات الإسلامية لخدمة المخططات الأمريكية" (¬3). جون كنيدى الرئيس الكاثوليكي الوحيد تولى جون كيندى الحكم في بداية الستينات، حيث كانت فترة ولايته من الفترات القليلة والنادرة التي تم فيها ضبط السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، حيث جاء ذلك نتيجة لبعض العوامل الخارجية التي تكلمنا عنها سابقاً، والتي أدركها كيندى بوضوح، حيث كان يرى: "أن الانحياز الأمريكي في النزاع العربي الإسرائيلي لا يهدد الولايات المتحدة فحسب، بل يهدد العالم بأسره" (¬4). ولكن الأمر المهم هنا والذي طبع سياسة الرئيس كيندي وميزه عن غيره من الرؤساء، هو أن ¬

(¬1) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل - ص 209 (¬2) الماسونية في المنطقة 245 ـ ابو إسلام أحمد عبد الله ـ ص 53 - القاهرة، دار الزهراء للإعلام العربي، ط 1 - 1986م (¬3) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل - ص 209 (¬4) إني أتهم ـ روجيه ديلورم ـ ترجمة نخله كلاس ـ ص 81.

العداء للكاثوليك

قناعات الرئيس كنيدى الشخصية، بوصفه من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، والرئيس الأمريكي الكاثوليكي الوحيد في تاريخ أمريكيا، لم تترك مكاناً للأفكار والنبوءات التوراتية في وجدان الرئيس أو عقله. فقد كان وصول كاثوليكي إلى رئاسة أمريكا أمراً غير مسبوق ومن الصعب تكراره، في ظل السيطرة البروتستانتية على مقاليد الأمور في أمريكا، حيث "أن التأثير الثقافي السائد في الولايات المتحدة هو تأثير العنصر الأبيض الأنجلو سكسونى البروتستانتي الذي يشكل هيكل القيم والمناقب في حياة الطبقة السائدة في المجتمع الأمريكي" (¬1). ولهذا فأنه عندما حصل جوزيف (والد جون كنيدى) على منصب رفيع في السلك الدبلوماسي، وأصبح سفيراً لأمريكا في لندن، كان قرار تعيينه مفاجئاً للسياسيين المؤيدين للرئيس روزفلت، وقال هؤلاء للرئيس آنذاك "أن إرسالكم لهذا الايرلندى الكاثوليكي إلى بلاط (سان جيمس) الملكي البريطاني، يعنى بالضرورة تدهور العلاقات الأمريكية البريطانية ... وقال وزير المالية الأمريكي (هنرى ماغينتو) للرئيس روزفلت: "إن وجود كنيدي بالقرب منكم هو خطر عليكم" (¬2). العداء للكاثوليك تتكون الطبقة العليا، أو طبقة النخبة في أمريكا من أناس ورثوا الثروة والمنزلة الاجتماعية عن أجدادهم من المهاجرين الانجليز .. ومعظم أفراد هذه الطبقة من طائفة البروتستانت الانجلوسكسون، الذين لا يسمحون لأحد بمشاركتهم في هذا الإرث، انطلاقاً من نظره عنصرية للآخرين، حيث لم يكن الكاثوليك مسثتنون من هذا الأمر. ولمعرفة درجة العداء للكاثوليك في أمريكا من قبل البروتستانت يكفي أن نعلم "أن العلاقة بين اليهود والبروتستانت كانت أكثر حميميه، من العلاقة بين ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة- ص46 - دار الفارس للنشر والتوزيع - ط1 2001 (¬2) الإخوة كيندى - أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد ص21 - الناشر د. ماجد علاء الدين - ط1 1986

البروتستانت والكاثوليك، لقد وجدت أرضيه مشتركة بين البروتستانتية واليهودية لم تتحقق بين البروتستانتية والكاثوليكية" (¬1). وقد بلغت مشاعر التحامل ضد الكاثوليك الايرلنديين أحياناً مبلغاً يقارب المشاعر ضد السود من حيث الشدة. بل كثيراً ما دأب الناطقون بلسان البروتستانت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة على جعل الكاثوليك صنواً للتسلطية وبالتالي مرادفاً للدكتاتورية. ومن الكتب ذات الرواج والنفوذ في تلك الحقبة كتاب (بول بلانشارد) المرسوم بـ "الحرية الأمريكية والكاثوليكية) عام 1949م، الذي كرر الموضوع القديم المألوف تماماً في أمريكا في العهود الاستعمارية، والذي مؤداه أن الكاثوليك كانوا يهددون بتسلم زمام الأمور ووضع نهاية للحريات الأمريكية. وفي نفس العام تحدث الأسقف ج. بروملي أوكسنام وهو من أكبر الأساقفة نفوذاً في الكنيسة الميثودية (أكبر المذاهب البروتستانتية في أمريكا) وذلك في مقابلة إذاعية عن: "التطابق اللافت للنظر بين البنية التنظيمية للحزب السياسي الشيوعي العالمي وأسلوبه من ناحية، والحزب الكاثوليكي العالمي من ناحية أخرى وكلاهما استبدادي المنحى، ويحاول كل منهما السيطرة على عقول البشر في كل مكان، وكلاهما يمارس الحرمان واغتيال الشخصية والعمليات الثأرية الاقتصادية، ولا تعرف روما ولا موسكو معنى التسامح. وبالنسبة للتحرريين الدينيين أمثال (اوكسنام) الذين بقوا يبحثون عن عالم تسوده المبادئ المسيحية، بدت النزعة التسلطية الكاثوليكة وكأنها تهدم مثلهم العليا البروتستانتية والديمقراطية. ففي عام 1951م حاول الرئيس ترومان تعيين سفير لدى الفاتيكان، غير أن الضجة الشعبية العالية بقيادة رجال الكنيسة البروتستانتية المنتمية إلى التيار الرئيس أرغمته على التخلي عن المحاولة. وفي تلك الفترة اضطرمت مشاعر العداء وتعمقت بين الكاثوليك والبروتستانت. فعلى سبيل المثال حذرت مجلة مشيخية بعد الحرب من الزواج بكاثوليك، مذكرة من بين أمور أخرى بأن المذهب البروتستانتي وليس الكاثوليكي هو الذي دفع الناس إلى المطالبة بحكومة حرة والى الإطاحة بالطغاة. وأقرت الكنيسة الأسقفية قراراً شديد ¬

(¬1) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحيةـ عرض وتوثيق هشام آل قطيط ـ ص76

سميث الكاثوليكي يخسر انتخابات 1928 امام هوفر البروتستانتي

اللهجة ضد الزواجات المختلطة في عام 1949م. وكانت المشاعر متبادلة بالطبع، إذ عمل الزعماء الكاثوليك على عدم تشجيع الزواج المختلط بهمة ونشاط لا تقل عما بدر من البروتستانت" (¬1). سميث الكاثوليكي يخسر انتخابات 1928 امام هوفر البروتستانتي في انتخابات عام 1928 كان مرشح الحزب الديمقراطي لمنصب الرئاسة هو حاكم ولاية نيويورك (سميث) الذي كانت فرصته لدخول البيت الأبيض عظيمة. فقد أعيد انتخابه أربع مرات على التوالي حاكماً لولاية نيويورك، كما أنه أول كاثولويكي حقق مثل هذا الفوز في عام 1915. وأهم ما تميزت به انتخابات الرئاسة في عام 1928 هو استخدام منظمة (الكوكلاكس كلان) البروتستامتية المتطرفه كقوة ضاربة ضد الديمقراطيين، حيث بدأت كلان العمل ضد سميث منذ عام 1925 بعد ان رأت فيه المرشح الاوفر حظاً للنجاح، حيث خاضت كو ـ كلوكس ـ كلان الحملة الانتخابية في عام 1928 تحت شعار: (حزب روما الكاثوليكي ـ الاكليريكي بدأ حملة كبيرة بهدف السيطرة على أمريكا باسم البابا في روما). ولجأت إلى استغلال الأوهام السائدة لدى ملايين البورجوازيين من أجل التحريض ضد مرشح الحزب الديمقراطي حيث وصمته بالكاثوليكية واتهمته بمعارضته (قانون منع الخمور)، وبانعدام الحس الوطني الصادق لديه. وباختصار كان هذا المرشح في نظر كلان (حليفاً للشيطان)، و (ابن بابا روما). كان سميث المولود في أسرة من المهاجرين الايرلنديين يجسد في عين الريف الزراعي الأمريكي البروتستانتي، (بابل الحديثة- نيويورك)، وتعاطي الكحول، والكاثوليكية، واليهود، والأجانب. كما أتهم سميث ببناء نفق يستطيع باباً روما من خلاله ان يزور البيت الأبيض دون ان يدري به أحد. والغريب ان الكثيرين قد صدقوا هذه الأكذوبة. بينما كانت كلان تقدم نفسها دائماً بوصفها المدافع الأمين عن البروتستانتية، وتؤكد في دعايتها أن الله هو صانع (الكلانية)، بل ان أحد رجال الدين قد أعلن ان (ك ك ك) هي (الكنيسة البروتستانتية في ميدان المعركة). ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص239

ان ديماغوجية كلان في عدائها للكاثوليكية قد ضمنت لها تأييد الكنيسة البروتستانتية التي تمثل قوة هائلة في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان كثير من قادة كلان وموظفيها يمارسون أعمالهم أيضاً لدى الكنيسة البروتستانتية حيث اعتبر الرهبان المعمدانيون والمنهجيون وسطاً ملائماً تماماً لتجنيد الناس للعمل في صفوف كلان. وقد بينت الاحصائيات أن حوالي 40 ألف راهب بروتستانتي انتسبوا إلى كلان. وكان الرهبان الموالون لكلان يخاطبون رعيتهم بثمل هذه الكلمات: "حين تصوتون لصالح ايل سميث فانكم تصوتون ضد عيسى المسيح، وبهذا تحل عليكم اللعنة"، أو يطرحون هذا السؤال: "هل حقاً ان أمريكا الرصينة ستختار رئيساً لها يحب كوكتيل الكحول؟. ولما كان سميث هو الذي اتخذ في عام 1923 أولى الخطوات على طريق الغاء "قانون تحريم الكحول" فقد استغل خصومه هذه الحقيقة للطعن والتشهير به. وكان منافسه البروتستانتي (هوفر) في ذلك الوقت يدعو إلى (الأمريكانية الكاملة)، والولاء المطلق لقيم الاخلاق البروتستانتية، والابقاء على قانون تحريم الكحول. ومن الذين عملوا ضد مرشح الحزب الديمقراطي كذلك السناتور هيفلين (عن ولاية الاباما) وهو صديق مخلص لكلان التي كانت تدفع له مبلغ 150 ـ 250 دولاراً عن كل خطاب يهاجم فيه سميث، وقد استغل هيفلين هذا الوضع ووزع في جميع أنحاء البلاد 556600 نسخة من الخطابات التي القاها في الكونغرس والتي فصح فيها الكنيسة الكاثوليكية، وايل سميث ـ أهم عميل لبابا روما في السياسة الأمريكية. كما أكد هيفلين ان جميع الرؤساء الأمريكيين الذين قتلوا كان قاتلوهم من الكاثوليكيين. وفي حملة الانتخابات التمهيدية استخدام هذا السناتور سلاح العنصرية، واتهم خصمه بتأييد المساواة الاجتماعية التي تتناقض مع نظرية تفوق البيض، وأشار إلى ان سميث كان من الذين ايدوا قانون منع التمييز العنصري في الفنادق والمطاعم. كما نشرت إحدى صحف الجنوب مقالة ساخرة تتهم سميث بمناصرة الزنوج. لقد مارس الكلانيون مختلف أنواع الترهيب مع انصار سميث. ومن ذلك استقبالهم له بصليب مشتعل حين زار اوكلاهوما ستي في نطاق الحملة الانتخابية.

كيندي يبحث عن مخرج

وقد تكرر هذا في مدينة بيليلينغس (ولاية مونتانا) أيضاً. وعشية الانتخابات اقيمت صلوات خاصة ضد سميث في جمع كنائس الجنوب والغرب الأمريكي حيث تتمتع كلان باعظم النفوذ. ولهذا جاء فوز هوفر في الانتخابات ساحقاً، فقد حصل على 21 مليون صوت، بينما حصل سميث على 15 مليون صوت فقط. ويقارن المؤرخون الأمريكيون هذا الفوز بالانهيار الجبلي الهائل. فبعد هزيمة سميث راحت كلان تتبجح بأنها هي التي حشرت سميث في الزاوية، وارغمته على الاستسلام امامها. وكان لهذه التصريحات ما يبررها فقد فعلت كلان الكثير من أجل وصول هوفر إلى البيت الأبيض، فالدعاية الكلانية هي التي امنت له الفوز حتى في الولايات الخمس التي اعتبرت ولايات الديمقراطيين التقليدية في الجنوب (فرجينيا، تكساس، فلوريدا، تينيس، كارولينا الشمالية) وكذلك فاز هوفر في الولايات الحدودية التي كانت في السابق موطن الرق، وهي ـ دولافيرا، فيرجينيا الغربية، مييلاند، كنتوكي وميسوري. وفي تحليله لأسباب فوز هوفر الحاسم هذا كتب د. بريت أن "ايل سميث كان ضحية حملة العداء للكاثوليكية واليهود والزنوج" (¬1). كيندي يبحث عن مخرج إزاء هذا الوضع المتأزم بين الكاثوليك والبروتستانت، كان من الطبيعي أن يجد جون كيندي نفسه في وضع حرج وصعب، عندما أراد ترشيح نفسه لمنصب الرئيس، حيث كانت مشكلة مذهبه الكاثوليكي من أهم المشاكل التي واجهها. فقد لعب الدين إلى جانب عوامل أخرى دورا مؤثرا في سلوكيات الناخبين عبر التاريخ الأمريكي. فعلى سبيل المثال يتجه اليهود والكاثوليك لانتخاب المرشحين الديمقراطيين أكثر من البروتستانت. وقد أثر الدين أيضا على طريقة عرض المرشحين والمسئولين المنتخبين لقضاياهم على عامة الناخبين (¬2). "فالانتماء الديني ـ كان بصفة عامه ـ أحد العوامل الحاسمة التي تقرر المكان الذي يصطف الأمريكيون فيه من الناحية ¬

(¬1) راجع بتوسع كتاب: تاريخ الإرهاب الأمريكي (الكوكلاكس كلان) - ر. ف. إيفانوف، أي. ف. ليسينفسكي- ترجمةغسان رسلان- اللاذقية: دار الحوار، 1983 (¬2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة - ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص11

السياسية، ولا سيما عندما يقترن ذلك بالأصل العرقي، كما أنه أفضل وسائل التنبؤ بالسلوك الإقتراعى" (¬1). لهذا اجتمع جوزيف وجون وروبرت كينيدى ومساعدوهم الرئيسيون، لمناقشة الصعوبات التي قد تواجه جون في حال إعلان جون كنيدى عن رغبته في ترشيح نفسه إلى منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. وخلص الجميع إلى النتائج التالية: أولاً: لم يسبق وأن أصبح كاثوليكي رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. ثانياً: لم يسبق وأن أصبح شاب بعمر (جون) رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية (وصل عمر جون كيندى عام 1960م إلى 43 سنة فقط" (¬2). وللتغلب على مشكلة الدين قرر (جون كيندى) العمل على جبهتين، أحداهما الاعتماد على دعم الكاثوليك والاقليات الأخرى في أمريكا حيث كان الكاثوليك تقليدياً، عظيمي التأييد للحزب الديمقراطي، وقد بلغ هذا التأييد ذروته عام 1960م، عندما انتخب (جون. ف. كيندي) كأول رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة (¬3)، حيث جاء انتخابه ليمثل ذروة الانخراط الليبرالي في السياسة من جانب الكاثوليك الأمريكيين، وقد عني انتخابه لكثير من الكاثوليك حصولهم أخيرا على التوازن الثقافي مع الأغلبية البروتستانتية (¬4). أما الجبهة الثانية فقد عمل جون كيندى منذ بداية حملته الانتخابية في إشعال نار الفتنة بين إتباع الكنيسة الكاثوليكية، وأتباع الكنيسة البروتستانتية في ولاية فرجينيا الغربية معقل المتطرفين البروتستانت، ذلك أن القائمين على حملة جون كيندى الانتخابية رأوا في طرح المسألة الدينية نصراً لمرشحهم في هذه المنطقة. ولهذا أكد جون كيندى في جميع محاضراته التي ألقاها عبر شاشات التلفزيون الأمريكي بأنه ليس من المعقول أن يرفضه الناخبون كرئيس للولايات المتحدة، لأنه كاثوليكي المذهب، وأعلن في ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية ـ جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص98 (¬2) الإخوة كيندى - أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد- ص38 - الناشر د. ماجد علاء الدين - ط1 1986 (¬3) الدين والسياسة في الولايات المتحدة ج2 - مايكل كوربت - جوليا كوربت - ترجمة د. زين نجاى، مهندس نشأت جعفر ص74 - مكتبة الشروق الدولية - ط2 2002 (¬4) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص143

أول خطاب له في ولاية فرجينيا بأن: "أحداً لم يسأله إذا كان كاثوليكياً أم لا؟ عندما انخرط في صفوف القوات البحرية الأمريكية". وطرح (جون كيندى) هذه المسألة أكثر من مرة، بهدف استعطاف الناخبين المعاديين للكاثوليكية. ولم يتوقف جون عند هذه الحدود، بل أكد فيما بعد بأنه سيشكل حكومته دون اخذ العوامل الدينية بعين الاعتبار، وانه سيفصل بين عقيدته الدينية وعمله السياسي، حيث أسهمت توكيدا ته تلك وقيامه بذلك فعلاً أثناء رئاسته، إسهاما كبيراً في تخفيف أية مخاوف من بسط نفوذ الفاتيكان، القوة الأجنبية على أمريكا، فكان هذا التصريح بمثابة هجوم نفسي ضد أهالي فرجينا الغربية والذين يدينون بالبروتستانتية" (¬1). وبالرغم من كل الجهود التي بذلها كيندى للفوز بالانتخابات إلا أن فوزه كان بمثابة معجزه وأمر غير عادى وخروجاً عن المألوف. فعندما تمت انتخابات الرئاسة الأمريكية في 8 تشرين الثاني عام 1960م، حصل (جون كيندى) على 49.7% من مجموع الأصوات، وحصل ريتشارد نيكسون على 49.6% من مجموع أصوات الناخبين الأمريكيين. وكان الفارق بين النتيجتين ضئيلاً جداً. وصوت في هذه الانتخابات 64.5% من اصل 107 ملايين أمريكي. ويعتبر هذا العدد قليلاً جداً حسب المقاييس الأوربية، وكبيراً جداً حسب المقاييس الأمريكية. وهذه النتيجة التي فاز بها (كيندى) تؤكد حقيقة سيطرة الأنجلو سكسون البروتستانت على الحياة الأمريكية وأنهم لن يسمحوا لاحد غيرهم بحكم أمريكا مهما بلغ الأمر، وبالذات إذا كان كاثوليكياً حيث تنتشر بين البروتستانت الأوهام الدينية على اوسع نطاق. وتشتد مشاعر العداء التاريخية التقليدية للديانة الكاثوليكية، حيث لعب هذا دوراً ملحوظاً في انتخابات الرئاسة في عام 1960 حيث فاز كنيدي على منافسه نيكسون بفارق ضئيل جداً في عدد الأصوات. ومن المفارقات أن 4.5 مليون من البروتستانت الديمقراطيين قد صوتوا ضد مرشح حزبهم ـ أي ضد الكاثوليكي كنيدي" (¬2). فالصراع يشتد في أمريكيا بين الروح الانجلوسكسونية وروح المهاجرين الجدد، إلا أن المزاج البريطاني ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص241 (¬2) تاريخ الإرهاب الأمريكي (الكوكلاكس كلان) - ر. ف. إيفانوف ـ أي. ف. ليسينفسكي- ترجمةغسان رسلان.- اللاذقية: دار الحوار، 1983

كيندي ومحاولة الإصلاح

لازالت له السيادة في الوقت الحاضر على الأدب، حيث إن مستوى الفن والذوق في المدن الأطلسية إنجليزي، والتراث الأدبي تراث إنجليزي، والفلسفة تسير على النهج الإنجليزي. فانجلترا هي التي أنجبت (واشنطن و ارفينج وامرسون) " (¬1). كيندي ومحاولة الإصلاح أدرك (كيندى) منذ توليه الرئاسة العوائق الكبيرة التي تواجه سياسته على المستوى الخارجي والداخلي التي تتعارض مع مصالح وأفكار الطبقة البروتستانتية المتنفذه، والتي لا تستطيع العيش إلا في ظل أجواء الصراع والحرب. لهذا اعتمد (جون كنيدى) على تأييد الكاثوليك من ولاية مساشوسش، بالإضافة إلى المهاجرين الإيطاليين والبولنديين الكاثوليك، لدعم سياسته الخارجية، التي تميزت بانفتاح كبير على العالم، حيث أدرك كيندى ضرورة التعايش السلمي مع الدول ذات النظم السياسية المختلفة. "فبعد أن قابل الرئيس الأمريكي كينيدي الرئيس ديغول في مايو 1961م، أعجب كل منهما بالآخر، ووصف كينيدي في تقرير للشعب الأمريكي في 6/ 6/1961م، ديغول بأنه مستشار حكيم للمستقبل ومرشد واسع الثقافة للتاريخ الذي ساهم في إنجازه. ولكن ذلك الوصف لم يرق لمؤسسة الظل الانكلو ـ سكسونية، التي عبرت عن استيائها لمثل هذه الثقة. وكانت التجربة الفرنسية في فيتنام من ضمن النصائح التي أسداها الحكيم (ديغول لكينيدي). واتفق مستشارو كينيدي علي أنه قد بدأ يفكر بجدية في الخروج من أزمة فيتنام ووضع نهاية لها" (¬2). كما قرر كيندي أن يكون أكثر إيجابية في سياسته الخارجية بسبب تغيير موازين القوى على المسرح الدولي، وقد عبر عن ذلك في خطابه الذي ألقاه في الجامعة الأمريكية في 10 حزيران عام 1963م، حيث أشار إلى عقم الحرب النووية، وقال في هذا الخصوص: "لا فائدة إطلاقاً من الحرب الشاملة في العصر الذي تملك فيه القوى العظمى ترسانات نووية حصينة، لا فائدة من الحرب الشاملة لان القنابل النووية الحالية تملك قوة تفجير اكبر بعشر مرات من قوة تفجير القنبلة النووية التي ¬

(¬1) حكمة الغرب (عرض تاريخي للفلسفة لبغربية في اطارها الاجتماعي والسياسي - برتراند راسل - فؤاد زكريا - ص299 - المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب, كناب رقم 62 - 1983 (¬2) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي 1/ 2/2003

استخدمها الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ... لا فائدة من الحرب الشاملة لأن الغازات السامة يمكن أن تنتقل عبر الهواء والماء والتراب إلى مناطق العالم المختلفة" (¬1). هكذا وقف كيندى في خطابه ضد كثير من العقائد السياسية في أمريكا، حيث أكد أتباع الحرب الباردة أن التوصل إلى سلام مع الشيوعيين أمر شبه مستحيل، وانه لا مفر للعالم من حرب عالمية ثالثة. وقد وصف كيندى هذه الأفكار بأنها مدمره وخطيرة وقال: "دعونا ننظر من جديد في علاقاتنا مع العالم" (¬2). ولهذا خصص معظم خطابه للحديث عن مبدأ التعايش السلمي. إلا أن الواقعية التي تميز بها خطاب الرئيس كيندى في الجامعة الأمريكية لم ترق للدوائر الأمريكية الحاكمة. وأصبح جون كيندى هدفاً من أهداف الرجعية الأمريكية. ونتيجة لذلك أصبح عدم رضا البنتاغون ووكالة المخابرات الأمريكية عن تصرفات الرئيس المعتدلة واضحاً. ولكن الرئيس كيندى كان قد قرر السير قدماً في سياسة التعايش السلمي، وأعطى أوامره للوفد الأمريكي للتوجه إلى موسكو لتوقيع اتفاقية منع التجارب النووية في الفضاء وتحت الماء. وفعلاً تم في موسكو في 5 آب 1963م توقيع المعاهدة .. حيث أدى ذلك إلى تلطيف الأجواء الدولية من ناحية، وتعقيد الوضع الداخلي من الناحية الأخرى. فلم يعد الرجعيون الأمريكيون يقفون ضد الرئيس كيندى بالكلام فقط، بل بدءوا يهاجمونه علانية بعد توقيع الاتفاقية الأمريكية السوفيثية، ووصفت الصحف الأمريكية توقيع الاتفاقية مع السوفيث إنها (كارثة قومية) .. وتم وصف كل من (جون كيندى ومكنماروا) وحتى (دين راسك) بأنهم شيوعيون، يعملون بشكل سرى في أمريكا. وطالبت مجلة (امريكن ابينسيون) في شهر تشرين الثاني عام 1963م بالتخلص من الرئيس (جون كيندى) وإتباعه. ولكن كيندى استطاع التصدي لهذه ¬

(¬1) الارتقاء إلى العالمية (السياسة الخارجية الأمريكية منذ 1938) - ستيفن امبروز- ترجمة نادية الحسيني- مراجعة ودودة بدران- ص 252 - المكتبة الاكاديمية- ط1 1994 (¬2) الإخوة كيندى - أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد ص219

نهاية كنيدي

الحملات، حتى آخر يوم في حياته، واعلن ان توقيع اتفاقية منع التجارب النووية مع السوفيث هي اكبر نجاح له على المسرح الدولي. وبالرغم من معارضة القوى الانجلوسكسونية المتطرفة للمعاهدة، فقد كان التأييد الشعبي لها كبيراً، حيث دخلت معاهدة منع التجارب النووية مع السوفيث قلب الشعب الأمريكي، وبعتث الطبقات الأمريكية البسيطة بآلاف الرسائل إلى الكونغرس الأمريكي، وطالبته بتأييد نص المعاهدة واقرارها .. حيث صادق عليها أعضاء مجلس الشيوخ لكي يضمنوا النجاح في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في عام 1964 (¬1). بالإضافة إلى مواقف كيندى السلمية في السياسة الخارجية، فإن مواقفه الاقتصادية والداخلية لم ترضي أصحاب رؤوس الأموال والعنصريين الأمريكيين، "حيث أن كيندي لم يكن راضياً عن الكم الهائل من الدولارات التي تهجر الولايات المتحدة لتستقر في أوروبا مع أرباحها. وبدأ كينيدي بالإعداد لفرض ضريبة علي تلك الرساميل حتي يلزمها بالعودة إلي ديارها. وفي رسالة وجهها إلي الكونغرس في 18/ 6/1963م، اقترح كينيدي فرض ضريبة تكافؤ معدلات الفائدة علي الأموال الموجودة في الخارج وذلك لتشجيع تصدير المنتجات المصنعة بدلاً من تصدير الدولارات. ولكن كينيدي لم يعش حتى يشاهد ذلك بعينه. ومن الواضح أنه كان لكينيدي مفهوم خاص به عن أمريكا التي يريدها، وهو مفهوم مختلف عن الرؤية الجديدة لأمريكا كعجلة قيادة رئيسة للبارونات الانكلو ـ سكسونييين متعددي الجنسيات" (¬2). نهاية كنيدي اتسمت سنوات حكم كينيدي بسلسلة من الأحداث التي تسبب الحيرة والدوار، بعضها كان للرئيس نفسه يد في نشأتها، ولكن كثيراً غيرها ما كان بإمكانه أن يتنبأ بها، وجاءت ردة فعله باعتباره لاعبا رئيساً في لعبة السياسة الداخلية والدولية المحفوفة بالمخاطر. وفي كل هذه الأزمات، سواء كانت غزو كوبا الكارثي أم ازدياد ¬

(¬1) الإخوة كيندى - أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد ص220ـ222 (¬2) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي ـ 1/ 2/2003

زخم حركة الحقوق المدنية الأميركية، أم الاجتماع برئيس وزراء الاتحاد السوفيتي خروتشوف في قمة فيينا، أو التورط العسكري الأميركي في فيتنام، أو أزمة الصواريخ الكوبية، أو توقيع معاهدة حظر التجارب النووية، كان كينيدي يخرج منها، كذلك السياسي والزعيم الذكي الهادئ الأعصاب دائم البحث والاستفسار، الذي يعتبر مثالا لعصره، والساعي دوما وراء سبل إزالة التوترات، وحل الأزمات الناجمة عن الحرب الباردة والصحوة العاصفة للروح الأخلاقية على يد (مارتن لوثر كينغ الابن) وأمثاله، لأمة عانت كثيرا من الفصل والتمييز العنصري" (¬1). ولكن هذه المواقف للرئيس كيندي وغيرها لم ترق للقوى الانجلوسكسونية البروتستانتية المتطرفة، والتي بدأت تشعر أن هذا الكاثوليكى يهدد مصالحهم ويهدد القيم التي بنوا على أساسها سلطتهم، ولهذا قرروا التخلص منه، حيث أثارت تصريحاته حول ضرورة وضع قانون مدني جديد غضب العنصريين الأمريكيين، وقام العنصريون في الولايات الجنوبية بتهديد الرئيس أكثر من مرة، حيث ألقى قسم المخابرات المكلف بحماية الرئيس القبض على 43 مجموعة، خططت لاغتيال جون كيندي في ولاية تكساس لوحدها. وفي 19 تشرين أول عام 1963م تلقى الرئيس (كيندى)، إشارة خطره جداً، فقد تلقى السكرتير الحكومي المسؤول عن المطبوعات الأمريكية (بير سيلندرجر) رسالة من أحد سكان دالاس موجهة إلى الرئيس كيندى، حيث كتب المجهول في رسالته: "لا تدعو الرئيس كيندى يأتي إلى ولاية تكساس، أنا خائف عليه، وأظن أنه سيلاقى حتفه في حالة قدومه إلى هنا. ولكن (سيلندجر) لم يسلم الرسالة إلى الرئيس كيندي لأنه لم يهتم بها، وظن إنها دعابة لا أكثر، هذا بالرغم من أنه كان لدى الجميع مجال للظن بأن الرئيس كيندي قد شعر في أعماقه بهواجس القلق عند زيارته لقلعة العنصريين الأمريكيين، حيث لم يشغل هذا الظن الرئيس كيندي لوحدة بل شغل جاكلين زوجة الرئيس وأصدقائه" (¬2). وفي يوم 22 تشرين الثاني 1963م تحولت الدعابة إلى حقيقة والقلق إلى يقين، عندما أطلق مجهول النار على الرئيس كيندي في أحد شوارع دالاس .... ¬

(¬1) الرئيس كينيدي .. ملامح القوة ـ ريتشارد ريفز ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوز (¬2) الاخوة كيندى ـ أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد ص225

واضعاً الحد لحياة أول رئيس أمريكي كاثوليكي أراد أن يرى عالم أكثر سلماً وعدلاً واستقراراً .. وهذا لا يرضي تجار الحروب والعنصريين من البارونات الانجلوسكسون الذين نفذوا الجريمة واخفوا أدواتها بسرعة هائلة، وأسدلوا عليها ستار من الصمت والغموض، بالرغم من أن الناس أخذوا يتساءلون منذ الساعة الأولى لاغتيال الرئيس: من الذي قتله؟ ولماذا ولكنهم لم يجدوا جواباً قاطعاً عن هذا السؤال حتى يومنا الحاضر!! فقد اختفت أطراف الجريمة في الماء، وتم إعدام المدعو (لي هاربي اسفالد) بالرصاص فوراً. أما المتهم الثاني جيوم روبى فقد مات في السجن. وبالرغم من أن مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف ـ بي ـ أي) خلص في التحقيق الذي أجراه عام 1964م إلى أن لي (هارفي اوزوالد) اغتال كينيدي وحدة من دون تورط أي جهة أخرى معه، إلا ان ذلك لم يمنع ظهور نظريات لا حصر لها لتفسير (المؤامرة) الكامنة وراء اغتيال كيندي. وفي آخر هذه النظريات "يتهم (بار مكليلان) ـ والد المتحدث الحالي باسم البيت الأبيض ـ في كتاب صدر حديثاً، الرئيس الأمريكي الراحل ليندون جونسون بالوقوف وراء اغتيال الرئيس جون كيندي، ويعرض (مكليلان الأب)، في نحو 480 صفحة في كتابه الذي صدر بعنوان (الدم .. المال .. السلطة): كيف قتل جونسون، كيندي؟. تفاصيل ومقابلات خاصة وصور بصمات تثبت أن (ادوارد كلارك) سفير أمريكا السابق في استراليا، وهو من اخلص أعوان جونسون، وضع خطة اغتيال كينيدي عام 1963م وتستر عليها" (¬1). وسواء كانت هذه الرواية صحيحة أم لا، فإن القارئ يبقى في حيرة من أمره، فيتساءل عن سبب توتر العلاقة بين الأخوين كينيدي من ناحية، ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ( CIA) ومكتب التحقيقات الفيدرالي ( FBI) ، من ناحية أخرى خصوصاً أن جون كينيدي كان مفتونا باستخدام الأساليب الإستخباراتية في سبيل خدمة المصلحة القومية (¬2)، ويظل السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: كيف ارتكبت المخابرات السرية الأمريكية كل هذه الأخطاء التي أدت إلى مقتل الرئيس ¬

(¬1) جريدة الخليج الإماراتية -22ـ8ـ2003ـ عدد 8860 (¬2) الرئيس كينيدي .. ملامح القوة ـ ريتشارد ريفز ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوز- الجزيرة نت

ليندون جونسون

كينيدى؟ وان الأمريكي الوحيد الذي اتهم بقتل الرئيس تم إعدامه فوراً وعلى مرأى الجميع دون أن يأخذوا منه أية معلومات؟ (¬1). ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تكررت مآساة (كيندى) مع أخيه روبرت كيندى، الذي اعتقد أن بإمكان كاثوليكي آخر الطموح للوصول إلى منصب الرئاسة، فوقع ضحية هذا الاعتقاد وتم اغتياله في ظروف غامضة وألصقت تهمة جريمة الاغتيال بالفلسطيني (سرحان بشارة)، وأسدل ستار من الصمت عن المخطط الحقيقي لهذه الجرائم، والتي نؤكد أنها ليست بعيده عن دوائر المخابرات الأمريكية والجماعات المتطرفة البروتستانتية، التي عندها استعداد للقتال حتى الموت من أجل إبقاء السيطرة الانجلوسكسونية البروتستانتية على مقاليد الأمور في أمريكا. ليندون جونسون بعد أن اغتال المتطرفون البروتستانت الرئيس كنيدي ببضع ساعات، أدى ليندون جونسون القسم خلفاً له أثناء تحليقه على متن طائرة سلاح الجو المخصصة للرئيس الأمريكي، وتولي هذا السياسي الانتهازي، مقاليد الأمور، وعاكس السياسات المالية والسياسة التي كان قد تبناها كينيدي، حيث أبقي الوضع كما هو عليه بالنسبة للفوائد علي الأموال المهاجرة، وعمل علي تصعيد وتيرة حرب فيتنام (¬2). كما لم يستمر الموقف المعتدل للسياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، طويلاً، حيث أعادها جونسون إلى سابق عهدها، ولم يتوان عن تقديم كافة أنواع الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري لإسرائيل، حيث كان يقول: أنا مستعد للدفاع عن إسرائيل تماما كما يدافع جنودنا عن فيتنام. وفي عهده حصلت إسرائيل على صفقات كبيرة من الأسلحة الهجومية، والمعدات اللازمة للحرب الإلكترونية، والتي تمكنت إسرائيل ـ بفضلها ـ من هزيمة الجيوش العربية في عام 1967م والاستيلاء على أراضٍ شاسعة تفوق مساحتها، مساحة إسرائيل عدة مرات. أما السبب الذي دفع جونسون للقيام بذلك فيوضحه ¬

(¬1) الإخوة كيندى - أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد ص228 (¬2) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي 1/ 2/2003م

مستقبل إسرائيل والعالم؟!

(وليم. بالكوانت) بقوله: "إن عواطفه الشخصية تجاه إسرائيل كانت تبدو راسخة بالمحبة والإعجاب، وتشير الظواهر كلها إلى أنه كان فعلاً يحب إسرائيل والإسرائيليين الذين تعامل معهم. كما عرف أقرب مستشاريه بصداقتهم لإسرائيل، إضافة إلى أن اتصالاته المباشرة مع الجالية اليهودية الأمريكية كانت حميمة خلال مسيرة حياته" (¬1). وهناك تصريح لجونسون، أدلى به في سبتمبر 1968م أمام جمعية بنات برث (أبناء العهد) ربما يلقى الضوء على أثر الأفكار والنبوءات التوراتية على سياسته تجاه الصراع العربي الإسرائيلي حيث قال فيه: "إن بعضكم، إن لم يكن كلكم، لديكم روابط عميقة بأرض إسرائيل، مثلى تماماً، لأن إيماني المسيحي ينبع منكم، وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي، تماماً مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر الحديث، من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد" (¬2). مستقبل إسرائيل والعالم؟! عندما عبر الرئيس (جونسون) عن قناعاته الدينية التي تدفعه لدعم إسرائيل، فإنه لم يكن الوحيد الذي ينظر إلى الصراع العربي الإسرائيلي هذه النظرة الدينية، بل إنه كان يعبر عن وجهة نظر عامة سادت الأوساط الشعبية البروتستانتية المتدينة في أمريكيا، وبالذات بعد الانتصار الإسرائيلي في حرب 1967م، حيث ساهم هذا الانتصار إلى حد كبير في تزايد التيار المسيحي البروتستانتي المؤيد لإسرائيل، باعتبار أن ما حدث على أرض فلسطين ما هو إلا تحقيق لنبوءات توراتية ولمشيئة إلهية. فقد أثار انتصار إسرائيل السريع خلال حرب الستة أيام في العام 1967م وغزو مجمل أراضى القدس حماسة عارمة لدى (الاعفائيين) الموقوفين على نظريات داربي، وكان (نلسون بل) ناشر (كريستيانيتي توداي) وحماه المبشر الشهير (ببلى غراهام) قد كتب: "أن تقع القدس بين يدي اليهود للمرة الأولى منذ أكثر من ألفي عام يثير القشعريرة عند كل من يقرأ الكتاب المقدس ويشعره بإيمان يتجدد في صحة وشرعية الكتاب" (¬3). ¬

(¬1) عقد من القرارات ـ وليم كوانت ـ ترجمة عبد الكريم ناصيف ـ ص67ـ 68 (¬2) الولايات المتحدة وإسرائيل ـ برنارد ريتش ـ ترجمة مصطفى كمال ـ ص 179 (¬3) عالم بوش السري ـ اريك لوران ـ ترجمة سوزان قازان ص95

ولهذا لم يكن من المستغرب أن نجد عناوين الكتب والمقالات التي نشرت في أمريكيا وبعض الدول الأوربية، في أعقاب حرب 1967م من هذا الطراز الديني المستمد من النصوص التوراتية، مثل (وانتصروا في اليوم السابع)، (حرب إسرائيل المقدسة)، (عملية السيف البتار)، (داوود وجوليات)، (أضربي يا صهيون) وغيرها من العناوين. وضمن الإطار نفسه، قامت بعض الجماعات الدينية المسيحية، بتوزيع منشورات وكراسات بعناوين مثل، (مستقبل إسرائيل والعالم) و (الخطط المقدسة للتاريخ)، حاولت فيها إظهار انتصار إسرائيل في عام 1967، وكأنه ينبثق عن الإرادة الإلهية، إذ تبر بوعدها لشعب الله المختار، وتقوم باستباق الأحداث لتجعلها مطابقة لما جاء في النصوص الدينية، ونبوءات العهد القديم من الكتاب المقدس. وقد نشرت صحيفة الأنوار اللبنانية، صورة لمنشور (مستقبل إسرائيل والعالم) في صفحتها الأولى في 10 نيسان 1968م. وهذه مقتطفات مما جاء في هذا المنشور: "إن العهد القديم من الكتاب المقدس لم يتنبأ بالأزمة التي نشهدها في الشرق الأوسط فحسب، بل تنبأ بالانتصارات الإسرائيلية واحتلال القدس ... وحتى توقيت هذه الأحداث في حد ذاته. لقد تنبأت نصوص الكتاب المقدس بمساحة أكبر من المساحة الواقعة بأيدي إسرائيل في شباط فبراي ـ 1968م، فالنص الوارد في سفر التكوين (15:18) يوضح المسألة باختصار على أساس وعد أله إسرائيل بالأرض الممتدة من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات" (¬1). غير أن الكثيرين يتساءلون عن صحة هذه النبوءات، ويزعم البعض الآخر، أن الأساس التوراتى لمزاعم إسرائيل الأرضية لا علاقة له بالموضوع ... وأن الواقع المعاصر هو الذي يقوم بتعيين حدود الشرق الأوسط. ومع ذلك فإن النصوص المقدسة برهنت على صحتها فيما يتعلق بالأحداث حتى الآن، مما يقوى الحجة لصحتها فيما يتعلق بالأحداث المستقبلية أيضاً" (¬2). وواضح من مضمون المنشور السابق أنه يفسر الأحداث الحاضرة والمستقبلية، التي جرت وستجرى في منطقة الشرق الأوسط، على أسس ¬

(¬1) إسرائيل الكبرى ـ د. أسعد رزوق ـ ص 605. (¬2) صحيفة الأنوار اللبنانية- 10 نيسان 1968 - العدد 2677.

ريتشارد نيكسون والانتحار السياسي

دينية صرفه وكأنها ليس إلا تحقيقاً لوعود ونبوءات توراتية. وهذا أمر خطير جداً كما سيتضح لنا فيما بعد. ريتشارد نيكسون والانتحار السياسي "تطورت العلاقة الخاصة بين أميركا وإسرائيل بشكل مثير, وفي كل مرة تغذت من مبدأ هذا الرئيس الأميركي أو ذاك في تعامله مع المنطقة. فمع (مبدأ ترومان) في احتواء النفوذ السوفياتي, وكذا مع (مبدأ أيزنهاور) في مساعدة دول المنطقة مادياً وعسكرياً لوقف الامتداد الشيوعي، تبوأت إسرائيل موقعاً أساسياً في المواجهة واندفعت إلى حمل الراية الأميركية. لكن الاحتفاء الإستراتيجي الكاسح بإسرائيل كان عليه أن ينتظر (مبدأ نيكسون) ووزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي (هنري كيسنجر) , كي يبدأ مشوار التحالف الوثيق المقدم على أي حساب آخر. إذ اعتبر (مبدأ نيكسون) أن إسرائيل هي حجر الزاوية في السياسة الأميركية في المنطقة, والوكيل المخلص الذي يمكن الاعتماد عليه وحده في اللحظات الحرجة" (¬1). أما لماذا حدث هذا الاحتفاء الاستراتيجي الأمريكي بإسرائيل في عهد نيكسون، واحتلت إسرائيل حجر الزاوية في السياسة الأمريكية في المنطقة، فإن ذلك كان نتيجة للانتصار الإسرائيلي على الجيوش العربية في عام 1967م، حيث ساهم ذلك في تحرير الإدارة الأمريكية ـ جزئياًـ من الضغوط التي كانت تفرضها عليها ظروف الحرب الباردة، بالإضافة إلى ذلك ساهم هذا الانتصار في تنامي المشاعر الدينية المؤيدة لإسرائيل باعتباره تحقيق لنبوءة توراتية. في هذا الجو تولى ريتشارد نيكسون الرئاسة، حيث لم يتوان عن تقديم كافة أنواع الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي لإسرائيل، وذلك استجابة لرغبة الرأي العام المتدين من ناحية، وإرضاءً لقناعاته الدينية من الناحية الأخرى. يقول ريتشارد نيكسون: «إن الله مع أمريكا، إن الله يريد أن تقود أمريكا العالم» (¬2) ولهذا كان ¬

(¬1) الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين المؤلف: نصير عاروري الطبعة: الأولى 2003ـ كامبردج بوك ريفيوز (¬2) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 196 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001

نيكسون من المتأثرين بالأفكار والنبوءات التوراتية، وكانت تربطه علاقات حميمة مع بعض رجال الدين المسيحيين المعروفين بتأييدهم لإسرائيل، حيث انعكس ذلك علي نظرته لإسرائيل. فعندما زارت (جولدا مئير) الولايات المتحدة عام 1969م وصفها (نيسكون) بأنها (دبورة التوراتية) تم راح يغمرها بعبارات المديح لما حققته من ازدهار في إسرائيل. (ودبوره) هي إحدى الشخصيات الجليلة لدى اليهود يصفها (سفر القضاة) بأنها: (نبيه ... قاضية إسرائيل) تم يمضى في تعداد مآثرها وشجاعتها في قيادة الإسرائيليين والانتصار على ملك كنعان، ويروى على لسانها هذه الكلمات: "خذل الحكام في إسرائيل، خذلوا حتى قمت أنا دبوره. قمت أماً في إسرائيل" (¬1). وقد وصل تعاطف نيكسون مع إسرائيل إلى الحد الذي جعله يقول: "إن استعداده للقيام بالانتحار السياسي، أكثر من استعداده لإلحاق الضرر بإسرائيل" (¬2). ولم يكن موقف نيكسون هذا نابع من حرصه على الصوت الانتخابي اليهودي، أو غيرها من الأمور التي نسمع عنها. فاليهود لم يعطوه أكثر من 17% من أصواتهم الانتخابية في عام 1968م، وبالرغم من ذلك كان دعمه المستمر لإسرائيل. ولو إستمررنا في تتبع سياسات الرؤساء الأمريكيين تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، فإننا سنجد على الدوام، أن خلفياتهم الدينية لعبت دوراً حاسماً في تشكيل سياستهم المنحازة لإسرائيل، وهنا يقول (برنارد ريتش) في كتابه ـ الولايات المتحدة وإسرائيل: "إن القادة السياسيين في أمريكيا وخاصة الرؤساء منهم، كانوا ولا يزالون يتبنون وجهة النظر الدينية المؤازرة لإسرائيل، سواء (ويلسون) (وترومان) اللذان يعترفان بالتأثير الديني على قراراتهما، أو ليندون جونسون، الذي ينسب إليه قول مشهور أدلى به في اجتماع لجمعية بنات برث ـ أبناء العهد ـ في سبتمبر 1968م" (¬3). ويعلق كاتب آخر فيقول: "إن علاقة الرؤساء الأمريكيين بإسرائيل ¬

(¬1) الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية - روجيه جارودى ـ تقديم محمد حسنين هيكل- ص 262 - دار الشروق- ط1 1998 (¬2) الولايات المتحدة والدول العربية ـ ا. ا. اوسيبوف ـ ترجمة محمود شفيق الشعبان ـ ص 19. (¬3) الولايات المتحدة وإسرائيل ـ برنارد ريتش ـ ترجمة مصطفى كمال ـ ص 178

جيمي كارتر ينفذ أمرا إلهيا

يصدق عليها قول الكاتب اليهودي الأمريكي (جون بيتى)، الذي قال: إن الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهيونية كما ينحني المؤمن أمام قبر مقدس" (¬1). فقد حبا الله الولايات المتحدة برؤساء مؤمنين بالمسيحية المشوبة بتعاليم التوراة مثل جون آدامز وتوماس جيفرسون كوينسي آدامز وجون تايلر وجيمس بولوك ووليم تافت وودرو ولسون وكالفن كولدج وهاري ترومان وجيمي كاتر ورونالد ريغان، وكلها أسماء لامعة في الخطابين السياسي والديني دون تمييز، ولعل الرؤساء الأقرب إلى سردنا التاريخي هما جيمي كارتر المؤمن بعقيدة الولادة الثانية كمسيحي، ورونالد ريغان المؤمن بنفس العقيدة التي تقول بالرجعة الثانية. جيمي كارتر ينفذ أمراً إلهياً في النصف الثاني من السبعينيات وصل إلى الرئاسة الأمريكية، (جيمي كارتر)، الذي قام بجهد غير عادى لدعم إسرائيل، تم تتويجه بتوقيع أول معاهدة سلام مع دولة عربية وهى مصر، حيث وصف (سايروس فانس) وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، سياسة كارتر تجاه الشرق الأوسط، فقال: "لم يكن محلاً للسؤال أن حجر الأساس في سياسة كارتر حيال الشرق الأوسط، سيبقى هو التزامنا بأمن إسرائيل" (¬2). ويؤكد بريجنسكي ـ مستشار الرئيس (جيمي كارتر) لشؤون الأمن القومي ذلك بقوله: "إن العلاقة الأمريكية ـ الإسرائيلية هي علاقة حميمة مبنية على التراث التاريخي و الروحي" (¬3). كما عبر كارتر نفسه عن العلاقة الأمريكية الإسرائيلية خلال مؤتمر صحفي في عام 1977م، فقال: "إن لنا علاقة خاصة مع إسرائيل، وإنه من المهم للغاية أنه لا يوجد أحد في بلادنا، أو في العالم أصبح، يشك في أن التزامنا الأول في ¬

(¬1) التحدي الصهيوني ـ جاك دومال وماري لوروا، ـ ترجمة نزيه الحكيم - ـ ص 58 - دار المعلم للملايين، دار الآداب، ط أيار، 1969 (¬2) خيارات صعبة ـ مذكرات سايروس فانس ـ ص 9 - المركز العربى للمعلومات, 1984 (¬3) نقد المفهوم التقليدي عن العلمانية - محمود سلطان - ص51 - القاهرة 1998

الشرق الأوسط إنما هو حماية إسرائيل في الوجود ... الوجود إلى الأبد، والوجود بسلام، إنها بالفعل علاقة خاصة" (¬1). ولكن ما هي طبيعة هذه العلاقة الخاصة التي يتحدث عنها الرئيس كارتر؟ إنها بالتأكيد ليست علاقة مبنية على المصالح المشتركة، لأن المصالح تتغير من فترة إلى فترة، وليس لها طابع الدوام إلى الأبد. إن هناك أمر آخر هو الذي جعل هذه العلاقة خاصة والالتزام نحوها أبدياً، كما جاء في تصريح كارتر السابق. وقد وضح الرئيس كارتر هذا الأمر بنفسه في تصريح له أمام الكنيست الإسرائيلي في مارس 1979م حيث قال: "إن علاقة أمريكيا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة، لقد كانت ولا زالت علاقة فريدة لا يمكن تقويضها لأنها متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه، وكما إن الولايات المتحدة وإسرائيل أقامهما رواد مهاجرون فإننا نتقاسم معكم تراث التوراة أيضاً" ... "وفي احتفال أقامته على شرفه جامعة تل أبيب، وضح كارتر الأمر أكثر فقال: "إنه كمسيحي مؤمن بالله، يؤمن أيضاً بأن هناك أمراً إلهياً بإنشاء دولة إسرائيل" (¬2). فكارتر هنا ينفذ أمر المشيئة الإلهية بحذافيرها عندما يدعم إسرائيل، وكيف لا؟ وهو المسيحي المؤمن الملتزم بالصلاة في الكنيسة كل أحد، والذي كان عضواً في أكبر كنائس بلدته وأكثرها جاهاً، وكان معلماً وشماساً في مدرسة الأحد، ويساهم كل عام في أسبوع لإيقاظ الروح الدينية في المجتمع" (¬3). فخلفية كارتر الدينية الصارمة، بوصفه أحد أتباع الكنيسة المعمدانية المعروفة بدعمها لإسرائيل، انطلاقا من إيمانها الشديد بكل ما جاء في العهد القديم من نبوءات وأخبار تاريخية، هي التي رسمت سياسته تجاه إسرائيل. لهذا كان كارتر أكثر وضوحاً من غيره، في التعبير عن (البعد الديني) في السياسة الأمريكية إزاء الصراع العربي الإسرائيلي حيث قال في خطاب ألقاه في الأول من مايو عام 1978م: "إن دولة إسرائيل هي أولاً وقبل كل شيء عودة إلى الأرض التوراتية، التي أخرج منها اليهود منذ مئات السنين ... إن ¬

(¬1) الولايات المتحدة وإسرائيل ـ برنارد ريتش ـ ص 179 (¬2) مجلة المستقبل ـ عدد 733 ـ السنة الرابعة ـ تاريخ 16ـ3ـ1983 (¬3) لماذا ننشد الأفضل ـ جيمى كارتر ـ ص 218: 219

ريجان ومعركة هرمجيدون!

إنشاء دولة إسرائيل هو إنجاز النبوءة التوراتية وجوهرها". واعترف في خطابه نفسه أن عليه "التزاماً كاملاً ومطلقاً نحوها كإنسان وكأمريكي وكشخص متدين". وعندما استقبل (جيمي كارتر) في البيت الأبيض رئيس الوزراء الإسرائيلي (مناحيم بيغن) وعده أن الولايات المتحدة ستدعم إسرائيل إلى الأبد، وقال في خطبة له: "إنه منذ تدمير القدس في العام 7م استمر اليهود في الصلاة ليكون عامهم القادم في القدس، وأنهم عادوا أخيرا إلى ارض التوراة بعد ألفى عام من المنفى والشقاء والتمييز العنصري ضدهم" (¬1). وعندما ظهر كارتر في معبد اليزابت اليهودي في نيوجرسى، وهو يرتدى رداء القضاة المخملي قال: "إنني أقدس الإله الذي تقدسونه. نحن (كمسيحيين) ندرس التوراة التي تدرسونها". واختتم كلمته بالقول: "إن الحفاظ على بقاء إسرائيل لا يدخل في نطاق السياسة، انه واجب أخلاقي" (¬2). وربما هذا ما دفع احد وزاءه لوصفه بانه "واعظ اكثر منه استراتيجي" (¬3) ريجان ومعركة هرمجيدون! لو انتقلنا إلى رونالد ريجان الممثل القادم من هوليود وتتبعنا سياسته اتجاه الصراع العربي الإسرائيلي، فإننا سنجد أن النظرة الدينية البحتة هي التي حكمت سياسته تجاه إسرائيل، هذا بالرغم من أنه لم يكن مديناً لليهود في إعادة انتخابه. فقد أعطوا 68 % من أصواتهم الانتخابية للمرشح الديمقراطي (والتر مونديل)، الذي كان شعاره الانتخابي يقول: "إنني أفضل أن أخسر المعركة الانتخابية واليهود يدعمونني على أن أربحها بدون أصوات اليهود ودعمهم" (¬4). وهنا يفسر جورج شولتز أسباب إجماع الحزبيين الديمقراطي والجمهوري على دعم إسرائيل والتعاون معها بالقول: "إن تعاوننا مع إسرائيل حقيقة ثابتة بصرف النظر عن الحزب الذي يحكم في ¬

(¬1) المسيحية والإسلام والاستشراف - محمد فاروق الزين ص278 (¬2) الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية - روجيه جارودى ص264 (¬3) معركة السلام (يوميات شمعون بيريس) - تحرير ديفيد لانداو - ترجمة: عمار فاضل و مالك فاضل - ص 305 - الاهلية للنشر والتوزيع - عمان - الطبعة الأولى 1995 (¬4) اندماج ـ يوسف الحسن ـ ص 67.

أي من البلدين، لأن هذه العلاقة مغروسة بعمق في وجدان شعبينا وفي قيم حضارتنا" (¬1). والرئيس ريجان لم يشد عن هذه القاعدة، حيث يعتبر من أكثر الرؤساء الأمريكيين تديناً وإيمانا بالنبوءات والخرافات التوراتية، وبالذات تلك المتعلقة بمعركة هرمجيدون الرهيبة، حيث صرح "بأنه كان يشعر عند خوضه الانتخابات الأمريكية بأن المسيح يأخذ بيده، وانه سوف ينجح ليقود معركة (الهرمجدون) التي يعتقد أنها ستقع خلال الجيل الحالي في منطقة الشرق الأوسط" (¬2). وقد عبر (رولاند ريجان) عن الأبعاد التوراتية لالتزام الولايات المتحدة الأمريكية ـ الأخلاقي والروحي والثراتى والأدبي ـ بإسرائيل بقوله، مخاطباً المدير التنفيذي للمنظمة الصهيونية (ايباك): "حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة بمعركة هرمجيدون ـ أي نهاية العالم ـ أجد نفسي متسائلاً، عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك لاحقاً. ولا أدرى إذا كنت قد لاحظت مؤخراً أي من هذه النبوءات، ولكن صدقني إنها تنطبق على زماننا الذي نعيش فيه". ويقول أيضاً: "إن نهاية العالم قادمة، ويراها الرئيس كما تفسر النظريات معركة ـ هرمجيدون ـ حينما تغزو جيوش السوفيت والعرب وآخرين دولة إسرائيل، وستباد جيوش الغزاة بواسطة قنبلة ذرية محدودة وسيموت ملايين اليهود، أما المتبقي منهم فإنه سيتم إنقاذهم بواسطة جيش المسيح، والذي سيعود إلى الأرض لمعاقبة القوى المضادة للإسرائيليين وسيقضى على قوى الشر في معركة تسمى هرمجيدون، وتقع في سهل مجدو في فلسطين، وستنتهي هذه المحنة بقبول اليهود للمسيح كمنقذ لهم، وبزوغ فجر عصر الألف عام السعيدة تحت حكم المسيح" (¬3). وآراء ريجان هذه ليست الأولى من نوعها، فلها سوابق كثيرة في المكتب البيضاوي، ¬

(¬1) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص99 (¬2) المسيخ الدجال (قراءة سياسية في اصول الديانات الكبرى ـ سعيد أيوب-ص 167 - دار الاعتصام- ط1 1989 (¬3) ريغان الرجل والرئيس ـ تأليف مجموعة من الصحفيين الأمريكيين- من سميث، هيدريك- ص 78 - الدار العربية للموسوعات- ط1 1982.

ريجان والتزامه الديني

ولكنها تعكس التصديق الواسع النطاق للنبوءات التوراتية واستخدامها لتبرير وجود إسرائيل، وسنلقى مزيد من الضوء على هذا الموضوع الخطير في الفصول التالية. ريجان والتزامه الديني يشير ريجان نفسه إلى عواطفه الدينية المبكرة، إذ قال في مقابلة تلفزيونية مع المبشر (جيم بيكر) عام 1980م: "كنت محظوظاً لأن أمي غرست فيّ إيماناً عظيماً أكثر بكثير مما أدرك في ذلك الحين". وقال في تصريح علني آخر: "إن الكتاب المقدس يضم كل الإجابات على قضايا العصر، وعلى كل الأسئلة الحائرة إذا ما قرأنا وآمنا، إن الأموال التي ننفقها في محاربة المخدرات والمسكرات والأمراض الاجتماعية يمكن توفيرها لو حاولنا جميعاً أن نعيش وفق الوصايا العشر .. لقد أخبروني أنه منذ بداية الحضارة سنت ملايين القوانين، ولكنها جميعاً لم تصل إلى مستوى قانون الله في الوصايا العشر الواردة في التوراة" (¬1). ويعارض ريجان بباعث من معتقده الديني مسألة الفصل بين الدين والسياسة التي يتبجح كثير من حكام المسلمين بالتغني بها، حيث يقول: لا يوجد شيء اسمه الفصل بين الدين والسياسة، وأن القائلين بهذا الفصل لا يفهمون القيم التي قام عليها المجتمع الأمريكي. والرئيس الأمريكي لم يكن يخفى توجهاته الدينية الدفينة قبل وبعد تولى الرئاسة، وهو بعد أن نجح في انتخابات الرئاسة التي جاءت به لمقعد الحكم لبس القبعة اليهودية المعروفة، وألقى خطاباً في مؤتمر يهودي، كدليل التزامه بالصهيونية وولائه المطلق لليهود. وقد أكد (جيمس ملز) في مقال نشرتها مجلة (سان ييجو ماجازين) في أغسطس (آب) 1985م. هذه الحقائق بقوله: "إن ريجان كرئيس، أظهر التزاماً بالاضطلاع بواجباته وفقاً لإرادة الله، كما يجب أن يفعل كل مؤمن في منصب رفيع، وأن ريجان شعر بذلك الالتزام خصوصاً في سعيه إلى بناء الجبروت العسكري للولايات المتحدة وحلفائها" (¬2). ¬

(¬1) الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي/ تأليف اسماعيل الكيلاني. ـ ص11 - ط.2. - بيروت، لبنان: المكتب الإسلامي، 1994. (¬2) ريغان الرجل والرئيس ـ تأليف مجموعة من الصحفيين الأمريكيين ـ ص 110.

الفصل الخامس تنامي التيار الديني المسيحي الأصولي في أمريكيا

الفصل الخامس تنامي التيار الديني المسيحي الأصولي في أمريكيا في ثمانينات القرن الماضي، صعد وتنامي التيار الصهيوني غير اليهودي، وصار يشكل أكبر وأقوى قوة متنامية مؤيدة لإسرائيل على المسرح السياسي الأمريكي. "وتمثلت الشرارة التي أشعلت السياسة الانجيلية المنظمة في أمريكيا بانتخاب جيمي كارتر لرئاسة الجمهورية عام 1976، اذ أعلن كارتر خلال الحملة انه كان مسيحياً إنجيلياً ولد من جديد، حيث ساهمت هذه العبارة في تلقى كارتر دعماً قوياً من الناخبين الذين اعتبروا أنفسهم أيضاً (مولودين من جديد)، ودفع انتخابه مجلة نيوزويك إلى تسمية عام 1976م، عام الإنجيليين" (¬1). وتأكد هذا مجددا بإعلان جيرالد فورد (المنافس في 1976م) و (المتنافسين في 1980م) رونالد ريجان وجون أندرسون، بإعادة مولدهم كمسيحيين، وكان هذا بمثابة إعلان عن نضج الحركة" (¬2). ولما كانت عضوية الكنائس البروتستانتية المحافظة قد اتسعت خلال تلك الفترة، "فإن هذا الاتجاه، المسيحي الصهيوني نحو الشرق الأوسط، يجد من ينتصر له في منابر مختلفة متزايدة، كالكنائس والإذاعات وحتى قاعات الكونغرس، خاصة بعد أن امتد نفوذه إلى عقول وجيوب الملايين وامتلك شبكة تلفزيونية وإذاعية هائلة وبتقنية متقدمة للغاية وباستخدام الأساليب الاستعراضية الدينية في التلفزيون أو ما تسمى الآن ـ الكنيسة التلفزيونية أو الديانة في الأوقات المناسبة" (¬3). ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص278 (¬2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة - ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص155 (¬3) من أوراق واشنطن ـ يوسف الحسن ـ ص 121.

أسباب البركة في أمريكيا

أسباب البركة في أمريكيا عندما عقدت منظمة، ايباك الصهيونية مؤتمرها السياسي السنوي للعام 1981م، ألقى سناتور ايدوارووجر، و. جبسن، كلمه أمام المؤتمر قال فيها: "إن من أسباب تأييده الحيوي الذي لا يتغير لإسرائيل، هو دينه المسيحي". وقال: "إن المسيحيين وبخاصة الإنجيليين ـ هم من أفضل أصدقاء إسرائيل منذ ولادتها الجديدة عام 1948م". وقال أيضاً: "أعتقد أن أسباب البركة في أمريكيا عبر السنين، أننا أكرمنا اليهود الذين لجئوا إلى هذه البلاد، وبورك فينا لأننا دافعنا عن إسرائيل بانتظام، وبورك فينا لأننا اعترفنا بحق إسرائيل في الأرض" (¬1). وهذا أيضا (جيري فالويل) زعيم منظمة الأغلبية الأخلاقية، والصديق الشخصي لمناحيم بيغن وإسحق شامير، والمحافظ الذي يحظى بأكبر قدر من الإعجاب خارج الكونغرس، يجسد الصلة المتنامية بين المسيحية الأصولية والصهيونية، حين قال في كتاب صدر عنه بعنوان (جيرى فالويل واليهود): "إن إسرائيل تحتل الآن مكان الصدارة في نبوءات الكتاب المقدس، وإني أومن أن عهد الوثنيين ـ يقصد العرب والمسلمين ـ قد ولى بسيطرة اليهود على الأرض المقدسة في عام 1967م، أو إنه سينتهي في القريب العاجل. وأني على قناعة بأن معجزة إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948م كان بفضل العناية الإلهية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإن الإله وعد مراراً في العهد القديم بأنه سيجمع الشعب اليهودي في الأرض التي وعدها إبراهيم، وأعنى بها أرض إسرائيل الآن، ولقد أوفى الإله بوعده، وإن إنشاء دولة إسرائيل لدليل ثابت على أن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب حي كريم، وستبقى دولة إسرائيل محور التاريخ. وقال أيضاً: "لا أعتقد أن في وسع أمريكيا أن تدير ظهرها لشعب إسرائيل وتبقى في عالم الوجود، والرب يتعامل مع الشعوب بقدر ما تتعامل هذه الشعوب مع اليهودي". وجيرى فالويل هذا يقوم بإنتاج برنامج ديني اسمه ـ ساعة من أزمان الإنجيل ـ يتم إذاعته من 392 محطة تلفزيونية، ومن حوالي 500 محطة إذاعية كل أسبوع، كما أنه يقوم بتنظيم رحلات إلى إسرائيل للمسيحيين ¬

(¬1) من يجرؤ على الكلام (اللوبى الصهيونى وسياسات اميركا الداخلية والخارجية) ـ بول فندلى- ص 393 - شركة المطبوعات, 1985.

إسرائيل مفتاح أمريكيا للبقاء!

الذين ولدوا من جديد، كما يسميهم" (¬1). وتقديراً لجهوده، فقد أوعز مناحيم بيغن، بمنحه ميدالية اعترافاً بتأييده الثابت لإسرائيل، حيث تم تقليده هذه الميدالية في عام 1980م خلال مأدبة عشاء أقيمت في نيويورك بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الزعيم الصهيوني جابوتنسكى (¬2). وإذا كان فالويل من أشهر المتحدثين بلسان المسيحيين المحافظين، أو أتباع مذهب العصمة الحرفية الذين يصل تعدادهم إلى أكثر من 30 مليون أمريكي، "فإن هناك الكثير من المسيحيين البروتستانت في أمريكيا ينظرون إلى الشرق الأوسط، على الأقل من منظار الصلة الدينية بإسرائيل، ويرون في تأييدهم لها عملاً لاهوتياً، إذ ينسبون لإسرائيل دوراً بارزاً في تفسير التعاليم المسيحية. فهم يعتقدون من جهة، أن إسرائيل تستحق التأييد المسيحي، لأن وجودها هو تحقيق لنبوءات التوراة، ودليل على صدق الكتاب المقدس، ويكثرون من الاستشهاد بفقرات من العهد القديم دفاعاً عن هذا الرأي. ويدعم عدة مسيحيين إسرائيل من جهة ثانية لاعتقادهم بأن اليهود مازالوا كما كانوا زمن التوراة، شعب مختار. يقول المؤلف (جون هاجي)، وهو من اليمين المتطرف: "إن إسرائيل هي الأمة الوحيدة التي تكونت بأمر خالص من الله لا دور للأسباب فيه، وقد أقسم الله بعظمته أن يدافع عن القدس، مدينته المقدسة. إذا كان الله هو الذي أنشأ إسرائيل، وهو الذي يدافع عنها، فإن تلك الأمم التي تقاتلها إنما تقاتل الله" (¬3). إسرائيل مفتاح أمريكيا للبقاء! حدث في صيف 1983م، أن أذاع (مايك ايفانس)، قسيس بدفورد في تكساس، برنامجاً تلفزيونياً خاصاً ولمدة ساعة كاملة، بعنوان ـ إسرائيل مفتاح أمريكيا للبقاء ـ حيث استغله ليصف الدور الحاسم الذي تلعبه إسرائيل في مصير الولايات المتحدة، السياسي والروحي، وأدعى بأن تخلى إسرائيل عن الضفة الغربية وغيرها من ¬

(¬1) من يجرؤ على الكلام ـ بول فندلى ـ ص 394 وما بعدها (¬2) يد الله - ص 96 (¬3) الجذور الإنجيلية للأحادية الأمريكية اليمين المسيحي وكيفية مواجهته - دوان أولدفيد - مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

أمريكيا قوية لأنها تقف مع إسرائيل!

الأراضي المحتلة بعد حرب 1967م، سوف يجر إلى دمار إسرائيل ومن بعدها الولايات المتحدة، وختم (ايفانس) برنامجه بنداء وجهه للمسيحيين، يناشدهم فيه بتوقيع، بيان البركة لإسرائيل، وقال إن هذا البيان مهم بنوع خاص لأن الحرب مقبلة ـ يقصد معركة هرمجيدون ـ وعلينا أن نطلع رئيسنا ـ ريجان ـ ورئيس الوزراء ـ بيغن ـ على شعورنا نحن الأمريكيين نحو إسرائيل. وعن سبب إنتاجه لهذا البرنامج الذي أذيع فيما لا يقل عن 25 ولاية أمريكية، قال ايفانس: "إن الرب أمرني بوضوح بإنتاج هذا البرنامج الخاص بدولة إسرائيل" (¬1). وفي سنة 1984م جمع ايفانس توقيعات مليون مسيحي لالتماس دولي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وفي مجلدين مماثلين حمل ايفانس التوقيعات إلى إسرائيل وقدمها إلى شامير رئيس الوزراء. وكتب ايفانس وقتها يقول: "إن عيني شامير اغرورقتا بالدموع، وقال: إن أولئك المسيحيين يحبوننا حباً عظيماً" (¬2)! أمريكيا قوية لأنها تقف مع إسرائيل! يعلن كثير من رجال الدين البروتستانت في أمريكيا، أمثال (جيم بيكر) (وكينت كوبلان) (وجيمى سواجارت) وغيرهم، من خلال الإذاعات ومحطات التلفزيون، عن تأييدهم لإسرائيل، استناداً لما ورد في الكتاب المقدس. فبناء على الفقرة الواردة في سفر التكوين (أبارك مباركيك ولاعنك ألعنه) تكوين (12: 3) يرى الأصوليون ضرورة تأييد إسرائيل (الحديثة) إلى الأبد، حيث يعتقدون أن أي معارضة لمطلب صهيوني أيا كان الطلب ليست معارضة لدولة إسرائيل، بل هي ضد الرب نفسه، ومعنى هذا تزويد إسرائيل بموافقة مطلقة على العدوان العسكري على أي بلد عربي. فهذا جيمى سواجارت (¬3)، الذي يعتبر من أشهر رجال الدين المسيحي في أمريكيا، يتحدث أكثر ويعمل أكثر لصالح إسرائيل، على أسس توراتية .... حيث يعتبر قيام إسرائيل ضرورة لاهوتية للعودة الثانية للمسيح. ويكشف سواجارت في برامجه ومنشوراته ¬

(¬1) البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني - يوسف الحسن ص122ـ124 (¬2) من يجرؤ على الكلام ـ بول فندلى ـ 395. (¬3) قام جيمي سواجارت هذا، بعمل مناظرة دينية مع احمد ديدات، وقد قمت بتأليف كتاب بعنوان "احمد ديدات بين القاديانية والإسلام" عن هذه المناظرة وغيرها من المناظرات الأخرى التي أجراها احمد ديدات، حيث حاولت توضيح الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها مثل هذه المناظرات، ومن ضمنها، خدمة إسرائيل.

القول مقرون بالعمل

الكنسية عن صهيونيته التوراتية، حيث يقول: "إن أمريكيا مرتبطة بحبل ميلاد سرى مع إسرائيل، وإن الله يبارك الذين يباركون إسرائيل ويلعن لاعنيها ... إن أمريكيا قوية لأنها تقف مع إسرائيل" (¬1). وفي تجمع حديث للائتلاف المسيحي، ادعى متحدث بأن هجمات 11 أيلول، كانت عقوبة إلهية لعدم فعالية الدعم الأمريكي لإسرائيل (¬2). وفي مقابل هذه النظرة المؤيدة والمنحازة بالكامل لإسرائيل يجب الا تدهشنا نظرة هؤلاء البروتستانت الانجلوسكسون للعرب، فطبقا لتشرشل (الذي يمجده العرب) فالعرب ليسوا أكثر من قوم متخلفون يأكلون روث الجمال، بينما طالب لورنس اوليفانت (1829 ـ 1888م) بطرد العرب مثل الهنود الحمر لأنهم غير جديرين بأي معاملة إنسانيه (¬3). ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن الأصوليين المسيحيين أكثر جرأة في الطعن في الإسلام، وجرح مشاعر المسلمين، من حلفائهم اليهود. كما تدل عليه تصريحات (فرانك غراهام) و (بات روبرتسون) و (جيري فالويل) حول الإسلام خلال العام المنصرم. وقد لاحظت الكاتبة الأميركية جريس هاسيل "أن الأصوليين المسيحيين في أميركا مستعدون لتقبل نقد موجه لفرنسا أو إنجلترا، أو ألمانيا، أو إيطاليا، أو الولايات المتحدة، أو أي بلد آخر في العالم، لأن ذلك شأن سياسي، أما نقد إسرائيل فهو يساوي عندهم نقد الرب ذاته"، حسب تعبيرها (¬4). القول مقرون بالعمل لا يجب أن نعتقد أن هذا التيار الديني المسيحي في الولايات المتحدة الأمريكية، يكتفي فقط بإلقاء الخطب الرنانة وتوقيع بيانات التأييد لإسرائيل، "بل أنه يمارس ضغوطاً هائلة على صناع القرار في أمريكيا من أجل دعم أكبر لإسرائيل، ويكون حاضراً في أي نقاش، أو آي قضية تكون إسرائيل طرفاً فيها، سواء في الصحافة أو الإذاعة والتلفزيون، وحتى في قاعات الكونغرس، والاجتماعات الشعبية، فكانت ¬

(¬1) راجع جريدة الخليج الإماراتية - العدد 2957 (¬2) الجذور الإنجيلية للأحادية الأمريكية اليمين المسيحي وكيفية مواجهته - بقلم: دوان أولدفيد- مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية (¬3) معركة آخر الزمان ونبوءة المسيح منفذ إسرائيل باسل حسين ص53 (¬4) يد الله (لماذا تضحى الولايات المتحدة بمصالحها من اجل اسرائل؟!) - غريس هالسيل ـ ترجمة محمد السماك - ص80 - دار الشروق- ط.1 2000

السفارة المسيحية الدولية

النتيجة أن أصبح الكلام بحرية عن الشرق الأوسط وسياسة أمريكيا في المنطقة، مقيداً حتى قبل أن يبدأ" (¬1). وقد نجح هذا التيار المسيحي الأصولي في الحصول على ما يريد في أغلب الأحيان، بسبب تنظيمه وتوحيد جهوده من خلال منظمات وجمعيات منتشرة في طول وعرض الولايات المتحدة الأمريكية، يزيد عددها على أكثر من 250 منظمة وجمعية، من أبرزها، منظمة الأغلبية الأخلاقية ومؤسسات روبرتسون الإعلامية التي تمتلك محطة تلفزيون وإذاعة الشرق الأوسط في جنوب لبنان، ومؤسسة السفارة المسيحية الدولية، ومؤسسة المعبد، وجماعة حق الدين وغيرها الكثير. "وتقوم هذه الجمعيات والمنظمات بإحياء وتنظيم مناسبات عديدة تضامناً مع إسرائيل، مثل يوم الاعتراف بإسرائيل، وسبت التضامن مع إسرائيل، وحفلات الفطور تكريماً لإسرائيل والتي أصبحت حدثاً سنوياً تقوم بتنظيمها جماعة المائدة المستديرة. وفي إحدى الاحتفالات أصدرت لجنة صلاة الفطور، بيانها الخاص لمباركة إسرائيل، باسم ما يزيد عن خمسين مليون مسيحي يؤمنون بالتوراة في أمريكيا. وتضمن البيان خليطاً عجيباً من النقاط الدينية والسياسية والعسكرية، تشمل ما يلي: "دعوة للتعاون الإستراتيجي مع إسرائيل، يعقبها نداء إلى إله إسرائيل الذي أعطى العالم عبر الشعب اليهودي الكتب السماوية .... مختارات من الكتاب المقدس تؤكد حق اليهود الإلهي في الأرض ... ثم دعوة لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، مشفوعة بوصية تقول: إن حدود الأرض المقدسة التي رسمها الكتاب المقدس، لا يمكن أن تغيرها رمال المقتضيات السياسية والاقتصادية المتحركة" (¬2). السفارة المسيحية الدولية تعتبر منظمة السفارة المسيحية الدولية، من أكثر المنظمات والقوى الصهيونية المعاصرة انتشاراً ونفوذاً على الساحة الدولية. وقد ولدت هذه المنظمة في نهاية سبتمبر 1980م حينما اجتمع أكثر من ألف رجل دين مسيحي جاءوا من أكثر من 23 ¬

(¬1) من يجرؤ على الكلام ـ بول فندلى ـ ص 393. (¬2) من يجرؤ على الكلام ـ بول فندلى ـ ص 400.

دولة، في مؤتمر بمدينة القدس، تعبيراً عن الدور المركزي لهذه المدينة في فكر وحركة الصهيونية المسيحية المعاصرة. وقد جاء تأسيسها أثر رفض المجتمع الدولي لقرار الحكومة الإسرائيلية اعتبار القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وكرد فعل على قيام عدد من دول العالم بنقل سفاراتها من القدس إلى تل أبيب. "وقد افتتحت السفارة مكاتب لها في القسم الغربي من مدينة القدس، وأعلنت عن افتتاح أكثر من 37 قنصلية لها في دول العالم، وأخذ يدير هذه المكاتب رجال دين مسيحيون متعصبون للصهيونية. وقد اتخذت السفارة ولاية كارولينا الشمالية، مقراً لها وافتتحت فروعاً لها في عدد كبير من المدن الأمريكية الرئيسة. وتقوم هذه المراكز بجمع التبرعات لإسرائيل وعقد المؤتمرات وتسيير المظاهرات وحشدها، وبيع المنتجات الإسرائيلية، وتنظيم الرحلات السياسية إليها، وممارسة الضغوط السياسية على صانعي القرار في دول العالم لصالح إسرائيل. ويؤمن أعضاء وأنصار هذه السفارة، بأنه على إسرائيل أن تمتد من النيل إلى الفرات. وقد اختصر زعيم هذه السفارة أهداف منظمته بقوله: إننا صهاينة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم" (¬1). وتصل موازنة السفارة إلى أكثر من 100 مليون دولار، وملايين الأتباع، وعشرات الألوف من الأعضاء في جميع أنحاء العالم. وقد نظمت السفارة على مدى الأعوام الماضية، مهرجانات ومسيرات حاشدة في شوارع القدس، احتفالاً بتأسيس إسرائيل وبالأعياد الدينية اليهودية، مثل عيد العرش، الذي شارك فيه آلاف المسيحيين الأصوليين. وتستخدم السفارة، شبكة واسعة من أجهزة الأعلام لنشر أهدافها وتثقيف أتباعها في كيفية خدمة القضايا الإسرائيلية. فهي تصدر مجلة إخبارية ربع سنوية، اسمها المراجعة، بالإضافة إلى عشرات الأوراق والنشرات والبيانات الدورية. وأنتجت فليماً صهيونياً، وشكلت لجان للعمل السياسي ونظمت حملات مستمرة من الرسائل البريدية إلى صانعي القرار في عدد من دول العالم، وصارت تدعى لجلسات الاستماع في الكونغرس الأمريكي، وفي نفس الوقت رتبت حملات لجمع الدم، دعماً لجنود إسرائيل أثناء غزو لبنان عام 1982م، وأنشأت فرقة ¬

(¬1) من أوراق واشنطن ـ يوسف الحسن ـ ص 128.

للغناء سمتها، فرقة أغاني صهيون، وجمعت المساعدات المالية وشجعت بيع السندات الإسرائيلية داخل الكنائس الأمريكية. وفي أواخر أغسطس 1985م نظمت السفارة الدولية، أول مؤتمر صهيوني دولي في مدينة بازل بسويسرا، وفي نفس القاعة التي انعقد فيها المؤتمر الصهيوني الأول بزعامة هرتزل. وقد شارك في المؤتمر أكثر من 600 رجل دين ومفكر مسيحي بروتستانتي، قدموا من 37 دولة، وهتفوا جميعاً بحياة إسرائيل الكبرى، وصلوا من أجل عاصمتها الموحدة والأبدية، القدس، وقرروا الانتشار في الأرض تنظيماً وحركة لخدمة وحماية وتكملة المشروع الصهيوني ... ومن أجل إرضاء الرب أيضاً. وقد اتخذ المؤتمر العديد من القرارات كان أبرزها: 1ـ الضغط باتجاه مزيد من الاعتراف الدولي بإسرائيل كدولة لليهود ودعم عمليات تجميعهم من شتى أنحاء العالم، وخصوصاً من الاتحاد السوفيتي، لاستيطان الضفة الغربية وغزة، وتكملة المشروع الصهيوني الممتد من الفرات إلى النيل تحقيقاً للنبوءات التوراتية. 2ـ مطالبة جميع الدول والمؤسسات الدولية والحكومية والخاصة، فتح أبوابها كاملة لمشاركة الإسرائيليين، وعلى الدول الصديقة الانسحاب من هذه التجمعات إذا ما طردت منها إسرائيل. 3ـ مطالبة جميع الأمم بالاعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وبالتالي نقل سفاراتها إليها. 4ـ تشجيع أطروحة توطين الفلسطينيين ـ يسميهم المؤتمر اللاجئون من إسرائيل ـ في الوطن العربي، وتوفير العدالة للاجئين اليهود العرب في إسرائيل. 5ـ دعم ومساندة الاقتصاد الإسرائيلي، وإنشاء صندوق استثمار مسيحي دولي لهذه الغاية، مقره في أمستردام، وبرأسمال مبدئي قدره مائة مليون دولار،

جورج بوش الأب ... قرارات تتخذ لتنفذ

ويخصص للصناعات التقنية والسياحية في إسرائيل، ومطالبة الدول الصديقة بالامتناع عن تسليح العرب، بما فيهم مصر. 6ـ مطالبة العالم بعدم الانصياع لأنظمة المقاطعة العربية لإسرائيل، وإدانة كل أشكال اللاسامية ضد اليهود. 7ـ تعبئة الكنائس لنصرة إسرائيل وإنشاء تنظيمات بجذور شعبية لهذه الغاية، ومطالبة مجلس الكنائس العالمي بالاعتراف بالرابط التوراتى بين الشعب اليهودي وأرضه الموعودة ودولته إسرائيل، والصلاة انتظارا للمجيء الثاني للمسيح ومملكته القادمة في القدس" (¬1). وكرد على هذا البيان الذي صدر عن السفارة المسيحية الدولية، اصدر مجلس كنائس الشرق الأوسط بياناً، جاء فيه: " لما كنا نعي المسؤوليات الملقاة على عواتقنا حيال الطوائف المسيحية والرأي العام العالمي، فإننا نؤكد أن لهذا الاجتماع صفة سياسية مفضوحة على الرغم من الإشارات الدينية الكثيرة. إننا ندين استغلال التوراة واستثمار المشاعر الدينية في محاولة لاضفاء صبغة قدسية على إنشاء دولة، ولدمغ سياسة إحدى الحكومات بدمغة شرعية" (¬2). جورج بوش الأب ... قرارات تتخذ لتنفذ لو تأملنا القرارات السابقة التي اتخذتها السفارة المسيحية الدولية في عام 1985، والبيانات والمطالب التي طرحتها الحركة الأصولية الأمريكية خلال تلك الفترة، فإننا سنجد أن كثير منها تحقق على أرض الواقع بطرق مختلفة خلال السنوات القليلة الماضية، وبالذات في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب)، والتي يمكن إجمالها بالآتي: ¬

(¬1) البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني - يوسف الحسن ص134ـ135 (¬2) راجع الصهيونية المسيحية - محمد السماك - ص162.

1ـ فتح أبواب الهجرة اليهودية على مصراعيها من الاتحاد السوفيتي السابق، ودول أوروبا الشرقية وأثيوبيا، إلى إسرائيل، مع استمرار المساعي الأمريكية مع سوريا واليمن وغيرها من الدول. 2ـ ازدياد الاعتراف الدولي بإسرائيل، حيث انضمت دول مثل الاتحاد السوفيتي السابق، والصين، ودول أوروبا الشرقية، وكثير من الدول الأفريقية، إلى قائمة الدول المعترفة بإسرائيل والتي لها علاقات دبلوماسية معها. 3ـ دعم الاقتصاد الإسرائيلي بطرق كثيرة، تمثلت بموافقة الرئيس بوش الأب على منح إسرائيل ضمانات قروض بقيمة 10 مليار دولار أمريكي. 4ـ امتناع أمريكيا عن تسليح الدول العربية بأي أسلحة يمكن أن تشكل خطراً على إسرائيل، وممارسة الضغوط من أجل منع الدول العربية من الحصول على أي أسلحة من مصادر أخرى، وحتى في اللحظة التي تمكنت دولة عربية، وهى العراق، من تكوين قوة عسكرية كبيرة تهدد إسرائيل، قامت أمريكيا بالتعاون مع أعوانها العرب بافتعال أزمة مع العراق، وجرته إلى حرب قضت على قوته العسكرية. 5ـ وعلى صعيد تشجيع التعاون الدولي مع إسرائيل، قامت كثير من الدول وبضغط مباشر من أمريكيا، بإلغاء العمل بقوانين المقاطعة العربية، كما تم إلغاء قرار الجمعية العامة الذي يساوى بين الصهيونية والعنصرية، وكل ذلك من أجل فتح آفاق جديدة أمام التعاون الدولي مع إسرائيل. 6ـ وفي مجال تشجيع أطروحة توطين الفلسطينيين في الدول العربية، فقد انبثقت عن مؤتمر مدريد للسلام، لجنة خاصة لبحث قضية اللاجئين في إطار المباحثات المتعددة الأطراف وليس في إطار المباحثات الثنائية، وهذا يؤكد أن هدف هذه اللجنة هو حل مشكلة اللاجئين عن طريق توطينهم في الدول العربية المضيفة لهم، وليس في الأراضي العربية المحتلة، ولهذا رفضت إسرائيل طرح حق العودة في هذه المفاوضات، كما أنها رفضت مشاركة فلسطيني الشتات في المفاوضات الثنائية. 7ـ وبالنسبة لقضية القدس، فإنه لم يكن مصادفة أن يعلن (وليم دوكاكيس) المرشح السابق للرئاسة الأمريكية، والرئيس السابق (بل كلينتون)، خلال حملاتهم

الولادة الثانية والنشوة المطلقة

الانتخابية، عن عزمهما نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بها كعاصمة أبدية لإسرائيل (¬1). إن دل هذا على شيء، فإنما يدل على الرغبة الأمريكية الأكيدة بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، ولكن الظروف الدولية والعربية لم تسمح لأمريكا باتخاذ هذه الخطوة في السابق، ولهذا لجأت أمريكيا وإسرائيل إلى تحقيق هذا الهدف على مراحل، كما حدث في مؤتمر مدريد للسلام، عندما تم استبعاد سكان القدس من المشاركة في مفاوضات السلام، وتم أيضاً استبعاد طرح قضية القدس في إطار المفاوضات، بحجة أنه سيتم بحث هذه القضية بعد المرحلة الانتقالية، وفي إطار الحل النهائي. هذا التطابق بين التوصيات والقرارات التي اتخذها التيار المسيحي الأصولي في أمريكيا لدعم إسرائيل، وبين ما تم ويتم إنجازه على أرض الواقع، إن دل على شيء فإنما يدل على قوة هذا التيار من ناحية، وعلى تبنى صانعي القرار في أمريكيا لمطالب هذا التيار ـ باعتبارهم جزء منه ـ من ناحية أخرى. فجورج بوش الأب ينحدر من أسره عرف عنها انتماؤها وعلاقتها الحميمة بالتيار الديني الأصولي المتطرف، وبرموز هذا التيار الذي يؤمن بحرفية النبوءات التوراتية، حيث يفتخر الرئيس بوش بأنه من المسيحيين الأصوليين المولودين ثانية، وذلك من خلال اعترافه العلني للمسيح. وقد أشار إلى تجربته الشخصية (كمولود ثانية) ـ والتي تعنى النجاة من معاناة اليوم الآخر الذي يسبق معركة هرمجيدون. الولادة الثانية والنشوة المطلقة بالرغم مما تبدو عليه عبارة (مولود ثانية) من بساطه، إلا أنها تخفي ورائها نظرة أصولية عدمية متطرفة. فحسب سفر الرؤيا، آخر كتب العهد الجديد، فإن عدد الأفراد البالغ 144000 فقط، المفترض نجاتهم من كارثة هرمجدون الرهيبة، كان مصدر قلق جدي بل بمثابة كابوس مخيف للكثير من المؤمنين، ناهيك عن كون الموضوع برمته مصدر حرج كبير للكنيسة. ولمجابهة هذه المشكلة وجد الوعاظ ¬

(¬1) رؤية لتغيير أمريكا (بالاهتمام بالناس اولا) - بل كلينتون - آل جور - ص135 - مركز الاهرام للترجمة والنشر - الطبعة الأولى 1992

الأصوليون المسيحيون في الغرب حلاً مناسباً لطمأنة جماهيرهم المؤمنة، وهذا الحل يضمن إنقاذ المؤمنين المولودين ثانيه بحيث يرتفعون لملاقاة المسيح العائد في الجو قبل حدوث كارثة هرمجدون الرهيبة على الأرض، وهو ما أطلقوا عليه تعبير (الرفع للجو أو الخطف) وقد استندوا في ذلك على عبارة وردت في رسالة بولس الأولى إلى أهالي تيسالونيكي قال فيها: "لأن الرب نفسه - عيسى ـ سوف يهبط من السماء وقتما يهتف بذلك كبير الملائكة وينفخ في بوق الله. فالأموات في المسيح يقومون أولاًـ من قبورهم ثم نحن الأحياء الباقون سنرتفع معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون مع الرب إلى الأبد" (¬1) ومن ثم فليس من مبرر لقلق المسيحيين المولودين ثانية فيما يتعلق بالنهاية الرهيبة التي سوف تحل بباقي البشرية "لذلك طمئنوا بعضكم بعضا بهذا الكلام" (¬2). فنحن على ثقة أن المسيح لن يتركنا نعاني ولو لحظة واحدة من الهولوكوست محرقة يأجوج ومأجوج، سوف نجتمع مع المسيح في السماء قبل المحنة الكبرى "مع الذين ماتوا وهم مؤمنون بالمسيح" (حسب رسالة تيسالونيكي الأولى). سيأتي ليأخذ قديسيه، وبعد أن نقابله في الهواء سيعود هو ليقاتل في هرمجيدون ونحن في السماء، وسوف يكتوي بنار هرمجيدون كل مسيحي أو غير مسيحي لا يؤمن بأن المسيح هو المخلص والمنجى الوحيد في نهاية العالم. يقول أحدهم: " شكراً لله، سوف أشاهد معركة هرمجيدون من مقاعد الشرف في الجنة، وكل أولئك المولدين ولادة ثانية سوف يشاهدونها، إنما من السماء، وتلك هي السعادة المطلقة والنشوة الكبرى" (¬3). بهذه الخزعبلات يتفاخر الرؤساء الأمريكيون وكثير من البروتستانت بما يسمى بالولادة الثانية، والتي يبدو أنها أصبحت كصكزك الغفران في العصور الوسطى، وجواز المرور للحصول علي دعم اليمين المسيحي المتطرف الذي سعى بوش للتقرب له حتى عندما كان نائباً للرئيس ريغان، حيث كان النجم السياسي في اجتماعات ¬

(¬1) رسالة بولس الأولى إلى أهل تيسالونيكي4/ 16ـ17 (¬2) رسالة بولس الأولى إلى أهل تيسالونيكي 4/ 18 (¬3) يد الله ـ جريس هالسيل ـ ترجمة محمد السماك ـ ص 43

القس الإنجيلي مايك ايفانز (¬1)، وكان مديناً بانتخابه لهذا اليمين المسيحي المتطرف، الذي يتمتع بقوة مؤسساتية هائلة في الحزب الجمهوري، ويسيطر إتباعه على أكثر من ثلث أعضاء الحزب الجمهوري، حيث قدموا الدعم للرئيس بوش لإيمانهم بأنه خير من يعبر عن أفكارهم المتطرفة، التي تصب في خدمة إسرائيل. فجورج بوش يعتبر ابن اللوبي الصهيوني في أميركا، والمنفذ لكل مخططاته ومشاريعه في فلسطين وخير دليل على ذلك أنه في الخامس والعشرين من شهر يونيو سنة 1986م أقام جيري فولويل ـ وهو من الصهيونيين المسيحيين الأميركيين وأول سياسي أميركي مرموق على حد قول الدكتور وليام عودمان ـ حفل غداء في مدينة واشنطن على شرف نائب الرئيس الأميركي جورج بوش، وقد اخبر فولويل ضيوفه الخمسين الذين حضروا مجاناً حفل الغداء السخي "بوش سيكون أفضل رئيس عام 1988م" (¬2). وبالفعل كان جورج بوش سنة 1988م أفضل رئيس بالنسبة للصهيونيين المسيحيين في أميركا، وللصهيونيين اليهود في كل دول العالم. والأحداث التي عاشها المراقبون وتتبعوا من خلالها سياسة بوش أثبتت انه فعلاً مخلص ووفي لمن جاءوا به إلى سدة الرئاسة الأميركيه. ويكفى الرئيس بوش أنه قدم اكبر وأعظم خدمة لإسرائيل من خلال تدمير القوة العراقية، وعقد مؤتمر مدريد، وما تمخض عنه من اتفاقيات سلام وتطبيع مع إسرائيل، واعتبار السلام خيار إستراتيجي. يضاف إلى ذلك أن بوش نفسه كان على رأس الوفد الرسمي الأميركي إلى السودان في شباط / فبراير 1985م، الذي وقع الاتفاق الأميركي - السوداني ـ القاضي بترحيل يهود أثيوبيا (الفلاشا) إلى دولة الاحتلال الصهيوني، كما كان هو ذاته على رأس الدولة العظمى في العالم التي شنت (الحرب الأميركيه والعالمية) ضد العراق ولا تزال" (¬3). وإذا كان هذا هو حال رؤساء أمريكا منذ زمن بعيد ـ صهيونيون أكثر من الصهاينةـ ومشبعين بالخلفيات الدينية الحاقدة والمتعصبة، فإن السؤال الذي يطرح ¬

(¬1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص368 (¬2) النبوءة والسياسة - ص 25 (¬3) خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق د. صالح زهير الدين ص81 ـ82

نفسه هو لماذا يحرص معظم صانعي القرار في أمريكيا ومنهم الرئيس بوش، على عدم إظهار خلفياتهم الدينية التي تدفعهم لدعم إسرائيل بصورة علنية، ومحاولة تبرير ذلك بشتى أنواع الأكاذيب المعروفة؟!. والجواب هو إن مرد ذلك يعود إلى رغبتهم في عدم إثارة المشاعر العربية والإسلامية، ولهذا يلجئون إلى اختلاق تبريرات أخرى لتمرير سياستهم المنحازة لإسرائيل، مرة بالحديث عن اللوبي الصهيوني والصوت الانتخابي اليهودي، ومرة بالحديث عن ظروف الحرب الباردة والمصالح الأمريكية وغيرها من الأمور التي أثبتت الأيام عدم صدقها، وكل ذلك من أجل إبقاء آمال الدول العربية معلقة بإمكانية حدوث تغير في الموقف الأمريكي تبعاً للتغيرات على الساحة الدولية، وربما يكون ما فعله الرئيس بوش خلال حرب الخليج، وما قدمه من وعود بحل القضية الفلسطينية، بعد تدمير القوة العراقية خير دليل على ذلك.

الباب الثاني البعد الديني للضربة الأمريكية للعراق

الباب الثاني البعد الديني للضربة الأمريكية للعراق (هرمجيدون .. المحرقة الكبرى ... يوم الرب) في العقل الأمريكي (الانجلو سكسوني البروتستانتي) (¬1) ¬

(¬1) قمت بنشر دراسة بهذا العنوان في جريدة القدس العربي خلال شهر أكتوبر 1998 م خلال الأزمة التي افتعلتها أمريكيا في ذلك الوقت بشأن لجان التفتيش وهددت بضرب العراق في عهد الرئيس بل كلينتون

الفصل الأول الطريق إلى حرب الخليج

الفصل الأول الطريق إلى حرب الخليج لم يكن خافياً على أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية، حكومة وشعباً انتابتها حالة سعار وهوس غير مسبوقة لحشد التأييد الدولي لحربها ضد العراق والتي بدأت منذ 1990م وحتى الآن، بالرغم من عدم وجود المبررات الكافية لهذه الحرب التي أجمع المراقبون على أن تداعياتها ستؤدى إلى عواقب وخيمة ليس على العراق وحدة ولكن على المنطقة والعالم ككل. والغريب في الأمر أن حالة السعار هذه لم تكن مقتصرة على الإدارة الأمريكية وحدها بل إن الشعب الأمريكي أبدى نفس الشعور من خلال استطلاعات الرأي التي أشارت إلى التأييد التام لغالبية الشعب الأمريكي لهذه الحرب، بالرغم مما عرف عن هذا الشعب من عدم اهتمامه بالسياسة الخارجية. ولو كان هناك مبرر منطقي معقول لهذه الحرب، لكان الأمر مقبولاً، أما أن تحشد هذه الأساطيل والجيوش، ويتم التهديد باستخدام الأسلحة النووية، مره بدعوى تحرير الكويت وأخرى بسبب خلافات بسيطة على عمل لجان التفتيش ونطاق عملها، فإن ذلك أمر لا يمكن إيجاد مبرر منطقي له مهما حاولت أمريكا من خلال آلتها الدعائية غسل دماغ العالم لكسب التأييد لهذه الأعمال الهمجية، رافضه كل الحلول السلمية والمبادرات الدولية على كثرتها، من خلال الادعاء بحرصها على تطبيق قرارات الشرعية الدولية. فالأمر أصبح بالنسبة لأمريكا، وكأن ضرب العراق، وإشعال الحرب في المنطقة أمرا حتمياً لابد منه، وغاية لابد من إيجاد المبررات لتسويغها مهما كان الثمن، حتى لو التزم العراق حرفياً بكل قرارات الأمم المتحدة، بحيث أصبحنا وكأننا أمام قدر مكتوب، أو وصية مقدسة لابد من تنفيذها بحذافيرها مهما كلف الأمر، بالرغم من معارضة كافة دول العالم لمثل هذا العمل الأخرق، باستثناء الدول الانجلوسكسونية البروتستانتية، مثل بريطانيا، وكندا، واستراليا، ونيوزيلندا، التي شكلت فيما بينها حلفاً دينياً انجلوسكسونياً من طراز جديد يتسم بالعنصرية والبربرية والهمجية، محاولاً تنصيب نفسه لقيادة العالم اعتقاداً منه بأنه ينفذ إرادة الله على الأرض، وان

بريطانيا وجذور الحرب على العراق

الله اختار العنصر الانجلوسكسونى لقيادة العالم، وتنفيذ إرادته انطلاقاً من إيمانه بخرافات ونبوءات توراتية مزيفه، أعطت اليهود ودولة إسرائيل دوراً مركزياً في تشكيل توجهات هذا الدول حيال العالم. لهذا فقد اتخذت هذه الدول الشريرة الحاقدة من الخلاف بين الكويت والعراق مبرراً لتنفيذ مخططها الشيطاني في المنطقة، والذي أعدت له منذ فترة كبيرة، ويكفى أن نشير هنا إلى أن الحملة على العراق الشقيق بدأت حتى قبل مشكلة الكويت، وقامت كلاً من بريطانيا وأمريكيا بفرض حصار اقتصادي على العراق بدعوى سعيه إلى تطوير أسلحة دمار شامل، وكلنا يتذكر مشكلة المكثفات، والمدفع العملاق، التي أثارت حولهما أمريكيا ضجة كبرى حتى قبل مشكلة الكويت. فقد أدركت أمريكيا أن العراق ـ قبل حرب الخليج الثانية ـ وصل إلى مرحلة متقدمة ومتطورة وأصبح يهدد مشروعها الصليبي في المنطقة المتمثل بإسرائيل، ولهذا تم افتعال حرب الخليج وبدأت المؤامرة على العراق من خلال افتعال مشاكل كبيره أمامه، سواء فيما يتعلق بأسعار البترول، والديون والحدود بينه وبين الكويت، والتي حاولت بعض الدول العربية والجامعة العربية حلها بالحسنى، ولكن أمريكيا كانت قد قررت تصعيد المشكلة وخنق العراق، لكي لا يكون أمامه مجال إلا الدفاع عن مصالحه. وهذا ما حدث فكانت، القوات الأمريكية جاهزة في المنطقة لشن حرب على العراق ليس لتحرير الكويت، أو لحماية الدول الخليجية الأخرى من خطر العراق، بل من أجل حماية مشروعها الصليبي في المنطقة وهى إسرائيل، التي أصبح وجودها مهدداً بسبب ما وصل إليه العراق من قوة واقتدار. بريطانيا وجذور الحرب على العراق لفهم الحرب الأمريكية البريطانية على العراق لا بد من إلقاء نظره سريعة على تاريخ العراق الحديث، والذي بدأ مع انهيار الدولة العثمانية في المنطقة، حيث منحت عصبة الأمم، بريطانيا حق الانتداب في العراق الذي أصبح بالتالي مستعمرة تابعة للتاج البريطاني. وخلال سنوات الاستعمار تلك, خطت الحدود السياسية الحالية للعراق بكل تعقيداتها في الشمال حيث الأكراد, وخلافاتها في الجنوب حيث ولدت

آنذاك دولة الكويت، والتي رفضت الحكومات العراقية المتعاقبة الاعتراف بها باعتبارها جزء من ولاية البصرة. وبعد اكتشاف النفط في كركوك عام 1927م ازداد سعار البريطانيين واهتمامهم بالعراق, وأجبر الملك فيصل الأول بعد ذلك على توقيع اتفاقية مع بريطانيا، تفرض على العراق انتهاج سياسة خارجية خاضعة لبريطانيا, وتسمح ببقاء قوات بريطانية على الأراضي العراقية لمدة 25 سنة. وعندما انتهى الانتداب البريطاني عن العراق سنة 1932م كان الكثير من العراقيين ينظرون إلى استقلالهم على أنه منقوص السيادة، طالما ظلت القوات البريطانية في بلدهم. وبعد وفاة فيصل الأول عام 1933م خلفه ابنه غازي الأول الذي مات هو بدوره في حادث سيارة عام 1939م، واتهم البريطانيون بتدبيره بعد أن شجع رئيس وزرائه على تبني سياسة معادية لبريطانيا. بعدها, حكم العراق بالوصاية عبد الإله بن علي, وصي الوريث الشرعي للحكم الملك فيصل الثاني الذي كان عمره عند وفاة والده أربعة أعوام. وفي سنة 1941م قامت ثورة رشيد عالي الكيلاني، التي أطاحت بالملكية مؤقتاً وطردت العائلة المالكة إلى الخارج، لكن سرعان ما أجهضها البريطانيون وقضوا عليها ونصبوا نوري السعيد رئيساً للوزراء يحكم بحسب التعليمات البريطانية. واستمر الأمر كذلك حتى عام 1958 م عندما جاء انقلاب عبد الكريم قاسم الذي أطاح بالسعيد وبالهاشميين في العراق، وأعدم الملك فيصل الثاني ورئيس وزرائه, وأسس الجمهورية العراقية خلفاً للمملكة العراقية، وعندما أنهت بريطانيا انتدابها على الكويت أعلن قاسم في حزيران 1961م أن الكويت جزء لا يتجزأ من العراق، واعتبر إنهاء الحماية عنها، يعني عودتها إلى العراق كقائمقامية تابعة للواء البصرة، واصدر أمرا بتعيين شيخ الكويت قائم قاماً فيها، ولكن وقفت مصر والسعودية إلى جانب الكويت ضد مطالب العراق (¬1). وقد تبنى قاسم سياسات وطنية وتخلى عن حلف بغداد الذي أسسته لندن, لكن أطيح به في انقلاب عسكري سنة 1963 م قاده حزب البعث الذي نصب عبد السلام ¬

(¬1) دراسات في تاريخ العرب المعاصر - د. محمد على القوزي- ص372 - دار النهضة العربية للطباعه والنشر - ط 1 1999

عارف رئيساً للجمهورية، حيث اعترفت الحكومة العراقية الجديدة بدولة الكويت، وتم أيضاً قبول عضويتها في الأمم المتحدة. ولكن عارف قتل في حادث طائرة سنة 1966 م ليخلفه أخوه عبد الرحمن عارف, وليتم إسقاطه هو الآخر بانقلاب بعثي أكثر إحكاماً هذه المرة سنة 1968 م بقيادة أحمد حسن البكر، حيث تم في عهده, تشكل مجلس قيادة الثورة الذي عمل على إجراء إصلاحات اقتصادية ضمنت شعبية للحكم الجديد, ووقع مع الثوار الأكراد اتفاقية الخمسة عشر نقطة سنة 1970م التي هدأت التمرد الكردي والتي كان بموجبها منح الأكراد حكماً ذاتياً موسعاً, مع إعطائهم منصب نائب رئيس الجمهورية. ولكن سقطت الاتفاقية واندلع التمرد مجدداً بدعم خارجي، إلى أنه أخمد مرة أخرى بسبب تخلي إيران عن الأكراد إثر توقيع اتفاقية الجزائر مع العراق سنة 1974م، حيث صعد نجم صدام حسين في قيادة حزب البعث ومجلس قيادة الثورة, إلى أن تمكن من الإطاحة بالرئيس البكر عام 1979م" (¬1). حيث تمكن الرئيس صدام حسين خلال فتره حكمه من تحقيق انجازات عديدة للعراق برغم كل محاولات الإساءة والتضليل التي نسجت حوله. من خلال العرض السابق يتضح لنا أن جذور الحرب على العراق خلقتها بريطانيا خلال فترة انتدابها على العراق من خلال المشاكل الحدودية التي خلفتها، وهذا تقليد بريطاني استعماري اتبعته بريطانيا في كل مكان تواجدت فيه. ففي موقف مبكر من الأزمة تساءل الصحفي (كريستوفر هيتشنز) عن الهاجس الغربي بالكويت وأعلن تعاطفه مع العراق وقال: "بالتأكيد انه باستطاعة أمريكا احتلال الكويت بأكملها إذا أرادت ذلك، إلا أن ذلك لن ينجم عنه سوى إعادة وضع كان قائماً من الصعب الدفاع عنه. فحينما رسم البريطانيون الحدود، فعلوا ذلك بقصد متعمد أن ينكروا على العراق منفذاً على البحر، وبذا يصبح العراق أكثر اعتماداً على بريطانيا". وقد عبر عن ذلك السير بارسونز مستشار تاتشر للشئون الخارجية، ومسئول بريطاني متمرس سابق في المنطقة، عبر عن ذلك قائلاً: "الكويت في اللاوعي العراقي، جزء من إقليم البصرة، اقتطعه البريطانيون الملاعين منهم. قمنا بحماية مصالحنا بقدر من النجاح، ¬

(¬1) راجع ـ العراق .. تقرير من الداخل ـ ديليب هيرو -الناشر: ناشن بوكس، نيويورك- ط1 2004

مقدمات الحرب على العراق

إلا أننا حينما فعلنا ذلك لم يعترينا أي قلق بشأن من يعيشون هناك. خلقنا وضعاً يشعر الناس فيه أنهم قد ظلموا" (¬1). فالمشكلة بين العراق وإيران والكويت ليست جديدة، ولم تظرأ في عهد صدام حسين فقط، بل قديمه قدم المؤامرة الاستعمارية البريطانية التي لم تتوقف طوال هذا التاريخ، بل استمرت بطريقه فجه بعد دخول الامبريالية الأمريكية اللعبة، وتحولها إلى اكبر قوة امبريالية عالمية، من خلال سعيها إلى السيطرة على مقدرات شعوب المنطقة ونهبها، وبالذات الثروة النفطية، هذا بالإضافة إلى الهدف الأساسي وهو حماية مشروعها الصليبي في المنطقة (إسرائيل). لهذا عملت أمريكا وحليفتها بريطانيا على تدمير وضرب أية مشاريع عربية طموحه تهدف إلى الأخذ بناصية التقدم والتطور للحاق بالركب العالمي، وموازنة القوة الإسرائيلية، ولهذا كان العراق في مقدمة الدول المستهدفة أمريكياً بهدف تدمير الانجازات الكبيرة التي تحققت في ظل حكم الرئيس العراقي صدام حسين، والتي أوصلت العراق إلى مرحلة متقدمة جداً في كافة المجالات. مقدمات الحرب على العراق يعود التخطيط الأمريكي لعمل عسكري في منطقة الخليج العربي إلى السبعينات من القرن العشرين عندما بدأت واشنطن تحسب حساب المشاعر القومية والميل إلي الاستقلال في الدول المنتجة للنفط، وبشكل خاص بعد أن أمم العراق نفطه عام 1972م، حيث تم وضعه في قائمة الدول التي تساند الإرهاب، وفي سنة 1973 م بدأ البنتاغون تدريبات عسكرية سنوية في صحراء موهافى، واجهت خلالها القوات الأمريكية المتدربة جنوداً يرتدون الزي العسكري العراقي. وفي عام 1974م صرح كيسنجر، انه لا يستبعد قيام أمريكيا بعمل عسكري للهيمنة على النفط والتحكم بأسعاره، وهو الأمر الذي عاد وأكده الرئيس كارتر في عام 1980م، حيث أعلن أن محاولة أي قوة خارجية تحقيق السيطرة على منطقة الخليج سوف تعتبر ¬

(¬1) بوش في بابل (إعادة استعمار العراق) - طارق على ترجمة د. فاطمة نصر ص264

هجوماً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة. وسوف يتم صد مثل هذا الهجوم بأية وسيلة ضرورية بما فيها القوة العسكرية (¬1). وهنا من حقنا التساؤل عن المصالح الأمريكية في المنطقة، وهل هي فعلاً النفط فقط، أم هناك شيء آخر. بالطبع سيكون من التجني التقليل من أهمية النفط الاستراتيجية لأمريكا باعتبارها دولة عظمى تسعى للسيطرة على الاقتصاد العالمي، ولكن ذلك لا يعني أن نفسر هذا الهاجس النفطي الأمريكي تجاه نفط الخليج بأنه يعني كل شيء لأمريكا. فالهاجس النفطي لأميركا لا يفسر بأغراض استهلاكية محلية (رغم اعتمادها المتزايد على النفط الخارجي) وإنما بالتحكم في مصادر الطاقة في العالم، ذلك أن أميركا تعتقد أن التحكم في هذه المصادر الضرورية لأوروبا واليابان يمكنها من ممارسة الضغوط عليهما. وعليه فإن إستراتيجيتها في الشرق الأوسط وسياستها حيال العراق وإيران لا تهدف إلى التحكم في الطاقة الموجهة لأميركا، وإنما الموجهة للعالم، خاصة أوروبا واليابان، التي تعتمد أساساً على نفط الشرق الأوسط، بعكس أميركا التي تأتي نصف وارداتها النفطية من فنزويلا، المكسيك وكندا. وإذا أضفنا هذه النسبة إلى النفط الأميركي المنتج محلياً، فإن 70% من الاستهلاك الأميركي يأتي من الأمريكتين. بينما تعتمد أوروبا واليابان على الشرق الأوسط أساساً، مما يعنى أن السيطرة على هذا النفط سيضمن لأمريكا السيطرة على أوروبا واليابان، لأنه مهما كانت القوة العسكرية الجوية والبحرية الأميركية فليس بوسعها الحفاظ إلى ما لا نهاية ـ وبعيداً عن التراب الأميركي ـ على تفوق عسكري بدون دعم دول المنطقة، حيث أن القواعد السعودية والتركية هي أهم بكثير تقنياً من حاملات الطائرات الأمريكية (¬2). لهذا فقد شكل تأميم العراق لنفطه تهديداً خطيراً لخطط الهيمنة الأمريكية في المنطقة والعالم. فمن ناحية يهدد مصالحها النفطية، ويحد من قدرتها بالتحكم بمصادر الطاقة، ومن الناحية الأخرى يعني أن العراق أصبح لديه الموارد المالية ¬

(¬1) الطريق إلى حرب الخليج (من موهافى إلى الكويت) ـ محمد مظفر الأدهمى ـ ص70 - الاهلية للنشر والتوزيع- ط1 1997 (¬2) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي ـ المؤلف: إمانيول طود ـ كامبردج بوك ريفيوز

الكافية لتطوير قدراته، وتهديد مشروعها الصليبي في المنطقة إسرائيل. ولذلك عملت الدوائر السياسية الأمريكية على زعزعة نظام الحكم في العراق من الداخل، من خلال تقديم الدعم للأكراد في الشمال، وتحريضهم على الانفصال، وسعى أمريكا وإسرائيل إلى تزويد إيران بالأسلحة لإدامة زمن الحرب العراقية الإيرانية، وإنهاك البلدين اقتصادياً وعسكرياً. فكما يقول هيكل: "كان هناك تفاهم بين الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية والكويت للحيلولة دون تحقيق انتصار عراقي في حربه مع إيران، وكان هؤلاء الأطراف مستعدون لكل الاحتمالات حتى وإن أدى ذلك إلى تقسيم العراق" (¬1). يضاف إلى ذلك الضغوط التي مارستها أمريكا على منظمة أوبك لزيادة الإنتاج لتخفيض أسعار النفط، والتي وصلت إلى سبعة دولارات للبرميل، مما تسبب بمشاكل كبيرة للاقتصاد العراقي. وبالرغم من أن دول الخليج الموالية لأمريكا، حاولت مساعدة العراق لمواجه هذه الصعوبات ليكمل مشوار حربه مع إيران، إلا أن ذلك لم يكن كرامة عيون صدام حسين، بل نتيجة لخطة مسبقة لتدمير العراق وإيران معاً من خلال هذه الحرب، لهذا دعمت أمريكا كلا الطرفين وزودتهما بالسلاح، ودفعت الدول العربية التابعة لها لتكثيف دعمها للعراق تحت شعار (الدفاع عن البوابة الشرقية للأمة العربية)، حيث كان الهدف الخفي من وراء ذلك تدمير البلدين. ومعلوم أن الولايات المتحدة قدمت دعماً هائلاً عسكرياً وسياسياً ومالياً للعراق طوال الثمانينيات، وكان أكثر المسئولين الأمريكيين حماساً لنظام الحكم في العراق عام 1982م هو (دونالد رمسفيلد) الذي كان وزيرا للدفاع قبل أن يتولى الوزارة مرة أخرى في عهد بوش الابن. فقد سافر في مارس/ آذار 1983م إلى بغداد لترتيب تزويد العراق بالأسلحة الكيماوية والتجهيزات العسكرية المتطورة، حيث تطورت العلاقات الأميركية العراقية إيجابياً منذ عام 1982م حتى إن رمسفيلد قال في مقابلة صحفية مع شيكاغو تريبيون عام 1984م: "إن أكثر عمل يعتز به هو إعادة وتطوير العلاقات الأميركية العراقية". http://www.aljazeera.net/books/2003/4/ - TOP وكشف الصحفي الأميركي (بوب وودورد) عام 1986م أن CIA قدمت عام 1984م للعراقيين معلومات إستخبارية وصورا من الأقمار الصناعية ساعدت في ¬

(¬1) حرب الخليج أوهام القوة والنصر ـمحمد حسنين هيكل - ص235 - مركز الاهرام, 1992

الحرب الجديدة

تسديد عمليات القصف العراقي على إيران. وكشفت تحقيقات أجريت عام 1992م أن الولايات المتحدة سلمت العراق 19 حاوية من بكتيريا الجمرة الخبيثة، جهزتها شركة (أميركان تيب كيلتشر كومباني) التي يشرف عليها الجيش الأميركي، وظلت القروض والمنح والتسهيلات الأميركية تتوالى حتى عام 1990م .. فما الذي حدث؟ (¬1). الحرب الجديدة تقول مجلة (جون افريك): "إن النزاع لم يبدأ مع دخول القوات العراقية إلى الكويت، وإنما بدأ يوم خروج العراق منتصراً على إيران عام 1988م حيث فتح أعداؤه عليه حرباً جديدة بدءوها بتصعيد حملة إعلامية واقتصادية معادية ضده، خصوصاً بعد أن وجدوا أن القيادة في العراق مصممة على مواصلة نهجها في تطوير الصناعة والتنمية، وفي رفع قدرات العراق العلمية والتقنية". فبعد ثلاثة اشهر فقط من وقف إطلاق النار بين العراق وإيران، أرسل الضابط نورمان شوارسكوف تقريراً سرياً إلى الأركان العامة يؤكد فيه أن أسوأ ما يمكن أن يحصل في منطقة الخليج هو استيلاء العراق على آبار النفط السعودية، فكان بذلك أول من أثار فرضية التهديد العراقي ومفهوم (الجيش الرابع في العالم) " (¬2). وفي تشرين 1989م استدعى رئيس الأركان (باول) الضابط (شوارسكوف) لمقابلة وزير الدفاع (ديك تشينى) الذي سأله عن رأيه بالبلد الذي يشكل التهديد الأهم بالنسبة لأمن الخليج .. العراق أم إيران؟ فأجاب (شوارسكوف) في الحال .. العراق. وهنا شرع (تشينى) (وباول) في إعداد برنامج معلوماتي ضخم تحت اسم (لعبة الحرب) هدفه إعداد واختبار جميع السيناريوهات التي تنتج عن هجوم عراقي على السعودية، وإمكانيات الردود الأمريكية، حيث تم وضع خطه لمجابهة العراق، تم مباركتها من قبل الكونغرس الأمريكي. ¬

(¬1) حرب آل بوش (أسرار النزاع التي لا يمكن الأعتراف بها) - تأليف: أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش - بيروت، لبنان، دار الخيال- ط.1 2003 - عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت (¬2) عاصفة الصحراء - أسرار البيت الأبيض - الجزء الثاني من الملف السري لحرب الخليج - اريك لوران- ص15 - ترجمة محمد مستجير - ط1

الحرب الاقتصادية والإعلامية

الحرب الاقتصادية والإعلامية بدأت الحرب الاقتصادية على العراق بعد انتهاء حربه مع إيران مباشرة، حيث اتخذت الكويت في 9/ 8/1989م قراراً بزيادة إنتاجها النفطي، مخالفة بذلك اتفاق أوبك، وكان حقل الرميله العراقي أحد الحقول الذي بدأت فيه الكويت تنفيذ ذلك، مما أدى إلى خسارة العراق سبعة مليارات دولار، بسبب خفض الأسعار، وقد حاول العراق حل هذه المشكلة مع حكام الكويت ولكنها باءت بالفشل. ويعلق (كولن باول) على ذلك بقوله: "لقد طعنا خنجراً مسمماً في ظهر العراق بوقف حصص النفط المحددة من قبل أوبك، وبالتالي تخفيض الأسعار وإنقاص مدخولات العراق" (¬1). أما على صعيد الحملة الإعلامية المنظمة ضد العراق، فقد بدأت عندما أطلق العراق في نهاية عام 1989م منظومة صاروخية ناقلة للأقمار الصناعية، وأعلن العراق عن وصوله لصناعة صاروخ أرض ـ أرض بمدى ألفي كيلومتراً، مما أثار الخوف في إسرائيل لأنها أصبحت ولأول مرة في مدى الصواريخ العراقية. هنا تحركت الآلة الإعلامية الأمريكية الصهيونية، واخذت تشن هجومها على العراق والرئيس صدام، وقامت وزارة الخارجية الأمريكية بنشر تقرير عن انتهاك حقوق الإنسان خصت 12 صفحة منه للعراق، ووصفت الحكومة العراقية بأنها الأكثر سوءاً في مجال خرق حقوق الإنسان. وفي28 شباط 1990م اتخذ الكونغرس الأمريكي قراراً بإيقاف التسهيلات المصرفية الممنوحة للعراق في بنك التصدير والاستيراد، وذلك بحجة مساندة العراق للإرهاب الفلسطيني وإيواءه (أبو العباس). وفي 15 آذار نشرت الصحف العراقية اعترافات الصحفي (بازوفت) البريطاني الجنسية والإيراني الأصل، والذي تم إعدامه في اليوم نفسه بتهمة التجسس لصالح بريطانيا وإسرائيل بناء على اعترافاته بمهمته في جمع المعلومات العسكرية والسياسية عن العراق لصالح الصهاينة والشرطة السرية البريطانية. وقد تعرض العراق لحملة إعلامية مضادة وواسعة من قبل وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية والإسرائيلية، بعد إعدامه لبازوفت. ¬

(¬1) يوميات كولن باول ـ بقلم جوزيف بريسكو ـ ص579 - الناشر الاهلية للنشر والتوزيع /عمان - توزيع جروس برس

من جانب آخر تحركت الدبلوماسية العراقية لحشد الدعم العربي، واتخاذ موقف عربي موحد من الحملة البريطانية الصهيونية ضد العراق، ونشرت الجامعة العربية استنكاراً لهذه الحملة، ولكنها استمرت دون توقف، حيث أنه وفي نهاية شهر آذار أعلنت وسائل الإعلام البريطانية عن عثور السلطات البريطانية على شحنات صواعق تفجير نووية مهربة إلى العراق، ورد العراق بأنها شحنة خاصة ببحوث بتروكيماوية. تم أعلنت السلطات البريطانية عن عثورها على قطعة من مواسير (المدفع العملاق) الذي كان الإعلام الغربي والأمريكي والإسرائيلي يشيع أن العراق يعمل على صنعه، ولذلك فإنه يشكل خطراً لابد من التصدي له (¬1). وتصاعدت الحملة الإعلامية الغربية والأمريكية ضد العراق، مره أخرى وبشكل واضح في شهر نيسان عندما أعلن الرئيس صدام حسين في الثاني منه رداً على التهديدات الإسرائيلية للعراق: "لنجعلن النار تأكل نصف إسرائيل إذا اعتدت على العراق"، وكشف للعالم امتلاك العراق للسلاح الكيماوي المزدوج وهاجم الولايات المتحدة، ووصفها بأنها دولة عظمى بالمقاييس المادية، ولكنها ليست عظمى بالمقاييس المعنوية والأخلاقية. وخلال المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس صدام والرئيس مبارك، قال الرئيس صدام في رده على تصريحات الرئيس الأمريكي (جورج بوش) بشأن امتلاك العراق للأسلحة المتطورة: "أن من حق العرب امتلاك الأسلحة التي يمتلكها عدوهم" ويقصد بها إسرائيل، وأعلن أن العراق راغب في إقامة سلام دائم وعادل، وطالب الرئيس بوش ببحث الأمر في الأمم المتحدة. وأضاف الرئيس صدام: "إن سياسة الممنوع على العرب يجب أن تولى إلى الأبد ... وسنرد على من يحاول العدوان علينا، وعلى حقوقنا، بكل ما نملك من الأسلحة" ولكنه أوضح أن شعار السلام واضح في سياسة العراق ومنهجه، ولكنه لن يتنازل عن أي حق للعرب أو للعراق (¬2). من جهة أخري قادت الخارجية الأمريكية والبريطانية حملة قوية في البرلمان الأوروبي ضد العراق، ونجحت في استصدار قرار منه في شهر نيسان، يدعو إلى ¬

(¬1) حرب الخليج ـ أوهام القوة والنصر ـ محمد حسنين هيكل ـ ص239ـ241 (¬2) الطريق إلى حرب الخليج (من موهافى إلى الكويت) لمؤلفه محمد مظفر الادهمى- ص 91

الحظر الفوري على أي معدات لازمة لصنع أسلحة الدمار الشامل للعراق. تم قامت السلطات الأمريكية بطرد بعض الدبلوماسيين العراقيين بحجج متعددة، وصعدت إسرائيل من حملتها الإعلامية ضد العراق، بحجة اكتشافها وحدات عسكرية عراقية في الأردن لتهديدها، وأكد الإعلام الأمريكي اكتشاف طائرات الاستطلاع الأمريكية لقواعد الصواريخ في الأردن. وفي الثالث من نيسان اصدر البيت الأبيض بياناً وصف فيه حديث الرئيس صدام حسين عن إسرائيل، بأنه لا مسئول وباعث على الأسى، واقترح الرئيس بوش سحب هذا التصريح. كما قامت الإدارة الأمريكية بتبني وتنفيذ قرار تمنع تصدير السلع التي يمكن استخدامها عسكرياً في العراق. وقد دفعت هذه الحملة الرئيس صدام إلى الطلب من الملك فهد استدعاء سفير السعودية في واشنطون (بندر بن سلطان) إلى بغداد ليستمع إلى حقيقة الموقف العراقي ولينقله إلى الرئيس بوش. وفي 12 نيسان 1990م التقى الرئيس صدام بوفد من الكونغرس الأمريكي، الذي طلب بكل صراحة أن يوقف العراق برنامجه العلمي، وأن يساهم في عملية التسوية، وان يتعهد بعدم التعرض لإسرائيل وبعد يومين فقط قال شامير: "إن إسرائيل تحتفظ لنفسها بحرية العمل، لتدمير قواعد الصواريخ العراقية. وفي شهر مايو 1990م وصل وفد من الخبراء العسكريين والسياسيين الإسرائيليين إلى واشنطن ليخبرها: " أن ما يوحي به النظام العراقي من اعتداله، وطابعه الإصلاحي، هو من قبيل ذر الرمال في العيون، فبين شباط والوقت الحاضر لم يتوقف صدام حسين عن اتخاذ المواقف المتصلبة: طلب رحيل السفن الأمريكية من الخليج، دعا العرب إلى استخدام سلاح النفط، لم يكتف بتهديد إسرائيل ـ حليفة الولايات المتحدة، بل أشار إلى إمكانية استخدام الأسلحة الكيماوية؟ وبالنتيجة، لا يمكن إلا اعتبار تقوية الجيش العراقي وزيادة عدده وعتاده مؤشراً على إرادة صدام حسين العدوانية" (¬1). ¬

(¬1) حرب الخليج (الملف السري) بيار سالنجر، اريك لوران ـ ص43 - دار اذار للتوزيع والنشر/بيروت- ط1 1991

وهكذا أصبح العراق والرئيس صدام حسين الموضوع المفضل في الإعلام الغربي والأمريكي، لتصويره على أنه الخطر الذي يهدد أمن المنطقة والعالم. ووسط هذه الحملة الإعلامية ضد العراق بدأت في شهر مارس 1990م التحضيرات لعقد قمة عربية طارئة في بغداد من أجل التضامن مع العراق، حيث وصف (بوش) هذه القمة بأنها أكبر تحد للولايات المتحدة (¬1)، التي أرسلت مذكرة للجامعة العربية، حاولت من خلالها أن تملى وتفرض على القمة المبادئ التي يجب أن يعتمدها الرؤساء العرب في مناقشاتهم وقراراتهم، وخصصت المذكرة مساحة واسعة منها للهجوم على العراق بشكل خاص. وفي يوم 28 مارس 1990م افتتح الرئيس صدام مؤتمر القمة العربي الطارئ بخطاب كان يمثل بمجمله تحد واضح للولايات المتحدة الأمريكية، وإنذار صريح، ولكنه غير مباشر، للكويت والسعودية بشكل خاص. فقد اتهم الولايات المتحدة بتقديم الغطاء السياسي والقوة للكيان الصهيوني في عدوانه وتوسعه على حساب العرب. وأكد مطالباً: "يجدر بنا أن نعلن إننا سنضرب إسرائيل إذا اعتدت علينا". أما عن دول الخليج النفطية فقد أخبرهم بأن العراق يخسر مليار دولار في السنة، عن كل دولار ينقص من سعر البرميل الواحد بسبب عدم التزام دول الخليج النفطية بسقف الإنتاج المقرر في الاوبك، مما أوقع هذه الدول في حرج كبير، حيث التزمت بعضها بحصصها، اما الكويت فقد ظلت على سياستها السابقة. وبالرغم من المحاولات التي جرت بين العراق والكويت لحل خلافاتهم حول أسعار النفط والحدود والمسائل المالية، وحقل الرميله من خلال الحوار، إلا أنه وكما يبدو أن الحكومتان البريطانية والأمريكية عملتا على عرقلة التوصل إلى اتفاق وتأزيم الأمور، مما دفع العراق إلى استخدام أسلوب التحذير، بعد فشل كافة المحاولات للتوصل إلى حل مناسب للطرفين، حيث اعتبر العراق ذلك مؤامرة تحاك ضده وعدواناً مباشراً عليه من الكويت، وان العراق سوف يرد على هذا العدوان. لهذا قدم طارق عزيز وزير الخارجية العراقي رسالة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية في 15 تموز 1990م خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب اتهم فيه ¬

(¬1) جريمة أمريكيا في الخليج ـ الأسرار الكاملة ـ محمود بكرى ـ ص 147

الكويت بسلوك سياسة تتعمد إضعاف العراق، من خلال سيطرتها على أراضٍ عراقية، بالإضافة تعمدها إغراق سوق النفط بمزيد من الإنتاج، أدى إلى هبوط أسعار النفط إلى أسعار قياسية مما الحق أضراراً كبيرة بالعراق، كما اتهم الكويت بسرقة نفط من حقل الرميله. حيث اعتبر العراق ما يحدث عملية مدبره هي جزء من مخطط إمبريالي صهيوني ضد العراق والأمة العربية، وقد اعتبرت الرسالة هذه السياسة عدواناً مباشراً على العراق والأمة العربية. وقد أثارت هذه الرسالة نقاشات مختلفة بين وزراء الخارجية العرب، ولم يتوصلوا لأي نتيجة وانهار الاجتماع. وبعد يومين، أرسلت الكويت مذكرة جوابية، على رسالة وزير الخارجية العراقي إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، ولكنها لم تكتف بإرسالها إلى الجامعة العربية، بل أرسلتها إلى رئيس مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة، وكان هذا يعني نية الكويت تدويل النزاع بينها وبين العراق (¬1). وسط هذه الأجواء المتوترة ومع تقارير وكالات الأنباء التي بدأت تتحدث عن حشود عراقية تتجه نحو الجنوب، وعلى حدود الكويت، وصل إلى بغداد وزير الخارجية السعودي للحيلولة دون الصدام، حيث تم الاتفاق مع القيادة العراقية على عقد لقاء عال بين العراق والكويت يوم31 تموز 1990م في جده بين عزة إبراهيم وسعد العبد الله، للتوصل إلى حل، ولكن هذا الاجتماع فشل فشلاً ذريعاً، بسبب التعنت الكويتي المدعوم أمريكياً، وتآمر بعض الزعماء العرب الذين لم يكن هدفهم الوساطة، بل توريط العراق وإيقاعه في الفخ حسب السيناريو الأمريكي المعد مسبقاً ... فكان الغزو العراقي للكويت .. وكانت القمة العربية التي شرعت التدخل الأجنبي (الأمريكي) لحل النزاع. وهذا ما كانت تسعى إليه أمريكا منذ البداية للسيطرة على المنطقة، وضرب القوة العراقية التي باتت تهدد مشروعها الصليبي في المنطقة (إسرائيل). مما تقدم يتضح انه لم يكن في نية العراق احتلال الكويت، وإنما كانت منازعات ومخاصمة كلامية حول موضوع بترول العراق الجنوبي المستنزف، بالإضافة إلى النزاع على الحدود. وقد بدلت الحكومة العراقية بعد انتهاء الحرب مع إيران جهوداً ¬

(¬1) الطريق إلى حرب الخليج (من موهافى إلى الكويت) لمؤلفه محمد مظفر الادهمى- ص 109 وما بعدها

مضنية وجدية لحل هذه المشكلة، إلا أن حكومة الكويت وبإيعاز بريطاني أمريكي تمسكت بردود فعل تتسم باتخاذ مواقف متشددة بلغت ذروتها في اجتماع جدة (¬1)، وما تبعه من احتلال للكويت، حيث أن واشنطن قررت أن الأوان قد آن لتحطيم القدرة العسكرية العراقية ويجب توظيف مجلس الأمن لهذا الغرض، حيث تمكنت من الحصول علي قرار دولي يجيز استخدام القوة ضد العراق، بعد رفضها كافة الحلول السلمية للأزمة. وتذكر (فيليس بينس) أن الإدارة الأميركية لم تسمح لمجلس الأمن بمناقشة مشروع انسحاب عراقي من الكويت، جاء به في اللحظة الأخيرة من بغداد (ييغينوف بريماكوف) وزير الخارجية الروسي آنذاك. بل وأثناء التصويت على القرار رقم 678 الذي خول الولايات المتحدة باستخدام القوة, قامت واشنطن برشوة أعضاء المجلس ـ الدائمين وغير الدائمين ـ المترددين في التصويت وأهمهم الصين، وكولومبيا، وأثيوبيا. والدولة الوحيدة التي عارضت استخدام القوة هي اليمن, دفعت ثمنا غاليا لقاء ذلك. إذ فور أن رفع (عبد الله صالح الأشطل) مندوب اليمن في مجلس الأمن يده معارضاً القرار مال عليه أحد المسئولين الأمريكان وهمس في أذنه "إن تصويتك هذا سوف يكون أكثر كلفة من أي تصويت قمت به من قبل على الإطلاق" (¬2). واستناداً إلى روايات وكتابات عدة، فإن الأزمة في العراق بدءاً من احتلال الكويت إلى احتلال العراق افتعلت لخوض حرب، وكان يمكن حلها دبلوماسياً، وكان هذا رأي (كولن باول) عام 1990م عندما كان رئيساً لأركان الجيش الأميركي، (وجيمس بيكر) وزير الخارجية الأميركي الأسبق، ولكن (سكوكروفت) مستشار الأمن القومي عام 1990م كان يرى أن هذه الأزمة تقدم فرصة لا تعوض للحرب، وإبقاء نصف مليون جندي في المنطقة إلى أجل غير محدد، وأن انسحاب صدام من الكويت سيفوت فرصة الهيمنة على المنطقة (¬3). ولهذا فقد كان احتلال العراق للكويت لحظة، تاريخية للولايات المتحدة تنتظرها بلهفة، بل إنها استدرجت النظام السياسي ¬

(¬1) دول محور الشر الإرهابية - أمريكا .. بريطانيا .. إسرائيل ـ محمد عبد الحميد الكفري ص27 (¬2) العراق تحت الحصار: الأثر المميت للعقوبات والحرب تأليف أنتوني آرنوف (محرر) - ص 41 - خدمة كمبردج بوك ريفيو (¬3) حرب آل بوش - تأليف/ أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش ـ عرض/إبراهيم غرايبة

الهدف حماية إسرائيل وليس تحرير الكويت!!

العراقي والمنطقة إلى تلك اللحظة التي تتيح لها السيطرة العسكرية على منطقة الخليج العربي، والتحكم بالنفط، ومن ثم الهيمنة على العالم (¬1). ولهذا كان القرار السياسي العسكري باستخدام القوة يحاول كسب الوقت وتسريع التنفيذ من ناحية, وحشد الحلفاء وإقناعهم بأنه لا يمكن تأخير الخطوة العسكرية أكثر مما تأخرت. بل إن الخشية الكبرى كانت تنبع من احتمال أن يقيم صدام حسين نظاماً صورياً في الكويت وينسحب منها فوراً, وهو ما سمي بـ"السيناريو الكابوس" كما يقول تشومسكي (¬2). الهدف حماية إسرائيل وليس تحرير الكويت!! من العرض السابق اتضح لنا حجم المؤامرة التي دبرتها أمريكا لتدمير القوة العسكرية العراقية، من أجل حماية مشروعها الصليبي "إسرائيل"، وليس كما بدا لكثير من المخدوعين، من اجل تحرير الكويت. ونزيد الأمر إيضاحاً فنضيف إلى ما تقدم بعض الحقائق. مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية أعدت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي تقريراً قالت فيه أن العراق سيكون الدولة المرشحة الأولي لإشعال فتيل الحرب مع إسرائيل، وانه إذا ما اشتعل هذا الفتيل فأن الدول العربية الأخرى ستنظم لتأييده. وأضاف التقرير أن العراق يسعى للثأر من إسرائيل بسبب تدمير الطيران الإسرائيلي للمفاعل النووي العراقي عام 1981م، ولمواجهة التهديدات الإسرائيلية المستمرة التي تهدف إلى تحجيم القوة العسكرية العراقية والتي باتت تهدد إسرائيل بشكل مباشر. وعندما خرج العراق من حربه قوياً منتصراً عام 1988م اعتبرته الولايات المتحدة الأمريكية اكبر قوة عسكرية في المنطقة، وانه سوف يستخدم قوته ضد إسرائيل. ولهذا بذلت أمريكا جهوداً سياسية مباشرة مع العراق، ومن خلال بعض الأنظمة العربية أيضاً لإقناعه بالتخلي عن مبادئه وسياسته المتعلقة بالموقف من إسرائيل إلا أنها لم تفلح، مما دفعها إلى زيادة الدعم العسكري ¬

(¬1) زلزال في أرض الشقاق العراق (1915ـ2015) ـ كمال ديب ـ عرض/ إبراهيم غرايبةـ المصدر: الجزيرة ـ 19/ 2/2004م (¬2) العراق تحت الحصار: الأثر المميت للعقوبات والحرب تأليف أنتوني آرنوف (محرر) - ص 50

لإسرائيل وبالشكل الذي يردع العراق عن القيام بأي عمل عسكري ضدها وهنا بدأت التصريحات الإسرائيلية الاستفزازية للعراق. "ففي 30 آذار 1990م أعلن رئيس الأركان الإسرائيلي (أهود باراك) أن إسرائيل لابد أن تكون جاهزة لضربة وقائية ضد العراق في أي وقت تشعر فيه أن قوته خطر عليها. تم تبعه اسحق شامير بالقول: إن إسرائيل سوف تهاجم العراق إذا أحست انه اقترب من إنتاج أسلحة نووية. ولكن سرعان ما جاء الرد العراقي المشهور على تلك التهديدات ففي 2 أبريل 1990م أطلق الرئيس العراقي صدام حسين تصريحا قويا شغل العالم، وبدأت أزمة إقليمية وعالمية، فقد ذكر في لقاء مرئي مع الضباط العراقيين، أن الباحثين العراقيين استطاعوا تطوير صناعات عسكرية متقدمة وأن العراق قادر إذا هددته إسرائيل على أن يحرق نصفها (¬1). وهنا قررت إسرائيل القيام بعملية عسكرية جديدة ضد العراق، بعد أن وصلتها معلومات عن امتلاك العراق تسع مخابئ للأسلحة الكيماوية، بالإضافة إلى مخبأين للصواعق النووية، حيث وصل إلى واشنطن في شهر نيسان 1990م وزير الدفاع الإسرائيلي (موشيه ارنيز) للتشاور حول الموضوع مع الأمريكان. وقد أوضح (ارنيز) للمسئولين الأمريكان بان العراق سيهاجم إسرائيل، وطلب المساعدة الأمريكية في توجيه ضربه له وأضاف: ليس من صالحنا أو صالحكم الإبقاء على صدام حسين ... أو الإبقاء على قوته العسكرية. وبعد عودة (ارينز) إلى إسرائيل، تزايدت حدة التهديدات الإسرائيلية بضرب العراق، ولكن لم يحدث الهجوم لان الرئيس الأمريكي (بوش) ورئيسة الوزراء البريطانية (تاتشر) طلبا من شامير الاكتفاء بالحملات السياسية والإعلامية، وإظهار روح التحدي ضد العراق دون عمل عسكري مباشر. ذلك أن الأمريكان كانوا لا يريدون أن يجمعوا العرب مع العراق، وبقيادته ضد إسرائيل، وإنما أرادوا أن يجمعوا الأنظمة العربية مع إسرائيل ضد العراق، فجاءت عملية حماية إسرائيل من خلال الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق، بدعوى تحرير الكويت (¬2). ¬

(¬1) حرب آل بوش - تأليف/ أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش ـ عرض/إبراهيم غرايبة (¬2) الطريق إلى حرب الخليج (من موهافى إلى الكويت) لمؤلفه محمد مظفر الادهمى ص51ـ57

إنجازات صدام

لقد كانت الغارات الأميركية صباح يوم 17 يناير/ كانون الثاني 1991م تستهدف كل المنجزات العراقية مما يبدو للوهلة الأولى، لا علاقة له بما سميت زوراً بحرب تحرير الكويت، القصور الجمهورية والوزارات والمؤسسات العامة والجسور ومحطات الطاقة والمطارات ومصافي البترول والمصانع، ومحطات التكرير الصحية، ومصانع الأغذية وخطوط السكة الحديدية، ومصانع النسيج ومحطات الري، والمدارس والمستشفيات ومعمل لحليب الأطفال. وتعرض العراق لقصف لم يستخدم في كمه ونوعه حتى في الحرب العالمية الثانية، فقد نفذت القوات الأميركية 110 آلاف طلعة جوية وأنزلت 85 ألف طن من المتفجرات، وانسحب العراق من الكويت، ولكن تواصلت حرب الاستنزاف والحصار عليه دون رحمة حتى جرى احتلاله عام 2003 (¬1). إنجازات صدام قبل أن ننتقل إلى القسم التالي من الكتاب لابد أن نشير ولو بإيجاز إلى الإنجازات التي تحققت في عهد الرئيس الراحل صدام حسين والتي دفعت أمريكا للتآمر عليه بمساعده بعض الدول العربية، من اجل حماية مشروعها الصليبي في المنطقة (إسرائيل). أما لماذا الحديث عن الانجازات، فإن مرد ذلك للتذكير في زمن الأكاذيب الأمريكية التي تقلب الأبيض أسود، وتصنع من الأبطال مجرمين، ومن العاهرين والداعرين أنبياء ومخلصين. فالرحل صدام حسين في ذمة الله، ولا يملك الفرصة لدفع الأكاذيب التي ألصقت به، ولكن الواقع الذي يعيشه العراق الآن هو أفضل دفاع يمكن أن يستدل به على انجازات الرجل وكذب وخسة المحتل وأعوانه. فخلال فتره حكمه للعراق تمكن الرئيس صدام حسين من تحقيق انجازات عديدة للعراق برغم كل محاولات الإساءة والتضليل التي نسجت حول فترة حكمة، فمنذ وجوده الأول عام 1968م وحتى سقوط بغداد حقق نظام صدام حسين العديد من الانجازات. فمنذ البدء عام 1972م أمم صدام حسين النفط، وكانت هذه الخطوة ¬

(¬1) زلزال في أرض الشقاق: العراق 1915 - 2015 - كمال ديب؛ تقديم جورج قرم. - ط.1 - بيروت، لبنان: دار الفارابي، 2003. عرض/ إبراهيم غرايبةـ المصدر: الجزير ـ19/ 2/2004م

الأولى على طريق رصد هذا الرجل ونظامه وماذا يفعل في العراق. في عام 1972م كان المدخول النفطي للعراق ثمانمائة وأربعين مليون دولار، وفي العام 1981م حسب النشرة الاقتصادية لمجلة الشرق الأوسط وصل مدخول العراق من النفط25.9 مليار دولار، هذه النقلة الأولى لوضع البلد خارج النفق، فالعراق بدأ بتأميم النفط ثم تقدم في خطواته نحو نوع من تصنيع البلد، وجعله في مصاف أوائل دول العالم الثالث، وهناك تقرير من هيئة الأمم المتحدة يقول بأن النظام الصحي، والنظام التعليمي، هو الأول في بلدان العالم الثالث، هناك ثلاثة آلاف كيلو متراً طولية من السكك الحديدية والأوتوسترادات بناها نظام صدام، هناك المطارات وهناك السدود وهناك المحطات النووية وهناك المفاعلات الذرية وهناك تحديث العسكرة وهناك ما لا يمكن أن يحصى، هناك ثمانية ملايين دونم زراعي العام 1972م انتقلت إلى 25 مليون دونما زراعيا تستخدم منه الآلات الزراعية الحديثة، ويكاد يكون لكل فلاح صاحب قطعة من الأرض جرار آلي. الوزير الفرنسي الأسبق (جان بيير شوفينمان) وهذا لم يكن من أزلام ولا من فلول صدام قال ذات مرة عشية استقالته وهو وزير دفاع من منصبه لأنه رأى بأم عينه بأن ما يحدث هو ليس تحرير للكويت بل تدمير العراق لذلك قدم استقالته قال بالحرف الواحد: في غضون قرن لثلاث مرات، يقوم الغرب بتحطيم حلم نهضة عربية بدأت من محمد علي باشا ومروراً بجمال عبد الناصر وانتهاءً بصدام حسين. هذا الذي قاله جان بيير شوفينمان وهو ديغولي ومن الديغوليين الكبار وليس من الناس الذين ممكن أن نحسبهم على خانة فلان أو عِلان، حسب تقييماتنا وتصنيفاتنا في الشرق العربي. http://www.aljazeera.net/programs/op_direction/articles/2004/7/7-11-1.htm - TOP#TOP ( جون بلجر) صاحب كتاب سادة العالم يقول بالحرف الواحد: إن أكثر نظام في العالم العربي استثمر في البنى التحتية وفي الاقتصاد، وفي دعم شعبه، هو صدام حسين كم من المليارات التي أُنفِقت على الطلبة العراقيين في العالم إلى ما هنالك في فترة من الفترات، كان العراقيون يستوردون البقدونس بطائرات خاصة، لماذا يتناسى البعض كل ذلك والآن لا يتذكرون منه إلا جرائمه؟.

هذا العمل المنهجي، هذا العمل التحويلي الانتقالي من واقع إلى واقع آخر، سيلقى صدودا من قوى تقليدية موجودة في العراق تتحدث عن إعدامات، وعن جرائم، ومقابر جماعية، وغيرها، وهذه محددات ابن خلدونية التي قالت بالقبيله، والعصبية القبلية، والطائفية، والمذهبية، والمغنم. هذه محددات ابن خلدون موجودة في العراق، كما أنها موجودة في كامل الوطن العربي، هذه المحددات تقول فيما تقول بأنه بعد (الواثق) الخليفة العباسي السابع، لم يذهب خليفة إلى ملاقاة ربه بصورة طبيعية، بل ذهب كل خليفة إما غيلة، أو قتلا أو سملا للعيون أو دسا للسم هكذا كان العراق في تاريخه وهكذا كانت المنطقة العربية كلها، محددات ابن خلدون تتحدث عن واقع عصبوي قبلي طائفي، لا تستطيع المنطقة أن تخرج منها؛ لأنه نحن نُحكَّم بماضينا في حاضرنا. أليس كل هذا وغيره كثير من إنجازات ومن إيجابيات صدام حسين؟ إلى متى نظل نقول أنه الديكتاتور؟ لو أن الحكام العرب كلهم تساووا في الديكتاتورية أرى أن الرئيس صدام حسين تميز عنهم في أنه لم تكن في العراق سفارة صهيونية على أرض العراق ولم يُرفَّع علم صهيوني على أرض العراق ولم يضع يده في يد شارون أو بيغن أو موفاز أو شامير أليست هذه من إيجابيات الرئيس القائد صدام حسين؟ في عددها التذكاري الصادر عام 1976م بماسبة حرب أكتوبر قالت مجلة الهلال المصرية: تعتبر المشاركة العراقية في حرب أكتوبر من أبرز معالم التضامن العربي على الرغم من عدم علم القيادة العراقية وعدم التشاور معها في الحرب لكن بعد سماع النبأ عبر المذياع أرسل العراق ثلاثة أرباع قواته الجوية وثلث قواته المدرعة وخمس قواته المشاة أي أن العراق كان القوة العربية الثالثة كانت مصر وسوريا والعراق. وعندما تباهى مناحم بيغن بأنه هو الذي أسس لعلاقة إيجابية مع الأكراد لذبح المزيد من جنود بغداد وعندما تباهى بأنه هو الذي دمر المفاعل أوزيرات في العراق أجابه إيفين يعقوب أيفين رئيس تحرير جريدة علهمشمار في 89/ 3/1990م بقوله: نصيحتي لقادة إسرائيل وهي أن يثقوا بما يقوله صدام حسين حيث أقواله غالبا ما تصاحب أفعاله فالبرج المنطقي الذي بناه وعرضه، ثابت وسليم ومستمر وإمكانيات

العراق قادرة على إعطائه إشارة البدء بالعمل، إن برج صدام البابلي يتكامل وهو هنا برج الإمكانية والاستعداد والتأسيس لا بنهضة علمية واقتصادية وعسكرية فحسب بل وبطموح تكنولوجي موازي أيضا تخصيب اليورانيوم إنه يستعد الآن لكي يضرب غدا وهذا المقال عنوانه" السرب الأول يعقوب إيفين علهمشمار. في عام 1972م رفع صدام حسين شعار نفط العرب للعرب في الوقت الذي يُقتَّل فيه العربي بالنفط العربي أليست هذه من إيجابيات صدام حسين؟ في الوقت الذي وصلت فيه الأمية في بعض الدول العربية إلى أكثر من 50%، كانت العراق باعتراف من منظمة اليونسكو التي قال تقرير لها: إن ثلاثة أعشار في المائة نسبة الأمية في عهد صدام، إن 24 ألفا من علماء العراق هم ثروة الأمة أين تعلموا هل تعلموا في سفارات واشنطن أو بين أحضان سيدات أوروبا؟ لقد تعلموا في الجامعات العراقية أين كانوا هم هل هناك دولة عربية عرضت على أن تحمي هؤلاء العلماء؟ إن هؤلاء العلماء آرائهم هي التي جعلت أميركا والصهاينة يضربون العراق. إن شيطنة صدام حسين جرى صناعتها عبر تاريخ طويل من الأكاذيب، يعني أبلسته وجعله إبليس يعني جحيم دانتي في حلابجة والمقابر الجماعية التي أُسِس لها هذا التاريخ الطويل (¬1). ففي نهاية عقد الثمانينات، وخلال عقد التسعينات، انفق النظام العالمي الجديد ووسائل الإعلام، ملايين الدولارات في تصوير الرئيس (صدام حسين) على انه شيطان العصر، إلى الدرجة التي أضحى يعتبر بها من قبل 95% من الرأي العام الغربي (سفاح بغداد). ولم يكن صدام فقط تلك الشخصية الشريرة التي تحاول تصنيع أسلحة الدمار الشامل كما هي صورته لدى أولئك القابعين في أمريكا، ولكنه ـ كذلك ـ الطاغية الذي سمم شعبه الكردي في حلبجة. لم يكن الرئيس العراقي من قام بهذا العمل، بناء على تقرير الكلية الحربية الأمريكية الذي اثبت أن أكراد حلبجة ماتوا ـ كنتيجة مباشرة ـ لهجوم إيراني بغاز الفسجين. لكن الإعلام الغربي الواقع في قبضة اللوبي اليهودي، لم يكن ليسمح للحقيقة بالظهور في ¬

(¬1) محاكمة صدام بين الرفض والإدانة - برنامج الاتجاه المعاكس - تقديم فيصل القاسم ـ 6/ 7/2004م

إعدام صدام حسين

حملته المسعورة لتشويه صورة النظام العراقي، ورسم صوره شيطانية جديدة لصدام حسين (¬1). إعدام صدام حسين مباشرة بعد صلاة عيد الأضحى المبارك في بغداد تم أعدام صدام حسين بينما جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يحتفلون بتقديم الأضاحي لله عز وجل ابتهاجا بعيد الأضحى المبارك، وبصرف النظر عن تمثيلية المحاكمة المهزلة، فإن إعدام الرئيس العراقى كان قراراً سياسياً مدروساً من حيث تنفيذه وتوقيته من جانب الإدارة الأميركية. الهدف من التنفيذ البشع والاستعراضى هو الانتقام، والهدف من التوقيت هو المزيد من إهانة الأمة العربية. صدام لم يكن رئيس دولة عربية كبرى وحسب، بل ترأس عدداً من مؤتمرات القمة العربية، أى أنه كان في لحظة ما رئيس الأمة العربية. لم ُيعدم الأميركيون أسيرهم صدام لأنه وافق على إعدام 148 مواطناً في الدجيل قبل ثلاثين عاماً، فهم يقتلون مثل هذا العدد أو أكثر منه كل يوم. ولم يقتلوه لأنه كان دكتاتوراً فصدام ليس نسيجا وحده بين الحكام. ولم يقتلوه لأنه حارب إيران فقد وقفوا إلى جانبه حينها. ولم يقتلوه لأنه اجتاح الكويت وضمها فقد جس نبضهم عندما أبلغهم بذلك سلفاً ولم يعترضوا. الذين أعدموا صدام أعدموه لأنه بنى صناعة حربية، وانتج صواريخ، وبدأ مشروعاً نووياً، وهدد أمن إسرائيل كدولة احتلال، وكاد يسيطر على البترول العربى لاستعماله كسلاح لاسترداد الحقوق العربية المهضومة. وقوف صدام في وجه الاحتلال بصلابة محا كل خطاياه السابقة للاحتلال، وإعدامه على يد الاحتلال الأميركى جعله شهيداً وأدخله التاريخ كرمز للإرادة القومية ورفض الخضوع، جنباً إلى جنب مع الذين شنقهم العثمانيون في دمشق، والانجليز في فلسطين، والإيطاليون في ليبيا. فصدام رغم كل المؤاخذات، سجل السبق بقصف إسرائيل، ورفع مستوى التعليم في بلاده .. ودعم بعض الدول العربية .. وحتى بعد وقوعه في الأسر فقد بقي ¬

(¬1) العراق أولاً - حرب إسرائيل الخاطفة على نفط الشرق الأوسط (عملية شيخينا) - تأليف جوفيالزـ ترجمة مروان سعد الدين ص13 - الاوائل للنشر والتوزيع/ دمشق- ط1 2003

مرفوع الرأس مرتفع المعنويات ولم يركع ولم يهادن .. بل ظل يحترم شعبه وقد بعث له رسالة للوداع جاء فيها: ها أنا أقدّم نفسي فداءً.

الفصل الثاني الخلفية الدينية للهجمة الأمريكية البريطانية على العراق

الفصل الثاني الخلفية الدينية للهجمة الأمريكية البريطانية على العراق يحتل العراق مكاناً رئيسياً في فكر الحركة الأصولية المسيحية المعاصرة، بسبب ارتباطه كأرض وشعب وحضارة، بأهم حادثه تعرض لها اليهود في تاريخهم وهى السبي البابلي، مما جعله يرتبط مباشرة بكثير من العقائد المسيحية المستمدة من التوارة وسفر الرؤيا بالذات، والتي سطرها أنبياء اليهود خلال السبي البابلي وبعده، كفكرة المسيح المنتظر، وقيام معركة (هرمجيدون) بين قوى الخير والشر، وغيرها من الأفكار، التي انتقلت إلى المسيحية مع ما يسمى بحركة الإصلاح الديني البروتستانتي. فكما كان للبعد الديني أثر رئيس في صياغة السياسة الأمريكية البريطانية المتحيزة لإسرائيل، فإن هذا البعد كان له نفس الدور في صياغة هذه السياسة تجاه العراق والمنطقة، حيث لعب التيار الديني المسيحي البروتستانتي دوراً رئيساً في صياغة هذه السياسة، انطلاقاً من إيمان إتباع هذا التيار، بحرفية النصوص التوراتية وبنبوءاتها المزيفة التي يعملون على تطبيقها حرفياً على ارض الواقع اعتقاداً منهم بأنهم ينفذون أمرا ألهيا، للتعجيل بالعودة الثانية للمسيح. فمن خلال عرضنا السابق اتضح لنا، أن الحرب الأمريكية على العراق لم تكن لتحرير الكويت، بل أنها كانت حرب مبرمجه ومخطط لها مسبقاً من اجل حماية مشروعها الصليبي في المنطقة (إسرائيل)، ولهذا فإن الهجمة الشرسة التي يتعرض لها العراق الشقيق منذ عام 1990 وحتى الآن، والتي لم تنتهي باحتلاله من قبل أمريكا، لا يمكن تفسيرها على أساس أنها تطبيق لقرارات الشرعية الدولية، بل يمكن فهمها فقط على أساس أنها تطبيق حرفي للنصوص التوراتية ونبوءات وردت في العهد القديم توعدت مضطهدي إسرائيل بالدمار والخراب. فبابل العراق هي التى سبت اليهود ودمرت الهيكل، وآشور من قبله قامت بنفس الشئي. ولذلك يرى

إتباع التيار الديني الأصولي في أمريكيا أنه لا بد من الانتقام من كل مضطهدي إسرائيل تنفيذاً لما ورد في التوراة!. فالحرب الأمريكية على العراق لم تكن كرامة سواد عيون الكويتيين أبداً، ولا لحمايتهم من العدوان العراقي أو لتخليصهم من الاحتلال العراقي للكويت ... بل كما يقول د. صالح زهير الدين: "بأن العدوان الأمريكي والبريطاني على العراق ومن بعده الحصار والعقوبات، لها جذورها التي تتغلغل عميقاً في التاريخ بدءاً من الحقد اليهودي المتجذر في (عقدة الأسر البابلي) مرورا بتنامي عقيدة (الصهيونية المسيحية) في كل من بريطانيا والولايات المتحدة وتطلعها لاستعجال عودة المسيح المنتظر، وصولا إلى تحكم رؤوس هذه الصهيونية في قرارات ومؤسسات هاتين الدولتين، ليأتي أسلوب الحصار والعقوبات ضد العراق كإحدى إفرازات هذه العقلية ونتائجها المباشرة". ويضيف: "ومن هذا المنطلق نرى أن التركة الثقيلة التي ورثها العراق من الإمبراطورية الآشورية والبابلية مثلت جوهر العداء التاريخي اليهودي للعراق، لان (عقدة الأسر البابلي) كانت لا تزال إحدى اكبر العقد التاريخية اليهودية وأهمها في التاريخ اليهودي. ولهذا سيبقى العراق كما كان منذ تاريخه ـ عقدة يهودية تلاحقه إلى الأبد، طالما هناك يهودي واحد مأسور في عقدة (الأسر البابلي) هذه ومرهون لها .. إذ ليس هناك مثل العراق أرضاً، احتلت في الأيدولوجيه الصهيونية ومصادرها الأولى مكانة مشحونة بتراكم من العناصر التاريخية والدينية بعد أن أقام العبرانيون في ارض العراق أكثر من ألفي سنه، وارتبطت بهذه الأرض أهم واعنف واقعة في تاريخهم وهي (الأسر البابلي) " (¬1). ولذلك لا يخلو الفكر المعاصر للصهيونية، من شحنة دينية في النظرة إلى هذا البلد، حيث يتخذ الاهتمام الصهيوني بالعراق من وعد ألهي مصدراً له، منسوباً إلى وصية في التوراة لإبراهيم أن "لنسلك أعط هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر ¬

(¬1) خلفيات الحصار الامريكى البريطاني للعراق - د. صالح زهير الدين ـ ص 8

الكبير "الفرات" (¬1)، حيث تحولت هذه الوصية إلى دعوة معاصره كما وردت على لسان موشي دايان، بعد ساعات من دخول مدينة القدس، في السادس من حزيران/ يونيو سنة 1967م، حيث قال: "لقد استولينا على أورشليم ونحن في طريقنا إلى يثرب وبابل". هذا ولم يغب هذا الهاجس القديم عن كثير من المواقف المتعلقة بالعراق حيث أطلق زعماء الحركة الصهيونية على حملة تهجير اليهود ونقلهم من العراق إلى فلسطين أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات من هذا القرن اسم عملية (عزرا ونحميا) إشارة إلى الكاهنين اليهوديين الذين خرجا من بابل ووضعا العهد القديم، لتشبيه خروج اليهود منتصف هذا القرن من العراق بخروجهم من الأسر البابلي في العراق قبل أربعة آلاف سنه (¬2)، وذلك في إطار إصباغ الصبغة الدينية على هذه الحملة وكأنها جاءت تحقيقاً لنبوءات التوراة. على هذا الأساس، ليس من الغرابة أن كانت أهداف اليهودية المتعلقة بالعراق هي ذاتها أهداف الصهيونية المسيحية، في كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، التي تتخذ التوراة قاعدة ومنطلقاً، ومن الأسر البابلي محوراٌ للاقتصاص من العراق في كل عصر وزمان، وليس في عصر الرئيس صدام حسين فقط (¬3). وهذا هو ما يحدث الآن في ظل غياب الوعي العربي لكل ما يحدث، والذي جعلنا للأسف نقبل، ليس فقط بتدمير العراق، بل بقتل أطفاله وتجويع شعبه بحجة تطبيق قرارات الشرعية الدولية، التي لا تطبق إلا على العرب فقط؟! والذي جعلنا نقبل أيضا بفرض حصار جائر على ليبيا لمجرد أن سيادة الرئيس ريجان وأتباع التيار الديني ¬

(¬1) تبين لنا قراءة النصوص المقدسة في منطقة الشرق الأوسط أن جميع شعوب المنطقة من بلاد النهرين إلى مصر بما في ذلك الحيثيون، قد تلقوا وعوداً مماثلة، حيث كان الإله يعد كل شعب بالأرض. ففي مصر، نجد المسلة الضخمة في الكرنك، والتي شيدت في عصر تحتمس الثالث بين عامي 1480م و1475م قبل الميلاد، تمجيداً لانتصاراته في غزوة مجيدو وقادش وقردميش (الواقعة على نهر الفرات)، وقد دونت عليها عبارة الإله: أمنحك هذه الأرض بامتدادها في جميع الجهات لتكون لك شرعاً. لقد جئت لأزودك بكل السبل لكي تجتاح الأراضي الغربية. وعلى الجانب الآخر في منطقة الهلال الخصيب في بلاد ما بين النهريين، نجد في أنشودة الخلق البابلية، أن الإله مردوخ "يحدد لكل نصيبه" ويأمر ببناء بابل وتشييد معابدها. ومن مصر إلى بلاد ما بين النهريين، كان الحيثيون ينشدون لربة الشمس قائلين: أنت تحرسين امن السموات والأرض، وتعيين حدود الأرض. الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية - روجيه جارودى ـ ص45 (¬2) خلفيات الحصار الامريكى البريطاني للعراق - د. صالح زهير الدين ـ ص 9 (¬3) المصدر السابق - ص 14

أحقاد قديمة بثوب معاصر

الأصولي كانوا يعتقدون أن ليبيا هي من قوى الشر التي ستهاجم إسرائيل في معركة هرمجيدون الذي بدأ العد التنازلي لإشعالها في المنطقة تنفيذاَ لنبوءات التوراة!! يقول الاستاذ شفيق مقار: "بطبيعة الحال، قد يقع أي استشهاد بنصوص التوراة في سياق معاصر كهذا كضرب من الأغراب أو كإصرار على (إضاعة الوقت في هذه التواريخ القديمة). إلا أنه قد يحسن بشعوبنا وحكامنا ومفكرينا إن لم يكن لشيء فلغلبة التقوى الدينية العارمة على أدمغة الأميركيين المتعجلين للمجيء الثاني وابتداء العصر الألفي السعيد ـ أن يضيعوا قليلاً من الوقت في التأمل في نوعية (النبوءات) التي يعجل الأميركيون منذ بضعة عقود بالإعداد العملي لتحققيها، لا فيما يخص فلسطين والبلاد العربية، بل فيما يخص كافة دول العالم. فتلك (التواريخ القديمة) فاعلة فعلها في هذه الأيام، من خلال وحش اليهوَ ـ مسيحية ذي الأنياب القادرة على التمزيق، محققة الشهوات القديمة إلى الأرض، كل الأرض، لا أرض (أولئك الفلسطينيين) فقط ومشبعة سعار العداوات القديمة الراقدة في الروح، كخراريج الجحيم وشهوة الانتقام التي جعلت من صلوات شعب الله المختار وصلوات اليهوـ مسيحيين الأتقياء في سفر المزامير الذي لم يكف ولا يكف رؤساء أميركا عن الاستشهاد به، صلاة تقول: "كيف نرنم ترنيمة للرب في أرض غريبة؟ إن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني ليلتصق لساني بحنكي أن لم أذكرك أن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحى. اذكر يا رب لأعدائنا يوم أورشليم القائلين هدوا هدوا حتى أساسها. يا بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا طوبى لمن يمسك أطفالك ويهشم على الصخرة رؤوسهم" (¬1)؟!! أحقاد قديمة بثوب معاصر ربما تكون الفقرة السابقة واضحة في تفسير الأسباب الحقيقة للعدوان الأمريكي البريطاني على العراق، باعتباره تنفيذاً لنبوءات وأوامر توراتية، وليست كما ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار - ص 449

التوراة وآشور العراق

تزعم هاتان الدولتان، بأنه جاء لتحرير الكويت وتطبيق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، وغيرها من الادعاءات. ودعونا نقارن ما يحدث على الأرض الآن بما جاء في التوراة اليهودية الحاقدة، بشأن العراق، شعباً وأرضاً. التوراة وآشور العراق لعبت الإمبراطورية الآشورية التي دامت بين سنه 626ـ911 ق. م دوراً مهماً في تغيير وجه الشرق، حيث حكمها خلال هذه الفترة خمسة عشر ملكاً، وبلغت الإمبراطورية أوج عظمتها واتساعها في عهد بعضهم، بحيث ضمت جميع أراضي الهلال الخصيب ومن ضمنها أجزاء من مصر. ولقد لعبت هذه الإمبراطورية دوراً رئيسياً في القضاء على مملكة إسرائيل نهائياً وسبى سكانها. ففي عهد سرجون الثاني، تم احتلال عاصمة مملكة إسرائيل (السامرة) ومن تم القضاء على مملكة إسرائيل نهائياً في عام 722 ق. م (¬1). كما أن الآشوريين شنوا حملات أخرى على مملكة يهودا في عهد سنحاريب، واجبروا اليهود على دفع الجزية. وبالرغم من أن مثل هذه الحروب كانت أمر عادى بين ممالك المنطقة في ذلك الوقت، إلا آن اليهود دون غيرهم خلدوا هذه الحروب في توراتهم، وانزلوا اللعنات والويل والدمار بالشعوب والدول التي قامت بها. فقد تنبأ الكاهن ناحوم، بدمار نينوى عاصمة مملكة أشور .. لأنه حسب ما جاء في التوراة: "لاقوا هذا المصير من جراء كبريائهم ووحشيتهم". ويصف ناحوم بقسوة أسباب دمار نينوى فيشير إلى عبادتها للأصنام، وفظاظتها، وجرائمها، وأكاذيبها، وخيانتها، وخرافاتها، ومظالمها، ولأنها كانت مدينة مليئة بالدم، ومثل هذه المدينة لا يحق لها البقاء، كما يزعم هذا الكاهن الممتلئ حقداً على أشور. وحي بشأن نينوى، كما ورد في كتاب رؤيا ناحوم الالقوشى "الرب إله غيور ومنتقم وساخط ينتقم من أعدائه، ويضمر الغضب لخصومه ... من يصمد أمام سخطه؟ من يتحمل فرط اضطرام غضبه؟ ينصب غضبه كالنار ¬

(¬1) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة - ص642

صرخة الخراب

وتنحل تحت وطأته الصخور. الرب صالح، حصن في يوم الضيق، ويعرف المعتصمين به. ولكنه بطوفان طام يخفى معالم نينوى، وتدرك الظلمة أعدائه" (سفر ناحوم1، 2ـ8). وتضيف التوراة الحاقدة: "منك خرج يا نينوى من تآمر بالشر على الرب، والمشير بالسوء .... وهذا ما يقوله الرب: مع أنكم أقوياء وكثيرون فإنكم تستأصلون وتفنون. أما انتم يا شعبي فقد عاقبتكم أشد عقاب ولن أنزل بكم الويلات ثانية. بل أحطم الآن نير أشور عنكم، وأكسر أغلالكم. وها الرب قد أصدر قضاءه بشأنك يا أشور: لن تبقى لك ذرية تحمل اسمك. وأستأصل من هيكل آلهتك منحوتاتك ومسبوكاتك، وأجعله قبرك، لأنك صرت نجساً" (سفر ناحوم 1، 11 - 14) (¬1). حصار نينوى: "قد زحف عليك المهاجم يانينوى، فاحرسي الحصن وراقبي الطريق، منعي أسوارك، وجندي كل قوتك. لأن الرب يعيد بهاء يعقوب ومجد إسرائيل، ... نينوى كبركة نضبت مياهها، إذ فر أهلها. وتعلو الصرخة: "قفوا، قفوا". ولا من مجيب يلتفت، انهبوا الذهب، لا نهاية لكنوزها أو لنفائس ثروتها" (سفر ناحوم 2، 1ـ9). صرخة الخراب "أين نينوى عرين الأسود ومرتع الأشبال ... ها أنا أقاومك. يقول الرب القدير. فأحرق مركباتك فتصبح دخاناً، ويلتهم السيف لحوم أبنائك، وأستأصل من الأرض غنائمك ولن يتردد في ما بعد صوت مندوبيك" (سفر ناحوم 2، 11ـ13). خطايا نينوى "ويل للمدينة السافكة الدماء الممتلئة كذباً، المكتظة بالغنائم المنهوبة، التي لا تخلو أبداً من الضحايا. كل هذا من أجل كثرة زنى نينوى الفاتنة الآسرة ومن أجل سحرها القاتل. لقد استعبدت الشعوب بعهرها والأمم بشعوذتها. ها أنا أقاومك، يقول الرب القدير، فأكشف عارك لأطلع الأمم على عورتك والممالك على خزيك. ¬

(¬1) ربما كان هذا النص التوراتي الحاقد هو احد النصوص التوراتية التي شرعت لنهب وسرقة آثار العراق بعد احتلال بغداد.

الدمار المحتم

وألوثك بالأوساخ وأحقرك وأجعلك عبرة. وكل من يراك يعرض عنك قائلاً: قد خربت نينوى فمن ينوح عليها؟ أين أجد لها معزين"؟ (سفر ناحوم 3، 1ـ7) (¬1). الدمار المحتم "هل أنت أفضل من طيبة الجاثمة إلى جوار النيل المحاطة بالمياه المنتنة، بالبحر وبأسوار من المياه، كوش ومصر كانتا قوتها اللامتناهية، وفوط وليبيا من حلفائها. ومع ذلك فقد وقعت أسيرة واقتيدت إلى السبي، وتمزق أطفالها أشلاء في زاوية كل شارع، واقترع على عظامها، وصفد نبلائها بالأغلال. وأنت تسكرين وتترنحين، وتلتمسين ملجأ من الأعداء" (سفر ناحوم 3، 8ـ11). "ها قد نام رعاتك يا ملك أشور، وغرق عظمائك في سبات عميق، تشتت شعبك على الجبال ولا يوجد من يجمعهم. لا جبر لكسرك، وجرحك مميت. وكل من يسمع بما جرى لك يصفق ابتهاجاً لما أصابك، فمن لم يعان من شرك المتمادى؟ ". (سفر ناحوم 3، 18ـ19) "ويل للأشوريين ... يا شعبي المقيم في صهيون، لا تخف من أشور عندما يضربك بقضيب، ويرفع عليك عصاه كما فعل المصريون، فإنه عما قليل يكتمل سخطي، وينصب غضبي لإبادتهم. ولا يلبث الرب القدير أن يهز عليه سوطاً كما ضرب المديانيين عند صخرة غراب، ويرفع قضيبه فوق البحر مثلما فعل في مصر. في ذلك اليوم يتدحرج حمله عن كتفك، ويتحطم نيره عن عنقك لأن عنقك أصبح غليظاً". (سفر اشعيا 10، 5ـ27) سقوط أشور: "لقد أقسم الرب القدير قائلاً: حقاً ما عزمت عليه لابد أن يتحقق، وما نويت عليه حتماً يتم. أن أحطم أشور في أراضى وأطأه على جبالي، فيلقى عنهم نيره، ويزول عن كاهلهم حمله" (سفر أشعيا 14، 24ـ25). وفي إدانته لاشور يعبر يهوه (الرب) عن حقده اللاهب بأردأ وأخبث وأنذل أساليب الحقد العنصري والكراهية المتوقحة وفي بلاغة هي قمة البذاءة والتوقح والقدرة على الذم والتحقير يقول بلسان أشعيا: "قد حلف رب الجنود قائلا انه كما قصدت يصير وكما نويت اثبت إن أحطم أشور في ارضي وأدوسه على جبالي ويسقط أشور بسيف غير رجل ويأكله ¬

(¬1) بعد قراءة هذا النص التوراتي وغيره الكثير، هل نتوقع غير ما حدث في أبو غريب .. !!؟

الحقد على بابل

سيف غير إنسان". (¬1) هذا جزء بسيط جداً مما ورد بالتوراة الحاقدة من صنوف الدمار واللعنات، المشبعة بالحقد والكراهية وبرائحة الدم والانتقام على آشور العراق لأنها سبت اليهود، أما بابل فنصيبها أكبر والحقد عليها أقوى، وشوق اليهود والأصوليين المسيحيون للانتقام منها أعظم وأشد .. !! الحقد على بابل يقول حزقبال على لسان يهوه: "إني أجازي بابل وجميع سكان أرض الكلدانيين بكل شرهم، وها أن ذا عليك أيها الجبل المفسد يقول الرب، الذي يفسد كل الأرض، فأمد يدي عليك أدحرجك من الصخور، وأجعلك جبلاً متوقداً، بل تكون أخربة أبديه". أما لماذا هذه الحقد والكراهية التي صبها أحبار اليهود على بابل، فالجواب بسيط ويعود إلى حادثة السبي البابلي. فمن المعروف انه بعد زوال الدولة الآشورية بسقوط نينوى سنة 612، تأسست على أثرها الدولة البابلية التي دام حكمها 73، حيث تم في عهدها تدمير مملكة يهودا وسبى اليهود إلى بابل (¬2). ففي العام 598 م، استولى نبو خذ نصر ملك الكلدان على القدس بعد حصار دام ثلاثة اشهر، فكان رفيقاً متسامحاً في تعامله مع اليهود المهزومين لدرجة انه لم يقرب معبدهم، واكتفى أن اخذ الملك اليهودي يهواشين وحاشيته إلى نفي مريح في بابل، مع تكريمهم، ولكن سدقياً الملك اليهودي الجديد الذي عينه البابليون في القدس، ثار مرة ثانيه على أسياده، وتحالف مع ملك مصر ضد البابليين، مما اغضب نبوخذ نصر غضباً شديداً، فجاء هذه المرة بنفسه وحاصر القدس واستولى عليها، ودمر المعبد واخذ سدقيا والكثير من كبار القوم إلى بابل مكبلين بالحديد، ولم يترك بالقدس سوى فقراء اليهود، ثم استمر الآسر البابلي كما صار يعرف ـ ثمانية واربعين عاماً. وقد تركت هذه الحادثة أثراً بليغاً على اليهود، واليهودية كدين حيث تم خلال فتره الأسر البابلي صياغة كثير من العقائد اليهودية، وبالذات عقيدة المسيح المنتظر، الذي سيعيد بناء مملكة إسرائيل، ويحاكم أعداء إسرائيل وينتقم من أمم ¬

(¬1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص143 - ط 1/ 2004 - دار الطليعة - بيروت (¬2) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة - ص662

نبوءة عن دمار بابل 13

الأرض التي ناصبت اليهود العداء. ولهذا لن نستغرب من حجم الحقد والكراهية التي دونها أنبياء اليهود وأحبارهم في أسفار التوراة على بابل، وتوعدوها بالخراب والدمار، بل والإزالة من الوجود، بحيث أصبحت بابل رمزاً لكل رذيلة. نبوءة عن دمار بابل 13 رؤيا إشعيا بن آمواص بشأن بابل: "انصبوا راية فوق جبل أجرد. اصرخوا فيهم لوحوا بأيديكم حتى يدخلوا أبواب العظماء. إني أمرت مقدسي واستدعيت جبابرتي المفتخرين بعظمتي لينفذوا عقاب غضبى. ها جبلة على الجبال مثل صوت أقوام غفيرة. صوت صخب ممالك مجتمعة، لأن الرب القدير يستعرض جنود القتال. يقبلون من أرض نائية، من أقصى السماوات هم جنود الرب وأسلحة سخطه لتدمير الأرض كلها. ولولوا، فإن يوم الرب بات وشيكاً قادماً من عند الرب محملاً بالدمار. لذلك ترتخي كل يد، ويذوب قلب كل إنسان. ينتابهم الفزع، وتأخذهم أوجاع ومخاض، يتلوون كوالدة تقاسى من آلام المخاض. ويحملق بعضهم ببعض مبهوتين بوجوه ملتهبة". (اشعياء 13، 1ـ7) يوم الرب المقبل 9 "ها هو يوم الرب آت مفعماً بالقسوة والسخط والغضب العنيف، ليجعل الأرض خراباً ويبيد منها الخطاة ... وتولى جيوش بابل الأدبار حتى ينهكها التعب، عائدين إلى أرضهم كأنهم غزال مطارد أو غنم لا راعى لها. كل من يؤسر يطعن، ومن يقبض عليه يصرع بالسيف، ويمزق أطفالهمعلى مرأى منهم (¬1)، وتنهب بيوتهم، وتغتصب نساؤهم" (اشعياء 13، 9ـ16). ¬

(¬1) أن ما حدث ويحدث لأطفال العراق الآن ليس ببعيد عن هذا الحقد الوارد في التوراة الحاقدة والتي يؤمن المسيحيون الأصوليون بحرفيتها، بل يعتبرون ما يحدث وكأنه تصديقاً لما جاء بالتوراة، بل أنهم على استعداد لتهيئة الظروف لجعل النبوءة تتطابق مع الواقع.

سقوط بابل بيد الماديين

سقوط بابل بيد الماديين "أما بابل، مجد الممالك وبهاء وفخر الكلدانيين، فتصبح كسدوم وعمورة اللتين قلبهما الله. لا يسكن فيها، ولا تعمر من جيل إلى جيل، لا ينصب فيها بدوى خيمته، ولا يربض فيها راع قطعانه، إنما تأوي إليها وحوش القفر وتعج بيوت خرائبها بالبوم، وتلجأ إليها بنات النعام، وتتواثب فيها الماعز البرية، وتتعاوى الضباع بين أبراجها، وبنات آوى بين قصورها الفخمة. إن وقت عقابها بات وشيكاً، وأيامها لن تطول! " (اشعياء 13، 19ـ22) إدانة ملك بابل "في ذلك اليوم يريحكم الرب من عنائكم وشقائكم وعبوديتكم القاسية، فتسخرون من ملك بابل قائلين: لأنك خربت أرضك، وذبحت شعبك، فذرية فاعلي الإثم يبيد ذكرها إلى الأبد. أعدوا مذبحة لأبنائه جزاء إثم آبائهم، لئلا يقوموا ويرثوا الأرض فيملئوا وجه البسيطة مدناً. إني أهب ضدهم، يقول الرب القدير، وأمحو من بابل اسماً وبقية ونسلاً وذرية، وأجعلها ميراثاً للقنافد، ومستنقعات للمياه، وأكنسها بمكنسة الدمار" (اشعياء 14، 3ـ23). سقوط بابل "انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل. اجلسي على الأرض لا على العرش يا ابنة الكلدانيين، لأنك لن تدعي من بعد الناعمة المترفهة. خذي حجري الرحى واطحني الدقيق. اكشفي نقابك، وشمري عن الذيل، واكشفي عن الساق، واعبري الأنهار، فيظل عريك مكشوفاً وعارك ظاهراً، فإني أنتقم ولا أعفو عن أحد. إن فادينا، الرب القدير اسمه، هو قدوس إسرائيل. اجلسي صامته وأوغلي في الظلام يا ابنة الكلدانيين، لأنك لن تدعي بعد سيدة الممالك". "قد سخطت على شعبي ونجست ميراتي. أسلمتهم إلى يديك، فلم تبدي نحوهم رحمة بل أرهقت الشيخ بنيرك الثقيل جداً. وقلت: سأظل السيدة إلى الأبد. لذلك لم تفكري بهذه الأمور في نفسك ولا تأملت بما تؤول إليه. فالآن اسمعي هذا

يوحنا وحقده على بابل

أيتها المترفهة المتنعمة المطمئنة، القائلة في قلبها: أنا وحدي وليس هناك غيري، لن أعرف الترمل ولن أثكل. لذلك ستبتلين بكلا الأمرين معاً في لحظة، في يوم واحد، إذ تثكلين وتترملين حتى النهاية على الرغم من كثرة سحرك وقوة رقاك. قد تولتك طمأنينة في شرك، وقلت: لا يراني أحد ولكن حكمتك ومعرفتك أضلاك، فقلت: أنا وحدي، وليس هناك غيري. سيدهمك شر لا تدرين كيف تدفعينه عنك، وتباغتك داهية تعجزين عن التكفيرعنها، ويفاجئك خراب لا تتوقعينه" (اشعياء 47، 1ـ11). هذه أمثلة بسيطة لما حوته التوارة من ألوان الحقد والكراهية، والرغبة في القتل والدمار ليس لبابل العراق وأطفال العراق فقط ... بل للمنطقة كلها كما سنرى. ففي العهد القديم وما صبه الأحبار الكرام فيه من أشكال الجوع وصنوف الكراهية وضروب الاشتهاء والظمأ إلى الدماء، وما سجلوه فيه مما لا سبيل إلى وصفه ـ مهما بدا ذلك غير لائق ـ إلا بمحاضر جلساتهم مع الإله، الذي صوروه دائماً مدلها بحبهم، ساعياً ورائهم، متوسلاً إليهم إن يرضوا عنه ويعبدوه، ومخططات تآمرهم معه على سائر خليقته. في ذلك الكتاب الدموي الذي تشجب بجواره وتبهت أفظع قصص الرعب والإثارة، كشف الأحبار والكهنة المقاتلون، من قديم، عن خططهم (¬1)، وأحقادهم تجاه المنطقة كلها، وليس بابل العراق. أما لو جئنا لكتاب سفر الرؤيا آخر كتب العهد الجديد، والذي أضيف إلى الكتاب المقدس بطريقه، مريبة فإننا سنجدد العجب العجاب، من أصناف الحقد والكراهية التي صبها علي بابل العراق. يوحنا وحقده على بابل عبر يوحنا اللاهوتي عن حقده على بابل في رأياه التي ذيل بها العهد الجديد، مستلهماً ما جاء في التوراة من صنوف الحقد والكراهية والإدانة، التي اشتهر أنبياء بني إسرائيل بإنزالها بالشعوب والأمم الأخرى جميعها. فقد كان اللاهوتي قد رأى في روما أفظع خطر يهدد اليهودية في زمانه، ولذلك اسماها باسم بابل التي كان على ¬

(¬1) قراءة سياسة للتوراة ـ شفيق مقار ـ ص 8

جام الغضب على الفرات وعلى تل مجدو

يدها سبى اليهود، لذلك فانه ـ كالسائد في زمانه ـ جسد روما في شخص نيرون، مثلما جسد أسلافه جبروت بابل في شخص نبوخذ نصر (¬1). وبالرغم من أن سفر الرؤيا كتب في جو من التطلع إلى ظهور المسيح المنتظر لينقذ المؤمنين من اضطهاد الدولة الرومانية في عهد نيرون، إلا أن الإشارة إلى بابل كرمز للشر والطغيان فهمه المسيحيون الأصوليون في أمريكيا وبريطانيا بحرفيته، بحيث أصبحت تطلعات اليهود ومن تبعهم من المسيحيين تدور حول شيء واحد هو التطلع إلى ظهور المسيح اليهودي المنتظر الذي سينقذ اليهود (شعب الله المختار) من آلامه ويملكه على العالم. "واغرب ما تضمنته معتقدات العالم الآخر اليهودي، هو محاكمة الأمم حيث تشهد محاكمة أعداء إسرائيل الأرضيين. ومجمل هذه المعتقدات مستوحى من حياة تشتت وصلت إلى مداها الأبعد، في الفترة الرومانية وولدت حقداً وكراهية لبقية الشعوب، وولدت آمالاً مأساوية بنهاية العالم لخدمة مصالح اليهود في عالم آخر مادي أو غير مادي للانتقام من أمم الأرض التي ناصبت اليهود العداء" (¬2). جام الغضب على الفرات وعلى تل مجدو يصف يوحنا في رأياه سيناريو معركة هرمجيدون والمقدمات لها فيقول: "ثم سكب الملاك السادس جامه على النهر الكبير الفرات فجف ماؤه لكي يكون طريق الملوك القادمين من المشرق سالكاً، وجمعهم إلى الموضع الذي يقال له بالعبرية هرمجدون ـ تل مجدوـ وذكرت بابل العظيمة أمام الله ليعطيها كأس خمر غضبه" (سفر الرؤيا،16). ثم يضيف: "ثم جاء واحد من السبعة ملائكة الذين معهم السبعة جامات وقال لهم هلم فاريك دينونة العاهرة الكبرى الجالسة على المياه العديدة التي زنا بها ملوك الأرض وسكر سكان الأرض من خمر زناها وعلى جبهتها مكتوب لغز، بابل العظمى أم العاهرات ونجاسات الأرض ورأيت امرأة سكرى من دماء القديسين ومن ماء شهداء عيسى" (سفر الرؤيا، 17). ¬

(¬1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص236 (¬2) العرب واليهود في التاريخ ـ د. احمد سوسة ص406

سقوط بابل (رؤيا، 18)

سقوط بابل (رؤيا، 18) ثم يتنبأ يوحنا اللاهوتي ـ اقصد اليهودي ـ بسقوط بابل وما سيحل بها من دمار فيقول: "ثم بعد هذا رأيت ملاكا آخر نازلاً من السماء له سلطان عظيم وصرخ بصوت عظيم سقطت بابل العظمى وصارت مسكناً للشياطين وملاذاً لكل روح نحسه وقفصاً لكل طائر نجس كريه لأنه من خمر غضب زناها شربت جميع الأمم وزنا بها ملوك الأرض، خطاياها وصلت عنان السماء، اسقوها من الكأس التي سقتكم منها وضاعفوا لها ضعفاً لقاء أعمالها، بقدر ذلك أعطوها عذاباً وحزناً. في يوم من الأيام سوف تأتيها الكوارث: الموت والأحزان والمجاعة وسوف تحترق بالنار كلياً، ورفع ملاك جبار حجر رحى عظيمة ورماه في البحر قائلاً: هكذا وبكل عنف سوف يلقى ببابل العظمى حتى لا يعد لها وجود بعد اليوم" (¬1). كورش وإعادة اليهود المسبيين لم يتمكن اليهود من العودة إلى القدس إلا بعد أن تمكن كورش الاخمينى من فتح بابل في عام593 ق. م، حيث سار في فتوحاته حتى احتل سوريا وفلسطين ومن ضمنها أورشليم، فسمح لمن أراد من اليهود من أسرى نبوخذ نصر، بالرجوع إلى فلسطين، وأعاد إليهم كنوز الهيكل التي كان قد أخذها نبوخذ نصر وأمر بإعادة بناء الهيكل على نفقة بيت الملك (¬2). وهذا الأمر بدوره يفسر السبب الذي من اجله أسبغ العهد القديم على قورش لقب المسيح رغم أن قورش كان وثنياً. يقول مدون (العهد القديم) أن كورش أطلق نداء في كل مملكته، وكذا بالكتابة قائلاً: "هكذا قال كورش ملك فارس: أن الرب اله السماء قد أعطاني جميع ممالك الأرض، وهو أوصاني بأن ابني له بيتاً في أورشليم، وعلى كل واحد من شعب الرب أن يرجع إلى هناك، وليكن الرب معكم" (سفر الأخبار الثاني 36). ولذلك كان اشعيا يرى في كورش مخلصا اختاره الرب كي يخلص اليهود واعتز به اعظم الاعتزاز ورأى فيه المسيح المنتظر، لهذا عمل اشعيا على إقناع كبار المسبيين بخطة التعاون مع كورش وخيانة بابل ¬

(¬1) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص243ـ244 (¬2) العرب واليهود في التاريخ: حقائق تاريخية تظهرها المكتشفات الآثارية / بقلم د. أحمد سوسة - ص674 - (سلسلة الكتب الحرية؛ 14) - بغداد، وزارة الاعلام، مديرية الثقافة العامة.

ثأر اليهود من العراق

كخطوة أولى باتجاه العودة وعزم على تحويل أمل العودة واسترجاع الملك إلى إرادة فعالة مخططة والى عمل إيجابي" (¬1). يقول الرب على لسان اشعيا: "اسمع لي يا يعقوب، ويا إسرائيل الذي دعوته .. إن الرب أحب كورش، وهو ينفذ قضاءه على بابل ويكون ذراعه على الكلدانيين. لقد دعوت أنا بذاتي (كورش) وعهدت إليه بما أريد، وسأكلل أعماله بالنجاح. اقتربوا مني واسمعوا: منذ البدء لم أتكلم خفية، ولدى حدوثها كنت حاضراً هناك. هناك قد أرسلني السيد الرب وروحه بهذه الرسالة: "هذا ما يقوله الرب فاديك قدوس إسرائيل .. اكسروا أغلال الأسر. ارحلوا عن بابل. ارفعوا أصواتكم بالغناء حتى يذيع في أرجاء الدنيا أن الرب قد فدى عبده يعقوب. لم يعطشوا عندما اجتاز بهم الصحراء. فجر لهم المياه من الصخر. شقه فتدفقت منه المياه. أما الأشرار فلا سلام لهم يقول الرب" (اشعياء 48، 12ـ22). ثأر اليهود من العراق من نافلة القول أن الأسر البابلي لم يكن ليبرر حقداً يهودياً أبديا ضد بابل لقرون طويلة قادمة سوى أنهم خلدوه في العهد القديم. ولكن هذا العداء لم يكن مستغرباً طالما أن اليهود كانوا ينظرون إلى بابل أسوأ النظر ويضمرون لها اشد الحقد والعداء، فهي سابيتهم وسيدتهم وهم عبيدها وأسراها (¬2). وهذه المعتقدات اليهودية الحاقدة علي البشرية هي التي تحرك حكام البيت الأبيض وبريطانيا تجاه المنطقة والعراق. فمنذ أن قام يوحنا بوصم بابل في رأياه، باللقب البغيض (أم العاهرات ونجاسات الأرض)، أصبحت بابل العراق مرتبطة فوراً في أذهان اليهود والمسيحيين الأصوليين - في الغرب بكل أوصاف الرذائل والطغيان والاضطهاد والفساد، وأصبحت عندهم إلى الأبد رمزاً لكل رذيلة ولكل شيء بغيض على وجه الأرض، حتى أن (القديس أوغسطين) نفسه في اعترافاته عن أيام صباه كتب: "انظروا مع أي نوع من الناس رتعت في شوارع بابل، وكيف تمرغت في وحولها كما ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان - ص109ـ116 الجزء الأول (الدعوة والدعاة) - بيسان للنشر والتوزيع - ط1 1995 (¬2) اصول الصهيونية في الدين اليهوي - د. اسماعيل راجي الفاروقي - ص 70 - مكتبة وهبه - ط.2 1988

لو كنت دهاناً من الطيب والقرفة فتمسكت بسرتها، لأنه كان من السهل إغوائي". وعن والدته المتدينة البعيدة عن كل مجون كتب يقول: "والدتي التي تجري دماؤها في عروقي، ابتعدت كثيراً عن وسط بابل" (¬1). حتى إن جنود كرمويل، في غمار إسباغ هوية إسرائيل على أنفسهم، كان تركيزهم على بابل، حيث اتخذ التركيز طابعاً يهودياً خالصاً حيث كانوا يرددون: "سيف على الكلدانيين وعلى سكان بابل وعلى رؤسائها وعلى حكمائها. سيف على أبطالها. سيف على خيلها وعلى مركباتها. سيف على خزائنها فتنهب. حر على مياهها فتنشف" (سفر ارميا 50:35ـ38). فإنجلترا، في هذيان الحمى التطهيرى، لم تصبح (مصر) و (ادوم) و (مواب) فحسب، بل باتت أيضاً (بابل). ومن نبع الكراهية المصفاة لبابل، بلد السبي، استمد جنود كرمويل بوصفهم إسرائيل المسبية في وطنهم إنجلترا ضراوة خاصة في مقاتلة "البابليين" أي جند شارل الأول" (¬2). يقول الاستاذ محمد فاروق الزين: "ان من أكثر الألغاز حيرة وغموضاً أن يعرف المرء السبب الذي من اجله قررت الكنيسة في القرن الرابع أن تدرج (رؤيا يوحنا) ضمن الكتاب المقدس والأكثر غموضاً وحيرة كيف أن (الرؤيا) بعدما أصبحت سفراً من أسفار الكتاب المقدس، تركت هذا الأثر العجيب الذي لا يمحى عبر القرون ليس في العقل الغربي فحسب وإنما في عملية اتخاذ القرارات عند الغربيين تجاه منطقة الشرق الأوسط حتى بعد ألفي عام من الزمن. واليوم نجد في الغرب وفرة من الكتب التي تجد العلاقة صريحة بين عراق اليوم وبين بابل (أم العاهرات ونجاسات الأرض)، ومنها كتاب شارل تايلور بعنوان (صدام بابل العظيمة)، وكتاب شارل داير من ندوة دالاس اللاهوتية بعنوان (صعود بابل) وعلى غلافه صورة صدام، وحتى بعد هزيمة العراق ذكر شارل داير أن العراق قد يبرز من جديد بدور بابل نجاسات الأرض، وان صدام نفسه قد يعود للظهور بصورة (وحش الرؤيا) عدو المسيح فلا يستغرب المرء ¬

(¬1) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص244 (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص120

إذاً أن تستمر العقوبات الاقتصادية على العراق دون أن تحقق غرضاً سوى معاناة الشعب العراقي" (¬1). ومن الجدير بالذكر أن (شامبرز) كان هو أول من نبه في كتبه إلى خطورة البابليين - أي العراقيين واعتبر أن البابليين سيكونون مرشحين لقيادة هذه العالم وانتزاع السيطرة من قوى عظمى مسيحيه ولذلك فهناك اعتقاد لدى البعض منهم بأن أمريكا إذا لم تنتصر على العراق وتبيدها في هذه الحرب فان العراق سيصبح في غضون سنوات قليله قوة عظمى يحسب لها ألف حساب، مما سينقل مركز الثقل الدولي إلى منطقة الشرق الأوسط وان التاريخ سيعيد كرته من جديد ويكتب للمسلمين السيطرة على العالم. كما أن نصوص سفر الرؤيا، فيها إغراء لليهود بقتال العراق وتدمير أهله بحجة أن فيها سبعة جبال من ذهب نقي. حيث تقول كتب التيار التجديدي للميسوديت: "أن العرقيين إذا نجحوا أولاً في السيطرة على الذهب وما يرتبط به من جبل الذهب، فإنهم قد يسيطرون على كل المنطقة وأنهم سيدفعون في اتجاه الحرب مع إسرائيل وان العرقيين سينتصرون على إسرائيل في هذه الحرب بل وسيزيلون هذه الدولة من الوجود وأنهم سيطورون المسجد الأقصى بدلاً من هدمه، وعندما يصل بهم الأمر إلى هذا الحد فإن ذلك يعنى عدم عودة المسيح وتأخيره إلى مئات الأعوام الأخرى حتى يتحقق الانتصار من جديد للعالم المسيحي اليهودي المشترك" (¬2). وليس من شك أن أتباع الصهيونية المسيحية في أمريكا وبريطانيا، كانوا متشربين روح العهد القديم في النص الحاقد الذي يتحرق كاتبه لسحق رؤوس الأطفال البابليين بالحجارة "طوبى لمن يجازيك يا بابل كما جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك ويسحقهم على الصخور" (المزامير ـ المزمور 137). وليس هذا النص فقط، بل مئات غيرها وردت في التوراة وسفر الرؤيا صبت جام غضبها وحقدها، ولعناتها على بابل العراق. ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يستشهد (مناحيم بيغن) وهو يوقع معاهدة السلام مع مصر بالنص الحاقد السابق، أمام الرئيس أنور ¬

(¬1) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين - ص 251ـ262 (¬2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقاص122

السادات والرئيس جيمي كارتر، وفيه المطالبة بالثأر من العراق بسبب سبي نبوخذ نصر لليهود" (¬1). وهكذا يبدو أن ذوبان العراق ببابل، وذوبان بابل بالعراق، جعل الحقد اليهودي التاريخي يزداد ذوباناً في نفوس اليهود على امتداد كل العصور حتى عصرنا الحاضر، ضد العراق، وقد ارتضى العراق، أن يدفع، في كل عصر، ضريبة ذوبانه ببابل، وذوبان بابل فيه، باعتبار أن التخلي عن الأصل هو بحد ذاته تخل عن الهوية والانتماء والوجود برمته، وهذا ما لا يرضاه الشعب العراقي في أي زمان ومكان (¬2). ¬

(¬1) المصدر السابق- ص123 (¬2) خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق - د. صالح زهير الدين - ص 14

الفصل الثالث الأصولية المسيحية وفكرة عودة المسيح

الفصل الثالث الأصولية المسيحية وفكرة عودة المسيح تعتبر عقيدة المسيح المخلص، أو المسيح المنتظر، إحدى أركان العقيدة اليهودية الأساسية، التي ابتدعها اليهود أثناء السبي البابلي، وتتلخص هذه العقيدة في إيمان اليهود بمخلص من نسل داود، سوف يأتي في نهاية التاريخ، فيفدى شعب إسرائيل، وذلك بإنقاذه من النفي، والعودة به إلى الأراضي المقدسة، حيث يحطم أعداء إسرائيل، ويعيد بناء الهيكل، ويتخذ من أورشليم عاصمة له. وقد انتقلت هذه العقيدة وغيرها من الأفكار اليهودية إلى المسيحية، ولكن مع الفارق في الفهم والتفسير، ولكن جاءت البروتستانتية لتصبغ على هذه العقيدة نفس المعاني التي أرادها اليهود، فأصبح مسيحهم المنتظر، هو المسيح اليهودي بلحمه ودمه، وليس المسيح عيسى عليه السلام الذي رفضه اليهود كما رفضته البروتستانتية، وأتباعها، مما يسمون المسيحيين الأصوليون، وأصبح مسيحهم هو المسيح اليهودي المحارب، وليس المسيح عيسى (رسول السلام). ولتوضيح كيفية ظهور هذه العقيدة في الفكر اليهودي بعد السبي البابلي سنلقي نظرة على تاريخ اليهود العبرانيين في فلسطين حتى تلك الفترة وكيف تحول هذا الفكر من تقافة الانفتاح إلى ثقافة الانغلاق والعنصرية والتعالى، فصنع لنفسه تاريخاً مزوراً قائم على الاحلام والتمنيات والاحقاد والاحساس بالاضطهاد، فكان لابد من الاستعانه بالثقافات الاخرى وتبنى اساطيرها وتأويلها وفقاً لمتطلباته. العبرانيون بنو اسرائيل سكن الإنسان أرض فلسطين منذ العصور الموغلة في القدم، وهناك آثار تعود إلى العصر الحجري القديم (500 ألف - 14 ألف ق. م)، وخلال الألف الثالث قبل الميلاد هاجر إلى فلسطين العموريون (الأموريون) والكنعانيون، وكذلك اليبوسيون والفينقيون (وهما يعتبران من البطون الكنعانية)، وعلى ما يظهر فقد كانت هجرتهم إلى فلسطين حوالي 2500 ق. م. ويرى ثقات المؤرخين أن العموريين والكنعانيين

واليبوسيين والفينيقيين قد خرجوا من جزيرة العرب. وقد كانت هجرة الكنعانيين واسعة في تلك الفترة بحيث أصبحوا السكان الأساسيين للبلاد، وقبل قدوم العبرانيين اليهود بمئات السنين. اما العبريون فهم قبائل سامية تحدرت من شبه الجزيرة العربية وراحت ترتحل، شأنها شأن سائل القبائل، لتجوب منطقة الهلال الخصيب من بلاد ما بين النهرين إلى مصر لتستقر آخر الامر في فلسطين وتتحضر بعد استقرارها واتصالها بالثقافة الكنعانية. فهم موجة من موجات الهجرات الآرامية الكبرى، حيث ان بعض الآراميين لم يجدوا أرضاً لهم طوال مدة مديدة في تلكم الساحة التى انداحت فيها موجتهم أى فيما بين النهرين وسورية ومصر وفلسطين، فتحولوا إلى طبقه هامشيه لا ارض لهم و يؤجرون أنفسهم لأى عمل ... وهم يشكلون أحياناً كتائب مسلحة مرتزقة لخدمة الأمراء أو يؤلفون عصابات تقطع الطرق وتنشر الرعب في قلوب الضعفاء، ولهذا اطلق عليهم الـ (عبيرو) التى ترد في المدونات للمصرية (¬1). والخابيرو أو العابيرو، كلمة كلدانية تعني عابري الحدود أو المرتزقة. يقول فيليب حتي: "الخابيرو ليس اسماً عرقياً وإنما تسمية أطلقت على جماعات من الرحل والأجانب والأشقياء المستعدين للانضمام إلى صفوف أي جيش لقاء أجر أو بدافع الحصول على الغنائم" (¬2). ولقد كان (سيناريو) هذه الهجرات هو نفسه دائماً، فالغزاة الرحل سواء منهم العموريون والآراميون والعبريون والأنباط ينتقلون في الهلال الخصيب من حياة الترحل إلى حياة الحضر متمثلين الحضارة الكنعانية الاصلية ليرفدوا هذه الحضارة عبر كل موجة بما لدى البداوة من فضائل (¬3). فبنو اسرائيل بعد توغلهم في ¬

(¬1) في الخطاب والمصطلح الصهيوني (دراسة نظرية وتطبيقية) - د. عبد الوهاب المسيري - ص 158 - دار الشروق- الطبعة الأولى 2003 (¬2) تاريخ سورية ولبنان وفلسطين- فيليب حتي - ج1 ص173، وراجع أيضاً كتاب العرب الساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل ـ د. احمد داوود - طباعة دار المستقبل /دمشق- ط1 1991. (¬3) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - طبعة 1991 - ص26

فلسطين بقوا زمناً غير قليل محتفظين بصفات ومميزات سكان الصحاري في اخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم ونفورهم من كل انواع التغيير والتجديد (¬1). ولكنهم بعد ذلك - شأنهم شأن من سبقهم من مهاجرين رحل متحدرين من جذر واحد- قد استفادوا من الحضارة الكنعانية حينما استقروا في فلسطين وأغنوها على مدى ثلاثة قرون بما لديهم دون ان يلغوا اصالتها واستمراريتها (¬2). وعندما جاء العصر البرونزي الوسيط (2000 - 1550 ق. م) شهد النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد حكم الهكسوس الذين سيطروا على فلسطين خلال القرون (18 - 16ق. م) وعلى ما يظهر ففي هذا العصر (حوالي 1900ق. م) قدم إبراهيم عليه السلام ومعه ابن أخيه لوط عليه السلام إلى فلسطين من (أور الكلدانيين) وقد غادر بلاده مع بعض أفراد عائلته ليعبد الله عملاً بما أنزل عليه من الوحي. فعشيرته كانت تعبد الاصنام، وهو كان مؤمناً موحداً. وكانت حاران (حران) تقع إلى الشمال الشرقي لما بين الفرات وخابور، أول محطة له، وفيها مات أبوه (تارح) فأكمل السير بعد وفاته حتى وصل إلى شكيم (نابلس) (¬3). وقد كان إبراهيم عليه السلام أول الأنبياء الذين نعلم أنهم عاشوا في فلسطين وماتوا فيها، وهو أبو الأنبياء فمن نسله جاء الكثير من الأنبياء كإسحاق ويعقوب ويوسف وإسماعيل ومحمد عليهم أفضل الصلاة والسلام. وعلى كل حال فإن أبا الأنبياء إبراهيم الخليل كان رسولاً من أولي العزم من الرسل، وكان له دوره الدعوي في نشر رسالة التوحيد في فلسطين حيث كان يؤسس المساجد ويقيم المحاريب لعبادة الله في كل مكان ذهب إليه. ويظهر أنه لم يجد عناء أو عنتاً من أهل فلسطين ولم يضطر لتركها بسبب دينه ودعوته فظل مستقراً يتنقل بحرية فيها حتى توفاه الله. ¬

(¬1) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - د. اسرائيل ولفنستون -ص 17 (¬2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - طبعة 1991 - ص47 (¬3) فلسطين من الاسكندر إلى الفتح العربي الإسلامي- د. نقولا زيادة-الموسوعة الفلسطينية، المجلد الثاني بيروت،1990.

ولقد رزق ابراهيم من هاجر بابنه الأول اسماعيل، ثم رزق بابنه الثاني اسحق من زوجته سارة، ويعتبر اسماعيل جد العرب، كما يعتبر أخوه اسحاق جداً لليهود، وقد ولد لاسحاق عيسى ويعقوب، وقد ولد ليعقوب اثنا عشر ولدا يعتبر كل منهم أبا لسبط من أسباط اليهود، ومن أولاده كان يوسف الذي نقم عليه اخوته وحسدوه فباعوه إلى تجار مصر وادعوا أنه قتل، وفي مصر دخل يوسف في خدمة فرعون وأصبحت له سلطة واسعة فأرسل وراء أبيه واخوته، وهكذا انتقلت أسرة يعقوب إلى مصر (¬1). وعلى كل حال، يظهر أن يوسف وإخوته أبناء يعقوب (إسرائيل) نعموا بحرية العمل والعبادة في مصر وكان لهم دورهم في الدعوة إلى التوحيد، غير أن الأمر لم يستمر على حاله في أجيالهم المتعاقبة، فوقع بنو إسرائيل تحت الاضطهاد الفرعوني حتى أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون لإخراج بني إسرائيل منها إلى الأرض المقدسة، لان بنو إسرائيل كانوا في تلك الفترة هم أهل الحق وحملة راية التوحيد، وكان فرعن مصر في ذلك الزمان متكبراً متعجرفاً يدعي الألوهية، فقاد من آمن من قومه شرقاً فأتبعهم فرعون وجنوده، وحدثت قصة انشقاق البحر وإنقاذ الله سبحانه لبني إسرائيل وهلاك فرعون وجنوده. وبعد إنقاذ الله سبحانه لبني إسرائيل تبرز فصول معاناة موسى وهارون مع بني اسرائيل، ويظهر من صفات هؤلاء ضعف الإيمان والجهل والجبن، فمن كادوا يخرجون من البحر حتى أتوا على قوم يعبدون أصناماً، "قولوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة"!!!، ثم عندما يذهب موسى لميقات ربه يعبد قومه العجل رغم وجود هارون بينهم، وكادوا يقتلون هارون عندما نهاهم عن كفرهم. ثم يقود موسى بني إسرائيل باتجاه الأرض المقدسة ويقول لهم: "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"، ولكنهم يختارون الارتداد على أدبارهم، "قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون"، ولا ينفع فيهم النصح فيكررون، "قالوا يا موسى إنا ¬

(¬1) راجع، فلسطين من أقدم العصور إلى القرن الرابع قبل الميلاد.- د. معاوية ابراهيم. -الموسوعة الفلسطينية، المجلد الثاني، بيروت،1990.

لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون"، ويتألم موسى عليه السلام ويلجأ إلى ربه "رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، ويستجيب الله لنبيه "قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض"، وهكذا يحكم عليهم بالتيه بعد أن كانوا على أبواب الأرض المقدسة، ويظهر أن الله سبحانه قد حرمها على هذا الجيل من بني إسرائيل حتى ينشأ جيل غيره يصلب عوده في جو من خشونة الصحراء، فهذا الجيل أفسده الذل والاستعباد والطغيان في مصر فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل. وتوفي موسى عليه السلام قبل أن يستطيع دخول الأرض المقدسة. وبعد أن نشأ جيل صلب جديد وبعد سنوات التيه قاد بني إسرائيل نبي لهم هو يوشع بن نون عليه السلام ويسميه اليهود (يشوع) وهو الذي عبر بهم نهر الأردن وانتصر على أعدائه واحتل مدينة أريحا، وكان عبوره نهر الأردن حوالي 1190 ق، ثم استولوا على معظم جنوب فلسطين، وبقي الكنعانيون في قسم منها، كما بقي الفلسطينيون في القسم الغربي، ومنذ عهد القضاة وهو العهد الذي ابتدأ بعد وفاة يوشع، عاش الأقوام الثلاثة مئات السنين، تخللتها سلسلة من الحروب الكنعانية-الاسرائيلية (¬1). وعلى الرغم من محاولة القضاة إصلاح قومهم فقد ساد عصرهم الفوضى والنكبات والخلافات والانحلال الخلقي والديني، وقد استوطنوا في تلك الفترة في الأراضي المرتفعة المحيطة بالقدس وفي السهول الشمالية في فلسطين، حيث تغير نمط حياة العبريين تغيراً جذرياً لدى انغماسهم في قلب الحضارة الكنعانية، نعم لقد هجر هؤلاء البداة الجفاة خيامهم ليقيموا لهم بيوتاً على نمط بيوت الكنعانيين، ولقد خلعوا عنهم لباس جلود الخراف ليرتدوا الأنسجة الصوفية الملونة .. وحتى المعبد نفسه بنى على طراز اجنبى في مخططه وزخارفه (¬2). ويصف المؤرخ (جيمس برستد) المدن الكنعانية المزهرة يوم دخلها العبرانيون بقوله: "إنها مدن فيها البيوت المترفة، وفيها الصناعة والتجارة والكتابة والمعابد، وفيها الحضارة التي سرعان ما ¬

(¬1) الموجز في تاريخ فلسطين - الياس شوفاني - مؤسسة الدراسات الفلسطينية-1998. (¬2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم -ص77 - 79

اقتبسها العبرانيون الرعاة البدائيون، فتركوا خيامهم وقلدوهم في بناء البيوت كما خلعوا الجلود التي ارتدوها في الصحراء وارتدوا الثياب الصوفية الزاهية الألوان، وبعد فترة لم يعد في الإمكان أن يفرق المرء بين الكنعانيين والعبرانيين بالمظهر الخارجي، فقد اقتبسوا الحضارة الكنعانية كما يقتبس المهاجرون الجدد إلى أمريكا في يومنا هذا طرق المعيشة الأمريكية" (¬1). فالشعب العبري وهو يتنقل من حياة الترحل إلى الحياة المستقرة السائدة لدى المزارعين وساكني المدن في كنعان كان قد تمثل حضارتهم ولغتهم وكتابتهم بل أنماط عبادتهم واختلط بالسكان الأصليين عن طريق الزواج. واذا استثنينا معارك بعض قادتهم كيشوع وداوود وبعض غزواتهم العابرة يمكن القول إنهم قد تعايشوا مع أهل البلاد أحسن تعايش (¬2). وقد امتد عهد القضاة قرناً ونصف قرن من الزمن، حكم خلاله اثنا عشر قاضياً كان آخرهم صموئيل، واتفق الاسرائيليون بمشورة صموئيل نفسه على تعيين (شاول بن قيس) ملكا عليهم لتوحيد قبائلهم، غير أنه قتل في إحدى حروبه مع الفلسطينيين، وجاء بعده الملك داوود سنة (1010ق. م-971 ق. م) ومن بعده سليمان (971 ق. م-931 ق. م) وكان عهده عهد سلام لا حرب على العكس من أبيه، كما عرف بالحكمة، ونشاطه التجاري. وبعد وفاة سليمان انقسمت مملكته إلى قسمين شكّلا دولتين منفصلتين متعاديتين في كثير من الأحيان، وعانتا من الفساد الداخلي والضعف العسكري والسياسي والنفوذ الخارجي، لكن ذلك لم يستمر طويلاً وانتهى حكم القضاة على يد الأشوريين سنة 724 ق. م، وفي عهد (نبوخذ نصر الكلداني) في القرن الخامس قبل الميلاد حدث سبي بابل وحكم الكلدانيون فلسطين (¬3). ¬

(¬1) تاريخ الحضارة- جيمس هنري برستد - مركز المعلومات الوطني الفلسطيني- http://www.pnic.gov.ps/arabic/history/palestine.html (¬2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص97 (¬3) الحق التاريخي في فلسطين - مركز المعلومات الوطني الفلسطيني - http://www.pnic.gov.ps/arabic/history/palestine.html#file4

حركة الأنبياء (ثقافة الانفتاح)

حركة الأنبياء (ثقافة الانفتاح) بدأت حركة الأنبياء مع الهزات الكبيرة في تاريخ اسرائيل منذ منتصف القرن الثامن ق. م. ولم يكتف الانبياء بالتنبؤ بالكارثة مشيرين إلى انها عقاب من يهوه على شعبه الجاحد بل راحوا يرسمون له رؤى مستقبلية تتجاوز النكبة. لقد انجز الانبياء نقله نوعية ضخمة في هذه العقيدة واحتفضوا بما فيها من جوهر وهو أن للتاريخ معنى، ولكنهم لم يعودوا يبحثون عن هذا المعنى في الماضي وفي الوعد بالأرض والسلطة لصالح شعب واحد فحسب يدين بانتصاراته لمشيئة الله ... بل راحوا يفتحون هذا التاريخ على المستقبل ليعطوه مغزى كونياً: فالهزائم والانتصارات عل حد سواء هى جزء من مشروع الهي. وفي هذا المنظور الجديد يمكن أن ينظر إلى ملك آشور وملك بابل الجديدة نبوخذ نصر وقورش ملك فارس على أنهم أداة تنفذ الإرادة الإلهية. وهكذا وعلى الرغم من ضعف مكانة اسرائيل السياسية ظلت محوراً للتاريخ: فالانهزامات والانتصارات كلها مظاهر تترجم عن مشروع الله تجاه (شعبه) (¬1). فعندما قام الملك الآشوري شلمنصر الخامس، ومن بعده سرجون الثاني بتأديب هوشع آخر ملوك (إسرائيل) وقضى على دولته سنة 721 ق. م، وقام الآشوريون بنقل سكان إسرائيل إلى حران والخابور وكردستان وفارس وأحلوا مكانهم جماعات من الآراميين، فان ذلك لم يكن الا عقاب الهي لليهود لعدم التزامهم بالعهد والشريعه. فمملكة (يهودا 923 - 586 ق. م) انتشرت فيها العبادة الوثنية وفسدت أخلاق القوم بشيوع اللواط، ويقال ان احد ملوكهم يوحاز بن يوتام علق قلبه بحب الأوثان حتى إنه ضحى بأولاده على مذابح الآلهة الوثنية وأطلق لنفسه عنان الشهوات والشرور، وأضل منسي بن حزقيا قومه عن عبادة الله وأقام معابد وثنية. ولهذا قإن أشعيا بعد ان فضح - في القرن السابع ق. م، وأرميا في القرن السادس- عيوب قادة اسرائيل وخيانتهم للعهد الأول بشرا بعهد جديد، عهد يمتاز باسيحائه الوجدان الداخلي وبانفتاحه على ماهو عالمي. على هذا فإن انجاز هذا ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص88

السبي البابلي

الوعد لن يتحقق لا بممارسة طقوس حرفية ولا بنصر مؤزر يعد به الله. وهاهنا تظهر - اول مره- في النصوص العبرية لدى اشعيا تلك العلاقة بين فكرة المخلص وبين فكرة (المتألم الصالح) التي ستظهر في سفر أيوب في القرن السادس كما عبرت عنها سابقاً الأدبيات الدينية البابلية في الألف الثاني ق. م. يقول سفر اشعيا: "أنه رجل الآلام .. لقد حمل عنا آلامنا .. وقتل بسبب جرائمنا". وهذا العهد كما قلنا يمتاز بانفتاحه على العالمي. صحيح ان العبريين قد نقلوا (رسالة) وأنهم من هنا امتازوا بعض الامتياز بالقياس إلى الشعوب الأخرى، ولكن مع مجئ كبار الانبياء كان تجاوز لهذه (الاستثنائية) والعنجهية القبلية. جاء في سفر أشعيا: "سأجعل منك نوراً للأمم حتى يعم سلامي وخلاصي أقاصي الأرض" (¬1). إن الانبياء لم يقتصروا على القول بالانتقال من الخصوصية إلى العالمية فحسب وإنما تشكلت على أيديهم عملية تحول حقيقية في مفهوم القيم، فمقولات الإيمان التقليدية مازالت قائمة ولكنها عرفت تحولاً روحياً نوعياً. وهكذا لم يعد الوعد خاصاً بامتلاك أرض أو بتحقيق نصر عسكري. جاء في المزامير: "مجدوا اسم يهوه .. لقد انتصر على الملوك الأقوياء .. وأهلك الملوك الأشداء وجعل من أرضهم إرثاً لنا". لقد صار الوعد تبشيراً بملكوت الله الذي يشمل العالم ليغمره بالسلام والمحبة بين الشعوب. يقول أشعيا على لسان يهوه: "سوف اخلق لكم سماوات وأرضاً جديدة .. حينئذ ستقبل عليها كل الأمم .. سنجعل من حرابنا مناجل للحصاد ومن سيوفنا محاريث للفلاحة ولن يتعلم أولادنا فنون الحرب". ان تحقيق الوعد لا يكون بتمركز البدو الرحل الآخذين بالتحضر في أرض خصبة هي (أرض الميعاد) ولا بقيام دولة كمملكة داوود، وانما بمجئ ملكوت الله (¬2). السبي البابلي بعد وفاة سيدنا سليمان انقسمت مملكته إلى قسمين شكّلا دولتين منفصلتين متعاديتين في كثير من الأحيان، وعانتا من الفساد الداخلي والضعف العسكري ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص92 (¬2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص93

والسياسي والنفوذ الخارجي، لكن ذلك لم يستمر طويلاً (¬1). ففي عام 639 ق. م قتل منسي، ملك يهودا، وحينما أصبح ابنه (جوزياس) راشداً استغل ضعف مصر وسقوط المملكة الآشورية فحاول ان يسترجع استقلاله ليعيد إقامة مملكة داوود بالسيادة على مملكة الشمال. وفي عام 621 ق. م وفي اثناء ترميم المعبد في اورشليم (اكتشف) بل نبش (كتاب الشريعه) الذي قدمه الكاهن الاكبر للمعبد إلى الملك. وقد قام جوزياس مستغلاً فرصة عجز الآشوريين عن فرض عباداتهم الخاصة فألح على الالتزام الصارم الدقيق بهذا التشريع فجمع شيوخ يهودا في المعبد وأعلن عليهم حسب التقاليد القديمة في سيناء حلفاً مشتركاً بين يهوة وشعبه. وكان ذلك خطوة هامة على طريق إعادة الوحدة فيما بين المملكتين على اساس قانون مشترك يقوم على الحق الإلهي. ولكن الوضع الدولي لم يهيئ سبل النجاح أمام مشروع جوزياس، حيث قام جوزياس بمهاجمة فرعون مصر وهو يمر بجيشه بفلسطين عام 609 ق. م. وكان اللقاء بالقرب من (مجدو) حيث غُلب جوزياس وقتل في المعركة ... وهكذا انهار مشروعه السياسي وأصبحت فلسطين مقاطعة تابعة لمصر. ولكن هذه التبعية لم تدم طويلاً حيث قام ملك بابل نبوخذ نصر منذ عام 605 ق. م بسحق الفرعون واسترجاع فلسطين منه ... وعندما حكم يهوياكين 598 - 597 ق. م حاول ان يتخلص من سيطرة بابل، بالتحالف مع مصر فحاصر بنوخذ " القدس وأخذ الملك مع عائلته ورؤساء اليهود وحوالي عشرة آلاف من سكانها (فيما يعرف بالسبي الأول) وبعض خزائن الهيكل إلى بابل، ثم إن بختنصر عيّن صدقيا بن يوشيا 597 - 586 ق. م حيث أقسم له يمين الولاء، غير أن صدقيا في آخر حكمه ثار على البابليين الذين ما لبثوا أن زحفوا للقدس وحاصروها 18 شهراً حتى أسقطوها، وأخذ صدقيا أسيراً وربط بالسلاسل من نحاس وسيق إلى بابل، حيث يذكر أنه قتل أبناؤه أمامه وسملت عيونه، وخرب نبوخذ نصر القدس ودمر الهيكل ونهب الخزائن والثروات، وجمع حوالي 40 ألفاً من اليهود وسباهم إلى بابل "السبي البابلي الثاني". وهاجر من بقي من ¬

(¬1) الحق التاريخي في فلسطين - مركز المعلومات الوطني الفلسطيني - http://www.pnic.gov.ps/arabic/history/palestine.html#file4

حياة السبي وأثرها في تشكيل الشخصية اليهودية

يهود إلى مصر ومنهم النبي إرمياه، وبذلك سقطت مملكة يهودا 586 ق. م .... وهكذا اختفت سلالة داوود الملكية، رمز الوعود والآمال واختفى معها الأمل بالسيطرة الشاملة ... واستمرت حياة الشعب العبري في فلسطين بدون ملوكه وبدون ارستقراطيته الكهنوتية والتجارية (¬1). وفي الفترة البابلية كان معظم الاسرائيليين، بما في ذلك سكان يهودا، من الوثنيين خلال الجانب الاعظم من هذه الحقبة، فقط قلة قليلة من الاسرائيليين اتبعوا النزعات التي انبثقت منها اليهودية في وقت لاحق (¬2). وهنا يسجل التلمود أن سقوط دولة اليهود وتدميرها لم يكن إلا "عندما بلغت ذنوب بني إسرائيل مبلغها وفاقت حدود ما يطيقه الإله العظيم، وعندما رفضوا أن ينصتوا لكلمات وتحذيرات إرمياه". وبعد تدمير الهيكل وجه النبي إرمياه كلامه إلى نبوخذ نصر والكلدانيين قائلاً: "لا تظن أنك بقوتك وحدها استطعت أن تتغلب على شعب الله المختار، إنها ذنوبهم الفاجرة التي ساقتهم إلى هذا العذاب". وتشير التوارة إلى آثام بني إسرائيل التي استحقوا بسببها سقوط مملكتهم، فتذكر على لسان أشعيا أحد أنبيائهم: "ويل للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الآثم، نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين تركوا الرب، استهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى وراء" (¬3). وتقول ايضاً: "والأرض تدنست تحت سكانها لأنهم تعدوا الشرائع، غيروا الفريضة، نكثوا العهد الأبدي" (¬4). حياة السبي وأثرها في تشكيل الشخصية اليهودية تعتبر حقبة السبي البابلي نقطة تحول هامة في تاريخ اليهود، إذ شهدت مخاضاً عسيراً، انتهت بولادة دين جديد، وفكر جديد، وتاريخ جديد للشعب اليهودي. فخلال فترة السبي، أعاد علماء اليهود كتابة تاريخ الشعب اليهودي حسب وجهة نظر جماعة الفريسيين، فحلت تقاليد جديدة بدلاً من القديمة، ونشأت مبادئ الانعزال اليهودي، ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص95 - 96 (¬2) الاصولية اليهودية في اسرائيل- تأليف اسرائيل شاحاك، نورتون متسفينسكي - ص23 ترجمة ناصر عفيفي - الناشر الكتاب الذهبي مؤسسة روز اليوسق- 2001 (¬3) سفر أشعيا - الإصحاح الأول (¬4) سفر أشعيا - الإصحاح 24

والابتعاد عن المؤثرات الدينية والثقافية لدى الشعوب الأخرى، وكان من نتائج ذلك أن شحنت العقائد الجديدة للشعب اليهودي بالحقد على البشرية، وغرست في نفسه فكرة الحصول على (الوعد) من الرب بتملك العالم، والسيطرة على سائر الشعوب (¬1)، عن طريق مسيح مخلص ينتقم لهم من الشعوب التي اضطهدتهم. وهكذا وضع الفريسيون الأسس التي قامت عليها الشخصية اليهودية خلال العصور القادمة، بحيث انه لا يمكن تحليل هذه الشخصية من دون تظهير جذور العنف الكامن فيها، والكشف عن أصالته التوراتية التلموديه، والتي تشكل أساسا معرفيا يتحكم بأنماط السلوك للجماعات اليهودية، ويوجه ردود أفعالها في كل المراحل. ويعجب المرء وهو يتابع قراءته المتأنية للفكر اليهودي، من خلال توقيعاته في الخطاب التوراتي المتداول فيما بينهم، وذلك لما يجده من طروحات تلبس رداء القداسة، وتدعي أن مصدرها السماء، وهي ليست أكثر من أوهام وأحقاد وضغائن يندر وجودها في فكر ومعتقدات أي أمة بغض النظر عن مصدرها، وضعياً كان، أم غير ذلك (¬2). فحقبة السبي البابلي تعتبر نقطة تحول هامة في تاريخ اليهود، حيث كان تاريخهم بعد موت سيدنا سليمان، تاريخ تدهور وانحلال، وفي السبي البابلي زاد من وطأة شعورهم بهذا التاريخ العاثر، شعورهم بالاضطهاد، وكان للظواهر المقلقة في نفوسهم والأحوال الاجتماعية المضطربة في حياتهم، انعكاس واضح الأثر في مشاعرهم النفسية الجياشة، فحفلت الآثار الأدبية التي وضعها هناك كهنتهم وشعراؤهم، بالمرثيات الشعرية الضافية، تندب حظ اليهود العاثر وتعبر عن آمالهم بالخلاص مما يعانون من ذل الأسر ومحنة السبي، ورهق التشريد، والعودة إلى فلسطين ونما في نفوسهم توق ونزوع إلى مخلص ينقذهم من عار الخيبات التي منوا ويمنون بها، ويخلصهم من الاضطهاد الذي يلحق بهم، أو من الشعور بالاضطهاد الذي يعانون منه (¬3). ¬

(¬1) النشاط السري اليهودي في الفكر والممارسة - غازي محمد فرج 145ـ146 - دار النفائس- ط1 1990 (¬2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص109 (¬3) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي ـ جورجي كنعان ص113

فبعد السبي والتشتت، ومعاناة الشعور بالقهر، والتشرد، والخوف، وعدم الاستقرار، التي عاشها اليهود خلال السبي، لم يبق لليهود ما يبث في نفوسهم الهدوء، ويدب في روعهم الاطمئنان، غير الآمال يزرعها أنبياؤهم في صدورهم، وغير الأحلام ينشرونها في وجوههم المتعبة، وكان مدونو العهد القديم من البراعة أن يجعلوا من هذه الأماني والأحلام، نبوءات تدفق في نفوسهم الرجاء بأن يهوه (الرب) سيفتقدهم، وينقذهم من عذاب الأسر وذل السبي، ويعيدهم إلى (أرض الميعاد) فكان الوعد بيوم الرجاء بالخلاص الآتي، ورسخت في أذهانهم فكرة المسيح المخلص، الذي يأتي في سطوة زمنية وينقذهم مما صاروا إليه من ذل وهوان، ويعيد لهم مجد داود وسليمان، وكانت رأياهم عن المسيح المنتظر، ملكا من نسل داود، مملكته في الدنيا، يخضع الشعوب لسيطرتهم، ويضع أقدامهم فوق رقاب الأمم. يقول النبي أشعيا: "ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى (والد داود) القائم راية للشعوب، إياه تطلب الأمم، ويكون محله ممجداً، ويكون في ذلك اليوم أن السيد (يهوه) يعيد يده ثانية، ليقتني بقية شعبه التي بقيت من أشور، ومن مصر، ومن فتروس، ومن كوش، ومن عيلا، ومن شنعار، ومن حماة، ومن جزائر الأمم، ويرفع راية للأمم، يجمع منفيي إسرائيل، ويضم مشتتي يهوذا، من أربعة أطراف الأرض، فينقضان على أكتاف الفلسطينيين غرباً، وينهبون بني المشرق معاً، يكون على ادوم ومؤاب امتداد يدهما، وبني عمون في طاعتهما". (سفر أشعيا 11، 10ـ14) فحياة السبي التي عاناها اليهود عمقت في نفوسهم عقدة الحقد والكراهية للشعوب، كل الشعوب، ولم يبق لهم ما يروون به غلة الحقد والانتقام غير الحلم ـ النبوءة، فكان اعتقادهم بمجيء المسيح الملك لينتقم لهم من أمم الأرض، وكان الحلم ـ الرؤيا أن أصل يسى (داود) ـ المسيح، يقوم رأيه للشعوب في ذلك اليوم ينقضان على أكتاف الفلسطينيين، وينهبون بني المشرق، ويخضعون أدوم ومؤاب وبني عمون ـ الشعوب التي قهرتهم وأذلتهم، ثم قذفتهم خارج تخومها عندما رأتهم

تاريخ بالتمني

ينغلقون على نفسهم في قوقعة التعصب المتحجرة والعنصرية الشوهاء، ويصلون الشعوب، كل الشعوب، بنار الحقد والكراهية (¬1). لقد كان اليهود أقليات متناثرة، تعيش في قلق وخوف وإحساس بالخطر المحدق بها (الحقيقي والوهمي)، وكانت غير محبوبة في المجتمعات التي تعيش فيها، وكانت قريبة من الطبقات الشعبية، ولكنها مكروهة منها، لأنها كانت تعيش في عزله عن الجميع. وقد نتج عن هذا الوضع الشاذ، إحساس زائد بالذات، ولذا فقد أعضاء الجماعات اليهودية وقياداتهم قدراً كبيراً من علاقتهم بالواقع، وانفصل فكرهم عنه، وأصبحت النبوءات مجالاً للتعويض عما يلاقونه من اضطهاد، فتحولت نبوءات أنبيائهم إلى صياغات لفظية، يمارسون من خلالها الانتقام من أعدائهم، عن طريق الحط من شأنهم وإظهار التفوق اليهودي، خصوصاً في آخر الأيام بعد عودة المسيح حيث يبطشون، ويبطش ربهم بكل أعدائهم. وقد كان أنبيائهم ينغمسون في هذه التهويمات اللفظية، في الوقت الذي كانوا يعانون فيه صنوف العذاب، ويعاملون معاملة الحيوان في بعض الأحيان (¬2). تاريخ بالتمني عاش بنو إسرائيل بين الأمم، والمماليك الراقية، الممتازة عليهم غنى وحضارة وقوة، وكانوا لضعفهم وفقرهم وقلة شأنهم، يتلظون بنار الحسد من الممالك الأخرى ذوات الحضارات العريقة، لوفرة ما تراه فيه من خصب، ما يفاض عليها من وفر ورخاء. فكان أنبياؤهم ينفظون ضعفاً وسخيمه (تغلي صدورهم حقدا وضغينة) ويحقدون على عظمتها، ويرجون موتها، وتحطيمها من قبل إلههم يهوه، ليقيم لهم مملكة أرضية على أنقاضها. فعندما لم يستطيعوا تسديد ضرباتهم المعهودة إلى المصريين، الضربات التي اشتهروا بإنزالها بالأفراد والأقوام المطمئنة مباغتة وغدرا، ابتكروا وسيلة أخرى للنيل من المصريين الذين أعطوا مثلاً رائعاً في المحبة والرحمة، والحنو الصادق وحسن المعاملة. هذه الوسيلة هي نوع من الشماتة أو ¬

(¬1) المسيح القادم (مسيح يهودي سفاح) - جورجي كنعان ص169 (¬2) اليد الخفية (دراسات في الحركات اليهودية الهدامة والسرية) - د. عبد الوهاب المسيرى- ص35 بتصرف - ط دار الشروق 1998م

التشفي، تبرد غلة الحقد العنصري المستعر في قلوبهم، وتهدئ من وحشية الحسد الذي ينهش أكبادهم من الأمم المستقرة في أرضها، المطمئنة في بيوتها، والرخية بخيرات وجهد شعبها. من ذلك مثلا ما فعله موسى بأمر من يهوه (الرب) حين "مد يده على مياه المصريين ـ فتحول الماء في النهر دماً. وكان الدم في كل ارض مصر. ومات السمك وانتن النهر". وما فعله هرون بأمر من يهوه (الرب) أيضا حين "مد يده بعصا وضرب تراب الأرض، فصار بعوضاً على الناس وعلى البهائم. وكل تراب الأرض صار بعوضاً في جميع ارض مصر. فهذه الضربات وغيرها التي اشتهوا أو تمنوا إنزالها بالمصريين وزعموا أو توهموا إن إلههم (يهوه) قد أنزلها بهم هي نماذج فريدة في الشماتة والتشفي والانتقام، وبالحري الشعور بالانتقام ولو بالوهم والزعم (¬1). ونحن نعرف من الخبرة المعاشة دور الحلم في عملية التداوي من المخاوف وتحقيق الرغبات التي تمارسها الذات الفردية في معرض سعيها إلى صون توازنها في مواجهة إجتياحات العالم الواقع. لهذا اجتهد كهنة اليهود عند كتابة العهد القديم في عصر السبي وما بعده، لوضع عقائد تتيح تجميع القبائل في ظل نظام ملكي وهيكل موحد، باعتبار ذلك الاستجابة الوحيدة الممكنة للتحدي الذي نشأ عما تعرض له اليهود، من ضغوط خارجية كان معظمها ناجماً عن شراسة وعدوانية اليهود تجاه الشعوب التي حلوا بأرضها، وما عانوه من حزازات وتمزقات نجمت عن شراسة قبائله وعدوانيتها تجاه بعضها البعض للفوز بأكبر نصيب ممكن مما ينهب من أراضي الشعوب وثرواتها. وقد لعبت كتابات اليهود هذه دوراً رئيسياً في تشكيل الشخصية اليهودية والسمات التي تميزها من ذلك العصر وحتى الآن، مثل اتصاف هذه الشخصية بالانطوائية والكآبة والتشكك والتشاؤم والشعور بالدونية والإحساس بالفشل والحساسية المفرطة للنقد والحاجة للمديح والإطراء والإحساس بالافتقاد للجذرية. وقد نتج عن هذه الصفات انفصام في الشخصية اليهودية، تمثل في التناقض بين الشعور بالاستعلاء والشعور بالدونية والاضطهاد، وهذا التناقض جعل الشخصية ¬

(¬1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص133

تتسم بالروح العدائية ضد الآخر، بل تصل إلى حد التوحد في المعتدى حتى يغدو اليهودي الضحية متوحشاً له ضحاياه يقتل بدل أن يُقتل، ويستعبد بدلاً أن يُستعبد، والهدف الجماعي لعملية التوحد بالمعتدي هو أن يتحول الحمل ذئباً حتى لا يبقى أمامه خطر يخشاه (¬1). وفي تحليله للشخصية اليهودية المعاصرة، ركز المرحوم مصطفى زيور على انقلاب هذه الشخصية من الاستكانة والذل والاختناق في الغيتوات (حارات اليهود) وبين تحولها إلى الشراسة والارهاب عبر عصابات شتيرن وارغون والهاغاناه وغيرها، ومن ثم عبر اتحاد هذه العصابات لتأليف جيش الدفاع الاسرائيلي. ولا يقصر زيور آلية التوحد بالمعتدي على خريجي المعتقلات النازية. بل هو يرى أن هذه الآلية قد انتشرت كالوباء بين اليهود عبر التعاطف مع الضحايا اليهود. وينهي زيور تحليله بالتقرير بأن ما يجمع بين التجمعات اليهودية الاسرائيلية بالرغم من اختلافها في كل شيء انما يتلخص بهذا التوحد بالمعتدي الذي أتاح لليهود التحول، من المذلة إلى الطغيان، ومن الخنوع إلى السفاحية. لذلك يستنتج المحلل الحاجة الاسرائيلية ـ النفسية لممارسة العدوان. فشخصية المتوحد بالمعتدي تفقد تماسكها إن هي توقفت عن العدوان. لأنه يطمئنها مانعاً تفجر موجات القلق والرعب فيها. وكأن لسان حالها يقول ما دمت أنا المعتدي فلا خوف علي من الارتداد إلى ما كنت عليه، يهودياً تائهاً رعديداً يفتك به الناس في كل مكان. من هنا يمكن استنتاج هشاشة الشخصية الإسرائيلية. وعدم قدرتها على تحمل أي إحباط. كون الإحباط يصيب هذه الشخصية بالتهاوي والتفكك مهدداً بزوال الهوية الزائفة. لذلك فان القادة الاسرائيليين مجبرين على تأمين أفضل مستويات الروح المعنوية ليهودهم (¬2). وهذا التوحد في المعتدى طغى علي الشخصية اليهودية وأضحي السمة الرئيسية التي تميزها، بحيث يمكن اعتبار التاريخ اليهودي كله ناتج عن هذه السمة. ¬

(¬1) الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية / دكتور رشاد الشامي- سلسلة عالم المعرفة - الكويت. يونيو 1986 (¬2) أضواء على المجتمع الاسرائيلي ـ دراسة في التحليل النفسي "- للمرحوم مصطفى زيور-. جريدة الأهرام بتاريخ 8/ 8/1968 - التحليل النفسي للشخصية اليهودية- المركز العربي للدراسات المستقبلية- http://mostakbaliat.com/

"فاليهود في الأساس هم بدو رحل لم يستطيعوا أن ينتجوا تراث خاص بهم، بل لجئوا إلى نهب تراث الشعوب الأخرى وبالذات تلك التي خضعوا لسيطرتها، ونسبوها إلى أنفسهم، وسجلها كهنتهم في العهد القديم على شكل نبوءات وتمنيات، مضفين عليها هاله من القداسة. وبدورهم اخذ أنبياء الجماعة يفرغون ذواتهم من طاقاتهم بتحويل مشاعرهم الأليمة المقهورة المشحونة بالحقد والكره والتعصب، إلى مبالغة في توعد الآخرين وفي اتهامهم وفي العدوان عليهم بالكلام البذيء المجرح ليكون ذلك هو البديل عن البطش بهم أو عن أي أسلوب عنيف آخر" (¬1). يقول الأستاذ شفيق مقار في كتابه (السحر في التوراة والعهد القديم): "ينبغي أن تظل نصب أعيننا ونحن نبحث في أصول الديانة التي صاغها الكهنة حول يهوه، حقيقة أساسية لا مؤدى لغيابها أو تغييبها عمداً على سبيل التقى والورع، تلك الحقيقة أن وراء كل سرد للتاريخ أو ـ بالأحرى ـ تأليف للتاريخ في كل سفر من أسفار التوراة والعهد القديم، نهجاً ثابتاً لا سبيل إلى تسميته إلا بـ (التأريخ بالتمني)، والذي استمات المؤلفون اليهود في إيهامنا بأن كتابهم موحى به من السماء وانه (كلمة الله). ولكن كيف يكون كذلك وهو منقول نقلاً في كل كتاباتهم المقدسة، من الأدب الديني لشعوب أخرى اعرق حضارة؟. فتلك الكتابات لا تكاد تضم شيئاً لا نجده منقولاً من كتابات تلك الشعوب. لكنهم ينكرون ذلك بطبيعة الحال ويتمسكون بإرجاع تاريخهم إلى آدم سعياً إلى قدم وأصالة يظلان أسطوريين ككل تاريخهم. وفي جذور ذلك الإصرار على التشبث بالقدم والتاريخ التليد والأصل العريق، يظل يصرخ الشعور بصغر الشأن والضياع. وكما يعمد المريض بالهذيان إلى ضروب هذيانه ليخفف بها من وقع الواقع المحبط المعاكس على نفسه الممزقة بالعذاب، عمد أولئك المؤلفون والمحررون إلى إعادة كتابة تاريخ للعالم والبشرية بالتمني ليصنعوا لأنفسهم وشعبهم المبارك تاريخاً مقدساً فريداً أخص لا يجعلهم متساوين مع ¬

(¬1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص152

فكرة الشعب المختار

غيرهم من البشر فحسب، بل ويجعلهم أعلى وأرفع وأعظم امتيازاً من كل أولئك الأغيار الآخرين" (¬1). فكرة الشعب المختار تكرر التوراة في العديد من نصوصها وصف اليهود بأنهم شعب الله المختار ومن عداهم (غوييم)، حيث تحولت فكرة الاختيارية هذه إلى مزاعم عقيدية تستند على الاصطفاء والاستثناء والاستعلاء والعداء وادعاء القداسة. فالزعم بالاختيار راسخ في نفوس اليهود والتي يتشربها الطفل منهم منذ الصغر ومنها: "لأنك شعب مقدس للرب إلهك وقد اصطفاك الرب لتكون له شعباً خاصاً على جميع الشعوب التي على وجه الأرض". وهم كذلك يعتقدون أنهم شعب استثنائي: "أنا يهوه إلهكم الذي ميزكم من الشعوب". أما الاستعلاء على بقية الشعوب فهو فعل عبادة كما في الخطاب التوراتي: "يقف الأجانب ويرعون غنمكم أما انتم فتدعون كهنة الرب تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم ينآمرون". أما الروح العدوانية فتتجسد على لسان إلههم يهوه: "فلا تقطعوا عهدا مع سكان هذه الأرض". وأيضا يبشرهم: "فاعلم اليوم أن الرب إلهك هو يعبر أمامك كنار آكلة هو يقرضهم وهو يذللهم أمام وجهك فتطردهم وتبيدهم سريعاً كما كلمك الرب إلهك". هم أيضاً شعب الله المقدس والاعتداء عليه اعتداء على الرب: "أسير بينكم وأكون لكم إلها وانتم تكونون لي شعباً". وفي موضع آخر: "لأنك شعب مقدس للرب إلهك". هكذا أدت هذه النصوص إلى نمو الوعي العنصري بفكرة الشعب المختار والى الإيمان بجنس وأمة متفوقة، كتب لها تاريخ خاص لا تندمج في أمة أخرى ولو عاشت بينها أجيالا، والواقع أن هذه الكتابات الملفقة تؤسس لأسطورة شعب الله المختار بمضمونها العنصري" (¬2). فالعهد القديم كله من أول إلى آخر سفر فيه، له هدف واحد غلب على كل شيء: "الادعاء بأن اليهود شعب ذو خصوصية فريدة تضعه فوق كل السائمة الأمميه، وأنهم شعب عريق له أسلاف عظام هم إبرام واسحق ويعقوب، وان الله وقع في ¬

(¬1) السحر في التوراة والعهد القديم ـ شفيق مقارـ ص329 - رياض الريس للكتب والنشر - لندن - قبرص - ط1 1990 (¬2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص113

عشق أولئك الناس لأسباب تخصه من فجر التاريخ وميزهم وجعلهم شعبه المختار والأخص، وتعاقد مع آبائهم ـ شرط أن يتختنوا ـ على إعطائهم أراضى شعوب عديدة ذات ارض خصبه وحضارات عريقة، وطرد تلك الشعوب من طريق الشعب الأخص المختار وأبادتها حتى لا تضايقه" (¬1). وهذا الادعاء بالخصوصية والتفوق المزعوم لا يمكن تفسيره الا بنقيضه، حيث لعبت هزائم قبائل بني إسرائيل الكثيرة والمؤلمة أمام الحضارات العريقة لبلاد ما بين الرافدين وحضارات مصر الفرعونية دورا مهما في محاولة تعويض هذه الهزائم عن طريق إقامة ميثاق مقدس مع يهوه. الأمر الذي سيعوضهم النقص الذي كانوا يشعرون به لدى مقارنة نفسهم مع الحضارات المحيطة بهم. وهذا ما نراه واضحاً في أحاديث قادة إسرائيل مع الرب وتضخيمهم ومبالغاتهم كما هو جلي في موقفهم من الشعوب والأمم الكبرى. أننا نعثر في التوراة على رغبة الإله اليهودي في أن يجعل من كنعان (أهل فلسطين الأصليين) ملعوناً وعبداً، بينما تصبح بابل المكان الذي تبلبلت فيه السن الشعوب والأمم، وتصبح مصر وأهلها، أي من أنقذ اليهود - حسب أساطير التوراة نفسها- من المجاعة والموت، تهمة وشتيمة. في حين يتحول (الخروج) وأحكامه كما وضعت على لسان موسى إلى سفر عن مشاركة الملاك إياه في طرد الكنعانيين والاموريين والحثيين والغرزيين والحوبيين واليبوسيين. بحيث طالب إلههم موسى في (العدد) بالانتقام لبني إسرائيل من المديانيين بقتل ذكورهم وسبي نسائهم وأطفالهم وسرقة مواشيهم وحرق مدنهم، كما لو أن قيمة (العدد) تتمثل في تعداد من ينبغي طرده وقتله. بينما تمثل قوانين وتعاليم (التثنية) في تعاملها مع الأعداء ضراوة عنصرية دموية الظاهر والباطن. في حين لا نعثر في التوراة كلها على مديح أو ثناء لأي شعب من الشعوب التي أرست أسس الحضارة الإنسانية. على العكس أنها تكتظ بالشتائم القبيحة والأحكام المبتذلة والكراهية الوسخة، التي تكشف عن طبيعة النفس الغضبية اليهودية وإلهها" (¬2). ¬

(¬1) قراءة سياسية للتوراة - شفيق مقار ـ ص181 - رياض الريس للكتب والنشر - لندن-قبرص- ط1 1991 (¬2) ثالوث الإله القومي والشعب المختار والقوة الغضبية (الصورة والمعنى في الصراع العربي - اليهودي) - د. ميثم الجنابي- مجلة المؤتمر عدد 1174 - 14 - آب-2006 - http://www.inciraq.com/Al-Mutamar/2006/1101_1200/1174/060814_1174_5..htm

فمن ناحية علم النفس الإجتماعي يقول بعض المحللون بأن إيديولوجية (شعب الله المختار) يمكن شرحها بعقدة النقص لدى القبائل الإسرائيلية لدى مقارنة نفسها بالحضارات القديمة المجاورة. وقد عزّز هذه الفكرة طبقة الكهنة المتعطشة إلى السلطة و طبقة (الأنبياء) من أتباع يهوه. فقد قامت هاتان الطبقتان بعملية غسل دماغ، دامت طويلاً، للقبائل اليهودية من أجل إقناعها بخصوصيتها وبمركزها الرئيسي لدى يهوه. ولكن كانت نتائج عملية غسل الدماغ سلبية تماماً بالنسبة لعلاقات القبائل اليهودية مع جيرانها. إثر هذه العملية إمتلأت قلوب الإسرائيليين بالحقد تجاه جيرانهم من الكنعانيين والمصريون لكونهم أتباع ديانات أخرى وبكون دياناتهم لا تقيم وزناً ليهوه حامي إسرائيل. هذا الحقد الإسرائيلي أدى إلى تقوقع القبائل اليهودية في مواطنها وإلى عدائها الشديد لجيرانها. كذلك فإن شعور القبائل اليهودية بالضعف بالمقارنة مع جيرانها أدى إلى خلق طبقة الكهنة لصورة مرعبة ليهوه، هذا الإله المتعطش للدماء بشكل عجيب لا يمكن مقارنته بآلهة الشعوب المجاورة" (¬1). وهنا يسلط فرويد أضواء علم النفس على تلك الفئة التي دونت هذه القصص الملفقة فيقول: "أنها فئة منبوذة، مشردة، قابعة في زوايا الأسر ولا وطن لها، مهيضة الجناح، لا حول ولا قوة لها تستند إليهما. هذه الفئة جلست لتدون تاريخ جماعة خرجت من مصر قبل ثمانمائة عاماً، لمست بعض خيوطه من روايات الأسلاف وهى تغط في خضم الأحلام التي كانت تساورها وتستأثر بتفكيرها. فتارة تحلم بالقوة التي تسندها، وتارة أخرى بالجاه الذي يرفع منزلتها ثم بالوطن الذي تأوي إليه. فاتخذت من الاهها يهوه، ومن شخصية النبي موسى، قوة دينية تتشبت وتتسلح بها على الأعداء. كما اتخذت من إرجاع أصلها إلى إبراهيم الخليل وحفيده يعقوب أصالة النسب التي تجعلها الشعب المختار. ومن كنعان اتخذت عقيدة الوطن الموعود الذي ¬

(¬1) التلفيق والعدوانية في الايديولوجية الصهيونية -الكاتب: د. فيصل دراج كاتب وناقد فلسطيني ـ دمشق 31 - 3 - 205

يفيض لبناً وعسلاً، وعزوا كل ذلك إلى الآله يهوه، والى إبراهيم ويعقوب وكلهم بريئون من هذه الفئة" (¬1). وهذه السمة في تأليف تاريخ مصطنع لليهود لم تفت أي باحث أو مفكر أزاح عن عينيه وعن فكره غشاوة الورع المكذوب الذي يفرض على العقل وجوب تصديق ذلك التلفيق للتاريخ باعتبار التصديق مطلباً إيمانياً. "فكتابات اليهود المقدسة لا تكف عن التغني بأمجاد بني إسرائيل العسكرية، إلا أن هذه الأمجاد هي الأخرى، فيما نعتقد، أسطورية كتاريخهم كله. والدليل ماثل في انه قلما جاء أي ذكر لليهود في تواريخ الأمم. وان ذكروا على الإطلاق، كان ذلك ذكراً لانتصار حققه الشعب صاحب التاريخ عليهم، لا انتصار حققه اليهود عليه، ومن المدهش اننا لا نجد في اى نص مصري ادنى اشاره أو تلميح إلى تلك الاقامة الطويلة التى اقامها العبريون في بلاد الفراعنة (¬2). فقد كان وجودهم عابراً كغزو استعماري، ثم خرجوا من مسرح الأحداث - هذا إن كان لهم وجود قبل اليونان -· وهم لم يصنعوا أية حضارة, بل كانوا لصوص حضارة، وطفيليين وهامشيين. حتى كتابهم الديني وهو الإنتاج الوحيد لديهم، كان سرقة من تراث الآخرين. يقول غوستاف لوبون في كتابه (اليهود في تاريخ الحضارات الأولى): "إن اليهود في فلسطين لم يعرفوا سوى الرعي وسوى العمل الزراعي القليل وهم لم يقدموا للحضارة شيئا"ً. كما أن المؤرخ اليوناني هيرودت عندما زار فلسطين في القرن الخامس قبل الميلاد، لم يذكر شيئاً عن اليهود. مما يعني أنه لم يكن لهم وجود، أو وجودهم ضئيل لا قيمة له، وبالتالي لم يثر انتباهه (¬3). كما انه لا وجود لاية آثار تثبت ولادة عصر جديد للحضارة في فلسطين بوصول العبريين اليها. وقد قررت (كالين كينيون) وهى تحصي ما عثرت عليه من حفرياتها الأثرية ما يلي: "ان احدى الصعوبات الرئيسية في تحديد توقيت دقيق لدخول الاسرائيليين إلى فلسطين هى عدم وجود أية إشارة أثرية تسمح لنا بالقول بأن هناك برهاناً مادياً عن وصول شعب ¬

(¬1) رسائل حضارية في مواجهة اليهوديةـ الأب فوتيوس خليل ـ ص65 (¬2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص36 (¬3) راجع كتاب: المعتقدات الكنعانية - د. خزعل الماجدي

جديد". ثم تستنتج الكاتبة قائلة: "لابد من التسليم بأن المجموعات الاسرائيلية التى كانت تصل إلى فلسطين هى من البدو الرحل ... ولقد اقتبسوا لدى تمركزهم كل ما لدى سابقيهم في هذه الارض من أدوات ووسائل .. إن الثقافة الفلسطينية كانت في جوهرها كنعانية" (¬1). ويؤكد الأب ديفو على: "ان (الشعب الاسرائيلي) لم يتكون الا بعد استقراره في أرض كنعان". أما المورخ (نوث) في كتابه (تاريخ اسرائيل) فيصل إلى النتيجة نفسها إذ يقول: "إن اتحاد اثنتي عشرة قبيلة في اسرائيل .. لا يبدو ظاهرة ذات أثر إلا بعد أن احتلت هذه القبائل الأرض ذات الثقافة الفلسطينية .. أما تاريخها فلم يبدأ إلا على أرض فلسطين" (¬2). وهكذا فإن انتصاراتهم التي تحفل بها كتاباتهم المقدسة ليست إلا من قبيل التعويض الأدبي (التأليفي) عن شعورهم بالافتقار إلى ما شهدوه لدى الأمم التي عاشوا بينها من قوة عسكرية وسطوة سياسية. "فبالنظر إلى تاريخ مصر على كثرة ما اكتشف منه، لا يشير إلا لماماً في لمحات إلى القبائل البدوية، بينما تتحدث التوراة بالتفاصيل عن مصر وملوكها ومدنها وطبائع أهلها، مما يشير إلى معرفة واضحة من جانب الإسرائيليين بشئون مصر والمصريين، وهو أمر طبيعي تماماً حيث أن وضع إسرائيل كقبائل هامشية ما كان يشغل حيزاً هاماً في المدونات المصرية، بينما كان المدون الإسرائيلي لا يستطيع أغفال مصر" (¬3). ومما تقدم يمكننا الآن ان نضع المرحلة العبرية من تاريخ فلسطين في سياقها الصحيح لنرى إلى ما استعارته من الحضاره الاخرى وما قدمته لها. يقول (ديل ميدكو) في كتابه (التوراة الكنعانية المكتشفه في رأس شمرا): "على الرغم من اجتياح البلاد من قبل العبريين ظلت الحضارة الكنعانية هي السائدة حتى سيطرة ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - طبعة 1991 - ص64 (¬2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم -ص64 - 65 (¬3) رب الزمان - سيد محمود القمني - ص 42 - مكتبة مدبولى الصغير - ط1 1996

رؤيا الخلاص والمسيح اليهودي

الآشوريين في عهد حكام يهودا واسرائيل (¬1). ويقول شبنجلر: "لم يكن الكلدانيون وغيرهم بحاجة إلى إختلاق ما يدللون به على سطوتهم، فهم - في ظل آلهتهم ـ غزوا العالم وأخضعوه. أما اليهود، فلم يكن لديهم إلا تأليفهم الأدبي، فتشبثوا به، وحولوه إلى برهان نظري على عظمتهم تعويضاً عن غيبة أي دليل موضوعي إيجابي ملموس. وفي التحليل النهائي، يظل ذلك التأليف للتاريخ كنز اليهود الوطني وهو كنز مدين بوجوده لكونه ظل الاستجابة التي استجابوا بها لشعورهم بصغر شأنهم، (¬2) وضياعهم وحاجتهم المستمرة لمخلص، والذي حاول كهنتهم شد أزرهم وتعزيتهم بأن المسيح المنتظر سيأتي ليضع حداً لمعاناتهم وتشتتهم. رؤيا الخلاص والمسيح اليهودي كان اليهود طوال تاريخهم، كلما نأى بهم التشتت عن ارض فلسطين، كلما اشتعلوا حنيناً إليها، وازدادوا تشبثاً بفكرة مجيء المخلص الذي يجمع شمل التائهين المشردين، ويعيدهم إلى فلسطين. "هكذا قال رب الجنود: هاأنذا اخلص شعبي من أرض المشرق، ومن أرض مغرب الشمس، وآتي بهم فيسكنون في وسط أورشليم ويكونون لي شعباً، وأنا أكون لهم ألهاً" (سفر زكريا 8). وكانوا كلما اشتد اضطهادهم، أو كلما اشتدت معاناتهم من الشعور بالاضطهاد، كلما ضري الأمل في صدورهم وقوي الرجاء في نفوسهم، بأن إلههم يهوه سيفتقدهم ويجمعهم من الأراضي التي تشتتوا فيها، ويأتي بهم إلى فلسطين، فالنبي حزقيال يعبر عن رغبة يهوه (الرب) بافتقادهم وعزمه إلى إعادتهم، بصور من الحلم - النبوءة، حيث يقول: "كما يفتقد الراعي قطيعه يوم يكون في وسط غنمه المشتتة، هكذا افتقد غنمي أخلصها من جميع الأماكن التي تشتتت إليها، أخرجها من الشعوب واجمعها من الأرضي وآتي بها إلى أرضها .. وأرعاها على جبال ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - طبعة 1991 - ص53 (¬2) السحر في التوراة والعهد القديم - شفيق مقارـ ص330

إسرائيل، واقيم عليها راعياً واحداً فيرعاها عبدي داود، هو يرعاها وهو يكون لها راعياً، وأنا يهوه أكون لهم ألهاً، وعبدي داود رئيساً في وسطهم" (سفر حزقيال 43) (¬1). وقد ظل اليهود في السبي البابلي ما يقارب خمسمائة سنه يسعون لإقامة دولة لهم في فلسطين باستخدام قوتهم فكان الإخفاق حليفهم وأورثتهم المحاولات العقيمة شعوراً باستحالة تحقيق أحلامهم في العودة، وتشييد إمبراطورية تخضع لها الأمم باستخدام طاقاتهم البشرية، فعمدوا إلى ابتكار قوة خارقة تحقق لهم أحلامهم، وراحوا ينتظرون هذه القوة في شخص داود آخر، أو ما يسمى بـ (المسيح المنتظر). ففي ذلك اليوم يقوم أصل يسى (داود) راية للشعوب، يقول أشعيا: وأنا يهوه أكون إلهاً وعبدي داود رئيساً يقول الرب" (سفر اشعياء 10). وهكذا برزت فكرة المسيح المنتظر في الفكر اليهودي في وقت متأخر، ولم تظهر إلا بعد سقوط دويلة اليهود واسرهم في بابل ثم خضوعهم للفرس. وهذا ما دفع كثيرين من الباحثين إلى الاعتقاد بأن فكرة المنقذ المخلص مستعارة من الزرادشتية التي كان يدين بها الفرس (¬2). فاليهود حين عجزوا عن تأسيس دولة وإقامة ملك، أوكلوا هذا الأمر إلى إلههم ومن هنا كانت المعتقدات المستمدة من فرائض يهوه وأحكامه، جميعها تدور حول محور واحد هو الشؤون السياسية، حيث ظل يهوه (الرب) أسير حوادث تاريخية معينه، وحبيس آمال سياسية خاصة بهم، كتب على نفسه أمر تحقيقها أو الظفر بها، فأخضعه أتباعه اليهود لهم وجعلوا منه قائداً يعمل على تحقيق نزواتهم، حين كانوا قبائل رحلاً يبتغون الاستقرار في قطعة أرض تكون وطنًا لهم، فاتخذوا من يهوه إلهاً قومياً، وزجوه في مسألة البحث عن وطن وتعيين الأرض، ثم إصدار وعده بتمليكهم هذه الأرض، فكان أن تسلحوا بوعد إلههم حين فكروا بغزو الأرض وظلوا متسلحين به فترة استيطانهم القصيرة، وما فتئوا يرفعونه في وجه أصحاب الأرض ـ الفلسطينيين والعالم- وثيقة شرعيه تجيز لهم ¬

(¬1) الاصولية المسيحة في نصف الكره الغربي - ص110 (¬2) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة ص406

اقتلاع أصحاب الأرض من أراضيهم، أو إبادتهم، ليتسنى لهم الاستقرار في الوطن الموعود (¬1). والواقع أن الشوق إلى المسيح أو المخلص أو المهدي هو من شوق الإنسان إلى (الفردوس المفقود) أو (عصر الإنسانية الذهبي) الذي تتفق النصوص الميثولوجية على أن الإنسانية ولدت وعاشت في ظلاله ردحاً من الزمن قبل أن تبدأ مصاعبها، ولكن تطلع اليهود إلى المسيح المخلص لم يكن شبيهاً بغيره من تطلعات الشعوب الأخرى. فبالرغم من أن التطلع إلى بطل قومي أسطوري محارب يأتي في نقطة ما من زمن مقبل فيتحقق على يديه خلاص الجماعة البشرية المبدعة لأسطورته وانتصارها على أعدائها، ويحل بفضله عصر ذهبي من العلو والرخاء والسلم ـ هو تطلع أنساني قديم نجده شائعاً في ثقافات العديد من شعوب العالم القديم، التي أقام أودها وصلب عودها دائماً ما ظلت تبدعه من أساطير .... غير أن شعوب الشرق الأدنى القديم التي أبدعت أساطير عامه عن أبطال منقذين كانت شعوباً مستقره في أوطانها، ولم تكن قبائل من بدو رحل باحثه عن ارض تغزوها وتستوطنها مستجلبه باستمرار قدراً غير مألوف من الكراهية والعداء بفضل ما اتصفت به من جشع وشراسة دموية وما امتلأت به من مشاعر الخصوصية. ولذا نجد أن الحلم العام في حالة الشعب اليهودي اتصف بخصوصية فريدة. ففي حين حارب جلجامش ضد البغي وذهب إلى حد تحدى الموت ذاته، وتمرد بروميثيوس على الاحتكار السماوي للنار فسرقها ليضع أقدام البشر على درب الحضارة ودفع ثمناً مخيفاً لتمرده، نجد أن البطل، المسيح المنتظر الذي تمخض عنه شعور اليهود محاطاً بمخاطر ما أحاطته دمويته به من كراهية وعداء حيثما حل، بطل يقول له يهوه: "اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك .. الرب يهوه عن يمينك يحطم في يوم زجره ملوكاً يدين بين الأمم. ملأ جثثاً أرضاً واسعة. سحق رؤوسها" (المزمور110: 1ـ6) (¬2). والمقارنة بين الحالتين تدل على طبيعة النفس العبرية وهي طبيعة عنيفة حاقدة .. وتدل على ان النص التوراتي لابد وان يكون قد حرف ¬

(¬1) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان ص111 (¬2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص40

في العصور اللاحقة، لاسيما عصر المنفى وهو عصر الحقد الاكبر، فعكس روح الحقد والكراهية والعنف (¬1). ففي السبي البابلي أخذ اليهود يتطلعون إلى مجيء بطل يعيد لهم (مملكتهم) الضائعة لا بعملهم وكدهم، بل بعمل خارج عنهم، ومن الطبيعي أن ينظر الإنسان، إذا ما حل بما حوله الانحلال والتدهور، إلى عصر ماض، يعكس عليه آماله وتطلعاته، وعندما جال العقل اليهودي، خلال السبي البابلي بنظره في العصور السالفة، توقف عند عصر داود، واخذ العقل اليهودي ينصبه في مخيلته مثالاً لما يجب على التاريخ أن يكون، فالعصر الداودي بخيره المادي الكبير وبثرائه ورخائه وباستقراره السياسي، ووحدته أصبح في نظر اليهودي عصراً ذهبياً، لم يكن التطلع إليه مجرد أمل، أي الأمل بحدوث شيء معين طيب، وإنما كان التطلع إليه تطلعاً إلى تحقيق مشيئة الرب، لأن الدولة الداوديه هي مشيئة الرب في الأرض، والتطلع إلى تحقيق مشيئة الرب تعبد (¬2). ولذلك أصبحت مملكة داود مثلهم الأعلى، وكانوا كلما ساءت ظروفهم وتدهورت أحوالهم، كلما أمعنوا في إضفاء الرونق والجلال على عصر داود، إلى أن جعلوا منه صخرة خلاص، عليها تتحطم الأمم جميعها ومنها يكون خلاص اليهود. هكذا كانت البدايات الأولى لظهور النزعة المسيحانية لدى اليهود منذ بداية زوال (دولة) اليهود التي كانت قائمه في فلسطين، أي منذ هدم الهيكل. فمنذ ذلك الحين، فيما يروى مؤرخو اليهود ظهر الاعتقاد بمجيء (المسيح) الذي سوف يخلص بني إسرائيل من المنفى، ويعيد إليهم مجدهم التليد وقد اتخذ هذا الأمل المسيحاني شكل أمل مزدوج: أمل مزدوج في العودة إلى العصر الذهبي لليهود، وأمل في قيام عالم أفضل مختلف كل الاختلاف عن عالمنا، وهذا الخلاص المسيحاني لن يحدث إلا عند نهاية الزمن. والتعجيل بمعجزة مجيء العصر المسيحاني لا يمكن أن يأتي إلا من الله، وما على الإنسان إلا أن يصلي لله ويحسن عمله أملاً في ألا يتأخر الخلاص، وكل محاولة للعودة إلى ارض إسرائيل قبل ظهور الإشارات الآلهيه، كفر وهرطقة وثورة ¬

(¬1) اصول الصهيونية في الدين اليهوي - د. اسماعيل راجي الفاروقي - ص18 - مكتبة وهبه - ط.2 1988 (¬2) اصول الصهيونية في الدين اليهودي - د. اسماعيل راجي الفاروقي - ص 61 - مكتبة وهبه - ط2 1988

من التشرد إلى الرغبة بحكم العالم

ضد الإله وعودة اليهود إلى ارض آبائهم شأن من اختصاص الإله وحده، ولا تتم بقرار من بني البشر (¬1). هكذا وضع كهنة اليهود خطة الرجوع إلى فلسطين، وبناء الهيكل في صهيون، ليكون عرشاً للمسيح المنتظر، الذي يأتي في سطوة زمنية، وينقذهم من حكم الدول التي استعبدتهم، ويعيدهم إلى أرض الرب ومهد الأنبياء. فعجز اليهود في تشتتهم وقصورهم المادي، كانا ينتهيان بآمالهم إلى مجرد الرجاء من اله داود، أن يبعث إليهم من لدنه مخلصاً، ينقذهم من هوان الأسر ويعيدهم إلى أرض فلسطين، بمعجزات ربانية تعوض عنهم قصورهم وعجزهم، وبتعبير الكاتب (جون اليجرو): أن ما عجز اليهود بقواهم الذاتية عن تحقيقه، سوف يحققه يهوه (الإله) بجنده السماوي تحت قيادة المسيح المحارب، سليل بيت داود، وابن الله، وسيكون ذلك المسيح الذراع اليمنى للملك المنشود، ولسوف تبيد أنفاسه ذاتها الأشرار الذين جرؤا على الوقوف في وجه قصد يهوه المتمثل في أن يحكم شعبه المختار العالم (¬2). وقال السيد يهوه: "في ذلك اليوم أقيم مظلة داود الساقطة، وأحصن شقوقها وأقيم روحها وأبنيها كأيام الدهر، لكي يرثوا بقية أدوم وجميع الأمم .. وأرد سبي شعبي وأغرسهم في أرضهم" (سفر عاموس 9). وقال يهوه: "إني أجمع جميعك يا يعقوب أضم بقية إسرائيل" (سفر ميخا2) ... "وأجعل عيني عليهم أرجعهم إلى هذه الأرض أبنيهم ولا اهدمهم، أغرسهم ولا اقلعهم، أعطيهم قلباً ليعرفوني أني أنا يهوه، فيكون لي شعباً وأنا أكون لهم إلهاً" (سفر أرميا 24). من التشرد إلى الرغبة بحكم العالم يزخر تاريخ اليهود على النحو المدون به في العهد القديم بالكثير من الاشارات إلى اشكال الصراع التى تجسدت فيما عرف بأنه "الحرب" فالتوراة تطبع العقيدة الاسرائيلية بعد ذلك برباط وثيق بين "حرب اسرائيل" و "رب اسرائيل"، حيث يصبح ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد السقا ص36 أو صراع اليهودية مع القومية الصهيونيةـ د. عبد الله عبد الدائم ص 25 (¬2) المسيح القادم (مسيح يهودي سفاح) - جورجي كنعان ص167

الرب هو "رب الجنود" الذي يمهد لبنى اسرائيل السبيل لتحقيق مآربهم في الغزو والاحتلال وطرد الشعوب (¬1). فلم يكتفي كهنة اليهود بالحلم بالعودة وتأسيس دولة، بل بالرغبة بحكم العالم واستعباده. فبمقدار ما كان شعورهم بالضعف والمهانة يقوى، بمقدار ما كان الأمل بالعودة يقوى، وراح أنبياءهم يضخمون صورة الأمل والإطار الذي يحتضن هذه الصورة، فإذا صورة المملكة التي يحلمون بإنشائها صورة خيالية لا نظير لها في عالم الواقع لأنها بنت خيالهم، وكان إطار تلك الصورة إمبراطورية عالمية واسعة الأرجاء بعيدة الحدود، يكونون فيها سادة والشعوب جميعها عبيداً، وتكون صهيون عاصمة العالم. قال يهوه (الرب) مخاطباً ابنته السيدة المدللة - إسرائيل -: "بالوجوه إلى الأرض يسجدون لك، ويلحسون غبار رجليك" ... وقال مخاطبا صهيون التي اشتهاها مسكنا له: "وبنو الغريب يبنون أسوارك .. وملوكهم يخدمونك تنفتح أبوابك دائما ليؤتى إليك بغنى الأمم، وتقاد ملوكهم .. ارفعي عينيك حولك وانظري قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك يأتي بنوك من بعيد وتحمل بناتك على الأيدي وتتحول إليك ثروة البحر، ويأتي إليك غنى الأمم" (سفر أشعيا 6، 49). ويقول يهوه (الرب) مخاطباً شعبه المختار في مكان آخر: "وعلى الأيدي تحملون وعلى الركبتين تدللون .. ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم، أما انتم فتدعون كهنة الرب تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتآمرون" (سفر أشعيا 61، 66). بهذه الرؤى ـ الأحلام ـ التنبوءات وأمثالها، ظل أمل العودة إلى فلسطين، دائم الاتقاد في صدورهم كظاهرة ورع روحيه مقدسة، وقد لبثوا دهراً يتخيلون المسيح الموعود ملكاً، صاحب عرش وتاج يفتح فلسطين بالسيف ويعيد فيها بناء الدولة الدائله، لكي يقاد إليها ملوك الأمم فيسجدون لإسرائيل ويلحسوا غبار رجليها (¬2). ¬

(¬1) المجتمع الاسرائيلى وثقافة الصراع - د. عمر عبد العلى علام - ص 52 - دار العلوم للنشر والتوزيع - ط1 2007 (¬2) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان - ص115

فكرة المسيح المخلص ونهب أساطير الشعوب الأخرى

إلى هذه الدرجة من العنصرية ومحدودية الأفق تهبط الفقرات السابقة بمعنى الربوبية .. ويبلغ الافتراء على الله ذروته في مفهوم التوراة المتداولة عن الربوبية. "لقد جعلوا من رب العالمين شيخ قبيلة" (¬1) ... فالرب في التوراة ليس رب العالمين ولا رب الأكوان كلها إنما هو رب إسرائيل وحدها، ولهذا وفي آخر الزمان يأتي الله بكل الشعوب والأمم لتلحس تراب نعل حذاء إسرائيل ... فالروببيه والعناية وإسباغ النعم هي أمور يجب أن تنفرد بها إسرائيل وحدها والله ليس رباً للشعوب والأديان الأخرى. فكل ما عدا شعب إسرائيل (جوييم) حيوانات وكل ما عدا الديانة اليهودية خزعبلات. وما عرضناه من الصور الغاضبة، الحاقدة، الساخطة الناقمة، في اطر من السحق والقتل والذبح، يعبر عن مفهوم بني إسرائيل القدماء للإله، وعن الصورة التي حملوها في نفوسهم عنه (¬2)، مما دفع توماس جفرسون وهو من أعظم الآباء المؤسسين لأميركا إلى القول في (الأفكار الحية) عن الإله الذي اقطع فلسطين (لشعب إسرائيل إلى الأبد)، بأنه فظ، حقود، مزاجي، ظالم (¬3). والهاً هذا شأنه "يختار شعباً ويمنحه امتياز اغتصاب وتدمير الآخرين، لا يمكن إن يكون إلها للبشر أجمعين، كما قال جان جاك روسو" (¬4). فكرة المسيح المخلص ونهب أساطير الشعوب الأخرى يذهب اغلب الباحثين إلى القول بأن اليهود أثناء فترة السبي البابلي اخذوا فكرة المخلص عن البابليين أو الفرس، فالديانة الزرادشتيه، التي وضع مبادئها زرادشت (660ـ583 ق. م) تبشر بظهور مخلص من بيت زرادشت، مرة كل ألف عام لكي يناصر (هرمازدا) اله الخير، على أخيه (الهرمان) اله الشر، كلما أمعن الفساد في الأرض واستفحلت الشرور. كما كان البابليون يعتقدون انه كلما استشرى الفساد في الأرض واستغرقت البشر حمأة الشرور والآثام عاد إليهم (ماردوك) ليطهرهم ويشيع الخير فيهم. ¬

(¬1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص71 (¬2) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص146 (¬3) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص154 (¬4) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي ـ د. منى طلبهـ ص275

ويبرر هؤلاء الباحثين استنتاجهم السابق بالقول، انه بعد انتهاء مملكتي إسرائيل ويهودا على يد الأشوريين والبابليين، عاش اليهود في كنف الإمبراطورية الفارسية ثم تحت حكم السلوقيين ثم الرومان مجرد تابعين محكومين فحسب، لهذا لم يتمكنوا من إبداع أساطير ذات ملامح حضارية مستقره؟. ومما يؤكد ذلك أن وثائق بلاد النهريين ومصر وكنعان عن الخلق والجنة والطوفان وغيرها، يرجع تاريخها إلى الفترة من منتصف القرن الثامن والعشرين إلى حوالي القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، هذا في حين أن أقدم مصادر التوراة يرجع تاريخها إلى منتصف القرن العاشر أو التاسع قبل الميلاد، ومن المعروف أن أول تدوين للعهد القديم حدث بعد وفاة النبي موسى عليه السلام بحوالي خمسمائة سنه أي حوالي القرن السابع قبل الميلاد (¬1). يضاف إلى ذلك أن يهود السبي البابلي كان لهم النصيب الأكبر في تكوين الديانة اليهودية، حيث مارس اليهود شعائرهم الدينية وواصل كهنتهم أعمالهم الدينية بتحرير أهم فصول التوراة، والتمهيد لتدوين التعاليم اليهودية فيما سمي بـ (التلمود البابلي)، حتى أن السبي البابلي كان عاملاً قوياً في تطوير الديانة اليهودية في القرون التي تلت ذلك، حيث دونت خلالها أهم فصول التوراة، التي دونها الكهنة اليهود باللغة الآرامية. وحتى ما ورد في التوراة من مزامير وأمثال وأشعار وشرائع وما إلى ذلك من أساطير وقصص فهي أيضاً مستقاة من المصادر الأدبية القديمة لمختلف الثقافات التي اطلع عليها كتبة التوراة ومن المعتقدات والتقاليد الاجتماعية التي عاشوها ومارسوها فعلاً في فلسطين وبابل وهى كنعانية بابلية مصرية الأصل (¬2). كما يرى البعض أن كتاب التوراة هو في مجمله، لا يخرج عن إطار التراث العربي (مع الفارق) الذي كان يحفظ مدوناً في الذاكرة لعشائر عربيه عاشت أحداثاً معينه في منطقة بدويه جد ضيقه من شبه الجريرة العربية، وان كثيراً من مدوناته إنما كانت ¬

(¬1) أساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى القديم - د. كارم محمود عزيز ـ ص242ـ243 - - دار الحصاد للنشر والتوزيع /دمشق- ط1 1999 (¬2) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة ص268ـ369

جزءاً من ذلك التراث الذي تناقلته الأجيال جيلاً بعد جيل. فقصة التكوين البابلية وقصة الطوفان هي نفسها التي تحدثت عنها القيم المسمارية قبل ألفي عام من أحداث التوراة، وقصة أيوب، والأمثال والمزامير، والأناشيد، كانت كلها بعضاً من التراث المتداول، جمعه مدونو التوراة إلى جانب أخبار تلك العشائر البدوية العربية في منطقة عسير من شرق بلاد غامد في شبه جزيرة العرب (¬1). ويكشف فرويد عن النهب اليهودي من الديانة المصرية عند حديثه عن ثنائية العقيدة الدينية عند اليهود فيقول: "أن كلمة (أدوناي) في العبرية ـ وهى اسم الرب في العقيدة الموسوية ـ هي تحريف لكلمة آتون المصرية ـ أي إله التوحيد. ويعرض العلامة ديورانت في (قصة الحضارة) الفارق بين ديانة التوحيد الموسوية من جهة، وديانة أحبار التوراة في وقت لاحق من جهة أخرى فيقول: إن تراتيل إخناتون في تصوير الإله ليست من أولى قصائد التاريخ الكبرى فحسب، وإنما هي شرح بليغ لعقيدة التوحيد، إذ يرى أن إلهه هو رب الأمم كلها. وفي مديحه له يذكر مصر قبل غيرها من البلاد التي يوليها كلها عنايته. ويعلق (ديورانت) على ذلك بقوله: إلا ما أعظم الفرق بين هذا وبين العهد القديم، عهد اله القبيلة ... الخاص بفئة معينة. ثم يضيف ديورانت فيقول: ثم انظر إلى ما في القصيدة من مذهب حيوي حينما يقول: أن "آتون" لا يوجد في الوقائع والانتصارات الحربية ... وإنما في أزهار الأشجار، وفي جميع صور الحياة والنماء .. وليس كيهوه رب الجيوش، بل كان رب الرحمة والسلام" (¬2). وهكذا فأنه يمكننا بسهولة ملاحظة أن النهب في الأسطورية السومرية/ البابلية، كان على نطاق واسع، مثلما كان من الأسطورية المصرية والاختلاف الوحيد بين أسطورتي الخلق البابلية واليهودية أن البابلية حسمت الصراع بين الإله (مردوخ) وقوى الفوضى الأولى (تيامات وجيشها) بانتصار مردوخ الكامل عند بدء الخليقة، بينما جعلت الأسطورة اليهودية الصراع مستمراً ومتواصلاً إلى أن يحسم في آخر ¬

(¬1) العرب الساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل ـ د. احمد داوود ص95 - طباعة دار المستقبل /دمشق- ط1 1991 (¬2) رسائل حضارية في مواجهة اليهوديةـ الأب فوتيوس خليل ـ ص66

الأيام بالانتصار الأخير الوارد في سفر الرؤيا. ولهذا نجد أن (بزوغ) السماء الجديدة والأرض الجديدة بدلاً من سماء الأيام الأولى وأرضها، الذي وقع في أسطورة مردوخ وتنبأ به سفر الرؤيا لن يكون إلا في (آخر الأيام) في الأسطورة اليهودية، نظراً لتأخير المعركة الأخيرة مع التنين انتظاراً لمجيء المسيح المنتظر والعصر الألفي السعيد. ولن يكون ذلك إلا بتحقيق مخطط للخليقة وتسيد شعبه المختار الأخص على العالم بعد القضاء على كل أعدائه الأمميين أي من يتظاهرون أنهم بشر وهم في حقيقتهم سائمة (¬1). فأحبار اليهود وكهنتهم لم يكتفوا بنهب أساطير الشعوب الأخرى، بل عملوا على تشويهها ومسخها إشباعاً لأحقادهم الدفينة علي شعوب المنطقة والبشرية، ومحاولة منهم لإخفاء هذه السرقة والنهب المنظم لتراث الشعوب الأخرى. فهناك مزامير عديده استوحت من الطراز الكنعانى كما تشهد بذلك نصوص رأس شمرا، حيث أنه بناء على حل رموز النصوص العديدة التي وجدت في رأس شمرا، (أوغاريت القديمة)، يستنتج أن الكلمات والتعابير العبرية التي كان يشتبه العلماء في أن لها معاني دينية، ظهر أنها متصلة بأفكار العبادة في اللغة الكنعانية، وأن جميع القوانين، والطقوس والاحتفالات، والأغاني، والأمثال الإسرائيلية، استعيرت من العموريين والكنعانيين الذين كانوا يعيشون في البلاد قبل أن يأتي العبرانيون إليها (¬2). كما ان هناك مزامير اخرى ولاسيما المزمزر 104 كأنها نسخ للأناشيد المصرية. .. وفي ظل هذا الجو من التلفيق والتوفيق ستولد الاسفار الخمسه (التكوين والخروج واللاويون والعدد والاشتراع) وهى نواة التوراة التى تتضمن جوهر العقيدة اليهودية. كما ان الاساطير المتصلة بالخلق قد اقتبست في جوهرها من الاساطير القديمة فيما بين النهرين، ولا سيما من الحكايات الآشورية- البابلية، فحكايات خلق العالم والفردوس الارضي والطوفان قد سبق أن وجدت مدونة في عبارات قريبة جداً من عبارات التوراة في الاشعار السومرية أو في ملحمة جلجامش، التى ترجع إلى الالف الثاني ق. م (¬3). ¬

(¬1) قراءة سياسية للتوراة ـ شفيق مقار ـ ص165 (¬2) القدس في العصر البرونزي (1000 - 3000 ق. م) "، ضمن كتاب القدس في التاريخ، ص 41 - 40، وينظر ص 43 - 42. (¬3) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم ص77 - 81

وفي كتابه (العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم) يناقش (د. بشار خليف) اختلاقات التوراة وانتحالاته لتراث المشرق العربي في شقيه الرافدي والكنعاني، ويقدم إضاءة على تيار فكري تاريخي جديد في إسرائيل ظهر في الثلث الأخير من القرن العشرين بما يسمى المؤرخون الجدد في إسرائيل والذين أحبطهم التنقيب الأثري في فلسطين في العثور ولو على دليل بسيط عن تواجد حضاري مهم للعبرانيين والوارد في التوراة، ما أدى إلى نقدهم ونقضهم للروايات التوراتية .. حيث يشير إلى مقولة الباحث الإسرائيلي (زئيف هيرتزوغ (: "إن الحفريات الأثرية المكثفة في أرض (إسرائيل) خلال القرن العشرين، قد أوصلتنا إلى نتائج محبطة، كل شيء مُختلق، ونحن لم نعثر على شيء يتفق والرواية التوراتية. إن قصص الآباء في سفر التكوين (إبراهيم - يعقوب - اسحق) هي مجرد أساطير. نحن لم نهبط إلى مصر، ولم نخرج منها. نحن لم نته في صحراء سيناء. نحن لم ندخل إلى فلسطين بحملة عسكرية. وأصعب الأمور أن المملكة الموحدة لداود وسليمان التي توصف في التوراة بأنها دولة عظمى، كانت في أفضل الأحوال مملكة قبلية صغيرة. إنني أدرك باعتباري واحداً من أبناء الشعب اليهودي وتلميذاً للمدرسة التوراتية، مدى الإحباط الناجم عن الهوة بين آمالنا في إثبات تاريخية التوراة، وبين الحقائق التي تتكشف على أرض الواقع" (¬1). ويشير المؤلف إلى أن طروحات هذا التيار سوف تؤدي إلى انهيار المدرسة التوراتية الأثرية (¬2). فالأدلة العلمية كثيرة قاطعه لم تعد تترك مجالاً لأدنى شك في أن كثير من حكايات التوراة، نهبت من أساطير الشعوب الأخرى حيث أنه وفي وجه هذه الأدلة، لم يعد يجدي الإنكار، ولذا صار اعترافاٌ عاماً. لكن (شطارة) الشعب المختار ودعاته وتبعية أتباعه الأمميين جعلتا من غير المقبول أن يعترف بالنهب دون أن يستغل ذلك ¬

(¬1) عالم الآثار الإسرائيلي " زئيف هيرتزوغ " صحيفة هآرتس 28/ 10/1999 - نقلاً عن السفير اللبنانية 1/ 11/1999 (¬2) العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم - د. بشار خليف - دار الرائي للدراسات والترجمة - دمشق 2004.

السبي البابلي وظهور النزعة القبلية المغلقة

الاعتراف لفائدة تعود على عملية النصب والتلفيق الكبرى التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ (¬1). وبعد أن اتضحت لنا أبعاد هذا التزوير والنهب لأساطير الشعوب الأخرى (¬2)، لنا أن نسأل كما يقول (شفيق مقار) .. "ما الذي أعطاه الشعب المختار الأخص للشعوب التي نهب من ثقافتها وفكرها الديني لقاء ما نهب، إلا المذابح والإبادة والتخريب وهدم المدن العامرة وحرقها ونهب ثروات الشعوب المادية بعد ثرواتها الدينية والثقافية. وان شئت أن تحدد الشعوب التي يدين لها الشعب المختار الأخص بأعظم ما نهب، فابحث عن الشعوب التي يكن لها ذلك الشعب اكبر قدر من العداء ويطوي لها جوانحه على أفظع قدر من الحقد والضغينة والكراهية، وستجد أن الشعوب الأمميه التي تتصدر قائمة الكراهية المشبوه لكل الأمميين، شعوب مصر وكنعان وما بين النهرين، لأنها الشعوب التي سرق منها الشعب المختار أكثر مما سرق من أية شعوب غيرها، ونحن نعرف جزاء سنمار الذي كان نصيباً لكنعان المسكين (الشعب الفلسطيني) لقاء نهب الشعب المختار لإلهه (آيل) وفكره الديني، وفي مقابل ضيافته وفتحه أبواب أرضه، الأرض التي تفيض باللبن والعسل" (¬3). السبي البابلي وظهور النزعة القبلية المغلقة من خلال عرضنا السابق لتاريخ اليهود قبل السبي البابلي لاحظنا انهم مثلهم مثل القبائل السامية الآخرى التى هاجرت من الجزيرة العربية، حاولوا الاستقرار في مناطق الهلال الخصيب، حيث استقروا في فلسطين في النهاية على يد سيدنا ابراهيم، وعاشوا مع الشعوب الاخرى التى سبقتهم في فلسطين كالكنعانيين والفلسطينيين. وحيث انهم كانوا بدو رحل فقد استفادوا من هذه الشعوب واختلطوا بها وقلدوها في كثير من شؤونها حتى انهم في كثير من اوقاتهم عبدوا آلهة هذه الشعوب وحدث تزاوج بينهم وبين تلك الشعوب، وحتى ادعائهم بالتميز وانهم شعب مختار وحاملي الشريعة اصبح لها معنى آخر عند انبيائهم حتى بشر بعضهم بملكوت ¬

(¬1) قراءة سياسية للتوراة - شفيق مقار ـ ص181 (¬2) راجع رد على التوراة - نذرة اليازجي -ص 48 - دار طلاس- ط3 1990 (¬3) قراءة سياسية للتوراة ـ شفيق مقار - ص155

الله والسلام الذي سيعم كافة الامم. وخلال مرحلة السبي البابلي في العراق، وهي الفترة التي يظهر أنهم بدأوا فيها بتدوين التوراة، كان اليهود قد تركوا الالتزام بدينهم وقلدوا الدول التي يعيشون فيها بعبادة الأوثان. ولكن عندما لاحت الفرصة لليهود للعودة من السبي البابلي، انتهز هذه الفرصة عدد قليل منهم لأن الكثير من المسبيين أعجبتهم الأرض الجديدة، ولكن القلة المتشددة التي عارضت الاندماج حفظت بني إسرائيل من الاندثار (¬1). مما ادى إلى حدوث سقوط جديد في أحضان النزعة القبلية وعودة إلى الحرفية والتعصب بإقامة سلطة ثيوقراطية دينية قهرية كهنوتية، حيث سبق لهذه الحركة أن أطلت برأسها قبل قرن من الزمن في عهد جوزياس ولكنها أسقطت على يد الأنبياء (¬2). فعندما فرض ملك فارس (قورش) على حكام مقاطعاته احترام العبادات المحلية كي يضمن سيطرته على اتباعه المتعددى المشارب. واصدر أمر إلى الحكام الفارسيين في مصر باحترام عبادة الإله (سيت) في الدلتا، وأصدر قورش كذلك عام 537 ق. م قراراً يسمح للإسرائيليين بإعادة بناء الهيكل وللمنفيين بالعودة إلى بلدهم. لم ير وجهاء العبريين انطلاقاً من تعصبهم العرقي في هذا الاجراء السياسي الذي يسمح بالعودة إلى ممارسة العبادات القديمة في مصر وما بين النهرين والذي ينسجم مع تقاليد الهلال الخصيب ... لم يرى وجهاء العبرين في هذا الاجراء الا ما يعنيهم ونظروا إلى قورش على أنه منفذ المشيئة الإلهية، هذا بالرغم من ان الجماهير التي بقيت في فلسطين لم تبد حماستها لإعادة بناء المعبد. فقد ورد في سفر (حجي) في هذا الصدد: "لم يحن الوقت بعد لإعادة بناء بيت يهوه". فقد كان الناس في أكواخهم القمئية يحلمون ببيوت خاصة بهم .. وعبثاً حاول النبي (حجي) أن يعدهم بأن بناء المعبد ستكفل لهم الازدهار الزراعي .. وهكذا لم يبدأ العمل في ¬

(¬1) تاريخ فلسطين قبل الإسلام- مركز المعلومات الوطني الفلسطيني - http://www.pnic.gov.ps/arabic/history/palestine.html#file4 (¬2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص94

الهيكل إلا عام 520 ق. م أى بعد سبعة عشر عاماُ، ولم يدشن المعبد الجديد الا عام 515 ق. م (¬1). ان من عاد من الوجهاء إلى بلده - وقد بقيت الأكثرية في بابل (¬2) - قد وصل إلى هدفه فلقد أصبح رئيس الكهنة لديهم يهيمن على كل اسرائيل بعد اعادة بناء المعبد ... وبفضل تعاون أرستقراطية أورشليم مع المحتل الفارسي أصبح كبار الكهنة الصديقيون الذين كانوا قد شغلوا المناصب الكهنوتية -أباً عن جد منذ داوود وسليمان- مالكين لزمام السلطة العليا على انهم موظفون ووكلاء لملك الفرس. وهكذا ظهرت آثار النزاع بين العائدين من بابل وبين الذين ظلوا في فلسطين - يشهد بذلك سفر عزرا- ولكن الخلاف قد تجاوز قضية إعادة بناء المعبد إلى خلاف خاص .. وذلك حينما طلب المنفيون العائدون - ومعظمهم من الملاكين الاغنياء - إلى الفلاحين الفقراء البائسين إرجاع أرضهم إليهم. وواقع الحال أن عقليتين راحتا تصطرعان على كافة الصعد، فالمنفيون القدامى الذين انقطعوا عن بلدهم وشعبهم زماناً طويلاً كانوا يدعون أنهم وحدهم حملة التقاليد الموروثة ولابد لهم من فرض التقيد بها بصرامة ودقة. ولكي يحرص عزرا على مثانة جدران العشيرة وتماسك أسوارها فقد أولى أهمية خاصة لتحريم الزواج بالاجانب وشدد على الانكماش والانكفاء بدقة وصرامة وبمزيد من التقوقع، واجبر اليهود الذين كانوا قد بقوا في ارض فلسطين وتزوجوا من كنعانيات غير يهوديات وأنجبوا منهن أولادا، أجبرهم على ترك زوجاتهم .. وراح عزرا يقول لليهود إن سبب سبيكم هو اختلاطكم بأهل الأرض، فانتم شعب مقدس بل انتم شعب الله المختار فلا يجوز لكم حتى ملامسة أجنبي. (¬3). جاء في سفر عزرا: "لا تزوجوا بناتكم لابنائهم ولا تأخذوا بناتهم لابنائكم، ولا تهتموا ابداً لسلامتهم وسعادتهم". وألح عزرا على طلاق النساء الاجنبيات وطردهن مع أولادهن. ولم يجرؤ أحد على الاعتراض. وهكذا إلى أن فرغوا من حل مشكلة المتزوجين من غريبات. ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص98 - 99 (¬2) يذكر أحد المؤرخين أن عدد الراجعين كانوا 42 ألفاً وهم أقلية بالنسبة للعدد الحقيقي (¬3) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحيةـ عرض وتوثيق هشام آل قطيط ـ ص246ـ247

لقد قُضي على الحركة النبوئية المتطلعة إلى العالمية وانتصر التعصب تحت وطأة عصا طبقة الكهنوت التى كانت بعد سقوط المملكة تمتلك جميع السلطات، تدعمها في ذلك سلطة المحتل الزمنية، حيث يمكن القول ان فترة السيطرة الفارسية هي التى تمت فيها عملية اضفاء الطابع القانوني على الكتب المقدسة، وهذا يعني ان التشريع اليهودي لم يكن نقطة البداية في تاريخ اليهودية اذ ان نقطة البداية تعود فعلاً، إلى عصر السبي البابلي ثم جاء التشريع الموسوي متأخرا عنه (¬1). وهكذا الغي منذئذ كل تطور جديد وبدأ حكم المجامع الدينية وأحبار الشريعة، و قضى كلاً من عزرا ونحميا على مستقبل هذا الازدهار الرائع لثقافة الانبياء ونزعتهم الروحانية ... ولم يعمل الانتقال من الخضوع للسيطرة الفارسية إلى نير السيطرة اليونانية على فلسطين (332 - 331ق. م) على احداث ايه تغيرات عميقة في الحالة الراهنة. وهكذا كان تسلم جوزياس للسلطة عام 639 ق. م منعطفاً في تاريخ فلسطين والديانة اليهودية: "فلقد راح صوت الانبياء يخمد بعد تلك الهبة النبوية الكبيرة، لان ما زرعه الانبياء من خميرة حية قوية في العقيدة اليهودية، قد أجهزت عليه الطقوسية الحرفية للتقاليد الدينية التى طغت عليها الاعتبارات السياسية، ووقعت هذه الجماعة التى اغنت التراث الروحي الانساني بتعاليم انبيائها، لسلطان شكلانية النصوص وحرفية الشريعة ولن يقدر لها أن تسهم إسهاماً نوعياً في التاريخ العالمي" (¬2). ويمكن تسمية هذه الفترة بعد السبي البابلي بالقرون المظلمة في تاريخ فلسطين، فلقد جفت ينابيع الابداع الروحي وتحجرت روح الايمان وطغت المؤامرات السياسية المشتبكة الجشعة. هذا، وفي ظل حكم ملوك يهودا المعتمدين على المحتلين المتناوبين عليهم لم تنقطع فلسطين عن اداء دورها التاريخي فحسب، بل صارت أداة مسخرة في يد القوى الغربية الكبرى. لقد توقف الابداع الروحي في هذه المرحلة التاريخية الخاضعة لنير ملوك محتلين مغامرين متعاونين مع كل الاسياد ¬

(¬1) ما بعد اسرائيل - بداية التوراة ونهاية الصهيونية - احمد المسلماني- ص 49 (¬2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص100 - 101

عيسى المسيح عليه السلام

المتعاقبين على ارضهم .. نعم لقد أصبحت أرض الكنعانيين، أرض تلاقي الحضارتين الزاهرتين، حضارة ما بين النهرين ومصر، الارض التي سبق لها ان شهدت ولادة ثقافة وعقيدة جديدتين تشهد بغناهما توراة أوغاريت الكنعانية، هذه الارض التى تقبلت العقيدة الابراهيمية بخضوعها المطلق لله، والتى رنت في جنباتها أصداء الرسالات العظيمة للأنبياء .. إن هذه الارض تبدو في هذه المرحلة وكأنها تخرج من التاريخ فلم يظهر فيها الا أسماء ملوك تابعين لفارس وللسلوقيين اليونان ثم الررومان، ولم تعرف الا اسماء قادة اجانب سفاحين من قطاع الطرق الفاسدين يدعمون من الامراء التافهين من يفوق غيره بالعطاء (¬1). عيسى المسيح عليه السلام كان اليهود الذين رجعوا من الأسر البابلي قد تجمعوا في القدس، حيث تمتعوا خلال حكم الفرس ببعض الامتيازات. وما إن حل الحكم الإغريقي حتى أصبح وضعهم يتأرجح بين المد والجزر، ولاقوا أسوء الحالات في عهد الملك السلوقي أبيفان، الذي دمر الهيكل ونهب خزائنه واجبر اليهود على نبذ اليهودية واعتناق الوثنية. وبعد استيلاء الرومان على فلسطين، لم يكن حال اليهود فيها بأحسن من حالهم في عهد الإغريق، هذا بالرغم من إعادة بناء الهيكل، حيث شهدت فلسطين في عهد هيرودوس إضراب الأحوال بسبب سوء تصرف الموظفين الرومانيين. واهم ما تخلل هذه الفترة من أحداث هو ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وبدأ دعوته، تم محاكمته وصلبه. "فمن المتواثر أن السيد المسيح ولد في أعقاب ثورة جائحة، اشتعلت في أقاليم فلسطين على الخصوص، أهدرت فيها دماء الألوف من الغلاة اليهود وأتباعهم لأنهم هبوا في وجه الدولة الرمانية بسبب تفشى الظلم والفساد" (¬2)، حيث أخذت الأحوال تسوء بين السلطة الرومانية واليهود، حتى وصلت إلى ذروتها في سنة 70م، عندما قام (فسبسيان) ابن الإمبراطور الروماني، بقمع تمرد اليهود ودخل القدس ودمر ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص102 - 103 (¬2) حياة السيد المسيح - خير الله طلفاح ـ ص 45 - دار الحرية للطباعة/ بغذاد

الهيكل نهائياً (¬1). والذي يهمنا هنا هو ظهور المسيح عليه السلام، الذي أرسله الله ليصلح حال اليهود الذين عادوا إلى سابق عهدهم، في تخليهم عن أوامر الله ونواهيه وانحرفوا عن الطريق القويم بالرغم من أن الله أرسل لهم العديد من الرسل لهدايتهم، ولكنهم رفضوا دعوتهم وتآمروا عليهم فحلت بهم المصائب وعاشوا في ضيق شديد، واخذوا ينتظرون ظهور مسيح ليخلصهم مما هم فيه من تشتت واضطهاد، جلبوه على أنفسهم بسبب ضلالهم وانحراف كهنتهم الذين حرفوا أوامر الله ونواهيه، فعاش عامة الناس في ضيق وضياع شديد، بسبب ظلم الحاكم الروماني من ناحية، وانحراف كهنة الهيكل من ناحية أخرى. وقد سبق لنا أن رأينا كيف تحجر وانكمش ذلك الايمان الأول العظيم وبخاصة بعد النفي، فالشكلانية والانكماش والتعصب العرقي تتجلى كلها لدى الجماعة اليهودية في زمن المسيح بكل فئاتها. في القمة طبقة رجال الكهنوت من الصدوقيين .. حيث ترفض هذه الطبقة كل ما لم يرد حرفياً في الشريعة، وترفض كذلك كل اجتهاد وتجديد. أما امتيازاتهم الكنسية فكانت وراثية. ومنذ ان فقدت فلسطين استقلالها راحوا يتعاونون مع المحتل الفارسي، ثم المصري ثم اليوناني فالروماني. وقد ظهر الفريسيون آبان حكم المكابيين حينما رفض هؤلاء متابعة النضال السياسي بعد حصولهم على حرية العيش حسب تعاليم التوراة بصرامة وتشدد، فعليهم إذن أن يلتزموا بالشريعة التزاماً حرفياً دون أي تنازل كي يطبقوها على كل مسلك حياتي يومي، منطلقين من تفسيرات تبريرية ملزمة ليجعلوا الحياة اليومية مجموعة من الطقوس الشكلية الضيقة. والى جانب هذه اليهودية الرسمية هناك جماعة الاسينيين التي انفصلت عن العالم لتعيش في الاديرة حياة الرهبنه، بما تقضية من التزامات أخلاقية صارمه مبنية على تفسير تنائي يقتضي الانقطاع عن العالم لتكوين (شعب الله) الحقيقي والعيش على أمل رؤيوي في انتظار (رب العدالة). أما يسوع فقد ظهر بمعزل عن كل هذه الطوائف، والشخص الوحيد الذي يرتبط به هو يوحنا المعمدان. "لقد تنبأ يوحنا المعمدان بمجئ ملكوت الله كما سيتنبأ به يسوع، وقد دعا الناس جميعاً لا اليهود وحدهم إلى أن يعدوا أنفسهم لذلك. ¬

(¬1) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسه - ص 676

جاء في إنجيل متى: "لا تظنوا أن ابراهيم أب لكم وحدكم لأني أقول لكم إن الله قادر أن يصنع من هذه الحجارة أولاد لابراهيم". وهذا ليس قطيعة أو انفصالاً عن (الشعب المختار) و (العهد) و (الوعد) ولكنه رفض لقصر صفة (شعب الله) على شعب مخصوص يورث كل ما وعده به الله لنسله. ان هذا الانتقال من الإطار القومي إلى العالمية هو ما بشرت به رسالة يسوع" (¬1). ومن أمثلة انحراف الكهنة وتضييقهم على الناس هو ما قام به الكاهن عزرا، الذي حرم الزواج من اجنبيات واجبر اليهود على ترك زوجاتهم الاجنبيات. وتطور هذا الأمر مع ورثة عزرا من كهنة وقسيسين بحيث انه في الوقت الذي ظهر به يسوع مبشرا بدعوته كان هناك ما لا يقل عن ستمائة قانون تقيد اليهود في جميع تصرفاتهم اليومية، ومن هنا إذا عدنا إلى العهد الجديد لوجدنا إن يسوع كان يتحدى هذه القوانين، والأمثلة على ذلك كثيرة أبرزها قوله: "هل صنع الإنسان للسبت أو السبت للإنسان؟ ". وهكذا فانه يمكننا النظر إلى دعوة السيد المسيح عليه السلام كمحاولة لكسر هذا الطوق العنصري ولإطلاق نظر هذه الجماعة التي انغلقت على نفسها، لكي تعيش حياة عادية على أساس أبوة الله لجميع أبناءه وإخوة البشر ومحبتهم لبعضهم بعضاً، وهذا هو جوهر الدعوة التي أطلقها يسوع وهو جوهر الحضارة السورية كلها، جوهر محبة وانفتاح منذ فجر التاريخ، من هنا كان لا بد من قتل يسوع لكي لا يكسر طوق العنصرية هذا" (¬2). في مثل هذا الظرف ولد السيد المسيح عليه السلام، وبرزت على صفحات ذلك العصر المريج صورة مشرقة .. زالت معها شرائع الهيكل وشرائع روما. فقد جاء سيدنا عيسى برسالة جديدة تدعوا إلى المحبة والتسامح والغفران، فأقبلت عليه الجموع حتى أحست السلطة الدينية والدنيوية بالخطر المقبل من ذلك الداعية المحبوب الذي التفت حوله الجموع .. فجاءوه في ميدانه بعد أن ترك لهم ميدانهم، ووقع الاشتباك الذي لابد منه بين سلطة شعارها المبالغة في الاتهام والبحث عن المخالفات والعقوبات، وبين دعوة شعارها تيسير التوبة للخاطئين وتمهيد سبيل الرجاء في ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص109 - 110 (¬2) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحيةـ عرض وتوثيق هشام آل قطيط ـ ص246ـ247

الغفران. فقد كان التبشير بالغفران والتوبة اكبر ذنوب الداعي الجديد، لان الخطايا والعقوبات بضاعة السلطان القائم (¬1)، سواء كهنة الهيكل أو السلطة الرومانية. لقد جاء عيسى المسيح عليه السلام بشريعة جديدة ... شريعة تهدم كل عرف قائم وتعصف بكل شكل ظاهر، هذا بالرغم من انه أعلن: "لا تظنوا أنني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لانقض بل لأكمل" (متى 5:17) .. ولكنه، قبل أن يعلن انه ما جاء لينقض بل ليكمل، كان قد ناقض الجوهريات الأساسية لشريعة الهيكل بقولة، فيما عرف باسم موعظة الجبل: "طوبى للمساكين بالروح لان لهم ملكوت السموات. طوبى للحزانى. لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء. لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاش إلى البر .. طوبى للرحماء .. طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون" (متى 5:3ـ10). لقد جاء المسيح ليقيم مملكته الروحية على أنقاض ما أفسده اليهود من الشريعة، إذ لا يعقل إن يأتي المسيح ليتم (فساد الشريعة) التي انتحلها اليهود لأنفسهم من دون أنبياء الله وما أوصوا به. ففي سفر ارميا النبي يقول لليهود: "محروقاتكم غير مقبولة ذبائحكم لا تلذ لي" (أرميا 6:2). وفي سفر أشعيا: "لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة، البخور هو مكروهة لي، رؤوس شهوركم وأعيادكم أبغضتها نفسي، صارت علي ثقلا، مللت حملها، فحين تبسطون أيديكم، أغمض عيني عنكم وان أكثرتم الصلاة لا اسمع أيديكم ملآنة دما" (أشعيا 1:11ـ15)، وعلى لسان عاموس النبي يطلق صرخته في وجه هذا الشعب "ابعد عني ضجة أغانيك ونغمة ربابتك لا اسمع" (عاموس:23)، أما المسيح فوجدهم "كالقبور المبيضة من الخارج ومن الداخل عظام نتنه" (متى 23:27). وفي موضع آخر يصرخ عيسى الناصري "يا مراءون حسناً تنبأ عنكم أشعيا قائلاً: "يقترب إلي هذا الشعب بفمه ويكرمني بشفتيه، أما قلبه فيبتعد عني بعيداً (متى 15:7ـ8) (¬2). فيسوع - خلافاً للأحبار الربانيين- لا يبشر في الكنيس وإنما هو مبشر جواب يتوجه إلى كل الناس لا إلى فئة معينة. وهو لا يستخدم أبداً الأمر والزجر في ¬

(¬1) حياة السيد المسيح - خير الله طلفاح ـ ص 184 (¬2) على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيل ـ حمدان حمدان ص186

استشهاده بالنصوص المقدسة أو بالتعاليم ... وحينما يشير إلى الشريعة يتحدث عنها حديث انسان يقطع صلته بالتقاليد المتحجرة، وإن كان يصرح بأنه لم يأت لينقض العهد. ولكنه يعارض الشريعة حيناً ويهجم على السبت بجرأة ويصرح بأن السبت خلق للانسان ولم يخلق الانسان للسبت، وهو لا يراعي المحرمات الخاصة بطقوس الطهارة. وفي (موعظة الجبل) يشكك في شريعة موسى لا ليهجم على حرفيتها ويدعو إلى الأخذ بروحها فحسب، بل ليربطها بالوجدان الذاتي الداخلي. إنه يتناول شريعة موسى بقوله: "قيل لكم قديماً: العين بالعين والسن بالسن. وأنا أقول لكم. من ضربك على خذك الأيمن فأعطه الأيسر". ومن الصعب عليك أن ترى في شريعة المحبة إكمالاً للعهد، إنها تنقضه وتنفيه. "قديماً قيل لأجدادكم .. أما انا فأقول لكم"، إن هذه اللازمة التي رددها يسوع في موعظته على الجبل تظهر لنا ما في رسالته من نقض لشريعة موسى. إن يسوع يحرر مفهوم الإرادة الإلهية من تحجره في ألواح شريعة موسى، يحرره من كل شكلانية وحرفية وطقسية ضيقة. وحينما يسأله أحد أحبار اليهود المسيح قائلاً: "ما أهم وصية في الشريعة؟ " يجيبه يسوع بقوله: "أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. تلك هي الوصية الأولى والكبرى. أما الثانية فمثلها وهي: أن تحب قريبك مثلما تحب نفسك". بهاتين الوصيتين يتلخص الناموس وشريعة الأنبياء. إن هذا الحب ينقض نقضاً جذرياً مفهوم الحب لدى اليونان وكذلك مفهومه لدى اليهود .. ان مفهوم الحب لدى اليونان هو ليس حب الآخرين بل هو الحب للحب. .. أما المحبة - حسب رسالة يسوع- فلا تقيم فرقاً بين الغريب وبين المواطن في مدينة أو الفرد في قبيلة، ولا بين الصديق والعدو ... ان هذا الحب هو بداية لإنسانية جديدة تهئ نفسها لاستقبال ملكوت الله الآتي. ومن الواضح هنا التناقض الجوهري بين تعاليم السيد المسيح وبين ما جاء في العهد القديم، فحياة يسوع كلها، أقواله وأفعاله، هي في الواقع، إدانة للإيمان

والثقافة اليهودية (¬1)، والتناقض واضح بين ما قاله المسيح وما قيل للقدماء في العهد القديم: "قيل للقدماء لا تقتل ومن يقتل عليه العقاب. أما أنا فأقول لكم إن من يغضب على أخيه باطلاً يأثم ويجزى". "قيل للقدماء لا تحنث. أما أنا أقول لكم لا تحلفوا .. وليكن كلامكم كله نعم ... نعم .. لا ... لا .. وما زاد على ذلك فهو من الشيطان". "سمعتم انه قيل عين بعين، وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم لا تقابلوا الشر بالشر، ومن لطمك على خدك الأيمن فحول له خدك الأيسر، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه ميلين". "سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، واغفروا لمن يسئ إليكم ويطردكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات، فانه يطلع شمسه على الأشرار والصالحين ويرسل غيثه للأبرار والظالمين. وأي اجر لكم إن أحببتم من يحبونكم .. أليس العشارون يفعلون ذلك؟ وأي فضل تصنعون إن خصصتم إخوتكم بالسلام؟ أليس العشارون يفعلون ذلك؟ فتعلقوا انتم بالكمال، فان الله كامل يحب الكمال". بهذه الشريعة ـ شريعة الحب ـ نقض المسيح كل حرف في شريعة الأشكال والظواهر، وقضى على شريعة الكبرياء والرياء وعلم الناس أن الوصايا الإلهية لم تجعل للزهو والدعوى والتيه بالنفس ووصم الآخرين بالتهم والذنوب، ولكنها جعلت لحساب نفسك قبل حساب غيرك، وللعطف على الناس بالرحمة والمعذرة، لا اقتناص الزلات واستطلاع العيوب (¬2)، شريعة فتحت ملكوت السماء أمام الجميع، بعد أن أغلقها كهنة اليهود، في وجه الشعوب الأخرى "الأمميين"، حيث تحولت الدعوة من ¬

(¬1) نحو حرب دينية؟ جدل العصر - روجيه جارودي - ص164 - دار عطية للطباعة والنشر والتوزيع- ط.2 1997 (¬2) حياة السيد المسيح - خير الله طلفاح ـ ص 188

خاصة إلى عامة، ومن أمة واحدة إلى سائر الأمم، واندثرت مع يسوع الأسطورة القاتلة، أسطورة (الشعب المختار) والتي هي تبرير أيديولوجي لكل سيطرة سياسية أو دينية. "لقد كان ظهور المسيح ـ في الواقع ـ هو اللحظة التي انفتحت فيها طاقة رائعة في تاريخ البشر والآلهة: انه المسيح الذي عده البشر أفضل ممر للكمال الإلهي، انه أكثرهم ضعفاً وتجرداً من المال، وما من شيء في الماضي اليهودي أو اليوناني كان ينبئ بمثل هذا التحول الجذري لفكرة الإنسان عن الإله: فالمسيح ليس ابنا لزيوس ولا ليهوه ولا لأي اله قدير، فمع المسيح لم يعد التعبير عن التعالي الإلهي يتم بكلمات خارجية أو سلطوية، القطيعة هنا كانت جذريه، قطيعة مع اله الأسلحة زيوس الذي يلوح بسيفه في مهارة صاعقة، منذ مجيء المسيح لم يعد التعالي والتجاوز اللإنساني يتصور وفق سلطة الحكام المقتدرين، الذين يحكمون من أعلى السموات أو من على قمة جبل الأوليمب على أفعال البشر، يهبونهم النصر أو يلحقون بهم الهزيمة ليصلحوا أمرهم أو يهذبوهم. إنما هو المسيح الذي عاش ابسط حياة البشر بلا جاه ولا مال ـ فقد مات ابسط ميتة، ميتة العبيد المتمردين فهؤلاء وحدهم كانوا يسمرون على الصليب" (¬1). نعم .. لقد كانت حياة يسوع خرق مستمر لشرائع التوراة اليهودية. فبينما يحكم الله، في العهد القديم، على الذين لا يقبلون شريعته بالإبادة أو بعذاب الهاوية (تثنية 2ـ22، اشعيا 13ـ9، أيوب 24ـ19)، يقول يسوع على العكس: "إني لم آت لأدعو الصديقين بل الخطاة" (مرقص 2ـ17) (¬2). شريعة هذا حالها كان لابد لها من الصدام مع شريعة الهيكل وشريعة الحاكم الروماني، وكان السجال بينهما هو السجال بين شريعة الحب والضمير، وشريعة الظواهر والأشكال. فكان لابد من التخلص من صاحبها، وتنحيته جانباً (¬3) .. وكل ذلك يظهر أن موت يسوع ناجم عن حياته وأقواله وأفعاله: "أن خرقه المستمر للتوراة يستحق، في نظر الكهنة اليهود، الموت مراراً. ¬

(¬1) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي ـ د. منى طلبهـ ص240 (¬2) نحو حرب دينية؟ جدل العصر ـ روجيه جارودى ص163 (¬3) حياة السيد المسيح - خير الله طلفاح ـ ص 193

عيسى ليس المسيح المنتظر

فالإله الذي يكشف لنا عنه يسوع ـ كما يقول اللاهوتي الأسباني (غونزالير فوس) ـ ليس اله العهد القديم" (¬1)، بل اله آخر مختلف تماماً. "لقد كانت عظمة الله تتجلى قبل المسيح في قوة الملك أو الامبراطور .. وها هي ذي تتجلى الآن في الفقر والافتقار إلى كل قوة مادية، علي المستوى الإنساني، في خيبة المسيح-الانسان الذي خانه حتى أتباعه في اللحظة الحاسمة وأنكروه أو هجروه ولزموا الصمت، كما تتجلى في محاولة قتله بذلك الاسلوب المعيب، وهو أسلوب الصلب المتبع في اعدام العبيد العصاة. وحينما يصرح يسوع قائلاً في انجيل يوحنا: "إن مملكتى ليست من هذا العالم"، فهذا لا يعني أنه يستسلم أمام ضلالات الوجود لكي ينجو بنفسه إلى عالم آخر، وإنما ليبشر بعالم آخر ممكن التحقق، يختلف عن هذا العالم ولا يخضع لضلالاته وقوانينه الظالمة" (¬2). عيسى ليس المسيح المنتظر جاء المسيح عليه السلام واليهودية تقبع تحت الحكم الروماني ... ثورة الماكبيين قد انتهت وديست هذه الأمة بالصغار والشناءة. الولاة عليها أجانب (هيريدوس الايدمي) و (بيلاطس النبطي) ... فهل يقود المسيح ثورة ضدهم ويحرر اليهود؟ لم يفعل المسيح ذلك كما يتوقع اليهود لقد قاد ثورة في قلب اليهودية وأراد إن يقلبها من داخلها لتعيش مع العالم بسلام ومحبه، كانت دعوته ضد العنف ومع الحب والحنان والأخوة والسلام، ولهذا لما بعث المسيح عليه السلام أنكر كهان الهيكل بعثته، وآمن به بعض اليهود وبعض أبناء الأمم المقيمين في فلسطين، والكهنة لا يرون في عيسى عليه السلام بأنه المسيح المنتظر (¬3). فاليهود كانوا ينتظرون مسيحاً محارباً خاصاً بهم، ذلك أن انتظار المسيح المحارب هو أحد أهم المعتقدات اليهودية، ويفترض عندهم ـ كما تنبأ أنبياء العهد القديم أن يأتي المسيح المحارب من سلالة داود فيعيد تأسيس مملكة داود بالقوة، وينقذ اليهود من النفي، ويعيدهم إلى الأرض المقدسة حيث يسحق أعدائهم ويعيد بناء معبد سليمان، وتعود ¬

(¬1) نحو حرب دينية؟ جدل العصر - روجيه جارودى ص168 (¬2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص112 - 113 (¬3) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحية ـ عرض وتوثيق هشام آل قطيط ـ ص50ـ51

القدس عاصمة لهم. ولكن لما لم تكن أي نبوءة من تلك النبوءات قد تحققت حتى عصر الهيكل الثاني، فإن النتيجة التي لا مهرب منهاـ كما يقول اليهودـ هي أن عيسى عليه السلام ادعى باطلاً انه مسيح الرب. فالإنعام بلقب (مسيح الرب) على أي بطل أسطوري أو تاريخي .. ظل مرتبطاً بالاعتبار الأساسي في الديانة اليهودية، وبالغرض الذي نشأت من اجله أصلاً، وهو إقامة الملك ودوامه ... فقورش بات ـ لوقت ـ المسيح المنتظر رغم عدم عبادته ليهوه، بل وعدم كونه من شعب يهوه المختار أصلاً. فاشعيا يؤكد أن يهوه قال له عن قورش: "انه راعى، فكل مسرتي يتمم. لأنه يقول أورشليم إنها ستبنى ويقول للهيكل سوف تؤسس" (اشعياء 44:28). وبذلك الوعد من قورش بإعادة بناء أورشليم والهيكل الثاني بات قورش المسيح المنتظر وقد جاء ليحقق النبوءة: "هكذا يقول يهوه لمسيحه قورش .. " (اشعياء 45: 1). غير أن ذلك الرضا اليهودي كله كما صوره اشعيا كان في غمار فورة الفرح بانتصار الفرس على بابل، التي من عنف وحشية الكره اليهودي لها تغنى منشد المزامير قائلاً "انه مبارك كل من يمسك بأطفالها ويهشم رؤوسهم على الصخر". أما بعد أن فترت الفورة وخمدت النار، فإننا نفاجأ في التلمود بيهوة وهو يشكو لمسيحه قائلاً: "إني أشكو لك من قورش! فقد كنت أظن انه سيعيد بناء بيتي ويجمع شعبي من المنفى! ولكنه لم يفعل أكثر من انه قال: من منكم من كل شعبه يرغب في العودة ليكن ألهه معه ويصعد إلى أورشليم" (سفر عزرا 1: 3). وعلى إيه حال، فإننا نجد أن المسيح الموعود لم يأت لليهود، وأنهم ظلوا يأتون في شخص هذا وذاك من أبطال حكايتهم المتفق عليهم، وظلوا يكتشفون أن من أتوا به ليس هو. وعندما ظهر يسوع، عيسى بن مريم، وقال انه لم يأت لينقض الناموس بل ليكمله، وظل يتحدث عن الأب الذي في السموات بدلاً من رب الجنود المحارب المنتقم، وألقى موعظة قال فيها: "طوبى لصانعي السلام"، لم يكن من الممكن ـ بطبيعة الحال ـ أن يعترف به أحد بوصفه المسيح المحارب المنتظر، بل وصف (معاذ الله) بالمجنون وبالمشعوذ وبالدجال وبالمضلل وبمفسد إسرائيل

وهادمها" (¬1). لأنه نفى أن يكون لمهمته أي علاقة بالحرب أو سحق الأعداء أو تأسيس مملكة جغرافية على الأرض. فقد أوضح لليهود بجلاء انه لم يأت لكي يقودهم في حرب ضد إمبراطورية روما (¬2) بل بشرهم بقوله: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون". فالمسيح الذي وعد يهوه اليهود به، مسيح محارب صنديد أشبه بالسفاح يشوع. وعيسى يقول هنا عكس ذلك، وانه جاء ليكون صانع سلام وليعظ البشر بأن يكونوا صانعي سلام، وينبههم بأنهم يصبحون أبناء الله فقط عندما يكونون صانعي سلام. وهذا النص يناقض بالكامل الموقف التوراتي من أساسه. فاليهودية جعلت الإله "رجل حرب، ورب الجنود" والمسيح يناقض ذلك باله رحيم وآله سلام. يقول (ايثلبرنت ستوفر) من جامعة علوم الدين بزيورخ: "المسيح يعلن رسالة جديدة من الله وديناً جديداً لم يعد لها أي اتصال بالتوراة". ويقول عالم آخر من علماء الدين هو (جنزاليس فوس)، في كتابه (القرب من يسوع): "أن الرب الذي دعا له يسوع ليس هو الرب الذي دعا إليه العهد القديم" (¬3). فاليهودية علمت اليهود، أنهم لا يحصلون على رضا يهوه إلا إذا ظلوا شعباً محارباً دموياً. وفي العهد القديم نصوص كثيرة لا تحصى تبين أن ذلك الإله المحارب أوشك أن ينقلب على شعبه فيفترسه في كل مره قصر الشعب فيها لسبب أو لآخر، عن القيام بمذبحة جماعية أمر بها. وعندما استجلب الشعب على نفسه بتلك الشراسة الدموية عداء وكراهية كل من احتك به أو عايشه من شعوب، وتعرض للتدمير والسبي والمذلة والتشتيت، كان وعد معبودة له بالخلاص والفداء على يدي مسيح محارب دموي ينفذ "سخط الرب على كل الأمم وغضب الرب على جيوشهم ويحرمهم ويدفعهم إلى الذبح حتى تطرح قتلاهم ويصعد نتن جيفهم وتسيل الجبال بدمائهم" (اشعياء 34: 2ـ3)، إذ يقود جيش الشعب في يوم الهول هذا الذي يعد يهوه شعبه بأن "يضرب فيه كل خيل الشعوب المعادية لإسرائيل بالعمى وراكبيها بالجنون ويجعل أمراء يهودا كمشعل نار فيأكلون كل الشعوب عن اليمين وعن اليسار ويلتمس هلاك كل الأمم الآتين على أورشليم" ¬

(¬1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص55 (¬2) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص28 (¬3) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى ـ ص 161)

ديانة المسيح أم ديانة بولس ويوحنا؟

(زكريا 12:4ـ6)، وإذ ذاك ـ على كل تلك الأشلاء وبحار الدم والجيف المنتنة - تقوم مملكة يهوه على الأرض بسيف المسيح المحارب. لكن مسيح المسيحية، الذي اعتبره اليهود كاذباً ومفسداً ومضللاً ودعياً (¬1)، يناقض ذلك كله، ويقول: "انه المسيح (ابن الإنسان)، ويعلم بأن مملكة الله (ملكوت السموات) ليست للمحاربين شاربي الدماء، بل للمساكين بالروح، وللمطرودين من اجل البر". ويتمادى فيقول أن اليهود، ما لم يكونوا رحماء وأنقياء قلب وصانعي سلام لن يكونوا أبناء لله ولن يكون لهم ملكوت السموات. وهذا بحكم كل كلمة في التوراة والعهد القديم، كفر وهرطقة، ومخالفة لكلام الله إلى موسى والى النبييم، وادعاء قائله بأنه المسيح ادعاء باطل ومكذوب استحق أن يشنق بسببه كاللصوص والقتلة فيموت مصلوباً، ويمحى اسمه وذكره، كما يعلم التلمود (¬2). ديانة المسيح أم ديانة بولس ويوحنا؟ لم يكتفي اليهود بالتآمر على سيدنا عيسى عليه السلام، والوشاية به للحاكم الروماني وصلبه، بل عملوا على محو تعاليمه من الوجود وتحريفها وتشويهها، لأنها تتناقض مع كل ما جاء في كتبهم المليئة بالحقد على البشرية جمعاء، والتي تفوح منها رائحة الدم والقتل. وهذا الأمر ليس غريباً على الذين ألفوا التلمود (كتاب الحقد البشري) وصانعوا الماسونية (نظام التآمر الذي دس رؤوس اليهود والصهيونية في جميع مناصب القرار في العالم)، والذين أشعلوا الحروب والثورات وأججوا الفتن عبر التاريخ كله .. فهم المفسدون منذ الأزل في الأرض (¬3). فبعد السيد المسيح عليه السلام، قام تلاميذه بالدعوة للديانة الجديدة، وانتشروا في البلاد لنشر مبادئه، ووضعوا أناجيلهم المعروفة، ولكن الديانة الجديدة ¬

(¬1) استغفر الله على هذا الكلام الذي لا يتورع اليهود عن وصف أنبياء الله به في كل كتبهم، وهذه مشكله كبيره يواجها أي كاتب يريد أن يبحث في الديانة اليهودية، حيث انه يضطر إلى نقل كلامهم كما هو ليبين إلى أية درجه وصل كفرهم وتطاولهم على أنبياء الله ورسله، وهذا الأمر ليس بجديد عليهم، فالتوراة لا تتورع عن نسبه صفات وتصرفات بديئه للأنبياء الذين يفترض بهم العصمة. وأيه قراءه للتوراة توضح إلى أيه درجه وصلت افتراءاتهم على الأنبياء. (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص74ـ75 (¬3) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص69

دخلت مرحلة خطيرة على يد بولس الرسول (شاءول الطرطوسي)، الذي لعب دوراً خطيراً في تزييف المسيحية (¬1)، حيث انه كان يهودياً من اشد أعداء المسيحية، ولكنه ادعى أن السيد المسيح ظهر له وهو في طريقه إلى دمشق وطلب منه الدعوة للمسيحية، وفعلاً بدأ بولس الرسول بالدعوة للمسيحية ولكن على طريقته، حيث أنه كان أول من قال بأن المسيح ابن الله، فأخرج المسيحية عن عقيدة التوحيد التي كانت عليها، وحاول أن ينشر عقيدته الجديدة في بلاد الشرق ولكنه جوبه بمعارضة شديدة بسبب ما انفطر عليه أهل الشرق من ميل للتوحيد، مما دفع بولس إلى الدعوة إلى عقيدته الجديدة في أوروبا، حيث وجدت هذه العقيدة آذاناً صاغية وأرضاً خصبة هناك. "فالتثليث ونزول الإله من السماء وتضحيته بنفسه وتكفيره عن خطيئة البشر وصعوده مرة أخرى، كانت لها جذور قديمة في الأساطير الأوروبية، حيث لم يكن التوحيد عميق الجذور هناك" (¬2). لهذا فإن كثير من الباحثين يعتبرون أن بولس هو المؤسس الحقيقي للمسيحية. يقول (ويلز) في كتابه معالم التاريخ الانسانية ج 4 ص 1312: "إن المسيحية (قامت على نظريات بولس، لا على قضايا المسيح) أى ان مسيحية اليوم يجب ان تسمى (بوليسية) " (¬3)، حيث وضع بولس العديد من الرسائل بين فيها فهمه للديانة الجديدة، هذا بالرغم من انه لم يكن يعرف شيئاً عن حياة المسيح ولا عن بعثته ورسالته، ولم يكترث أن يعرف، لأن رسالة المسيح على الأرض بالنسبة له لم تكن تحمل أي معنى، ولذا صرف كل طاقته في البحث عن ماهية المسيح وعن مغزى صلبه وقيامته (¬4)، ثم عودته الثانية في صورة المسيح اليهودي المحارب، والتي اعتقد أنها قريبة الوقوع لينقض على الشر ويقيم مملكة الله في الأرض، والأخطر من ذلك كله هو ربطه العهد الجديد بالعهد القديم بالرغم من الاختلافات الجوهرية بين الاثنين. ¬

(¬1) مسيحية بلا مسيح - د. كامل سعفان- ص 17 - دار الفضيلة. (¬2) سلسلة مقارنة الأديان ـ المسيحية- د. احمد شلبي ـ ج 2 ـ ص 111 - القاهرة, مصر: مكتبة النهضة المصرية, 1979 (¬3) مسيحية بلا مسيح - د. كامل سعفان - دار الفضيلة - ص39 أو كتاب معالم التاريخ الانسانية ج 4 ص 1312 (¬4) المسيحية والإسلام والاستشراف - محمد فاروق الزين ص140

لقد كان بولس حريصاً على أن يجعل من يسوع، خلافاً للسنة التقليدية اليهودية، الفصل النهائي في العهد القديم، وإتماماً للمواعيد التي وعدت بها إسرائيل، حيث ألزم نفسه منذ البداية بمهمة أساسية وهى أن يجعل من يسوع (مسيا إسرائيل)، هذا بالرغم من أن يسوع (المسيح) رفض دائماً هذا اللقب المرتبط بنظام اليهود السياسي (¬1). لهذا فقد اخذ بولس يبشر بقرب نهاية العالم وعودة المسيح ثانية ليكمل ما لم يكمله في نزوله الأول، مستلهماً كل ذلك من أسفار العهد القديم. فقد رأى بولس أن حياة ومعاناة المسيح (وموته وقيامته) وصعوده إلى السماء، كلها لم تكن سوى مؤشرات لنهاية العالم، وكان يعتقد أن قدره القيام بدور فريد في أحداث عصره، ومن هذا الدور إنذار المؤمنين بالنهاية الوشيكة، حيث كانت تلك القوة الدافعة وراء مهمة بولس، وكان الوقت قصيراً يوشك على النفاذ، والعالم على وشك أن يتبدد: "أقول لكم يا إخواني أن الزمن ـ الباقي ـ قصير وان العالم بشكله الحالي قارب نهايته" (رسالة بولس الأولى إلى أهل كورينثوس 7/ 29،31). وبعد أن انتهت حسب رأيه مهمته التبشيرية في المشرق، بدأ يخطط للذهاب إلى أقصى العالم ـ إسبانيا ـ لينذر الناس هنالك أن عليهم التوبة قبل النهاية الوشيكة، وكتب إلى أتباعه في روما يقول: "وحيث لم يعد مكان لي في هذه المناطق - في المشرق فسأمضي ماراً بكم إلى إسبانيا" (رسالته إلى أهل روميه 15/ 23،28). كان يخشى أن يدركه الوقت فينتهي العالم قبل أن ينذر الناس في إسبانيا وفي طريقه إليها، كان يريد المرور بروما للقاء أتباعه فيها. لقد كان لدى بولس هاجس قوي، بل عقيدة أن (الرب) -يقصد نهاية العالم حسب تعبيره- كان وشيكاً، ليس بالنسبة له بمفرده، وإنما للعالم أجمع، وقد تكون هذه أكثر معتقداته أهمية وأقواها من حيث كونها القوة الدافعة وراء نشاطه التبشيري، وقد توقع بولس حدوث هذه النهاية حرفياً وليس مجازاً، وعاجلاً وليس ¬

(¬1) نحو حرب دينية؟ جدل العصر ـ روجيه جارودى ص173

آجلاً، أي خلال أيامه شخصياً وأيام معاصريه (¬1). ولهذا فإن بولس لم يكن ينوي تأسيس ديانة جديدة للأجيال القادمة حتى أن كلمة (المسيحية) لم تظهر في كتاباته ولا مرة واحده، لقد كان همه الأول إنذار البشرية بالنهاية القادمة، وبالعودة الثانية للمسيح. والمسيح الذي كان ينتظره بولس ويبشر بنزوله، مختلف كلياً عن عيسى المسيح عليه السلام، بل هو مسيح يهودي، محارب من نسل داوود. كتب بولس مبشراً بمجيء المسيح الثاني، وكأنه مجيء داود جديد منتصر: "انه لا بد أن يملك إلى أن يضع جميع أعدائه تحت قدميه" (رسالة إلى أهل كورنته 15ـ25). وهو هنا يرجع إلى مزمور داود (110) الذي يعظم القوة الحربية التي لا هوادة فيها: "الرب يحطم في يوم رجزه ملوكاً .. ملأ جثثاً أرضاً واسعة، سحق رؤوسها" (المزامير110ـ5ـ6) (¬2). وهنا يجب أن نلاحظ كما يقول جارودى: "إننا لا نجد، لدى الإنجيليين، أي رجوع إلى مذابح السكان الوثنيين أو المشركين، وهى مذابح أوجبها إله قاس (تثنية 20ـ16)، إلا عند بولس الذي يستذكر استئصال الكنعانيين كسابقة تبشر بانتصارات أخري" (13ـ16ـ19). فمثله مثل جده الملحمي، سوف يضع المسيح كل أمراء الأرض عند أقدامه (الرسالة الأولى لكورنثوس 15: 25)، لان مسيح بولس يعود إلى القانون الذي يقضي طبقا لقانون (تاليون)، قانون (العين بالعين)، إنه مسيح الله الذي يثأر ويجد العدل في رد الإيذاء بالإيذاء (الرسالة الأولى إلى تيموثاوس)، ويقدم بولس دليلاً تاريخياً على قدرة الله، يتمثل في انه بعدما قضى على سبع دول من بلاد كنعان، وزع أراضيهم كميراث (أعمال الرسل 13:19) أنها الفقرة الوحيدة في الأناجيل التي ترد فيها هذه المذابح بوصفها علامات على عناية الله، ومنذ ذلك الحين أسس لاهوت بولس تحت اسم المسيحية، لاهوتا للسيطرة (¬3). ¬

(¬1) المسيحية والإسلام والاستشراف - محمد فاروق الزين ص148 - ط 3/ 2002 - دار الفكر المعاصر / بيروت (¬2) نحو حرب دينية؟ جدل العصر / روجيه جارودى ص185 (¬3) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي ـ د. منى طلبه ـ ص241

يقول يسوع: "وأنا لا أدين أحداً" (يوحنا 8ـ15). "وأني لا افعل شيئاً من نفسي" (يوحنا 8ـ28). أما بولس فيقول، على العكس، وبروح العهد القديم: "سيأتي يسوع المسيح ليدين الأحياء والموتى"، (الرسالة الثانية إلى تيموتاوس 4ـ1) (¬1). فمسيح القديس بولس ليس هو يسوع، مسيح بولس هو الترجمة اليونانية للمسيا اليهودي الذي عليه أن يعيد مملكة داود، وعليه إذاً أن يكون من نسل داود، وان يتمم ما بدأه هذا القائد الحربي لحفنة من المرتزقة، حدثتنا كتب (صموئيل والملوك) عن مغامراتها الدموية الفظيعة، لم يكن يسوع داود الجديد كما لم يكن ابناً لإله الحروب ورب الجيوش، ولم تكن المحبة التي بشر بها استكمالاً لما ورد في العهد القديم من عنصرية ودموية، والتي قصرت أن يحب بعضكم بعضاً على حدود القبيلة الضيقة. فالنصوص التلمودية تقتضي هذا التفسير، بينما قال يسوع: "هذه وصية جديدة لن تجدوها في شريعة موسى، كما قيلت لليهود: "حيث اذهب أنا لا تقدرون انتم أن تأتوا، أقول لكم انتم الآن (للحواريين) وصية جديدة تحبوا بعضكم بعضاً" (يوحنا 13:33ـ34) (¬2). يسوع يقول: "ولابد، من قبل، أن يكرز بالإنجيل في جميع الأمم" (مرقس 13ـ10)، بينما يقول بولس في رسالته إلى أهل رومية (1ـ17) "اليهودي أولاً ثم اليوناني". فبعد أن حطم عيسى المسيح الأسطورة القاتلة، أسطورة (الشعب المختار)، عاد بولس ليحييها ثانية بـ (اليهودي أولاً). فاقتداءً بيسوع المسيح صرح بطرس الرسول بقوله: "انتم تعلمون انه محظور على اليهودي أن يخالط أجنبياً أو أن يدنو إليه. أما أنا فقد أراني الله أن لا أقول عن أحد انه نجس أو دنس" (أعمال الرسل 10ـ28). ويضيف: "في الحقيقة قد علمت أن الله لا يحابى الوجوه، بل أن من اتقاه في كل أمره، وعمل البر، يكون مقبولاً عنده" (أعمال الرسل 10ـ34ـ35). وهكذا قضى عيسى المسيح على امتيازات الشعب المختار، الذي يعطيه الله النصر على كل شعب لا يتبعه، ويأمره بإبادته. وهنا لابد من التحديد والاختيار بين العهد القديم والعهد الجديد، ولأي اله يسوع هو الابن؟ من المؤكد انه ليس ابناً (ليهوه) رب ¬

(¬1) نحو حرب دينية؟ جدل العصر / روجيه جارودى ص163 (¬2) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى ـ ص 156

فكرة العودة الثانية للمسيح

الجيوش والمذابح، وتقسيم العالم إلى طاهر ونجس، إلى مختار ومستعبد، اله بولس الغيور المنتقم "إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً" (رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكى 1ـ6) (¬1). فكرة العودة الثانية للمسيح لأن بولس نظر إلى السيد المسيح ودعوته من منظار يهودي فقط، باعتبار المسيح هو المخلص والملك المحارب الذي سيفدى المؤمنين، كان لابد من اختراع فكرة العودة الثانية، لينجز المسيح في هذه العودة ما لم يتمكن من انجازه في ظهوره الأول، وهو قيادة المعركة النهائية بين الخير والشر في عودته الثانية، والتي أعتقد بولس أن هذه العودة ستحدث في حياته. وفي هذا النطاق من تفكير بولس لم ير حاجة لعمل إصلاحات اجتماعيه، ولا لتكوين نظام اجتماعي جديد، حيث لم يتوقع أن يستمر العالم بعده، ومن الطريف أنه على عكس ما توقع كان لرسائله دور كبير في تكوين مجتمعات المستقبل التي لم يتخيل أنها ستكون أصلاً. كان يظن أنه بنهاية العالم في أيامه، سيعود المسيح فوق السحاب على صورة ابن الإنسان المذكور في الفصل السابع من سفر دانيال، وكان المفترض على المسيح في ظهوره المجيد الثاني، أن يقضي على الإمبراطورية الرومانية، وينشئ بدلاً منها مملكة الله على الأرض، وتوقع بولس أن يكون معظم معاصريه على قيد الحياة، لمشاهدة المجيء الثاني للمسيح حسب ما جاء في رسائل بولس: " ثم نحن الأحياء والباقون سنلتقي معاً في السحاب لملاقاة الرب عيسى ـ في الجو" (¬2). وقد علق علي ذلك أحد الباحثين بقوله: "كان ظن بولس أن المسيح سيعود ويظهر لصحابته وأنصاره المخلصين في القدس، حيث المفترض أن تنشأ إسرائيل جديدة، ولم يدر في ذهنه أنه ستنشأ كنيسة مسيحية بكوادرها من رجال الدين البطاركة والقسس والشماسين مع كتاب العهد الجديد، فتستمر كل يوم أحد أسبوعاً ¬

(¬1) نحو حرب دينية؟ جدل العصر / روجيه جارودى ص175 (¬2) رسالة بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي 4/ 17

سفر الرؤيا والمسيح اليهودي

بعد أسبوع إلى ما لا نهاية، مثل هذا التخيل كان سيذهل بولس، فبالنسبة له كان الوقت قد انتهى أو قارب، ولا مجال للبدء بديانة جديدة من الصفر". هذه العقيدة المتعلقة بنهاية العالم، والتي روج لها بولس، تكشف إلي أي درجة سار بولس علي خطى أحبار اليهود، كما أنها تزودنا بوسيلة قيمه لفهم نظرياته الاجتماعية فيما يتعلق بالمحافظة على الأوضاع الراهنة، وعدم محاولة تغيير أي شيء في الأمور الفردية البسيطة. فعلى الأغلب أنه اعتقد بعبث وعدم جدوى محاولات التغيير طالما الوقت الباقي قصير جداً، وأن المسيح وقتما يعود في القريب العاجل سيقوم هو نفسه بإحداث التغييرات الجذرية على أية حال، ولذلك كتب: "بسبب الأزمة الراهنة اعتقد من الأفضل لكم أن لا تغيروا شيئاً، هل أنت متزوج؟ لا تطلب الطلاق، هل أنت عازب؟ لا تبحث عن زوجه، الزواج ليس إثما ولكن من يتزوج يواجه المتاعب في الجسد أريد أن أغنيكم عنها، وأنا أقول لكم أن الوقت ـ الباقي قليل" (رسالة بولس الأولى إلى أهل كورينثوس 7/ 26ـ29). ولعله نصح الناس بعدم الإقبال على الزواج، لهذا السبب إذ كتب: "من الحسن للرجل أن لا يتزوج" (رسالة بولس الأولى إلى أهل كورينثوس 7/ 1). وهكذا كان هاجس بولس بنهاية التاريخ سبباً لإصراره من البداية على تجاهل رسالة عيسى الدنيوية، واعتقاده بعدم أهميتها. فطالما أن المخلص سيعود قريباً جداً عاجلاً غير آجل، فينتهي تاريخ العالم، وتتأسس مملكة الله على الأرض، فلا يمكن أن يكون هنالك من مغزى أو هدف للمجيء الأول لعيسى، سوى أنه كان أضحية إلهيه، ذبحت على الصليب، لتكفر عن خطايا البشر قبل النهاية المقبلة، وكذا انصبت كافة جهود بولس التبشيرية في هذه النقطة (¬1). سفر الرؤيا والمسيح اليهودي مع أن الأحداث برهنت خطأ توقعات بولس، فقد استمر بعضهم بالاعتقاد بها، حيث جاء بعده، بعدة سنوات يهودي آخر هو (يوحنا اللاهوتي ـ مؤلف سفر الرؤيا)، ليكرر تنبؤات مماثلة، مستقاة من التوراة اليهودية التي جاء المسيح ـ عليه السلام ـ ¬

(¬1) المسيحية والإسلام والاستشراف - محمد فاروق الزين ص149

لنقضها، وليعزز ما قام به بولس من إعادة المسيحية إلى أحضان اليهودية، هذا بالرغم من أن الكنيسة لم تعترف بسفر الرؤيا في البداية، غير أنها في أوقات لاحقه قررت إدخال سفر الرؤيا ضمن العهد الجديد، فجعلته جزءاً من الكتاب المقدس رغم فشل نبوءات يوحنا بشكل سافر، مثلما فشلت قبله نبوءات بولس. والرؤيا كتاب وضعه يوحنا اللاهوتي في أواخر القرن الأول، في جزيرة بطمس بتركيا، التي كان قد نفي إليها في أثناء الاضطهاد الشديد على الكنيسة، وهو موجه أصلاً إلى الجماعات المسيحية في آسيا الصغرى، لتشديد عزيمتهم، وحضهم على الثبات في المسيح رغم المحن. فكما وضع أنبياء اليهود مؤلفاتهم الرؤيوية في أوقات أزمة وأزمنة شدائد، لإعطاء أمل بقرب تدخل يهوه لصالح شعبه، وضع يوحنا اللاهوتي كتاب الرؤيا، في اشد أوقات المصاعب تأزماً في تاريخ المسيحية، حيث يطالعنا الكاتب بمشهد يظهر فيه المسيح قائلاً: "هذه رؤيا أعطاها الله ليسوع المسيح، ليكشف لعبيده عن أمور لابد أن تحدث عن قريب. وأعلمها ليوحنا عن طريق ملاك أرسله لذلك" (رؤيا يوحنا اللاهوتى ـ الإصحاح الأول). ثم يدون يوحنا الرسائل التي أمره بإبلاغها إلى الكنائس السبع. وبعد ذلك تتوالى الإِعلانات المتعلقة بما سيحدث في آخر الزمان من ضيقات وبلايا وأحداث رهيبة، وحروب تنتهي بهزيمة إبليس وجنده. ثم ينهي الكاتب رأياه بوصف الدينونة في اليوم الأخير، وينتهي إلى وصف الحالة الأبدية، حيث يتم النصر للمسيح في السماء الجديدة والأرض الجديدة، إذ يتحقق الخلاص النهائي للمؤمنين على يد المسيح المنتظر!! (¬1). هذا السيناريو الذي وضعه يوحنا في رؤياه ليس له أي صله بالمسيح والمسيحية، التي بشر بها عيسى عليه السلام، بل انه مستقى بالكامل من التوراة اليهودية الحاقدة بكل ما فيها من ولع بالدمار وإزهاق الأرواح، وعشق للدم، والتي سطرها كهنتهم، ونسبوها إلى إلههم (يهوه) الذي سينتقم من كافة الأمم في آخر الزمان على يد مسيح يهودي، محارب "عيناه كلهيب نار .. متسربل بثوب مغموس بدم" (رؤيا 19:12). و "رجلاه شبه النحاس النقي كأنها محميتان في آتون .. وسيف ماض ذو حدين يخرج من فمه" (رؤيا 15:1). وهنا يمكن ملاحظة أن صورة المسيح ¬

(¬1) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان ص 117

اليهودي الواردة في سفري دانيال وحزقيال، لم تغب عن بال يوحنا اللاهوتي وهو يكتب رؤياه، ولهذا يؤكد كثير من الباحثين أن يوحنا اللاهوتي، كان كاهناً يهودياً نشأ وتتلمذ على التراث اليهودي، واخذ به إيماناً وعقيدة، فجاءت رؤياه يهودية بمضمونها وبصورها وبتطلعها إلى مجيء المسيح المنتظر اليهودي. ومما يعزز هذا القول هو "إن هناك جماعة يهودية عاشت في القرن الأول الميلادي تسمى (المتهودون)، كانت تؤمن بالمسيحية دون أن يمنعها هذا الإيمان من استمرار ولائها للدين اليهودي والشريعة الموسوية، بل أن هذه الجماعة اليهودية كانت في واقع الأمر تسعى، ولدوافع قومية إلى تهويد المسيحيين من الأمم. ولم يشعر هؤلاء اليهود الذين آمنوا بالدين المسيحي الجديد بأي تعارض بين يهوديتهم وبين تحولهم إلى الدين المسيحي. وساعد على تحولهم للدين المسيحي اعتقادهم بقرب مجيء المسيح المنتظر" (¬1). وسواء كان يوحنا اللاهوتي يهودياً من عدمه، فإن النتيجة التي نطمئن إليها هي أن رأياه كانت يهودية من أولها الي آخرها، ولم تكن لها أي علاقة بالسيد المسيح عليه السلام. "فكما هو الحال في كل ما له علاقة باليهودية فقد تركز الحلم العام الذي تمخض عن المسيح المنتظر، على مهمة محددة بالغة الوضوح لا لبس فيها، هي ملء الأرض بالجثث، وسحق الرؤوس، وجعل كل ما عدا الشعب اليهودي، موطئاً لإقدامه، وانتداب اليهود بقيادة ملكهم المسيح المنتظر لحكم الأرض، كل الأرض نيابة عن يهوة" (¬2). لهذا فإن يوحنا اللاهوتي، في مستهل الرؤيا، أو في الخطفة الأولى يقول: "كنت في الروح في يوم الرب، فسمعت ورائي صوتاً عظيماً كصوت بوق .. ولما التفت لأنظر الصوت، رأيت سبع منائر من ذهب" (رؤيا 1: 10ـ12). ويتحدث يوحنا في رؤياه عن "الممسك السبعة الكواكب في يمينه، الماشي في وسط السبع المناير الذهبية" (رؤيا 2: 1). ¬

(¬1) الهرطقة في الغرب ـ د. رمسيس عوض ص18 - سينا للنشر /القاهرة- الانتشار العربي /بيروت- ط1 1997 (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار- ص40 - رياض الريس للكتب والنشر- 1992

"فمند البداية كانت رؤياه مؤطرة بإطار شمعدان المينورا اليهودي، فمنائر يوحنا الذهبية هي الـ "منارة من ذهب نقي" (سفر الخروج 22: 31)، التي أمر يهوة عبده موسى بصنعها. وقام بصلئيل الذي "دعاه الرب وملأه من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة" (سفر الخروج 25: 30)، "بعمل التصنيع طبقاً للتصميم الذي لقنه يهوه لموسى في الجبل" (خروج 37: 17ـ24)، "فصنع المنارة من ذهب نقي" (سفر الخروج 37: 17). وفي رأياه وإنخطافه يقول يوحنا: "ثم نظرت وإذا هيكل خيمة الشهادة قد انفتح في السماء" (رؤيا 15: 5)، ويقول في فصل آخر: "وانفتح هيكل الرب في السماء وظهر تابوت عهده في هيكله" (رؤيا 11:19). فاللاهوتي، وقد اصعد خيمة الشهادة، والهيكل، وتابوت العهد، بل والمينورا، إلى السماء، وأقام عرش الله في الهيكل، كان لا بد أن يتم عمله ويرفع بقية عدة هيكل خيمة الشهادة إلى السماء، لتستكمل الشعائر بشكل أصولي يهودي حول عرش الله، ولذا رفع (مذبح الذهب)، ورفع أيضاً المبخرة والبخور" (¬1). وهكذا جاءت صور يوحنا محمومة ومركبة، استعار معظمها من دانيال ومن حزقيال. فمن الصور المحمومة مثلاً: "برد ونار مخلوطتان بدم، وألقيا إلى الأرض" (رؤيا 8: 7). "جبلاً عظيماً متقداً بالنار القي إلى البحر فصار ثلث البحر دماً" (رؤيا 8:8). "سقط من السماء كوكب عظيم متقد كمصباح ووقع على ثلث الأنهار وعلى ينابيع المياه" (رؤيا 8:10). "ضرب ثلث الشمس وثلث القمر وثلث النجوم" (رؤيا 8: 12). "رأيت الخيل في الرؤيا والجالسين عليها، لهم دروع نارية وكبريتية، ورؤوس الخيل كرؤوس الأسود ومن أفواهها يخرج نار ودخان وكبريت" (رؤيا 9:17). "سكب الملاك جامه على البحر فصار دماً" (رؤيا 16: 4) "وسكب الملاك الرابع جامه على الشمس فأعطيت أن تحرق الناس بنار" (رؤيا 16: 8). ومن الصور المركبة "وحول العرش (عرش الله) أربعة حيوانات مملوءة عيوناً من قدام ومن وراء" (رؤيا 4: 6). "رأيت وحشاً طالعاً من البحر، له سبعة رؤوس، وعشرة قرون، وعلى قرونه عشرة تيجان" (رؤيا 13: 1). ومن الصور التراثية التي يزخر بها كتاب العهد القديم: "المنائر السبع التي من ذهب" (رؤيا 1: 12). "سمعت صوتاً من أربعة قرون، مذبح الذهب الذي أمام ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص248

الله" (رؤيا 9: 13). "وانفتح هيكل الله في السماء وظهر تابوت عهدة في هيكله" (رؤيا 11: 19). ولم يقتصر الأمر علي هذه الصور المركبة والتراثية الواردة في التوراة، بل إن الصفات التي نسبها يوحنا إلى ألهه هي الصفات ذاتها التي نسبها أنبياء التوراة إلى يهوه، منها مثلاً الغضب، يقول اللاهوتي: "معصرة غضب الله العظيمة" (رؤيا 24: 19). "سبعة جامات من ذهب مملوءة من غضب الله" (رؤيا 15: 7) "اسكبوا جامات غضب الله على الأرض" (رؤيا 16: 1). كما أن هذا الإله يتجلى ليوحنا كما تجلى يهوه (الرب) لأنبياء بني إسرائيل جميعاً. يقول يوحنا "فلما رأيته سقطت عند رجليه كميت، فوضع يده اليمنى علي قائلاً لي: "لا تخف، أنا هو الأول والآخر" (رؤيا 1: 17). وهذا المسيح اليهودي كالإله اليهودي يهوه اختار جماعة معينه من البشر واختص بهم الهاً كما اختصوا به شعباً: "اشتريتنا (اخترتنا) من كل قبيلة ولسان وشعب وجعلتنا كهنة" (رؤيا 5: 10). "سيسكن معهم، وهم يكونون له شعباً، والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم" (رؤيا 21:3). أما عن النهاية ويوم القيامة بعد معركة هرمجدون، فقد اختار الرب "المختونين من بني إسرائيل، مائة وأربعة وأربعين ألفاً" (رؤيا 7: 4). "ووقف على جبل صهيون ومعه مائة وأربعة وأربعون ألفاً" (رؤيا 14: 1) أما البقية الباقية من الأمميين فليس لها سوى الدمار والإبادة في هذه المحرقة الإلهية، وذلك كرامة شعبه المختار. ونلاحظ هنا أن هذه الوحشية والدموية التي أفرغها يوحنا اللاهوتي في رؤياه، ليست بعيده عن الفكر اليهودي، فالوحشية والدموية صفة ملازمة لحكى العهد القديم عن يهوه وعن الشعب اليهودي، إلى الحد الذي جعل المؤرخ اليهودي "ادوارد ماير" يصف يهوه بأنه "شيطان دموي من شياطين البراكين، لكنه هكذا رأى حزقيال وغيره من "نبييم" اليهودية ما تنبغي أن تكون عليه الإلوهية (¬1). فزوروا التاريخ فاختصوا لأنفسهم بتاريخ جعلوا فيه الخالق قائداً حربياً مولعاً بسفك الدماء، وإزهاق أرواح ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص303

الناس ما عداهم، تنفيساً عن نفوسهم المتعفنة بالخرافات والعامرة بأصناف الشر والكراهية للآخرين (¬1). وبالرغم من أن دعوة السيد المسيح جاءت لتنقض كل هذه الأحقاد والوحشية والدموية التي تميز بها العهد القديم، من خلال الدعوة للمحبة والسلام والرحمة، إلا أن هذه الدعوة والمبادئ السمحة لم تصمد طويلاً، حيث جاء يوحنا اللاهوتي الذي لم يكن حوارياً، بل كان كاهناً يهودياً، جاء ليفسد ما قام به السيد المسيح، ويعيد الأمور إلى العهد القديم ودمويته، وقد كتب المفسر الكبير (دود) في كتابه مؤسس المسيحية: "أن المسيانيه في العقلية الدارجة قد ارتبطت بالدور السياسي والعسكري (لنسل داود)، وهذا الدور كان آخر ما يرغبه عيسى عليه السلام". وأضاف كذلك في (مواعظ مملكة الرب): "أن كلمات يسوع لا يوجد ما يوازيها في التعاليم اليهودية، ولا يجب حسبان مهمة يسوع على أنها محاولة إصلاح اليهودية فقد أتى يسوع بشيء مختلف عنها تماماً، ويبتعد عنها كل البعد، ولا يمكن أن يتوافق مع النظام التقليدي" (¬2). ولكن ما قام به بولس ويوحنا، قلب هذه الأمور رأساً على عقب، حيث اقتبس يوحنا رؤياه بكل صورها الوحشية والدموية، من التراث اليهودي، وقدم مسيحه اليهودي بصورة بطل محارب، اختار جماعة معينة من البشر واختص بهم. وبفضله ستقوم مملكة صهيون التي سيحكم منها شعبه المختار الأمم والشعوب جميعها. فالمعركة بين جيش القديسين بقيادة المسيح اليهودي المنتظر، وبين جيش الأشرار بقيادة جوج ومأجوج، عند الموضع الذي يدعى هرمجيدون بالعبرية، لن تنشب قبل عودة اليهود جميعاً إلى الأرض المقدسة، وإقامة الدولة اليهودية، لأن مجيء المسيح المنتظر مرتبط بعودة اليهود إلى ارض فلسطين، وطرد أعداء إسرائيل ـ العرب ـ منها، كما يعتقد الأصوليون المسيحيون، الذين يعتقدون أن الخلاص الذي يتطلعون إليه، كان محوره اليهود، لأنه بغير اليهود لا مجيء ثان (¬3). ¬

(¬1) رسائل حضارية في مواجهة اليهودية ـ الأب فوتيوس خليل ص41 (¬2) أمريكيا طليعة الانحطاط روجيه جارودى ـ ص156 (¬3) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص148

تفسير المتناقضات

تفسير المتناقضات منذ البداية، بدا كما لو كانت المسيحية وليدة لليهودية أو بالأقل ـ امتداد لها. وقد أوجد ذلك الانطباع وقواه تراوح آباء الكنيسة في موقفهم من تخريبية شاول (بولس) الذي امتلأ من الروح القدس بغتة بعد اضطهاد طويل للديانة الجديدة، فغير اسمه إلى بول، وشمر عن ساعد الجد، وبحجة الترويج للمسيحية عمل على تخريبها بردها إلى اليهودية، وإفراغ تعاليم المسيح من مضامينها المسيحية. كما قوى ذلك الانطباع وأضفي عليه تصديقاً رسمياً، قبول آباء الكنيسة بالجمع بين كتابات اليهود الدينية (العهد القديم)، وبين الأناجيل التي تعتبر تأريخاً بشرياً لحياة المسيح وترديداً لتعاليمه. فبعد انقضاء عشرات السنين على وفاة بولس، ورغم عدم تحقق نبوءاته عن نهاية العالم، وعن المجيء الثاني لعيسى فإن الكنيسة بقيت متمسكة بها ولم تبحث لنفسها عن أية إمكانية للتراجع أو المراجعة، ولقد ارتبطت نهائياً والى غير رجعة بفكر بولس وبنظرياته اللاهوتية، ولم يعد هنالك إمكانية لبحث الأمور من جديد، ولا العودة إلى رسالة عيسى التاريخية. فقد صار هناك مؤسسه كنسيه مبنية على فكر بولس، ولم يعد من مصلحة أحد نسفها. وكان البديل الوحيد الذي ألزمت الكنيسة نفسها به هو محاولة البحث عن مخرج منطقي للاهوت بولس، رغم عدم وجود شيء من هذا القبيل. فالتناقض الجوهري بين تعاليم السيد المسيح وبين ما جاء في العهد القديم، جعل محاولة آباء الكنيسة التوفيق بين العهد القديم والجديد فاشلة (¬1). ولهذا الغرض وللمحافظة على مسار الكنيسة وإيجاد مخرج لها فقد لزم أن يقوم المنظرون واللاهوتيين بمحاولات لتفسير المتناقضات وإخراجها بشكل فلسفي تفسيراً رمزياً غير حرفي، حيث حاول آباء الكنيسة الإفلات من ذلك المأزق الخطر بالتشبث بحيلة الكناية والرمزية .. وفي الوقت نفسه ركزوا سيراً على خط أوغسطين، على حكاية العصر الألفي السعيد، فقالوا إنها لا يجب ان تأخذ مأخذاً حرفياً نظراً لأنها مسألة روحانية لا مادية وإنها كناية عن العصر الذهبي الذي دخلته ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص72 - 73

الانقلاب البروتستانتي

الكنيسة بعد صلب المسيح وقيامه وصعوده، وبذلك تكون الكنيسة الكاثوليكية نهاية للتاريخ، والتجسيد الماثل في العالم لمملكة الله على الأرض (¬1). وبالرغم من نجاح هذه التفسيرات في إبقاء المسيحية بعيدة عن اليهودية ولو بصورة جزئية، إلا أن انقسام الكنيسة إلى غربية وشرقية أضعف الكنيسة، وساهم بصورة أو بأخرى في تشويه ما قد تبقى من رسالة عيسى الحقيقية، واستمرت الأمور على هذا النحو حتى مطلع القرن السابع بمجيء الإسلام الذي أعاد الأمور إلى نصابها، بكشف النقاب عن رسالة المسيح الحقيقية وأنصافها. الانقلاب البروتستانتي في القرن الخامس عشر الميلادي، ازدادت الأمور سوءاً، فبدلاً من التفسير الرمزي للكتاب المقدس، والذي اعتمدته الكنائس المسيحية المعروفة الكاثوليكية والأرثوذكسية، ظهرت ما سميت بحركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر، الذي رفض التفسير الرمزي للكتاب المقدس، ودعا إلى الأخذ بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، وأعلن أن تفسير الكتاب المقدس ليس حكراً على البابا، بل من حق المؤمنين القيام بذلك (¬2)، وكان ذلك بداية تهويد المسيحية، ودخولها في أحضان التوراة، والكهنة والحاخامات اليهود، الذين جاء عيسى المسيح عليه السلام لمحاربتهم. فكما وضحنا سابقاً، فقد كان المسيحيون يكرهون اليهود، ويبغضونهم، ويضطهدونهم طوال القرون الماضية، حيث كانوا ينظرون إليهم على أنهم قتلة المسيح، وأنهم من أشد الطوائف التي قامت بتعذيب واضطهاد تلاميذ المسيح والمسيحيين الأوائل، ولكن هذه النظرة تغيرت بعد حركة الإصلاح الديني التي دعا لها (مارتن لوثر)، الذي تنظر له الفرق البروتستانتية على أنه المصلح، الذي قاد حركة الإصلاح الديني المسيحي في مواجهة البابوية الكاثوليكية، التي كانت تبيع ¬

(¬1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص61 (¬2) حياة لوثر زعيم الإصلاح ـ ا. موريس - ترجمة القس باقي صدقه- ص36 - دار الثقافة المسيحية/ القاهرة - ط2

العقيدة التدبيرية من دابي إلى سكوفيلد

صكوك الغفران. فقد دعا (لوثر) المسيحيين إلى إجلال اليهود وتعظيمهم فقال لهم: "شاءت الروح القدس أن تنزل كل أسفار الكتاب المقدس للعالم عن طريق اليهود وحدهم، إنهم الأطفال ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل مما يتساقط من فتات أسيادهم اليهود" (¬1). وقد ساعد على نجاح دعوة لوثر وقادة ما سمى بالإصلاح الديني، ذلك التعاون المستمر والمتعاظم بين قادة اليهود في العالم، وقادة الإصلاح الديني، حيث "أثمر هذا التيار الذي بدأه بولس، وأوصله إلى مرحلة تهويد المسيحية، مارتن لوثر، وكالفن، وسائر قادة الانقلاب البروتستانتي، الثمرة المسمومة التي باتت تعرف باسم (اليهو ـ مسيحية) والتي من خلالها يكثر ذكر شيء غريب اسمه الحضارة (اليهو - مسيحية) " (¬2). وعلى ذلك الضرب من الانجراف الفكري والروحي، حققت البروتستانتية مشروع بولس الرسول بتهويد المسيحية وإفراغها من محتواها، الذي انبنت عليه تعاليم الناصري، إذ ردت المسيحية إلى حضن اليهودية، ولم يكن من قبيل المصادفة أو العبث أن بولس ذاك، أفرخت تحريفيته الانقلاب البروتستانتي في القرن السادس عشر الميلادي، "فكان بولس بإعادته تهويد المسيحية، هو الجد الأكبر لكل عقائد السيطرة التي بدأت في القسطنطينية بربط الكنيسة بالسلطة منذ القرن الرابع الميلادي، ثم الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، ثم الاستعمار الذي انقلب إلى تبشير ديني" (¬3).وهكذا فقد انبثقت المسيحية من اليهودية. ثم عادت و ذابت في اليهودية. العقيدة التدبيرية من دابي إلى سكوفيلد وضحنا سابقاً كيفية نشوء البروتستانتية وانتشارها في بريطانيا، وما أفرزته من جماعات متطرفة وصل بها الأمر إلى المطالبة باعتماد التوراة دستوراً للدولة، حيث لم تكن هذه الجماعات إلا بداية لمزيد من التهويد المنظم للبروتستانتية، ¬

(¬1) المنظمات الصهيونية المسيحية - احمد تهامي سلطان ص9 - - ط1 - مكتبة التراث الإسلامي (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص83 (¬3) أمريكيا طليعة الانحطاط روجيه جارودي ـ ص 157

وبداية لمزيد من التطرف والتهود الذي وصل إلى ذروته في طائفة (أخوة بليموت). فقد استطاع لاهوت الأيام الأخيرة الذي روج له بولس ويوحنا اللاهوتي، السيطرة على خيال وتفكير أتباع المذهب البروتستانتي، حيث اعتنقته في البداية طائفة بروتستانتية بريطانية غير معروفه في القرن التاسع عشر الميلادي هي طائفة (أخوة بليموث) التي كان باعث إلهامها رجل يدعى (جون نلسون داربي)، حيث اتبع نهجاً لتفسير الكتاب المقدس يدعى (التدبيريه)، بمعنى أن كل شيء مدبر ومبرمج، وأن على الإنسان العمل على تحقيق البرنامج الإلهي وفق التفسير الحرفي للنبوءات التوراتيه، حيث أدى ذلك إلى إرساء قواعد الأصولية الدينية الإنجيلية (¬1)، وكان أحد الجوانب الرئيسة في هذه العقيدة، هو الفصل بين إسرائيل والكنيسة في خطة الله للخلاص. كان اعتقاد (داربي) وإيمانه، بأن نبوءات العهد القديم التي ترتبط بعودة اليهود المشتتين إلى أرض إسرائيل قبل تغربهم، يجب أن تتحقق حرفياً، وكانت هذه العقيدة تتعارض مع التعليم الواسع الانتشار للكنيسة الغربية في ذلك الوقت، والذي كان ينظر إلى النبوءات العبرانية القديمة من خلال عدسة (لاهوت الأيام الأخيرة) لأوغسطين والمعروف بـ (الاستبدال) حيث حدد أوغسطين الكنيسة كوريث للوعود ـ أي أنها إسرائيل الجديدة، التي تتطلع بشوق إلى أورشليم الجديدة (الأبدية) وهكذا أزال الوعد المرتبط بالأرض من هذه المعادلة. وقد راج تعليم (داربي) بشكل كبير في كلٍُّ من بريطانيا وأمريكا، ويقول البعض أنه أصبح أكثر قبولا في بداية القرن الماضي من خلال وعظ وكرازة القس (دي ال. مودي). ولكن التحول الكبير حدث عندما نجح الأمريكي (سيروس سكوفيلد) في التقدم خطوات طويلة في عملية التهويد المنظم للمسيحية، من خلال ربط تفسيره للإنجيل بماضي وحاضر ومستقبل إسرائيل. "ففي اعتقاد سكوفيلد فأن عودة المسيح لن تحدث إلا باكتمال العوامل الأربعة التي، تفرض العودة: العامل الأول: عودة اليهود إلى فلسطين، العامل الثاني: السيطرة الكاملة على القدس غير ¬

(¬1) الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - ص31

المقسمة، والعامل الثالث: إعادة بناء الهيكل، أما العامل الرابع والأخير، فهو خوض حرب هرمجيدون" (¬1). ومن خلال نشر الكتاب المقدس لسكوفيلد، الذي يعد من أكثر تفسيرات الإنجيل انتشاراً في أمريكا، والذي يستخدم رسومات وخرائط ملونه عليها رموز متعددة، ليبين النبوءات على مجموعات معينه من المؤمنين، تعززت عقيدة القدرية وأصبح لها إتباع عديدون، حيث حملت فيما بعد كلية (دالاس) للاهوت مشعل هذه العقيدة، والتي كان من ابرز خريجيها القس (هال ليندسي) صاحب الكتاب المرتبط بهذه العقيدة والذي يدعى (كوكب الأرض العظيم)، الذي كان قرأ على نطاق كبير (¬2)، وبيع منه أكثر من 20 مليون نسخة. وبنظر أصحاب عقيدة (التدبيرية) فإن الحدث الرئيس الأكثر أهمية في القرن العشرين، كان تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948م، والذي كان البرهان الإيجابي على أن (داربي) كان على صواب. واكتسب هذا الحدث مصداقية اضافيه بسبب الانتصار السريع والحاسم للدولة الصهيونية في حرب الأيام السته عام 1967م، حيث هتف التدبيريون أن يد الله حققت هذا بكل وضوح، وأن النبوءات القديمة التي أعطاها الله لإسرائيل بدأت تتحقق أمام أعينهم ـ أي أن ما حدث كان تحقيقاً حرفياً لنبوءات العهد القديم. وهكذا لعبت أفكار المفكر الديني المتطرف (سيروس سكوفيلد) دوراً رئيساً لانتشار هذه المفاهيم حيث وضع النبوءة في المركز الرئيس لمفهومه عن المسيحية، وجعل منها قلب نظامه الديني، من خلال زرع آراءه الشخصية في الإنجيل، بحيث لم يعد العامة قادرين على التفريق بين كلمات (سكوفيلد) وكلمات الإنجيل. كما كان يرى سكوفيلد ـ متأثرا ببولس ـ بأنه لا أمل في هذا العالم، وإننا لا نستطيع العيش بسلام فيه .. وكان يردد بأن عالمنا سوف يصل إلى نهايته بكارثة وبدمار، وبمأساة عالمية نهائية. ولكنه كان يقول أيضا: "إن المسيحيين المخلصين (المولودون ثانية) يجب أن يرحبوا بهذه الحادثة، لأنه بمجرد ما تبدأ المعركة النهائية فإن المسيح سوف يرفعهم إلى السحاب، وأنهم ينقذون، وأنهم لن يواجهوا شيئاً من ¬

(¬1) أساطير في ثوب ديني وتحالف استراتيجي / رضا محمد حرب - جريدة الخليج العدد 8674 (¬2) عندما تختلط الأساطير بالنبوءاتـ جون هيوبرز- جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672

عندما تختلط الأساطير بالنبوءات

المعاناة التي تجرى تحتهم على الأرض" (¬1). وهذا المفهوم هو الذي شجع كثير من الجماعات المتطرفة على الانتحار الجماعي، لتنجوا من المحرقة الكبرى، كما سنوضح ذلك لاحقاً. عندما تختلط الأساطير بالنبوءات تلك كانت عقيدة التدبيرين، ولكنها لم تكن بالضرورة الصوت السائد للكنيسة الإنجيلية الرئيسة في تلك المرحلة، ولم تصبح تلك العقيدة سائدة ومسيطرة إلا عندما اندمجت الأسطورتان: الأسطورة التدبيرية، والأسطورة الأمريكية ـ كما يقول (جون هيوبرز) منسق الإرساليات للشرق الأوسط وجنوب آسيا في الكنيسة المصلحة في أمريكا، والذي يحاول تفسير انتشار عقيدة التدبيريين المتعلقة بقصة تأسيس إسرائيل، من خلال ربطها بالأسطورة الأمريكية (قصة تأسيس أمريكا) حيث يسرد (جون هيوبرز) القصة كالتالي على الأقل بصيغتها الموجزة: "إنها قصة أناس مضطهدين يتوقون لأرض يستطيعون فيها أن يمارسوا إيمانهم بحرية تحت إرشاد الله وقوته، ويتغلبون على صعاب جمة، ومعارضة كثيفة لإنشاء دولة خاصة بهم. وتأتي هذه المعارضة من (متوحشين) يفعلون كل ما بوسعهم لمنع هؤلاء المستوطنين الشجعان من تأسيس دولتهم. وان الطريقة الضعيفة التي يريد بواسطتها هؤلاء المتوحشون الأرض تبرر طردهم منها". ويضيف (هيوبرز) بقوله: "وهنا على ما اعتقد يكمن تفسير واحد ـ على الأقل ـ لهذه السيطرة القوية الراسخة، التي للأسطورة (القدرية) على الوعي والإدراك الأمريكي (حتى خارج الدوائر الإنجيلية) حيث أنها تعطي صدى لأفكار أسطورة الرياديين الأمريكيين. إننا نسمع قصتنا الخاصة بنا من خلال قصة (إسرائيل) ونقارن أنفسنا بالصهيونيين، لأن خبرتهم تظهر بأنها تماثل خبرتنا، حيث إننا نناقش هنا التاريخ الحقيقي بدلاً من التاريخ التفسيري". ويختم جون هيوبرز بالقول: "لا أريد أن أبالغ بهذا الأمر حيث أن الذين يقبلون عقيدة التدبيرية إنما يفعلون هذا بشكل رئيس، لأنهم مقتنعون أن هذه أفضل طريقة لقراءة الكتاب المقدس، لكن هذه ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ احمد حجازي السقا ص 71

السيطرة التي تفرضها هذه العقيدة على خيال وتفكير الإنجيليين الأمريكيين، حتى على الذين لا يقارنون أنفسهم بالإنجيليين لا يمكن تفسيرها على ما اعتقد إلا بالروابط الواضحة بين القصة الصهيونية والقصة الأمريكية" (¬1). وهكذا فان هذا التراث الذي افرزه التهويد المنظم للمسيحية، والذي أدى إلى ظهور ظاهرة ما يسمى بالأصولية المسيحية (¬2)، يعني في جانب بارز منه، أن هذه الظاهرة إذا ما استمرت وتعمقت، فإنها ستترك آثارا كبيرة داخل المجتمع الأمريكي نفسه، وبخاصة تجاه طرح منظومة قيم مختلفة، مستندة إلى مبادئ توراتية، كما سيكون لهذه الظاهرة أبعادها على مستوى العلاقات الأمريكية مع العالم الخارجي، وبخاصة في إطار الهيمنة الثقافية والقيمية الأخلاقية ولعل هذا النوع من الهيمنة قد يدفع باتجاه إدخال (الاصطفاء الإلهي) في السياسة الدولية (¬3). ¬

(¬1) عندما تختلط الأساطير بالنبوءات ـ جون هيوبرز- جريدة الخليج 15/ 2/2003 م عدد8672 (¬2) استخدمت كلمة أصولي عاغم 1920م في البداية لتعني هذا التحالف من البروتستانت المحافظين المتشددين الذي كانوا يسعون للحفاظ على المؤسسة البروتستانتية الإحيائية التي قامت في القرن التاسع عشر، وقد ابتكر هذه الكلمة محرر صحفي معمداني محافظ اسمه كيرتس لي لوز كوصف مميز لجماعة في معركة في المؤتمر أو التجمع المعمداني الشمالي (أكبر التجمعات المذهبية المعمدانية في شمال الولايات المتحدة) وانطوى الدفاع عن الأصوليين على الرغبة في الكفاح من أجل تعاليم أصولية معينة أنكرها التحرريون وتفاوتت قوائم هذه التعاليم وتنوعت لكنها اشتملت في العادة على معتقدات بعصمة الكتاب المقدس وولادة عيسى من امرأة عذراء وصحة معجزاته والتكفير عن الخطيئة من خلال موت المسيح وقيامه عيسى وعودته مرة أخرى. وتميز الأصوليون عن بقية المحافظين البروتستانت برغبتهم في المحاربة من أجل هذه المعتقدات والتعاليم ودرجوا على النظر إلى العالم من خلال صور تنطوي على الحرب أما الحرب فكانت على جبهتين: إذ كانوا يحاربون ضد عقيدة تحديثية في مذاهبهم وكذلك ضد بعض الاتجاهات الواضحة السائرة نحو العلمانية في ثقافتهم (الدين والثقافة الأمريكية جورج مارسدن ـ ترجمة صادق إبراهيم عودة ـ ص196" (¬3) الصهيونية المسيحية .. أصولها ونشأتها د .. يوسف الحسن / الخليج 15/ 2/2 .. 3 عدد8672

الفصل الرابع عقيدة الهرمجدون أو معركة (مجدو)

الفصل الرابع عقيدة الهرمجدون أو معركة (مجدو) تحتل هذه المعركة أهمية بالغة في الفكر البروتستانتي المسيحي، وتنبع أهميتها من كون غالبية أتباع التيار المسيحي الأصولي في أمريكيا يؤمنون بقرب حدوث هذه المعركة، ويترقبون ساعة وقوعها، باعتبارها الحدث الذي سيظهر من خلاله المسيح، ليقضى على قوى الشر، التي تحارب اليهود، حيث بعدها يدخل اليهود الذين تبقوا على قيد الحياة في الديانة المسيحية، ويبدأ العصر الألفي السعيد، حيث يحكم المسيح العالم من مقره في القدس! والمسيحيون البروتستانت لا يؤمنون فقط بقرب وقوع هذه المعركة، بل إنهم على استعداد للمبادرة بإخراج أحداثها وصنعها، لتأكيد مزاعمهم. وأخطر ما في الأمر هو أن هذا الإيمان لا يقتصر على طبقة الناس البسطاء، بل وصل إلى أعلى مستويات صناع القرار في أمريكيا، كما حدث مع الرئيس (رولاند ريجان) الذي كان يعتقد عندما رشح نفسه للانتخابات الأمريكية، بأن المسيح يأخذ بيده ليقود معركة (هرمجدون)، وهذا يعنى أنه كان على استعداد في أي لحظه لخوض غمار حرب عالمية نووية، معتقداً أنه بذلك ينفذ تخطيطاً إلهياً مقدراً سلفاً. والاعتقاد بمجيء يوم يحدث فيه صدام بين قوى الخير وقوى الشر، هو من العقائد المشتركة بين اليهود والبروتستانت، الذين يعتقدون بأن حديث الإنجيل عن تدمير الأرض بالنار، يعنى أن الأرض ستدمر في حرب نووية فاصلة لا مفر منها. ومن العجيب أن رجال الدين البروتستانت من المبشرين وغيرهم، يذكون في أتباعهم هذا الاعتقاد ويحيونه، متبعين في ذلك اليهود أحياناً، ومستقلين بالاعتقاد أحياناً أخرى، حيث جني هؤلاء المبشرين الكثير من الفوائد والمغانم من وراء زرع الشعور بدنو يوم القيامة في الناس. "ولا شك أن الحديث عن غيبيات ستحدث وربطها بغيبيات حدثت يجذب الانتباه بقوة، ويجلب بإلحاح وشدة نظر من يوجه إليه الحديث، فالخوف من المجهول، وترقب المنتظر أمر طبيعي في مكنون النفس البشرية. ولم يقتصر رجالهم في استغلال تلك المشاعر، وراحوا يؤججون نيران الحماسة في

مجدو

الناس، للمساهمة في صنع الأحداث الجسام التي ستسبق مجيء اليوم الآخر، ومن تلك الأحداث طبعاً عودة اليهود إلى فلسطين، واستيلاؤهم على القدس، وهدمهم للأقصى وبناؤهم للهيكل، ومن ثم انتظارهم لمجيء المسيح وحدوث المعركة الفاصلة بين قوى الخير وقوى الشر، أو ما يعرف بمعركة (مجدو) أو هرمجدون" (¬1). مجدّو "بتشديد الدال. بمعنى موضع الجيوش ومخيمها في اللغة الكنعانية، وهو تل المتسلم، وتقع على بعد30 ميلا شرقي ساحل البحر المتوسط. فالطريق من مصر إلى آسيا يمر في الأراضي السهلية الفلسطينية موازيا الشاطئ، وفي سيره نحو الشمال يعترضه جبل الكرمل. وعند الساحل بالقرب من قيسارية، ممرات طبيعية تصل الساحل بمرج ابن عامر، وأجودها ممر مجدو، وبالقرب من منتهاه توجد تله ترتفع 82 قدما تعرف (تل المستلم) تشرف على سهل مرج ابن عامر، وبذلك يكون ممر مجدو مفتاح الطريق إلى مصر والجنوب، وإلى سوريا والشمال، ولذلك مرت بها الغزوات السابقة كلها، وهى اليوم خراب" (¬2). وقد جاء في قاموس الكتاب المقدس الصادر عن مجمع الكنائس في الشرق الأدنى: "أن (هرمجدون) اسم عبري، معناه جبل مجدو، وهو موقع تنبأ كتاب الرؤيا أنه سيتحول إلى ساحة للحرب، يجتمع فيه كافة ملوك الأرض في يوم قتال الرب (رؤيا 16 - 16) " (¬3). وقد يتساءل المرء باستغراب، لماذا تل مجدو؟ وما هو الشيء الخاص جداً بهذا الموقع بفلسطين؟ المفترض أن تقع فيه معركة كونيه رهيبة لإفناء البشرية. والجواب على ذلك هو، أن هذا التل كان موقعاً استراتيجياً، يقع على مسافة ثلاثين كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي من مدينة حيفا اليوم، وفي القرن العاشر قبل الميلاد كانت تربض عليه قلعة كنعانية، ويبدو أن احتلال العبرانيين لهذه القلعة، والمعارك الضارية التي جرت مع الكنعانيين وبعدها مع المصريين للدفاع عن القلعة، ومنها ¬

(¬1) قبل أن يهدم الأقصى - عبد العزيز مصطفى ص 47 (¬2) معجم بلدان فلسطين ـ محمد شراب ص650 - دار المأمون للتراث/ دمشق - ط1 1987. (¬3) شهود يهوه - بين برج المراقبة الأمريكي وقاعة التلموذ اليهودي - تأليف/ حسين عمر حماده - دار قتيبه 1990 - ص145

المعركة التي قتل فيها الملك اليهودي جوشيا في العام (609) قبل الميلاد، وهو يحاول الدفاع عن القلعة ضد المصريين، مما أدى إلى ذكريات مريرة عند اليهود، استمرت لقرون عديدة، إلى أن قرر يوحنا ـ مؤلف الرؤيا ـ وهو يهودي من أتباع بولس ـ أن يخلد الذكريات اليهودية عن تل مجدو بطريقته الخاصة. وقد ارتبطت مجدو في الاعتقاد القديم، بأنها الأرض التي كان الفاتحون القدامى يعتقدون أن أي قائد يسيطر عليها يمكنه أن يصمد أمام الغزاة، ويعتقد اليهود ومن تبعهم في ذلك من البروتستانت .. أن جيشاً من مائتي مليون جندي يأتون إلى (مجدو)، لخوض حرب نهائية. ففي التوراة، وفي الإنجيل، وفي رؤى القديسين إشارات إلى هذه المعركة الهائلة، التي يسمونها معركة هرمجدون .. تجري على أرض فلسطين وأطرافها، المسلمون والنصارى واليهود، حيث يتصور كل فريق إن المعركة سوف تنتهي لصالحه. يقول المسيحيون: "إن المسيح سوف ينزل من السماء في أعقاب هذه المعركة، وأنه لن ينزل إلا إذا جرت دماء المسلمين انهاراً ... وطائفة الإنجيليين في أمريكا تدفع باليهود لإشعال الحرب، لتتعجل نزول مسيحها .. وكان رونالد ريجان (وهو من هذه الطائفة) يحلم بأن يكون هو الرجل المحظوظ، الذي يشعل فتيل تلك المعركة. أما اليهود فيقولون: أن القادم هو المسيح الحقيقي، وانه ملك اليهود وان ما جاء من قبل لم يكن هو المسيح، ولهذا لم يؤمنوا به ولم يتبعوه. وكل طرف يحلم بأن تتم التصفية الإلهية لحسابه ... وتظل هرمجدون أسطورة ... ولكن لا شك أن الله يدفع بالأحداث إلى ذروتها .. وأن الأرض حبلى بالكوارث .. والله وحده يعلم كيف تنتهي؟ ومتى؟ وأين؟ ولحساب من؟ " (¬1). وفي الحقيقة فإن الاعتقاد بـ (هرمجيدون) أصله في التوراة، التي عند اليهود، وقد تبعهم في ذلك المسيحيون البروتستانت، الذين يأخذون بالتفسير الحرفي للتوراة، وقد وضحنا في السابق دور ذلك في جعل البروتستانت يؤمنون بحرفية كل ما جاء في التوارة، من قصص تاريخية، ونبوءات. وقد جاءت الإشارة إلي ذلك اليوم ¬

(¬1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص104

في التوراة في سفر حزقيال. فعن قدوم قوى الخير تقول التوراة: "بعد أيام كثيرة تفتقد في السنين الأخيرة، تأتى إلى الأرض المسترة من السيف المجموعة من شعوب كثيرة على جبال إسرائيل، التي كانت خربة للذين أخرجوا من الشعوب آمنين كلهم، وتصعد، وتأتى كزوبعة، وتكون كسحابة تغشى الأرض، أنت وكل جيوشك وشعوب كثيرون معك" (سفر حزقيال 38، 8ـ10). وتتحدث التوراة عن أوصاف ذلك اليوم، فتقول: "ويكون في ذلك اليوم يوم مجيء يأجوج على أرض إسرائيل يقول الرب إن غضبى يصعد، وغيرتي في نار سخطي تكلمت أنه في ذلك اليوم، يكون رعش عظيم في إسرائيل، فترعش أمامي سمك البحر، وطيور السماء، ووحوش الحقل، والدبابات التي تدب على الأرض، وكل الناس الذين على وجه الأرض، وتندك الجبال، وتسقط المعاقل، وتسقط كل الأسوار إلى الأرض، واستدعى السيف عليه في كل جبالي. يقول السيد الرب: "فيكون سيف كل واحد على أخيه، وأعاقبه بالوباء وبالدم، وأمطر عليه وعلى جيشه وعلى الشعوب الكثيرة، الذين معه مطراً جارفاً، وحجارة برد عظيم، وناراً وكبريتاً .. " (سفر حزقيال - الاصحاح 38). وفي سفر حزقيال ـ أيضاً ـ الأمر لحزقيال بأن يوجه الكلام إلى قوم يأجوج ومأجوج: "وأنت يا بن آدم تنبأ على يأجوج وقل: هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش ماشاك وتوبال، وأردك وأقودك وأصعدك من أقاصي الشمال، وآتى بك على جبال إسرائيل، وأضرب قوسك من يدك اليسرى، وأسقط سهامك من يدك اليمنى، فتسقط على جبال إسرائيل أنت وكل جيشك والشعوب الذين معك، أبدلك مأكلاً للطيور الكاسرة من كل نوع، ولوحوش الحقل، على وجه الحقل تسقط لأني تكلمت. يقول السيد الرب: وأرسل ناراً على مأجوج، وعلى الساكنين في الجزائر آمنين، فيعلمون أنى أنا الرب" (سفر حزقيال - الاصحاح 39). وتحدث التلمود أيضاً عن معركة الهرمجيدون، ومما ذكر فيه عن الحرب التي ستشتعل قبل مجيء المسيح في (هرمجدون)، ما يلي: "وقبل أن يحكم اليهود نهائيا ـ أي قبل أن يحكموا العالم ـ يجب أن تقوم الحرب على قدم وساق، ويهلك ثلثا العالم

سفر الرؤيا ومعركة هرمجيدون

ليأتي المسيح الحقيقي، ويحقق النصر القريب" (¬1). ويبقى اليهود سبع سنوات يحرقون الأسلحة التي اكتسبوها بعد النصر، وحينئذ تنبت أسنان أعداء بنى إسرائيل بمقدار اثنين وعشرون ذراعاً خارج أفواههم .. !! " (¬2). وحتى بروتوكلات حكماء صهيون تحدثت عن هذه المعركة: "إننا نقرأ في شريعة الأنبياء أننا مختارون من الله لنحكم الأرض، وقد منحنا الله العبقرية كي نكون قادرين على القيام بهذا العمل، إن كان في معسكر أعدائنا عبقري فقد يحاربنا، ولكن القادم الجديد لن يكون كفؤاً إلا لأيد عريقة كأيدينا .. إن القتال المتأخر بيننا سيكون ذا طبيعة مقهورة لم ير العالم مثيلاً لها من قبل، والوقت متأخر بالنسبة إلى عباقرتهم" (¬3). سفر الرؤيا ومعركة هرمجيدون لا شك أن كتاب الرؤيا آخر كتب العهد الجديد، قد أخذ بلب الجماهير المسيحية خلال القرون الأولى، بل أنه استمر في سحر العديد منهم ـ في نصف الكره الغربي ـ لدرجة أو لأخرى حتى يومنا هذا، "ذلك أن سفر الرؤيا الذي كتب في مناخ من التوقع والأمل بالخلاص الفوري، غذى ودعم المعتقد المسيحي الغربي من زاويتين: أولاً: ساند القناعة المسيحية بعودة المسيح الوشيكة رغم تنبؤ بولس بوقوعها في حياته، لأن المسيحيين في القرن الأول والثاني لم ييئسوا قط من تحقيق تلك النبوءة. ثانياً: كان على المسيح في مجيئه الثاني أن يحقق وينجز ما لم يحققه في المجيء الأول" (¬4) ألا وهو قيادته للمعركة الفاصلة بين الخير والشر (هرمجيدون) وانتصاره فيها. ¬

(¬1) التلمود وتعاليمه وغاياته ـ ظفر الإسلام خان ص61 - دار النفائس (¬2) الكنز المرصوص في فضائح التلموذ - د. محمد عبد الله الشرقاوي ص 196 - مكتبة الوعي الإسلامي (¬3) بوتوكلات حكماء صهيون ـ ترجمة محمد خليفة التونسي ـ البروتوكول الخامس - ص123 - تقديم الاستاذ / عباس العقاد- دار الكتاب العربي 1951 (¬4) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ـ ص 241

ويوحنا اسم تسمى به صاحب الرؤيا التي ذيل بها (العهد الجديد)، وهو شخصية غامضة مختلف على هويتها، ولكن المعروف ـ أن يوحنا كان كاهناً يهودياً من فرقة العرافين، عرفت منذ زمن اليشع باسم (بنى الأنبياء)، ويبدو انه هرب أو رحل إلى جزيرة بطموس، وهى إحدى الجزر الصغيرة أمام الساحل التركي، وادعى لنفسه صفة المبعوث من المسيح إلى الكنائس السبعة التي في آسيا، حيث أرسل لها رسائل ينذرها بقرب عودة المسيح المخلص. ويعود احتلال كلمة هرمجيدون هذه الأهمية المميزة في الفكر المجيء الأصولي، إلى سفر الرؤيا، الذي يحصل المسيحيون الأصوليون على معظم معلوماتهم عن الأيام الأخيرة منه، حيث يرى هؤلاء أن الله استخدم يوحنا ليقدم لنا وصفاً عما ستكون عليه هذه المعركة النهائية. ومن الجدير بالذكر أن كلمة هرمجيدون هي كلمة عبرية وردت مره واحدة في الكتاب المقدس، وفي سفر الرؤيا بالتحديد، في الفصل 16، الآية 16: "وجمعهم في مكان يدعى باللسان العبري هرمجيدون" (¬1). وليست اللفظة وحدها، هرمجيدون هي العبرانية، "فرؤيا يوحنا اللاهوتي كلها عبرانية، وهو ما قرره الرجل صراحة قبل أن يتحدث عن هرمجيدون، إذ أعلن أنه نظر "وإذا قد انفتح هيكل خيمة الشهادة أو السماء" (يوحنا 15:5)، ثم أعلن انه عندما سمع "صوتاً عظيماً من السماء" سمعه "من الهيكل" ... فالرؤيا كلها عبرية أي مأخوذة من رؤى العهد القديم، وبالأخص من حزقيال ودانيال، وقد كان الأجدر بدلاً من وضع رؤيا يوحنا كحاشية في ذيل العهد الجديد، أن توضع كمعبر، أو كهمزة وصل بين العهدين" (¬2). ومن الجدير بالذكر أن سفر الرؤيا الذي كتبه يوحنا العراف الملقب باللاهوتى ـ في أواخر الستينات من القرن الأول، لم يكن يعتبر سفراً مقدساً وقت كتابته، وحتى حلول القرن الرابع الميلادي، إذ بعد مؤتمر نيقيه 325م طلب الإمبراطور قسطنطين من يوزيبيوس اسفف قيسارية اعداد كتاب (مسيحي مقدس) للكنيسة الجديدة، ¬

(¬1) يد الله - ص 26 (¬2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص227

الأصوليون المسيحيون وهرمجيدون

وليس مؤكداً أن كان يوزيبيوس في ذلك الوقت قرر إدخال كتاب الرؤيا ضمن أسفار العهد الجديد، ذلك أن بعض المراجع المسيحية لم تكن تؤمن بصحة معلوماته، وعليه فقد يكون سفر الرؤيا أضيف إلى الكتاب المسيحي المقدس، بعد زمن يوزيبيوس بكثير. والجدير بالذكر أن نسخة البسيطة السريانية للكتاب المقدس، والتي تتبناها الكنيسة الشرقية لا تشتمل على سفر الرؤيا. كما كتب (ديونيسيوس) أسقف الإسكندرية، الذي كان معاصراً ليوزيبيوس، إن يوحنا مؤلف الرؤيا ليس الحواري يوحنا بن زبيدى قطعاً، وأضاف أنه لا يستطيع فهم الرؤيا، وأن الكثيرين من معاصريه انتقدوا الرؤيا بشدة، وذكروا أن المؤلف لم يكن حوارياً ولا قديساً، ولا حتى عضواً في الكنيسة، بل هو سيرنثوس الذي تزعم الطائفة المنحرفة المعروفة باسمه (¬1). وقد نشر (كميل خباز) كتابا بعنوان (الزؤان في الكتاب المقدس) "وضح فيه إن التآمر على الدين المسيحي من قبل اليهود قديم قدم المسيحية وقال: "إن ثمة يهود وضعوا مؤامرة سريه تهدف إلى القضاء على المسيحية بأساليب متعددة ومنها: تحريف الإنجيل. فقد اثبت الباحث المذكور إن رؤيا يوحنا وهي آخر الأسفار المقدسة عند المسيحيين هو نبوءة كاذبة ومدسوسة، كما أنها تؤلف إحدى حلقات تلك المؤامرة" (¬2). الأصوليون المسيحيون وهرمجيدون تتلخص نظرية هرمجيدون كما يراها الأصوليون المسيحيون في القول: أن نهاية العالم أوشكت على الحدوث بعد تحقق الشرط اللازم لوقوعها، وهو إنشاء إسرائيل، وتجميع اليهود فيها، ولم يبق سوى أن يعود المسيح بصورة الملك ـ المحارب فيسحق أعداءه في معركة تل مجدو الرهيبة. أما دور المؤمنين في الوقت الحاضر فهو المساهمة بتسريع تحقق الأحداث المتوقعة، والتمهيد لإنشاء مملكة الله على الأرض، التي سيكون المسيح على رأسها. والمخيف أن العديد منهم يحبذ حصول كارثة نووية، كأنسب وسيله لتحقيق المجيء الثاني بأقصى سرعة، ومن ¬

(¬1) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين - ص 242 (¬2) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحية ـ عرض وتوثيق هشام آل قطيط ـ ص58

هؤلاء من بيدهم مقاليد الأمور مثل الرئيس الأسبق (ريجان) والرئيس الحالي (بوش). ويجد الواعظون بهذا المخطط البهجة خلال مواعظهم في وصف الفظائع التي ستحدث خلال معركة تل مجدو، ويتحدثون عنها بإسهاب أمام جمهورهم سريع التصديق، ومن هؤلاء الوعاظ الأصوليون أسماء شهيرة مثل (جيري فالويل) و (جيمي سواجارت) و (بات روبرتسون) و (هال ليندسي). والمشهور عن أمثال هؤلاء اعتقادهم ـ بسبب تأثرهم بفكر بولس ويوحنا ـ أن ليس هناك ما يخشاه المرء من انتشار الأسلحة النووية ولا من إمكانية اشتعال حرب عالميه ثالثه نتيجة نشوء إسرائيل، لأن مثل هذه التطورات مرغوبة لكونها جزءاً من مخطط إلهي من شأنه تسريع عودة المسيح. فالأصوليون لا يؤمنون بضرورة العمل من أجل السلام، بل قبولهم الحرب كأمر لا مفر منه تحقيقا لإرادة الله ـ حسب زعمهم. ومن ذلك أن وزير الداخلية الأمريكي الأسبق (جيمس واط) صرح أمام مجلس النواب: انه باعتبار العودة الوشيكة للمسيح ونهاية العالم، فليس من مبرر للقلق على البيئة، ولا التذمر من تخريب الموارد الطبيعية (¬1). ولإزالة المخاوف لدى الجمهور الأمريكي عن هذه النظرية، فإن البعض ينفيها، ويرى أن هرمجيدون الواردة في سفر الرؤيا، ليست إلا أحداثاً خاصة بـ (موت) المسيح، وبعثه وتدمير الهيكل في عام 70 قبل الميلاد. كما يرى آخرون في هرمجيدون، أنها مثال تصويري للصراع الروحي بين الخير والشر. وقد كانت تلك المعتقدات، وما شابهها حية ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وبخاصة في مسائل الانشغال العام بالشيطان، وبالمسيح الدجال وبنهاية العالم" (¬2). ¬

(¬1) النبوءة والسياسة 20 (¬2) البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي ـ د. يوسف الحسن ـ ص 175

سيناريو هرمجيدون حسب (سفر الرؤيا)

سيناريو هرمجيدون حسب (سفر الرؤيا) (¬1) يبدأ سيناريو هرمجيدون ـ حسب يوحنا اللاهوتي ـ بما يسميه (أناشيد الظفر في السماء)، محاولاً تبرير هذه المعركة الرهيبة، فيقول: "لأنه أدان العاهرة الكبرى ـ بابل ـ التي أفسدت الأرض بزناها وبفسوقها، وأنتقم لدم عبيده منها". وبعدها مباشره يصور يوحنا مشاهد هذه المعركة فيقول: "ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس ابيض والجالس عليه يدعى أميناً وصادقاً واسمه كلمة الله، وتبعته جيوش السماء على خيول بيضاء، وقد كتب على ثوبه وعلى فخذه: ملك الملوك ورب الأرباب. ورأيت الوحش وملوك الأرض وجيوشهم مجتمعين لشن الحرب على الجالسين، على الفرس وجيشه، فقبض على الوحش، وعلى النبي الزائف معه، وألقي الاثنان أحياء في بحيرة النار المتقدة بالكبريت، والباقون قتلوا بسيف الجالس على الفرس المنبعث من فمه، وجميع الطيور شبعت من لحومهم" (سفر الرؤيا ـ الفصل 19). ففي معركة هرمجدون، كما في كل معركة طرفان يتصارعان، وفي النهاية يخسر واحد، وينتصر آخر. وبما أن معركة يوحنا، هي معركة كونية فاصلة بين عالمين، فقد استعار لها يوحنا الكثير من الصور الغائمة المبهمة، أخرجها بصيغ من الألغاز والرموز، وبلسان الرائي: "ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس ابيض والجالس عليه يدعى أميناً وصادقاً. بالعدل يحكم ويحارب. عيناه كلهيب نار، وعلى رأسه تيجان كثيرة، وله مكتوب لا يعرفه أحد إلا هو. مستربل بثوب مغموس بدم، ويدعى اسمه كلمة الله. من فمه يخرج سيف ماض، لكي يضرب به الأمم. وهو سيرعاهم ¬

(¬1) يشبه سفر الرؤيا سفري دانيال وأخنوخ من حيث الشكل. ولقد كانت رؤى النبوءات الرمزية أحد الأساليب التي يلجأ إليها يهود ذلك العصر في كثير من الأحوال؛ ووجدت رؤى أخرى غير رؤى يوحنا، ولكن هذا السفر سما عليها جميعاً في بلاغته الجذابة. ويستند الكتاب إلى العقيدة الشائعة التي تقول إن حلول ملكوت الله يسبقه حكم الشيطان، وانتشار الشرور والآثام، فيصف حكم نيرون بأنه هو بعينه عهد الشيطان، ويقول إنه لما خرج الشيطان وأتباعه على الله غلبتهم الملائكة جيوش ميخائيل، وقذفت بهم إلى الأرض فقادت العالم الوثني هجومه على المسيحية. ونيرون هو الوحش وعدو المسيح في هذا الكتاب فهو مسيح من عند الشيطان، كما أن يسوع مسيح من قبل الله. ويصف روما بأنها "الزانية العظيمة الجالسة على المياه الكثيرة التي زنى معها ملوك الأرض"، "وسكر سكان الأرض من خمر زناها" وهي "زانية بابل" مصدر جميع الظلم والفساد، والفسق والوثنية، ومركزها وقمتها. هنالك ترى القياصرة المجدّفين المتعطشين للدماء، يطلبون إلى الناس أن يخصّوهم بالعبادة التي يحتفظ بها المسيحيون للمسيح.

(الأمم) بعصا من حديد، يدوس معصره خمر، سخط وغضب الله القادر على كل شيء. وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب: ملك الملوك ورب الأرباب" (رؤيا 19:11ـ16). وهذه صورة المسيح اليهودي المنتظر ـ البطل السماوي المحارب على رأس جيش من "الأجناد السماوية يتبعونه على خيل بيض لابسين بزاً أبيض نقياً" (رؤيا 19: 14). وفي الطرف المقابل يقف "الوحش وملوك الأرض وأجنادهم مجتمعين ليصنعوا حرباً مع الجالس على الفرس ومع جنده" (رؤيا 19:19). تساعدهم قوى الشر ممثلة بـ "أرواح نجسة شبه ضفادع. أرواح شياطين صانعة آيات تخرج على ملوك العالم، وكل المسكونة لتجمعهم لقتال ذلك اليوم العظيم يوم الله القادر على كل شيء .. إلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون" (رؤيا 16: 13ـ 16). وقبل أن تضع الحرب الكونية أوزارها، يقول الرائي:"ورأيت ملاكاً واحداً واقفاً في الشمس، فصرخ بصوت عظيم قائلاً للطيور جميعها: هلم اجتمعي إلى عشاء الإله العظيم، لكي تأكلي لحوم ملوك، ولحوم قواد أقوياء، ولحوم خيل، والجالسين عليها، ولحوم الكل حراً وعبداً صغيراً وكبيراً" (رؤيا 19: 17). وكان من الطبيعي، بمفهوم الرائي يوحنا، أن ينتصر في المعركة الكونية بطل السماء ـ المسيح المنتظر، "فقبض على الوحش، والنبي الكذاب معه، الصانع قدامه الآيات التي أضل بها الذين قبلوا سمة الوحش والذين سجدوا لصورته، وطرح الاثنان حيين في بحيرة النار المتقدة بالكبريت، والباقون قتلوا بسيف الجالس على الفرس الخارج من فمه. وجميع الطيور شبعت من لحومهم" (رؤيا 19:20 و 21). هكذا تحددت مهمة المسيح المنتظر بوضوح، ومنذ البداية، وهى سحق الرؤوس، وملء الأرض بالجثث، وجعل الأمم جميعها موطئاً لأقدام بنى إسرائيل، وانتداب اليهود بقيادة المسيح المنتظر لحكم الأرض، نيابة عن يهوه (الرب)، أى إقامة ملكوت يهوه على الأرض. وهذه الصورة التي رسمها يوحنا اللاهوتي في رؤياه، تعتبر الأكثر تعبيراً عن صورة المسيح الذي ينظره اليهود. فالأوصاف التي طرحها يوحنا هي لمسيح يهودي، محارب. "عيناه كلهيب نار .. متسربل بثوب مغموس بدم" (رؤيا19:12) "رجلاه شبه النحاس النقي كأنها محميتان في آتون .. وسيف ماض ذو

حدين يخرج من فمه" (رؤيا 15:1). ثم يكرر يوحنا اللاهوتي هذه الصفة التي ينسبها إلى مسيحه، بصيغة من البلاغة التفصيلية، فيقول: "ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب الأمم، وسيرعاهم بعصا من حديد، وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله" (رؤيا 19: 15). "وله على ثوبه، وعلى فخذه اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب" (رؤيا 19: 16). ومسيح يوحنا كائن مركب، "له سبعة أرواح الله والسبعة الكواكب" (رؤيا 3: 1). "وله سبعة قرون وسبع أعين" (رؤيا 5: 6). "والممسك السبعة الكواكب في يمينه" (رؤيا 2: 1)، وهذه أوصاف وصور مقتبسة أو مستعارة من دانيال وحزقيال، ارتبطت بيهوه (الرب)، أو قل أن يهوه نسبها إلى مسيحه الذي وعد جماعته (اليهود) به، ليقود جيشهم في مذبحة الأرض، التي سيرتفع أثرها ملك صهيون على أمم الأرض (¬1). ومسيح يوحنا ليس فيه من المسيح المسيحي (يسوع الناصري)،غير صفة الخروف، ولكن (خروف) يوحنا (المسيح) لا يبدو واقفاً على جبل الزيتون يعلم التلاميذ مثلاً. ولا "يطوف المدن كلها والقرى يعلم مجامعها" (متى 9: 35) وإنما يبدو "واقفاً على جبل صهيون" (رؤيا 14: 1) حيث شد داود إطناب خيمته. و (خروف) يوحنا (المسيح) لم يأت ليخلص البشرية (الفداء)، وإنما ليخلص بني إسرائيل "من بين كل قبيلة ولسان وشعب وأمة" (رؤيا 5: 9). والذين "اشتراهم بدمه" (رؤيا 5:9) أي خلصهم ـ فداهم ـ هم "مائة وأربعة وأربعون ألفا مختومين على جباههم من كل سبط من بني إسرائيل" (رؤيا 7: 4) (¬2). ومسيح يوحنا يهودي، فهو "الأسد الذي من سبط يهوذا، أصل داود" (رؤيا 5: 5)، "الذي له مفتاح داود" (رؤيا 3: 7)، والذي رفع جماعته (بني إسرائيل) فوق البشر جميعهم، "وجعلتنا لألهتنا ملوكاً وكهنة" (رؤيا 5:10) "ومسحهم سادة على الأرض" (رؤيا 5:10). ومسيح يوحنا اليهودي، سيقود جيش القديسين ضد جيش الأشرار المؤتلف بقيادة (يأجوج ومأجوج) في "الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون" (رؤيا 16:16). ¬

(¬1) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان ص118 (¬2) الاصولية المسيحة في نصف الكره الغربي - ص117

وبعد المأدبة التي أقامها الإله احتفالاً بانتصاره على أعدائه، يقول الرائي: "ثم رأيت ملاكاً نازلاً من السماء معه مفتاح الهاوية، وسلسلة عظيمة على يده، فقبض على التنين الحية القديمة، الذي هو إبليس والشيطان، وقيده ألف سنة وطرحه في الهاوية، وأغلق وختم عليه لكي لا يضل الأمم في ما بعد حتى تتم الألف السنة. وبعد ذلك لابد أن يحل زماناً يسيراً" (رؤيا 20:1 1ـ3). ففي هذه المعركة الكونية لم يكن هناك نهاية، وإنما كان فيها "قيامه أولى لهؤلاء الذين ليس للموت الثاني سلطان عليهم. بل سيكونون كهنة لله والمسيح، وسيملكون معه ألف سنة" (رؤيا 20: 6). "أما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف السنة" (رؤيا 20: 5). "ثم متى تمت الألف السنة يحل الشيطان من سجنه، ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض: (يأجوج ومأجوج) ليجمعهم للحرب، الذين عددهم مثل رمل البحر" (رؤيا 20: 7). وهنا تكون المعركة الكونية، وينتهي التاريخ يقول الرائي: "فصعدوا على عرض الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة (أورشليم)، فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم. وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب، وسيعذبون نهاراً وليلاً أبد الآبدين" (رؤيا 20: 9). وفي نهاية هذه المعركة الفاصلة يبدأ الحساب، يقول الرائي: "ثم رأيت عرشاً عظيماً ابيض والجالس عليه، الذي من وجهة هربت الأرض والسماء، ولم يوجد لهما موضع، ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله، وانفتحت أسفار، وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة. ودين الأموات مما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم. وسلم البحر الأموات الذين فيه، وسلم الموت والهاوية الأموات فيهما. ودينوا كل واحد بحسب أعماله، وطرح الموت والهاوية في بحيرة النار" (سفر الرؤيا 20: 11 - 15). وهكذا ينتهي التاريخ معه الأرض والسماء، وتولد سماء جديدة وأرض جديدة وأورشليم جديدة. ولما كان يوحنا اليهودي، واقعاً تحت تأثير التراث اليهودي، وعنصرياً متعصباً كما هو حال أنبياء بني إسرائيل جميعاً، لم ير في الأرض الجديدة غير أورشليم وغير شعب الله الخاص. ولم يبقَ من تاريخ الأرض الأولى غير أسماء أسباط بني إسرائيل الإثني عشر، ممهورة على أبواب أورشليم الجديدة الإثني عشر.

علامات ومقدمات معركة هرمجدون العظمى؟!

والصورة بريشة الرائي يوحنا: "ثم رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فيما بعد، وأنا يوحنا ـ رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازله من السماء من عند الله، مهيأة كعروس مزينة لرجلها، وسمعت صوتاً عظيماً من السماء قائلاً هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم. وكان للمدينة سور عظيم وعال، وكان لها اثنا عشر باباً، وعلى الأبواب أسماء مكتوبة هي: أسماء أسباط بني إسرائيل الإثنى عشر" (رؤيا 21: 1ـ12). وليس هنا مجال البحث في السؤال: لماذا لم يجهز مسيح يوحنا اليهودي المنتظر في المعركة الكونية الأولى، على الشرور المتمثلة بالتنين، الحية إبليس الشيطان؟ ولماذا قيده ألف سنة حتى إذا ما انقضت "حل من قيوده، ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض؟ " (رؤيا 20:7). ولماذا تعين على البشر أن يعانوا مرة أخرى من عبث قوة الشر بعد نعيم السنين؟. ولا مجال ايضاً للبحث في الإجابة عليه. فالمهم هو نتيجة المعركة .. انتصار المسيح المنتظر على رأس قديسيه (مختارية)، على شعوب وأمم الأرض قاطبة. وقيام مملكة صهيون، وتسيد شعب يهوه المختار على الأمم جميعها (¬1). علامات ومقدمات معركة هرمجدون العظمى؟! مع أن البروتستانت يعلمون بأن أكثر الناس سيسخرون من إنذاراتهم عن هرمجدون، إلا أنهم مع ذلك يؤكدون أنها ستأتي بغتة على شعوب العالم، وأن رئيس المهاجمين يدعى (جوج) وهو اسم للشيطان إبليس بعد ما تم طرحه إلى الأرض. وجوج يهاجم مجتمع العالم الجديد، لأنه غير راض عن نمو هذا المجتمع. ويرى البروتستانت أن الله عين زمان حرب هرمجدون القريبة، والتي يزعمون بأنها، ستسبق أسعد أيام الجنس البشرى على مدى تاريخه، وان جموعاً كثيرة يزداد عددها باستمرار تنتظر هذه الحرب الكونية .. عندما يصل العالم إلى منتهاه .. والبروتستانت يخمنون أن وقت نهاية النهاية بات قريباً، استناداً للمؤشرات التوراتية والواقعية، ¬

(¬1) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان ص121

هجرة اليهود إلى فلسطين

حيث أن الوقت الباقي للشيطان منذ تم طرحه إلى الأرض هو زمان قليل (¬1)!!. وهذه بعض المقدمات والعلامات التي يعتقدون أنها تدل على قرب وقوع هذه المعركة. هجرة اليهود إلى فلسطين يعتبر الأصوليون المسيحيون تجميع اليهود في أرض فلسطين مقدمة ضرورية لعودة المسيح المنتظر، وقيام معركة هرمجيدون، ولهذا لم يذخر هؤلاء جهداً في هذا المجال، حيث تكاثفت جهود الحكومات البريطانية والأمريكية المتعاقبة لتحقيق هذا الهدف. وقد عرضنا في السابق لهذه المحاولات التي بدأت حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بوقت كبير، وما تلاها بعد قيام إسرائيل، وجهود أمريكا وبريطانيا في هذا المجال، والذي وصل إلي ذروته في عهد الرئيس ريجان، الذي سخر كل أحاديثه وتصريحاته للحديث عن انتهاك موسكو لحقوق الإنسان، بسبب رفضها السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، حيث نجحت الضغوط التي مارسها على موسكو في فتح أبواب هجرة اليهود الروس إلى فلسطين، والذين وصل أكثر من مليون ونصف منهم إلى إسرائيل في فترة وجيزة. ويبدو أن ريجان قد ذهب بعيداً في إيقانه من أن المسألة أصبحت مسألة وقت بالنسبة لمجيء اليوم الموعود، فهو يعتقد أن لا عقبات هناك تحول بين ذلك اليوم وبين حدوثه، حيث قال ريجان للقس ملز: "إن كل النبوءات الأخرى التي تعين تحقيقها قبل معركة مجدو قد حدثت، والفصل 38 من حزقيال يقول: إن الله سيأخذ بنى إسرائيل من وسط الكفار، حيث سيكونون مشتتين، ثم سيلم شملهم مرة أخري في أرض الميعاد. وقد حدث هذا بعد قرابة ألفى سنة، ولأول مرة في التاريخ، فإن كل شيء مهيأ لمعركة مجدو، والمجيء الثاني للمسيح" (¬2). وقد نسى ريجان أنه شخصياً كان له الدور الأساسي في فتح باب الهجرة أمام يهود الاتحاد السوفيتي بحجة احترام حقوق الإنسان. ¬

(¬1) شهود يهوه - بين برج المراقبة الأمريكي وقاعة التلموذ اليهودي - تأليف/ حسين عمر حماده - دار قتيبه 1990 - ص158 (¬2) النبوءة والسياسة (الانجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية) - جريس هالسيل - ترجمة محمد السماك- ص 51 - دار الشروق - ط4 1998

المسيح يدعوك لتبني مستوطنة

المسيح يدعوك لتبني مستوطنة في مقال له يقول محمد عبد العاطي: "كان الأمر مستغربًا بالنسبة لي في البداية .. فأعدت القراءة مرة ثانية وثالثة .. ثم قرًّبت عيني من شاشة الكمبيوتر .. فوجدت أن ما قرأته صحيح (يسوع المسيح يدعوك لتبنِّي مستوطنة)، لكي تفوز بملكوت السماء ورضا الرب يسوع، ادعم مستوطنات السامرة. وتحت هذا النداء صورة لعائلة يهودية مكونة من: أب، وأم، وثلاثة من الأولاد، متكئين على حجر أمام إحدى المستوطنات، وحولهم عبارة تخرج من عين دامعة تقول: تذكرهم في صلواتك .. وظللت أتابع هذا الموقع الغريب علي شبكة الإنترنت، فقرأت العنوان التالي: اتصل بنا الآن، كي تعرف كيف تستطيع أنت وكنيستك وطائفتك التي تنتمي إليها، شد أزر هؤلاء المستوطنين الشجعان. وبالفعل اتصلت بهم فوجدت صفحة كبيرة ـ باللغة الإنجليزية طبعًا ـ عبارة عن خطبة لرئيس المنظمة التي تقوم على الموقع، والتي تطلق على نفسها اسم (منظمة النبي يوشع) ويدعي (تد باكت)، عرفت فيما بعد أنه من كبار أساقفة البروتستانت في الولايات المتحدة الأمريكية، وليس حاخامًا يهوديًّا، ورحت أقرأ ما قال فكانت كلماته الطويلة والمسهبة حول عملية السلام الدائرة رحاها الآن في الشرق الأوسط وكيف أنها ـ على حد تعبيره ـ تزييف وخداع، واختتم مقالته بقوله: هذا هو الوقت المناسب الذي يتوجب على المسيحيين فيه أن يتوجهوا لعملية السلام الحقيقية، التي ستؤدي للمصالحة والحب، ودعم الشعب اليهودي الذي تنحصر رغبته في الإقامة على الأرض التي أعطاها له الرب. وأضاف الأسقف (تد باكت) أن هؤلاء اليهود لا يسعون لطرد العرب، ولا يقومون بتدمير القرى والبيوت، ولا يقصفون الأحياء السكنية!! كل ما يبتغونه هو أن يعيشوا حياتهم (داخل مستوطناتهم) بسلام حقيقي.!! ويتابع الكاتب مقاله: دفعني الفضول لمتابعة الموضوع نفسه في الصحف الإسرائيلية، فوجدت فيها الكثير من المقالات والإعلانات الموجهة لمسيحيي الغرب تناشدهم استكمال هذه المستوطنة أو تلك، فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة

(هآرتس) مقالة، تذكر فيها أن حملة التبرعات التي تقوم بها المنظمات المسيحية البروتستانتية في الولايات المتحدة وأوروبا وبلدان الشرق الأقصى أسفرت عن بناء 45 مستوطنة من بينها مستوطنة عيناب التي تكلفت 4.5 مليون دولار. وتضيف الصحيفة أن هذه التبرعات تمت تحت شعار) تبنَّ مستوطنة). وعن الفلسفة المسيحية التي دعت الأسقف (تد باكت) للقيام لتأسيس تلك المنظمة يقول: هنالك مقولة للنبي يوشع تؤكد أن الكثير من غير اليهود ـ الغويم ـ يأتون إلى البلاد قبيل الخلاص، لإيمانهم أن الخلاص سيأتي من إسرائيل، واستنادًا إلي هذه المقولة تؤمن طائفتنا أن بقاء دولة إسرائيل وازدهارها خطوة هامة تمهد الطريق لعودة المسيح وتخليصه لليهود، ولهؤلاء المؤمنين من غير اليهود. ويضيف (باكت) أن الرئيس الأمريكي نفسه من أنصار هذا المذهب. أما الجمعية الأخرى التي تنشط في جمع التبرعات داخل الأوساط المسيحية لصالح المستوطنات اليهودية فهي جمعية (شوفا يسرائيل) أو (عودة إسرائيل) وهذه المرة الجمعية يهودية وليست مسيحية كسابقتها، ويبدي بعض أفرادها تخوفهم من أن تتحول التبرعات التي تقوم (شوفا يسرائيل) بجمعها من المسيحيين في الولايات المتحدة، إلي وسيلة تبشيرية في أيدي البروتستانت، إلا أن ميل (بورتشتاين) ـ مستشار تجنيد الموارد في الجمعية وصندوق تنمية السامرة ـ طمأنهم، بقوله: حسب الطريقة التي نعمل بها لا نواجه تلك المشكلة بالمرة، والفكرة ببساطة تقوم على أننا لا نجمع التبرعات من منظمة، أو من شخص واحد فقط، بل نكلف أتباعنا بالتنقل بين كل الطوائف الإنجليكانية، وبالتالي لا يمكن لجهة بعينها أن يكون لها تأثير علينا. أما الحاخامات، فيقولون إن المشكلة في الشريعة التوراتية عندنا ليست في عملية جمع التبرعات في حد ذاتها، ولكن في الطريقة التي تجري بها، ولذا نراهم قد نشطوا في إعطاء الإرشادات الدينية لمن يتولون عملية الجمع، والتي منها تأكيدهم على ألا ينشأ موقف من عملية الجمع يظهر فيه المسيحي في صورة المتفضل على اليهودي، لأن المعروف لا يأتي إلا من قبل اليهودي فقط.!! ويضيفون موجهين

تدمير الأقصى

كلامهم لجامعي التبرعات: عليكم ألا تقولوا إن هذا المال لمساعدة اليهود الفقراء أو المهاجرين الذين ليس لديهم مال أو أنه تفضل منكم وإنما هو تبرع .. تبرع وفقط.!! وفي إحدى الحملات التي أقيمت في الولايات المتحدة، لجمع التبرعات كانت هناك صورة كبيرة للصليب، وضعت كخلفية خلف المنصة، فأبي حاخام ولاية فلوريدا أن يبدأ الحفل إلا بعد أن يغطوا الصليب حتى لا يظهر، وفعلوا ما أراد ونجح الحفل، وأعلنت تلك الصحف عن إقامة حفل آخر ينظمه موقع (النبي يوشع) للعديد من أصحاب مواقع الإنترنت في الولايات المتحدة، تحت شعار (ليس هناك مسيحي في العالم لا يؤمن أن اليهود هم الذين سيستقبلون المسيح في نهاية المطاف) " (¬1). تدمير الأقصى تدمير المسجد الأقصى شرط رئيس لازم، وبالغ الأهمية في مخطط اليهود والأصوليين المسيحيين لعودة المسيح، ويوضح المبشر الأصولي (أوين) سيناريو تدمير الأقصى فيقول: "إن إرهابيين يهوداً سينسفون المكان الإسلامي، مما يرغم المسيح المنتظر على التدخل. إن اليهود يعتقدون أن قدومه سيكون الأول، ونحن المسيحيين نعلم بأن هذه ستكون الثانية؟. نعم لابد بالتأكيد من أن يكون هيكل يهودي ثالث". وعندما سئل (القس ديلتش): "إذا نجح اليهود الذين تؤيدهم ودمروا قبة الصخرة والمسجد الأقصى فأدى ذلك إلى اشتعال نيران الحرب العالمية الثالثة، فهل تعتبر نفسك من المسئولين عن ذلك؟ أجاب قائلاً: كلا .. لأن ما سيفعله أولئك اليهود هو إرادة الله" (¬2). فاليهود ليسوا وحدهم الذين يسعون إلى هدم الأقصى، بل يقف معهم الأصوليون المسيحيون، حيث كان الشخص الذي قام بمحاولة إحراق المسجد الأقصى عام 1968م شخص أسترالي بروتستانتي وليس يهودياً. وهنا تجب الإشارة إلى أمر غاية في الأهمية، وهو تضخيم العرب والمسلمين لقوة اليهود وقدرتهم على ¬

(¬1) المسيح يدعوك لتبني مستوطنة ـ محمد عبد العاطي - اسلم اون لاين - http://www.islamonline.net/iol-arabic/dowalia/fan-20/alqawel.asp (¬2) يد الله - غريس هالسيل ـ ترجمة محمد السماك ـ ص70

الوصول إلى ما يريدون من خلال نفوذهم القوى في كل مكان، غافلين عن الدور الكبير الذي يلعبه البروتستانت في هذا المجال، والذين تفتح لهم كل الأبواب في البلاد العربية والإسلامية، فيقومون بتنفيذ المهام المطلوبة منهم نيابة عن اليهود. ولو تمعنا في لجان التفتيش الدولية التي عملت بالعراق، فسنلاحظ أن غالبية أعضائها من البروتستانت، وعلى رأسهم (بتلر) و (لاكيوس) اللذين كانا يعملان بتنسيق كامل مع المخابرات الإسرائيلية، انطلاقاً من إيمانهم الديني، كما أن كافة المؤامرات التي نسبت إلى الموساد الإسرائيلي، لم يكن لها لتتم إلا بمساعدة المسيحيين البروتستانت الذين يقدمون كل ما يستطيعون لليهود كواجب ديني مفروض عليهم. وهنا أود أن أوجه نصيحة لجميع صناع القرار العربي بضرورة الحرص في التعامل مع كل ما هو انجلوسكسونى بروتستانتي، لأنهم جميعاً عملاء لإسرائيل ومستعدون لخدمتها بكل الوسائل، وأن الذراع الطويلة للموساد الإسرائيلي، لم تكن كذلك إلا بفضل هؤلاء البروتستانت، الذين يقدمون خدمات مجانية لإسرائيل انطلاقاً من إيمانهم الديني. وتؤكد (جريس هالسل) هذه الحقيقة عندما كشفت، عن أن معظم المحاولات التي جرت لحرق المسجد الأقصى، أو هدمه، وبقية المقدسات الإسلامية في القدس، من أجل إقامة الهيكل، موَّلَها وخطط لها مسيحيون توراتيون من المؤمنين بنبوءة الهرمجدّون، إن لم يشاركوا فيها!!. ولما كان لاهوت (هرمجدون) في صلب اهتمامات بعض المتهودين البروتستانت، وعلى رأسهم القس (جيرى فالويل)، الذي يقوم بتسيير رحلات منظمة إلى الأراضي العربية الفلسطينية، فإن غريس هاليسل صاحبة كتاب (المبشرون البروتستانت والنية القاتلة)، اطلعت أثناء إحدى رحلاتها مع جماعة فالويل على نمط تفكير أتباعه، ومنهم (أوين) الذي شرح لها ضرورة تدمير أحد أكثر الأماكن الإسلامية قداسة في مدينة القدس، ألا وهى قبة الصخرة المشرفة، التي يجلها أكثر من بليون مسلم في جميع أنحاء العالم. وأضاف (اوين) أن النبوءة تتطلب تدمير اليهود لقبة الصخرة، لبناء الهيكل اليهودي على أنقاضها، وأن الإرهابيين اليهود الذين قصفوا المسجد الأقصى بهدف تدميره ومحوه من الوجود كانوا أبطالاً، وأن المشرفين على

بناء الهيكل

(مؤسسة هيكل القدس) أرسلوا خمسين ألف دولار للدفاع القضائي عن الإرهابيين، الذين أدينوا بالتآمر على تدمير قبة الصخرة" (¬1). ومع أن الإسرائيلي (أشر كاوفمان) يؤكد أن المسجد الأقصى لم يبنَ في نفس مكان الهيكل، فان الأصوليين يرون أنه، لو نجح الإرهابيون اليهود في تدمير المسجد الأقصى، وبناء هيكل سليمان مما يؤدي لاشتعال الحرب العالمية الثالثة، فهذه ليست مسؤولية الإرهابيين، بل هي مشيئة الرب. وقد أثرت هذه النظرية في السياسة الأمريكية، فعندما أحرق المسجد الأقصى في أغسطس 1969م، استخدمت أمريكا الفيتو ضد إدانة مجلس الأمن لإسرائيل، وعندما اعتدى اليهود على المصلين في المسجد الأقصى، وقتل 21 فرداً وجرح 150، عادت أمريكا لتستخدم الفيتو ضد إدانة إسرائيل، وكان (جيمس دي لوشي) راعي الكنيسة المعمدانيه في هيوستن قد أعلن في 1984م أن أتعاب المحاماة ومصاريف الدفاع عن المتهمين بالهجوم على المسجد الأقصى قد كلفت كنيسته الكثير، وكان هؤلاء الإرهابيين قد خططوا لضرب المسجد الأقصى بالقنابل من الجو بالهليكوبتر ولكنهم تنازلوا عن الخطة بعد التأكد من أن حائط المبكى سيصاب أيضاً" (¬2). بناء الهيكل استعداداً لتنفيذ مخطط هدم الأقصى وبناء الهيكل، تم في أمريكيا جمع 100 مليون دولار لحساب بناء الهيكل المزعوم، بالتزامن مع قيام جماعة أمناء جبل الهيكل بوضع حجر أساس الهيكل الثالث المزعوم في ساحة المسجد الأقصى، بعد موافقة المحكمة العليا الصهيونية على بنائه، بناء على طلب جماعة أمناء جبل الهيكل اليهودية المتطرفة، والتي اختارت توقيت وضع حجر الأساس، ليكون احتفالاً بيوم عيد الحداد اليهودي، والذي يزعم فيه اليهود قيام الرومان بهدم الهيكل الثالث خلال عام 70 م، وقد أعرب المتطرف اليهودي (جيرشون سالمون) رئيس جماعة أمناء جبل الهيكل عن ارتياحه لحكم المحكمة الصهيونية ووصف الحكم بأنه قرار تاريخي ¬

(¬1) قبل أن يهدم الأقصى - عبد العزيز مصطفى ـ ص 89 (¬2) معركة آخر الزمان ونبوءة المسيح منقذ إسرائيل ـ باسل حسين ص 56 - دار الأمين - ط1/ 1993

المقاومة الفلسطينية

شديد الأهمية، سيعجل في بناء الهيكل، حيث يعتبر أن "كل يوم يمر على اليهود دون أن يبدءوا في بناء الهيكل، يعتبر وصمة عار في جبين الأمة اليهودية" (¬1). وبالرغم من أن التوراة لا تأمر ببناء مساجد مشيدة، وإنما تأمر ببناء مساجد من طوب الأرض مسقوفة بجريد وعصى. "مذبحا من تراب، تصنع لي، وتذبح عليه محرقاتك، وذبائح سلامتك. غنمك وبقرك. في كل الأماكن التي فيها أصنع لاسمي ذكراً، آتي إليك وأباركك. وإن صنعت لي مذبحاً من حجارة، فلا تبنه منها منحوتة. وإذا رفعت عليها إزميلك، تدنسه. ولا تصعد بدرج إلى مذبحي، كيلا تنكشف عورتك عليه (¬2). بالرغم من ذلك، فإن الرئيس (جورج بوش الابن)، وجميع أتباع طائفة الميسوديث يؤمنون، بفكرة هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل على أنقاضه، ويعتبرون أن ذلك هو الذي سيمهد لعودة المسيح الذي سيظهر بعد إنشاء هذه الهيكل المقدس ـ على حد قولهم. ويرى أصحاب هذا المذهب، أن الإسرائيليين الذين يعيشون فيما يسمونه بالأراضي الإسرائيلية المباركة، هم الجنود المخلصون الذين سيتحملون أن يكونوا في طليعة الصفوف التي تقاتل إلى جانب المسيح، حتى يتم القضاء على كل المسلمين أولا، ثم القضاء على المسيحيين غير المخلصين ثانياً. ويرى أتباع هذا المذهب، أن الوقت قد حان لظهور المسيح منذ عام 2000م، وأن المسيح لن يستطيع أن يخرج إلى النور، طالما ظل المسجد الأقصى قائماً. فالهيكل المقدس لا بد أن يتم بناؤه على أنقاض هذا المسجد، وقد تبرع الكثيرون وفي المقدمة منهم (بوش) و (بلير) من أجل صنع أعمدة هذا الهيكل وتزيينه، وكذلك الانتهاء من رسوماته وتصميمه، وقد وافق (شارون) على أن يكون التصميم الأمريكي الذي وافق عليه بوش لإقامة الهيكل هو المعتمد لدى حكومته. المقاومة الفلسطينية لكي يربط البروتستانت خرافات الماضي بمآسي الحاضر التي جلبته حركة الاستيطان الصهيوني العنصري على أرض فلسطين العربية، يقولون: "وعملا ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص368 (¬2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ أحمد حجازي السقا ص185

عودة الفوضى وحدوث كوارث وانهيار اقتصادي

باسمه، يبين يهوه الآن لشعبه معنى النبوة المتعلقة بالفلسطينيين، وفي هذه الساعة العصيبة التي يضطهد بها العدو (الفلسطينيين) شعب يهوه بقساوة، تنشأ لهم تعزية من عملهم، بأن يهوه يطلعهم عن السبب الذي لأجله يسمح بمثل هذا الاضطهاد، وعلى ما ستؤول إليه النتيجة النهائية (¬1). فهم يعتبرون أعمال المقاومة، التي يقوم بها الفلسطينيون والمسلمين لتحرير بلادهم، أعمال اضطهاد لليهود، وبأنها ترمز إلى أمور معينة عظيمة الحدوث عند نهاية العالم؟. ويميل البروتستانت إلى تصديق ذلك، لأن الفلسطينيين ـ كما يعتقدون ـ كانوا شعباً نبوياً ومخبرين مسبقاً عن نوع خصوصي من أعداء يهوه، أي أن الفلسطينيين قد أنبئوا سلفاً عن طريق التنبؤ عن أعداء يقوم يهوه بعمل حازم قوى ضدهم عند نهاية العالم. ويرى بعضهم كجماعة (شهود يهوه) "في عرب فلسطين هيئة الشيطان التي تحارب يهوه مرة، ويرون في الكنيسة الكاثوليكية هيئة الشيطان، التي تحارب يهوه مرة أخرى. فالفلسطينيون الذين يبرزون كالعنصر الديني لهيئة الشيطان هم طليعة مضطهدي شعب يهوه المختار ... ولكي يزيد أحبار شهود يهوه من أوار الضغينة والحقد على الفلسطينيين يذهبون إلى أن الفلسطينيون (عائقون) أي أنهم عبدة إبليس وأنهم يدينون بديانته. وهم أولاد حام من مصرايم، وكانت آلهتهم داجون السمكي الشكل، وبعل زبوب" (¬2). عودة الفوضى وحدوث كوارث وانهيار اقتصادي المبشرون، والقسس، من أمثال (جيرى فالويل)، و (هال لندزى)، و (بات روبنرتسون)، والمسيحيون اليمينيون الآخرون، يعتقدون بأن الإنجيل فيه نبوءة تدل على العودة الوشيكة للمسيح بعد فترة حرب نووية وكوارث طبيعية، وانهيار اقتصادي، وفوضى اجتماعية، وإنهم يعتقدون بأن هذه الأشياء لا بد أن تحدث قبل المجيء الثاني للمسيح، ويعتقدون بأن هذه الأشياء بينة بوضوح في الإنجيل. ¬

(¬1) شهود يهوه بين برج المراقبة الامريكى والتلموذ اليهودي ـ حسين عمر حماده ص110 (¬2) شهود يهوه بين برج المراقبة الامريكى والتلموذ اليهودي ـ حسين عمر حماده ص111

السلام يحل بعودة المسيح فقط

ويعتقد الأصوليون المسيحيون أنه "لما كان مجيء المسيح يعتبر تجديداً للعالم، فلابد وأن يسبق مجيئه عودة للفوضى، ويعتبرون أن كل الآلام والمصاعب التي تحملها اليهود والمسيحيون ـ عبر تاريخهم ـ تفسر وتقبل على أنها (آلام المخاض). وبعد مجيء المسيح وانقضاء فترة (المخاض) فإن العالم، الجديد المقبل لن يكون كالعالم (اليوم): فالسلام سيعم العالم الجديد، البكاء والأنين يختفيان من العالم، ولن يكون بعد ذلك شكوى أو احتجاج أو حزن، تبارك إسرائيل بمجيء المسيح المسيحي، وينتهي عنها الضغط، وتتبوأ مركزها العالمي الذي أعده لها الرب. ويتبدل مصير إسرائيل لدرجة أن كثيراً من الغرباء سيحاولون الانضمام إلى الطائفة" (¬1). السلام يحل بعودة المسيح فقط يركز القس (بيلى جريهام) في دعوته على أن يوم مجدو على المشارف، وقد حذر عام 1970م من أن العالم يتحرك بسرعة نحو معركة مجدو، وأن الجيل الحالي قد يكون آخر جيل في التاريخ، وقال: "إن أكبر معركة في التاريخ ستقع في هذا الجزء من العالم (الشرق الأوسط) ". أما عن علاقة هذا اليوم بقضية الأرض المقدسة، وبناء الهيكل، ومجيء المسيح، فإن النصارى الإنجيليين يعتقدون بأنه لن يكون هناك سلام حقيقي في الشرق الأوسط ولا في العالم إلى أن يأتي المنتظر الموعود، ويجلس المسيح على عرش داود في القدس، ويحارب أعداء إسرائيل. وسوف تعلم جميع الأمم عندئذ أن جميع الآلام التي كابدها بنو إسرائيل على مر قرون- سبيهم وتشتتهم- إنما كانت بسبب ذنوبهم وآثامهم. ولذلك حجب الله وجهه عنهم، وأسلمهم ليد أعدائهم، فهلك أكثرهم. وبسبب نجاستهم ومعاصيهم الكثيرة، رفض الله أن يتدخل لمصلحتهم، ولكن هذا كله سينتهي في اليوم القادم، لأنهم سيرجعون إليه تائبين فيشرق الله بوجهه ويباركهم، وهذه الأحداث ستقع في زمان الضيقة العظيمة الذي سيسبق مجيء الرب يسوع المسيح بصفته ملك الملوك ورب الأرباب" (¬2). ¬

(¬1) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة ص405 (¬2) راجع معركة هرمجيدون وتأسيس مملكة الرب في التوراة والإنجيل والقرآن - تأليف كارلوتا جيزن ـ نشر مكتبة دار الكتاب العربي بالقاهرة ودمشق سنة 2002

ومن العجيب ـ أيضاً ـ أن الحديث عن (الهرمجدون) يتداول على نطاق واسع، وعلى أعلى المستويات، وفي أدق القضايا العالمية وأخطرها. قال المبشر (جيمى سواجارت) في برنامج تلفزيوني أذيع في 22 سبتمبر 1985م: "يجب أن لا نتوصل إلى اتفاقات مع الإتحاد السوفيتي .. إن معركة (هرمجدون) مقبلة، ستقع هذه المعركة في سهل مجدو .. إنها مقبلة، في وسعهم أن يوقعوا كل معاهدات السلام التي يريدون .. كلها لن تحل .. ومشكلات أوروبا لن تحل، بل ستصبح أسوأ .. حتى يأتي المسيح المخلص". وينظم هذا المبشر رحلات دورية إلى الأرض المقدسة، يطوف فيها بالمسيحيين الإنجيليين في أنحاء القدس شارحاً لهم كيف ومتى ستحدث الأحداث العظام في هذه المناطق؟!! (¬1). أما (جيرى فالويل) فقد قام برحلة إلى فلسطين عام 1983م، اصطحب فيها 630 مسيحياً استقلوا الطائرة من نيويورك إلى تل أبيب، وذهبوا إلى (مجدو) مكان المعركة المنتظرة. وفي خطبة ألقاها (جيرى فالويل) يوم 2 ديسمبر1984م، قال معلقاً على اقتباس من سفر الرؤيا، ومشيراً إلى معركة مجدو: "إن هذه الكلمة (مجدو) تنزل الخوف في صدور الناس، سيحدث اشتباك أخير، وسيدمر الخالق هذا الكون" وقال: "وبالرغم من التوقعات الوردية وغير الواقعية من جانب حكومتنا بشأن اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، فإن هذه المعاهدة لن تدوم طويلاً". ثم قال: "من المؤكد أننا نصلى من أجل سلام القدس، ومن المؤكد أننا نكن الاحترام لمن وقعا اتفاقية السلام، إنني أعلم وأنتم تعلمون، أنه لن يكون هناك سلام حقيقي في الشرق الأوسط إلى أن يجلس المسيح يوماً على عرش داود في القدس". وعموماً فإن الحديث عن مجدو في الأوساط المسيحية، البروتستانتية، واليهودية، لا يفوت هؤلاء وأولئ، عندما يحدث أي حدث غير عادى على أرض الواقع، حيث يربطون ما حدث بما سيحدث، ويرجعون هذا وذاك إلى ما حدث بالأمس ... ¬

(¬1) النبوءة والسياسة ص 41

هرمجيدون في العقل البروتستانتي

هرمجيدون في العقل البروتستانتي لا يتسع المجال هنا لتغطية كل ما قيل عن هرمجيدون، ولكننا سنعرض في البداية لأقول بعض المسيحيين البروتستانت الذين سعوا إلى تحقيق الحلم الصهيوني منذ أكثر من قرن ونصف، من خلال عملهم في صندوق استكشاف فلسطين الذي أسس في إنجلترا عام 1839 لإعداد فلسطين لتكون وطناً لليهود، لنبيّن أي روح كانت تغدي نشاطات هؤلاء، والى أي مدى ذهب تفكيرهم من أجل تحقيق النبوءات التوراتية للتعجيل بالعودة الثانية للمسيح، وكل ذلك حدث قبل تأسيس الحركة الصهيونية. ففي صيف 1892م عقدت لجنة (صندوق استكشاف فلسطين)، سلسلة محاضرات أبرزها محاضرتان عن انطباعات اثنين من زعماء الصندوق، حول عمليات الاستكشاف خلال السنوات الممتدة من 1865 ـ 1892 م. وقد جاء في المحاضرة الأولى التي ألقاها (وولتر بيسانت)، (الأمين الفخري للصندوق، وقبل ذلك الأمين الفعلي له مدة 25 عاماً)، قوله: "كنا نقوم بثورة كاملة في فهم ودراسة التوراة. كنا نحيي العظام وهي رميم. كنا نستعيد مجد فلسطين في عهد هيرودوس. كنا نستعيد بلاد داوود. كنا نرد إلى الخارطة أسماء المدن التي دمرها القائد العظيم يهوشع. لقد أعدنا للقدس مجدها وفخامتها. لقد أعدنا البلاد (فلسطين) إلى العالم بالخارطة وبالأسماء، والأماكن المذكورة في التوراة، واسمحوا لي أن أفاخر بذلك إذا علمتم أن شخصاً واحداً (يقصد كوندر) قد استعاد من الأسماء القديمة أكثر مما فعله جميع الباحثين والرحالة حتى الآن" (¬1). وفي المحاضرة الثانية تحدث كلود كوندر عن دوره في أعمال (الصندوق) فأشار إلى الهجرة اليهودية التي شهدتها البلاد وخاصة مدينة القدس، وقال: "أن عدد اليهود في مدينة القدس عام 1837 لم يكن يتجاوز بضع مئات، أما الآن (1892م) فقد بلغ عددهم أربعين ألفاً، وأصبحوا يسيطرون على التجارة في المدينة، ولم يعد اليهود أقلية مضطهدة وجبانة، وإنما يبدون سادة المدينة". وأضاف كوندر "أستطيع القول ¬

(¬1) راجع الاستشراف وأبحاث الصراع العربي الإسرائيلي - إبراهيم عبد الكريم - دار الجليل -1993

دون تبجح أنه كان لي ولآخرين غيري دور ما في هذه الحركة". أما عن المستقبل الذي يتصوره لفلسطين، فقد بيّن كوندر "أن الذي نتوقع أن نراه في فلسطين، إذا كان مستقبلها سلمياً، هو زيادة تدريجية في عدد السكان المزارعين (يقصد المستوطنين اليهود)، وانتشار المستعمرات المزدهرة. أما الفلاحون المسلمون الذين أخذ تطرفهم يخبو تدريجياً، فإنهم بتعرضهم لهذا النفوذ سيزدادون ذكاءً ونشاطاً، ولكنهم لن يعودوا سادة البلاد، وأي محاولة عنيفة للتدخل في تطور بلد، يستطيع إعالة شعب كبير مزدهر تطوراً سلمياً، سيؤدي حتما إلى حدوث مشكلة فلسطينية هائلة ينبغي حلها في (كركميش ومجدو) " (¬1). فبالإضافة إلى ما جاء من اعتراف صريح حول إسهام (صندوق استكشاف فلسطين) في إيجاد مرتكزات مادية للمشروع الصهيوني، توضح روح ونبرات هاتين الشهادتين، كما لو أن (بيسانت وكوندر)، يتحدثان بلسان شخصية صهيونية معاصرة، الأمر الذي يشير إلى حالة من التوحد في الرؤية مع الصهيونية في مرحلتها الجنينية آنذاك .. فمن نفي الهوية القومية الواحدة لعرب فلسطين، إلى الثناء على (القدرات اليهودية)، إلى مقولة (الصفة اليهودية للبلاد)، ثم إلى (الرسالة التمدينية والتطويرية للاستعمار اليهودي وانعكاسها على الفلاحين العرب)، ما هي إلا إشارات قليلة، لكنها توحي بالكثير من النزعات الصهيونية، التي كانت تعتمل في نفوس العاملين ضمن (الصندوق)، ولا تختلف بشيء عما دأبت الصهيونية على ترويجه .. ولكن تظل نقطة أخيرة، تفوح منها رائحة القتل والإبادة التي تنتظر الشعب الفلسطيني، في ظل الصراع على الأرض، هي الإشارة إلى ضرورة (حل المشكلة الفلسطينية)، التي ستنشأ على طريقة الحروب التي حُسمت في التاريخ الغابر، أو لنقل في الرواية التوراتية، في منطقة كركميش ومجدو. إن مجرد التذكير بكركميش ومجدو بالنسبة لقارئ (الكتاب المقدس) ينبئ عن فهم حرفي للرواية، ومحاولة إسقاطية على العصر الحديث. ومن المقدر أن يكون الصهيونيون، فيما بعد، قد استلهموا من هذه الفكرة مما يعزز طبيعة كيانهم الإحتلالي التوسعي في ¬

(¬1) أبحاث توراتية في فلسطين ـ القس الأميركي ادوار روبنسون (أستاذ أدب التوراة في كلية الاتحاد الدينية بنيويورك)

فلسطين، وتقرير كيفية التعامل العُنفي مع سكان البلاد الأصليين منتقلين من المحرضات الذهنية، إلى الوقائع المادية، ليربطوا خرافات الماضي بمآسي الحاضر، وكأنها ليست إلا تحقيقاً لنبوءات توراتية (¬1). وقد غمرت الغبطة وجه (فولويل) حين اختتم حديثه الصحفي مع (روبرت شير) قائلاً: "إنني أؤمن بما يؤمن به الرئيس ريغان". ويفضل القس (فولويل) موضوع هرمجدون على أي نبوءة أخرى ففي 2/ 12/1984م ألقى موعظة كنسيه صاخبة تقول: "فجمعهم إلى الموضع، الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون. ويضيف (فولويل) سيكون هناك اشتباك آخر وأخير، وعندئذ سيتخلص الرب من هذا الكون، وفي الإصحاحين (21 و 22) من سفر الرؤيا يتابع (فولويل)، جاء إن الرب سيدمر هذا الكون وسيرافق الدمار انفجار هائل، وحرارة عاليه، كما يقول القديس بطرس نفسه" (¬2). ¬

(¬1) 1). وإذا كانت هذه آراء صهاينة مسيحيون قبل قرن من الزمن، أما الآن فقد أصبح الوعظ بلاهوت تل مجدو الشغل الشاغل لليمين المسيحي الأصولي الأمريكي في هذا العصر. فمن خلال شبكة هائلة من مئات الإذاعات وقنوات التلفزيون، يقوم عشرات الألوف من الوعاظ الأمريكان في الكنائس وعلى الإذاعات والتلفزيون، ومدارس الأحد، بالتغلغل في قلوب وعقول عشرات الملايين من الأمريكيين. "ففي عام 1980م عندما كان (ريغان) مرشحاً للرئاسة، اختتم مقابلة تلفزيونية مع الإنجيلي جيم بيكر قائلاً: "قد نكون نحن الجيل، الذي سيشهد هرمجدون في يوم من أيام حياتنا". وفي مقابلة لاحقه مع العديد من ضيوف بيته، أشار ريغان إلى (أن جيلنا هو الذي يمكن أن يحقق هرمجدون)، وفي مقابلة صحفيه أجراها الصحفي (روبرت شير) في آذار 1981م مع (جيري فولويل) صاحب محطة الحرية للبث التلفزيوني، كشف فولويل النقاب عن حديث مشترك دار بينه وبين ريغان ومؤداه، أن ريغان يؤمن بأن العالم يسير نحو نهايته المحتومة سريعاً، وأن التاريخ يصل إلى منتهاه وأن العالم لن يعيش أكثر من خمسين سنة أخرى (¬النبوءة والسياسة - ص 50 (¬2) على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيل ـ حمدان حمدان ص154

التعجيل بقدوم المسيح

ومنذ عام 1970م دأب (بيلي جراهام) على إنذار جمهوره، بقوله: "إن العالم يسير حاليا بسرعة نحو معركة (تل مجدو) وأن الجيل الحالي من الشباب قد يكون آخر أجيال التاريخ". وقال للرئيس الأسبق ريجان، بأن "عيسى المسيح على الأبواب وقد يعود في أية لحظة". أما (هال ليندسي) فقد باع عشرين مليون نسخه من كتابه (كوكب الأرض العظيم الفائت)، الذي زعم فيه أن العد التنازلي لنهاية التاريخ قد بدأ منذ نشوء دولة إسرائيل. وفي روح مشابهة لما كتبه يوحنا في رأياه، زعم (هال ليندسي) أن المسيح العائد سوف يحرق الأرض بسكانها باستثناء (144000) يهودي سوف يتم إنقاذهم (¬1) (. أما تبريرات هؤلاء لضرورة قيام هذه المعركة، فهي تبريرات دينية مستمدة من نبوءات الكتاب المقدس، حيث يعتمد خطابهم الديني على رؤية سهلة للحياة، مفادها أن العالم أصبح تملؤه الشرور والخطايا، وهو ما سيعجّل بظهور (المسيخ الدجّال) وجيوش الشر، ولن يصبح هناك حل لإنقاذ البشرية والخلاص من الشرور إلا بعودة المسيح المخلّص، لانتزاع المسيحيين المؤمنين من هذا العالم المليء بالخطيئة والشر، وهذا الخلاص ـ عندهم ـ رهين بعودة المسيح فقط، أما المطلوب عمله من هؤلاء المؤمنين فهو السعي لتحقق هذه النبوءة، أو الإسراع بإجبار يد الله "النبوءة! وتحقق النبوءة عندهم رهن بقيام دولة إسرائيل الكبرى، وتجميع كل يهود العالم بها، ومن ثَم فلا بد من تقديم وحشد كل التأييد المادي والمعنوي، المطلق وغير المحدود أو المشروط لدولة إسرائيل، لأن ذلك هو شرط نزول المسيح المخلّص التعجيل بقدوم المسيح رأت الأصولية المسيحية في النصف الثاني من القرن العشرين، أن من المناسب أن تُعَجّل من القدوم الثاني للمسيح بواسطة الدولة اليهودية إسرائيل، وهم مستعدون أن يقاتلوا المسلمين حتى آخر يهودي. وعندما سأل أحدهم (ليني ديفس) أحد أقطاب الأيباك (اللوبي الصهيوني الأمريكي) السابقين إن كان يعلم بأن التلاقي في الأهداف بين الصهاينة اليهود، والصهاينة المسيحيين سينتهي حين قدوم ¬

(¬1) النبوءة والسياسة 39

المسيح، حيث أن للصهاينة المسيحيين معتقداتهم وأجندتهم الخاصة حينئذ، أجاب: إن هؤلاء يثيرون قرفي وخوفي، ولكن حتى أن أري المسيح يسير فوق جبال القدس، فإني أدعم كل من يريد أن يكون صديقا لإسرائيل (¬1). والطريف أن هذا التأييد لا يعني الإيمان باليهود أو حتى مبادلتهم مشاعر الحب أو التعاطف معهم، لأن بعض هؤلاء التوراتيين يعتقدون أن المسيح المخلّص سيقضي على كل اليهود أتباع المسيخ الدجّال، الذين سيرفضون الإيمان به، أي أنهم يدعمون إسرائيل باعتبارها وسيلة تحقق النبوءة فقط. ولكن بالرغم من ذلك، فقد تلقف هذه العقيدة كبار القادة اليهود في أمريكا وإسرائيل، وخاصة من اليمين الديني المتطرف الذي يسيطر على مجريات ومقاليد اللعبة السياسية في إسرائيل، واستغلوها جيدًا للحصول على كافة أشكال الدعم والتأييد، وهم لا يعنيهم محبة اليمين المسيحي المتطرف في أمريكا، أو إيمانه بهم بقدر ما يعنيهم ما يُدرّه عليهم الإيمان بهذه النبوءة، من أموال ودعم سياسي واقتصادي غير محدود، ولهذا يحرص زعماء إسرائيل على استضافة قادة اليمين المسيحي المتطرف في إسرائيل باستمرار، كما أنهم لا يفوتون مناسبة للاجتماع بهم للحصول على دعمهم المطلق. فبفضل هذه النبوءة تتدفق الرحلات السياحية الأمريكية على إسرائيل، وتنظم مظاهرات التأييد وحملات جمع التبرعات، وتسخر الإدارة والسياسة الأمريكية لخدمة المصالح الإسرائيلية، خاصة مع تزايد إيمان الشعب الأمريكي بهذه النبوءة والاعتقاد بها، حتى أن استطلاعاً أجرته مجلة التايم الأمريكية سنة 1998م أكد أن 51% من الشعب الأمريكي يؤمن بهذه النبوءة، ومن هؤلاء عدد كبير من أعضاء النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، بعضهم وزراء وأعضاء في الكونجرس وحكّام ولايات، بل وتؤكد (جريس هالسيل) أن) جورج بوش)،) وجيمي كارتر)،) ورونالد ريجان (كانوا من المؤمنين بهذه النبوءة، بل إن الأخير كان يتخذ معظم قراراته السياسية أثناء توليه الرئاسة الأمريكية على أساس النبوءات التوراتية كما سنوضح لاحقاً. (¬2) وفي فكر المنصرين التوراتيين تغيب كل معاني المحبة والتسامح المقترنة بالمسيحية، ويبدو المسيح في أحاديثهم في صورة جنرال بخمسة نجوم يمتطي ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م (¬2) يد الله - ص18

جوادًا، ويقود جيوش العالم كلها، مسلحًا برؤوس نووية ليقتل مليارات البشر في معركة الهرمجدّون. وقد باع كتاب عن هر مجيدون 25 مليون نسخة، ولا يتقدم عليه في مبيعات السبعينات إلا الكتاب المقدس، وتم إنتاج فيلم سينمائي عن كتاب هرمجيدون هذا، وقد انتشرت شهرة أمثال هذا الكتب من الجمهور المسيحي إلى الجمهور العلماني، وهذا يعنى إنها تفشت في الثقافة الأمريكية الآن، واهم أفكارها، أن الله يطلب من الأمريكيين تدمير الكرة الأرضية. ويقدر عدد الأصوليين في الولايات المتحدة بخمسين مليون، ومنهم المتشددين أمثال (جيم جونز)، الذي قال حين قاد أتباعه إلى الموت: "إن النهاية ستصل بسرعة، لذلك دعونا نرافقها، دعونا نسبق الحشود" (¬1). وقد تجاوزت عقيدة هرمجيدون المعتوهين إلى ارفع مستويات السلطة الحكومية مثل وزير الدفاع (كاسبار واينبيرج) 1982م، فهي عقيدة قاتلة ومعدية. ففي نهاية الستينات من القرن العشرين سلم الألوف كل ممتلكاتهم إلى الكنسية لأن النهاية اقتربت، وهناك أكثر من 1200 حركة تعتقد بهذا المصير الوشيك، نظمت الكثير منها عمليات انتحار جماعي، وقتل جماعي، ويدعون بعضهم إلى عدم زرع الأشجار أو التخطيط للمستقبل، لأن العالم لن تبقى له حياة بما يكفى، ويلجأ بعضها إلى العنف، وتقتل السلطات منهم الكثير في تبادلات إطلاق النار بين الشرطة وميلشيات الحركات، التي قام أحد أعضائها بتفجير مدينة أوكلاهما 1995م. وتتجه حركة منتدى الحملة الصليبية من أجل المسيح نحو جمع مليار دولار، لنشر المسيحية في العالم، ويقوم فيها 16 ألف أكاديمي مسيحي ـ يتزايدون بنسبة أكاديمي واحد كل يوم ـ بعمل ثقافي خاص بتكلفة مليارى دولار سنوياً، وتستقطب الحركة ما لا يقل عن 20 مليوناً، كما أن مساهمات المدخرات تزيد على نصف مليار دولار.

رونالد ريجان، والحكايات الخرافية عن هرمجدون

رونالد ريجان، والحكايات الخرافية عن هرمجدون كما أسلفا، فإن الاعتقاد بمعركة مجدو، وأنها وشيكة الوقوع قد سيطر على قطاع عريض من البروتستانت، ومنهم أشخاص اعتلوا أعلى كراسي المسئولية في العالم، ومن هؤلاء الرئيس الأمريكي (رونالد ريجان). يقول الأمريكي (اندرولانج) مدير الأبحاث في معهد الدراسات المسيحية ومقيم بواشنطن، "لقد أجريت دراسة عميقة عن ريجان والاعتقاد بمجدو، ووجدت أن ريجان قد نشأ على ذات نظام المعتقدات، التي نشأ عليها كل من (كلايد، وجيرى فالويل، وجيمى سواجارت) ومبشرين آخرين، وإن لدى ريجان اعتقاد بهذا اليوم على الأقل إلى وقت قريب من توليه الرئاسة". وقد عقد (لانج) مؤتمراً صحفياً، نظمه معهد الدراسات المسيحية، وقال في المؤتمر: "إنني وآخرين من المعهد أردنا التحقق في أمر ريجان وأيدلوجية مجدو بالنظر إلى إمكانية أن يعتقد رئيس ما ـ شخصياً ـ بأن الله قد قدر سلفاً حرباً نووية، هي إمكانية تثير عدداً من الأسئلة المخيفة، فهل سيؤمن رئيس معتقد بهذه الإمكانية بجدوى التفاوض على نزع السلاح حقاً؟ وهل سيكون إذا وقعت أزمة نووية واعياً ومتعقلاً؟ أم أنه سيكون تواقاً للضغط على زر ما شاعراً بذلك أنه يحقق تخطيط الله المقدر سلفاً لنهاية الزمن؟!! " (¬1). كما نشرت صحيفة (الغارديان) البريطانية نقلاً عن صحيفة (الواشنطن بوست) الأمريكية دراسة جاء فيها: "إنه يجب أن نشعر جميعاً بالقلق عندما يتحدث الرئيس الأمريكي (رونالد ريجان) عن إرادة الله والمعركة الفاصلة بين الخير والشر على أرض الشرق الأوسط في حياة هذا الجيل. وكرر (ريغان) اعتقاداته حول نهاية العالم من خلال معركة هرمجدون التي ستنشب في الشرق الأوسط خمس مرات في أربع سنوات. وقد رفض البيت الأبيض الاستجابة لطلبات إجراء مقابلات صحفية مع الرئيس الأمريكي (ريغن) حول معركة هرمجدون الفاصلة الكبرى. كما رفض تقديم أسئلة مكتوبة إلى ريغن حول معركة هرمجدون (¬2). ¬

(¬1) النبوءة والسياسة - جريس هالسيل - ترجمة محمد السماك ص44 (¬2) المسيح القادم (مسيح يهودى سفاح) - جورجي كنعان ص41

ومع أن (ريغن) لم يقدم تعريفه الخاص لتعبير هرمجدون، فإن القواميس تفسر التعبير باعتباره المكان الذي ستدور فيه المعركة الفاصلة النهائية بين قوى الخير والشر، والتي سينتصر فيها المسيح المنتظر القادم من السماء على الديكتاتور الفوضوي الشيطاني وجماعته الأشرار، وليعلن بعدها العصر الألفي السعيد، حيث يمر ألف عام من السلام والسعادة، يكون الشيطان خلالها مقيداً بالسلاسل، ثم يبدأ زمن الخلود. وخلال حملة الترشيح لانتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1980م ذكر ريغن للواعظ التلفزيوني (جيم باكر) ـ وهو ثالث أكثر المبشرين الإنجيليين التلفزيونيين شعبية في أمريكا، إذ يصل حديثه إلى ما يقارب ست ملايين عائلة يومياً أي 6,8% من مجموع المشاهدين ـ إلى الحاجة إلى صحوة روحية، وقال فجأة قد نكون الجيل الذي سيشهد (هرمجدون). وفي خطاب لريغن أمام مجموعة من زعماء اليهود في نيويورك، كشف عن الارتباط بين هرمجدون والشرق الأوسط، وذلك من خلال قوله أن (إسرائيل) هي الديمقراطية التابثه الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها في المنطقة، التي ستقع فيها المعركة الفاصلة الكبرى (¬1). وبعد ستة أسابيع من تنصيب (ريغن) ذكر (جيرى فالويل) المؤيد الرئيس لحملة (ريغن) الانتخابية وصاحب برنامج (ساعة في أزمنة الإنجيل القديم) الأسبوعي، والذي يصل إلى 5,6 مليون عائلة، أي ما يعادل 6,6% من مجموع المشاهدين في أمريكيا، أن ريغن متفق معه حول نبوءة التوراة حول هرمجدون وأن المحرقة النووية ستقع خلال أقل من ستين عاماً، وأنه سيتم في هذه الحرب تدمير روسيا بالأسلحة النووية، وأن المسيحيين في الاتحاد السوفيتي سيبتهجون وسيصعدون إلى السماء في غمضة عين، وبهذه الطريقة سينجون من المحرقة. ويعتقد (فالويل) أن دمار الاتحاد السوفيتي سيتم عندما يتحرك نحو الشرق الأوسط وخاصة إلى إسرائيل. وفي أكتوبر (تشرين) 1983م كشف ريجان النقاب عن أن معركة مجدو ليست فقط عقيدة لا تزال تسكن قلبه، بل إنها لا تزال تشغل باله. فقد اتصل هاتفياً مع (توم داين) من اللجنة المركزية الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة، التي هي أقوى مجموعة ضغط قوية لإسرائيل، ليوجه له الشكر على جهوده لإقناع الكونغرس بإعطاء (ريغن) ¬

(¬1) النبوءة والسياسة - جريس هالسيل - ترجمة محمد السماك ص50.

تفويضاً بالاحتفاظ بمشاة البحرية الأمريكية في لبنان لمدة ثمانية عشر شهراً، وقال (داين) إن (ريجان) قال له "كما تعرف .. ؟ إنني أستند إلى أنبيائكم القدامى في العهد القديم، وإلى المؤشرات التي تخبر بمجدو، وأني أتساءل إذا كنا الجيل الذي سيشهد ذلك .. لا أعرف إذا كنت لاحظت أياً من هذه التنبؤات، ولكن صدقني إنها تصف الوقت الذي نمر به" (¬1). ولما نشرت صحيفة (الجيروزيليم بوست الصهيونية) أقوال ريغن الآنفة، أجرى صحفيان من مجلة (بيبول) حديثاً مع (ريغن)، جاء فيه: إنك ذكرت أن هذا الجيل سيشهد هرمجدون، وان الكثير من نبوءات التوارة تقع حالياً، فهل تعتقد ذلك حقاً؟ فرد (ريغان) قائلاً: لم أقل ذلك علناً من قبل، ولكن تحدثت مع المحيطين بي الآن من رجال الدين، وقد قالوا انه لم يكن هناك زمن وقعت فيه نبوءات متعددة معاً مثل الآن، وكانت هناك أوقات اعتقدنا فيها باقتراب نهاية العالم، لكن ليس في مثل هذه الأوقات. وأعتقد أنه عندما يأتي ذلك الوقت فإن الجيل الموجود سوف يفعل ما يعتقد أنه الحق، وريغن يعنى بعبارة (عندما يأتي ذلك الوقت) أما وقت نهاية العالم، أو وقت حدوث هرمجدون. والأدهى من ذلك أن ريجان وقتما كان حاكما على ولاية كاليفورنيا، طلب من الواعظ (بيلي جراهام) أن يخطب في مجلسي الولاية التشريعيين ما يسمونه خطاب الوضع العام للولاية، وكان ذلك في تموز من العام (1971م) وبعد الخطاب وجه ريجان السؤال التالي إلى جراهام قائلا: "هل تعتقد أن المسيح سيعود عاجلا" فأجابه جراهام: "كل المؤشرات تقول إنه على الأبواب، وقد يعود في آية لحظة" فوافقه ريجان وكان مسروراً من أجابته، ثم قال: "لقد تحققت جميع النبوءات التي يجب أن تسبق تل مجدو، كل شيء يحدث كما هو متوقع، ولا يمكن للنهاية أن تكون بعيدة بعد اليوم". ثم عندما أصبح ريجان رئيساً اتخذ في عام 1983م الترتيبات لحضور الزعيم الأصولي (فولويل) مجلس الأمن القومي، ليناقش مع كبار موظفي أمريكا خططاً لحرب نووية مع روسيا كما وافق ريجان على أن يخطب (هال ليندسي) مؤلف كتاب كوكب الأرض العظيم الفائت أمام مخططي وزارة الدفاع الأمريكية ـ البنتاجون ¬

(¬1) النبوءة والسياسة - جريس هالسيل ـ ترجمة محمد السماك ص51

ـ حول احتمالات نشوب الحرب النووية مع روسيا. وفي العام 1983م استخدم (ريجان) تعبير "الامبراطوريه الشريرة" إشارة إلى الإتحاد السوفيتي بمعنى أن السوفييت من قوى الشر التي تدعم قوى الظلام، التي تحارب تحت لواء الوحش عدو المسيح في معركة تل مجدو الرهيبة، حيث يفترض في تلك المعركة أن تقاتل إسرائيل وحلفاءها من قوى الخيرـ كذا ـ إلى جانب المسيح عند مجيئه الثاني (¬1). وحيث وضع الرئيس الأسبق ريجان معركة تل مجدو نصب عينيه، فقد وجد من واجبه الديني العمل على زيادة الجبروت العسكري الأمريكي استعدادا للمعركة الرهيبة، وليس من شك في أن عقيدة ريجان بقرب انتهاء التاريخ في تل مجدو كان لها الأثر الأكبر في توجيه سياسته الاقتصادية، وسياسة التسلح العسكري الأمريكي. فخلال فترتين متتاليتين من رئاسته تفاقم عجز الميزانية الفدرالية إلى مستوى مذهل لم يسبق له مثيل في تاريخ أمريكا، وقد انبثقت سياسة ريجان الاقتصادية المبنية على الإنفاق التضخمي من اعتقاده بعدم وجود مبرر للقلق من تفاقم الدين العام، ما دامت (الخطة الإلهية) اقتضت نهاية التاريخ العاجل، ثم أن الإنفاق تركز على التسلح باعتباره الوسيلة المثلى لضمان المستقبل، في الوقت الذي تم فيه تخفيض الإنفاق على البرامج الاجتماعية المحلية، وفي ذلك قال ريحان: "لا يمكن لمعركة تل مجدو أن تحدث في عالم مجرد من السلاح". ومن المعروف أن الوعاظ الأصوليين من أمثال (جيري فالويل) (وهال ليندسي) (وبات روبرتسون) يؤمنون بأن المجيء الثاني لن يتحقق إلا بعد سلسلة من الكوارث والفوضى الاجتماعية والانهيار الاقتصادي وحرب نووية في تل مجدو (¬2). ولم يكتف الرئيس ريجان بالإيمان بمثل هذه الخرافات، بل المصيبة الكبرى هي أن رئيس اكبر دوله في العالم والتي لديها مخزون من أسلحة الدمار الشامل، قادرة على تدمير الأرض وإفناء الحياة عنها، كان يؤمن أيضاً بالتنجيم والأبراج، حيث أثر ذلك على قراراته السياسية وعلاقاته مع الدول. يقول (كيتى كيلى) في كتابه (نانسى ريجان ـ فضيحة في البيت الأبيض): اظهر الرئيس (ريجان) اعتقاده في ¬

(¬1) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص104 (¬2) يد الله ـ جريس هالسيل ـ ص17

التنجيم بالنسبة للانتخابات الرئاسية في البرازيل، لأن المنجمين قالوا له: "إن (تانكويدو نيافيز) سوف ينجح. وعند لقائهما في البيت الأبيض قال له ريجان: "إن أبراجنا نحن الاثنين متوافقة، ولذلك فإن العلاقة حسنة بين قطرينا" (¬1). ويضيف (كيتى كيلى): "في الوقت الذي كانت السيدة الأولى تدير العملية الرئاسية كانت منجمتها (جوان كويجلى)، من خلفها تقودها، حيث أقنعتها هذه العرافة بأن الرئيس يجب ألا يظهر أمام الجماهير إلا بعد 120 يوماً، نتيجة "مجالات الحقد والبغض لكوكبي اورانوس وزحل"، والتي قالت أنها تحولت ضده. وعلى أساس كلام المنجمة التي تتقاضى 3000 دولار شهرياً، أجبرت نانسى زوجها ريجان على عدم الخروج من البيت الأبيض، ولكنها وافقت رغم ذلك على أن يخرج يوم 27 يناير 1987م ليلقى خطاب الاتحاد في الكونغرس" (¬2). فرئيس هذا حاله، كانت معجزة أن مرت فترة رئاسته بدون حدوث كارثة كونية، بسبب إيمانه بالخرافات وبأقوال المنجمين. وعندما يستعيد المرء أحداث الماضي القريب، يصاب بالذعر كيف أن أقوى أمة على وجه الأرض متحالفة مع إسرائيل، آمن رئيسها بلاهوت تل مجدو، وتطلع واستعد بجد ونشاط لتحقيق النهاية الرهيبة، فلم يكن أقل من معجزة أن انتهت ولاية (ريحان) دون انفجار حرب نووية بسبب نبوءات أصر أصحابها على تحقيقها قسراً. غير أن ما نخشاه حقيقة من تسلط أو إغراء هذه النبوءات هو ما ذكره (ارنست ناجل) عن التنبؤ المحقق لنفسه. وهو الذي يتألف من تنبؤات لا تصدق على الوقائع الفعلية، أو الوقت الذي تصاغ فيه هذه التنبؤات، غير أنها تغدو صادقة بسبب الأفعال التي تتخذ كنتيجة مترتبة على الاعتقاد بصحة تلك التنبؤات (¬3). وهنا يقول الكنسي البريطاني (روبرت جيوبت): أن من النتائج الجانبية المرعبة للاعتقاد بأن الله قضى مسبقاً بهرمجيدون هو أنه يصبح من اليسير (خلق) الحالة الموصوفة، بحيث إن التفسير يقود إلى تحقيقها. ويقول (ستيفن اولبرى) مؤلف ¬

(¬1) نانسى ريجان ـ فضيحة في البيت الأبيض كيتى كي - يوسف فكرى, نهال الشريف - ص475 - دار الهلال,1991 (¬2) نانسى ريجان ـ فضيحة في البيت الأبيض كيتى كي ص470 (¬3) صدام الحضارات - صامويل هنتنجتون -ترجمة طلعت الشايب ـ تقديم د. صلاح قنصوه ص25 - الناشر: سطور- 1998

محور الخير .. ومحور الشر (أبناء النور وأبناء الظلام)

(مناقشة النهاية الكارثية): "إن القضية الحقيقية هي الكيفية التي يجرى فيها تفسير نبوءة نهاية الزمن تكون كل توقعاتنا، بحيث أنها تجعل الحرب النووية تبدو تحقيقاً شريراً لقدر إلهي " (¬1). وإذا أردنا أن نلخص فترة رئاسة ريجان لأمريكا فإننا نقول: "لقد استخدم ريجان القوة، لا بل البلطجة لفرض سياساته فكانت الغاية قذرة، والوسيلة أقذر وآمن بعقائد خرافية جعلته يدلل إسرائيل ويضرب بيد من حديد ويختلق حروباً ومشاكل وتسيل الدماء في كل مكان" (¬2). محور الخير .. ومحور الشر (أبناء النور وأبناء الظلام) كان الرئيس الممثل (رولاند ريجان) من أوائل الرؤساء الأمريكيين، الذين استخدموا تعبير إمبراطورية الشر، بصوره علنية فجه، حيث كان يقصد بها الإتحاد السوفيتي السابق، بسبب اعتقاده الديني من أن روسيا ستهاجم إسرائيل في معركة هرمجيدون، تم تبعه بعد ذلك كثير من الساسة في استخدام هذا التعبير. ولكن جاء أخيراً الرئيس (جورج بوش الابن)، وكرس هذا المفهوم وأضفى عليه بعداً عالمياً بعد أحداث سبتمبر، وذلك في خطابه عن حالة الاتحاد في يناير 2002م عندما قسم العالم إلى قسمين، أشرار يحاربون أمريكيا وأخيار يقفون معها، بل تعدى هذا الأمر ووصف دول بعينها بأنها تمثل محور الشر (العراق وإيران وكوريا الشمالية)، أو ما اسماها بالدول المارقة. ففي ذلك الخطاب، استعمل بوش الابن خمس مرات كلمة (الشر)، وأشار إلى ابن لادن نفسه بأنه الشرير. وتتكرر لفظة الشر بانتظام في خطاب الولايات المتحدة الانجيلي ـ السياسي. "فقد عرفت عبارة (إمبراطورية الشر) رواجاً كبيراً في عهد (ريجان)، وكان لها وظيفة محددة: تسويق مشروع (حرب النجوم) مع اعطاء الولايات المتحدة تفوقاً مطلقاً على الاتحاد السوفيتي في الميدان العسكري. لأجل ذلك، كان يجب تركيز كل طاقة الأمة على عدو رمزي، هو الدب السوفياتي. وعاد الكلام عن ¬

(¬1) يد الله - غريس هالسيل ص110 (¬2) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص114

الشر اليوم، ولكن مصحوباً بنقيضه المشرق الخير. فإذا كان لابد من محاربة الشر فهذا لا يمكن إلا بواسطة الخير. والقوى المنضمة إلى الخير هي في معسكر الأخيار. أن هذه التبسيطة الثقافية تسمح لأنصار الحرب الأخلاقية بأن يبرروا الغاية بكل الوسائل المتاحة" (¬1). "إحدى خصائص محور الشر الأساسية ـ على الطريقة الأمريكية ـ هي أنه ذو شكل متغير فهو يمثل حيناً بليبيا وإيران، وحيناً بسوريا. وفي سنة 1990م كان العراق، تم بمقتضى الظروف صار الصومال، تم حماس أو واحدة من قبائل الفلبين. ويشمل هذا التصنيف أكراد حزب العمال الكردي ولا يشمل أكراد حزب الاتحاد الكردي، الذين يتمتعون بدعم وكالة المخابرات المركزية. وفي السنوات الفائتة نالت القوى المسلحة الثورية الكولومبية ( FARC) شرف التسجيل على هذه اللائحة، التى يظهر فيها بين حين وآخر كل من السودان واليمن، حسب الظروف. إن محور الشر هو كناية عن جردة انطباعية على طريقة بريفير تعود علة بقائها إلى مصالح سيد البيت الأبيض المتقلبة (¬2). وبالرغم من الكثيرين بدأو ينظرون بريبة وشك إلى مثل هذه التعبيرات، إلا أن ذلك لا يجب أن يعمينا عن الأبعاد الفكرية والدينية الراسخة الجذور لمثل هذه التعبيرات، والتي حفل بها التاريخ الأمريكي منذ بداياته. ففي بلد للدين فيه نفوذ كبير على السياسة، فإن مفردة (الشر) مرتبطة بمفردة (الشيطان)، وبهذا المعنى يستخدم الدين لمواصلة أهداف غير نبيلة على عكس ما يُزعم، حيث أن من يجسدون هذا الشر تغيروا عبر الحقب الزمنية .. في الأول كان الهنود هم الذين يجسدون هذا الشر، ثم عوضوا فيما بعد بالأفر وأميركيين، لكن هؤلاء تركوا منصبهم للفوضويين الذين تبعهم الشيوعيون. أما اليوم فوجوه الشر هي العراق وإيران وكوريا الشمالية ¬

(¬1) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص85 (¬2) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص85

(¬1). أما وجوه الخير فهي بالطبع أمريكيا وإسرائيل والدول البروتستانتية التي يشع منها النور في عالم تغمره الظلمة؟!. هذا التقسيم للعالم إلى خير وشر مستمد في الأساس من معتقدات دينية يؤمن بها المسيحيون البروتستانت، حيث يعتقدون إنطلاقاً من إيمانهم بكل ما ورد في التوراة وسفر الرؤيا، أن هناك قوة شريرة يسمونها (أبناء الظلام) ستقدم يوماً على حرب ضد قوى الخير ممثلة في إسرائيل وأشياعها من دول العالم البروتستانتي (أبناء النور)، وهم يضمون المسلمون ودول أخرى إلى جانب قوى الشر. وفكرة تقسيم الشعوب إلى خيره وشريرة نبعت أصلا من التراث اليهودي، الذي استقرت فيه فكره عن شعب بدائي من شعوب الأناضول، عرف في النقوش الآشورية باسم (السيميراي) بوصفه شعباً محارباً شيطانياً يسكن الغيم والظلمة، وأنه تحالف مع الحية ـ الشيطان ـ ضد يهوه، ومن ذلك التصور، نبعت فكرتان في فلكلور العهد القديم: 1. فكرة الشر الرابض هناك بأقصى الشمال، متربصاً بالأخيار (شعب يهوه). 2. فكرة (أبناء الظلام) بوصف التسمية مظلة شاملة يندرج تحتها ـ جنباً إلى جنب مع شعب جومر السيميري ذاك ـ حشد من شعوب أخرى شريرة ومعادية لـ (الشعب) الذي بات - تعريفاً له بالنقيض ـ (أبناء النور). ولقد كان من الطبيعي أن يلاقي ذلك التصنيف تقبلاً فورياً واسعاً لدى الأصوليين المسيحيين في أمريكا، إذ اتسق مع تصنيف العقل الأميركي التبسيطي للبشر إلى أخيار Goodies وأشرار Baddies! إلا أن التصنيف قبل أن يصل إلى العقل الأميركي المعبرن، كان قد ظل يفعل فعله المدمر بكفاءة عالية في إبداع سيناريو (يوم يهوه) الذي ستكون فيه نهاية الذبيحة الكبرى، على كل الأمم، أي (أبناء الظلام) أعداء (أبناء النور) (الأمة المقدسة) بني إسرائيل: "لقد قضى يهوه إله إسرائيل بحرب على كل الأمم (الجوييم، الأغيار)، وبقديسي شعبه سوف يضرب بجناح قوي" (¬2). ¬

(¬1) المجتمع الأميركي بعد 11 سبتمبر ـ المؤلف: صوفي بودي جندرو - ط1 2002 - الناشر: مطبوعات [المؤسسة الوطنية للعلوم السياسية]- باريس كامبردج بوك ريفيوز (¬2) المبشرون البروتستانت والنية القاتلة - غريس هالسل 150 - - كتاب مترجم نشر في جريدة الشرق الاوسط على حلقات اعتبارا من 17/ 10/1986

ومن الطريف أن زعماء التيار الديني البروتستانتي الأصولي مثل (فالويل وروبنسون وغيرهم، يسمون دولاً بعينها ويجعلونها في مصاف القوى الشريرة التي ستشهد معركة مجدو ـ منها ليبيا وأثيوبيا!! وتقول (جريس هالسل) أن حركة الربط بين قصص الكتاب المقدس، وأسماء دول أو شعوب في عالمنا المعاصر، هي حركة قوية وقديمة، والكثير من المبشرين يكررون دائماً أن أعداء أمريكا هم أعداء الصهاينة، وبحسب نبوءة الكتاب المقدس ستقوم روسيا والصين بغزو الكيان الصهيوني مثلاً، وأن على أمريكا أن تقود معركة رهيبة تضع حداً للتاريخ الإنساني ضد 12 دولة تملك السلاح النووي، وأن الكتاب المقدس يحوى نبوءات تهز الدنيا! ومعركة هرمجيدون يمكن أن تقع في أي وقت لتحقيق نبوءة حزقيال، وعلى أمريكا أن تكون مستعدة للنهاية، التي اقتربت، وسيبدأ من الآن مسلسل حروب صغيرة، يتم فيها قتل نصف البشرية قبل هرمجيدون (¬1). فمثلاً يقول القس (فالويل) زعيم الأغلبية الأخلاقية: "إن النبي العبراني (حزقيال) تنبأ قبل 2600 سنة بقيام أمة شريرة إلى الشمال من فلسطين، قبيل موعد المجيء الثاني للمسيح. وقال: "إننا نقرأ في الإصحاحين 38 و 39 من سفر حزقيال، أن تلك الأمة سيكون اسمها (روش) مكتوب هكذا في الآية 2 من الإصحاح 38 من سفر حزقيال من الكتاب المقدس بالحرف (روش) ( Rosh, R ـOـSـ H) ، بل وأن حزقيال يحدد بالاسم مدينتين من مدن (روش) هما (ماشك) (وتوبال). وكل هذا في الآية 2 من الإصحاح 38 أيضاً، والاسمان قريبان للغاية من اسمي موسكو وتبلسك: ماشك ـ موسكو، وتوبال ـ تبلسك، وكلا المدينتين من المدن العاصمية الرئيسة في روسيا اليوم. وقد ذكر حزقيال أيضاً، في الآية 3، أن تلك الأمة ستكون معادية لله، ولذا فإن الله سيعاديها. وقال حزقيال أيضاً إن روسيا، روش ستغزو إسرائيل في آخر الأيام، وذلك في الآية 8، تم قال إن ذلك الغزو سيكون بمساعدة حلفاء روش، وذلك في الآيتين 5،6، وحدد أولئك الحلفاء بالاسم: إيران (التي كنا نسميها فيما مضى فارس) وجنوب أفريقيا أو الحبشة، وشمال أفريقيا أو ليبيا، وأوروبا الشرقية (المدعوة بجومر هنا في حزقيال 38) وقوزاق جنوب روسيا واسمهم في ذلك الإصحاح توجرمه. ¬

(¬1) يد الله ـ جريس هالسيل 34

فالقس (فالويل) له منطق على هواه لا يعوقه شيء حتى الكتاب، الذي سيتشهد بالآيات منه. لأن (روش) لا تعني روسيا، بل تعني (رأس) أو (رئيس) باللغة العبرية، وماشك وتوبال لا تعنيان موسكو وتبلسك، بل هما اسمان وردا في سفر التكوين، لاثنين من أبناء يافث، وكذلك (جومر) لا تعني أوربا الشرقية، فماشك وتوبال وجومر ومأجوج من أسماء بني يافث تكوين (10: 2)، وأسماء أقوام سكنت أسيا الصغرى، لكن القس (الطيب) جيري فالويل، قرر أنها كلها أسماء أماكن معاصرة، روسيا، وموسكو، وتبلسك، وأوروبا الشرقية، تنبأ حزقيال بأنها ستهاجم إسرائيل مع حلفائها الأشرار إيران، وليبيا والحبشة أو جنوب أفريقيا. وأخذ ذلك الاعتقاد عنه - مع استبعاد جنوب أفريقيا - الرئيس الأميركي المولود ثانية رونالد ريغان. غير أنه وقع ارتباك هنا فيما يخص الأسماء، ففي حين أكد جيري فالول أن (روش) هي روسيا، رأى (بات روبرتسون)، والمؤشر في يده، والخريطة على الحائط أمام المؤمنين، أن (روش) هي الحبشة، أما روسيا فهي يأجوج ومأجوج، وفي حين أكد جيري فالول أن (جومر) هي أوروبا الشرقية، أكد روبرتسون للمؤمنين أن (جومر) هي اليمن الجنوبية، وفي حين أعلن فالول أن (توجرمه) هم القوقاز، أكد (روبرتسون) أنهم الأرمن وأن اسمهم التوراتي (بث توجرمه)، توخياً للدقة العلمية، أما ليبيا فأطلق عليها القس روبرتسون، من ذاكرة مشوشة فيما يبدو، اسم (بوت) وربما تبث ذلك الاسم بتلك الصورة مما كان المصريون القدماء يدعونه ببلاد بونت (التي يرجح أنها ما يعرف الآن باسم إريتريا، أو ما يعرف باسم الصومال، فهي منطقة شبه أسطورية ورد ذكرها باستمرار في النصوص الفرعونية من المملكة القديمة). وبكل تأكيد، لم تعرف ليبيا في أي وقت باسم (بوت) أو بونت، بل عرفت باسم (لهابيم). فالخلاف على أشده جغرافيا بين المبجل (فالويل) والمبجل روبرتسون، والبلد الوحيد من فريق (أبناء الظلام) الذي اتفقا على تسميته، هو إيران ـ فارس القديمة (¬1). ونتيجة لتأكيد روبرتسون أن الحبشة لا جنوب أفريقيا، هي التي ستنضم إلى جيش أبناء الظلام، وبصرف النظر عن تسميته لها بـ (روش) رحب الرئيس الأميركي ريغان بذلك التباين اللاهوتي، نظراً لإخراج جنوب أفريقيا من الحلف في رواية ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص134

حرب يأجوج ومأجوج

روبرتسون. إلا أن (فالول) لم يتقبل الأمر مستسلماً، بل تمسك بأن (روش) هي روسيا، وبأن توجرمه هم القوزاق لا الأرمن، ودلل على ذلك بتركيز شديد (¬1). ولكن هذا الخلاف بين روبرتسون وفالويل حول الحبشة وجنوب أفريقيا، حسم أخيراً بعد أن حل السودان مكان الحبشة فيما يسميه اليمين المسيحي المتطرف في أمريكيا بجيش أبناء الظلام، وبالذات بعد وصول الاتجاه الإسلامي إلى الحكم، وكلنا لاحظ الهجمة الأمريكية الشرسة على السودان وضربه بالصواريخ، بالإضافة إلى دعم الحركة الانفصالية في الجنوب، بكافة السبل. وقد علق احد الكتاب السودانيين على ما يحصل في جنوب السودان بقوله: "لقد تبنت إدارة جورج بوش الابن أجندة اليمين المسيحي الأمريكي، في مواصلة دعم حركة قرنق وقواتها عسكرياً ومادياً ودبلوماسيًا عن طريق منظمات مسيحية غربية، تصنّف نفسها تحت اسم (منظمات غير حكومية) وذلك لضمان استمرار الحرب بين الخير والشر. وفي هذا السياق يجتذب الانتباه بصفة خاصة أن اليمين المسيحي يولي اهتماماً أكبر لسلاح الدعاية. ففي غضون الشهور الأخيرة اندلعت على نحو فجائي حملة إعلامية في الوسائل الأمريكية وغير الأمريكية، قوامها تحقيقات صحفية وأفلام تسجيلية ومقابلات تلفزيونية وتسريبات إخبارية، كلها تتعلق بجنوب السودان وجون قرنق. وهي حملة صليبية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تبث رسالة إعلامية تصوّر جنوب السودان، وكأنه تيمور الشرقية، وجون قرنق وكأنه مسيح جديد (¬2). حرب يأجوج ومأجوج تقول عقيدة هرمجيدون أن هناك معارك ستقع للتمهيد للموقعة الكبرى ومنها حروب يأجوج ومأجوج، وترى أن يأجوج المذكور في حزقيال هو روسيا، وأن حزقيال قد أخبرنا عن مصير الوثنيين في الأيام الأخيرة وهم جيران الكيان الصهيوني وآخرين بعيدين عنها، "نعم لم تكن هناك روسيا أيام حزقيال، ولكن الله يعرف أنها ¬

(¬1) لو قارنا أسماء الدول التي وردت في الفقرة السابقة بالهجمة الشرسة التي تشنها أمريكا على الدول العربية والإسلامية فإننا سنلاحظ تشابه كامل بين ما ورد في النصوص التوراتية وبين ما تقوم به الإدارة لأمريكية على ارض الواقع، بحيث يمكن القول أن التوراة أصبحت المرجع الرئيس لرسم سياسة الإدارات الأمريكية المتعاقبة. (¬2) جريدة البيان الإماراتية 30ـ4ـ2002م

المبشرون البروتستانت والنية القاتلة

كانت ستتواجد" وسوف يهاجم يأجوج الصهاينة، وسيغضب الرب كما يقول حزقيال وسفر الرؤيا وستكون نار غضبه هي الصواريخ الحديثة التي ستدمر 5/ 4 الروس الشيوعيين، وسيتم القضاء ـ أيضاً ـ على بقية الأمة الروسية هناك أي مأجوج، وستقدر السلطات الصهيونية على ذلك بمعونة حلفائها أميركا وبريطانيا الذين سوف يستخدمون قبرص. ويشير سفر دانيال إلى سفن راسية في (شيتيم) التوراتية التي هي قبرص (11/ 30) وسوف تنضم دول كثيرة إلى روسيا، ومنها ألمانيا التي ستتعرض للدمار هي الأخرى، ولن يكون هناك سلام مع روسيا حتى يعود المسيح ويجلس على عرش داود، والشعب الروسي هو العدو رقم واحد للكيان وبالتالي للرب. وستكون المحنة الكبرى أقرب منها للهولوكوست لأنها ستكون انتقام الرب من عالم غير مؤمن، والمحنة هي من اجل الصهاينة وقد اتفق العهد القديم والعهد الجديد على حدوثها وملامحها (زيفانيا 18/ 1 ملاخي 1/ 4) أن نار غضبه سوف تبتلع الأرض كلها وسيكون حريق الهولوكوست النووية كالفرن. المبشرون البروتستانت والنية القاتلة هذا عنوان كتاب للكاتبة الأمريكية (جريس هالسل) التي عملت محررة لخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق (ليندون جونسون)، وهي صحفية مشهورة ومرموقة صدرت لها عدة كتب، أهمها وأكثرها شهرة (النبوءة والسياسة)، كما اشتهرت بكتاباتها عن الحركات الأصولية المسيحية وعلاقاتها مع إسرائيل، حيث صدر لها حديثاً كتاب جديد بعنوان (يد الله) (¬1) يمكن أن يعد بجدارة أهم ما صدر في الشأن الديني الأمريكي في الأعوام السابقة، وربما كان من أهم الكتب التي عالجت باقتدار قضية التوظيف السياسي الذي يصل إلى حد الابتزاز ـ للنبواءت الدينية في العقد الأخير من القرن العشرين. وكتاب (يد الله) عبارة عن إجابات على أسئلة جمعتها المؤلفة من سلسلة مقابلات شخصية مع مسئولين من فعاليات دينية، ومراجع كنسية أمريكية مختلفة. ¬

(¬1) يد الله ـ تأليف جريس هالسل - ترجمة محمد السماك

وتتصدى فيه (جريس هالسل) ـ ربما لأول مرة ـ لظاهرة المنصّرين التوراتين التلفزيونيين، الذين يمثّلون اليمين المسيحي المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يُعرف إعلاميًّا بـ (الصهيونية المسيحية) وهي الظاهرة التي تجسد أغرب وأسوأ أشكال الدجل السياسي الديني في العقد الأخير، ربما على مستوى العالم كله، والتي صنعها عدد من المنصّرين التوراتين الذين احترفوا تقديم برامج تليفزيونية عن النبوءات التوراتية، التي تبشر بقرب نزول المسيح المخلص ونهاية العالم فيما يعرف بمعركة (الهرمجدّون)، واستطاعوا من خلال نشاطهم - الذي يُعدّ أكبر وأهم حركة تنصير في تاريخ المسيحية، ـ إقامة ما يعرف بـ) حزام التوراة (، والذي يتكون من مجموعة ولايات الجنوب والوسط الأمريكي، والتي تكونت فيها قطاعات واسعة من المسيحيين المتشددين دينيًّا، والمؤمنين بنبوءة الهرمجدّون، أو نهاية العالم الوشيكة والمرتبطة بنزول المسيح المخلص من الشر والخطيئة. وتكشف (جريس هالسل) في كتابها عن أن هناك اقتصاديات ضخمة تقوم على هذه النبوءة، التي تُدِرّ مليارات الدولارات سنويًّا على نجوم التنصير التوراتي، الذين يمتلكون عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية في أمريكا وأنحاء العالم، وأبرزهم) بات روبرتسون) الذي يطلق عليه لقب (الرجل الأخطر في أمريكا)، فقد أسس وحدة شبكة البث المسيحية CBN، وشبكة المحطة العائلية إحدى أكبر الشبكات الأمريكية، كما أسس التحالف المسيحي الذي يُعَدّ الأوسع نفوذًا وتأثيرًا في السياسية الأمريكية، بما مكّنه من الترشيح في الانتخابات الأمريكية بفضل ملايين الدولارات، التي يحصل عليها كتبرعات من أتباعه ومشاهدي نبوءاته التلفزيونية (¬1)، وكذلك (بات بيوكاتن) الذي كان مرشحًا لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة عن حزب الإصلاح. وتُعَدّ برامج هؤلاء المنصرين التوراتيين من أمثال: (هالويل)، (وجيري فالويل)،) وتشارلز تايلور)، (وبول كراوسي)،) وتشال سميث)، (وروبرتسون)،) وبيوكاتن) من أكثر البرامج جماهيرية في الولايات المتحدة. كما تشهد أشرطة الفيديو والكاسيت، التي تحمل هذه البرامج رواجًا رهيبًاً، في أوساط الطبقة المتوسطة الأمريكية (¬2). ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص 283 (¬2) - المبشرون البروتستانت، والنية القاتلة- جريس هالسيل- ص 87

نفوذ الجماعات المسيحية

وينتشر المنصّرون التوراتيون في معظم أنحاء الولايات المتحدة، في عدة آلاف من الكنائس التي يعملون في كهانتها، عبر مؤسسة الزمالة الدولية لكنائس الكتاب المقدس. ويؤمن أتباع هذه النبوءة، بأنهم شعب نهاية الزمن، وأنهم يعيشون اللحظة التي كتب عليهم فيها تدمير الإنسانية، ويؤكدون قرب نهاية العالم بمعركة الهرمجدّون، التي بشّرت بها التوراة، والتي سيسبقها اندلاع حرب نووية تذهب بأرواح أكثر من 3 مليارات إنسان! وتبدأ شرارتها من جبل الهرمجدون، الذي يبعد مسافة 55 ميلاً عن تل أبيب بمسافة 15 ميلاً من شاطئ البحر المتوسط، وهو المكان الذي أخذ أكبر حيز من اهتمام المسيحيين بعد الجنة والنار! (¬1) نفوذ الجماعات المسيحية أصبح للجماعات المسيحية البروتستانتية المنظمة صوت مسموع بشأن الصراع العربي الإسرائيلي في أمريكا، حتى أنها باتت قوة سياسية قادرة على الوصول إلى الرأي العام، عبر مختلف وسائل الأعلام، كما أنها أصبحت قادرة على توجيه الأصوات الانتخابية، التي لا يستطيع الحزبان الديمقراطي والجمهوري ضبطهما في حملتهما الرئاسيتين، حتى أن أكثر المرشحين لرئاسة الجمهورية الأمريكية أصبحوا مضطرين لحضور اجتماعات هذه الجماعات التي تبلغ 800 ألف هيئة، منها1500 هيئة بارزة وأتباعها يقدمون سنوياً ما يزيد عن 370 مليون دولار أمريكي، على شكل هبات وتبرعات، وتبلغ إعفاءات البريد التي أقرها الكونغرس للجمعيات الدينية 600 مليون دولار سنوياً (¬2). وتحلّل) جريس هالسل) كيف أفرزت هذه الحركة المسيحية أكثر من ألف ومائتي حركة دينية متطرفة، يؤمن أعضاؤها بنبوءة نهاية العالم الموشكة في الهرمجدّون، وترصد سلوك وأفكار هذه الحركات الغريبة، التي دفعت ببعضها إلى القيام بإنتحارات جماعية من أجل التعجيل بعودة المسيح المخلّص وقيام القيامة، ومنها جماعة ¬

(¬1) يد الله ـ تأليف جريس هالسل ـ ترجمة محمد السماك (¬2) شهود يهوه - بين برج المراقبة الأمريكي وقاعة التلموذ اليهودي - تأليف/ حسين عمر حماده - دار قتيبه 1990 - ص25

(كوكلس كلان) العنصرية، والنازيون الجدد، وحليقو الرؤوس، وجماعة (دان كورش) الشهيرة، والتي قاد فيها (كورش) أتباعه، لانتحار جماعي قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) بولاية تكساس من أجل الإسراع بنهاية العالم، وكذلك القس (جونز) الذي قاد انتحارًا جماعيًّا لأتباعه أيضًا في (جواينا) لنفس السبب، وقد كان (ماك تيموثي) الذي دبّر انفجار (أوكلاهوما) الشهير من المنتمين لهذه الجماعات. وتشير الاستفتاءات والمسوح الإحصائية فيما يتعلق بمعركة هرمجيدون إلى أن 39% من الشعب الأمريكي يعتقد بتدمير الأرض بهرمجدون نووية. وأن 61 مليون أمريكي يستمعون بانتظام إلى الوعاظ الذين يؤكدون أنهم لن يستطيعوا عمل شيء لمنع الحرب النووية في حياتنا، بل إن إحدى محطات التلفزيون الأمريكية التابعة لشركة شبكة الإذاعة المسيحية (سى. بى. أن)، والعاملة في جنوب لبنان تقدم أخبارها التلفزيونية من المنظور الهرمجدونى السابق. ومن بين الآلاف الأربعة من الأصوليين الإنجيليين الذين يحضرون سنوياً مؤتمرات الإذاعيين الدينية الوطنية، هناك ما يقارب من ثلاثة آلاف يؤمنون بأن المحرقة النووية هي القادرة فحسب على إعادة المسيح المنتظر إلى الأرض. وتبث هذه القناعة ألف وأربعمائة محطة دينية في أمريكيا. وأن غالبية الآلاف الثمانين من القسيسين، الذين يذيعون في أكثر من أربعمائة محطة إذاعية، هم من المؤمنين بهذه القناعة. كما أن معظم مدارس الإنجيل في الولايات المتحدة الأمريكية، تعلم لاهوت هرمجدون حسب رؤية (ديل كرولى) الابن، وهو قسيس في العاصمة واشنطن. وهناك مائة ألف طالب يدرسون في هذه المدارس الإنجيلية، يؤمنون بهرمجدون، وسيخرجون إلى العالم ويصبحون قساوسة مبشرين بهذه العقيدة. وتشير (غريس هالسل) في كتابها (المبشرون البروتستانت والنية القاتلة) إلى أن الذين يعتقدون بهرمجدون يضمون بين صفوفهم الأغنياء والفقراء والمشهورين والمغمورين، ومنهم بعض أباطرة النفط والغاز وتجار الأسلحة وبارونات صناعة البوظة، وقد أرسل هؤلاء مئات الآلاف من الدولارات لمساعدة الحركات السرية الإرهابية الصهيونية. وتذكر (هالسل) إن الكثيرين من أتباع عقيدة هرمجدون يؤمنون أن "دولة إسرائيل الحديثة وأرض صهيون التوراتية

متطابقتان". وأنه ينبغي تخليص كل (أراضى إسرائيل المقدسة) من النيل إلى الفرات وتمليكها لليهود (¬1). وتضيف (هالسل) إنها لا ترغب بانتقاد بعض الأصوليين المؤمنين بالإنجيل، الذين أسسوا العديد من الجماعات والمشافى الكبيرة والكنائس العديدة، ولكنها تتساءل إن كان في ذهن هؤلاء القوم، وهم يقومون بمثل هذه الإنشاءات الحضارية أية فكرة عن تدمير هذا العالم وتسليمه لليهود بعد ذلك (¬2). ¬

(¬1) يقول بول بوبر في كتابه (عندما يتلاشى الوقت): أن النبوءات الوشيكة الوقوع تتطلب اقتلاع العرب ليس من القدس فقط، إنما من معظم الشرق الأوسط .. لقد وقفوا في طريق الوعود الإلهية لليهود. (¬2) المبشرون البروتستانت، والنية القاتلة- جريس هالسيل- ص 58

الفصل الخامس التراث الذي تركه الكتاب المقدس للشرق الأوسط

الفصل الخامس التراث الذي تركه الكتاب المقدس للشرق الأوسط يمكن للمرء الاستنتاج أن النبوءات الواردة في كتاب الرؤيا، كانت تمثل ـ وقت كتابتهاـ مشاعر فئات من المسيحيين تجاه مضدهديهم، وجلهم من المحرومين والمعدمين والمتذمرين والناقمين والمعادين للسلطة، وحتى القابلين منهم للاشتراك في عمليات تخريب أو عصيان مسلح، وقد ناقض مسيحيون آخرون من أتباع بولس مشاعر هؤلاء، إذ قبلوا كتابات بولس بوجوب الخضوع للسلطات الحاكمة المتجسدة في نيرون نفسه في ذلك الوقت، باعتبار أنه معين من الله، وقد يكون أن بولس كتب مرئياته بغرض تهدئة أتباعه، ولتجنب الاحتكاك مع السلطات الرومانية، ولإعطاء السلطة الانطباع أن المسيحيين مواطنون مسالمون يتقيدون بقوانين السلطة الحاكمه. فمن المعروف أن كتاب الرؤيا تمت كتابتة بعد حريق روما، وقطعاً قبل أن يدمر الرومان القدس في العام 70 م، لان أقصى ما توقعه المؤلف في رأياه ألا يتم تدمير سوى عشر المدينة (رؤيا 11/ 13)، كما تنبأ أيضا أن يبقى معبد القدس سالماً (رؤيا 11/ 1ـ2)، وتلك من جملة نبوءاته التي ثبت خطؤها الفاضح. والملفت للنظر انه رغم الفشل السافر لنبوءات يوحنا عن المجيء الثاني، ونهاية التاريخ، ورغم أن مسيحية بولس ـ المرتكزة على هذه النبوءات ـ لم تكن مقصودة للأجيال القادمة، فقد تمكنت المسيحية من الانتشار ليس فقط في العالم اليوناني ـ الروماني لذلك الحين، بل لأجيال قادمة على مستوى العالم كله تقريباً، والأكثر عجباً أن المسيحية الغربية ـ في شقها البروتستانتي ـ لم تيأس حتى يومنا هذا من تحقق المجيء الثاني (¬1). "والمثير للدهشة في نبوءات المجيء الثاني، ونهاية التاريخ، والمشاعر المترتبة عليها، أنها كانت العامل المؤثر تاريخيا في تكييف مشاعر وسلوك المسيحيين الأصوليين تجاه الشرق الأوسط وسكانه، حيث سوغ هؤلاء الاصوليون لانفسهم ¬

(¬1) المسيحية والاستشراف والإسلام - محمد فاروق الزين ـ ص252

استخدام أبشع الوسائل والأسلحة الفتاكة لتحقيق اهدافهم، بسبب التفسير البشري لسفر الرؤيا الذي عبثت فيه أهواء البشر وفهمهم القاصر، بحيث كان تفسير سفر الرؤيا يتردى من سيئ إلى أسوأ كلما تقدم الزمان وتعاقب على تفسيره مختلف الأشخاص" (¬1). فالملاحظ أن من يعتبرون أنفسهم حجاجا إلى فلسطين، من المسيحيين الأمريكيين الأصوليين، يضعون على صدورهم لوحة صغيره كتب عليها: "نحن نحبك يا إسرائيل، لأن الله يحبك". والواضح أن الوعاظ الأصوليين من آمثال (جيري فالويل) نجحوا في أن يجعلوا من رؤيا يوحنا نوعا من التقديس لإسرائيل، في حين أنها ليست سوى ميثولوجية، عملت على تشويه رسالة المسيح بشكل سافر، والنتيجة البحتة لكل ذلك أن الأصوليين المسيحيين في الغرب جعلا من تقديس إسرائيل ديانة جديدة لهم، تعلو على ديانة المسيح الحقيقية، فقد تعمد الوعاظ الأصوليين، ونجحوا في أن يجعلوا من رؤيا يوحنا وسيلة هائلة لمساعدة إسرائيل، فكان أن تكيفت السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط عموماً ونحو فلسطين خاصة، لدرجة أن جعلت مصير أمريكا مرتبطاً بمصير إسرائيل، وقد قالها (فالويل) بلا مواربة: "لو أهملنا حماية إسرائيل، فلن يكترث بنا الله". وبعبارة مختصره ومبسطه: فإن إسرائيل هي العمود الفقري للعقيدة المسيحية الأصولية، ومن دونها تنهار هذه العقيدة (¬2). وبعد مرور قرابة ألفي عام على رحيل يوحنا، واستنادا إلى رأياه لا يزال المسيحيون الأصوليون في نصف الكرة الغربي، مقتنعين مع أتباعهم، بأن نشوء إسرائيل في فلسطين كان مقدمة حتمية لا بد منها لتحقق المجيء الثاني، ونهاية التاريخ، حيث يمكن تلخيص العقلية المسيحية الأصولية الغربية بإيجاز بالعبارة التالية: لا يمكن للمسيح أن يعود ما لم تكن هنالك إسرائيل يمكنه العودة إليها"، وبعبارة أخرى، لما صارت إسرائيل حقيقة واقعة، فقد بدأ العد التنازلي لنهاية العالم. ¬

(¬1) الصليب والهلال - المؤلف: محمد عارف زكاء الله - الناشر: ذي آذرز، كوالالمبور- الطبعة: الأولى/2004 - الجزيرة نت (¬2) المسيحية والاستشراف والإسلام - محمد فاروق الزين ـ ص259

من هو عدو المسيح (وحش الرؤيا)؟

فالأصوليين المسيحيون في أمريكا، يؤمنون إيماناً شديداً، بأن اليهود هم شعب الله المختار وأن الله تعالى أعطاهم الأرض المقدسة، وأنه تعالى يبارك الذين يباركون اليهود ويلعن الذين يلعنونهم، والأصوليون الغربيون كأجدادهم منذ ألفي عام، لم يداخلهم اليأس إطلاقاً من تحقق نهاية فورية للتاريخ، هذه النهاية التي ستبدأ بمعركة تل مجدو في فلسطين، والمفترض أن تكون المعركة النهائية والفاصلة بين قوى الخير بقيادة المسيح العائد، وبين قوى الشر بقيادة عدو المسيح، وبالطبع سيخرج المسيح من المعركة الرهيبة ظافراً، وبنتيجة هذا النصر الحاسم سوف يقيم مملكة الله على الأرض فعلياً وليس مجازاً، ثم يحكمها بنفسه لمدة ألف عام من مقر قيادته في القدس، ولابد لليهود عندئذ من الإقرار بعيسى مسيحياً لهم، فيتحولون إلى المسيحية، ويشتركون مع المسيح في حكم العالم خلال تلك الألفية السعيدة، التي سيقيد فيها الشيطان ثانية في نهاية الألفية كي يعود لخداع العالم في أركان الأرض الاربعه (¬1). من هو عدو المسيح (وحش الرؤيا)؟ صورة الشخص الشيطاني أو عدو المسيح، تعتبر من الصور النمطية في العقلية الأمريكية الأصولية، حيث ترتبط هذه الصورة بالاعتقاد بان عدو المسيح سيقود قوى الشر في المعركة الأخيرة مترئساً جميع شعوب العالم. وقد قام الأصوليين المسيحيون بإسقاط هذه الصورة على القادة والزعماء الذين يعادونهم. ففي القرن السادس عشر، وصف (مارتن لوثر) و (جون كالفن) مؤسسا الكنيسة البروتستانتية، البابا بأنه عدو المسيح، وفي القرن الحالي، وصف كلا من (هتلر) و (موسولينى) و (ستالين) بأنهم أعداء المسيح. وبعد انتهاء الحرب الباردة، وبروز الاتجاهات الأمريكية باتخاذ الإسلام عدواً بديلاً، أصبح الاعتقاد لدى الأصوليين المسيحيين بأن عدو المسيح لابد أن يكون مسلماً، ويطلقون هذه الصفة على الرئيس العراقي (صدام ¬

(¬1) سفر الرؤيا 20/ 8

حسين) (¬1). "فمنذ صلاح الدين حتى حكم صدام حسين والمسيحيون الأصوليين يرون الزعماء الإسلاميين كمسيح دجال أو على الأقل نظيره" (¬2). أما عن مصدر هذه الفكرة فإننا نجد أن سفر دانيال يتحدث عن عدو المسيح، الذي سيظهر ويسبب الخراب، ويشوه المعبد في القدس، ويتحدث سفر الرؤيا عن وحش يخرج من البحر بسبعة رؤوس وعشرة قرون، سيحكم خلال السنوات السبع للمحنة الكبرى ويقنع الناس، وفي البداية سوف يسيطر على عشرة من الأمم الأوروبية والإتحاد الأوربي والسوق الأوربية المشتركة وحلف ناتو، وكلها تعنى عودة الإمبراطورية الرومانية في العصر الحديث، وسيخرج عدو المسيح من رومانيا، حسب رأى القس كلايد (¬3)، وان له شخصية شيطانية بالمطلق، وهو يهودي حقيقي ـ حسب رأى القس فالويل ـ غير أن الشيطان يساعده، وسوف يطبع علامة على اليد اليمنى، أو على جبين كل شخص، كما جاء في سفر الرؤيا (13، 17ـ18) "فلا يستطيع أحد أن يبيع ويشترى إلا إذا كانت عليه علامة الوحش، أو الرقم الذي يرمز لاسمه! ولابد هنا من الفطنة: فعلى أهل المعرفة أن يحسبوا عدد اسم الوحش. إنه عدد الإنسان، وهو الرقم (ست مئة وستة وستون) " (¬4). ¬

(¬1) ظهرت في الآونة الأخيرة كتابات عديدة حاولت الربط بين صدام حسين وشخصية السفياني الواردة في بعض الأحاديث الضعيفة، حيث استوقفتني كثيراً مثل هذه الكتابات، وبالذات وأنها تتطابق مع ما جاء في التوراة اليهودية وسفر الرؤيا بشأن معركة هرمجيدون. وهذا يعني أن مثل هذه الأقوال ما هي إلا إسرائيليات لا علاقة لها بالدين الإسلامي، حيث استمد كثير من الكتاب مصادره من كتاب الجفر ومن كتب الباطنية وأحاديثهم. يقول الشيخ سلمان بن فهد العودة: هذا الموضوع (موضوع السفياني) لا يصح فيه حديث، وإنما روايات ضعيفة منقطعة خرجها نعيم بن حماد في كتاب الفتن وغيره، والغالب أنها من وضع الأمويين لأغراض سياسية. ويقول عالم آخر: أن أحاديث السفياني كلها ضعيفة، ولا يصح منها شئ، وحتى على فرض صحة شيء منها، فإن تطبيقها على شخص بعينه أمر في غاية الخطورة، وهو من الرجم بالغيب كما حدث في تطبيق أحاديث المهدي على أناس بأعيانهم .. كما أن التشبت بأحاديث الملاحم والفتن بهذه الطريقة هو نوع من الهروب من الواقع وانتظار الفرج بالخوارق وهذا ليس دأب المؤمن الذي يواجه الواقع بالعمل والجد وبذل الأسباب "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها. (¬2) عالم بوش السري/ الديانة والمعتقدات الأعمال و الشبكات الخفية- اريك لوران- ترجمة سوزان قازان - ص93 - ط.1.- بيروت، لبنان دار الخيال، 2003. (¬3) يد الله - جريس هالسيل ص35 (¬4) من الطريف أن وزبر الدفاع الامريكى رامسفيلد، حدد المدة التي تستغرقها الحرب على العراق بستة أيام، أو ستة أسابيع أو ستة اشهر، ولا ندرى لماذا حدد هذا الرقم؟ هل لان العيون الأمريكية ستة على ستة كما يقال بمصطلحات فحص العيون، أم لان العرب لهم علاقة بهذا الرقم منذ حرب حزيران (حرب الأيام الستة)؟ أم تريد الولايات المتحدة تدمير العالم في ستة أيام طباقاً تم تستريح، وذلك حسب النص التوراتي الذي يشير إلى أن الله خلق العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع .. ربما يكون كل ذلك، ولكن الأقرب إلى العقلية الأمريكية الأصولية والتي يمثلها رامسفيلد وعصابته، هو ارتباط هذا الرقم بسفر الرؤيا وما جاء به عن ما يسموه "الوحش" أو "عدو المسيح" والذي يرى أن عدد اسمه هو 666.

التفسير السياسي للتوراة

فعدو المسيح اليهودي حقيقي، ولكنه شرير بالكامل، سوف يسيطر على قادة العالم عندما يضع فيهم أرواحاً شيطانية، فيسيطر بذلك على جيوش العالم دون علم من هؤلاء القادة، وسيموت مئات الملايين من الناس في الحرب الكبيرة، ثم يرسل الله المسيح لكي يذبح عدو المسيح، ثم في ساعة واحدة يدمر الأرض، وبذا يبرهن الله على قوته من خلال انتصار ابنه على الشر! ويقول بعض مفسري الكتاب المقدس من العصور الوسطى ـ إن عدو المسيح يجب أن يكون مسلماً، حيث يرى أصحاب هذه العقيدة أن الله يتوقع عودة اليهود إلى وطنهم، وتلك هي الخطوة الأولى، أن تقوم دولة يهودية، وعلى المسيحيين بعد ذلك أن يبشروا الأمم بعقيدة هرمجيدون بما في ذلك الأمة الصهيونية (¬1) ". التفسير السياسي للتوراة هكذا تخطط الصهيونية لإيقاع العالم في حرب شاملة، وفتنة اسمها (هرمجدون)، وهي مقتلة أسطوريه وصليبيه يحارب فيها العالم المسلمين حرب فناء، وتسيل فيها دماء المسلمين أنهاراً لا تتوقف حتى ينزل المسيح من السماء .. (واليهود يعتقدون أن ما جاء في الماضي لم يكن مسيحاً) وانما المسيح الحق هو ذلك الذي سوف يأتي لنصرتهم كي يتوجهم في آخر الزمان على رأس جميع الأمم .. وبخبث شديد ادخل الصهاينة هذه الأسطورة في التراث المسيحي الأمريكي، وبشكل محدد في وجدان بعض الفرق الإنجيلية، فأصبحت تؤمن بها إيماناً أعمى، وكان (دونالد ريجان) يردد حكاية (هرمجدون) ويؤمن بها، ومثله كثيرون. مما تقدم يتضح لنا أن المشهد الديني في الصراع العربي الصهيوني، هو عامل حاسم في هذا الصراع تكويناً ومساراً، وقد آن الأوان لقراءة هذا المشهد وتحليل وقائعه، وتأثيراته، والتعامل معه، وبخاصة أن مخاطره تتجاوز المسائل اللاهوتية، ¬

(¬1) يد الله ـ جريس هالسيل - ترجمة محمد السماك ـ ص41

الموضوعة شروحها في قوالب عبرانية، كما تتعدى حدود الكنائس إلى مطابقة الفكر والمعتقدات النبوئيه التوراتية على الأحداث السياسية الجارية، المتعلقة بالصراع العربي مع المشروع الصهيوني التوسعي الاستيطاني الإحلالي العنصري، وذلك بإخضاع كل القيم السماوية والأرضية لإمتيازات خاصة بجماعة معينه من البشر، ومن ثم فان هذه المعتقدات المتهودة، هي إنكار لمثل العدل ومحبة الفرد الإنساني الواردة في تعاليم الأديان السماوية (¬1). "وإذا صح القول بأن ما كانت ترمى إليه الحملات الصليبية في العصور الوسطى، هو تنظيم العالم بحسب ما يمليه الكتاب المقدس، فإنه يصح القول أيضاً ـ بأن ـ ما يرمى إليه الصليبيون الجدد في القرن العشرين هو إعادة تنظيم الشرق المتوسطى، بل والعالم، بحسب ما يمليه الكتاب المقدس، بحيث يتوافق مع رؤية اليمين الأصولي المسيحي للنظام العالمي الجديد، الذي وضعته مؤخراً زعيمة الإمبريالية الحديثة ـ الولايات المتحدة الأمريكية" (¬2). يقول (شفيق مقار) في مقدمة كتابه (قراءة سياسية للتوراة): "الدارس للتوراة، بل وللعهد القديم كله، الذي تشكل التوراة أسفاره الخمسة الأولى، لا يمكن أن يغيب عنه انشغال من كتبوا تلك الأسفار بملكية الأرض، ونهب الثروة، وإقامة الملك على أشلاء الشعوب، التي تؤخذ أراضيها وتنهب ثرواتها. والكتاب إذ يحاول أن يستنطق التوراة، فيجعلها تفصح عما فيها من مضامين سياسية، ومطامع إقليمية ظلت تتسع رويداً من تملك كل الأرض من النيل إلى الفرات، فباتت في ختام العهد القديم طموحاً إلى تملك العالم بأسره في ظل حكم صهيون (حاكمة الأمم). الكتاب إذ يحاول ذلك ـ يستظهر مخططات قديمة خطرة (على اليهود كبشر، وعلى العالم بأسره) وأنماط سلوك وأفكار مدمرة بذرت بذورها من أزمنة سحيقة بأيدي ساسة وقادة عسكريين كهان، باسم الدين، وبادعاء أن الله ـ على ما يدعون ـ هو الذي وضعها في أيديهم والزمهم بتسميم تربة العالم بها، ليجنى ثمارها شعب اصطفاه ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية .. أصولها ونشأتها د. يوسف الحسن ـ جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672 (¬2) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجى كنعان ـ ص181ـ183

مصير العرب

لنفسه شعباً أخص دون سائر خلقه" (¬1). وهذه الرغبة في السيطرة على الأرض التي سطرها حاخامات اليهود في توراتهم، ليست ببعيدة عما يخطط له الصهاينة في العصر الحاضر، بل لا نجاوز الصواب إذا قلنا أن كل من يريد فهم ما يرجى وما يراد بالمنطقة، لا بد أن يطلع بداية على ما حوته التوراة من خطط قديمة لشعوب المنطقة، ودعونا نقارن المخططات المعاصرة بما حوته التوراة اليهودية. مصير العرب يدرك اليهود والأصوليين الأمريكيون أن البحر البشرى الضخم الذي يفترش الأرض التي لم تنتقل ملكيتها بعد لليهود، هم العرب والمسلمون .. كما يعرفون أن يهوه أمر منذ زمن ارميا: "بهلاك كل ممالك الأرض التي على وجه الأرض "وحدد بالاسم ... كل ملوك العرب وكل ملوك اللفيف الساكنين في البرية" (ارميا 25:24ـ26). مصير مصر كشفت مقالة نشرتها مجلة كيفونيم (توجهات)، التي تصدرها (المنظمة الصهيونية العالمية) في القدس، عن خطط إسرائيل الاستراتيجية في عقد الثمانينات وما بعدها، تجاه المنطقة العربية، ومما جاء فيها بشأن مصر: "لقد غدت مصر، باعتبارها كياناً مركزياً، مجرد جثة هامدة، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار المواجهات التي تزداد حدة بين المسلمين والمسيحيين. وينبغي أن يكون تقسيم مصر إلى دويلات منفصلة جغرافياً هو هدفنا السياسي على الجبهة الغربية خلال سنوات التسعينات. وبمجرد أن تتفكك أوصال مصر وتتلاشى سلطتها المركزية، فسوف تتفكك بالمثل بلدان أخرى، مثل ليبيا والسودان وغيرهما من البلدان الأبعد ... ومن تم فإن تشكيل دولة قبطية في صعيد مصر، بالإضافة إلى كيانات إقليمية ¬

(¬1) قراءة سياسية للثوراة - شفيق مقار - ص9ـ10

نبوءة بشأن مصر

أصغر وأقل أهمية، من شأنه أن يفتح الباب لتطور تاريخي لا مناص من تحقيقه على المدى البعيد، وان كانت معاهدة السلام قد أعاقته في الوقت الراهن" (¬1). وهنا نرى أن توقيع مصر لاتفاقية السلام مع إسرائيل لم تشفع لها وتستثنيها من مخططات اليهود والصهاينة المسيحيون، الذين يدركون أن هذه الاتفاقية ليست إلا فتره للهدنة، ليتمكنوا خلالها من الانقضاض على الدول العربية دولة بسبب عزل مصر عن محيطها العربي، باعتبارها تشكل مركز الثقل في المواجهة، ليأتي حسابها الكبير بعد ذلك تنفيذاً لأوامر التوراة اليهودية للانتقام من المصريين، الذين اضطهدوا اليهود وأخرجوهم من مصر. هذه هي خطط الصهيونية الاستراتيجية تجاه مصر والسودان وليبيا، والتي تبدو كتطبيق حرفي لما ورد في التوراة في مواضع كثيرة، وتعالوا نقارن .. نبوءة بشأن مصر احتلت مصر مكاناً مركزياً في التفكير اليهودي، لاسباب متعددة منها الحضاري والسياسي والدينى، حيث كانت الحضارة المصرية القديمه من اعرق الحضارات التى ظل بنو اسرائيل يحسدونها على ما وصلت اليه من ازدهار وقوه انعكس على نفوذها وسلطانها في المنطقة كلها، بينما كان اليهود مجرد قبائل رحل لا دور حضاري لهم. يضاف إلى ذلك ان مصر شهدت نزوح اليهود اليها، ثم خروجهم من ارض مصر بقيادة النبي موسى، وتيههم "في الأزمنة الأخيرة لإسرائيل، زمن أنبياء ارميا واشعيا، وقبل زمن من تدمير الهيكل على يد طيطس الروماني وتشتيتهم في بقاع العالم، وقف أنبياء إسرائيل على عتبات النهاية، يتنبأون بعودة المجد السليماني، وقيام دولة إسرائيل مره أخرى، وأنها حينذاك ستسود العالم، لكن قيامها كان يشترط أولاً وأخيراً خراباً تاماً لمصر وإذلالاً لها، وهو ما يفصح عن التكوين النفسي والعقلي ومدى التشوه، الذي لحق بنفوس القوم تجاه مصر" (¬2). ¬

(¬1) مجلة كيفونيم، القدس، العدد 14 فبراير 1982ص49ـ59 نقلا عن كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية- روجيه جارودى ص271 - تقديم محمد حسنين هيكل - دار الشروق- ط1 1998 (¬2) رب الزمان - سيد محمود القمني - ص 44

"فاليهود لم تستند على أعتاب صدورهم أو تطرق أبواب نفوسهم القيم الإنسانية، والفضائل الخلقية، كإطعام الجائع، وإعطاء المحتاج، وحماية الخائف، التي كان المصري القديم يقدسها معتقداً أنها الأساس في حياته، وفي مماته أيضاً. وعلى النقيض كان بنو إسرائيل في الأخلاق والسلوك. فقد عبروا عن محبتهم وحسن معاملتهم بطوفان من الحقد العنصري المرير، واغرقوا به المصريين الذين فتحوا لهم قلوبهم بمحبة وأبوابهم بالكرم، واسكنوا الرعاة الجياع في أرضهم الخيرة المعطاء، وقابلوا هذه المعاملة الحسنة بسلوك فريد من الحيل والدهاء والمكر والحقد والغدر. فمن جهة استغلوا ثقة المصريين وطيب قلوبهم وكرم ضيافتهم ونقاء سرائرهم وصفاء نواياهم، وائتمروا ليلة عزموا على الخروج من مصر أن "يطلب كل رجل من صاحبه، وكل إمرأة من صاحبتها أمتعة فضه وأمتعة ذهب ... ليكون حين تمضون أنكم لا تمضون فارغين" (سفر الخروج)، كما قال لهم اللههم. ومن جهة أخرى رموا أو رمى إلههم مصر بتلك الضربات الرهيبة، التي يقشعر لهولها الضمير، ويذهل لحقدها الفكر، وتشحب بجوارها أفظع قصص الرعب" (¬1). ويعبر يهوه الرب عن حقده اللاهب على مصر بكلمات يصغر عما فيها من صور حاقدة شائنة ملتاثه، كل ما في الدنيا من كلمات البذاءة والتوقح والذم والتحقير. يقول اشعياء: "ها هو الرب قادم إلى مصر يركب سحابة سريعة (¬2)، فترتجف أوثان مصر في حضرته، وتذوب قلوب المصريين في داخلهم. وأثير مصريين على مصريون فيتحاربون، ويقوم الواحد على أخيه، والمدينة على المدينة والمملكة على المملكة، فتذوب أرواح المصريين في داخلهم، وأبطل مشورتهم، فيسألون الأوثان والسحرة وأصحاب التوابع والعرافين. وأسلط على المصريين مولى قاس، فيسود ملك عنيف عليهم. هذا ما يقوله الرب القدير. وتنضب مياه النيل، وتجف الأحواض وتيبس. تنتن القنوات، وتتناقص تفرعات النيل وتجف، ويتلف القصب والأسل. وتذبل النباتات على ضفاف نهر النيل والحقول والمزروعات كلها تجف، وكأنها لم ¬

(¬1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص148 (¬2) يفسر بعض المسيحيون قوله في إنذار مصر: (هو ذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر) أن المسيح ـ الذي هو الرب ـ قد وصل إلى مصر وهو طفل يرضع على سحابة. راجع عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ احمد حجازي السقا ص222

تكن مخضرة. فيئن الصيادون وطارحو الشصوص في النيل وينوحون ويتحسر الذين يلقون شباكهم في المياه. ويتولى اليأس قلوب الذين يصنعون الكتان الممشط، ويفقد حائكو الكتان الفاخر كل أمل. ويسحق الرجال، أعمدة الأرض، ويكتئب كل عامل أجير". ويضيف اشعياء فيقول: "رؤساء صوعن حمقى، ومشورات فرعون غبية. كيف تقولون لفرعون نحن من نسل حكماء، وأبناء ملوك قدامى؟ أين حكماؤك يا فرعون ليطلعوك على ما قضى به الرب القدير على مصر؟ قد حمق رؤساء صوعن وانخدع أمراء نوف وأضل مصر شرفاء قبائلها. جعل الرب فيها روح فوضى، فأضلوا مصر في كل تصرفاتها، حتى ترنحت كترنح السكران في قيئه. فلم يبق لعظمائها أو أدنيائها ما يفعلونه فيها. في ذلك اليوم يرتعد المصريون كالنساء خوفاً من يد الرب القدير، التي يهزها فوقهم. وتغدو أرض يهودا مثار رعب للمصريين، فيعتريها الفزع من ذكرها، لأن الرب القدير قد قضى قضاءه على مصر" (اشعياء 19، 1ـ17). ثم يؤنب اشعيا بني جلدته الذين يلجأون إلى مصر وفيئها في الملمات، ويقول: "ويل للبنين المتمردين .. الذين يذهبون إلى مصر للمعونة .. ليلتجئوا إلى حصن فرعون، ويحتمون بظل مصر، فيصير لكم حص فرعون خجلاً، والاحتماء بظل مصر عاراً" (سفر اشعيا الإصحاح 30). ويقول يهوه بلسان حزقيال: "هأنذا عليك يا فرعون ملك مصر، فاجعل حذائي في فكيك، أتركك في البرية، بذلتك طعاماً لوحوش البر ولطيور السماء. هاأنذا اجلب عليك سيفاً واستأصل منك الإنسان والحيوان وتكون ارض مصر مقفرة خربة واجعل أرض مصر خرباً خربة مقفرة، لا تمر فيها رجل إنسان ولا رجل بهيمة أشتت المصريين بين الأمم وأبددهم في الأراضي" (¬1). أما ارميا فقد وقف يعبر عن مكنون كل إسرائيلي تجاه مصر (¬2) في قوله: "اخبروا مصر، واسمعوا في مجدل، واسمعوا في نوف (منف) وفي تحفنيس، قولوا انتصب وتهيأ الآن، لأن السيف يأكل حواليك .. ¬

(¬1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص144 (¬2) رب الزمان - سيد محمود القمني - ص 45

نادوا هناك فرعون ملك مصر هالك .. نوف تصير خربة وتحرق فلا ساكن .. هاأنذا أعاقب آمون نوف وفرعون مصر وآلهتها والمتوكلين عليه" (سفر ارميا الإصحاح 46). هذا هو مصير مصر كما تريده التوراة اليهودية الحاقدة، وغيره الكثير الذي يعمل الصليبيون الجدد على إخراجه إلى ارض الواقع، والذي لا يقل عما جاء بحق بابل وآشور والفلسطينيين، لأن مصر احتلت مكاناً خاصاً ورئيساً في الفكر اليهودي، وذكريات الخروج من مصر والتيه في سيناء ... الخ، سجلها اليهود في ثوراتهم الحاقدة، وتوعدوا المصريين بالدمار والقتل وكل أصناف الويلات كما جاء في النص السابق. فمن الحرب الأهلية وتقسيم مصر .. إلى أبطال المشورة وتسليط ملك قاس على المصريين، بل يصل الحقد اليهودي على مصر إلى حد تمنى جفاف مياه النيل وتلف الضرع والزرع. واعتقد أنه ليس صدفة أن تتطابق هذه الرؤية التوراتية مع ما جاء في التقرير السالف الذكر، وما يخطط لمصر على أرض الواقع. فالمحاولات الإسرائيلية الأمريكية لخلق فتنة طائفية في مصر على أشدها، .. وإسرائيل وصلت إلى بوابة البحر الأحمر في جزيرتي حنيش الكبرى والصغرى، وهي تثبت أقدامها في أعالي النيل ومنطقة البحيرات. وفي المستقبل القريب سوف يدور الصراع حول المياه .. والنيل والبحيرات هي المخزن الاستراتيجي الهائل لمصر وللأمة العربية، وقد بدأت أولى فصول المؤامرة على مياه النيل بإعلان بعض الدول الأفريقية رغبتها في إعادة النظر في توزيع حصص مياه النيل، حيث ستكون مصر والسودان من اكبر المتضررين من ذلك. وفي نفس السياق يتم تهديد الحدود الجنوبية لمصر وهى السودان، من خلال ما يحدث في الجنوب، وفي الشرق في دارفور وأريتريا، حيث الأيادي الصهيونية الأمريكية واضحة في كل ما يحدث هناك من مؤامرة كبرى ليس على السودان فقط، بل على مصر أيضاً وعلى الأمة بأكملها. وكان المفروض أن تفيق الأمة وان تتقارب وتتوحد، ولكنا نقرأ العكس، (اسياس افورتي) يفتح معسكرات تدريب لجون قرنق

دينونة مصر بيد ملك بابل

ولجيش المعارضة، الذي يعده الصادق المهدي (¬1)، ونحن نحارب بعضنا بعضاً، بل وتقف بعض الدول العربية موقف المتفرج من التمرد المدعوم إسرائيلياً وأمريكياً في الجنوب، بل وتستقبل قادة التمرد وتعقد المفاوضات معهم. وهنا لابد أن نشير إلى أن توقيع مصر لاتفاقية السلام، وتعاون قيادتها التام مع أمريكا في مجالات عديدة لن يشفع لمصر، وسيأتي اليوم الذي سينقلب فيه أصدقاء اليوم إلى أعداء، كما حدث مع كثير من الدول قديماً وحديثاً، والمسألة ليست إلا استفراد بالدول العربية واحدة تلو الأخرى، ولكن المصير واحد كما حددته التوراة الحاقدة، بل أن أحقاد اليهود ومؤامراتهم، وصلت إلى درجه تمنى أن يتم ضرب الدول العربية بعضها ببعض كما حدث في العراق. دينونة مصر بيد ملك بابل لم يبخل النبي حزقيال على مصر، وهو يوجه كلام الرب الإسرائيلي إلى الفرعون المقبل حيث يقول: "وأوحى إلي الرب بكلمته قائلاً: يا ابن آدم، تنبأ وقل: هذا ما يعلنه السيد الرب: ولولوا قائلين: يا لليوم الرهيب! إن يوم الرب بات وشيكاً، يوم الرب قريب، إنه يوم مكفهر بالغيوم، ساعة دينونة للأمم، إذ يجرد سيف على مصر، فيعم الذعر الشديد أثيوبيا، عندما يتهاوى قتلى مصر، ويستولى على ثروتها، وتنقض أسسها. ثم تسقط معهم بالسيف أثيوبيا وفوط ولود وشبه الجزيرة العربية وليبيا وشعوب الأرض المتحالفة معهم. حقاً يسقط مناصر مصر، وتذل كبرياء عزتها، فيتهاوى بالسيف سكانها من مجدل إلى أسوان، يقول السيد الرب. فتصبح أكثر الأراضي المقفرة وحشة، وتضحي مدنها أكثر المدن خراباً! فيدركون إني أنا الرب حين أضرم ناراً في مصر، وينهار جميع حلفائها. في ذلك اليوم يسرع رسلي إلى أثيوبيا المطمئنة ليثيروا فيها الرعب في يوم هلاك مصر، الذي لابد أن يتحقق. لأني سأفني جماهير مصر بيد نبوخذ نصر ملك بابل. إذ يقبل هو وجيشه، أعتي جيوش الأمم، لخراب ديار مصر، فيجردون عليها سيوفهم، ويملأون أرضها بالقتلى. واجفف مجاري نهر النيل، وأبيع الأرض لقوم أشرار، وأخرب البلاد فيها بيد غرباء. أنا ¬

(¬1) إسرائيل البداية والنهاية ـ د. مصطفى محمود ص35

الرب قضيت. تم أحطم الأصنام وأزيل الأوثان من ممفيس، ولا يبقى بعد رئيس في ديار مصر، والقي فيها الرعب. وأخرب فتروس، وأضرم ناراً في صوعن، وأنفذ إحكاما في طيبة. وأصب غضبي على سين حصن مصر، وأبيد أهل طيبة. وأضرم ناراً في مصر، فتقاسي سين أشد الألم، وتتمزق طيبة شر تمزيق، وتتعرض ممفيس للرعب في كل يوم. ويتساقط بالسيف شبان آون فيبسته، ويسبى بقية سكانها. ويظلم النهار في تحفنحيس، عندما أحطم أنيار مصر هناك، وتتلاشى كبرياء عزتها. أما هي فتغشاها سحابة وتسبى بناتها. وهكذا أنفذ أحكاماً في مصر، فيدركون أني أنا الرب" (¬1). فهذا الحقد الذي صبه حزيقيال على مصر ليس إلا جزء يسير مما امتلأت به التوراة اليهودية الحاقدة، والتي يسعى اليهود والأصوليين المسيحيون إلى إخراجها إلى أرض الواقع، حيث أن أهم ما في النص التوراتي السابق هو إشارته إلى أن دمار مصر سيكون على يد ملك بابل، أي العراق. وبالطبع هذا الأمر ليس مستبعداً في ظل الوضع الحالي في العراق، والتي وصلت فيه حكومة عميله للاحتلال لسدة الحكم، مستعدة لعمل أي شيء، حيث لاحظنا محاولاتها المستمرة للتمحك بسوريا كمقدمه لجرها لحرب لتدميرها حسب الأجندة الصهيونية. كما أن موقف القيادة المصرية، التي يعتبره كثير من العراقيين والعرب، بأنه كان متآمراً بصورة فاضحة مع الأمريكان منذ بداية غزو الكويت، وحتى احتلال بغداد، يمكن أن يسهل حدوث مثل هذا الأمر مادام الجميع يتم توجيههم في النهاية من واشنطن وتل أبيب لتطبيق السيناريو التوراتي المعد مسبقاً بغض النظر عن كل اتفاقيات السلام التي وقعت مع بعض الحكومات العربية، والتي سيكون مصيرها كمصير اتفاقية غزه أريحا، والتي ضربت بها إسرائيل وأمريكا عرض الحائط، لأن التوراة منذ البداية حددت مصير أريحا المدينة الملعونة، كما جاء على لسان السفاح يوشع: "ملعون الرجل الذي يبنى هذه المدينة، وليفقد بكره حينما يضع أساسها ويفقد أبناءه عندما يضع أبوابها .. فهي المدينة الملعونة "أريحا" لا تسكنوها " (¬2). ¬

(¬1) سفر حزقيال - 30 (¬2) سفر يوشع الإصحاح 6/ 26

إلى هذا الحد يصل التطابق بين النصوص التوراتية، والممارسات على ارض الواقع، وربما هذا ما كشفه احد القادة الصهاينة، عندما قال: أننا نطبق على العرب بروتوكولاتنا حرفياً .. فعقولهم بأيدينا ... لأن غزونا الثقافي لهم أهم من غزونا العسكري ... ولن يأتي عام 2000م، حتى تكون المنطقة مهيأة لمليكنا المنتظر" (¬1). فنحن أمام دولة غادرة معتدية لا ذمة لها ولا عهد ولا ميثاق. لقد مزقت ميثاق مدريد واتفاق اوسلو، وهجمت بجرافاتها على أسوار القدس، وهي تمارس البلطجة في حماية الراعي الأمريكي رئيس الكون .. فماذا يمنعها من خرق كامب ديفيد واكتساح سيناء؟ (¬2). فالرؤية الإسرائيلية للعملية السلمية عبر عنها أحد الجنرالات الإسرائيليين، باعتبارها جزءا من الحرب ليس إلا. فهذا الجنرال يقول لمراسل صحيفة بوسطن غلوب الأميركية " ... بهذه الطريقة نقلب منطق (كلاوس فيتز) رأساً على عقب, حيث نجعل من الدبلوماسية حرباً لكن بوسائل أخرى". هذا هو جوهر الرؤية الإسرائيلية لـ "العملية السلمية"، فهي عملية استثمار في الوقت لإتاحة المجال للإستراتيجيات الحربية والعسكرية، لأن تكرس نفسها وتستمر في إذلال الآخرين (¬3). هذا هو توهمهم .. ومن أجله يعملون .. وعنه لا يحيدون مهما كانت الحوائل والعقبات .. ولذا فإن مناداتهم بالسلام لا تكف عن النعيق .. إنه في نظرهم سلام .. ولكنه السلام المشوب بالحذر والترقب .. السلام الذي لا يعطل لهم عملاً، ولا يوقف لهم خطة، ولا يؤثر في مشاريع التوسع .. وهم ينطلقون في هذا من قاعدة عريضة هي قاعدة (أحلام اليقظة) في عالم ملئ بالمتناقضات، يحكمه المنجمون والعرافون، وتحدد مساره نبوءات بنى صهيون التي دفعت اليهود إلى التعجيل باتفاقية غزة أريحا أولاً" (¬4). ¬

(¬1) جريدة يدعوت احرنوت الإسرائيلية 1968 (¬2) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص113 (¬3) الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين المؤلف: نصير عاروري الطبعة: الأولى 2003ـ كامبردج بوك ريفيوز (¬4) اريحا المدينة الملعونة -ماذا يخطط اليهود لفلسطين حتى عام 2000؟ من محمد عزت محمد عارف- ص33 - دار الاعتصام, 1994

ريجان وليبيا

ريجان وليبيا في ضروب الهذيان التي امتلأت بها أدمغة المتنبئين والعرافين اليهود، واكتظت بنتائجها صفحات العهد القديم، كان هذيان عن "لهابيم" (ليبيا الآن)، وكيف أن لهابيم هذه من الأمم الكثيرة التي ستزحف جيوشها على أورشليم المدينة المحبوبة، وعلى أرض إسرائيل أمة القديسين (¬1). وهنا يروى (جيمس ملز) الذي كان رئيساً لمجلس شيوخ ولاية كاليفورنيا ـ ضمن مقالة نشرتها له مجلة (سان رييجو ماجازين) في أغسطس 1985م: أن ريجان سأله أثناء مأدبة حضرها، عما إذا كان قد قرأ الفصلين (38، 39) من (حزقيال)، فأكد ملز لريجان أنه قد قرأ بالفعل، وناقش فقرات حزقيال التي تتحدث عن يأجوج ومأجوج، وعندئذ تحدث ريجان بحرارة عن تحول ليبيا إلى الشيوعية!! وأصر على أن هذا علامة تدل على أن يوم معركة مجدو ليس ببعيد، "لأن تحول هذه الدولة إلى الشيوعية يجعلها من القوى الشريرة، التي ستنضم مع الجيش الشرقي الكبير ضد إسرائيل". ثم قام (ملز) بتذكير ريجان بأن حزقيال قال أيضاً: "إن الحبشة ستكون بين القوى الشريرة، فقال ريجان: "إنني أوافق أن كل شيء لم يأخذ مكانه بعد، ولكن لم يبقَ إلا حدوث هذا الشيء فقط، إذ يجب أن يسيطر الحمر على أثيوبيا! " وعندما قال ملز: "إنه لا يعتقد أن هذا أمر مرجح"، قال ريجان: "اعتقد بأن هذا أمر لا مفر منه، إنه ضروري لتحقيق النبوءة القائلة بأن أثيوبيا ستكون من الأمم الكافرة التي ستقف ضد إسرائيل" (¬2). وبالطبع فإنه من المستحيل إثبات العلاقة بين المعتقدات المعلنة من هذا النوع، وبين عمل قد يقدم عليه الرئيس باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة. فالكثير من الناس لديهم معتقدات دينية ليس لها تأثير واضح على أعمالهم الرسمية، ولكن يبدو أن هذا لا ينطبق على الرئيس الممثل (رونالد ريغان)، فمنذ عام ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص386 (¬2) النبوءة والسياسة - جريس هالسيل ص48

1986م والجماهيرية الليبية تعتبر العدو الدولي الأول بالنسبة لريغن. ولكن هل كان لذلك التصور علاقة بتفسير ريغان لنبوءات التوراة؟. حسب رواية (جيمس ميلز)، فإن ريغن كان يكره الجماهيرية الليبية باعتبارها أحد أعداء (إسرائيل) الذين تذكرهم النبوءة، وبالتالي فإنها عدوة يهوه. ويذكر جيمس ميلز في عدد آب 1985م من مجلة (سان رييجو) أنه في حفل عشاء أقيم عام 1971م ساكرامنتو ـ كاليفورنيا على شرف ريغن حاكم الولاية آنذاك، بدأ ريغن فجأة بالتحدث مع جيمس ميلز الجالس بجانبه حول نبوءة الكتاب المقدس، وحتمية الحرب ضد الاتحاد السوفيتي، (الذي يمثل يأجوج ومأجوج في الكتاب) في حرب عظيمة مدمرة نسبة إلى هرمجدون. ويذكر (جيمس ملز) أن (ريغن) قال له بحدة: إن الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر حزقيال ينص على أن أرض إسرائيل ستتعرض للهجوم على يد جيوش الأمم الكافرة، وعلى أن ليبيا ستكون بين هذه الدول، وتابع ريغن هل تفهم ذلك؟ إن ليبيا الآن شيوعية، وهذا دليل على أن يوم هرمجدون ليس ببعيد. ويبدو أن ريغن بقى متمسكاً بمثل هذه القناعة حتى عام 1986م" (¬1). وهنا يتضح أنه عندما ضرب ريجان ليبيا عام 1986م بحجة تفجير (كباريه) أمريكي في ألمانيا، كان الهدف الوحيد هو إضعاف ليبيا قبل دخولها المعركة ضد إسرائيل، التي سيقودها المسيح، حيث تدلل حالة الرئيس العصبية الحرجة أيام رئاسته للولايات المتحدة الأمريكية، وما أمر به من قصف للأحياء في الجماهيرية الليبية، وما استخدمه من أسلحة أمريكية متطورة في لبنان عن طريق قوات الغزو الصهيوني العنصري، على همجية محاولات الاختبار (الهرمجدونية) التي كان يعتقد بها (ريغن). وكيف أن هذه المحاولات المدمرة قد باءت بالفشل، وانتهت بالبوار والخسران؟!. "ففى حالة ليبيا، عندما تسلط حزاذ حزقيال على رأس المستر ريجان، كان المطلب الرئيس لإطلاق الكراهية من عقالها متوفراً، وهو كون ليبيا (ايراب)، أي عرب. أما المبرر الأخلاقي، أي الشرارة المشعلة لفتيل تفجير الكراهية فكان الإرهاب. ¬

(¬1) النبوءة والسياسة - ص18

تقسيم لبنان

بطبيعة الحال، لم يقف (ريغان) ليقول للعالم انه كره ليبيا، لأنها (عدوة الله)، ومن الأمم التي رأى حزيقيال أنها ستزحف بجيوشها المتحالفة مع جوج ومأجوج لتحارب إسرائيل أو معركة هرمجيدون، لا لشئ إلا لان خبراء وزارة الخارجية الأمريكية أوعزوا إلى من كان لهم تأثير عليه أن يقنعوه بالا يقول ذلك. ولذا استعيض عن حكاية هرمجيدون بمسألة الإرهاب. فذلك مبرر سامق ومقبول دولياً بما فيه الكفاية، ويصلح كساتر جيد لعملية اغتيال أمه تحت غطاء الدفاع عن الحضارة كما نعرفها، وإعلاء حكم القانون الدولي، في غمار توجيه ضربه وقائية إلى أمه اعتقد رئيس الولايات المتحدة إنها ستكون من الأمم (التي كرمل البحر) التي ستسير في صفوف يأجوج ومأجوج، أو يوم الهول الكوني لتحارب إسرائيل" (¬1). تقسيم لبنان إذا كان هذا هو ما تخبأه التوراة لمصر وليبيا، والتي يسارع الأصوليين المسيحيون وصناع القرار في أمريكيا إلى أخرجه إلى أرض الواقع، فإن نصيب لبنان في هذا المجال لا يقل عن ذلك، حيث يتوعد التقرير السالف الذكر لبنان بالقول: "بالرغم مما يبدو في الظاهر، فإن المشكلات في الجبهة الغربية أقل من مثيلتها في الجبهة الشرقية. وتعد تجزئة لبنان إلى خمس دويلات .. بمثابة نموذج لما سيحدث في العالم العربي بأسره" (¬2). أما لماذا وكيف؟ .. فقد أجاب الغزو الصهيوني الأمريكي الهمجي، المتكرر على لبنان، ومحاولات تقسيمه إلى دول طائفية، علي هذا السؤال منذ فتره، والجميع يعرف قصة هذا الغزو الإجرامي واندحاره علي يد المقاومة اللبنانية البطلة. أما لماذا؟ فكما قلنا سابقاً فلنبحث في ثنايا التوراة اليهودية الحاقدة ... ¬

(¬1) المسيحية والتوراة شفيق مقار ص390 (¬2) مجلة كيفونيم، القدس، العدد 14فبراير 1982ص49ـ59 نقلا عن كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية- روجيه جارودي ص271.

نبوءة ضد صور

نبوءة ضد صور يقول أشيعياء: "ولولي يا سفن ترشيش، لأن صور قد هدمت، فلم يبقَ بيت ولا مرفأ. تماماً كما بلغكم النبأ وأنتم في أرض قبرص. ... وعندما يذيع النبأ في مصر، يتوجعون لأخبار صور. أعبروا إلى ترشيش، انتحبوا يا أهل الساحل، هذه مدينتكم المبتهجة التي نشأت منذ القدم، والتي تنقلها قدماها للتغرب في أرض بعيدة؟. من قضى بهذا على صور واهبة التيجان، التي تجارها أمراء ومكتسبوها شرفاء الأرض؟ إن الرب القدير هو الذي قضى بذلك، ليحط من كبرياء كل مجد، وليذل كل شرفاء الأرض. أمخرى عباب البحر يا ابنة ترشيش كما يخترق النيل أرض مصر، إذ زال مرفاك من الوجود. بسط الرب يده على البحر، وزعزع ممالك، أصدر أمره على كنعان كي تدمر حصونها، وقال: "لن تعودي تعربدين أيتها العذراء، التي فقدت شرفها، يا بنة صيدون هبي واعبري إلى قبرص، ولكنك لن تجدي هناك راحة". "تأملي في أرض الكلدانيين وانظري إلى شعبها، فهم وليس الأشوريون الذين سيجعلون صوراً مرتعاً للوحوش، وسينصبون حولها أبراجهم، ويمسحون قصورها على وجه الأرض، ويحولونها إلى خراب. انتحبي يا سفن ترشيش، لأن حصونك قد تهدمت". "في ذلك اليوم تظل صور منسية طوال سبعين سنة، كحقبة حياة ملك واحد، وفي نهاية السبعين سنة يصيب صور مثل ما جاء في أغنية العاهرة: "خذي عوداً وطوفي في المدينة أيتها العاهرة المنسية. أتقني العزف على العود وأكثري الغناء لعلك تذكرين". وفي نهاية السبعين سنة يفتقد الرب صور، فترجع إلى عهدها، وتزني مع كل ممالك الأرض. أما تجارتها وأجرتها فتصبح قدساً للرب. لا تخزن ولا تدخر، لأن تجارتها توفر غذاء وفيراً، وثياباً فاخرة للساكنين أمام الرب" (اشعياء 23، 1ـ18). أما لماذا كل هذا الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام التي صبتها التوراة على صور؟ فتجيب التوراة علي ذلك .. لأن صور الشريرة، "قالت على أورشليم هه قد انكسرت، ومصاريع الشعوب قد تحولت إلى. امتلئ إذا خربت (هي) ". (حزقيال 26: 1ـ2). وبطبيعة الحال لم تقل صور ذلك لأحد وبخاصة لحزيقيال القاعد هناك عند

غزو لبنان مستمد من التوراة

نهر الخابور، لكن يهوه قرأ طبعاً ما دار في خلد صور .. وقرر انه سينتقم من صور انتقاماً رهيباً لشماتتها في أورشليم. والذي حدث هو أن صور لكونها مدينه ساحليه حصينة ظلت بمنجاة عن الاجتياح والاستسلام لغزوات البابليين والآشوريين .. ولهذا كانت صور مصدر حسد لازدهار تجارتها وثرائها. ولهذا قرر حزيقيال أن يهوه سيخرب صور، ويمرغ أنفها في الرغام: لأنه هكذا قال الرب يهوه: "حين أصيرك يا صور مدينة خربة كالمدن غير المسكونة .. وأجلسك في أسافل الأرض أو الخرب الأبدية مع الهابطين في الجب لتكوني غير مسكونة .. أصيرك أهوالاً ولا تكونين، وتطلبين فلا توجدين بعد إلى الأبد يقول الرب يهوه" (حزقيال26:19ـ21). فقد تفجرت كل ضروب الحسد والإحباط والغيظ في دماغ حزقيال وتدفقت كالحمم البركانية لتصب صنوف النقمة وضروب المقت لكل من كانت له يد في رخاء الجار المحسود صور. فالمسألة ضلت باستمرار، مسألة أحقاد واشتهاء، وكراهيات وجشع، صيغت كلها صياغات إلهية، وأضيفت عليها قداسة ظلت نابية لما أغرقت فيه من دنيويات وشراهات إنسانية. ولكن تلك الإلهيات تكتسب، بمرور الزمن، قداسة كثيفة .. وعندما تصل إلى الأجيال اللاحقة، عبر موصل إنسان آخر من موصلات القداسة، تصبح ذات فعل مدمر بحق" (¬1). غزو لبنان مستمد من التوراة إن ضراوة التنبؤات التي صبتها التوراة على صور، يأخذها الأصوليين المسيحيون علي محمل الجد، ويفعلون كل ما بوسعهم لإخراجها إلي أرض الواقع. ففي عام 1983م نظم المبشر (جيرى فالويل) رحلة إلى فلسطين، لإطلاع المسيحيين على الأماكن المقدسة هناك، وخصوصاً الأماكن اليهودية التي تتعلق بالعقائد التوراتية، وهناك نظم لقاءات مع قادة سياسيين ودينيين في إسرائيل، ونظم لهم لقاء مع (موشى أرينز) وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، (وهو كان في السابق سفيراً لإسرائيل في أمريكيا، وولد في أمريكيا)، وحدثهم (أرينز) في ذلك اللقاء فقال: "إن غزو لبنان 1982 كانت بإرادة إلهية، فهي حرب مقدسة، مستمدة من العهد القديم، وهذا يؤكد ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص298 ـ 299.

النبوءة، إذ أن هذا الغزو يمكن أن يعنى أن معركة مجدو قد اقتربت". وحينها أصدر الأصوليين بيانا قالوا فيه: "أن معارضي الغزو لا ساميون (السيف المسلط على أي صوت حر)، وأن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها، وعن شعبها، بالوسائل التي تراها مناسبة، واتصل (فولويل) الأصولي بمناحيم بيجن وقال له مبروك على النصر الذي جعلنا فخورين بإنتاج الطائرة أف -16 (التي قتلت ألوف الفلسطينيين واللبنانيين وفيهم المسيحيون) " (¬1). وفي حزيران / يونيه 1982م وبعد ثلاثة أيام من بدء الغزو الصهيوني العنصري لأراضي لبنان العربية، شرح (بات روبرتسون) الذي يستضيف عرضاً كلامياً يومياً لمدة تسعين دقيقة من خلال برنامجه التلفزيوني بنادي السبعمائة، والذي يصل إلى أكثر من 16 مليون عائلة، أي إلى 19% من مجموع المشاهدين الأمريكيين شرح أهوال معركة هرمجدون الوشيكة، حتى أنه أعاد النبوءة التي أعلنها في كانون الثاني/ يناير 1982م، والتي أكد فيها أن حساب العالم سيحل في خريف 1982م، وأن القضاء النهائي سيحل بالاتحاد السوفيتي. لأنهم سيقومون بمغامرات عسكرية ستجلب نهايتهم!!. وليوضح (بات روبرتسون) نبوءته ذهب إلى السبورة تتبعه آلة التصوير التلفزيونية ليحدد موضع (دول الشرق الأوسط) على الخريطة، معيداً صياغة نبوءة حزقيال بقوله: "في العصور القادمة عندما تتم إعادة تجميع إسرائيل من الأمم، سأتسبب في حدوث شيء ما، هذا الشيء إنني سأضع الكلابات في أفواه التحالف، الذي سيقوده شخص شيطاني، والدول التي ستكون معه هي بيت توغارما (يقصد ارمينيا)، وبوت (يقصد ليبيا)، وروش (يقصد الحبشة) ونحوم (يقصد اليمن الجنوبية)، وفارس (يقصد إيران). وتابع (روبرتسون) قائلاً: كل شيء جاهز، ويمكن حدوثه في أي وقت. ومن المؤكد أن شيئاً كهذا سيحدث بحلول خريف 1982م وبهذا تتحقق نبوءة حزيقيال" (¬2). ويضيف روبرتسون: "إن الولايات المتحدة الأمريكية موجودة في نص حزقيال. وإننا ننتظر المعركة النهائية المحتومة". ولقد حذا حذو روبرتسون العديد من ¬

(¬1) معركة آخر الزمان ونبوءة المسيح منقذ إسرائيل - باسل حسين ص 54ـ55 (¬2) النبوءه والسياسة - ص28

تقسيم سوريا والعراق وتحطيم قوتهما

الإذاعيين الذين يبشرون بلاهوت هرمجدون في الإذاعة والتلفزيون ومن على المنابر، وهذا التبشير يتضمن أن الرب كان يعلم منذ البداية، أننا الأحياء اليوم، سندمر كوكب الأرض. ومن الجدير بالذكر أن روبنسون يمتلك محطة وإذاعة تلفزيون الأمل في جنوب لبنان والتي تبث برامجها من منظور لاهوت هرمجيدون، كما أنه شارك مع الجيش الإسرائيلي بقيادة المجرم (شارون) في غزو لبنان" (¬1). تقسيم سوريا والعراق وتحطيم قوتهما حين عجز جماعة بني إسرائيل الصغار الشأن عن قهر الأقوام والأمم، واستعبادها وبالتالي لم يستطع قضاتهم وملوكهم تحقيق وعود يهوه، وتستعر ألسنة الخيبة في صدورهم، صاروا يتلمظون مرارة الفشل الذي ظل يرافقهم دائما. ونهشت أكبادهم ضراوة الذل الذي عانوه (على زعم التوراة) في حياة العبودية في مصر، وفي أرض كنعان. فأوكل أحبارهم أمر النيل من الأقوام، والأمم إلى إلههم يهوه. وقد تمثل الوقوع بهم في أشكال من الضربات، اشتهوا أو تمنوا إنزالها بالأقوام والأمم الأخرى. خذ مثلاً من هذه الضربات قول يهوه (الرب) بلسان النبي أشعيا عن بابل: "انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل. اجلسي على الأرض بلا كرسي يا ابنة الكلدانيين، انك لا تعودين تدعين ناعمة ومترفة. اكشفي نقابك شمري الذيل اكشفي الساق اعبري الأنهار، تنكشف عورتك وتري معاريك .. اجلسي صامتة وادخلي في الظلام يا ابنة الكلدانيين لأنك لا تعودين تدعين سيدة الممالك". ويقول رب الجنود: "واقطع من بابل اسما وبقية ونسلا وذرية، واجعلها ميراثاً للقنفذ واكنسها بمكنسة الهلاك. وتصير بابل بهاء الممالك وزينة فخر الكلدانيين كتقليب الله سدوم، وعمره لا تعمر إلى الأبد، ولا تسكن إلى دور فدور لا يخيم هناك إعرابي، ولا يربض هناك رعاة، بل تربض هناك وحوش القفر ويملأ البوم بيوتهم، وتسكن هناك بنات النعام، وترقص هناك معز الوحش. وتصيح بنات آوى في قصورهم، والذئاب في هياكل تنعمهم" (¬2). ¬

(¬1) الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني - الأب مايكل برير - ترجمة احمد الجمل و زياد منى ص 65 (¬2) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص137ـ138

ومثلاً آخر من هذه الضربات قول يهوه (الرب) عن دمشق بلسان النبي أشعيا: "هوذا دمشق تزال من بين المدن. وتكون رجمة دم مدن عر وعير متروكة، وتكون للقطعان ويزول الحصن من أفرايم، والملك من دمشق وبقية الأمم". ويعبر يهوه (الرب) عن حقده على دمشق بلسان النبي ارميا قائلاً: "ارتخت دمشق والتفتت للهرب. أمسكتها الرعدة وأخذها الضيق، والأوجاع كماخض. يسقط شبانها في شوارعها، ويهلك كل رجال الحرب في ذلك اليوم، يقول رب الجنود وأشعل ناراً في سور دمشق" (¬1). فبعدما أنذر أشعياء أهل بابل بالهلاك أن لم يؤمنوا في يوم الرب، انذر أهل فلسطين للغرض نفسه. ثم انذر موآب، ثم انذر دمشق. والسؤال هنا: هل بعدما أهلكت أمريكا العراق، وقد أهلكت فلسطين من قبل، سوف تهلك دمشق؟. من المؤكد أن هذا ما تنوي عمله، تطبيقاً للأحقاد التوراتية التي تنبأت بذلك" (¬2). وهذا الذي ورد في التوراة صيغ بطريقه أخرى في التقرير الصهيوني السابق الذكر، الذي يقول بشأن سوريا والعراق: "وينبغي أن يكون تقسيم كل من العراق وسوريا إلى مناطق منفصلة، على أساس عرقي، أو ديني، أحد الأهداف الأساسية لإسرائيل على المدى البعيد. والخطوة الأولى لتحقيق هذا الهدف، هي تحطيم القوة العسكرية لهذين البلدين. فالبناء العرقي لسوريا يجعلها عرضة للتفكك، مما يؤدى إلى قيام دولة شيعية على طول الساحل، ودولة سنية في منطقة حلب، وأخرى في دمشق، بالإضافة إلى كيان درزى قد ينشأ في الجولان الخاضعة لنا، وقد يطمح هو الآخر إلى تشكيل دولة خاصة، ولن يكون ذلك على أي حال إلا إذا انضمت إليه منطقتا حوران وشمالي الأردن. ويمكن لمثل هذه الدولة، على المدى البعيد أن تكون ضمانة للسلام والأمن في المنطقة. وتحقيق هذا الهدف في متناول يدنا" (¬3). أما عن نصيب العراق فيضيف المقال: "أما العراق، ذلك البلد الغنى بموارده النفطية، والذي تتنازعه الصراعات الداخلية، فهو يقع على خط المواجهة مع ¬

(¬1) المصدر السابق - ص140 (¬2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص221 (¬3) مجلة كيفونيم، القدس، العدد 14 فبراير 1982ص49ـ59 نقلا عن كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية- روجيه جارودى ص271

حقد يهوه على الفلسطينيين

إسرائيل. ويعد تفكيكه أمراً مهماً بالنسبة لإسرائيل، بل انه أكثر أهمية من تفكيك سوريا، لان العراق يمثل على المدى القريب أخطر تهديد لإسرائيل" (¬1). وبالطبع لا حاجه بنا إلي مزيد من التوضيح للحقد اليهودي والمسيحي الصهيوني علي العراق، والذي وضحناه سابقاً والذي نشهده منذ 18 سنه على ارض الواقع، والذي يريد المتهود بوش الابن أن ينجز آخر فصوله، التي بدأها والده في بداية التسعينات، بمباركه ودعم بعض الأنظمة العربية، وسنزيد الامر ايضاحاً في الفصول القادمه عند حديثنا عن حرب بوش على العراق. حقد يهوه على الفلسطينيين كان حقد يهوه (الرب) على الفلسطينيين نارا آكلة، لا ترحم أحدا، ولا تبقي على شئ. فالرب يمد يده عليهم ويقطع كبرياءهم؟ ويرسل ناره على سور غزة فتأكل قصورها، ويقطع الساكن من اشدود وماسك القضيب من اشقلون، وأرد يدي على عقرون فتهلك بقية الفلسطينيين". ويقول بلسان ارميا: "يصرخ الناس ويولول كل سكان الأرض بسبب اليوم الآتي لهلاك كل الفلسطينيين .. لأن الرب يهلك الفلسطينيين، أتى الصلع على غزة، أهلكت اشقلون، آه يا سيف الرب حتى متى لا تستريح؟ كيف يستريح والرب قد أوصاه على اشقلون؟ وعلى ساحل البحر هناك واعده". وبلسان حزقيال يقول الرب: "هاأنذا أمد يدي على الفلسطينيين .. وأجري عليهم نقمات عظيمة واقطع كبرياء الفلسطينيين". كما يقول بلسان صفنيا: "فتكون اشقلون للخراب، وعقرون تستأصل .. يا كنعان أرض الفلسطينيين إني أخربك بلا ساكن" (¬2). نبوءة بشأن أدوم (الأردن) في عصرنا هذا، حارب اليهود أهل مصر ليأخذوا بثأرهم من فرعون، الذي كان يقتل أبناءهم، ويستحي نساءهم، ثم صرحوا، وهم يعقدون الصلح مع المصريين، بأنهم سوف ينصرفون عنهم من الآن إلى العراق، ليأخذوا بثأرهم من نبوخذ نصر، ¬

(¬1) المصدر السابق (¬2) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص141

الذي ضرب عليهم الذلة والمسكنة" (¬1). أما بالنسبة للأردن فقد قرر كهنة اليهود منذ القدم بأنهم سيأخذون بثأرهم من أرض بابل، وهي العراق ومن أرض أدوم ومؤاب وبني عمون، وهي الأردن. وانظر إلى قولهم في المزمور المائة والسابع والثلاثين: "اذكر يا رب لبني أدوم يوم أورشليم القائلين: هدوا .. هدوا حتى إلى أساسها. انه يقول: لما جاء نبوخذ نصر ملك بابل ليخرب أورشليم كان أهل أدوم ومؤاب شامتين في اليهود وفرحين بعذابهم". والمقصود بأدوم هم سكان الأردن، أو العرب بني إسماعيل عليه السلام؟ (¬2). وهنا يغرق يهوه (الرب) بنهر من الحقد والضغينة على مؤاب وعمون، فيقول بلسان النبي اشعيا: "خربت مؤاب بنهر، وهلكت .. في كل رأس منها قرعة. كل لحية مجزوزة. في أزقتها يأتزون بمسح. وعلى سطوحها، وفي ساحاتها يولول كل واحد منهم سيالاً بالبكاء. وتكون بنات مؤاب كطائر تائه كفراخ منفرة، تولول بنات مؤاب على مؤاب كلها يولول ويداس مؤاب في مكانه، كما يداس التبن في ماء المزبله .. وصرح ارتفاع أسوارك يخفضه يضعه يلصقه الرب بالأرض إلى التراب". وعن ربة بني عمون (عمان الأردن الحالية) يقول الرب بلسان أرميا: "وتصير ربة بني عمون خراباً. وتحرق بناتها بالنار. اصرخن يا بنات ربة. وتنطق بمسوح اندبن وطوفن بين الجدران، لأن ملكهم، يذهب إلى السبي هو وكهنته ورؤساؤه معا. هاأنذا اجلب عليك خوفاً من جميع الذين حواليك وتطردون .. وليس من يجمع التائهين". وبلسان حزقيال يقول الرب: "هاأنذا أمد يدي عليك، واسلمك غنيمة للأمم. واستأصلك من الشعوب وأبيدك من الأرض". وبلسان عاموس، قال الرب: "أضرم ناراً على سور ربة فتأكل قصورها. ويفيض حقد يهوه (الرب) على مملكة أدوم كنهر لا تستوعبه ضفتاه". ويقول يهوه بلسان اشعيا: "هوذا على أدوم ينزل الرب .. للرب سيف قد امتلأ دماً .. إن للرب ذبيحة في بصرة، وذبحاً عظيماً في أرض أدوم .. إن ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ احمد حجازي السقا ص84 (¬2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقاص91

نبوءة بشأن الجزيرة العربية

للرب يوم انتقام .. وتتحول انهار أدوم زفتاً وتربها كبريتاً، وتصير أرضها زفتاً مشتعلاً ليلاً ونهاراً، لا تنطفئ إلى الأبد، يصعد دخانه من دور إلى دور تخرب" (¬1). نبوءة بشأن الجزيرة العربية بالرغم من أن كثير من حكام العرب، كانوا ولا يزالون خدم للاستعمار والصهيونية، ومكنوا للأمريكان والبريطانيين من السيطرة علي أرض العرب، بداية من تآمرهم علي الخلافة الإسلامية، ومروراً بخيانة وتآمر بعضهم وتعاونهم الكامل مع أعداء الأمة، ومحاربة كافة المشاريع الوحدوية والنهضوية للأمة العربية، وأخيراً تآمرهم الواضح والفج على العراق الشقيق. بالرغم من كل ذلك لا يخفي البريطانيون والأمريكان والصهاينة كراهيتهم واحتقارهم لهؤلاء. فهذا (لورانس) عميل المخابرات البريطانية في الجزيرة العربية خلال الحرب العالمية الأولى، والذي لقبوه زورا وبهتانا لورنس العرب، يقول: "كم أتعبني هؤلاء العرب، أنهم تجسيد للساميين المنحطين، أن العقل العربي شاذ وغارق في الظلمة والكآبة والاعتزاز المفرط بالنفس، ويفتقر إلى قواعد المنطق". وعن دوره في قيادة الثوار العرب ضد العثمانيين، كتب يقول: "بما أنني لست مغفلاً فقد كان واضحاً منذ البداية انه في حال فوزنا بالحرب، فستصبح الوعود التي قطعناها للعرب، حبراً على ورق" (¬2). وهذا ما حدث، حيث قلب الإنجليز ظهر المجن للعرب مرات عديدة، ولكن العرب لم يستوعبوا الدرس ولم يفهموا، إن وعد الإنكليزي مهما كان صادقا مضمونا ـ سوف يخلفه بمجرد أن يتعارض مع مصلحته، التي لا تعرف حدودا وأن أسلوب الحرب الإنكليزية لا يعرف معنى للرحمة أو للشرف أو للمواثيق أو للتردد .. ولقد حفظ الهنود ذلك الدرس غيباً، ولكن حين لا تنفع الدروس والعبر" (¬3). ولكن هل يفهم العرب الدرس الآن بعد كل ما حدث معهم قديماً وحديثاً، والتي كان آخرها وعود حرب تدمير العراق، والتي جاءت تنفيذاً لنبوءات توراتية حاقدة، عملت إدارة بوش الأول والثاني على تنفيذها بحذافيرها على العراق كما وضحنا ¬

(¬1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص140 (¬2) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص275 (¬3) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص68

وسنزيد الأمر إيضاحاً في بقية أجزاء هذا الكتاب. فمن المفارقات هنا، أن الهجمة الشرسة التي يتعرض لها العراق الشقيق قد تم تحديد جهتها بناء على نبوءة توراتية، حيث تنبأ بها أشعياء وحدد منطقة المهاجمين لبابل في يوم الرب، بأنها ستكون الجنوب (الكويت والسعودية) إذ يقول: "وحي من جهة برية البحر كزوابع في الجنوب. عاصفة. يأتي من البرية. من أرض مخوفة. وقد أعلنت لي رؤيا قاسيه" (¬1). أما الرؤية القاسية التي يعنيها اشعياء فهي خاصة بهؤلاء العرب الذين حددت مصيرهم التوراة بقولها: "ستبيتين في صحارى بلاد العرب يا قوافل الددانيين، فاحملوا يا أهل تيماء الماء للعطشان، واستقبلوا الهاربين بالخبز، لأنهم قد فروا من السيف المسلول، والقوس المتوتر، ومن وطيس، المعركة. لأنه هذا ما قاله لي الرب: في غضون سنة مماثلة لسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وتكون بقية الرماة، الأبطال من أبناء قيدار، قلة. لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم" (سفر اشعياء 21، 13ـ17). وفي جبل سعير يقول يهوه (الرب) هاأنذا عليك يا جبل سعير، اجعل مدنك خربة، وتكون أنت مقفرا واستأصل منك الذاهب والآيب، وأملا جبالك من قتلاك" (سفرحزقيال) (¬2). وباختصار إن الضربات الحاقدة، التي قال أنبياء بني إسرائيل إن إلههم يهوه أنزلها، أو هو على وشك إنزالها بالأقوام والممالك التي عاش بنو إسرائيل في ظلها، أو احتكوا بها مثل ممالك مصر بابل أشور، صيدون، صور، دمشق .. وممالك الكنعانيين مثل أدوم بني عمون مؤاب حاصور .. ومدن الفلسطينيين مثل غزة اشقلون وعقرون هي كثيرة جداً، إلى درجة أن ضربات يهوه (الرب) شملت أمم الأرض بأسرها، كما يقول النبي أشعيا: "إن للرب يهوه سخطاً على كل الأمم، وحموا على كل جيشهم، قد حرمهم (دفعهم إلى الذبح) فقتلاهم تطرح، وجيفهم تصعد نتانتها، وتسيل الجبال بدمائهم"، والى حد أن قارئ التوراة يخلص إلى نتيجة مفادها، إن ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ أحمد حجازي السقا ص224 (¬2) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص143

التوراة وكيفية التعامل مع الآخرين

تنبوءات أنبياء التوراة كانت أشبه بشلال لعن متدفق، لدرجة أن (اللعنة أكلت الأرض) كما يقول النبي اشعيا" (¬1). هذا ما تخبأه التوراة للعرب كافة، وهذا ما كشف عنه الصهاينة عبر مجلتهم كيفونيم .. دمار وقتل وتخريب وإذلال، وكأن امتنا أمة ميتة وجثه هامدة لا حراك فيها. لقد كذبوا وكذبت مجلتهم كيفونيم ... وكذب منجميهم وأحبارهم .. إننا قطعاً لسنا ذلك القلب الميت الذي تصورته صحافتهم في الثمانينات من هذا العصر ... إن ذلك القلب الميت قد هزم التتار ودحر الصليبين وحطم خط بارليف ... ونحن (الأمة العربية) ما زلنا مخزن الوقود في العالم رغم الاستنزاف الحاصل ... ونحن رمز لحضارة إيمانيه عريقة بين حضارات وثنيه وعلمانية، وماديه تملأ هذه الدنيا بضجيجها .. ونحن رأسمال عملاق (وإن كانت مودعاً في البنوك اليهودية) ولكننا نستطيع أن يكون لنا صندوق عربي للدفاع، لنصنع أمننا، ونبني دفاعاتنا، ونستطيع أن نكون تكتلًا عربياً له وزنه، وخطورته ... وقديماً قال، عنا أعظم الأنبياء: إننا خير أجناد الأرض .. وهي كلمة نبي قال عنه أعداؤه: إنه الأمين الذي لم يجرب عليه أحد انه كذب في شيء" (¬2). التوراة وكيفية التعامل مع الآخرين لم ترسم التوراة اليهودية فقط الخطط والبرامج لكيفية التعامل مع دول المنطقة، بل وحددت كيفية التعامل مع شعوبها تنفيساً لأحقاد وضغائن قديمة جديدة. وقد تقصى الدكتور (أسعد زروق) موقف التلمود من العرب، فوجد أنه في بعض نواحيه، تعبير عن نفس الانعزالية المتعالية التي تميز بها اليهود. وقد جاء في سفر سوكاه (52ب) أن الإله قد ندم على خلقه أربعة أشياء: المنفى، والكلدانيين، والإسماعيليين (أي العرب)، ونزعة الشر" (¬3). فالعودة إلي النصوص التوراتية والتلمودية، تفضح الممارسات الصهيونية بحق الآخرين من البشر (الأجانب، أو الغرباء) حسب تعبيراتهم، وتبين أن ما تنفذه الدولة اليهودية الصهيونية، ما هو إلا ¬

(¬1) المصدر السابق - ص146 (¬2) إسرائيل .. البداية والنهاية - مصطفى محمود ص15. (¬3) البروتوكولات واليهودية والصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري ص 55

من وحي التعاليم التوراتية التلموذية. وهاكم مجموعة من الأمثلة والنماذج المستمدة من النصوص المذكورة مطبقة على الواقع الحي على الأرض، والناس" (¬1). جمعت قوانين الحرب في العهد القديم في سفر التثنية، وفيها بيان في كيفية الاستيلاء على المدن، وأسلوب التعامل مع أهل البلاد (¬2)، وهي أصبحت مرجعاً وقانوناً ومصدراً لإلهام ووحي القادة الصهاينة، ومنها: "إذا تقدمت إلى مدينة لتقاتلها فادعها أولا إلى السلم، فإذا أجابتك وفتحت يكن جميع الشعب، الذي فيها تحت الجزية، ويتعبدون لك، وان لم تسالمك وحاربتك فحاصرتها، وأسلمها الرب إلهك إلى يدك فاضرب كل ذكر بحد السيف، وأما النساء والأطفال وذوات الأربع، وجميع ما في المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك، وكل غنيمة أعداءك التي أعطاكها الرب إلهك" (¬3). وفي هذا السفر نرى ملامح الذبح والسلخ الدائمين ونشم منه رائحة الشي والحرق، باعتبارها الإثارة المغرية للروح اليهودي في التعامل مع كل ما هو حي. وهي إثارة يحددها الادعاء الكبير للإله القومي، الذي ما هو في افضل الأحوال سوى شيطان أمرد. وهو اله لا يربي في الإنسان بعدا إنسانياً، بسبب خضوعه لنزوات عبدته. لذا نراه في سفر (التكوين) يحزن ويتأسف ويرغي ويزبد في رغبته لمحو الإنسان عن وجه الأرض" (¬4). ويقول التلمود: "أنه مسموح لليهودي بقتل غير اليهودي دون معاقبة، وعليه ـ أيضا ـ ألا ينقذ غير اليهودي من خطر يهدد حياته مثل وقوعه في حفرة". ويفسر ذلك الحاخام الشهير (ميمانود) بقوله: "إن الشفقة ممنوعة لغير اليهودي، فإذا رأيته واقعاً في نهر ومهددا بخطر، فإنه محرم عليك أن تنقذه منه لأن السبعة الشعوب الذين كانوا في أرض كنعان، وكان مطلوب إبادتهم، ولكنهم لم يقتلوا عن آخرهم، وإنما ¬

(¬1) العنصرية الصهيونية اليهودية والبعد الايديولوجى الديني ـ على حسن طه ص60 - دار الهادي /بيروث- ط1 2002 (¬2) المجتمع الاسرائيلى وثقافة الصراع - د. عمر عبد العلى علام - ص 53 - دار العلوم للنشر والتوزيع - ط1 2007 (¬3) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص115 (¬4) ثالوث الإله القومي والشعب المختار والقوة الغضبية (الصورة والمعنى في الصراع العربي - اليهودي) - د. ميثم الجنابي- مجلة المؤتمر عدد 1174 - 14 - آب-2006 - http://www.inciraq.com/Al-Mutamar/2006/1101_1200/1174/060814_1174_5.htm

هرب بعضهم واختلط بباقي الشعوب والأمم، ولذلك فإنه يلزم قتل الأجنبي، إذ يحتمل أن يكون من نسل السبعة الشعوب، وبالتالي فعلى اليهود قتل من يتمكن من قتله، فإذا لم يفعل ذلك فانه يخالف الشريعة". ويرى الحاخام (ميمانود) ـ أيضاً: "إن وصية (لا تقتل): "هي خاصة فقط بمنع قتل اليهود" (¬1). ويوضح إسرائيل شاحاك في كتابه، الديانة اليهودية ذلك بقوله: "عندما تكون الضحية من الأغيارـ يختلف الوضع تماماً، فاليهودي الذي يقتل أحد الأغيار يكون مذنباً فقط بارتكاب معصية ضد شرائع السماء، وهي معصية غير قابله لعقوبة صادرة عن محكمه، أما التسبب غير المباشر، بقتل أحد الأغيار فهذا ليس بمعصية على الإطلاق، وعلى هذا النحو يشرح أحد أهم المعلقين على شرائع التلمود (شولحان عاروخ) ذلك بقوله: "على المرء ألا يرفع يده لإيذاء الغريب، ولكنه يستطيع أن يؤذيه بطريقة غير مباشرة، كأن يزيل السلم بعد إن يكون الشخص المعين قد سقط في هوة إذ لا يوجد خطر هنا، لأن الأذى لم يرتكب بصورة مباشرة". ويشرح (موسى بن ميمون) المبدأ الأساسي التلمودي بوجوب الامتناع عن إنقاذ حياة الغرباء (من غير اليهود) فهناك حكمة تلموديه تقول: "لا تدفع الأغيار إلى البئر فهذا محرم، ولا تنقذ أحدا منهم، إذا ما وقع فيه، لأنه محرم أيضاً .. وهناك عشرات من الأمثلة التلموديه التي قام بفضحها الأب (آ، ب برانايتس) في كتابه فضح التلمود الصادر عن دار النفائس ومن إعداد زهدي الفاتح" (¬2). وهكذا فإن ذهنية الإباده هذه التي حواها التلمود، تتجلى في التربية الاستئصاليه تجاه الأغيار، وتظهر بوضوح في العديد من النصوص التوراتيه مثل: "هو ذا شعب كلبوءة يقوم، وكشبل ينهض، لا يربض حتى يأكل الفريسة، ويشرب دم الصرعى". فعبارات القتل والإفناء والاستئصال تتكرر في الأسفار التوراتيه عند كل حديث أو احتلال لمدينة وقرية وبلدة، وتعدد التوراة عدد الملوك الذين قتلهم (يشوع) وأفني شعوبهم، فيقول: "جميع الملوك واحد وثلاثون" (سفر يوشع). ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 11 (¬2) على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيلـ حمدان حمدان ص183

وليس غريباً بعد كل ما تقدم أن يعمد الصهاينة إلى التذكير الدائم بهذه الأساطير باعتبارها وقائع تاريخية، وبطولات يجب تمثلها وإعادة إنتاجها، حيث يتبين لنا أن محتويات التوراة هي المخزون الحقيقي للإرهاب والعنف، وفي هذا النص تجليات ذهنية الإبادة والعدوان والتوسع: "بقيت ارض للامتلاك كثيرة جداً كل بقاع الفلسطينيين وكل أرض الكنعانيين إلى تخوم الأموريين وأرض الجبليين وجميع لبنان جهة مشرق الشمس، من بعل جاد حتى جبل حرمون إلى مدخل حماه، كل سكان الجبل من لبنان إلى مياه مسروفوت كل الصيدونيين، سأطردهم من وجه بني إسرائيل وكل جبل حرمون وكل باشان ـ الجولان إلى سلكة" (¬1). وفي سفر يوشع ذلك السفاح الذي جاء غازياً لأرض فلسطين، والذي ارتكب من المجازر والمذابح الفظيعة ضد سكان فلسطين، نجده يكشف عن أحقاده ودمويته ليبرر جرائمه فيقول على لسان اله الدمار (يهوه): "تجازى السامرة لأنها تمردت على إلهها. بالسيف يسقطون تحطم أطفالهم والحوامل تشق" (¬2). فالذي يضحك ويبكى هو أن إله الدمار المزعوم عند يشوع ومن إليه من مصاصي الدماء .. قد أطلق العنان لعدوانيته ونيران حقده دفعه واحدة (¬3). وليس يوشع فقط، بل كافة أسفار التوراة تكشف عن حقدها الدفين ودمويتها، وترسم الطريق لأعداء البشرية حول كيفية التعامل مع الشعوب: "والآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ما له، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة وطفلاً ورضيعاً. بقراً وغنماً. جملاً وحماراً (سفر استر: 10ـ3). "فأرسل جدعون رسلاً إلى كل جبل أفرايم قائلاً انزلوا للقاء المديانيين، وخذوا منهم المياه إلى بيت بارة والأردن، فاجتمع كل رجال أفرايم واخذوا المياه إلى بيت بارة والأردن" (سفر القضاة 7:24ـ25) .. "وأما امصيا فتشدد واقتاد شعبه وذهب إلى وادي الملح وضرب من ساعير عشرة آلاف. وعشرة آلاف أحياء سباهم بنو يهوذا، وأتوا بهم إلى رأس سالع وطرحوهم عن رأس سالع فتكسروا أجمعون" (سفر الايام 25:11ـ12). ¬

(¬1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص118 (¬2) سفر يوشع 13ـ16 (¬3) رسائل حضارية في مواجهة اليهوديةـ الأب فوتيوس خليل ص48

إسرائيل وشارون ونادي القتلة

هذه هي طريقة التعامل مع الآخرين التي رسمتها التوراة ... من تكسير العظام، وقتل الأطفال وشق النساء، وسرقة المياه ... إلى إنزال الدمار بأرض اللبن والعسل، حتى أنهم لم يتورعوا عن إبادة الحيوانات، مدعين أن كل ذلك هو إرضاء للإله يهوى وبأمر منه؟!! أو ليس ما يحدث على أرض الواقع يوضح لنا بجلاء عن التطابق الكامل بين ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية وبين ما جاء في التوراة، بل لا نبالغ إذا قلنا إن ما يحدث علي الأرض ما هو إلا تطبيق حرفي للوصايا التوراتية الإجرامية، حتى الأوصاف التي يطلقها الصهاينة على أعدائهم مستمدة من التوراة في أدق تفاصيلها. وعلى سبيل المثال لا الحصر جاء في سفر صموئيل: "فخرج المخربون من محلة الفلسطينيين في ثلاثة فرق" (سفر صموئيل 13ـ17) .. والمعلوم أن الحكومة ووسائل الإعلام الإسرائيلية تستخدم عبارة مخربيين لوصف رجال المقاومة الفلسطينيين، هذا في حين يطلق على مجرمي الحرب أمثال الإرهابي شارون وغيره من رؤساء الوزراء عبارة (داوود ملك إسرائيل) على اعتبار أن مملكة داوود هي أسمى ما وصلت إليه دولتهم. إسرائيل وشارون ونادي القتلة إن الأحزاب كلها من حزب العمل إلى حزب ليكود تعتمد التوراة مرجعاً لتأسيس سياسة تقول: ان فلسطين ملك الصهاينه بموجب صك من الله ... وهذه القراءة الاصطفائية تخلع طابعاً من الامتياز والأفضلية على أكثر نصوص التوراة شراسه كي تبرر المظالم وألوان الاغتصاب الراهنة ... وبهذه القراءة تبدو تلك النصوص بما فيها من سلب ونهب وابادة للسكان الأصليين من الكنعانيين، وكأنها شرط للإبقاء على العهد مع يهوه. جاء في سفر العدد: "وكلم الرب موسى قائلاً: قل لبني اسرائيل إنكم عابرون الأردن إالى ارض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم .. وإن لم تطردوا سكان الارض من أمامكم يكون الذين تستبقون منهم أشواكاً في أعينكم ومناخس في جنوبكم ويضايقونكم على الارض التي انتم ساكنون فيها فيكون أنى افعل بكم كما هممت أن افعل بهم".

وهكذا نقرأ في سفر العدد تصوراً سابقاً بل تبشيراً بما يمارسه الصهاينة اليوم تجاه الفلسطينيين من شارون إلى الحاخام مائير كاهانا. أما سفر الاشتراع (التثنية) فلا ينص على اغتصاب الارض وطرد السكان الاصليين فحسب، وانما يطالب بذبحهم. يقول هذا السفر: "عندما يوصلك الرب إلهك إلى ارض كنعان .. ويطرد من أمامك كافة الأمم .. ستوقع عليهم الحرمان وتبيدهم". أما سفر يوشع، سفر المذابح، فهو من النصوص الكلاسيكية المقررة في مدارس اسرائيل، أضف إلى ذلك أنه يستخدم للإعداد النفسي للجنود الأغرار في الجيش" (¬1). ففي إسرائيل، فإن الإرهابيين الأشد تعطشاً للدماء والأكثر تطرفاً والأعظم وحشية هم دائماً من يرفعون إلى أعلى عليين في القيادة العليا، ولهذا ليس من المستغرب أن أفظع الجرائم تمت علي أيدي مجرمين ومصاصي دماء، احتلوا قمة الهرم القيادي في إسرائيل، ابتداء من (بن جريون) (وبيغن) وانتهاء بالإرهابي شارون الذي فاق الجميع في إرهابه وجرائمه. فالموضة الآن هي الإشادة بالتطرف، وتمجيد القتلة، وتقديس العنف في التعامل مع العرب، والنظر إلى عمليات نهب الأرض والاستيطان، على إنها مجرد عمليات تصحيح أوضاع لا أكثر (¬2). وربما لذلك وصف الرئيس بوش المجرم شارون بأنه رجل سلام. "فشارون بالنسبة لبعض المتطرفين المسيحيين ذوي مذهب (الإعفائية) هو الرجل الذي (اختاره الرب لإنجاز تكهنات نهاية العالم). وهم يرجعون إلى مسيرته، فهو عرف السلطة، ومن ثم زال نفوذه وثقته لدوره في مجازر صبرا وشاتيلا، ويستندون إلى ما جاء في الكتاب المقدس: (الرجل العادل سقط سبع مرات ثم نهض) " (¬3). وبمناسبة مرور عام على أحداث 11 سبتمبر كتب المحلل السياسي (ديفيد ديوك) مقالاً خصص جزء كبير منه للحديث عن جرائم شارون ضد الشعب الفلسطيني، وكأنه أراد أن يعقد مقارنه بين ما يسمونه إرهاباً إسلامياً غير مثبت، وإرهاب رسمي يتفاخر به فاعلوه، فقال: "أود اليوم رسم تاريخ موجز لخمسين سنة ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص154 - 155 (¬2) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص31 (¬3) عالم بوش السري- اريك لوران - ترجمة سوزان قازان ص97

من الجرائم الشارونية ضد الإنسانية، بدءاً بمذبحة قبية، ومروراً بغزو لبنان، ومذابح صبرا وشاتيلا، إلى المجازر الجماعية للرجال والنساء والأطفال في مخيم جنين. ولتبيان جانب من جوانب هذه الوحشية التي لا يمكن تصورها، والتي انطوى عليها إرهابي الإرهابيين (شارون) سوف اقتبس مباشرة من مقابلة حاور شارون فيها الصحفي الإسرائيلي (عاموس عوز) سنة 1982م إبان غزو لبنان. يقول شارون: "حتى لو بدا لي ببراهين الرياضة البحتة أن الحرب الدائرة في لبنان حالياً هي حرب قذرة لا أخلاقية، فلست أبالي .. بل فوق ذلك، لو أنك تبرهن لي أننا لن نستطيع خلق نظام صديق موال لنا في لبنان، ولن ندمر السوريين، أو حتى منظمة التحرير الفلسطينية، فحتى عندها لن أبالي، لقد كان الأمر يستحق خوض تلك الحرب. وحتى لو تم قصف الجليل بصواريخ الكاتيوشا في غضون عام، فلا يهمني ذلك في الحقيقة، فلسوف نشن حرباً أخرى، ونقتل وندمر المزيد والمزيد حتى ينالهم منا ما يقولون معه كفى كفى حسبنا ما لقينا. لئن حاول أي شخص أن يمسنا بسوء، فإن رجال الشر يمزقونه إرباً .. فهم يصطادون ويمسكون بأي شيء يودون التهامه ويثير شهيتهم، بل أنهم لا يعانون من عسر الهضم، كما أن السماء لا تعاقبهم ... وربما سيبدأ العالم عندها يخافني أخيراً بدل أن يشعر بالآسي والشفقة نحوى. بل لعل رعدة الذعر منى تبدأ بالسريان في أوصالهم فيرتجفون من جنوني، عوضاً عن الإعجاب بنبلي وكرم أخلاقي حمداً لله على هذا". ويضيف شارون: "دع أسنانهم تصطك من الرعب فيهابوننا ويرتجفون، ثم لينعتوننا بالدولة المجنونة. ودعهم يفهمون أننا بلد وحشي، ضار، ومتهور، يهدد بالخطر من حوله، وأننا لسنا بلداً عادياً وانه يمكن أن يجن جنوننا إذا قتل من أطفالنا، مجرد طفل واحد قد يخرجنا عن طورنا، فنحرق الأخضر واليابس ونضرم النار في كل حقول النفط في الشرق الأوسط، لقد أحطتهم في واشنطن وموسكو ودمشق والصين علماً، بأنه إذا أطلقت النار على أي من سفرائنا أو حتى قناصلنا، أو أصغر موظفي سفاراتنا فلن نتورع عن إشعال فتيل الحرب العالمية الثالثة، هكذا وبكل بساطة.

وحتى في الآونة الراهنة فإنني على استعداد لأتطوع للقيام بالمهمة القذرة من أجل إسرائيل، وان اقتل من العرب بقدر ما هو ضروري لنا، وان ارحل واطرد واحرق منهم جموعاً غفيره لدرجة تجعل كل إنسان يكرهنا. وان اسحب البساط من تحت أقدام يهود الشتات، بحيث نضطرهم للهرولة إلينا، وهم يبكون .. وحتى لو استدعى الأمر نسف أو تفجير كنيس أو كنيسين من دور عبادتنا هنا أو هناك، فلست أبالي .. ولا يضيرني بعد أن أنجز المهمة أن يقدموني للمحاكمة أمام محكمة (نورمبيرج) وليسجنوني عندها مدى الحياة، بل اشنقوني إن أردتم بصفتي مجرم حرب فالأمر الذي لا تدركونه معشر القوم، هو أن عمل الصهيونية القذر لم ينجز بعد، وما يزال أمامنا شوط بعيد نقطعه لإنجاز المهمة" (¬1). ويعلق ديفيد ديوك على ذلك بقوله: "تفوه شارون بهذه التصريحات عام 1982م وها هو اليوم يحاول إنجاز مهمة الصهيونية القذرة، لاحظوا الموقف الذي يعبر عنه (شارون) في ذلك اللقاء، فهو يبارك إبادة الجنس البشرى، ويهدد بإيقاد نار الحرب العالمية الثالثة. قلبه أقسى من الحجر، وينضح باحتقار كل من هو خارج دائرة الشعب اليهودي، كما عليكم أن تلاحظوا أيضاً أنه لا يبالى بموت بعض اليهود، في الطريق لتحقيق مآربه ولا يأبه بتصاعد مد الكراهية لليهود في العالم. وهذا هو في الحقيقة ما يريده بالضبط، بحيث يتمكن من حملهم أما على مضاعفة دعمهم لـ إسرائيل دعماً كاملاً أو الهجرة إليها" (¬2). هذه التصريحات التي أدلى بها شارون، تكشف بجلاء عن الأثر التوراتي الواضح على العقلية اليهودية المريضة، والحاقدة على الجنس البشري، وعلى العرب والفلسطينيين بشكل خاص. وهنا نتساءل لماذا صب العهد القديم زحام لعنته على مجتمعات هذه الأرض، من مصر، إلى أشور، مرورا بالفلسطينيين، والكنعانيين، والمؤابيين، والعمونيين، والآراميين، والبابليين وهل لفق لهم تهمة استعباد جماعته ـ بني إسرائيل ـ كما فعل مع المصريين؟. الواقع أن مجتمعات هذه الأرض التي ¬

(¬1) عام على أحداث 11 سبتمبر / بقلم ديفيد ديوكـ ترجمة كمال البيطار - جريدة الخليج 6/ 9/2002 - عدد 8510 (¬2) المصدر السابق - جريدة الخليج

أغرقها يهوه (الرب) بطوفان من حقده الغشوم، أعطت في تعاملها مع جماعة بني إسرائيل المغتربين في أراضيها مثلاً رائعاً في المحبة والرحمة، والحنو الصادق وحسن المعاملة (¬1). ولكن الصهيونية كحركة سياسيه عدوانية، تخطط للهيمنة والسيادة، وتضمر الحقد لكل ما هو عربي وإسلامي، وتحمل لنا ثأراً قديماً، يعكسه هذا الكم من الغل والحقد، الذي يعشش في قلوب هذه العصابة، ويجمعها على التآمر والتخريب والقتل طوال هذه الألوف المؤلفة من السنين دون أن يطفئ سيال الدم هذا الغل .. لقد طردوا شعباً، ونهبوا أرضه، واستوطنوا مدنه وقراه، وقتلوا شيوخه وأطفاله، ولم يكفهم كل ما فعلوا" (¬2). فإسرائيل تقتل وتخرب وتفسد كل يوم تمهيداً للخاتمة، التي تحبك خيوطها. وهي تطحن تحت أضراسها ثأراً تاريخياً لا يهدأ، ولا ينطفئ له نار، ولا يخبو له أوار، وهي لا تريدنا إلا سباياً ولاجئين مطرودين بالأبواب، ومتسولين عبيد لقمة، كما عاشت أيام السبي البابلي، وكما طوردت فلولها أيام النازيه" (¬3). ¬

(¬1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص148 (¬2) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص28 (¬3) المصدر السابق- ص48

الفصل السادس النظام الدولي الجديد ووعود حرب الخليج

الفصل السادس النظام الدولي الجديد ووعود حرب الخليج يتساءل البعض عن الذي حدث للولايات المتحدة، التي أصدرت الإنذار الشهير في عهد الرئيس الأميركي الأسبق (دوايت أيزنهاور) لأطراف العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956م بالتوقف عن عدوانهم, حتى تصل إلى عهد الرئيس الحالي (جورج بوش)، الذي يكتب خطابات موجهة للشرق الأوسط، يغتبط بها اليمين الإسرائيلي، لأنها صيغت كما يشاء ويهوى؟. كيف حدث التردي الأميركي في الموقف الشرق أوسطي، ليصل إلى مرحلة يقول فيها بوش الابن عن رئيس الوزراء الإسرائيلي (أرييل شارون) "إنني أتعلم من هذا الرجل كلما جاء وزارنا في واشنطن", وذلك أثناء الترحيب بشارون خلال زيارته السادسة إلى البيت الأبيض في يونيو/ حزيران 2002م؟. ما الخطأ الذي وقع، بين لحظة أيزنهاور تلك, ولحظة بوش المتتلمذ على يد شارون سنة 2002م؟ ما الذي حدث حتى تدهورت السياسة الأميركية في المنطقة .. إلى حالة (الأسرلة) التامة؟. فالولايات المتحدة التي وافقت بل وصممت قراري مجلس الأمن 242 و 338، واللذين يتعاملان مع الضفة الغربية وقطاع غزة كأراض محتلة, هي نفسها التي ـ حسب وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد ـ ترى أن احتلال تلك الأراضي هو غنيمة حرب عادية, ومن المفهوم أن يحتفظ المنتصر بالجائزة بعد الحرب. الولايات المتحدة التي رفضت اعتبار القدس عاصمة إسرائيل باعتبارها أرضا محتلة أيضاً، وهي موضع صراع عاصف بين الطرفين, هي نفسها التي تشتري أرضاً (مسروقة أصلاً من الفلسطينيين)، لتقيم عليها سفارتها, تبعاً لقرارات الكونغرس في منتصف التسعينيات بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. الولايات المتحدة التي كانت تنتقد المستوطنات باعتبارها عقبة أمام السلام, أصبحت تتراخى في نظرتها تلك, وتتراجع في نقدها، وتقول: إن سياستها هي قبول ما يتفق عليه الطرفان. وهي تعلم أنه ليس ثمة توازن قوة عند الطرفين، وتعلم أنه بتخليها عن الضغط والنقد، فإنما هي تقر للقوة الطاغية فرض ما تريد. الولايات المتحدة التي علقت

الوسيط المخادع

مؤقتاً في سبتمبر 1953 م مساعداتها لإسرائيل، لأنها انتهكت القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن فيما يتعلق بمياه نهر الأردن, هي نفسها التي تسخف القانون الدولي والأمم المتحدة برمتها، ليس فقط حيال فلسطين, بل حيال العالم كله (¬1). الوسيط المخادع إن الجواب على كل ما سبق هو ما قمنا بتوضيحه في صفحات هذا الكتاب، حيث بدأ العرب مؤخراً يدركون، أن هذا (الوسيط النزيه)، وهو ما تهوى الإدارات الأميركية المتعاقبة ـ بما فيها إدارة بوش الراهنة ـ نعت نفسها به في سياق تعاملها مع أطراف الصراع العربي الإسرائيلي، لم يكن سوى وسيط مخادع بامتياز, خلال مسيرة تدخل أميركي في الشرق الأوسط، امتدت حتى ولادة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، حيث تحول هذا الوسيط النزيه أو المخادع، إلى وسيط متآمر وغادر .. بل وطرف في النزاع بعد انفراده بقيادة النظام الدولي وعدم حاجته لإخفاء الأسباب الحقيقية لمواقفه الغادره تجاه القضايا العربية. وهنا يجب أن نؤكد "أن الغدر وعدم الوفاء بالوعود، عادة أمريكية أصيلة، منذ الهنود الحمر وحتى الآن، ولهذا لم ولن يجنى العرب إلا الحصرم من ارتمائهم في الحضن الأمريكي، لأن التماس الأمان في حضن أمريكا بلاهة .. فحضن الأفاعي أكثر أمناً من هذا الحضن الغادر" (¬2). وعود حرب الخليج http://www.aljazeera.net/books/2003/7/ - TOP كلنا عايش أحداث حرب الخليج الثانية، والتصريحات والوعود التي أطلقتها الإدارة الأمريكية وأعوانها، من الزعماء والساسة العرب، عن ولادة نظام عالمي جديد، سيتمكن من خلاله العرب والفلسطينيين بالذات، من الحصول على حقوقهم كاملة، حيث جاءت هذه التصريحات والوعود، رداً على مبادرة الرئيس العراقي الراحل (صدام حسين)، الذي طالب بحل القضية الفلسطينية مقابل انسحابه من الكويت. وقد استهجنت أمريكيا وبعض الدول العربية، هذا الطرح من الرئيس العراقي، على اعتبار أنه لا توجد صلة بين المشكلتين، هذا بالرغم من إدراك الذين عارضوا هذه المبادرة، ¬

(¬1) الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين المؤلف: نصير عاروري الطبعة: الأولى 2003كامبردج بوك ريفيوز (¬2) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ـ ص112.

إن الهدف منها كان تعرية الموقف الأمريكي الذي يكيل بمكيالين، والذي عمل على تطبيق قرارات ما يسمى بالشرعية الدولية بحذافيرها على العراق، في حين أن هناك أكوام من القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، مكدسة في أقبية الأمم المتحدة، والتي عملت أمريكيا بالذات على عدم تنفيذها. وإزاء هذا الموقف المحرج، الذي تعرضت له السياسة الأمريكية، والذي أظهر بوضوح ازدواجيتها وكيلها بمكيالين، وجد ـ حتى الذين رفضوا المبادرة العراقية وأيدوا الموقف الأمريكي ـ أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه. فكان لابد من تبرير هذه السياسة الفجة التي اتبعتها أمريكيا في حرب الخليج، والتي لم تترك أي مجال للتفاوض وحل المشكلة بالطرق السلمية. وهنا نشطت الدعاية الأمريكية وعملائها وأذنابها في المنطقة العربية، من كتاب وصحفيين وساسة، والذين برهنوا عن انتهازية لم يعرف التاريخ مثيلاً لها، وأخذوا ينظرون ويبررون، ويفلسفون الموقف الأمريكي، الذي جاء حسب تحليلاتهم الخائبة نتيجة لانهيار نظام القطبين، وبزوغ فجر النظام العالمي الجديد. ولم ينسَ هؤلاء من تقديم تحليلاتهم الخائبة عن هذا النظام الدولي الجديد. فقالوا إن إسرائيل ستفقد في ظله قيمتها الإستراتيجية، التي كانت لها قبل انتهاء الحرب الباردة، وبالتالي فإن أمريكيا ـ حسب زعمهم ـ ستعمل جاهدة على حل الصراع العربي الإسرائيلي وفق قرارات الشرعية الدولية، وستمارس ضغوطها من أجل حصول الفلسطينيين على حقوقهم كاملة. وقد كان بعض هؤلاء المحللين، متفائلاً أكثر من اللازم، حين طرح إمكانية استخدام أمريكيا للقوة العسكرية، لتطبيق قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي، مثلما فعلت مع العراق الشقيق!! وقد انطلت هذه الكذبة على كثير من الدول والشعوب العربية، وبالذات التي وقفت موقفاً مؤيداً لأمريكا، حيث تمكنت أمريكيا من تنفيذ مخططها بضرب القوة العسكرية العراقية، ليس من أجل الكويت، أو من أجل تطبيق قرارات الشرعية الدولية، بل من أجل حماية مشروعها الصليبي في المنطقة العربية، والمتمثل في إسرائيل، والذي شعرت أنه بات مهدداً من القوة العراقية الضخمة والمتطورة.

النظام الدولي الجديد عزز الانحياز الأمريكي لإسرائيل

النظام الدولي الجديد عزز الانحياز الأمريكي لإسرائيل شكلت حرب الخليج الأولى فرصة ذهبية لأمريكا لصياغة نظام دولي جديد، يتفق مع استراتيجيتها الكونية التي تشكل إسرائيل حجر الزاوية بها، حيث ساهم انهيار المعسكر الشرقي، وهزيمة العراق وطرده من الكويت، في تعزيز وزيادة حجم الانحياز الأمريكي لإسرائيل، وليس العكس كما روج لذلك، غالبية محللينا السياسيين. ونوضح ذلك فنقول: إننا لو تأملنا السياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية، في ظل نظام القطبين، فإننا سنجد أنها كانت تهدف إلى تحقيق هدفين رئيسين: الأول: حماية المصالح الأمريكية الكبيرة في المنطقة العربية، وبالذات المصالح النفطية. الثاني: تقديم كافة أنواع الدعم الممكن لإسرائيل. ولكن وجود المعسكر الشرقي وعلى رأسه الإتحاد السوفيتي، وظهور الأنظمة العربية الثورية على الساحة في ذلك الوقت، كان يجعل من تحقيق هذين الهدفين معاً، أمراً صعباً. فالمصالح الأمريكية في المنطقة العربية كان يمكن الحفاظ عليها بسهولة، في ظل غياب الانحياز الأمريكي لإسرائيل، والعكس صحيح. وقد كانت الإدارات الأمريكية المختلفة تدرك ذلك، وكانت تدرك أيضاً أن انحيازها لإسرائيل سيهدد مصالحها الحيوية في المنطقة العربية (¬1)، وسيثير المشاعر العربية المعادية لها، وسيدفع كثير من الدول العربية إلى تعزيز علاقاتها بالمعسكر الشرقي، وهذا ما لا تريده أمريكيا. إذاً كيف استطاعت أمريكيا التعامل مع هذه المعضلة الصعبة، أي الحفاظ على مصالحها الحيوية في المنطقة العربية، وتقديم كافة أنواع الدعم الممكن لإسرائيل، من غير أن يؤدى ذلك إلى تعاظم الدور السوفيتي، والمد الثوري القومي في المنطقة العربية؟. والإجابة على ذلك هو أن السياسة الأمريكية، اتبعت أسلوبين يكمل كلاً منهما الآخر لحل هذه المعضلة: ¬

(¬1) العلاقات العربية الأمريكية والضغط الصهيوني ـ اندرو كارفلى ـ ترجمة أسعد حليم ـ ص 4 - الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1970.

فمن ناحية، عمدت السياسة الأمريكية إلى تخويف الدول العربية التقليدية من الخطر الشيوعي الزاحف عليها من الخارج، ومن الخطر الثوري القومي الزاحف عليها من الداخل، وذلك من أجل دفع هذه الدول إلى الارتماء في الأحضان الأمريكية، باعتبارها القوة الوحيدة القادرة على حمايتها من هذين الخطرين. ومن الناحية الأخرى، لجأت أمريكيا إلى تبرير سياستها المنحازة لإسرائيل، بعوامل متغيرة، بعيدة كل البعد عن العامل الحقيقي ـ الثابت الديني ـ كالقول بأن سبب هذا التحيز يعود إلى ظروف الحرب الباردة، واللوبي الصهيوني، وغيرها من العوامل المتغيرة الأخرى، وكل ذلك من أجل إبقاء آمال الدول العربية معلقة بإمكانية حدوث تغيير في الموقف الأمريكي، تبعاً للتغيرات الدولية. وقد نجحت أمريكيا في تمرير سياستها تلك على الدول العربية. فالدول التقليدية التي كانت تخشى على سلطانها من التطلعات السوفيتية، للوصول إلى المياه الدافئة، ومن التطلعات العربية القومية الرامية إلى تحقيق الوحدة العربية، لم تجد أمامها إلا الارتماء في الأحضان الأمريكية، لحمايتها من هذه التطلعات. لهذا قامت هذه الدول بتعزيز علاقاتها مع أمريكيا، على حساب موقفها المعلن من القضية الفلسطينية. وانطلاقا من موقفها الضعيف هذا، لم يكن بمقدورها تهديد المصالح النفطية الأمريكية، كرد فعل على الانحياز الأمريكي لإسرائيل (¬1)، وكل ما كان بوسعها عمله هو انتظار اللحظة التي سيتغير فيها الموقف الأمريكي تبعاً للتغيرات الدولية. أما الدول العربية الثورية، التي تبنت الدور القيادي لمواجهة إسرائيل، فإنها انطلاقاً من فهمها الخاطئ لطبيعة العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، سعت إلى تعزيز علاقاتها بدول المعسكر الشرقي، أملاً في إحداث التوازن الكافي للضغط على الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل. ولكن تجارب الهزائم العربية المتكررة أمام إسرائيل من ناحية، وانخفاض التأثير السوفيتي على الساحة الدولية، من ناحية أخرى، أدى إلى انقسام هذه الدول إلى تيارين مختلفين: ¬

(¬1) الولايات المتحدة والفلسطينيون بين الاستيعاب والتصفية ـ د. محمد شديد ـ ترجمة كوكب الريس ـ ص 243: 244.

الأول: بحث عن خلاصه الفردي، فأحدث شرخاً كبيراً في صفوف الدول العربية الثورية، وذلك عندما قام بتعزيز علاقاته مع أمريكيا، أملاً في استرجاع أراضيه المحتلة، كما فعل السادات في اتفاقيات كامب ديفيد، والذي كان يقول دائماً أن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكيا. أما التيار الثاني: فإنه ظل متمسكاً بموقفه الثابت تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وسعى إلى تعزيز هذا الموقف بعد زيارة السادات للقدس، من خلال مجموعة دول الصمود والتصدي، ولكن هذا التيار لم يصمد طويلاً لأسباب كثيرة، يعود بعضها إلى خلافات بين الدول المكونة لهذه المجموعة، ويعود بعضها الآخر إلى التحديات الكبيرة التي خلقتها أمريكيا وأعوانها أمام دول هذا التيار من أجل تعجيزه وإفشاله، والتي كان آخرها، حرب الخليج الثانية، التي وجهت الضربة القاضية لهذا التيار وللنظام العربي كله. وبانهيار المعسكر الشرقي والنظام العربي بعد حرب الخليج الثانية، تحررت أمريكيا من كافة القيود التي كانت تحد من تحركها في ظل نظام القطبين، وأصبحت يدها الآن مطلقة، للتصرف كيفما تشاء تجاه الصراع العربي الإسرائيلي. فالمؤتمر الدولي للسلام الذي كانت أمريكيا ترفض انعقاده في ظل نظام القطبين، خوفاً من أن يأتي مخالفاً لشروطها، سارعت إلى عقده تحت مسمى جديد، هو مؤتمر مدريد للسلام، لتفرض من خلاله على الدول العربية سلامها الأمريكي بعيداً عن أي تأثيرات خارجية من الإتحاد السوفيتي أو المجموعة الأوربية، وحتى الأمم المتحدة. والدول العربية التي لم تستطع أمريكيا، في ظل نظام القطبين، جرها إلى مفاوضات سلام مع إسرائيل، ها هي الآن تجلس جميعها مع إسرائيل على مائدة المفاوضات المتعددة الأطراف والثنائية، ملبية لكافة الشروط والمطالب الأمريكية ـ الإسرائيلية. أما الدول العربية التي لم توافق على عملية السلام، في ظل الرعاية الأمريكية المنفردة لها، فإنها وجدت نفسها معزولة ومحاصرة، إما بقرارات مجلس الأمن الأمريكي، وبإجماع دولي، بتهمة احتضان الإرهاب الدولي وانتهاك حقوق الإنسان، وإما بحملات إعلامية عدائية، ومشاكل حدودية مفتعلة مع جيرانها، لتكون في أية لحظة ذريعة لتدخل عسكري أو حصار اقتصادي، سيباركه مجلس الأمن

الأمريكي، ولو بدعوى التسبب في تلوث البيئة وثقب الأوزون! وما حدث ويحدث في العراق والسودان وفلسطين ولبنان خير دليل على ذلك. ومن خلال ما تقدم يتضح لنا ان الموقف الأمريكي ما بين ايزنهاور وبوش، لم يتغير أو يتبدل، بل ان الظروف الدولية هي التى فرضت هذا التلاعب وتغيير المواقف، بسبب الانتقال من نظام القطبين والحرب الباردة إلى نظام القطب الاوحد، والنظام الدولي الجديد. وبالتالى فإن الوسيط الأمريكي الذي نصفه بالمخادع، لم يكن مخادعاً ابداً ولكننا نحن كعرب، مسئولين ومثقفين لم نستطع قراءة حقيقة الموقف الأمريكي تجاه الصراع العربي الاسرائيلي بشكل صحيح، ولهذا لم نتمكن في ايه لحظه من معرفة توجهات هذه السياسه، واستراتيجياتها، وبقينا نتصرف ونفسر الاحداث باثر رجعي وبعد فوات الاوان. الدعوة لانعقاد مؤتمر السلام بعد انتهاء حرب الخليج وتدمير القوة العراقية، سارعت أمريكيا إلى الدعوة إلى انعقاد مؤتمر السلام بمدريد، ليس من أجل الوفاء بوعدها الذي قطعتها على نفسها أثناء حرب الخليج، أو لحفظ ماء الوجه لمن هللوا ونظروا وأيدوا موقفها تجاه العراق، بل لاستغلال حالة الضعف والتشتت العربية، التي نشأت جراء هذه الحرب، لفرض حل للصراع العربي الإسرائيلي وفق تصورها. وفعلاً فقد انعقد المؤتمر بحضور رمزي للاتحاد السوفيتي والمجموعة الأوربية، وبدأت المفاوضات العربية الإسرائيلية في حينها، واستمرت أكثر من عام من غير إحراز أي تقدم يذكر، ولم تقم أمريكيا باستخدام القوة، أو حتى ممارسة أي ضغط على إسرائيل، لإرغامها على تطبيق قرارات ما يسمى بالشرعية الدولية، بل العكس هو الذي حدث، حيث قدمت الدول العربية كثير من التنازلات، في الوقت الذي لم تقدم فيه إسرائيل أي تنازل يذكر، بل استمرت في موقفها المتعنت وبدعم كامل من أمريكيا، التي عملت بطريقتها الخاصة على تفتيت موقف المفاوض العربي. وأصبحت الحكومات ومنظمات المقاومة التي كانت تتغنى يومياً بشعارات المواجهة والمقاومة، تتبرأ كل يوم من نية الحرب، وحتى من نية الاستعداد لأي مواجهة .. وتخشى أن تجتمع حتى لا يفهم اجتماعها بأنه إعداد لشيء، وراياتها البيضاء مرفوعة طول الوقت وأياديها ممدودة للمصالحة. وهي تصرخ بأكثر من هذا

اتفاقيات أوسلو تفكيك الصراع وكمائن الاتفاقيات

بأن الحرب ستكون كارثة على الكل وعلى المعتدي، وعلى المعتدى عليه، وأنها ليست حلاً ولا وسيلة إلى أي مكسب (¬1). اتفاقيات أوسلو تفكيك الصراع وكمائن الاتفاقيات في خطاب معبر يصف أحد زعماء الهنود الحمر لشعبه الزحف اللانهائي للمستوطنات والمستوطنين البيض، فيقول: "يا إخوتي، لقد سمعت من الأب الأعظم (يقصد جورج واشنطن) أحاديث بديعه، لكنها كلها كانت تبدأ وتنتهي: انزح قليلاً فأنت قريب منى ... " ففي هذا التقليد الإنكليزي العريق الذي يقول ما لا يفعل، ويعد بما لا يفي، اقترح (واشنطن) عقد سلسله من الاتفاقيات مع الهنود، بهدف الاستيلاء على الأراضي الغنية، والمناطق الإستراتيجية اللازمة لأمن المستوطنين في مقابل .. وعود .. بعدم المساس بما تبقى لهم من الأرض، ومن هذه الوعود التي يقدمها المتفاوضون للهنود أن الولايات المتحدة ستفعل ما في وسعها للحيلولة دون قيام مواطنيها بالصيد أو الاستيطان في أراضيهم" (¬2). وما حدث مع الهنود الحمر قديماً يحدث مع العرب والفلسطينيين، برعاية انجلوسكسونيه قديمه بدأت مع سايكس بيكو وبلفور وويلسون .. واستمرت حتى اللحظة مع بوش وبلير. فبالرغم من صلابة الحقوق الفلسطينية وثباتها، على كافة المستويات القانونية والسياسية والأخلاقية، إلا أنها بدأت تتعرض للتهشيم التدريجي، وتنزلق على منحنى آخر لتتحول من (حقوق وطنية) إلى مجرد نزاعات سكانية، حيث كانت الضربة القاسية قد حلت بها في أعقاب حرب الخليج الثانية 1991م المترافقة مع انهيار الاتحاد السوفياتي, مع ترتيبات مؤتمر مدريد، واتفاقية أوسلو، التي أزاحت الأمم المتحدة وفكرة مؤتمر جنيف والقانون الدولي جانباً, حيث استحوذت الولايات المتحدة على إدارة الملف منفردة. ورعى ما سموه بـ (الوسيط النزيه) تصميم أوسلو بشكل مفرغ، فارغ من أي محتوى قانوني يربط الحل بإنهاء الاحتلال وتحميله مسؤولية ما حدث، وبالتالي ¬

(¬1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص110 (¬2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص108

الكونغرس ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس!

تعامل مع كل القضايا الكبرى ـ كالانسحاب وتفكيك الاستيطان واللاجئين والقدس وغيرهاـ من منظور أنها قضايا موضع نزاع لا قضية احتلال. وهكذا كانت كارثة أوسلو في نقل كل المسار، من مسار إنهاء احتلال شعب وأرض محتلة إلى مسار جديد، برعاية وتشجيع الولايات المتحدة، وهو مسار التفاوض بين طرفين متساويين، على قضايا متنازع عليها، وصارت الحقوق المعترف بها دولياً ساحة تمارين تفاوضية، تتم المقايضة بها بشكل تجاري سخيف (¬1). الكونغرس ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس! بادر السناتور الجمهوري (روبرت دول)، خلال شهر أيار 1995م بتقديم مذكرة إلى مجلس الشيوخ الأمريكي للمطالبة بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، حيث حظيت هذه المذكرة بتأييد أغلبية كبيرة من الكونغرس بمجلسية الشيوخ والنواب، واتخذ مجلس الشيوخ الأمريكي قرارا ينص على اعتراف رسمي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو قرار يلزم الحكومة الأمريكية بنقل سفارتها إلى القدس. وقد كانت نتائج التصويت على القرار بأغلبية ساحقة، إذ وصلت نسبة المؤيدين في مجلس الشيوخ إلى 93 في المائة، أما في مجلس النواب فكانت لا تقل عنها إلا قليلاً، نحو 90 في المائة. وبعد صدور هذا القرار، الذي إن دل على شئ فإنما يدل على مدى تغلغل الأفكار الصهيونية في عقول الصفوة الحاكمة الأمريكية، راهن البعض على إمكانية استخدام الرئيس كلينتون لحق الفيتو، ولكن الرد جاء سريعاً حيث أعلن البيت الأبيض أن الرئيس لن يستخدم هذا الحق. ولكنه في نفس الوقت سيسمح للرئيس باستخدام صلاحياته، لإرجاء تنفيذ القرار لفترات محددة، إن هو وجد ضرورة لحماية المصالح الأمنية القومية لبلده، ولكنها لا تمنع من التنفيذ إطلاقاً. وللأسف فقد خرج علينا غالبية المحللين السياسيين العرب، بتفسيراتهم التقليدية لأسباب صدور هذا القرار، فمنهم من قال انه يدخل في إطار الحملة ¬

(¬1) الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين ـ نصير عاروري الطبعة: الأولى 2003ـ كامبردج بوك ريفيوز.

الانتخابية التي يقوم بها السناتور روبرت دول لخوض انتخابات الرئاسة، ومنهم من قال: أنه جاء بسبب ضغوط اللوبي الصهيوني، وغير ذلك من الأسباب، هذا بالرغم من أن القسم الثاني من القرار يحتوى 17 بنداً توضح سبب صدور القرار، أغلبها بنود مبنية على معلومات توراتية صهيونية صرفه، جوهرها، أن مدينة القدس مدينة داوودية يهودية صهيونية، وتؤكد أن القدس هي المركز الروحي للشعب اليهودي. وبالرغم من كل ذلك لم يولِ أحد من محللينا السياسيين هذه البنود أي اهتمام، ولم يسألوا أنفسهم عن السبب الذي جعل القرار يصدر بهذه الأغلبية الساحقة، وعن السبب في إجماع الديمقراطيين والجمهوريين بهذه الطريقة على هذا القرار، إذا كانت المسألة دعاية انتخابية للجمهوري روبرت دول؟! وإذا كان اللوبي الصهيوني قوى لهذه الدرجة في الكونغرس الأمريكي، فما معنى الاستمرار في المراهنة على أمريكيا؟ والحديث الدائم لكثير من الزعماء العرب، عن صداقتها للعرب، والتي لم تستطع منع صدور قرار يمس مشاعر العرب والمسلمين في كل مكان؟؟!! وهنا نتساءل: ما مصلحة أميركا الحقيقية من وراء هذا الدعم الأعمى لإسرائيل الذي يعود عليها نفسها بالأذى الشديد؟ ولماذا تتعامى عن العنف الإسرائيلي, وتبرره وتعتبره دفاعاً عن النفس وتوفر له غطاء دبلوماسياً؟ وأين المصلحة الأميركية في حشد الكراهية في عوالم العرب والمسلمين عبر احتقار القضية الأهم، التي تثير عواطف وأعصاب معتدليهم وتشد من أزر متشدديهم؟ (¬1). فأي شريك لعملية السلام هذا الذي يمسح لنفسه بنسف عملية السلام، من خلال قفزة على التزامات وتعهدات قطعها على نفسه؟!. وهل بقى لأمريكا أي مصداقية بعد صدور هذا القرار؟! وهل بقى لبل كلينتون أي حجة بعد رفضه استخدام حق الفيتو بحق القرار؟ .. بالطبع لا، إلا إذا كان البعض مصر على إغماض عينيه عن الحقيقة الساطعة، وهي أن الإدارة الأمريكية ـ بكامل هيئاتها ـ والشعب الأمريكي ـ بوجه عام ـ ينظرون إلى علاقتهم بإسرائيل، من منظار ديني بحث، سيكون له أكبر ¬

(¬1) الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين ـ نصير عاروري الطبعة: الأولى 2003ـ كامبردج بوك ريفيوز

بل كلينتون

الأثر على الصراع العربي الإسرائيلي، وبالذات في ظل النظام العالمي الجديد بكل سلبياته على المنطقة العربية. فالنظام العالمي الجديد الذي استبشر به كثير من العرب، وظنوا أنه سيعيد لهم حقوقهم المسلوبة، وسينشر الأمن والسلام، في المنطقة لم يمهلهم طويلاً، حيث بدأت ملامحه تطفو على السطح، وتصيبهم بنفس المرارة وخيبة الأمل التي أصابتهم مراراً في العصر الحديث، من خلال تجاربهم الطويلة والفاشلة مع كلِّ من الحكومتين البريطانية والأمريكية. وسيعلم العرب أن النظام العالمي الجديد لن يهدأ له بال إلا بعد أن يتوج جهوده الكبيرة في خدمة إسرائيل، بجعل الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، أمراً واقعاً ومقبولاً دولياً وعربياً وإسلامياً، لتكون عاصمة للنظام العالمي الجديد، حيث سيحكم المسيح ويبدأ عصر الألف عام السعيد، كما يقولون؟! بل كلينتون إن تحرر السياسية الأمريكية من ضغوط نظام القطبين، والتي كانت تدفعها إلى اللجوء إلى أساليب مختلفة، لتبرير سياستها المنحازة لإسرائيل، كما أسلفنا، هذا التحرر ربما يفسر لنا عدم حاجة الرئيس الأمريكي (بل كلينتون)، إلى إخفاء مشاعره الدينية تجاه إسرائيل، حيث أعلن خلال حملته الانتخابية عن عزمه، نقل السفارة الأمريكية إلى القدس (¬1). وبالطبع لا يمكن فهم هذا الإعلان من قبل (كلينتون) على أنه جاء لخدمة المصالح الأمريكية في المنطقة، أو بسبب ضغوط اللوبي الصهيوني وغيرها من الأمور. فأمريكيا ليس لديها أي مصلحة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، من وراء اعترافها بالقدس كعاصمة لإسرائيل، بل العكس هو الصحيح. فهذا الإجراء لو حدث، فإنه سيؤدى إلى ردود فعل عنيفة، واستياء عام في الدول العربية والإسلامية، وحتى الدول المسيحية، غير البروتستانتية وعلى رأسها الفاتيكان. فهذه الدول جميعاً لها وجهات نظر مختلفة تجاه الوضع النهائي لمدينة القدس، تختلف كثيراً عن وجهة ¬

(¬1) جريدة القدس الفلسطينية ـ العدد: 8342 ـ الخميس 24ـ12ـ1992م.

الخلفية الدينية لبل كلينتون ... !!

النظر الإسرائيلية والأمريكية المؤيدة لها. إذاً لا يمكن فهم هذا الإعلان من قبل كلينتون، إلا بالنظر إلى الخلفية الدينية السائدة في أمريكيا والتي يعتبر كلينتون جزءاً منها. الخلفية الدينية لبل كلينتون ... !! سيعتبر الكثيرون الحديث عن الخلفية الدينية للرئيس بل كلينتون نوعاً من التعسف والتجنى في غير محله، وبالذات بعد التهم التي لاحقته بشأن علاقاته الغرامية مع (بولا جونز) و (مونيكا لوينسكى)، حيث سيقول هؤلاء كيف يمكن الحديث عن تدين كلينتون وهذه أفعاله؟!!. وللرد على ذلك نقول: إن ما قام به كلينتون لا يختلف في شيء عما قام الرئيس الأمريكي (كليفلاند)، الذي جاء إلى البيت الأبيض مجتازاً باب النجاح في الانتخابات التي جرت 1884م اجتيازاً عسيراً، بهامش ضيق من الأصوات بسبب الفضيحة التي طاردته، عندما اتهمته سيدة تدعي (ماريا هيلبين) بأنه أب لابنها دون زواج. حيث غفر الأمريكيون لـ (كليفلاند) ـ كما رأيناهم يغفرون لكلينتون ـ فضيحته مع (مونيكا)، وسمحوا لذلك المحامي المنتمي للحزب الديمقراطي (كليفلاند)، الذي عمل في الشرطة ـ قبل أن يصبح حاكما لولاية نيويورك ـ أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية (¬1). كما أنه لا يختلف عما قام به كثير من رموز الكنيسة البروتستانتية في أمريكا، مثل (جيمى سواجارت) و (جيم بيكر) اللذين مارسا الزنا لمرات عديدة، ولما افتضح أمرهما لم يخجلا من ذلك، وذهبا إلى الكنيسة، وأعلنا التوبة أمام إتباعهم، وعلى الهواء مباشرة، وعادا بعد ذلك لممارسة الوعظ في الكنيسة مره أخرى، وكأن شيئاً لم يحدث. بل أن الأمر وصل إلى درجة أن بعض البروتستانت التحرريون ساموا علناً أشخاصاً يمارسون الشذوذ الجنسي جهاراً، فجعلوا منهم قساوسة، حيث اعتبروا تقبل الشواذ جنسياً، والذين كانوا منبوذين سابقاً تعبيراً عن أخلاقيات المسيح!؟ (¬2). وهذا أمر طبيعي في العقيدة البروتستانتية، التي تؤمن بحرفية كل ما جاء في الكتاب ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص 204 (¬2) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص268

المقدس، الذي يضم بين دفتيه مئات القصص والراويات عن ممارسة الفاحشة واللواط وغيرها، والتي تنسب للأسف ليس لأشخاص عاديين، بل تنسب للأنبياء والصالحين!!. إذ فخطيئة كلينتون من وجهة النظر الدينية ـ ومنظومة القيم، التي يقوم عليها المجتمع الأمريكي، لا تنفى تدينه، وإيمانه بحرفية كل ما جاء في الكتاب المقدس، وليس أدل على ذلك أنه شوهد أثناء أزمة اتهامه، وهو يخرج كل يوم أحد من الكنيسة، حاملاً في يده نسخته الشخصية من الإنجيل!! (¬1). وبالعودة إلى نشأة كلينتون، نجد أنه ولد في ولاية اركنسو، وتولى حكمها فيما بعد. والواقع أن المدينة التي ترعرع فيها بيل في اركنسو، وهي هوت سبرينغ (أو الربيع الحار)، كانت تحتوي على نوعين من النشاطات: الكازينو، وسباق الخيل، من جهة، والمعمدانية أو الأصولية المسيحية الجديدة من جهة أخرى. ولقد كان تأثير الأصولية المسيحية كبيراً عليه، ولا يزال حيث انعكس ذلك بصوره كبيره على موقفه من إسرائيل، حيث كان (بيل كلينتون) كريماً في الوعود التي أطلقها لصالح الدولة العبرية، وصريحاً في انتقاده للإدارة السابقة عليه. وجاء في رسالة بعث بها إلى الناخبين ـ أثناء حملته الرئاسية ـ يطلب دعمهم ما حرفيته: "نعم إسرائيل وأميركا على منعطف طرق اليوم، نطلب منك دعماً مالياً سخياً، أن بوش يستطيع أن يجمع الملايين بدعوة أصدقائه الأغنياء إلى العشاء. هل تساعدوني على إرجاع المنطق إلى العلاقة الأميركية ـ الإسرائيلية؟. الرجاء أجيبوا اليوم وكونوا كرماء، اقسم أني إذا انتخبت رئيساً، لن أخيب أمل إسرائيل أبداً". والتزاماً بوعوده، فقد جاءت التعيينات اليهودية في الإدارة الكلينتونيه بحصة مهمة لها وزنها وتأثيرها على الصعيدين الداخلي والخارجي (¬2). كما أن كلينتون نفسه وضح الخلفية الدينية التي تدفعه للتعاطف مع إسرائيل التي زارها في عام 1981م، حيث وصف هذه الزيارة التي تأثر بها كثيراً، بأنها كانت، زيارة دينية أكثر منها سياسية. كما أنه تأثر كثيراً بقصة موت أحد رجال الدين ¬

(¬1) الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب - من قسم العالم إلى فسطاطين - اسعد أبو خليل- - ترجمة / ميرفت أبو خليل - ص 34 - دار الآداب للنشر والتوزيع /بيروت - ط1 2003 (¬2) خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق د. صالح زهير الدين ص 86ـ87

المسيحيين، كان قد مات مؤخراً، وتحدث إليه طويلاً قبل ذلك، حيث قال له هذا القس: "إنه يأمل في أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، ولكنه قال له أيضاً: "إنه يجب عليه أن يحافظ على إسرائيل ... لأنه إذا تخلى عن إسرائيل، فلن يغفر له الله". وعلق كلينتون على ذلك بقوله: "أعتقد أنه ينظر إلى الآن ـ يقصد القس ـ وإذا ما انتخبت فلن أتخلى عن إسرائيل" (¬1). هكذا يؤكد (بل كلينتون) كسابقيه من الرؤساء الأمريكيين على الأبعاد الدينية والتوراتية لعلاقته بإسرائيل، حيث أنه لم يبخل منذ توليه الرئاسة في تقديم كافة أنواع الدعم للدولة اليهودية. فقد قام بزيارتين لإسرائيل، ليؤكد للجميع دعمه وتأييده لها، ومن تابع هاتين الزيارتين، لابد وأنه لاحظ مدى مشاعر الحب والود التي يكنها الرئيس بل كلينتون لإسرائيل وارض إسرائيل. ففي خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي خلال زيارته الأولى، كان (بل كلينتون) يتغنى باليهود وإسرائيل، وبالقيم اليهودية التي منحها الشعب اليهودي للعالم الحر .. وفي الزيارة الثانية لاحظنا مدى تأثره باغتيال رابين، حيث جاء وطاف حول قبر رابين وكأنه يطوف أمام قبر نبي أو مكان مقدس، ولإظهار هذه القدسية ارتدى القبعة اليهودية، وودع رابين بكلمات عبرية قائلاً (شالوم حافير) (وداعاً يا صديقي). كما أن حرص الرئيس كلينتون وإدارته على إسرائيل ومصالحها، بلغ أكثر من حرص الإسرائيليين على أنفسهم، فقد حدث أن أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً بإدانة إسرائيل لقيامها بمصادرة مساحات واسعة من الأراضي في مدينة القدس، فقامت أمريكيا باستخدام حق الفيتو ضد القرار، ولكن في اليوم التالي أجبرت الحكومة الإسرائيلية ـ بعد ضغوط من أعضاء الكنيست العرب ـ على إلغاء هذا القرار، بعد أن هددوا بالتصويت ضد الحكومة في جلسات الكنيست. أما موقفه العدائي والحاقد من العراق، فليس بحاجة إلى توضيح، حيث أنه وخلال فترة رئاسته، ارتكب أبشع الجرائم بحق الشعب العراقي، من تدمير وحصار جائر راح ضحيته أكثر من نصف مليون طفل عراقي، هذا بالرغم من أن العراق التزم بكافة قرارات مجلس ¬

(¬1) جريدة القدس ـ العدد: 8329 ـ السبت 7ـ11ـ 1992م.

كلينتون ومونيكا وضرب العراق

الأمن الأمريكي الظالمة، والتي لم تقنع هذه الإدارة بالكف عن مهاجمة العراق والبحث يومياً عن مبررات لتدميره. كلينتون ومونيكا وضرب العراق يعتبر الرئيس الأمريكي (بل كلينتون) من المغرمين بكل ما هو يهودي، فوزراءه ومستشاريه أغلبهم من اليهود .. ! وحتى عندما أراد أن يرتكب الفاحشة، اختار تلك اليهودية مونيكا، سائراً على خطى الملك الفارسي قورش الذي أصبح بطلاً من أبطال العهد القديم بعد مغامرته مع (استر) اليهودية، التي تمكنت من إغوائه ودبرت مؤامرة للانتقام من أعداء بنى قومها ـ أثناء السبي البابلي ـ في مذبحة قتل فيها 75 ألف قتيل، وكان ذلك في اليوم الثالث عشر من آذار، الذي أصبح عيداً من أعياد اليهود يحتفلون به سنوياً، كما إنها تمكنت في النهاية من إقناع قورش بإعادة اليهود إلى فلسطين، وبناء الهيكل الذي دمره الملك البابلي نبوخذ نصر. ولما كان الرؤساء الأمريكيون يتسابقون للحذو حذو قورش والتشبه به، كما فعل الرئيس ترومان الذي قال عندما قدمه (إيدى جاكوبسون) إلى عدد من الحاضرين في معهد لاهوتي يهودي، ووصفه بأنه الرجل الذي ساعد على خلق دولة إسرائيل. فرد عليه ترومان بقوله: "وماذا تعنى بقولك ساعد على خلق؟ إنني قورش ... . إنني قورش". فربما أراد (كلينتون) أن يحذو حذو قورش بان يعيد إخراج الرواية حتى في أدق تفاصيلها، فاضطر إلى إقامة تلك العلاقة مع تلك اليهودية، حتى لا يخرج عن السيناريو المحدد سلفاً في سفر استر، وحتى لا يتهم بعدم الإيمان بحرفية كل ما جاء في الكتاب المقدس فيكون من الخاسرين ... .. !! ويكفى تأمل ما قامت به إدارة كلينتون ضد العراق من حصار همجي حاقد، وتدمير لمقدرات هذا البلد العظيم وتقتيل لأطفاله، وكل ذلك من أجل عيون إسرائيل ومونيكا .. ؟! حصار العراق والقيام بعمل الرب!! يشكل العراق في الدعاية الأمريكية والبريطانية مشكلة في الشرق الأوسط ـ حيث يتماهى العراق بصورة عامة مع الرئيس العراقي، الزعيم الذي أضفيت عليه

صفات شيطانية وبصورة منتظمة، استبعد من كل مفاوضات .. هذا هو رئيس الدولة العربية، الذي لا بد من إبقائه (في الحصار) و (داخل القفص) أو (داخل القمقم) أو ـ حسب تفكير أمريكي ـ بريطاني لاحق ـ لابد من الإطاحة به لإزالة كل تهديد مزعوم يشكله على جيرانه والغرب والعالم. فقد حكم استراتيجيو واشنطن بأنه لضرب (الملك الشيطاني)، ولإنجاز جداول أعمال سرية واسعة فإن أي عمل ضد العراق مسموح به. لقد عانى العراق لأطول من عقد من غارات الصاروخ كروز والقصف الذي لا ينتهي بالقنابل، والهجمات الإيرانية في الجنوب، والغزوات التركية في الشمال والتخريب الإرهابي والمحاولات الانقلابية ضد الرئيس العراقي، والدعايات السوداء التي لا تعرف ندماً، ونظام عقوبات مستمرة، وهي ما اعترف أكثر مسئولي الأمم المتحدة اتزاناً، بأنها اكتسبت أبعاداً للإبادة الجماعية (¬1). فعلاً إنها إبادة عرقية لشعب العراق، تدار من قبل واشنطن ولندن ليس إلا .. هذه ما شهدت به أهم الأسماء العالمية التي انخرطت في الجهد القاري الخاص بفك الحصار عن العراق. وتشمل هذه الأسماء (نعوم تشومسكي) , (ودينس هاليداي) الذي استقال من منصبه الرفيع كمسؤول عن برنامج الأمم المتحدة في العراق احتجاجاً على لاإنسانية الحصار واستهدافه شعب العراق بدل النظام, وجون بيلجر الصحفي والكاتب البريطاني الناقد, وروبرت فسك من الإندبندنت, وغيرهم أمثال النائب البريطاني (جورج جلوي)، (ورامس كلارك) المدعي العام الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية، الذي قدم شكوى جنائية ضد الولايات المتحدة الأمريكية وآخرين لجرائمهم ضد شعب العراق، والتي تسببت بوفاة أكثر من مليون وخمسمائة ألف شخص، بينهم سبعمائة وخمسون ألف طفل تحت الخامسة من العمر، وإلحاق الأذى بكل السكان بعقوبات مبيدة جماعياً (¬2). وبالرغم من هذه الإبادة الجماعية لأطفال العراق، إلا أن ذلك لم يؤثر في صناع القرار في واشنطن، فعندما سئلت مادلين أولبرايت ـ وزيرة الخارجية الأميركية السابقة ـ عن رأيها في تسبب الحصار في موت أكثر من نصف مليون طفل عراقي، ¬

(¬1) استهداف العراق - العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية - جيف سيموند - ص17 - مركز دراسات الوحدة العربية - ط1 2003 (¬2) خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق ـ د. صالح زهر الدين ص211

أجابت قائلة: "إننا نعتقد أن ثمرة الحصار تستحق ذلك" (¬1). هذا التصريح الخالي من كل بعد إنساني هو في الواقع البوصلة التي نستهدى بها في تحليلنا، ورصدنا لجوهر وخلفيات السياسة الأميركية والبريطانية تجاه العراق. ذلك أن أولبرايت وبفجاجتها المعهودة ـ لكن المفيدة لناحية عدم إخفاء الدوافع الحقيقية تحت ستار اللغة الدبلوماسية المخففةـ قد وضعت النقاط على الحروف بشكل جلي: الولايات المتحدة لا يهمها مصير مئات الآلاف من أطفال العراق الأبرياء, بل يهمها المضي بصرامة في تنفيذ سياستها الخارجية، الهادفة إلى المحافظة على مصالح أميركا في الشرق الأوسط أولاً وأخيراً، وبالأساس الحفاظ على أمن إسرائيل. وإذا كانت العنجيهة (الأولبراتية) قد صدمت كثيرين آنذاك، إلا أنها لم تصدم (أنتوني آرنوف) محرر كتاب (العراق تحت الحصار)، الذي يموضع تلك العنجهية في إطار سياسة خارجية عامة للولايات المتحدة تنظر من خلالها نظرة عنصرية للعرب والمسلمين باستخفاف واحتقار، وبأنهم وبلدانهم وشعوبهم مجرد مصدر للنفط وللإرهاب, بما يستوجب نهب الأول ومحاربة الثاني (¬2). فالمسألة هي كما يقول (ويليام بلوم): "إن زعماءنا قساة لأن من يرغبون ويستطيعون أن يكونوا قساة وعديمي الرحمة بصورة متطرفة هم وحدهم الذين يستطيعون أن يحتلوا مناصب القيادة في مؤسسة السياسة الخارجية، ربما كان ذلك منصوصاً عليه في مواصفات الوظيفة. إن الأشخاص القادرين على الإعراب عن قدر من التعاطف الإنساني والتقمص العاطفي مع الأغراب البعيدين، الذين لا حول لهم ولا قوة - ناهيك بالجنود الأمريكيين ـ لا يصلحون رؤساء للولايات المتحدة ولا نواباً للرئيس، ولا وزراء خارجية، ولا مستشارين للأمن القومي، ولا وزراء خزانة، كما أنهم لا يريدون ذلك" (¬3). لكن ماذا تريد الولايات المتحدة بالضبط من العراق بعد كل التدمير الذي لحق به، جراء القصف الجوي اليومي، والذي تم بصمت ومن دون أي ضجيج إعلامي؟. ¬

(¬1) قرن أمريكي آخر ـ نيكولاس غايات ـ ترجمة رياض حسن ـ ص177 - ترجمة رياض حسن- دار الفارابي- ط1 2003. (¬2) العراق تحت الحصار: الأثر المميت للعقوبات والحرب تأليف أنتوني آرنوف (محرر) ـ ص13ـ14 - خدمة كمبردج بوك ريفيو. (¬3) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيدـ ص 36.

يجيب على ذلك الرئيس جورج بوش الأول، الذي كان المهندس الأساسي لحملة العقوبات، والذي قاد حملة التحريض على حرب الخليج عام 1991م وكان مصمماً ـ إلى جانب من خلفوه في الرئاسة ـ على أن يؤمن بقاء الحظر الاقتصادي والغارات على الدوام. ففي يوم 19 كانون الثاني / يناير 2000م أشاد بالطياريين الأمريكيين في قاعدة أحمد الجابر الجديدة في الكويت، قائلاً: "إنهم (يقومون بعمل الرب) في مواصلتهم الإغارة بالقنابل على العراق، وأضاف معلناً: "نحن الولايات المتحدة بلد أخلاقي ... وأنتم (الطيارون الأمريكيون) تعلنون بياناً أخلاقياً" (¬1). ولا أعرف أي رب هذا الذي يؤمن به (جورج بوش الأب)، الذي تسبب في إبادة جماعية لشعب العراق، إلا أن يكون (رب الجنود يهوه) الذي يتحرق شوقاً على قتل أطفال العراق: "طوبى لمن يحطم رؤوس أطفال بابل بالحجارة". هذا هو البيان الأخلاقي الذي يعنيه الرئيس بوش الأب، والذي تسبب حسب دراسة لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة والأمومة (يونيسيف) في أن ثلث الأطفال العراقيين أقل من خمس سنوات (أي 96 ألف طفل)، يعانون من نقص تغذية مزمن. وارتفعت نسبة وفيات الأطفال من 61 في الألف العام 1990م، وهى السنة التي فرض فيها الحظر على العراق، إلى 117 في الألف العام 1996م. وقد تضاعف المتوسط الشهري لعدد الأطفال الذين يموتون نتيجة إصابات رئوية حادة، ونتيجة نقص التغذية والإسهال بمعدل عشر مرات، وارتفع من 589 وفاة عام 1989م إلى 5750 عام 1996م (¬2). وعلى الصعيد الصحي، فإن بيان بوش الأخلاقي، الذي زينه بنظام العقوبات، تسبب في كارثة إنسانية لا يمكن وصفها خاصة على مستوى حظر استيراد الأدوية والغذاء، بزعم أن الكثير منها يحتوي على مواد وعناصر يمكن للعراق استخدامها في إنتاج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، حيث كان استيراد أي مواد من الخارج يتطلب موافقة لجان عديدة من الأمم المتحدة ـ المشرفة على الحصارـ والمرور بـ14 خطوة تسيطر عليها الولايات المتحدة، التي كانت ترفض الكثير من صفقات الدواء والطعام ¬

(¬1) استهداف العراق - العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية - جيف سيموند - مركز دراسات الوحدة العربية ص257. (¬2) خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق - د. صالح زهر الدين ص247

حتى من دون تقديم أي تبريرات (¬1). وهكذا فقد كانت عمليات الحصار الأميركية على العراق قتلاً بطيئا لكل العراقيين، فتوفي مئات الآلاف من الأطفال بسبب الجوع والمرض، وتدنت مستويات المعيشة لدى الملايين، واتسعت مساحة الفقر حتى شملت عائلات كانت ميسورة. لقد قضى الحصار على الطبقة الوسطى العراقية، ودفع الشعب العراقي للعيش في خوف ومرض وجهل لسنوات طويلة، فقد انخفض الدخل الفردي في العراق من 4000 دولار عام 1980م إلى أقل من 300 دولار عام 1999م، وهاجر عشرات الآلاف من أصحاب الكفاءات العلمية والمهنية العالية (¬2). إلى جانب ما تقدم برزت في حرب الولايات المتحدة المستمرة ضد العراق مسألة دور الإعلام وأنماط التحكم فيه في الغرب، لنقل ما تراه واشنطن, أو ما تريد للرأي العام أن يراه، من خلال ما يقوله الأعلام ضمناً، أو يسكت عنه قصداً، حيث أن الإعلام الغربي ارتكب سبع خطايا في حق الشعب العراقي. فهناك إهمال أو تخفيف لأثر العقوبات على الشعب العراقي, وهناك إهمال للتقارير التي تنقض وجهة النظر الغربية، وترى معدلات الوفاة وغيرها على حقيقتها, وهناك أيضاً الإصرار على شخصنة الحرب وكأنها موجهة ضد صدام حسين فقط، والتغافل المقصود عن ذكر الشعب العراقي أو العراق كدولة (¬3). يضاف إلى هذه التكتيكات والخطايا أساليب التغطية نفسها، حيث كان يتم عادة خلق توازن قوى وهمي لتبرير الضربات القوية وبلا رحمة, إضافة إلى المبالغة في تصوير قوة الجيش العراقي، والتهديد الذي يمثله للجوار, وكذا الانتقائية في اختيار الخبراء، الذين يدلون بتعليقات حول الشأن العراقي والعقوبات، حيث يتم التركيز على موضوعات تافهة وسخيفة، في الوقت الذي تغفل به جرائم بشعة ترتكب بحق الشعب العراقي والإنسانية، في عملية تضليل وتعتيم متعمدة من قبل وسائل الإعلام الأمريكية وإذنابها. ولكن بالرغم من هذا التعتيم والتضليل الإعلامي، ¬

(¬1) العراق .. تقرير من الداخلـ تأليف: ديليب هيرو ـ كامبردج بوك ريفيوز (¬2) زلزال في أرض الشقاق العراق (1915ـ2015) ـ ـ كمال ديب ـ عرض/ إبراهيم غرايبةـ المصدر: الجزيرة ـ 19/ 2/2004م (¬3) العراق تحت الحصار: الأثر المميت للعقوبات والحرب تأليف ـ أنتوني آرنوف- - ط1 2000 - الناشر: بلوتو برس- لندن خدمة كمبردج بوك ريفيو- الجزيرة نت

كانت هناك كثير من الأصوات الشريفة، والشجاعة في الغرب، والتي تمردت على الخطاب الرسمي في بلدانها، ورفضت الانصياع لمنطق تحقيق المصلحة القومية النفعية تحت أي ظرف وبأي ثمن, ولو كان ذلك الثمن تدمير شعوب وسحقها, وإرجاع بلدان بأكملها إلى قرون التاريخ السحيق. وبعد ... هذه هي قصة حرب الخليج الثانية وما تبعها من حصار، والتي تبدو وكأنها سيناريو معد مسبقاً، تم تنفيذه بإتقان، لتدمير القوة العراقية، التي تهدد إسرائيل، حيث استخدمت دول عربية ككبش فداء، لتمرير هذا المخطط من خلال تبعيتها الكاملة وتآمرها مع أمريكا، وعدم إدراكها لما يعد لها وللمنطقة على أيدي الأمريكان والإنجليز والصهاينة. فكانت حرب الخليج الثانية، التي لم تنته بتدمير العراق، ونهب ثروات المنطقة واحتلالها، بل استمرت لمدة 13 عاماً من خلال فرض حصار جائر وهمجي على الشعب العراقي، أدى إلى مقتل ملايين العراقيين من أطفال وشيوخ، بالإضافة إلى ترسيخ الاحتلال الأمريكي لمنطقة الخليج، وزيادة القواعد العسكرية فيها واتساعها، مما خلق جو من عدم الاستقرار في المنطقة، بسبب التهديدات الأمريكية المستمرة بالحرب على العراق، والتي ألحقت أضرار هائلة باقتصاديات هذه الدول، وقضت على سيادتها واستقلالها. والآن تكرر أمريكيا نفس المحاولة، لضرب صمود وشموخ الشعب العراقي، الذي لم تهز إيمانه ويقينه تلك الحرب الهمجية، والحصار الجائر، الذي لم يشهد التاريخ مثيلاً له، ولم تثنه التضحيات الجسام التي قدمها عن التخلي عن التزاماته تجاه القضايا العربية والإسلامية، وعلى رأسها قضية فلسطين، بل كان ولازال، أمل هذه الأمة في النهوض والتحرر. نعم كررت أمريكيا المحاولة، وضربت العراق، واحتلت أراضيه، ليس لتحرير الكويت التي لم تحرر، أو لتطبيق قرارات ما تسمى بالشرعية الدولية، بل من اجل تدمير البقية الباقية من القوة العربية، لإعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة، حسب المتطلبات التوراتية لإسرائيل، والتيار الديني الأصولي في أمريكا، لتكون هذه الحرب (هرمجيدون) فرصة للانتقام من كافة مضطهدي إسرائيل، ومقدمة ضرورية لعودة مسيحهم المنتظر، وتدمير الأقصى

وإقامة إسرائيل الكبرى، وسنكمل حديثنا عن هذه الحرب في الفصول التالية، في اطار حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي ...

الباب الثالث حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي وعلاقتها بمخطط إسرائيل الكبرى

الباب الثالث حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي وعلاقتها بمخطط إسرائيل الكبرى

الفصل الأول الدين والدولة

الفصل الأول الدين والدولة أمريكا دوله لها روح كنيسة قد يبدو القول بوجود دور قوى وفعال للدين في العملية السياسة، وفي الحياة العملية في بلد صناعي متقدم كالولايات المتحدة، في أواخر القرن العشرين، في أسوأ الحالات، كتقول وادعاء، وفي أقلها سوءاً، كإسقاط لأفكار مسبقة عن تأثير الغيبيات ... غير أن ذلك يسقط من الاعتبار الحقيقة الماثلة في أن قادة المجتمع الأمريكي السياسيين والروحانيين على السواء، عنوا بأن يتخذوا مواقفهم منذ نشأة جمهوريتهم وحتى الآن، على قمة متاحة من الأرض الأخلاقية العالية، مستمدين باستمرار السند والمبرر لكل تصرف أمريكي في شؤون أمريكا والعالم من الدين والأخلاقيات العليا، ومن المصطلحات ذات الرنين الأخلاقي القوى، كـ (الحقوق الإنسانية)، و (القانون الدولي)، و (الحضارة) وما أشبه، ومسبغين على أنفسهم وعلى بلدهم عباءة الاضطلاع بعبء رسالة حملت العناية الإلهية ذاتها لا أقل، الأمة الأمريكية بها لصالح البشر جميعاً (¬1). وعندما قمت في عام 1993م بنشر دراسة بعنوان (الصليبيون الجدد .. الحملة الثامنة) في جريدة القدس في فلسطين، والتي تحولت فيما بعد إلى كتاب يحمل نفس العنوان ـ نشر في كل من فلسطين ومصر، محاولاً إبراز الأبعاد الدينية للتحيز الأمريكي البريطاني لإسرائيل ـ استغرب في حينه كثير من الأصدقاء هذه التسمية، اعتقاداً منهم أن العصر الذي نعيش فيه لم يعد به مجال للحروب الصليبية، والعداوات الدينية، ولكنهم بعد قراءة الكتاب والأمثلة العديدة التي وردت فيه لتأكيد هذا البعد، هالهم ضخامة الدور الذي يلعبه الدين في رسم سياسة وتوجهات أكبر دولة في العالم، تجاه المنطقة العربية والعالم الإسلامي (¬2). ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص323 (¬2) بعد أحداث 11 سبتمبر بثلاثة أسابيع قمت بنشر دراسة بعنوان "حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي وعلاقتها بمخطط إسرائيل الكبرى" في كثير من الصحف والمجلات العربية وعلى صفحات الإنترنت، محاولاً توضيح ما يجرى وعلاقته بالتيار الديني الأصولي الذي يحكم أمريكيا، وبالذات بعد توجيه التهمة للعرب والمسلمين، بدون وجود أي دليل على علاقة المسلمين بهذا العمل، حيث نشرت الدراسة في جريدة الشعب المصرية وصحيفة الجماهيرية الليبية وكثير من المواقع العربية على الانترنت.

الأصولية المسيحية وعلمانية الغرب

فبالرغم من إدراكي، أن الحديث عن حروب صليبية في هذا العصر، يعتبر أمراً مستهجناً لدى البعض، إلا أنني سأستمر في محاولة إبراز هذا الدور الذي يلعبه الدين في السياسة الأمريكية، انطلاقاً من إيماني أن الدين ـ كان ولا يزال ـ هو الملهم والمحرك الأساسي لكافة الأفعال البشرية. فكما يقول المؤرخ الإغريقي (بلوكارل): قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور ... ومدن بلا مدارس ... ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد. الأصولية المسيحية وعلمانية الغرب من الأخطاء الشائعة لدى معظم المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين، اعتقادهم بلادينية الحضارة الغربية، قياساً على الإفرازات الأخلاقية والفكرية لهذه الحضارة، التي تفصل بين الدين والدولة. وهذا الاعتقاد خاطئ وربما يصدق على بعض الدول الغربية، ولكنه لا يصدق عليها كلها. فهو يصدق على الدول الكاثوليكية مثل إيطاليا وفرنسا وأسبانيا، ولكنه لا يصدق على الدول البروتستانية مثل بريطانيا وأمريكيا. فالدول الكاثوليكية قبل أن تأخذ بمبدأ فصل الدين عن الدولة، كانت تخضع لسلطة البابا، وكان لزاماً عليها إطاعة أوامره، حيث بلغت سلطة البابا في ذلك الحين شأواً عظيماً. فقد كان البابا يدعى حق السيطرة الدينية والدنيوية على كل شيء، وكانت الكنيسة تفرض ضريبة الأعشار على إتباعها وتجمع التبرعات وتضمها لمواردها الخاصة، فضلاً عن إعفاء أملاكها من الضرائب. وكان للبابا نواب يمثلونه لدى كافة الملوك والأمراء في أوروبا (¬1). ولكن عندما تأثرت هذه الدول بأفكار عصر التنوير وبحركة الإصلاح الديني، قامت بفصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، بحيث لم يعد للبابا أي سلطان عليها. ولكن هذا الدول عندما فعلت ذلك فإنها خالفت قرارات المجامع المسكونية، التي اعتبرت كل المسيحيين بمن فيهم الحكام خاضعين ¬

(¬1) الاجتماع الديني (مفاهيمه النظرية وتطبيقاته العملية) ـ د. أحمد الخشاب ـ ص 212

للبابا وملزمين بطاعة أوامره، لأنه رئيس الكنيسة التي تحمل سلطان الله على الأرض (¬1). وهذا الوضع الجديد الذى نشأ في هذه الدول، نتيجة فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية، يجعل الحديث عن علمانية هذه الدول له ما يبرره، وربما هذا ما يفسر قوة الأحزاب الشيوعية في البلدان الأرتوذكسية والكاثوليكية، في حين أنها غير قوية في البلدان الأخرى، وعلى الأخص في البلدان البروتستانتية. فمن بين الأعمال المبكرة لماركس, والتي لم تحظ بالكثير من الشهرة, تعليق كتبه على إنجيل يوحنا. يجزم ماركس فيه: "بأن المسيحية, بصيغتها البروتستانتية على وجه الخصوص, هي الشيء الوحيد القادر على إعادة صنع حياة دمرتها الخطيئة" (¬2)، لأن العامل عندما وجد انه مبعد عن مجتمع تدعمه الأوساط الكاثوليكية، انضم إلى اكليروس آخر مستكمل التكوين (¬3)، وهذا يعنى أن الدين الذي وصفه ماركس بأنه افيون الشعوب، هو الدين المسيحي بشقه الكاثوليكي والارثوذكسي، وليس الدين المسيحيى بشقه البروتستانتي، الذي مدحه ماركس وغيره من مفكري التنوير كما سنلاحظ، بسبب فصله بين الدين والدولة. أما الدول البروتستانتية مثل بريطانيا وأمريكيا، فإنها بتبنيها للمذهب البروتستانتي، قبلت بمبدأ فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية، الذي نادى به (لوثر) خلال محاولته تحجيم سلطة الكنيسة الكاثوليكية، كما وضحنا ذلك سابقاً. فإلى جانب الإصلاحات الدينية الكاسحة التي قام بها (مارتن لوثر) و (جون كالفن)، فإنهما ربما اقترحا إلغاء الصلة التي تربط بين الكنبسة والدولة، والتي كانت تمثل جزءا أساسياً في الكاثوليكية في ذلك الوقت. ولكن في الحقيقة أيد كل من (مارتن لوثر) و (جون كالفن) إضفاء الطابع الرسمي على الكنائس التي أسهما في تأسيسها (¬4). وقد جاءت بعد لوثر فرق بروتستانتية متعددة مثل المعمدانيين لتؤكد هذا المبدأ، حيث كانوا أول من نادى بمبدأ فصل الدين عن الدولة، لأسباب دينية ¬

(¬1) المسيحية ـ د. أحمد شلبي ـ ص 252 ـ253 (¬2) إنجلز .. مقدمة قصيرة جداًـ تيريل كارفرـ مراجعة/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت (¬3) تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 83 - عويدات, 1982 (¬4) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص25

أصولية أدعوا خلالها بأن الكنيسة في بدايتها الأولى لم يكن لها أي علاقة بالدولة. لهذا فإن الدول البروتستانتية مثل بريطانيا وأمريكيا عندما قامت بفصل الدين عن الدولة، فإنها فعلت ذلك استجابة لعقيدة دينية، وليس استجابة لأفكار ونظريات فلسفية علمانية كما حدث في الدول الكاثوليكية والأرثوذكسية. فنتيجة للثورة على الكنيسة الكاثوليكية خلال عصر الإصلاح، "رأي الغرب في العلمانية - كما قال الفيلسوف الإنجليزي البروتستانتي (جون لوك) (¬1) - الطريقة الجديدة والأفضل ليكون المرء متديناً، معتبراً أن الخلاص الروحي ينبغي أن يقوم على ترك الأفراد ليقرروا بأنفسهم في نهاية المطاف، الطريقة التي يرشدهم بها الكتاب المقدس لتحقيق ذلك الخلاص, سواء كان ذلك عن طريق العمل الصالح أم برحمة من الله" (¬2). وهذه الطريقة الجديدة التي عرفت فيما بعد بالعلمانية، لم تكن تعني الابتعاد عن الدين، بل الاقتراب منه أكثر ولكن بدون وساطة من رجال الكنيسة، لهذا فإن الدين ظل يلعب دوراً رئيساً في حياة هذه الدول، بالرغم من أنها تفصل بين السلطتين الزمنية والدينية، لأن هذا الفصل لم يأتِ نتيجة لنزعة الحادية تنكرت للدين، بل جاء تلبية لمعتقد ديني. وهذا الوضع الجديد للدين في هذه الدول يتمشى مع رأى (كالفن) في علاقة الكنيسة بالدولة، حيث كان يقول: "إن الكنيسة والدولة مقدستان، وقد خلقهما الله لكي يعملا في انسجام كالروح والجسد لمجتمع مسيحي واحد. فعلى الكنيسة أن تضع القواعد التي تنظم التفاصيل الخاصة بالعقيدة والعبادة والأخلاق، وعلى الدولة أن تدعم هذه القواعد باعتبارها ذراع الكنيسة الطبيعي" (¬3). وهكذا أصبح لفصل الدين ¬

(¬1) جون لوك اسم لامع في تاريخ الفكر السياسي الغربي, ولا يخلو كتاب له علاقة بالعلوم السياسية من اسم هذا المفكر. لوك الفيلسوف والاقتصادي والمجادل العتيد (1632ـ1704) عاصر فترة حرجة ومهمة في تاريخ ميلاد النظام السياسي البريطاني الحديث. وقد شهدت فترة حياته الحرب الأهلية وإعدام الملوك وإعلان الثورة وقيام الجمهورية، كما شهدت فترة تهدئة النزاع الديني الذي مزق البلاد منذ بداية الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية في روما (33ـ1534) وتحول بريطانيا من دولة ملكية مطلقة إلى دولة ملكية دستورية ذات حكومة محددة المهام والصلاحيات. (¬2) لوك .. مقدمة قصيرة جداـ تأليف/ جون دون ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوز (¬3) قصة الحضارة ـ ول ديورانت قصة الحضارة ـ ول ديورانت - زكي نجيب محمود، , محيى الدين صابر ـ ج 23،24 ـ ص 215 - دار الجيل, 1988

رأى فولتير وكانط

عن الدولة معنى جديد في ظل المذهب البروتستانتي ... أنه توزيع للمهام أو تقسيم للعمل حسب تقاليد النظام الرأسمالي. رأى فولتير وكانط من المفكرين الذين هاجموا نشاط المنظمات والمؤسسات الدينية الكاثوليكية، الفيلسوف الفرنسي (فولتير) الذي تربى في مدارس الآباء اليسوعيين، فوقف عن كثب على أساليب جماعة الجزويت الدينية، وكان لهذا أثره في مهاجمته الكنيسة الكاثوليكية، إذا أنه كان يعتقد أن هذه الجماعات وأمثالها من الهيئات الدينية، تقوم بممارسة نواحٍ تدميرية سرية، وتشترك في المؤامرات والاغتيالات السياسية، كما أنهم يتسترون وراء المظهر الديني والهدف الثقافي ليسيطروا على عقول النشئ، ويستغلونهم لتحقيق أغراضهم، التي تتنافى مع طبيعة وظيفتهم الاجتماعية كهيئة دينية. ويبدو أن وقوفه على مثل تلك الممارسة الخطيرة، والأحداث الجسيمة التي ألصقت بالقساوسة، قد كان من أهم العوامل المحفزة له على الشك في رجال الدين، ونقمته على المذهب الكاثوليكي وكنيسته. ويبدو أنه لم يتخذ موقفاً خاصاً إزاء الدين ذاته، لأنه عالج الموضوع من زاويته الشخصية. ففي الوقت الذي هاجم وانتقد رجال الكنيسة الكاثوليكية، امتدح المذهب المسيحي البروتستانتي ورجال كنيسته، زاعماً أن هذا المذهب لا يخرج عن حدود طبيعته الدينية إلى الأغراض الاجتماعية الملتوية التي تقصد إلى تحقيق أغراض سياسية واقتصادية تجارية ومالية. والواقع أن آراء فولتير، تعتبر امتداداً طبيعياً للنزعة التحررية من ربقة السلطة الكنسية والبابوية التي كانت تمارس منظماتها ألواناً من النشاط التدميري، لتحقيق أهدافها النفعية بما يحفظ لها السطوة والسيطرة في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يبدو لنا أن فولتير يندد بفكرة الاضطهاد الديني أكثر من تنديده بالوظيفة الاجتماعية للهيئات الدينية، ومعنى ذلك أن حملاته ضد الكنيسة الكاثوليكية كان مرجعها إلى تعصبها ضد الطوائف الدينية الأخرى كالبروتستانتية. وآية ذلك أنه يشير في فلسفة التاريخ إلى

أن الدين مظهر فطرى للمجتمع الإنساني عن طريقه يتحقق السلام والوفاق بين الأفراد والجماعات. فإذا حاد عن وظيفته الاجتماعية الطبيعية أصبح معول هدم، وأساس اضطهاد، وعامل تفرقة ومشاحنات (¬1). وانطلاقاً من فهم (فولتير) السابق للدين، لم يكن مستغرباً أن يبدى إعجابه بالمذهب البروتستانتي في رسائله عن الانجليز: "فقد إثارة دهشته الحرية التي كان يعمل في ظلها الكتاب الانجليز. فقد كتب (بولينج بروك) و (بوب واديسون) و (سويفت) كل ما أرادوا في جو من الحرية التامة. هنا شعب له آراؤه الخاصة به، شعب أصلح دينه وشنق ملكه، واستورد ملكا آخر، وأنشأ مجلسا نيابيا أقوى من أي حاكم في أوروبا. ولا وجود لسجن الباستيل هنا، وهنا ثلاثون مذهباً دينياً بغير قسيس واحد. هنا أشجع المذاهب الدينية جميعاً، مذهب الأصحاب (الكويكرز)، الذين أثاروا دهشة العالم المسيحي بأخلاقهم المسيحية" (¬2). أما الفيلسوف الألماني (عمانوئيل كانط) فقد سار على نفس النهج في موقفه من الدين، وانتقد ممارسات رجال الكنيسة الكاثوليكية والكثير من طقوسها، حيث قال: "إن قيمة الكنائس والمعتقدات الدينية تكون بمقدار ما تعاون الجنس البشرى على التطور والرقي الأخلاقي، أما إذا تحول الدين إلى مجموعة من المراسيم والعقائد والطقوس الشكلية، وعلق الناس أهمية بالغة على هذه الطقوس والمراسيم وفضلوها على الناحية الأخلاقية، التي جاء بها الدين، وجعلوا المراسيم والطقوس امتحاناً تقاس به الفضيلة، فان هذا يعنى انتهاء أمر الدين وزواله. إن الكنيسة الحقيقية هي جماعة من الناس، مهما بلغ تفرقهم وانقسامهم يجمعهم ويوحدهم ولائهم لقانون أخلاقي مشترك. وقد عاش المسيح ومات لتأسيس مثل هذه الجماعة. لقد أسس المسيح الكنيسة الحقيقية للقضاء على نفاق ورياء رجال الدين ومراسيمهم، وطقوسهم الشكلية، ولكن ظهر بيننا طبقة كهنوتية من رجال الدين والقساوسة بطقوسهم ومراسيمهم التي طغت على فكرة الديانة المسيحية ¬

(¬1) الاجتماع الديني (مفاهيمه النظرية وتطبيقاته العملية) الدكتور / احمد الخشاب ص (¬2) حكمة الغرب - برتراند راسل - ص258

الأصيلة النبيلة. لقد قرب المسيح ما بين ملكوت الله والأرض، ولكن أخطأنا في فهمه فاستبدلنا مملكة الله بمملكة الرهبان والقسيسين، التي نشأت بيننا" (¬1). هذا هو رأي (فولتير) و (كانط) وغيرهم من مفكري عصر التنوير في فرنسا وألمانيا، والذين أصبحوا في نظر كثير من المفكرين العرب والمسلمين مثالاً يحتدي في قضايا الدين والحرية، حيث دعا هؤلاء إلى الانقضاض على الدين وتحييده من حياتنا، والاقتداء بالغرب والأخذ بالعلمانية. وليتهم فهموا مقاصد هؤلاء المفكرين جيداً ودوافعها، ولكنه التقليد غير الواعي للغرب فقط لاغير. فكما لاحظنا فإن (فولتير) يمجد الدين في شقه البروتستانتي وينقم على الدين المسيحي في شقه الكاثوليكي. فهي ليست رؤية ـ أحادية للدين ترفضه رفضاً تاماً كما يريد بعض مفكرينا ومثقفينا، بل هي دعوة إصلاحية للدين تلتقي في النهاية مع، أفكار قادة الإصلاح الديني البروتستانتي التي فصلت الدين عن الدولة، ولكن بدون إلغاء دور الدين في الحياة العامة والخاصة، بل ألغت سلطة رجال الكنيسة فقط، أو بالأحرى نزعت السلطة من يد البابا والكنيسة الكاثوليكية ومنحتها لكافة أفراد الشعب. وهذا الدور الجديد للدين، في الدول البروتستانتية، ربما يفسر لنا كيف أن بعض الباحثين يذهبون إلى أن النظام الرأسمالي بأسره ـ والسائد في هذه الدول ـ هو وليد منظومة القيم الدينية، التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني وبالذات القيم الكالفينة (¬2)، لأن الإصلاح الذي وضعه (كالفن) طمس إصلاح (لوثر) وتفوق عليه في مكان تلاقيهما (¬3). كما أن الدكتور (غيات بوفلجه) يؤكد في كتابه (بين حضارة القوة وقوة الحضارة)، أن الحضارة الغربية المعاصرة هي نتيجة لتطور المذهب البروتستانتي في أوروبا، وتطور الفلسفات المادية وازدهار التقنية الحديثة بها، إذ ربط التطور العلمي بمدى قدرة الإنسان على الطبيعة، وعلى أخيه الإنسان (¬4). ¬

(¬1) المصدر السابق - ص356 (¬2) تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 62 (¬3) المصدر السابق ـ ص 51 (¬4) بين حضارة القوة وقوة الحضارة ـ تأليف الدكتور غيات بوفلجة ـ عرض/سكينة بوشلوح

نسق الدين ونشأة النظام الرأسمالي عند ماكس فيبر

نسق الدين ونشأة النظام الرأسمالي عند ماكس فيبر اعتبر (ماكس فيبر) البروتستانتية وخاصة في أفكارها الكالفنية مصدر الإلهام الحقيقي لنشأة النظام الرأسمالي، إذ يؤكد أنها شكلت نسقاٌ ثيولوجياً له معناه، حيث أحتوى هذا النسق على عدد من القضايا التي شكلت في مجموعها نسقاً منطقياً له تماسكه واتساقه، وهذه القضايا هي: 1 - أن هناك إلهاً واحداً ترانسندنتالياً (متعالياً) ومطلقاً، هو خالق الكون ومالكه، حيث خصائص ومجالات فعله بدون الوحي بعيدة تماماً عن الفهم البشرى. 2 - أن هذا الإله قادر على كل الأرواح الإنسانية لأسباب بعيدة تماماً عن الإدراك البشرى، أما (الخلاص النهائي أو الموت والخطيئة الكاملة) فتمثل اعتقادات ثابتة من الأزل إلى الأبد، وليس للإيمان أو الإرادة البشرية تأثير عليه. 3 - أن الله لأسباب غامضة تتعلق به، خلق العالم، ووضع الإنسان بمفرده بداخله، وذلك لمضاعفة مجده. 4 - ولهذه الغاية فلقد قرر الله أن على الإنسان، دون اعتبار إلى أنه قد قدر الخلاص عليه أم الإدانة، أن يعمل لتأسيس مملكة الله على الأرض، وأنه سوف يخضع أثناء ذلك للقانون الإلهي. 5 - ترك مسائل هذا العالم ذات الطبيعة البشرية والجسدية لذاتها، بحيث تذهب إلى غير رجعة (إلى الموت أو الخطيئة) حيث لا مهرب منها إلا باللجوء إلى تحقيق مجد الله (¬1). وقد شكلت العناصر السابقة في مجموعها كما يذهب (فيبر) نسقاً قيمياً يحكم ويضبط حركة التفاعل في النسق الرأسمالي. كما أن النسق الاجتماعي شهد هو الآخر ظهور عوامل ذات صلة بنشأة الرأسمالية تتصل بنشأة البروتستانتية ذاتها مثل: 1 - سيادة النزعة التقشفية: يرى (فيبر) أنه نظراً للتعالي الكامل لله، والانفصال بين المسائل الدنيوية والسماوية، فإن هذا الوضع استبعد تماماً الاتجاه ¬

(¬1) النظرية الاجتماعية لمعاصرة ـ دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع ـ د. على ليله ص 507 ـ 508 - دار المعارف - ط1 1981

الصوفي للاتحاد بروح السماء والاستغراق في إطارها، بل أصبح على الإنسان أن يوجه طاقاته الدينية نحو الاتجاه الايجابي التقشفي، بدلاً من الاتجاه الصوفي السلبي. فالله لا يمكن الاقتراب منه كلية، وإنما يمكن خدمته فقط. ووفقاً لذلك فخدمة الله لا يمكن أن تكون في اتجاه الاستغراق الكامل في المسائل الحسية لهذا العالم أو التكيف معها، ولكنها تكمن في السيطرة على كل ما هو حي، وفي الخضوع للنظام من أجل مجد الله، وهذا ما يعنيه (فيبر) بالنزعة التقشفية. ويرتبط بذلك أن العمل من ناحية (وهو قيمة كالفنية) والتقشف، وعدم إنفاق المال فيما هو دنيوي من ناحية أخرى يؤدى إلى التراكم العقلاني لرأس المال (¬1). 2 - ازدهار العلم الحديث: يعتبر ازدهار العلم الحديث من العوامل الهامة لازدهار الرأسمالية، حيث يعتبر (فيبر) ذلك من نتائج الاعتقاد بصيغة الإله المتعالي. فما دام العالم اللامتناهي هو من خلق الله، فأفضل السبل لمعرفة الله هو أن ندرس أعماله. 3 - ازدهار التكنولوجيا: يرى فيبر أن ازدهار التكنولوجيا جاء نتيجة لرفض المنطق التقليدي لانجاز الأعمال، فهي تنطوي على أداء أكثر كفاءة لتحقيق مجد الله، كما تملى ذلك القيم البروتستانتية في مذهبها الكالفنى. 4 - تقسيم العمل: تعتبر ظاهرة تقسيم العمل والمهن في المجتمع عند (فيبر) كنتيجة مباشرة للتطور الإلهي للأشياء. فتباين البشر إلى الطبقات والمهن يعتبر بالنسبة (لمارتن لوثر) نتيجة مباشرة لإرادة السماء. فمواظبة الفرد ومثابرته في موقعه في إطار الحدود التي عينها الله له، تعتبر بالنسبة له واجباً دينياً. 5 - تقديس العمل: يرى (فيبر) أن الكالفنية، دعت إلى تقديس العمل، لأن هناك اعتراض أخلاقي على الركود إلى الدعة، استناداً إلى ما قد يملكه الشخص. لأن الإنسان على الأرض ينبغي لكي يتأكد من تحقيق مجد الله أن ينجز أعمال الله الذي خلقه في يومها. فلا فراغ ولا متعة، ولكن عليه أن يبدل النشاط فقط، لمضاعفة مجد الله وإظهار إرادته الواضحة. ويفسر (ماكس فيبر) ذلك في (كتاب البروتستانتية والرأسمالية)، حيث يرى أن الكالفني غير المطمئن إلى انتخابه، كان يفتش عن ¬

(¬1) الاجتماع الديني ـ د. احمد الخشاب ـ ص 100

دور الدين في الحياة الأمريكية

ازدهار أشغاله المثمرة، وحيث أنه لم يكن واثقاً من نجاحه لينصرف إلى الراحة، عمد إلى تشغيل أمواله مرات عديدة، وجنى أرباح عظيمة بطريقة حسابية دقيقة (¬1). 6 - إضاعة الوقت: يعتبر إضاعة الوقت ذنباً دينياً، لأن حياة الإنسان قصيرة جداً وقيمة، ومن تم فإضاعة الوقت من خلال الفراغ والترف أو النوم بأكثر مما تحتاجه الصحة، يجلب الإدانة الأخلاقية. فضياع ساعة وقت تعنى ضياع ساعة عمل في تأكيد مجد الله. وعلى ذلك فالتأمل السلبي لا قيمة له، ويستحق الإدانة إذا كان على حساب العمل اليومي. فليس اسعد لله من الانجاز الايجابي لإرادته. 7 - التبرير الديني لتخفيض الأجور واستغلال العامل: يؤكد (فيبر) أن رفع اجر العامل يعنى أنه سوف يجد لديه أكثر مما يحتاجه لإشباع حاجاته التقليدية وبالتالي سوف يدفعه ذلك إلى التقليل من كم العمل. ولما كان الإنسان الذي لا ينتج مادامت لديه الصحة والقدرة، هو الإنسان الذي يغفل مسئولياته الأخلاقية، فإن تخفيض اجر العامل تكون له مبرراته الدينية. فيجب علينا كما يقول (فيبر) أن نأخذ بالحكمة الكالفنية التي تقول: أن البشر يعملون فقط ماداموا فقراء (¬2). هكذا شكلت العناصر السابقة المستمدة من المذهب البروتستانتي في مجموعها كما يذهب فيبر نسقاً قيمياً، كان مصدر الإلهام لنشأة النظام الرأسمالي. "فالديانة التي استصلحت أصلحت بدورها الخلق الاقتصادي. لقد كانت تخشى تراكم الثروات، ولكنها كانت تحارب سوء استعمال الثروة لا تجميعها، وحكماء انكلترا المجددون، حاولوا الجمع بين روح الأعمال ومقتضيات العقل، ومن هنا نشأ مبدأ المنافسة والصراع" (¬3). دور الدين في الحياة الأمريكية مما تقدم، اتضح لنا دور الدين والقيم الدينية المستمدة من المذهب البروتستانتي، في نشأة النظام الرأسمالي السائد، في كلاً من بريطانيا وأمريكيا، ¬

(¬1) تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 63 (¬2) النظرية الاجتماعية لمعاصرة ـ دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع ـ د. على عليله ص 507 (¬3) تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 62

حيث لعب هذا المذهب على صبغ الحياة الأمريكية برمتها بصبغة دينية، وهنا يبرز خطأ شائع، بل وقاتل وقع فيه كثير من الكتاب والمفكرين العرب، من خلال محاولتهم التقليل من دور الدين في الحضارة الحديثة، على اعتبار أن الغرب لم ينجح، ولم يتقدم إلا بعد أن خلع رداء الدين، واحل محله ما يسمى بالعلمانية، التي تفصل الدين عن الدولة، حيث حاول هؤلاء الوصول إلى نتيجة أن العرب والمسلمين لن يتقدموا إلا إذا فعلوا نفس الشيء، ولست هنا في مجال الخوض في تفاصيل هذا الموضوع، لأن ذلك ليس موضوع الكتاب، ولكن هذا لا يمنع من إلقاء مزيد من الضوء على دور الدين في أمريكا، بعد أن بينا أثره في رسم السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، والعالم الإسلامي. وحتى لا يكون حديثنا في هذا المجال مجرد سرد للتصريحات، والمواقف للسياسيين والمفكرين، ورجال الدين الأمريكيين ـ بالرغم من أهميتها ـ سنحاول الغوص بعمق في جذور الثقافة والفكر الأمريكي منذ نشأته، لنبين الدور المركزي الذي لعبه الدين ـ ولازال ـ في الحياة الأمريكية، وفي تشكيل الثقافة الأمريكية ومنظومة القيم، التي يؤمن بها الأمريكيون (¬1)، حيث "أن نظرة شاملة لطرق تفاعل الدين والسياسة في أمريكا، منذ التاريخ المبكر للهجرة إلي أمريكا، وبناء المستعمرات، وحتى الآن، ستجعلنا نتبين أنه لا يمكن فهم التاريخ الأمريكي المعاصر دون فهم جدلية العلاقة بين الدين والسياسة، التي تعد المنظور الكامل للتاريخ الأمريكي، حيث أن جذور الأحداث، التي تعرفها أمريكا المعاصرة، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ والثقافة الأمريكية، وتعد العلاقة بين الدين والسياسة أحد أهم المؤثرات فيهما والمحركة لهما" (¬2). وفي كتابه الجديد (من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية)، يحاول (صموئيل هنتنغتون) تحديد الهوية الحقيقية لأمريكا، حيث يرفض فكرة أن الولايات المتحدة، هي مجتمع من المهاجرين متعددي الأعراق والإثنيات والثقافات، ويرى على ¬

(¬1) راجع، المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، حتى 1877 - محمد النيرب- ج1 ص60 - دار الثقافة الجديدة - ط1 1997 (¬2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكيةـ مايكل كوربت وجوليا كوربت ـ ترجمته د. عصام فايز، ود. ناهد وصفي ص18

النقيض أن الأميركيين الذين أعلنوا استقلال أميركا عن الاستعمار البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، كانوا مجموعة متجانسة من المستوطنين البريطانيين البروتستانت، الذين توافدوا إلى العالم الجديد من أوروبا، وخاصة بريطانيا، لكي يستقروا فيه ويعمروه للأبد. ويرى أن هؤلاء المستوطنين وضعوا بذور المجتمع الأميركي، انطلاقاً من مبادئهم وثقافتهم الأنغلو ـ بروتستانتينية التي لولاها لما قامت أميركا، التي نراها اليوم. ولذا يرى (هنتنغتون) أن لأميركا هوية محددة هي هوية هؤلاء المستوطنين، التي تقوم على ركائز أربع أساسية، هي العرق الأبيض، والإثنية الإنجليزية، والدين المسيحي البروتستانتي، والثقافة الإنجليزية البروتستانتينية. ويعتقد (هنتنغتون) أن الخصائص الأربع السابقة، انعكست بوضوح على جميع خصائص المجتمع، والدولة بالولايات المتحدة، وظلت سائدة حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي تقريباً (¬1). كما ان القارئ لتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها، يمكنه أن يلحظ إلى أي حد مثل الدين أساسا، أقيم عليه العالم الجديد (أمريكا). فقد جاء المستعمرون البيوريتانيون ـ الذين أسسوا مستعمرة خليج ماساتشوستس إلى العالم الجديد بدوافع دينية إلى حد ما. لقد جاءوا من إنجلترا إلى هنا لكي يحيوا حياتهم بالشكل الذي يتماشى مع رؤاهم الدينية، حيث تعذر ذلك في إنجلترا خلال الحكم العدائي لجيمس الأول، وشارلز الأول. ورأى الكثير منهم أنه من الأفضل لهم الذهاب إلى مكان آخر، لممارسة معتقداتهم. لذا قام البيوريتانيون بتأسيس مستعمرة خليج ماساتشوستس في عام 1630م وخلال العقد التالي هاجر أكثر من عشرين الف بيوريتاني إلى هذه المستعمرة (¬2). فقد كان عام 1620م مرحلة رسو الباخرة ميلفور على الشواطئ الأمريكية، مقلة جماعة من المنشقين الدينيين، من جماعة البروتستانت، التي أنشأت انكلترا الحديثة (¬3)، بداية هجرة جماعات كبيره من البريتانيون المتعصبين، فراراً من ¬

(¬1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية: صموئيل هنتنغتون ـ ط1 2004 - الناشر: سيمون آند سيشتر - الولايات المتحد- عرض/ علاء بيومي ـ الجزيرة نت 2ـ8ـ2004م (¬2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوريت ص43 (¬3) تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 76

الاضطهاد الديني، الذي كانوا يعانون منه في بريطانيا وأوروبا، نتيجة الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، حيث حملوا معهم تراثهم الديني المستمد من العهد القديم، وكانوا يسقطون الأحوال التي يمرون بها وكأنها جاءت مطابقة لما ورد فيه بشأن اليهود عند دخولهم أرض فلسطين، بعد خروجهم من مصر. معتقدين بأنهم (شعب الرب المختار) المكلف برسالة ما، والعالم الجديد هو (إسرائيل الجديدة)، والعالم القديم هو مصر الجديدة. ولهذا عقد البيوريتانيون عهداً مع الرب ومع بعضهم البعض، ببناء مجتمع يقوم على أساس القانون الإلهي. فكان لابد لهم أن يكونوا بمثابة مدينة تقف أعلى التل (أي مدينة فاضلة) تكون محط أنظار العالم أجمع. - إن أي إنسان يدان قانونياً بعبادة إله غيرالهنا سوف يعدم. - إن كل من يعمل بالسحر رجلا كان أو امرأة (أي تكون له صله أو يلجأ للاستعانة بالأرواح) سوف يعدم. - إذا ما قام أي إنسان بسب الرب (الأب أو الابن أو الروح القدس)، سواء بالتغيير الصريح أو بالتجريح، أو عن طريق العمد، أو يلعن الرب بأسلوب مماثل سوف يعدم. تلك مختارات من قوانين الإعدام، التي تشكل جزءاً من هيئة الحريات بماساتشوستس لعام 1641م، حيث حدد البيوريتانيون (التطهريون) اثنتي عشرة جريمة يعاقب فيها المرء بعقوبة الإعدام. والجرائم الثلاث الأولى (المذكورة أعلاه) تتعلق بالأمور الدينية. لقد جنح النظام البيوريتاني في أوجه إلى النمط الثيوقراطي. ففي هذه المستعمرة، سيطرت الكنائس البيوريتانية على الحكومة، وحرص البيوريتانيون بشكل جاد على استخدام كل من المنظمات السياسية والدينية في صياغة رؤيتهم للمجتمع، على أساس معتقداتهم الدينية (¬1). ¬

(¬1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1 مايكل كوربت، جوليا ميشتل كوربت ص39

وهكذا لعب الدين دوراً مركزياً في حياة الأمريكيين منذ السنين الأولى. "فأمريكا هي الأمة الوحيدة في العالم التي شيدت على أساس الإيمان" (¬1)، ويصبح المرء أمريكياً عبر اعتناق جملة الطروحات الواردة فيما أطلق عليه (امرسون) اسم (تجربة دينية). "ففي التعابير التي كانت تدور على ألسنة سكان المراحل الأولى من تاريخ فيرجينيا ـ على سبيل المثال ـ أعلن أوائل المستوطنين عن أنفسهم بجرأة أنهم على حد قول (جون رولف) بأنهم "شعب له خصوصيته أشار إليه، واختاره إصبع الله لامتلاك تلك الأرض لأنه معنا دون شك". واليوم يعتقد الكثيرون في الولايات المتحدة، بأن الدولة مكلفة بمهمة خاصة، ويعين عليها أن تكون مثالاً يحتذى به في العالم اجمع. ويشعر كثير من الأمريكيين بأن الولايات المتحدة هي الأرض المختارة التي أسبغ الرب عليها نعمته (¬2). "ويمكننا الحصول على صورة لا بأس بها، عن أثر الدين في الحياة الأمريكية، إذا لاحظنا أنه كانت توجد مقاعد في الكنائس عام 1860م تتسع لستة وعشرين مليوناً من السكان، الذين بلغ إجمالي عددهم 31 مليوناً. وتدل هذه الأرقام على أن المرء لو زار الولايات المتحدة يوم أحد في تلك الفترة لوجد على الأرجح أن أكثر من نصف الناس كانوا في الكنيسة" (¬3). وقد لاحظ (توكفيل) في تلاثينات القرن التاسع عشر أن الأمريكيين كانوا الشعب الأكثر تدينا (¬4) ً، وقد بقى ذلك صحيحاً إلى اليوم. "ففي أي عطلة أسبوعية، سيبادر ما يزيد على نصف مجموع الأمريكيين إلى الذهاب إلى إحدى دور العبادة، مقارنة بنسبة تتراوح بين 10، و20، بالمئة في أكثر البلدان الأوربية وكندا" (¬5). كما لاحظ (جيمس برايس) وهو زائر بريطاني للولايات المتحدة في عقد ثمانينات القرن التاسع عشر الميلادي أن رجال الدين كانوا أبرز مواطني أمريكا وأنهم كانوا يحصلون على " قدر من النفوذ كثيراً ما يفوق في اتساعه وقوته ¬

(¬1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص5، (¬2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ مايكل كوربت، وجوليا كوربت -ص50. (¬3) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص59 (¬4) أمريكا والعالم - د. حسين فوزي النجار - ص43 - مكتبة مدبولي 1986 (¬5) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص52

نفوذ أي رجل عادى علماني" (¬1).واكد توكفيل هذا المعنى فقال: «عند الأمريكيين يجب اعتبار الدين بمثابة المؤسسة السياسية الأولى» (¬2). ولهذا كانت القوة الدافعة لتحريم الخمر في أمريكيا هي الحملة البروتستانتية التي انخرط فيها الليبراليون والمحافظون البروتستانت. وقد وصف أحد الكتاب (جمعية مناهضة الحانات) التي تأسست في 1895م على أنها في الحقيقة فرع الكنائس الميثودية المعمدانية، حيث أيد بشدة جميع البروتستانت الأمريكيين تحريم الخمر، ولم يكن هناك إلا بعض الاستثناءات (¬3). أما في العصر الحاضر، فإن "هناك دلائل على أن أغلبية الأمريكيين في أواخر القرن العشرين، يغمرهم شعور ديني لافت للنظر، إذ عاد إلى الظهور ـ في أواخر عقد الثمانينات من هذا القرن نوع من المسيحية التقليدية إلى حد ما كقوة يعتد بها في الحياة الأمريكية السياسية والثقافية، حيث تبدو أهمية الدين من خلال كثرة وتكرار استخدام النصوص الدينية من جانب الساسة، مثل استخدام (كلينتون) في خطابه الافتتاحي عام 1997م لعبارة من التوراة، تقول: "استرشادا بالرؤية القديمة لأرض الميعاد، فلنوجه أبصارنا اليوم إلي أرض ميعاد جديدة". ويشير (مايكل كوربت) في كتابه "الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية" إلي تغلغل الدين في حياة الأمريكيين في قضايا عامة، وخاصة مثل شن الحرب وتفهمها، أو تبرير أسبابها، وتنظيم الحياة الشخصية، وحول ما يجب فعله أو الامتناع عنه، أو تبرير العبودية، والفصل العنصري أو رفضها. كما يعتبر المؤلف أن الصلاة الجماعية في الكنائس بأمريكا، هي نوع من دعم الدولة للدين، وفي نفس الوقت مساعدة الأفراد علي الإحساس بكل ما هو مقدس، ويرجع المؤلف ظهور التعليم العام، ونشأة العمل التطوعي إلي الدين (¬4). ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص112 (¬2) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 214 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001 (¬3) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص115 (¬4) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ج1ـ تأليف مايكل كوربت وجوليا كوربت ـ ص50

وفي هذه الأيام يجد منظمو استطلاعات الرأي باستمرار، مستويات من الإيمان الديني المعلن يمكن أن تدفع المرء إلى التشكيك في الاعتقاد الشائع القائل: إن الأمريكيين الآن أقل تديناً مما كانوا عليه منذ قرن مضى. إذ لا يقول خمسة وتسعون في المائة من الأمريكيين، الذي يجري استطلاع آرائهم كل مرة أنهم يؤمنون بالله وحسب، بل يقول أكثر من سبعين في المائة أيضاً أنهم لن يصوتوا لصالح مرشح رئاسي لا يؤمن بالله، (حتى وإن كانوا يحبونه حقيقة ... ويشاركونه آراءه السياسية). كما يقول سبعة من كل عشرة أن عيسى هو ابن الله المقدس. ويؤمن نفس العدد بحياة بعد الموت. كذلك يقول الثلث أنهم (ولدوا من جديد) كما يقول حوالي النصف أن (الكتاب المقدس) كلمة الله، وكل ما جاء فيه صحيح. ويقول ستة من كل سبعة، أن الوصايا العشر من الأمور، التي يجب العمل بها هذه الأيام، بينما يذكر سبعة وخمسون في المائة أن الدين "أمر هام جدا في حياتهم" (¬1). وهذه المستويات العالية من الإيمان الديني، التي كشفت عنها الاستطلاعات، تؤكد النتيجة التي سبق وأن توصل إليها (الكسيس دي توكفيل) في كتابه (الديمقراطية في أمريكا) عندما قال: "في الولايات المتحدة السلطة المهيمنة سلطة دينية وبالتالي، لا يوجد بلد في العالم يتمتع فيه الدين المسيحي بالنفوذ الذي يتمتع به في نفوس الناس في أمريكا" (¬2). كما أن الكتاب المقدس ـ المصدر الرئيس للعقيدة المسيحية ـ يتمتع بمكانة خاصة حاسمة في نفوس الناس في أمريكيا، لأنه كان في وسع المصلح دائماً الاحتكام إلى المبدأ البروتستانتي القائل: إن الكتاب المقدس كان السلطة الوحيدة العليا التي تسمو على جميع التقاليد، وكان بإمكان الشخص العادي الذي يقف إلى جانب المعنى الواضح المبني على سلامة الفطرة للكتاب المقدس، وان يتجاهل سلطة رجال الدين المثقفين أو الكنائس ذات الهيبة والمقام. وهكذا فقد اتفق جميع البروتستانت الأمريكيين تقريباً، من حيث المبدأ على أن الكنيسة الحقة والمدنية الصحيحة لابد وأن تقوما على الكتاب المقدس. "ولا يكاد يمكن للمرء أن يغالي في تقديره للدرجة العظيمة التي نظر بها البروتستانت ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص9 (¬2) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة - ص71

الأمريكيون إلى الولايات المتحدة، على أنها نتاج لحضارة ذلك الكتاب. فقد حظي الكتاب ذاته باحترام واسع بوصفه المرجع النهائي لجميع المواضيع بما فيها التاريخ والعلوم، إلى جانب اللاهوت والأخلاق. وطيلة القرن التاسع عشر الميلادي قرأ أطفال المدارس الأمريكيين دروساً في سلسلة كتب (ماك غفي) للقراءة عناوين مثل: (الكتاب المقدس خير المؤلفات المعتمدة) و (أمي التوراة) ". ونتيجة هذا الأثر الكبير للكتاب المقدس، وبالذات العهد القديم، على الأمريكيين، لم يكن غريباً أن يصف الأمريكيون أنفسهم بعبارات وصور مجازية توراتية، واقتفوا اثر سوابق بيوريتان نيوانجلند في هذا المجال واستمروا يتحدثون عن أنفسهم على أنهم إسرائيل جديدة، وأنهم شعب يرتبط بميثاق مع الله. وكان المفهوم الميثاقي ـ القائل: إن نجاح الأمة (الأمريكية) وازدهارها نتيجة لبركات من لدن الله، ومن ثم الاعتماد على النظام الأخلاقي القومي ـ يمثل معتقداً علمياً وله تأثيره الكبير في كل حركة سياسية رامية إلى الإصلاح الأخلاقي. إضافة إلى ذلك فقد أحدثت إيقاعات الكتاب المقدس أثرها في الاستعمالات اللغوية البلاغية، وفي خطب (أبراهام لنكولن) مثال بارز على ذلك. وقدم الكتاب المقدس الكثير من أدبياتهم كما اقتصرت معرفتهم بالتاريخ إلى حد بعيد على التاريخ الموجود في الكتاب المذكور" (¬1)، باعتباره المصدر الوحيد للحقيقة. ولكن ادعاء الكتاب المقدس الحقيقة - كما يقول روبرت يانج- هو ادعاء مستبد، فهو يستبعد الادعاءات الاخرى كافة .. حيث لا تحاول القصص التوراتية كسب ودنا ... كما انها لا تتملقنا بحيث يمكن ان تسعدنا أو تفرحنا، انها تسعى لاخضاعنا، واذا رفضنا الخضوع فنحن مارقون (¬2). وربما هذا ما يفسر النظرة الاحادية والتعصب التى طبع بها المؤمنون بحرفيته من الاصوليون المسيحيون، امثال بوش وغيرهم الذين قسموا العالم إلى محورين شر وخير، ودول مارقه وخيره، وطالبوا الجميع بان يكونوا معنا أو ضدنا!!؟. ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص9 (¬2) اساطير بيضاء (كتابة التاريخ والغرب) - روبرت يانج - ترجمة احمد محمود - ص 232 - المجلس الاعلى للثقافة - ط1 2003

الديني والعلماني

الديني والعلماني بالرغم من المزج الذي يسترعي الانتباه بين العنصر الديني الواضح، والعنصر العلماني الواضح، في الحياة الأمريكية، والذي دفع المثقف الفرنسي (اليكس توكفيل) في كتابه عن الديمقراطية في أمريكا، إلى القول: "إن الوعاظ والقساوسة الأمريكيين يتكلمون كساسة، والساسة يتكلمون كوعاظ" (¬1) ـ بالرغم من هذا المزج الذي قد يوفر دليلاً هاماً في فهم الثقافة الأمريكية، فقد ركز معظم المؤرخين الأمريكيين بصورة شبه حصرية على ما هو علماني فقط. ويعكس هذا الموقف وضع الأسرة الأكاديمية الحديثة. إذ أكدت التفسيرات السائدة للسلوك البشري خلال القرن الماضي على العوامل غير الدينية، علاوة على ذلك فقد تنبأت العديد من النظريات ولاسيما التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين، بأن الدين التقليدي شأنه في ذلك شأن الطب البدائي والمحراث الذي يجره الحصان سيختفي حتماً مع تقدم الثقافة والتعليم الحديثين. ومن ثم فإن معايير كثير من دراسات الإنسانية تمحورت حول الافتراض القائل بعدم ضرورة حمل الدين على محمل الجد، من أجل فهم العالم الحديث" (¬2). وفي الولايات المتحدة وبلدان أخرى في أواخر القرن العشرين، أثبت هذا الافتراض بطلانه غير أن الأكاديميين كثيراً ما يتباطئون في التخلي عن تقاليدهم، التي درجوا عليها في تفسير الأمور والأحداث، حيث تغافلوا أو لم يدركوا طبيعة الدين في أمريكا، والكيفية التي نشأ بها، معتقدين انه لا يمكن إعطاء الدين دوراً في الحياة الأمريكية، طالما أن السلطة ليست في يد القساوسة ورجال الدين، كما كان الحال في أوروبا أيام سيطرة البابا على السلطتين الزمنية والدينية، حيث تناسى هؤلاء أن الدين الأمريكي ما هو إلا امتداد للمذهب البروتستانتي، الذي تمرد على سلطة البابا، ورفض رفضاً قاطعاً تمتعه بالسلطتين الزمنية والدينية، لما جلبه ذلك من مفاسد حسب اعتقادهم، ولهذا كان الفصل بين الدين والدولة مطلباً دينياً في المذهب البروتستانتي، ارتضاه المؤسسون الأوائل لأمريكا انطلاقاً من قناعتهم الدينية، التي ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص322 (¬2) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص 10

تدعوهم إلى العودة إلى الأصول، وعدم الاعتراف بأي سلطه غير سلطة الكتاب المقدس، باعتباره مصدر العقيدة النقي (¬1). فالحكومة المدنية ـ أي المتحضرة ـ كما يرى البروفسور (مايكل كوربت)، هي التي تؤيد الدين، بينما الحكومات الشمولية والديكتاتورية، هي التي تقف ضد الدين، حيث أن الإصلاح الكنسي البروتستانتي ربط بين الكنيسة والدولة، وجعل كلاً من الحاكم والمحكوم تحته تابعين لكنيسته، ولكنه في نفس الوقت لم يجمع السلطتين الزمنية والدينية معاً، لكن حركات إصلاحية راديكالية مسيحية رفضت ربط الكنيسة بالدولة، ورأت أن هذا الارتباط يدمر الكنيسة تماماً (¬2). وهذا الاختلاف في النظر للعلاقة بين الدين والدولة في أمريكا هو الذي جعل البعض ينظر إلى العلاقة بين الدين والسياسة في أمريكا باعتبارها معضلة لم تتحدد بعد، متناسين انه يوجد في أمريكا ما يسمى الدين المدني، وهو دين مواز للكنائس الرسمية، يتغلغل في الحياة الأمريكية. وهو مجموعة من المعتقدات والطقوس والشعائر والرموز، التي تنتشر في الحياة الأمريكية منذ القدم، مثل اعتبار عيد الشكر عيدا قوميا للصلاة ـ كما أعلن (جورج بوش الأب) عام 1991م إبان حرب الخليج ـ وابتهال كلينتون في خطبه إلي الرب ليبارك أمريكا، واستهلال الجلسات الحكومية بالصلاة، ودعم الحكومة لقساوسة الجيش، كما ويظهر الدين المدني في الأغاني مثل (أمريكا الجميلة) و (فليبارك الرب أمريكا) وغيرها. كما أنه بينما يذهب بعض الساسة ورجال الدين إلي الفصل بين السياسة والكنيسة يذهب آخرون إلي عمق العلاقة بينهما، فالرئيس (جيفرسون) وهو من المؤمنين بالدين المدني، يري ضرورة الفصل، بينما (جيري فالويل) يقول: "أذا لم يتعلم المرء كلام الرب، ولم يعرف ما جاء بالأنجيل، فأنني أشك في قدرته علي أن يصبح قائداً فاعلاً، وقيادته لكل شيء، سواء أسرته أم كنيسته أو أمته لن تكون ناجحة دون هذه الأولوية" (¬3). وينحى نفس المنحى كثير من الساسة والمفكرين، ولكنه في كل الأحوال، لا يمكن لأحد أن ينكر الدور الذي يلعبه الدين في الثقافة الأمريكية. ¬

(¬1) المؤثرات الدينية في توجيه السياسة الغربية المعاصرة - محمود سلطان - ص 15 (¬2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ج1ـ تأليف مايكل كوربت وجوليا كوربت ـ ص23،26 (¬3) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ تأليف مايكل كوربت، وجوليا كوربت ـ ص19

فالدين ـ كان ولا زال ـ يلعب دورا مهماً في التاريخ الأمريكي، حيث اعتبر المهاجرون الذين استقروا في أمريكا طيلة العهد الاستعماري، أنهم ببساطة يمثلون المسيحية أو العالم المسيحي، حيث لعبت الجماعات البروتستانتية الحاكمة، دوراً مركزياً في تشكيل الثقافة الأمريكية. يقول (جورج مارسدن): إن قصة الإنجيلية الأمريكية هي قصة أمريكا ذاتها في السنوات 1800 ـ 1900م لأن الدين الإنجيلي هو الذي جعل الأمريكيين أكثر الأقوام المتدنية في العالم ... " ورغم وجوب الاعتراف بوجود قوى أخرى أيضاً، إلا أن المسيحية الإنجيلية كانت بارزة بصورة غير عادية في إعطاء شكل للقيم والثقافة الأمريكية في القرن التاسع عشر الميلادي. ولهذا يقول المؤرخ (وينثروب هدسن): "في عام 1900م لم يكد يوجد من يشك في الطرح القائل، "أن الولايات المتحدة كانت أمه بروتستانتية" (¬1). وهذا يعنى انه لا أحد يستطيع أن يفهم أمريكا وحرياتها إلا إذا وعى وتفهم التأثير الذي باشره ومازال يباشره، الدين في صوغ هذا البلد. فمن الخصائص الفريدة المميزة لنظام الحكم الجمهوري في أمريكا انه يستمد الحيوية المحركة له من قيم من يعيشون في ظله، والذين أكدوا أن تلك القيم تستمد بالقدر الأعظم من الدين. وهذا ما جعل الشاعر الإنجليزي (جيليبرت كيث) يصف أمريكا بأنها أمة لها روح كنيسة. يقول شمعون بيرس: لقد وصفوا الشعب الأمريكي بالعملي - لكني غير مقتنع تماماً بهذا الوصف. فليس (الدولار) الذي يشكل حجر الاساس في المجتمع الأمريكي برغم كل المادية الموجودة فيه- ان حجر اساسه هو (الانجيل) في العهد القديم والجديد. وعلى الاساس نفسه، لم يكن وجود عدو مشترك هو اساس العلاقة الخاصة التي نشأت بين اسرائيل والولايايت المتحدة - انه القيم المشتركة. وانني لم اقتنع ابداً بالحديث القائل في وجود "نحالف استراتيجي" بين أمريكا واسرائيل - حتى في قمة الحرب الباردة. ولم اؤمن ابداً بالقول ان أمريكا احتاجت الينا في مواجهتها ضد الاتحاد السوفيثي (¬2). ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص112 (¬2) معركة السلام (يوميات شمعون بيريس) - تحرير ديفيد لانداو - ترجمة: عمار فاضل و مالك فاضل - ص 98 - الاهلية للنشر والتوزيع - عمان - الطبعة الأولى 1995

الأصولية الأمريكية المتطرفة

الأصولية الأمريكية المتطرفة في العصر الحاضر تنامى الدور الذي يلعبه الدين في الحياة الأمريكية بصوره مخيفة، بسبب تنامي قوة وتأثير الحركات الأصولية المتطرفة، التي تمكنت من الوصول إلى سدة الحكم أخيراً، ممثله بالرئيس المؤمن (جورج دبيليو بوش)، الذي يعكس بصورة دقيقه تماماً طبيعة بلده الذي يحكمه. فنسبة المؤمنين بالله في الولايات المتحدة تصل إلى 95% من السكان، وهي أكبر نسب التدين في العالم، بينما في أوروبا قد لاتصل النسبة إلى 65 %. كما أن الولايات المتحدة تحتوي على اكبر عدد من الكنائس في العالم، حيث أن هناك كنيسة لكل 865 مواطنا، وهو ما وصفه معهد (جالوب) للاستطلاعات تعليقا على استطلاع كان قد أجراه في مايو 2002 م، بأن ذلك حقيقي لأنه توجد رغبة عميقة إلى الاتجاه للشؤون الروحية. فهي حالة من الظمأ إلى الله. فبينما يصل عدد الأمريكيين الذين يذهبون إلى الكنيسة مرة واحدة في الأسبوع إلى 70% على الأقل تصل النسبة إلى 20% فقط في أوروبا الغربية، و 14% في أوروبا الشرقية، وبذلك فإن أمريكا على عكس أوروبا تريد أن تثبت بوضوح أن الحداثة لا تعنى التحلل من الدين (¬1). ¬

(¬1) 1). كما أن أمريكا تعتبر نفسها (وطن الله)، وهذا وعى قديم متزايد ومترسخ الجذور منذ هروب (الكالفنيين) اتباع المصلح (كلفن)، على الباخرة (ماي فلارو) عام 1620م، الذين اعتبروا أنفسهم حجاجاً إلى وطن الخلاص، أو إلى مملكة الرب. وهذا الوعي التاريخي هو الذي عمل على منع الفصل بين الدين والدولة في أمريكا، ورفض اعتبار الدين إيماناً ذاتياً وعلاقة شخصية بين العبد وربه. ومنذ ذلك الحين وفيما بعد عام 1620م تم تأسيس أمريكا على أساس أنها دولة دينيه، وسيطر الدين على الدولة منذ ذلك الوقت وحتى الآن. فحاليا توجد العديد من الطوائف البروتستانتية اليمنية المتطرفة التي تقود الجميع. واستطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى تزايد هذه المجموعات بصورة مخيفة ¬ ((عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - احمد حجازي السقا ص 48

ونظراً للمكانة التي يحتلها اليمين المسيحي الجديد في الحياة السياسية بالولايات المتحدة، فإنه من المفيد المقارنة بينه وبين منهاج التطهريين، الذين اتسمت آراؤهم بالأهمية في الفترة الاستعمارية والأيام الأولى لتأسيس الدولة، وهناك تشابهات عدة. فهناك تشابه في الأهداف، فكلاهما يرنو إلى الولايات المتحدة كدولة تمتثل لقوانين ومشيئة الرب كما يفهمونها. ويجب أن تتوافق الأخلاقيات الخاصة والعامة مع تعاليم الكتاب المقدس، الذي يفسر بشكل محافظ. كما يرغب كلاهما في استخدام العملية التشريعية لضمان توافق القانون المدني مع القانون الديني وتطبيقه على المؤمنين وغير المؤمنين. وأخيراً فإن كلاهما يرى أن المدارس العامة تأتي بعد البيت والكنيسة، كعنصر أساسي في تدريب الأبناء وفق معتقداتهم. وتضرب هذه الأهداف بجذورها في فهمهم للاهوت بشكل متشابه إلى حد بعيد، فهناك حقيقة واحدة مطلقة أوحى بها الرب للبشر ـ الرب والمتصف بالقوة والملك فالبشر مخطئون وضائعون بدون الرب، والولايات المتحدة أمة الرب المختارة، لتكون مثالا للحياة الورعة في الدنيا (¬1). ويرصد (صموئيل هنتنغتون) مظاهر الصحوة الدينية في الولايات المتحدة خاصة خلال عقد التسعينيات، وهي صحوة سادت مختلف الطوائف الدينية الأميركية، وعلى رأسها الجماعات الإنجليكية التي زادت بنسبة 18% خلال التسعينيات، ونجحت في بناء عدد كبير ومؤثر من المؤسسات السياسية. ويؤكد (هنتنغتون) حقيقة أن المجتمع الأميركي هو أكثر المجتمعات الأوروبية تديناً، ما يجعله أرضا خصبة لعودة الدين، خاصة بعد أن ضاق الأميركيون بشكل متزايد منذ الثمانينيات بالمشاكل الأخلاقية، التي انتشرت في مجتمعهم. ويقول: إن هناك عودة عامة للدين في أميركا انعكست على الروايات الأميركية، وظهرت في الشركات والمؤسسات الاقتصادية، كما أثرت على الحياة السياسية من خلال الحضور الكبير، للقضايا الدينية والمتدينين في إدارة الرئيس الأميركي الحالي (جورج دبليو بوش). ويبشر بأن العودة للمسيحية ـ التي تعد أحد الركائز الأساسية للهوية الأميركية - تمثل عاملاً هاماً في دعم الهوية الأميركية ونشرها خلال الفترة الراهنة. كما أن الصحوة الدينية - وفقاً لتحليل ¬

(¬1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص159

علاقة الدين بالدولة الأمريكية الحديثة

هنتنغتون ـ تصب مباشرة في الدور المساعد، الذي يمكن أن يلعبه الدين على الساحة الدولية وخاصة في تعريف عدو أميركا الجديد وهو الإسلام (¬1). علاقة الدين بالدولة الأمريكية الحديثة خلال هذا الكتاب عرضنا لمواقف كثير من الرؤساء والساسة الأمريكيين، حيث لاحظنا أثر الدين في تشكيل مواقفهم تجاه قضية اليهود وإقامة إسرائيل، وسنلاحظ بعد ذلك أيضاً كيف أن الدين لعب دوراً رئيساً في تشكيل مواقف الدولة الأمريكية من كثير من القضايا، مثل قضية الهنود الحمر، والزنوج، والعلاقة مع العالم الخارجي، وهذا يوضح الدور الذي لعبه الدين في الدولة الأمريكية منذ تأسيسها وحتى الآن. فقد اعتمد الرؤساء الأمريكيون بدءاً من (جورج واشنطن) فصاعداً على الحس الديني، ليس للتأثير على عقول أبناء الشعب فحسب، بل على أفئدتهم أيضاً، لتأييد الأهداف الرئاسية. فالدين والسياسة شكلا نسيجاً متداخلاً عبر تاريخ الولايات المتحدة منذ الفترة الاستعمارية، وحتى وقتنا الحاضر (¬2)، حيث عملت الطبقة السياسية الأمريكية الحاكمه على استحضار الدين وجعله مكوناً أصيلاً في الممارسة والثقافة السياسية الأمريكية، وذلك في ظاهرة فريدة من نوعها في بلدان الديمقراطيات الغربية، التي فصلت منذ أمد بعيد بين الدين والدولة وبين الدين والمدرسة. وهنا يرى البعض أن نقطة الامتزاج الروحي بين إيديولوجيا اليمين المتطرف الذي يمثل مصالح كبريات شركات السلاح والنفط في أمريكا، وبين المرجعيات الدينية المسيحية البروتستانيه المتهودة، قد وصلت إلى ذروتها في سبعينيات القرن العشرين المنصرم، إذ يأخذ في اعتباره الحقبة (الريجانيه)، التي بدأت مطلع الثمانينات من ذلك القرن، حيث أفسح هذا الحلف المقدس المجال إلى تنامي الشعور بالفوقية، وتبلور فكرة ونزعة السيطرة على العالم، باعتبار أن الأمة الأمريكية هي ¬

(¬1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية: صموئيل هنتنغتون - ط1 2004 - الناشر: سيمون آند سيشتر - الولايات المتحدة ـ عرض/ علاء بيومي ـ الجزيرة نت 2ـ8ـ2004م (¬2) الولايات المتحدة من الخيمة إلى الإمبراطورية - إعداد ديب على حسن - مراجعة وتدقيق اسماعيل الكردي - ص295 - الناشر: الأوائل للنشر والتوزيع - ط1 2002

الأمة الأنقى والأميز والأرقى قيماً وحضارة، والأجدر بقيادة العالم على الطريقة الأمريكية الرائدة، في إشاعة الخير ومحاربة الشر (¬1). بهذا التبسيط الشنيع لثنائية الخير والشر، اختزلت الطبقة الأمريكية الحاكمة فكرة العالم إذ شطرته إلى شطرين وفرزته إلى قسمين: قسم أخيار، وقسم أشرار. فوضعت في القسم الأول كل من يخضع لمشيئتها ويناصرها ويقلدها، ووضعت في القسم الثاني كل من تتغاير رؤاه معها، وكل من يبدي حرصاً وعقلانية على صيانة مصالحه. ورغم أن بعض رؤساء أمريكا السابقين حاولوا إدخال معتقداتهم الشخصية في طريقة ممارسة الحق الإمبريالي الأمريكي، وهذا ما كان (جيمي كارتر) قد فعله، وكذلك (رونالد ريغان)، الذي أطلق المصطلح الديني القديم المعروف، حول قوى الخير مقابل قوى الشر لوصف الاتحاد السوفيتي، بأنه (إمبراطورية الشر). إلا أن (جورج بوش الابن) يحاول الآن المزج بين تمسكه بالمسيحية المتشددة، ورغبته في وضع نظام عالمي جديد يقوم على المصالح الأمريكية، منطلقاً من فكرة: أن قدر الولايات المتحدة هو أن تشن الحرب للوصول إلى السلام، وهو ما تسميه الولايات المتحدة مفهوم (الحرب الوقائية). ولكن هل هذه النزعة العدوانية هي حقاً وليدة تلك الحقبة السبعينية من القرن العشرين، أم أن لها جذورها الممتدة عميقاً في بنية العقل والثقافة الأمريكية (بما في ذلك المكون الديني). يقول الدكتور (حامد سلطان): "يبدو ظاهراً أن المبدأ الذي ساد نظام الإمبراطورية الرومانية، هو مبدأ خضوع الشعوب لروما، لا مبدأ (التنظيم العالمي) كما يدعي البعض، وهو يقوم على السيطرة المادية الخالصة. أما استناده إلى السيطرة الدينية والروحية فقد اجتاز مراحل نشير إليها في إيجاز. فمن المفهوم أن المسيحية عندما بدأت زحفها الروحي على روما، صادفت عقبات كثيرة ومقاومة شديدة من الحاكمين، والمسيحية دين يقوم في الأصل على فكرة السلام الخالصة، ومن تعاليمها الثابتة النهي عن القتل والتحذير من القيام به. والأناجيل الأربعة مجمعه على أن من يقتل بالسيف، بالسيف يُقْتَل. لذلك كان طبيعياً أن يرفض الرومانيون الذين دخلوا في المسيحية في المراحل الأولى أن يقوموا بأداء الخدمة ¬

(¬1) حول علاقة الدين بالدولة الأمريكية الحديثة / محمد الصياد الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672

العسكرية في روما، أو أن ينخرطوا في الجيش الروماني، أو أن يشتركوا في الحروب، التي كانت تشنها الإمبراطورية الرومانية. وعلى اثر ذلك قام صراع عنيف بين دعاة المسيحية المسالمة ورجال الحكم في روما، وكان هذا الصراع في الحق صراعاً بين الروحية والمادية، وقد دام هذا الصراع قرابة أربعة قرون. ولكن ابتداء من القرن الرابع للمسيح ـ عليه السلام ـ بدأ رجال الدين المسيحي يتقهقرون ويحاولون التوفيق بين روح المسالمة المسيحية من جهة، وروح السيطرة العسكرية من جهة أخرى. وأخرج القديس (ايزيدور) والقديس (امبرواز) بعض النظريات في هذا الشأن، على أن الداعية الذي كان له الأثر الحاسم في إيجاد هذا التوفيق هو القديس (أوغسطين) الذي أخرج في هذا الشأن مؤلفين أولهما هو (العقيدة المخالفة)، والثاني هو (مدينة الرب) (¬1). ويبدو واضحاً لمن يتفحص هذين المؤلفين، أن صاحبهما دعا المسيحيين إلى التخلي نهائياً عن فكرة المسالمة، التي قام على دعامتها الدين المسيحي في الأصل. وليس هنا مقام التفصيل في شأن نظرية أوغسطين، ويكفينا أن نذكر أن هذا القديس قام في مؤلفه الأول، بتسويغ فكرة الحرب وفق الحجج التاليه: 1) أن الحرب هي عمل من أعمال القضاء العادل المنتقم. فهي تقوم لإنزال العقاب بالعدل، ومن ثم فليس هناك ظلم يقع من جانب من يقوم بالحرب العادله. 2) أن الحرب هي لمصلحة المنهزمين، لأنها ترجع بهم إلى حال السعادة في السلام. 3) أن الحروب تقوم من أجل ضمان السلام (¬2). وعندما ظهرت حركة الاصلاح الدينى على يد مارتن لوثر واخذت بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، واصبحت التوراة جزء اساسي منه بما تحتوية من معتقدات ومواقف تبرر الحرب والقتل، انعكس ذلك مباشرة على اتباعها، وتحول المسيح عيسى عليه السلام من رسول المحبة والسلام، إلى مسيح يهودي يأتمر بوصايا يهوه ورب الجنود. وبهذا الانقلاب الديني، كانت البروتستانتية في التاريخ الأوروبي، وما ¬

(¬1) أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية ـ الدكتور حامد سلطان ص102 - طبعة دار النهضة العربية عام (1968م) القاهرة (¬2) الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب - من قسم العالم إلى فسطاطين - اسعد أبو خليل ص34

تفرع عنه في العالم الجديد، حركة انقلاب سياسية /لاهوتية/ فكرية/ اجتماعية، مازال العالم يشهد مسار ما تمخضت عنه صوب جائحة عالمية، لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما قد تتسبب فيه من دمار ومعاناة ومذابح (¬1)، بسبب تبنيها المعتقدات اليهودية العنصرية الحاقدة، التى لعبت دوراً رئيساً في نشوء الارهاب والاجرام البريطاني الأمريكي تجاه العالم؟. وهكذا فإن الجذور الدينية للمواقف الأمريكية تجاه الحرب والسلام توجد في الكتب المقدسة المسيحية واليهوديه. وقد أدت هذه الكتب إلى ظهور ثلاث رؤى للحرب: الحرب المقدسة، والحرب العادلة والسلامية، حيث أن المسيحية كان لها السيادة في تشكيل المواقف على النحو التالي: إلى أن جاء حكم (قسطنطين)، ظلت السلامية هي الموقف السائد للمسيحية، وإلى جانب هذا الموقف يمكن ملاحظة موقفين آخرين معاديين للسلام، حيث ينص مذهب الحرب العادلة على جواز مشاركة المسيحيين في الحرب، وجواز إجبارهم على ذلك ما دامت الحرب تعلنها السلطة الصحيحة، ويتم فيها الالتزام بقواعد أخلاقية. وظهرت فكرة الحرب المقدسة، أو الحرب الصليبية خلال القرون الوسطى، حيث كان منهج الحرب المقدسة أو الحرب الصليبية، هو أحد المظاهر المهمة للمواقف في الولايات المتحدة تجاه الحروب، ومصطلح الحرب المقدسة كما هو مستخدم هنا، يعني حرب مقدسة يشنها الصالحون نيابة عن الرب ضد الكفار والمهرطقين سياسياً أو دينياً (¬2). وفي ظل هذا التبرير الديني الجاهز للحرب، تحت مسميات مختلفة لم يكن مستغرباً أن نجد أمريكا تبرر حروبها المختلفة بنفس المبررات، حتى أن (ريشارد لاند) رئيس مفوضيه الحرية الأخلاقية والدينية لكنائس (بابست) في الولايات الجنوبية، برر الحرب على العراق في أحد مقالاته على خلفية أسباب دينيه بقوله: "قيادة حرب عادلة هي عمل مسيحي يقوم على الإيثار، فالأشرار يجب أن يعاقبوا، والأخيار يجب أن يكافئوا، لقد جاء وقت العنف". كما أن التيارات الأصولية المتطرفة بدأت تنادي بصورة متزايدة بوجوب شن حرب صليبيه ضد الإسلام، رغم أن عدداً من ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص71. (¬2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة ـ ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص122

الأصولية المسيحية والنظام الدولي الجديد

الأساقفة الكاثوليك وجماعات السود احتجوا على ذلك، إلا أنهم لن يؤثروا طالما أصر اليمين المسيحي المتطرف، على التأكيد أن الحرب ضد العراق، هي جزء من (الحرب ضد الشر) ليس ذلك فقط، بل أنهم بدءوا يقولون: إن أوروبا هي أداة للشيطان، لأنها لم تدعم أمريكا في حروبها الجديدة" (¬1). الأصولية المسيحية والنظام الدولي الجديد ربما يستغرب البعض هذا الربط بين الأصولية المسيحية، والنظام الدولي الجديد، على اعتبار أن مصطلح النظام الدولي الجديد، هو مصطلح سياسي جاء ليعبر عن موازين القوى في العالم، بعد انهيار المعسكر الشرقي بزعامة الإتحاد السوفيتي، والذي أفسح المجال أمام التفرد الأمريكي على الساحة الدولية، وتحول العالم إلى نظام أحادي القطبية بزعامة أمريكا، مما أتاح لها المجال لفرض سياساتها وهيمنتها على العالم. وقد غاب عن هؤلاء أن هذا المصطلح له جذور عميقة في الفكر الأصولي المسيحي في أمريكا. فعندما تأسست الأمة الجديدة، رأى الأمريكيون في أنفسهم منار هدى للعالم حيث رفع الشعور بكونهم أمة مختارة، أو إسرائيل جديدة، إحساسهم بالرسالة أو (المصير الواضح)، بأنهم سيصبحون قوة يعبر نفوذها القارات، بفضل تفوقهم الأخلاقي المفترض. وفي القرن العشرين عندما أصبح الأمريكيون قوة عالمية، كان الاعتماد على مثل الأمة المختارة الأعلى، أساساً منطقياً ومبرراً هاماً في السياسة الأمريكية الخارجية، من أجل التسريع بالنظام الدولي الجديد أو بالتعبير التوراتي (العصر الألفي السعيد)، الذي كان التطلع إليه عميق الجذور في الفكر الأمريكي، وليس كما يعتقد البعض، بأنه برز بعد الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشرقي، أو أنه من بنات أفكار السياسيين والاستراتيجيين المعاصرين. "فخلال الحرب الأهلية، كانت المقالة الشائعة بين البروتستانت في الشمال، تعادل بصورة مفروغ منها، بين نجاح الاتحاد، وبزوغ فجر عصر جديد، أو ألفية حكم ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - احمد حجازي السقا ص43

النظام الدولي الجديد .. والنظرية الكونية للتاريخ

المسيح. وكانت أنشودة معركة الجمهورية (¬1) تتمتع بشعبية، لأنها طبقت الرموز التوراتية الشائعة على قضية الاتحاد الشمالي. أما بالنسبة لأولئك الذين حملوا هذا التشبيه على محمل الجد، فكانت هذه الألفية فترة تتوج مسيرة تقدم الإنسانية، حيث سيحكم المسيح العالم ويغير مسار الحضارة، ويحدث تقدماً روحياً يحقق جميع أحلام الإنسانية، حيث سيشهد العصر المقبل نهاية للحروب، والرق، والعنف، والرذائل كالزنا، ومعاقرة الخمر، وسيحمل معه قفزات عظيمة إلى الأمام في العلم والتكنولوجيا والمعرفة الإنسانية، وتحقيق الديمقراطية، بما تحمله من وعود بالحرية والعدالة للجميع. وإذا أريد للولايات المتحدة تحقيق مصيرها كقائدة في هذه المهمة، فإن عليها استئصال كبائر مثل: الرق للبرهنة على قدرة الأمة المكرسة نفسها للحرية والعدالة على الاحتمال والصمود. "ولذلك عندما تشكلت الأمة الجديدة تقبل الأمريكيون بسرعة حديث الميثاق المتعلق بالحصول على مباركة الله أو التعرض لخطر أحكامه. وقد أحب الأمريكيون النظر إلى أنفسهم على أنهم حملة رسالة خاصة. وتحدثوا فوراً، بصورة تكاد تماثل ما كان البيوريتان قد تحدثوا به، عن الولايات المتحدة بوصفها إسرائيل الجديدة، اختارها الله لتقوم بدور قيادي في حقبة جديدة من افتداء العالم" (¬2). النظام الدولي الجديد .. والنظرية الكونية للتاريخ نشر بعض وعاظ الضوء الجديد، أثناء اليقظة الكبرى، الفكرة القائلة: "إن الكرة الأرضية كانت تقترب من فجر عصر جديد، حيث تحدث الكتاب المقدس، الذي كان يعتبر على نطاق واسع المرجع النهائي حول جميع المسائل، عن عصر ألفي وألف سنة من حكم المسيح. ومع أواسط القرن الثامن عشر كان أكثر التفسيرات شيوعاً ¬

(¬1) تقول أنشودة الجمهورية: "وسط روعة الزنبق ولد المسيح على البحر، يحمل في صدره بهاء يغير من شكلك وشكلي نحو الأكثر روعة: وكما مات هو لإضفاء القداسة على البشر، فلنمت نحن لتحريرهم، بينما يسير الله قدماً". (جوليا وارد هاو)، (أنشودة الجمهورية - 1861) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص 15 (¬2) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص26

يقدمه الإحيائيون الأمريكيون لهذه النبوءة، وهو أنها تنبأت بصورة رمزية بالعصر النهائي في التاريخ الذي سيأتي فيه روح المسيح أو الروح القدس لتحكم في العالم. وقد نظر إلى اليقظة نفسها على أنها بداية هذا العصر، الذي سيشهد إتباع الناس بأعداد كبيرة للإنجيل. وكان من المحتم أن تتخذ هذه النبوءات دلالات سياسية. وحسب ما ورد في النص المقدس، فإنه لابد من يهزم المسيح الدجال كشرط لمجيء الألفية. وحسب ما درجت عليه العقيدة البروتستانتية، فإن الدجال يعني البابا. ولذلك فان أية هزيمة سياسية للبلدان الكاثوليكية، كانت خطوة نحو بزوغ فجر الألفية وفق نطاق المنشقين الأمريكيين. وتتوافق الحروب الفرنسية والهندية للأعوام 1756ـ1763م مع هذا التصور بدقة. فعلى سبيل المثال، وصف (صموئيل ديفيس) الإنجيلي المشيخي الشهير، الجهود البريطانية ضد فرنسا على أنها بداية هذا الصراع الحاسم العظيم بين الحمل والوحش، وجاهر قائلاً: "إن من شأن نصر بريطاني أن يساعد في إحضار سماء جديدة، وأرض جديدة. وعندما لم يجلب انتصار سنة 1763م في ذيوله عصراً جديداً مهيباً، بل إعادة تنظيم الإمبراطورية البريطانية، استلزم ذلك بعض التمرينات البلاغية من جانب الوعاظ المنشقين لوضع إنجلترا البروتستانتية في الصف الذي يقف فيه البابا (¬1). كما كتب (توماس بين) في عام 1775م يقول: إن لدينا من القوة ما يمكننا من أن نعيد بناء العالم مرة أخرى. فلم يحدث منذ عهد نوح حتى الآن، موقف مشابه لما هو عليه الحال في الحاضر، أن ميلاد عالم جديد أصبح الآن بأيدينا" (¬2). ومن المفارقات الغريبة أن أول إعلان عن نظام عالمي جديد، خلال القرن الحالي، صدر قبل 50 عاماً من إعلان (بوش الأول) في الكونغرس عن نظامه العالمي الجديد. فقد استخدم (أدولف هتلر) اللغة ذاتها حيث قال: "أنا علي يقين تام من أن عام 1941م سيكون عاماً حاسماً في فتح الطريق أمام نظام جديد عظيم في أوروبا. سوف تكون أبواب العالم مشرعة للجميع ... ستساعد هذه السنة في توفير الأساس ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص50 (¬2) ميلاد عالم جديد (فرصة متاحة لقيادة عالمية) بقلم هارلان كليفلاند ـ تقديم روبرت ماكنمارا ـ ترجمة د. جمال زهران ص19.

اللازم لتفاهم حقيقي بين شعوب الأرض، بما يضمن المصالحة بين كافة الشعوب والأمم" (¬1). فباسم نفس المسيحانية المنقذة، أعلن هتلر ألف عام من النازية كسيطرة، وكإعادة تجديد للعالم بواسطة نقاء الشعب المختار الجديد: الآريون (¬2). وبالطبع لم تجلب تطلعات هتلر لنظام عالمي جديد سوى الدمار والدماء لأوروبا والعالم، وانهارت أحلامه في بناء إمبراطورية عالمية يحكمها الجنس الآري، ولكن ذلك لم يمنع وجود نفس الأفكار والتطلعات على الطرف الآخر من المحيط، ممثلاً براعي البقر الأمريكي، حتى لو كان هذا النظام العالمي الجديد سيتحقق على أشلاء ملايين البشر، وأنقاض حضارات عريقة. فنتيجة للحرب العالمية الأولى والثانية، تم رسم الحدود الاقتصادية للنظام العالمي الجديد، الذي يجب أن يكون خاضعاً لحاجات ومتطلبات الاقتصاد الأميركي، وقابلاً للتحكم والضبط السياسي الأميركي قدر المستطاع، ولذا كان يجب تفكيك سيطرة الإمبرياليات ـ خاصة الإمبريالية البريطانية منهاـ في الوقت الذي تعكف فيه واشنطن على توسيع الترتيبات الإقليمية الخاصة بها، في كل من أميركا اللاتينية، والمحيط الهادي، وفق مبدأ (ما يلائمنا يلائم العالم). لإن الأميركيين يؤمنون بأن الولايات المتحدة ترمز إلى شيء ما في العالم، شيء يحتاجه العالم، شيء سيحبه العالم، شيء سيتقبله العالم في آخر المطاف سواء أحبه أم لا. فالتخطيط الأميركي للعالم، أقام إعادة بناء العالم الصناعي على نهج كفيل بتلبية احتياجات ومصالح قطاع المال والأعمال، الذي يمسك بخيوط السياسات، فالأولوية لاستيعاب فائض الصناعات الأميركية، وسد الفجوة الدولارية، وخلق فرص الاستثمار، فخطة (مارشال) وضعت الأسس للشركات المتعددة الجنسية، والاستثمارات، والصناعات الأميركية، لتمتد إلى ما وراء البحار، محمية بمظلة القوة الأميركية. وأسندت إلى أجزاء أخرى من العالم وظائف حددها مخططو وزارة الخارجية: على جنوب شرقي آسيا أن يزود الإمبرياليين بالموارد والمواد الأولية، ولكن ينبغي منح اليابان نوعا من الإمبراطورية باتجاه الجنوب، وأفريقيا تسلم للأوروبيين ¬

(¬1) إمبراطورية الشرالجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ ص45 أو القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003 (¬2) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي ـ د. منى طلبهـ ص68

الحرب الباردة وحلم تأسيس إمبراطورية أمريكية

كي يستغلوها لأغراض إعمار بلادهم، وكان نصيب الشرق الأوسط من نصيب الولايات المتحدة وليس أوروبا. ووصف قادة الولايات المتحدة المملكة العربية السعودية، بأنها ينبوع قوة إستراتيجية مذهل، وإحدى أعظم الجوائز المادية في تاريخ العالم، ووصفت شرق آسيا بأنها بؤرة التجارة العالمية والتجديد التكنولوجي (¬1). http://www.aljazeera.net/books/2004/7/7-29-1.htm - TOP#TOP الحرب الباردة وحلم تأسيس إمبراطورية أمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، أتاح السلام الأمريكي الأول بناء نظام عالمي جديد، قائم على المجابهة مع الشرق، ولكن متمتع بآليات قوية في النظام المالي (اتفاقيات بريتن وودز، صندوق النقد الدولي، البنك العالمي .. ) وفي الأمن الجماعي (منظمة الأمم المتحدة، حلف شمال الأطلسي). وكان يراد من ذلك أن يؤمن للولايات المتحدة موقعاً مهيمناً، إلى جانب إفساح المجال أمام أوروبا واليابان لكي تعيدا بناء نفسيهما بفضل مشروع مارشال (¬2). وفي تلك الفترة وبمساعدة (إشعيا بومان) ـ الذي قاد مجموعة دراسات الحرب والسلام، التي أسست لولادة نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية ـ أسس (روبرت ستروز) في عام 1955م معهد بحوث السياسة الخارجية، والذي قام عام 1957م بإصدار نشرة فصلية باسم (أوربز)، تخصصت في الشؤون الدولية، حيث كانت المهمة المعلنة لهذا المعهد ونشرته هي الدعوة إلي إقامة إمبراطورية أمريكية، والتخلي عن سيادة الدول والدولة القومية، خاصة في عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي! حيث نشر في العدد الأول للمجلة عام 1957م مقاله، عنوانها: (موازين الغد) جاء فيها: "إن مهمة الولايات المتحدة هي توحيد العالم بأكمله تحت قيادتها خلال هذا الجيل. أما سرعة وكفاءة تحقيق الولايات المتحدة لهذا الهدف فسوف يقرر مصير ¬

(¬1) الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم ـ نعوم تشومسكي ـ ترجمة سامي الكعكي ـ دار الكتاب العربي 2004. تقديم/ إبراهيم غرايبةـ الجزيرة نت 29/ 7/2004م. (¬2) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص44

الحضارة الغربية، وبالتالي المصير البشري ... فهل سيكون النظام العالمي الجديد القادم هو إمبراطورية عالمية أمريكية ... ؟ يجب أن يكون الأمر كذلك لدرجة أن تحمل الإمبراطورية العالمية تلك دمغة الروح الأمريكية. أما التهديد لهذه الرؤية، وهذه الإمبراطورية الأمريكية فسيأتي من آسيا كما جاء في مقال (أوربز): أما الإمبراطورية الأمريكية والجنس البشري فسوف لن يكونا متضادين، بل هما اسمان لشيء واحد هو النظام العالمي الجديد" (¬1). ولكن هذا النظام الدولي الجديد، الذي عملت أمريكا على تأسيسه، لم يتحقق بسبب ظهور الاتحاد السوفيتي كقوة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية، والذي شكل معضلة كبيرة في وجه دعاة تأسيس النظام العالمي الجديد، حيث توجهت جهودهم لمواجهة هذا الخطر الجديد من خلال تضخيم حجمه. فطوال 70 عاماً، أقنعت الولايات المتحدة جزءاً كبيراً من العالم بأن هناك مؤامرة دولية تتربص به، مؤامرة شيوعية دولية، تسعى على اقل تقدير للسيطرة على الكوكب برمته، لأغراض ليس لها قيم تحقق الخلاص الاجتماعي، وجعلت العالم يعتقد انه يحتاج إلى الولايات المتحدة بطريقة ما لإنقاذه من غياهب الظلمة الشيوعية (¬2). ولهذا نشطت هذه القوى في بداية الحرب الباردة، حيث كانت السياسة الخارجية الأمريكية يجري تنفيذها تحت العلم الخفاق لخوض حرب صليبية أخلاقية ضد ما أقنع به محاربو الحرب الباردة الشعب الأمريكي، ومعظم العالم وأنفسهم عادة، وهو وجود مؤامرة شيوعية دولية حقود، ولكن ذلك كان خداعاً دائماً، فلم يكن هناك مطلقاً ذلك الوحش المسمى بالمؤامرة الشيوعية الدولية (¬3). ولكن تركيبة قوي اليمين المتطرف، شنت حرباً علي جبهتين ضد الشيوعية، حيث كانت أولي هاتين الجبهتين ما عرف باسم (المكارثية)، نسبة إلي السيناتور (جوزيف مكارثي)، والذي أذكى شرارة العنف السياسي، ليصل ذروته من خلال مزاعم لا أساس لها من الصحة، حول وجود الحمر، في إشارة إلي الشيوعيين، في كل الوزارات والدوائر الحكومية. وقد كشف (ويليام سوليفان) عميل ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ ص43 أو القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003 (¬2) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيدـ ص 29 (¬3) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد ـ ص 44

مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، إن الـ FBI هو الذي كان يغذّي مكارثي ويزوده بالمعلومات (¬1). أما الذراع الثاني للحملة ضد الشيوعية، فكان بروز التعصب المسيحي الذي داعب تلك المشاعر المناهضة للشيوعية في الولايات المتحدة. فقد سمع اثنان من قوي اليمين المتطرف عن واعظ مغمور يلقي عظاته في لوس أنجليوس أمام عدد قليل من الجمهور. وهنا رأي هذان الرجلان أن ذلك الواعظ، يلاءم حاجتهما في التبشير بغرض مقاومة الليبرالية والشيوعية. وقام الرجلان بإجراء مقابلة مع ذلك الواعظ الذي هو (بيلي غراهام) ووعداه بمنحه كل دعمهم الإعلامي. وأوعزا إلي مجموعتهم الإعلامية بان تنفخ (غراهام) إعلامياً، وقاما بنشر صوره علي غلاف مجلة لايف، وبين عشية وضحاها، أصبح (غراهام) بطلاً قومياً أميركياً، وبدأ يلقي محاضراته وعظاته علي مئات الألوف من الجماهير، حيث ساهم في ذلك كون الناس قد شبعوا ضغوطاً، وقرروا أن يعودوا إلي دينهم لينعموا بالهدوء في روحانيته، بعد أن ملأ الملل صدورهم من الرأسمالية والمادية. وهكذا أخذ المدّ الديني يتعاظم أكثر فأكثر. واستمرت حركتهم ونمت بفضل قوة الإعلام ومئات محطات الإذاعة والتلفزة التي يملكونها، علاوة علي الميزانيات السنوية التي تقدر بمئات الملايين من الدولارات. وقد ساهم هذا المد الديني في إذكاء الحرب ضد الشيوعية، وإطلاق قوة الولايات المتحدة لتدير حملة صليبية قوية ضد الشيوعيين الكفار (¬2)، حيث وصلت هذه الحملة ذروتها في عهد (ريجان)، مما ساهم في انهيار الشيوعية تماماً في عهد (بوش الأب) بعد حرب الخليج الأولى. ولم يكن غريباً في هذا الوقت أن يتم إعادة نشر مقالة (اوربز) المشار إليها، والتي كتبت قبل 35 عاماً من انهيار الاتحاد السوفييتي، مره أخرى في شتاء 1993م، في إشارة واضحة للاقتراب من تحقيق ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 3/ 2/2003 (¬2) الجذور الإنجيلية للأحادية الأمريكية اليمين المسيحي وكيفية مواجهته -بقلم: دوان أولدفيد: أستاذة مشاركة في العلوم السياسية في جامعة نوكس. قدمت نسخة هذا البحث في الاجتماع السنوي لجمعية العلوم السياسية الأمريكية الذي انعقد في الفترة ما بين 28ـ31 آب/2003.- نقلاً عن موقع مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

عصر التنوير الجديد

هدف تأسيس نظام عالمي جديد، حيث ثم تفكيك الاتحاد السوفيتي من ناحية، وتدمير اكبر قوه عربية تهدد إسرائيل، وهى العراق، من ناحية أخرى، ولتبدأ بعدها مباشرة خطة القضاء على الإسلام ومحاربته في كل مكان كما نعيشها الآن. حيث توجه مركز الثقل في الحرب الأمريكية صوب الإسلام والمسلمين، وبتحريض مسعور من دعاة صراع الحضارات وبارونان الشركات متعددة الجنسيات، ورموز اليمين المسيحي المتطرف، الذين زاد هوسهم الديني واعتقادهم بكثير من الخرافات التوراتية، التي عرضنا لها سابقاً. "وشكل هؤلاء تحالفاً مع المتعصبين اليهود المتطرفين، ليكونوا حركة متعصبة مسيحية يهودية، اتخذت مواقف ضد الإسلام غاية في التطرف. وأصبحوا قوة هائلة في الحزب الجمهوري وصياغة سياساته، حتى أن (هيرب زوايبون)، رئيس منظمة (أميركيون لإسرائيل آمنة)، حذر (بوش) في البيت الأبيض أنه في حال تبديل 10 بالمئة فقط من الـ 70 مليون مسيحي صهيوني لمواقفهم، فإنهم سيقلبون موازين الأمور ويدمرون رئاسة (بوش) ما لم يساند (شارون) في حربه الضروس ضد الفلسطينيين" (¬1). عصر التنوير الجديد في الفتره مابين ظهور حركة الإصلاح الديني وحتى الآن، شهد العالم حروب كثيره، لعبت فيها الدول البروتستانتية الانجلوسكسونية الدور الرئيس، حيث سيطر الغرب خلال هذه الفترة علي مقدرات العالم، وشكلت الدول القومية نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب ضمن الحضارة الغربية، حيث قامت تلك الدول بالتنافس والتفاعل، وشن الحروب بين بعضها البعض. وقد توسعت هذه الدول القومية الغربية، وقامت باستعمار حضارات أخري والتأثير فيها. وأهم ما تحقق خلال هذه الفترة هو القضاء على نفوذ الدول الكاثوليكية والأرثوذكسية، وسيادة البروتستانت ممثلين بالانجلوسكسون في بريطانيا وأمريكا على العالم. "وعندما صارت الولايات المتحدة لاعباً كونياً للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت بإزاحة أصدقائها ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربيـ 3/ 2/2003

ولادة النظام العالمي الجديد

الأوروبيين لتحل محلهم، واستخدمت قدراتها وثرواتها الطائلة من أجل ترتيب النظام الدولي بعناية ومهارة" (¬1). فبعد أن تمكنت أمريكا من القضاء على نفوذ الدول الكاثوليكية - كما سنعرض لاحقاً - ابتداء من حروبها في أمريكا اللاتينية وانتهاءً بالحربين العالميتين، ثم قضاءها على المعسكر الشرقي ـ التي تمثل دوله الكنيسة الأرثوذكسية ـ اقترب هذا الحلم الأمريكي من التحقق وأصبح النظام العالمي الجديد هو تحقيق إمبراطورية أمريكية عالمية، تعمّها المثل والقيم الأمريكية، حيث شهدت الأعوام الأخيرة من الألفية الثانية عرضا ضخماً وحماسياً من تملق الذات ـ ربما فاق كل سوابقه غير المجيدة بأية حال مصحوباً بتهليل مخيف لقيادة عالم جديد مثالي عاكف على وضع حد نهائي للبربرية، ومنذور لخدمة المبادئ والقيم لأول مرة في التاريخ. عصر من التنوير والبر طلعت شمسه علينا، وتتصرف فيه الأمم المتمدنة تحت قيادة الولايات المتحدة ـ وهي يومذاك في عز مجدها ـ بروح الغيرية والحمية الخلقية في التماسها المثل العليا. ولادة النظام العالمي الجديد مع سقوط الاتحاد السوفييتي وانهياره في نهاية عقد الثمانينات، أصبح النظام العالمي الذي ساد إبان الحرب الباردة طي النسيان، ومجرد تاريخ فقط، حيث حلّ محله النظام العالمي الجديد، الذي كانت أولى أولياته تحقيق الحلم الصهيوني، والسيطرة على العالم من خلال السيطرة على مصادر النفط في المنطقة العربية. وإذا كانت السيطرة علي النفط العالمي، أولوية معلنه لليمين المتطرف، وإن تم تجميلها ببعض المزاعم كمحاربة الإرهاب، ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الهدف المتعلق بالحلم الصهيوني المسيحي الأصولي، ظل غائباً عن الصورة لأهداف تكتيكية. وهكذا احتلت المنطقة العربية والإسلامية مركز الثقل بالنسبة لليمين الأمريكي المتطرف، وكانت علي رأس الأولويات علي أجندة النظام العالمي الجديد ¬

(¬1) الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم ـ نعوم تشومسكي ـ ترجمة سامي الكعكي ـ بقلم/ إبراهيم غرايبة29/ 7/2004م

الذي صاغ إستراتيجيته الكونية على هذا الأساس .. فكانت حرب الخليج الأولوية الأولي للنظام العالمي الجديد ... وكان العراق إلي جانب بقية دول الخليج المنتجة للنفط أولي الضحايا التي قدّمت لهذا النظام الجديد. ففي الثالث والعشرين من آب (أغسطس) 1990م، أي بعد ثلاثة أسابيع من اجتياح العراق للكويت، استخدم (برنت سكاوكروفت) مستشار الأمن القومي، في عهد الرئيس (جورج بوش) مصطلح النظام العالمي الجديد للمرة الأولي حيث خاطب الصحافيين، قائلاً: "إننا نؤمن بأننا سنقيم أركان النظام العالمي الجديد علي أنقاض العداء الأمريكي ـ السوفييتي الذي كان قائماً". أما رئيسه بوش، فقد خاطب الكونغرس الأمريكي بعد ذلك بعدة أسابيع في 11 ايلول (سبتمبر) 1990 م قائلاً: "لقد ابتدأت شراكة جديدة بين الدول ... إن الأزمة القائمة في الخليج الفارسي، علي خطورتها ودمويتها، تمنحنا فرصة نادرة ... من خضم هذه الأوقات العصيبة ... قد يولد نظام عالمي جديد" (¬1). وهنا يبدو الرئيس (بوش) يعيد تكرار أمنية سابقة تمناها الزعيم الصهيوني (إسرائيل زانغويل) في خطاب له في 2 ديسمبر 1917م، أي بعد صدور وعد بلفور بشهر واحد، وصف فيه المحاولات البريطانية والأمريكية، الرامية إلى إعادة اليهود إلى أرض فلسطين، بقوله: "سبع حملات صليبية إلى الأرض المقدسة، عادت على اليهود بالمذابح، فهل ستؤدى الصليبية الثامنة إلى استرجاع اليهود لفلسطين؟. وإذا كانت صليبية حقة، فإن تلك الحقيقة بالذات تأتى بمثابة البرهان على النظام الجديد لعالم تسوده المحبة والعدالة". ولم ينسَ (زانغويل) في هذا الخطاب، أن يكمل صورة النظام الجديد الذي توقع ميلاده في ظل الحملة الصليبية الثامنة، حيث أشار إلى ضرورة طرد العرب من أرض فلسطين ليتسنى إحلال اليهود مكانهم، لإقامة الوطن القومي اليهودي. كما تمنى في هذا الخطاب أن يكتمل هذا العمل عن طريق جعل مدينة القدس مقراً لعصبة الأمم، بدلاً من لاهاى المفلسة، ليتسنى جمع الحلمين ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م

العبرانيين، الأكبر والأصغر، ودمجهما في حلم واحد، ولتصبح العاصمة العبرانية ـ ملتقى الديانات العالمية الثلاث ـ مركزاً ورمزاً للعصر الجديد في الحال" (¬1). ولكن هذا النظام العالمي الجديد الذي تمنى ولادته (زانغويل) و (بوش الأب) لم يبقَ أمامه إلا العدو الجديد، وهو العالم الإسلامي، فكان لابد من صناعة صورة العدو البديل .. وكان لابد من خوض حرب صليبية بين قوى الخير والشر، وبقيادة (بوش الابن) ليتحقق العصر الألفي السعيد بقيام إسرائيل الكبرى، وعودة المسيح ليحكم العالم من مقره في القدس ... ¬

(¬1) إسرائيل الكبرى ـ د. أسعد رزوق ـ ص 407.

الفصل الثاني الإسلام عدو بديل

الفصل الثاني الإسلام عدو بديل هدف ثابت وصياغات متغيرة (¬1) بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001م، علي مركز التجارة العالمي في نيويورك، والبنتاغون في واشنطن، سيطر دعاة ومعتنقو عقيدة صراع الحضارات علي الساحة السياسية والإعلامية في أمريكا. فقبل الكشف عن أي دليل علي هوية المهاجمين، كانت الحملة المنظمة ضد الإسلام والمسلمين قد بدأت تبث سمومها عبر مختلف وسائل الإعلام، وذلك في غضون الدقائق العشر الأولي، التي أعقبت الهجمات. فقد وصف الكاهن (فرانكلين غراهام) الإسلام بأنه دين شرير. كما أن وسائل الإعلام والصحف الكبرى في أمريكا مثل نيويورك تايمز، والواشنطن بوست، قد أصدرت أحكامها مسبقاً علي الإسلام، وذلك علي لسان كتاب الأعمدة، الذين أجمعوا رأيهم علي أن المشكلة التي يعاني منها العالم هي الإسلام المتطرف، كما يدعي البعض، أو الإسلاميون كما يحلو للبعض الآخر تسميتهم. إلي جانب ذلك، فقد صور الإعلام الإسلام علي أنه دين عنف. وهذا ما دفع بالمواطن الأمريكي العادي الذي لا يشغله سوي قوت يومه إلي الاعتقاد بأن الإسلام والإرهاب هما وجهان لعملة واحدة. "وبذلك أصبحت الحرب ضد الإرهاب، سواء شعورياً أو لاشعورياً، حرباً ضد الإسلام، فأعلنت محطة (سي إن إن CNN) هذه الحرب قبل أن يقرها الكونغرس الأمريكي نفسه" (¬2). وهكذا يمكن ملاحظة أن هذا الهجوم المنظم على الإسلام بعد أحداث 11 سبتمبر لم يكن عفوياً، ولم يكن مبرراً، بل جاء نتيجة لتخطيط منظم سبقه بمراحل واستمر لسنوات طويلة، محاولاً إبراز الخطر الإسلامي وتضخيمه، لغاية في نفس يعقوب، حيث لم تكن أحداث 11 سبتمبر إلا نقطة التحول الحقيقية من الأقوال إلى الأفعال من اجل استهداف الإسلام وأهله. ¬

(¬1) الإسلام عدو بديل .. هدف ثابت وصياغات متغيرة! - نبيل شبيب ـ إسلام أون لاين- 12 - 1 - 2001 - http://www.islamonline.net/arabic/politics/2002/01/article9.shtml (¬2) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003

يقول الفيلسوف الفرنسي (مونتسكيو): "إن الشعوب السعيدة، هي الشعوب التي لا تاريخ لها". وقياساً مع هذه النظرية الاجتماعية، فإن التاريخ الغني لشعوب هذه المنطقة الممتدة من أواسط آسيا حتى شواطئ الأطلسي، يعكس مدى افتقار شعوبها إلى السعادة، حيث لعب عاملان أساسيان الدور الأهم في اغناء تاريخ المنطقة. العامل الأول ديني، وهو هبوط وحي الرسالات السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام فيها والثاني حضاري، وهو قيام الحضارات الإنسانية الأولى فيها" (¬1)، حيث كان من نتيجة ذلك تحول المنطقة لمنطقة جذب للطامعين والغزاة على كافة مشاربهم وأهدافهم، وكان على المنطقة دفع ضريبة تميزها وفرادتها، حيث تعرضت المنطقة عبر تاريخها لسلسلة طويلة من الحروب. ولكن إذا نظر أي دارس للحروب المستمرة، التي تعرضت لها المنطقة، فسيلاحظ أنها جميعها فشلت فشلا ذريعاً في تحقيق أهدافها، حيث تمكنت شعوب هذه المنطقة من دحر الغزاة وردهم على أعقابهم. وفي العصر الحديث تعرضت المنطقة العربية ـ ولازالت ـ لهجمة غربية شرسة، وبأساليب متعددة، بدءً من الغزو العسكري، وحتى الغزو الاقتصادي والفكري. فبعد زوال الاستعمار الغربي عن المنطقة العربية في منتصف القرن الماضي، لجأت الدول الغربية إلى إبقاء سيطرتها وفرض نفوذها على المنطقة بأساليب أخرى، اقتصادية وثقافية وعسكرية، من خلال بعض الأحلاف أو صيغ التعاون، مستخدمه كافة أساليب الضغط والتآمر للوصول إلى أهدافها. وقد نجحت هذه المخططات في تفتيت الأمة العربية، وإفشال أية مشاريع وحدوية، أو أي تعاون مثمر بين الدول العربية، حتى وصل حال الأمة إلى ما هو عليه الآن من ضياع وتشتت وغياب الهدف، وأصبح الحكام العرب ألعوبة في يد السياسات الغربية والأمريكية، وغذوا عاجزين عن اتخاذ أي موقف لا يروق للإدارة الأمريكية، التي كشفت عن أنيابها ومخططاتها القذرة تجاه المنطقة بعد انهيار المعسكر الشرقي، حيث بدأت في توجيه دفة العداء تجاه المنطقة، وبصوره فجه لم يسبق لها مثيل، وتحول أصدقاء الأمس إلى أعداء، وأخذت ¬

(¬1) موقع الإسلام في صراع الحضارات و النظام العالمي الجديد ـ محمد السماك ص 30 - دار النفائس- ط.2 1999

أمريكا في إخراج مخططاتها وأحقادها الدفينة من خزائن التاريخ العفنة، وبالتعاون مع الصهيونية العالمية، من أجل إظهار العرب والمسلمين بصوره بشعة وغير إنسانيه لتبرير العدوان عليهم واستباحة مقدراتهم، حيث ساهمت عدة عوامل في صياغته هذه الصورة المرعبة للإسلام في عقول الغربيين يمكن إيجازها بالآتي: أولاً ـ القادة والسياسيون (حرب صليبية)، (حرب ضد الفاشية الإسلامية)، (حرب تغيير القيم)، مصطلحات ترددت بقوة على لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 بما يؤكد أن الغرب وجد العدو البديل ممثلاً في المسلمين، بعد زوال الخطر الشيوعي، حيث أزاحت أحداث 11 سبتمبر الغطاء عن مكنون القلوب لدى زعماء غربيين تصرفوا بمنطق الحروب الصليبية، وأحيوا مقولات الداعين لتلك الحروب والمتمثلة في مواجهة خطر المسلمين الكفار. "فإستخدام التاريخ لأسباب سياسية يتضخم في الفترة المعاصرة. ويكفى مثال واحد لتبرير سباق التسلح أو السيطرة الاقتصادية، حيث يصطنع تاريخ الخصم على أنه شيطان. فقد كان الاتحاد السوفيتي هو (إمبراطورية الشر)، وبعد انهياره، وجد جورج بوش في الإسلام بديلاً ليبرر السياسة نفسها، وعلى النقيض من ذلك، ظهر تاريخ مقدس، كان في البداية تاريخ العبرانيين، تم استولى عليه المسيحيون الذين ادعوا وراثتهم له، ليبرروا حملاتهم الصليبية، تم استعمارهم" (¬1). فقد استجاب الرئيس الأمريكي جورج بوش لكارثة 11 سبتمبر بشكل شبيه بما فعله البابا أوربان الثاني، الذي عبأ العالم المسيحي إلى (الحرب المقدسة)، وكان المسلمون بالنسبة له هم الشعب الكافر، حيث جعل بوش من الحرب الصليبية قرينة للجهاد وعزز من صورة القاعدة (¬2). وترددت أصوات بوش عن الحرب ضد الشيطان في لندن، حين أعلن رئيس الوزراء البريطاني في 17 سبتمبر 2001، دعمه للتحالف الذي تشكله الولايات المتحدة لخوض الحرب في أفغانستان، مشيرا إلى أن الحرب القادمة ستكون بين العالم المتحضر من ناحية، والتعصب من ناحية أخرى. وبعد ¬

(¬1) أمريكا طليعة الانحطاط ـ جارودى ـ ص181 (¬2) راجع كتاب "الحرب الصليبية .. وقائع حرب ظالمة"- الصحافي والكاتب الأمريكي جيمس كارول - نيويورك 2004 - ترجمة د. قاسم عبده قاسم - الجزء الثاني - مكتبة الشروق الدولية - ط1 2005

خمس سنوات عاد بلير ليعلن في 2 أغسطس 2006، أن الحملة العسكرية في أفغانستان والعراق استهدفت تغيير القيم وليس مجرد إزاحة نظامي طالبان وصدام. ثم اكتمل مثلث الهجوم على الإسلام بسيلفيو برلسكوني رئيس وزراء إيطاليا (السابق) الذي أعلن بعد أيام من أحداث 11 سبتمبر أن "الإسلام دين لا يحترم حقوق الإنسان ومبادئ التعددية والتسامح والحرية الدينية، وأن الحضارة الغربية تعلو على حضارة الإسلام" (¬1). وهكذا يبدو واضحاً ان قادة الغرب وساسته، هم المسئولون في الدرجة الأولى عن هذا الموقف الخاطئ والظالم تجاه الإسلام وحركته السياسية والفكرية، فهم دائماً يحاولون انتخاب عدو موهوم لهذه الشعوب الغربية، ويضخمون لها أخطاره، ثم يقدمون أنفسهم منقذين ومخلصين ومدافعين عن هذه الشعوب تجاه هذا الخطر الداهم الموهوم. التهديد السوفيتي، التهديد الإرهابي، الأعداء الجدد، تلك هي عقلية البنتاجون ووكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي وآخرين، التي تجرى التنشئة عليها بصورة محمومة في الداخل والخارج، لتبرير مهامها الحاسمة المنقذة للحياة والمانعة للحوادث. يقول الجنرال (دوجلاس ماك ارثر)، وهو يتحدث عن ميزانيات البنتاجون الضخمة عام 1957م: "لقد أبقت علينا حكومتنا في حالة خوف دائم، أبقت علينا في حالة فرار مذعور دائم مصحوباً بحماس وطني، يقترن بصرخة عن حالة طوارئ وطنية خطيرة. لقد كان هناك على الدوام شر ما رهيب يتحفظنا أن لم نحتشد خلفه بصورة عمياء بتقديم الأموال الباهظة المطلوبة. ومع ذلك فباسترجاع الماضي، يتضح أن هذه الكوارث لم تكن لتحدث أبداً، ويتضح أنها لم تكن حقيقية تماماً مطلقاً. فالهدف الشامل للسياسات العملية هو الإبقاء على الناس مستنفرين (ومن تم يرحبون بقيادتهم لبر الأمان) بتهديدهم بسلسة لا تنتهي من الغيلان، معظمها خيالي، كما قال (هـ. ا. منكن) في عام 1920 م" (¬2). فالمجتمعات الغربية اعتادت الرفاهية الاقتصادية، التي لا سند لها في ¬

(¬1) جريدة الخليج - عدد 9982 - بتاريخ 17 - 9 - 2006 (¬2) الدولة المارقة ـ دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد ـ ص 51

الاقتصاد الغربي سوى استمرار نهب ثروات العالم المستضعف المغلوب، والحصول عليها بأبخس الأثمان، وهذه المجتمعات لا تتحمل أي نكسة أو تراجع في عالم الاقتصاد والرفاهية والاستهلاك، ولابد لهؤلاء القادة من الاستمرار في دعم وضمان قيام هذه المعادلة غير العادلة، ولا يتم ذلك إلا بالحفاظ على عالم الاستضعاف كما هو منبعاً للمواد الخام، وسوقاً لاستهلاك ما يفيض عن حاجة الغرب، وهذا يستدعي إستنفار الرأي العام الغربي ضد الإسلام، الذي يحارب هذه المعادلة، وضد المسلمين الذين يجاهدونه لضربها وإحلال معادلة متوازنة سليمة محلها، تؤمن مصالح كل الشعوب على السواء. ثانياً ـ الإعلام الغربي ساهم الإعلام الغربي بدوره الأساسي الفاعل في معاضدة القادة والسياسيين، فتحالف معهم في تشويه صورة الإسلام وحركاته، ومبادئه وقيمه، بتقديمها إلى المجتمعات الغربية بأقبح صور الراديكالية والوحشية، والتخلف والعنف. فقد غذّى الإعلام الغربي الرأي العام في الغرب بصور وقصص وروايات عن الإسلام والمسلمين، أصبحت أشد من الكوابيس ضغطاً على عقل وقلب وفكر المواطن الغربي، وأوجد البون الشاسع، والمسافة الكبيرة، في الفكر والممارسة، بين المسلمين والغربيين، وخاصة على صعيد الجنس والحرية الشخصية، ومهد كل ذلك أمام السياسيين، مهمة التلاعب بالرأي العام الغربي وتوجيهه، وحشده خلف هذه السياسات الخاطئة في التعامل مع الإسلام والمسلمين. يقول المستشرق الهولندي (رودلف بيترز): "أن اللغة الإعلامية اليومية ـ للغرب ـ تكرس الصورة المشوهة، ويساهم في التشويه بعض الفئات المتعلمة والصحافيون. إن نقد صحافتنا أمر واجب، لأنها تمضي بعيداً في تسويق مفهوم خاطيء، وهي تعيد ما قامت به أثناء الحرب الباردة من حماسة زائدة ضد العدو المفترض، وهي تتعاطى مع الأصولية باعتبارها خبراً جذاباً للقارئ، لأنها من ناحية تتبنى العنف والإرهاب، ومن ناحية أخرى تختلف عن الواقع الغربي وتتصارع معه، ويمكن أن تكون نيات بعض الصحفيين طيبة، ولكن

يجب أن لا ننسى المقربين من المؤسسات السياسية الحزبية، التي لها مصلحة في التلاعب بالرأي العام وتوجيه. وحتى الصحافي الموضوعي يواجه عوائق مهنية في تغطية الموضوع الإسلامي، فرؤساء التحرير يبحثون عن خبر، والحديث عن الإسلام المعتدل أو المتنور لا يعد خبراً، ولا يجتذب القارئ" (¬1). ثالثاً ـ المستشرقون رغم أن المفروض بالمستشرقين أن يكونوا أكثر إحاطة من الإعلاميين والسياسيين بحقيقة الإسلام، ومعرفة بمبادئه العادلة السامية، وأصوله السليمة القويمة، وإطلاعاً على حركته السياسية ومظلوميتها في الداخل والخارج، وعدم إتاحة الفرصة لها ـ محلياً وعالمياً ـ لطرح مبادئها وتوجهاتها بشكل هادئ وسليم، فان هؤلاء المستشرقين كانوا ـ إلا قليلاً منهم ـ أكثر الشرائح الغربية مسؤولية عن تشويه صورة الإسلام والشعوب الإسلامية لدى الغربيين، شعوباً وحكومات وأحزاباً، ساسة وقادة وإعلاميين، وعلى عواتق هؤلاء المستشرقين تقع المسؤولية الكبرى في زرع العداء للإسلام لدى الغرب، وفي دفعه لإعلان الحرب عليه، باعتباره العدو الأول. فهؤلاء بارتدائهم أثواب العلم والموضوعية، وحملهم لواء البحث والتحليل والتمحيص، كانوا أكثر نفوذاً وأبعد أثراً في الرأي العام الغربي، عدا عن أن دراساتهم وبحوثهم وأقوالهم كانت في الغالب هي المواد الرسمية الرئيسة للإعلاميين والسياسيين وسواهم. و قد أفصح المستشرق الأسباني (فرناندو دي أغريدا) رئيس قسم المطبوعات والنشر في معهد التعاون العربي التابع لوزارة الخارجية الأسبانية عن هذه الحقيقة، عندما أشار إلى أن دراسة الأوضاع العربية من قبل المستشرقين كانت تتم في الكثير من الأحيان بهدف تشويهها. ويقول وات في كتابه (ما هو الإسلام؟)، معبراً عن مدى انحياز الدراسات الغربية لجذور أصحابها عبر قوله: "إننا ورثة تحيز راسخ الجذور، يعود إلى الدعاية الحربية للقرون الوسطى، هذه الحقيقة يعترف بها الآن على نطاق واسع، فالدراسات الحديثة تشير إليها ضمن عوامل تكوين النظرة الغربية ¬

(¬1) الإسلام .. الغرب .. وإمكانية الحوار- ابراهيم محمد جواد - مجلة النبأ - عدد 39 - 4 - شعبان، رمضان 1420

للإسلام. فعندما تقابل الفرسان الصليبيون مع العرب (البرابرة السارقين)، فوجئوا بحضارة تفوق حضارتهم. فرجع كثير من الفرسان منزعجين مما رأوا وعاينوا في الأرض المقدسة: مستوى معيشة لا تعرفه أوروبا ذلك الوقت، معرفة القراءة والكتابة، علوم طبية مزدهرة، فروسية حقيقية وتسامح، جسّدها صلاح الدين البطل الكردي. كانت حضارة تماثل تلك التي ازدهرت في الأندلس تجعل الخصوم المسيحيين يخجلون من أنفسهم، كاشفة لهم أنه إذا كان هناك برابرة، فذلك هم (¬1). ولذلك فقد عمد هؤلاء الصليبيون على تشويه صوره المسلمين لكسب الدعم والتعاطف من شعوبهم وقد ساعدهم في ذلك كثير من رجال الدين وهذا ما يعترف به المستشرق الهولندي (فان كوننكز فيلد)، الذي أصدر عدة كتب تشرح الإسلام عقائد وأحكاماً اقترب فيها من الموضوعية والنزاهة، تحدث في كتابيه (أسطورة الخطر الإسلامي في الغرب)، و (حديث حول الإسلام في العصر الحديث)، مبيناً الصورة المشوهة التي يحملها الغربيين تجاه الإسلام، وأن لها جذوراً في الفكر اللاهوتي المسيحي. وقبل ذلك أشار الفيلسوف المؤرخ الفرنسي (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) إلى هذه الظاهرة في التفكير الغربي الحديث الذي يزعم لنفسه التحرر والموضوعية والعلمية، ثم يقف بإزاء الإسلام وقضاياه موقفاً آخر تمليه عليه عصبية خفية (¬2). كما أن المستشرقين أظهروا شبه إجماع على ضرورة التصدي للإسلام ومواجهة المد الإسلامي وقمع الظاهرة الأصولية، وإن كانوا قد اختلفوا في الأساليب التي طرحوها لهذه المواجهة، حيث كانت الحلول المقترحة لمواجهة المد الإسلامي كثيرة لا يمكن حصرها في هذا البحث، ولكنها جميعاً تؤكد على أن أصولية الإسلام تشكل خطراً كبيراً على الأمن والسلام، وعلى العلاقات بين الشرق والغرب. وأن المناهج الأصولية متزمتة وراديكالية لا ماضٍ ولا مستقبل لها. لهذا فإن قادة الغرب ـ استناداً إلى دراسات المستشرقين يراهنون على خيار واحد فقط، وهو سحق هذه التوجهات وتبديدها، ولو أدى ¬

(¬1) الإسلام عام 2000 - د. مراد هوفمان- ترجمة: عادل المعلّم - مكتبة الشروق. (¬2) راجع كتاب حضارة العرب - غوستاف لوبون - عادل زعيتر - د. ن, 1969

الأمر إلى سحق الحريات، ووأد الديمقراطيات، التي يتشدق بها هؤلاء القادة الغربيين ليل نهار، ويجعلونها واجهة لعملهم السياسي في بلدانهم وأمام شعوبهم (¬1). رابعاً: الصهيونية العالمية وإسرائيل أخيراً هناك ما قام ويقوم به الصهاينة والإسرائيليون من تشويه مستمر لصورة العرب والمسلمين، لدى الرأي العام الغربي، ومن تضخيم متواصل لخطر الإسلام عموماً، وخطر الإسلام الأصولي خصوصاً، على أساس أنه البديل الحالي عن الخطر الشيوعي السوفياتي، الذي انحسر عن كاهل الغرب في الآونة الأخيرة. "فقد كان التركيز الأصولي في مجال السياسة الخارجية الأمريكية منصباً على الخطر القادم من الشمال، كما في نبوءات حزقيال، أي خطر يأجوج ومأجوج والحلف الشرير بين (أبناء الظلام)، ضد أبناء النور، أي إسرائيل. إلا أن الاتحاد السوفيتي قد ضاع الآن من بين أيدي الأصوليين بوصفه الشيطان إبليس أو يأجوج ومأجوج، بل وسبب لأولئك الأتقياء خيبة أمل كبيرة لأنه ـ بانسحابه من حلبة الصراع مع قائدة حلف أبناء النور الولايات المتحدة، بل وانضواءه في الواقع تحت لوائه ـ قد جرد المسيحيين الأصوليين المؤمنين من الخصم الشرير، وحرمهم من فرصة إشعال حرب نووية مع ذلك الخصم الشرير، تعجيلاً، ـ من خلال تلك الحرب، هرمجيدون ـ بالمجيء الثاني للمسيح" (¬2). ولهذا كان على الأصوليين اختراع هذا العدو، فالغرب كما تقول المستشرقة الإيطالية) إيزابيلا كاميرا دافليتو): "كان وما يزال بحاجة إلى اختراع عدو حتى يضمن لنفسه خطاً دفاعياً، ويظل مترفعاً ومتعالياً على ما تبقى من العالم لسنين طويلة، أو حتى لعقود، كان هذا العدو متمثلاً بالشيوعية وبالمعسكر الشرقي، وعندما انهارت الشيوعية برز لدى الغرب التساؤل التالي: من سيكون عدونا المقبل؟!. وإذا به يسحب من خزانة تراكم عليها غبار الزمن ¬

(¬1) الإسلام .. الغرب .. وإمكانية الحوار- ابراهيم محمد جواد - مجلة النبأ - عدد 39 - 4 - شعبان، رمضان 1420 (¬2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص417

تبدل الصياغة وصناعة صورة العدو

صورة العدو التاريخي القديم المتمثل بالعالم الإسلامي، لكن الغرب كان أيضاً ـ بحاجة ـ إلى وسيلة لإقناع مواطنيه بمصداقية هذا الاكتشاف الجديد والقديم، لذا كان طبيعياً أن يحاول ترسيخ ملامح البعبع من خلال تقديم الأصولية الإسلامية، والإرهاب الإسلامي في صورة العدو العنيف" (¬1). ومعلوم أن الصهاينة والإسرائيليين يدركون أن الخطر الحقيقي، الذي يتهدد كيانهم هو ظهور تيار إسلامي قوى في الدول العربية. ونجد مشاعر مماثلة تساور العديد من المسيحيين ـ الأصوليين في ـ أمريكيا، فهم يعتقدون أن بقاء إسرائيل قوية جزء من مخطط الله، ويعتبرون المسلمين تهديداً لهذا المخطط، ولهذا يرى هؤلاء أن عليهم مواصلة معاداة المسلمين، لأن إسرائيل لا تزال في حالة تأهب عسكري، لمواجهة الدول الإسلامية المجاورة في غالبيتها (¬2). ولهذا فإن الأصوليين المسيحيين أكثر عداوة للإسلام والمسلمين، بل وأكثر جرأة في الطعن في الإسلام، وجرح مشاعر المسلمين، من حلفائهم اليهود. كما تدل عليه تصريحات (فرانك غراهام) و (بات روبرتسون) و (جيري فالويل) حول الإسلام خلال العام المنصرم. وقد لاحظت الكاتبة الأميركية (جريس هاسيل) أن الأصوليين المسيحيين في أميركا "مستعدون لتقبل نقد موجه لفرنسا أو إنجلترا، أو ألمانيا، أو إيطاليا، أو الولايات المتحدة، أو أي بلد آخر في العالم، لأن ذلك شأن سياسي، أما نقد إسرائيل فهو يساوي عندهم نقد الرب ذاته"، حسب تعبيرها (¬3). تبدُّل الصياغة وصناعة صورة العدو عندما غزا (صدام حسين) الكويت في أب 1990م، زود ـ من غير قصد ـ مخططي وزارة الدفاع بالشيء الذي كانوا يبحثون عنه، منذ تولي (غورباتشوف) قيادة الاتحاد السوفيتي. إنه عدو جديد يمكن للولايات المتحدة أن تضع عليه الملامة، وخطر على الأمن يبرر المحافظة على إنفاق عسكري مماثل لفترة الحرب ¬

(¬1) المستشرقون والإسلام معالجة منهجية خاطئة ـ إبراهيم محمد جواد (¬2) لا سكوت بعد ـ اليوم ـ بول فيندلى ص12 (¬3) يد الله - غريس هالسل ص 80

الباردة (¬1). وبعد أن تدخلت أمريكا ودمرت القوات العراقية وأخرجتها من الكويت، رأت أن توسع نظرتها للعدو الجديد باتخاذ الإسلام كعدو بديل، حيث كانت أول مره يرفع فيها شعار (الإسلام عدو بديل) على المستوى السياسي الغربي، في (منتدى الشؤون الأمنية الدولية) في ميونيخ عام 1991م، وكان الذي استخدم هذا التعبير، هو وزير الدفاع الأمريكي آنذاك ـ ونائب الرئيس الأمريكي حالياًـ ديك تشيني. وقد ـ لقي موقفه حينئذ ـ ردود فعل شديدة، في البلدان الإسلامية، وفي أوساط ثقافية ودينية غربية، تخوّفت مما يعنيه الصدام الكامن وراء تلك الشعارات، التي وصلت إلى مستويات مؤثرة في صناعة القرار السياسي الأمريكي ذو المنطلقات الصهيونية (¬2). وقد سبق رفع شعار (الإسلام عدو بديل) ظهور العديد من الدراسات والأبحاث التي قامت بها كثير من مراكز البحث والجامعات الغربية، وبالتعاون مع دوائر استخبارية غربية، بهدف التعرف على أنجع الطرق لمواجهة الصحوة الإسلامية أو ما سموها بالأصولية الإسلامية، "بحيث أضحى موضوع دراسات الشرق الأوسط في الغرب هو ابرز العناوين التي تتم تحتها عملية الرصد والدرس والتحليل للعالم الإسلامي عامة، والعربي خاصة، من كافة الجوانب، من العقيدة إلى فن زراعة البساتين، والتي تطورت وتوسعت بشكل هائل منذ الحرب العالمية الثانية، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، ويكفي أن نعرف أن عدد المتفرغين للبحث في هذا المجال في جامعات أمريكا وكندا كان 363 في عام 1969م فأصبح 670 عام 1986م، وان عدد أعضاء (رابطة دراسات الشرق الأوسط)، في أمريكا عام 1977 م كان 823 عضواً، موزعين على 39 مجالاً، أهمها مجالات التاريخ والسياسة، والأدب، والدين، والاقتصاد، وعلوم الإنسان، والاجتماع، والتعليم، والقانون" (¬3). ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل حرصت دول الغرب، خاصة أمريكا، على أن تنشئ مؤخراً عشرات المراكز في داخل البلاد الإسلامية ـ تحت مسميات مختلفة ـ لتتولى مهمة الرصد والفحص، وجمع المعلومات المباشرة، لتصب هناك في مراكز التخطيط والقرار، هذا ¬

(¬1) قرن أمريكي آخر - نيكولاس غايات - ترجمة رياض حسن - ص 150. (¬2) الإسلام عدو بديل (هدف تابث وصياغات متغيره) - نبيل شبيب - اسلام اون لاين 12/ 1/2001 (¬3) الأصولية في العالم العربي - دكمجيان - دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع/ المنصورة، 1989

تصريحات ومواقف

فضلاً عن المؤسسات التقليدية القديمة، من جامعات، ومدارس أجنبية، تسهم كذلك في المهمة نفسها. وعندما شهد العقد الأخير زيادة الوعي الإسلامي وعمقه في المجتمعات الإسلامية، في كل أنحاء العالم، كثفت الدوائر الغربية من نشاط الدراسات حول مناطق الصحوة الإسلامية في العالم، وهذا) دكمجيان) يكشف في مقدمة كتابه (الأصولية في العالم العربي)،عن أن دراسته تلك أعدت خصيصاً للحكومة الأميركية، وقد اعتمدت دراسته على كثير من المنشورات السرية، والرسائل، والنشرات الخاصة بالحركات الإسلامية في العالم العربي، وقدم خلالها تحليلاً لعمل وتحرك (91) حركة وجماعة إسلامية، وقد ساعده كما يذكر في جمع المادة العاملون في مركز هيئة البحث والتنمية في أميركا! وهذا يعني أن تلك الدراسات، بطريقة أو بأخرى سوف تكون مراجع أساسية، تستند عليها المخابرات الدولية بما فيها الـ ( C. I. A) الأميركية، وغيرها من مراكز المخابرات والاستخبارات في العالم، حيث أن أجهزة المخابرات وعملائها سوف لا تتعب كثيراً في التشخيص والنزول باتجاه التفاصيل. فالدراسات التي أعدت قد سهلت كثيراً من مهامهم. وعلى أثر تلك الدراسات وما تبعها من نتاجات متلاحقة، فان دوائر المخابرات قد شرعت بالمزيد من عملياتها ومخططاتها، فكان للإسلاميين مساحة واسعة من اهتمامات تلك الدوائر المخابراتية (¬1). تصريحات ومواقف هناك مقولة للكاتب الأمريكي (كال توماس) ـ وهو ينتمي إلى انتلاف اليمين المسيحي الذي يتخذ موقفاً صارخاً في تحيزه لإسرائيل وعدائه للعرب والمسلمين، تقول: "أن كلاً من اليمين واليسار في الولايات المتحدة يحتاج إلى أعداء، لكي يستفز بهم ـ وبأسلوب الصدمة الكهربائية ـ حملات جمع التبرعات .. وان اليمين يتطلع منذ ¬

(¬1) الصحوة الإسلامية في الدراسات الغربية / جعفر الموسوي- موقع شبكة العراق الثقافية - 1/ 6/2005

التسعينات إلى عدو يحل محل الشيوعية، وقد يكون ذلك الإسلام" (¬1). فبعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي وانحلال حلف وارسو، جرى تصعيد متعمد للعدوانية الغربية ضد الإسلام، فكتبت (كارين آرمسترونغ)، قبل عشر سنوات من إعلان (جورج دبليو بوش) الحرب الصليبية الأخيرة ضد الإسلام، قائلة: "يبدو الآن أن الحرب الباردة ضد الإسلام ستحل محل الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي" (¬2). وفي الأول من أيلول 1993 كرر الجنرال باول نفس الشئ:: إن الإمبراطورية السوفيتية قد حل مكانها شيء من نوع آخر مختلف - العراق وكوريا وشياطين آخرون ومخاطر ذات طبيعة إقليمية».الأمريكيون مستعدون إذاً لاستنباط مخاوف أخرى لاقناع الأمم وخاصة الأوروبية منها بتقبّل هيمنتهم العسكرية والسياسية للأبد (¬3). أما مدير معهد بروكنغرز في واشنطن (هيلموت سوننفيل) فيقول: "إن ملف شمالي الأطلسي سوف يعيش، وأن الغرب سيبقى مجموعة دول لها قيم أساسية مشتركة. وستبقى هذه المجموعة متماسكة معاً من خلال الشعور بخطر خارجي: الموقف من الفوضى أو التطرف الإسلامي". وقال الرئيس الأمريكي الأسبق (ريتشارد نيكسون) في كتابه (أمريكيا والفرصة التاريخية): "إنه يوجد في العالم الإسلامي عاملان اثنان مشتركان فقط، هما الدين الإسلامي، والاضطراب السياسي" (¬4). ويضيف: "يحذر بعض المراقبين من أن الإسلام سوف يكون قوة جغرافية متعصبة ومتراصة، وأن نمو عدد أتباعه، ونمو قوته المالية سوف يفرضان تحدياً رئيساً. وأن الغرب سوف يضطر لتشكيل حلف جديد مع موسكو من أجل مواجهة عالم إسلامي معاد وعنيف". وقد عكس (نيكسون) في كتابه هذا، صورة بشعة عن العالم الإسلامي عندما قال: "إن معظم الأمريكيين ينظرون نظرة موحدة إلى المسلمين على أنهم غير متحضرين، وسخين، برابرة، غير عقلانيين، لا يسترعون انتباهاً إلا لان الحظ ¬

(¬1) انقلاب في السياسة الأمريكية، إعادة ترتيب الشرق الأوسط لصالح إسرائيل- عاطف الغمري ـ ص 81 - المكتب المصري الحديث- ط1 2004 (¬2) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 3/ 2/2003 (¬3) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 212 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001 (¬4) أمريكيا والفرصة التاريخية - ريتشارد نيكسون - ترجمة د. محمد زكريا اسماعيل ص 118 - دمشق, سورية: دار حسان, 1983

حالف بعض قادتهم، وأصبحوا حكاماً على مناطق تحتوي على ثاني الاحتياطي العالمي المعروف من النفط" (¬1). وفي ربيع 1990م ألقى (هنري كيسنجر) وزير الخارجية خطابا أمام المؤتمر السنوي لغرفة التجارة الدولية، قال فيه: "إن الجبهة التي على الغرب مواجهتها هي العالم العربي الإسلامي، باعتبار هذا العالم العدو الجديد للغرب، وأن حلف الأطلسي باق، رغم انخفاض حدة التوتر بين الشرق والغرب في أوروبا، ذلك أن أكثر الأخطار المهددة للغرب في السنوات القادمة آتية من خارج أوروبا. وفي نهاية التسعينات فإن أخطر التحديات للغرب ستأتي من ناحيتي الجنوب (المغرب العربي والشرق الأوسط)، وهو ما أكده فيما بعد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي Willy Claes)) والذي وصف الأصولية الإسلامية في خطاب رسمي له بأنها أعظم خطر راهن يواجه الحلف. ولهذا ألح، (برنارد لويس) ـ أشهر مستشرقي العصر الحديث (¬2) ـ على الحكومة الأمريكية بضرورة التعامل بقسوة مع المسلمين والعرب، وأعرب عن رغبته في أن تسقط الولايات المتحدة سلطتها عليهم. فوفقاً للويس، هناك غرب متقدم إنساني من ناحية، وهناك من ناحية ثانية (إسلام) ـ وهذا الأخير يشمل الدين والقانون والحضارة والجغرافيا والتاريخ. وفي ذهنه، لم يتغير المسلمون والإسلام عبر العصور، فهو يعتبر أن دراسة مخطوطه عربية تعود إلى القرن التاسع الميلادي تفيد منهجياً في تفسير السلوك السياسي للفلسطينيين عام 2002م. وفي كتابه (الإسلام والغرب) ينظر لويس إلى المسلمين بوصفهم مجموعة متجانسة واحدة، يتمتعون بمميزات وأنماط سلوك مماثلة، ويمكن أن تفسر كل أعمالهم البغيضة بالعودة إلى القرآن وكتب الفقه الكلاسيكية (¬3). ¬

(¬1) أمريكيا والفرصة التاريخية - ريتشارد نيكسون - ترجمة د. محمد زكريا إسماعيل ص 187 (¬2) ولد برنارد لويس في لندن عام 1916م لأسرة يهودية، وقد أتم دراسة التاريخ الشرقي من جامعة لندن عام 1939م، وكان موضوع رسالته عن الطائفة الإسماعيلية وجماعة الحشاشين، وعمل بالتدريس في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. ثم التحق بخدمة المخابرات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وبقي يعمل فيها حتى عام 1974 ليلتحق بالتدريس في جامعة برنستون بالولايات المتحدة. وهو معروف بصهيونيته وعدائه للإسلام (¬3) الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب - من قسم العالم إلى فسطاطين - اسعد أبو خليل ـ ص32

نظرية صراع الحضارات

انطلاقاً من هذه التصريحات والمواقف بدأ الغرب وعلى رأسه أمريكيا يستهدفون الإسلام، كطريقة بديلة للحياة، وعلي نحو صريح ومكشوف منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والنظام الشيوعي، وقبل أن تظهر علي المسرح حكاية أسامة بن لادن. وقد صرح السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1995م أن الإسلام السياسي كان خطراً بمقدار خطورة الشيوعية علي الغرب علي الأقل (¬1). وقد بلغ التحامل على الإسلام إلى درجة أن مجلة الايكونوميست البريطانية المعروفة برصانتها، نشرت على الغلاف موضوعاً بعنوان: (الإسلام الأيديولوجية البربرية المعادية للغرب). وجاء في دراسة أخرى نشرتها مجلة ألمانية متخصصة في الدراسات الإستراتيجية: "الواقع أن الأحاسيس المعادية للعرب وللمسلمين، تجعل من هذه الصورة الجديدة للعدو، المخطط لها أسرع نجاحاً، وأكثر قدرة في الحصول على الإجماع، يبدو ذلك واضحاً من إسراع مجموعات من الخضر بألمانيا، عند حصول (أزمة الكويت) للحديث عن صراع بين الإسلام والغرب، بل بين الإسلام والتنوير أو التحرير، وطالب آخرون من الخضر الألمان ببوليس دولي لحماية البيئة من العرب (¬2). نظرية صراع الحضارات يقول المفكر د. محمد عابد الجابري: "ان العقل الأوروبي لا يعرف الإثبات إلا من خلال النفي، وبالتالي لا يتعرف إلى (الأنا) إلا من خلال (الآخر). ومن هنا فهو لا يستطيع التفكير في المستقبل إلا من خلال (سيناريوهات) يرسم فيها لنفسه (الآخر) .. العدو المنتظر" (¬3). فقد وجد الغرب نفسه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ـ العدو المشترك ـ أمام فراغ كبير، أصبحت معه خلافاته وصراعاته الداخلية من دون سقف رادع. و وجدت الولايات المتحدة الأميركية نفسها فجأة دولة، بل معسكراً وترسانة من الأسلحة، بل تحالفاً دولياً بنى سياسته واقتصاده وإستراتيجيته، وثقافته، ورؤاه المستقبلية على أساس أنه يواجه عدوا يتربص به، فإذا بالعدو ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 3/ 2/2003م (¬2) موقع الإسلام في صراع الحضارات و النظام العالمي الجديد ـ محمد السماك ص 16ـ17 (¬3) مسألة الهوية (العروبة والإسلام .. والغرب) - د. محمد عابد الجابري مركز دراسات الوحدة العربية/1997م

ينسحب بل يختفي (¬1)، ومن هنا جاءت نظرية وجوب اختراع عدو بديل، حيث وجد المنظرون الإستراتيجيون في الإسلام ضالتهم، وتم صياغة صورة العدو البديل على المستوى الفكري، كما كان مع نظريتي (نهاية التاريخ) لفوكوياما، و (صدام الحضارات) لهنتينجتون، لان الولايات المتحدة تحتاج لعدو توجه ضده المدافع الاعلاميه والسياسية والعسكرية. فهذه الآلة الضخمة يجب أن تشتغل وتنتج وإلا أصابها التآكل، لا بد لها من عدو يجسد (الشر)، فإذا لم يكن موجوداً يفقد (الخير المفترض) مبرر وجوده. لذلك ولو لم يكن هذا العدو موجوداً لوجب اختراعه، سقوط الاتحاد السوفيتي كاد يحرمها من هذه المعادلة، لكنها سرعان ما أعادت إنتاج مقولة (إمبراطورية الشر) بتعديلها لتصبح (محور الشر). فقد تغيرت التركيبة العالمية، وإن لم تستقر بعد إلا أنها استهدفت إيجاد عدو بديل. وكانت حرب الخليج التي خاضها بوش الأب بمثابة الإعلان عن ولادة قيام نظام عالمي جديد، وموت النظام العالمي القديم، وبالتالي موت كل التوازنات والاتفاقات، التي كانت ترسم حدود العالم في ذلك الحين. سقط النظام القديم، وسقطت كل الضوابط والكوابح التي كان يقوم عليها. فإذا صدقنا ما تحدث عنه (هنتنجتون) وأسماه صدام الحضارات، نجد أنه لو اندلعت حرب عالمية ثالثه فستصبح حرباً من نوع جديد هكذا قال (هنتنجتون)، فلن يكون سببها نزاعاً (أوروبياً - أوروبياً) ولكنها ستكون مواجهه بين الحضارات، بين المركز (وهو الغرب)، وبين الأطراف (أو المستعمرات القديمة). بل إن (هنتنجتون) يعطى أيضاً ـ كلاً ـ من المجموعتين صبغة دينيه: إذاً سيكون الصدام بين حضارة (يهودية مسيحية) وأخرى (إسلامية كونفوشيوسيه). فالولايات المتحدة في خطتها للسيطرة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، عينت (العدو البديل أو الشيطان) الذي يجب القضاء عليه، وهو الإسلام وحلفاؤه المحتملون، فيما يسمى بالعالم الثالث (¬2). ولهذا بدأ البحث في أوائل التسعينيات عن كلمة أخرى غير الإسلام، فبدأ ¬

(¬1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص92. (¬2) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى ـ ص 25ـ26

نظرية هنتنغتون الجديدة

التركيز على (الأصولية) (¬1)، مع تصريحات تقول بتبرئة الإسلام كدين سماوي منها، وتثبيت فكرة أن الأصولية هي (الإسلام السياسي). وبعدها بفترة بدأ التركيز على ربط الإسلام والمسلمين والعرب بـ (الإرهاب)، حيث ترسخ هذا المفهوم في أذهان معظم الأميركيين بعد التفجير في مركز التجارة العالمي في شباط فبراير 1993م، وحينها صب الحاقدون وقود كراهيتهم على النار المستعرة، وبدأ الحديث عن شبكة عالميه فائقة التنظيم، ومكونه من مجموعات الإرهاب الإسلامي، ومتربصة للانقضاض داخل الولايات المتحدة (¬2). نظرية هنتنغتون الجديدة إذا كان العرب والمسلمون قد استقبلوا كتاب المفكر والأكاديمي الأميركي المعروف (صموئيل هنتنغتون) قبل الأخير (صدام الحضارات) بالقلق والرفض الواسعين، لترويجه فكرة أن الصراع العالمي القادم سوف يكون صراعا بين الحضارة الغربية من ناحية، وحضارات الشرق، وعلى رأسها الإسلام من ناحية أخرى، فإنه حري بهم الانتباه لنظرية أخطر يروجها (هنتنغتون) في كتابه الجديد (من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية)، نظراً للدور الذي ينادي (هنتنغتون) بأن يلعبه الإسلام كدين وحضارة في تشكيل الهوية الوطنية الأميركية خلال الفترة الراهنة، وفي المستقبل المنظور. فعلى الرغم من أن (هنتنغتون) لا يرى ـ في كتابه الجديد ـ أن الإسلام هو أحد التحديات الأساسية، التي أدت إلى تراجع شعور الأميركيين بهويتهم الوطنية خلال العقود الأخيرة، فإنه يرى أن العداء للإسلام والحضارة الإسلامية قد يساعد بشكل كبير في تحقيق التفاف الأميركيين المنشود، حول هويتهم الوطنية في المستقبل المنظور، حيث يطرح (هنتنغتون) رؤية لإعادة بناء الهوية الأميركية، تقوم على استشراف بعض التغيرات الجذرية الإيجابية الطارئة على المجتمع الأميركي في ¬

(¬1) الأصولية هي مصطلح غربي أطلق في الأساس ولا يزال عل الجماعات المسيحية المتطرفة التي نشأت بعد حركة الإصلاح الديني، حيث طالبت هذه الفرق بالعودة لأصول العقيدة المسيحية، وهى الكتاب المقدس، ونادت بالتفسير الحرفي لكلماته، وقد تميز نشاط هذه الفرق بالتطرف والعنف، ورفض الآخر. (¬2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص84

الفترة الأخيرة، التي من شأن تأكيدها عودة الروح للهوية الوطنية الأميركية. ويعني (هنتنغتون) بهذه التغيرات تحولين أساسيين: أولهما عودة الأميركيين للدين المسيحي، وزيادة دور المسيحية في الحياة العامة الأميركية. وثانيهما الدور الذي يمكن أن يلعبه الإسلام كعدو أساسي جديد لأميركا. ويبشر بأن العودة للمسيحية ـ التي تعد أحد الركائز الأساسية للهوية الأميركية ـ تمثل عاملاً هاماً في دعم الهوية الأميركية ونشرها خلال الفترة الراهنة. كما أن الصحوة الدينية ـ وفقا لتحليل هنتنغتون ـ تصب مباشرة في الدور المساعد الذي يمكن أن يلعبه الدين على الساحة الدولية وخاصة في تعريف عدو أميركا الجديد وهو الإسلام. وهنا يرى أن عداء أسامة بن لادن لأميركا هو عداء ديني، وأن الأميركيين لا يرون الإسلام على أنه عدو لهم، ولكن الإسلاميين المسلحين، المتدينون منهم والعلمانيون، يرون أميركا وشعبها ودينها وحضارتها أعداء للإسلام. ونتيجة لذلك يرى (هنتنغتون) أن البديل الوحيد للأميركيين هو أن ينظروا لهؤلاء الإسلاميين المسلحين بأسلوب متشابه. ثم يبدأ في وصف نفوذ الإسلاميين المسلحين، ويقول: إنهم كونوا شبكة دولية لها خلايا عبر العالم، هدفها الأساسي هو تدمير الغرب، وإن المسلمين دخلوا في العقود الأخيرة حروبا طالت البروتستانت، والكاثوليك، ومسلمين آخرين، وهندوسا، ويهودا، وبوذيين، وصينيين، وحاربوا في كوسوفا، والبوسنة، والشيشان، وكشمير، وفلسطين، والفلبين. وإن مشاعرهم السلبية تجاه أميركا زادت في التسعينيات. ويضيف أن الشعوب الإسلامية لم تتعاطف مع الأميركيين بعد 11 سبتمبر، وأن عداوتها لأميركا عميقة، وليست بسبب إسرائيل، فهي مدفونة في الحقد على الثروة الأميركية، والسيطرة الأميركية، والعداء للثقافة الأميركية في شقيها العلماني والديني. وينهي (هنتنغتون) فكرته بتوقع دخول أميركا حروبا مع دول وجماعات مسلمة في السنوات القادمة، مما يرشح الإسلام بشكل واضح للعب دور العدو الأساسي والكبير، الذي يوحد الأميركيين ضده (¬1). ¬

(¬1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية: صموئيل هنتنغتون ـ عرض/ علاء بيومي ـ الجزيرة نت 2ـ8ـ2004م

الحملة على الإرهاب

الحملة على الإرهاب منذ ظهر شعار (الإسلام عدوّ بديل) لم تتغير وجهة مسيرة الدول الغربية وسياساتها العدائية تجاه الإسلام والمسلمين، وجلّ ما هنالك أن بعض معالمها المرئية تبدّلت وفق متطلبات المرحلة الآنية. وهنا يأتي توجيه دفة الأحداث تحت عنوان تداعيات تفجيرات واشنطن ونيويورك، كمحطة جديدة على صعيد تلك السياسة الغربية. فلم تكن التفجيرات هي التي صنعت مسلسل التداعيات من بعدها، بل توفرت منطلقات مسبقة لتوظيف هذه التفجيرات، لتكون بمثابة الذريعة للتحرك وفق صيغة قائمة من قبل. وهذا ما يعنيه أيضًا اصطناع ما سُمِّي (الحدّ التاريخي) الزمني الفاصل بين ما قبل الحادي عشر من سبتمبر وما بعده، لتبرير كل ما يتم تنفيذه بعد ذلك التاريخ بتلك التفجيرات (¬1). صحيح أن مقتل الألوف في الولايات المتحدة في يوم واحد، بهذه الصورة، حدث هائل، ولكن لم يتحدّث أحد عن نهاية حقبة تاريخية، وبداية أخرى، عند مقتل الألوف دفعة واحدة في (سربرينتسا) وأخواتها، ولا عند مقتل مئات الألوف خلال فترة وجيزة في حرب الإبادة في رواندا، التي رفضت واشنطن بالذات وصفها بحرب الإبادة. أما فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي فحدث ولا حرج ... فحين يقتل جندي من جيش إسرائيل، أو من مرتزقته في جنوب لبنان، الذي كانت تحتله إسرائيل بطريقة غير شرعيه ـ أي حين يقتل مقاوم محتلاًـ فإن ذلك يعد إرهاباً، وإذا قصفت القوات الإسرائيلية المدنيين، وذبحتهم في قانا، أو ضواحي بيروت، أو في الأراضي المحتلة، ـ يسمى ذلك بالدفاع الشرعي. ومن اليسير تعداد مئات الأمثلة لاستخدام تلك الذرائع والافتراءات، مثل مكافحة الإرهاب، أو التدخل الإنساني، أو حماية حقوق الإنسان، لتبرير العدوان المباشر على الدول، أو فرض القيود على الاتفاقيات الاقتصادية معها، إذ تثار أحداث (تيان إن من) بينما لا يذكر شيء مطلقاً عن مذبحة أبشع وأفظع ارتكبها أرييل شارون، وراح ضحيتها عشرون ألف مدني في لبنان عام 1982م (¬2). ¬

(¬1) الإسلام عدو بديل - نبيل شبيب ـ إسلام أون لاين 12/ 01/2001م (¬2) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى ـ ص29

وهناك حادثة تحمل دلالتها المؤثرة يرويها الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، في كتابه المعروف (فقه السيرة): جندي إنجليزي من المستعمرين القدماء العائدين من كينيا في أفريقيا، يحكي لزميله في لندن، كيف أنه وهو يحاول أن يفرغ رصاصتين في رأس أحد الثوار الكينيين من حركة (الماو ماو)، حاول هذا أن يعضه من ذراعه دفاعا عن نفسه، تصور يا (جون) يقول الجندي الإنجليزي العائد، كيف أنه أراد إلحاق الأذى بي باستخدام أنيابه كالكلاب الشرسة. يضحك (جون) حتى يستلقي على قفاه وهو يردد: أيها الإفريقي الدنس أيها الأسود المقرف!! (¬1). وهنا لا يقتصر الأمر على ازدواجية عنصرية في معايير النظرة الغربية والأمريكية، عمومًا إلى الإنسان وقيمته وحقوقه وحرياته، ولكنه مسألة (حسابات سياسية باردة)، ترتبط بمنظور السياسة الغربية التي تفخر بواقعيتها القائمة على موازين تلك الحسابات، وتغليبها على الأخلاق والقيم. فما يجرى حتى الآن في أفغانستان والعراق، وما يمكن أن يتبعه من أحداث، يرتبط أولاً وأخيرًا بمسيرة عولمة "الهيمنة الأمريكية" نفسها، وشمولها للجانب العسكري إلى جانب الميادين الاقتصادية، والمالية، والسياسية، والفكرية. وهنا لا تمثِّل التفجيرات في نيويورك وواشنطن ـ على ضخامتها ـ سوى عنصر من عناصر عديدة يجري توظيفها لخدمة الهدف الأوسع نطاقًا. فها هي ذي أمريكا تمضي قدما تحت اغراءات التفرد والقوة وضغوط الهياج الشعبي، بكل أبعاده الدينية والعنصرية لإنزال الويل والثبور بهذه الحلقة، أو تلك من عالم الإسلام، ومحاولة احتواء، وربما إرغام كل زعامات هذا العالم على الانخراط تحت ما تسميه (مقاومة الإرهاب)، وهو يقينا لا يتحدد بهذه البقعة الضيقة أو تلك، وإنما سيمضي بقوة المذهب والتاريخ والمصلحة، لكي يطال عالم الإسلام كله (¬2). فمع أواسط التسعينيات الميلادية، بدأت نقطة الثقل تتحوَّل في المواقف الكلامية العدائية من مصطلح (الأصولية) إلى كلمة (الإرهاب الدولي)، التي كانت ـ ولا تزال ـ مائعة فضفاضة، يمكن تفصيلها على مقاس الغرض السياسي المطلوب ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ص45 - دار الفكر بدمشق- ط1 2003 (¬2) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص37

في كل حالة، وفي كل مرحلة بصورة قائمة بذاتها. فقد شهدت تلك الفترة قيام الرئيس (بل كلينتون) بصوره رسمية بتدشين ما يسمى الآن بالحملة على الإرهاب، حيث صرح عام 1996م أمام مؤتمر وزراء الخارجية والداخلية للدول السبع الصناعية، بقوله: "سيكون الإرهاب أحد أخطر التهديدات المؤثرة الموجهة ضد امتنا في القرن الحادي والعشرون" (¬1). وقد كتب (بول مارى) في (فبراير 1997م) مقال صحيفة لموند بعنوان (الحملة الصليبية الأخيرة للرئيس كلينتون ضد الإرهاب)، قال فيه: "في الخامس من أغسطس، وقع الرئيس كلينتون قانون (دماتوـ كيندى) معلناً وضع إيران وليبيا خارج القانون الدولي. ولقد كان مهتماً أن يكون محاطاً أمام كاميرات التلفزيون بأقرباء ضحايا طائرة شركة بان أمريكان، التي أسقطت فوق لوكربى، والتي حملت ليبيا مسئوليتها، برغم وجود تقارير تنفى هذا الزعم. لقد أعلنت واشنطن بهذا الاحتفال الرمزي والمعبر في آن واحد عن سياستها عن بدء الحرب من الآن فصاعداً على الإرهاب العدو الأكبر (¬2). وفي نفس العام وقبلها بعدة أشهر أعطت أمريكا لتلك الحملة بعداً استعراضياً عالمياً، في مؤتمر شرم الشيخ عقب إنفجارات القدس وعسقلان. حيث حددت حكومة إسرائيل الهدف الجديد في شرم الشيخ عام 1996م إذ أعلنت مبادئ (مواجهة الإرهاب) والتدخل الإنساني وهما الذريعتان الرئيسيتان للاستعمار الجديد، حيث اعتبر شمعون بيريز إيران مركز الإرهاب العالمي دون أدنى دليل، وطبعاً اتسع مفهوم الإرهاب ليشمل كل أشكال مقاومة الشعوب للدفاع عن نفسها ونيل استقلالها، واستبعد هذا المفهوم كل أشكال إرهاب الدولة الذي يهدد هذا الاستقلال (¬3). فبالرغم من أنه لا يوجد أي شيء يؤكد تورط الجماعات الإسلامية في حادث (اوكلاهوما سيتى)، الذي نفذته مجموعة من اليمين المتطرف عام 1995م، وحادث التاسع من أكتوبر عام 1995م ضد قطار ميامىـ لوس انجلوس، والذي أعلنت جماعة مسماة (أبناء الجوستافو) مسئوليتها عنه، كذلك حادث دكتور الرياضيات الذي أسمى نفسه (اونابومبر)، والذي كانت هوايته إرسال الطرود المفخخة، أو حتى موضوع ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى - ص233 (¬2) المصدر السابق ص231 (¬3) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى ـ ص 28

تحديد الهدف .. ما هو "الإرهاب الإسلامي"؟

الرجال الأحرار (فريمن) الذين قاوموا رجال الشرطة واحد وعشرين يوماً في خريف 1996م في أحد مزارع مونتانا. فإن كل هذا لا يمنع أن تكون الأصولية الإسلامية بالنسبة لأمريكا هي المتآمرة الأولى والممثلة للإرهاب (¬1). ولهذا فإنه في تلك الفترة، تضاعفت الحملة الدعائية في الغرب ضد المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين، مع إعطاء مسلسل الجرائم الدموية الرهيبة في الجزائر، والجارية بمشاركة (أطراف عديدة) على حساب الإسلام، وعلى حساب الجزائر، عنوان (الإرهاب الإسلامي). ثم في وقت متأخر نسبياً، بدأ الحديث يتركَّز على تنظيم القاعدة وابن لادن، وهو ما يمكن ربطه بالحاجة إلى (رمز)، في كل حملة عداء أو ما يستحق وصف (عملية غسيل الدماغ) لصناعة (صورة العدوّ)، وبالذات بعد غياب رموز الإرهاب اليساري الغربي عمومًا، واضمحلال مفعول ما كان يوصف برموز (الإرهاب الفلسطيني) في وعي الرأي العام الغربي من أفراد ومنظمات، نتيجة تحرّك عجلات مشروع أوسلو، فضلاً عن تساقط رموز دولية للإرهاب من أمثال (كارلوس). وفي يوم 20 أغسطس 1998م أطلقت الولايات المتحدة عدداً من صواريخ الكروز طراز توماهوك يتراوح بين 75ـ100 صاروخ من ست سفن حربية أمريكية وغواصة، على منشآت في أفغانستان والسودان، لتفتح ما وصفها الرئيس (بل كلينتون) بأنه (حرب طويلة) ضد الإرهاب (¬2). تحديد الهدف .. ما هو "الإرهاب الإسلامي"؟ من يتكلم في الغرب الآن عن (الإرهاب الإسلامي) المزعوم، لا يعني إطلاقًا فئات محدَّدة منظمة تحمل السلاح، وترفع شعار (الإسلام ضد مصالح الغرب)، كما يشاع في الخطاب السياسي في العالم الإسلامي، بل يعني كل من يعتبر أن الإسلام هو المدخل العقدي، والحضاري، والفكري، والسياسي، والاقتصادي، إلى تغيير أوضاع المسلمين إلى الأفضل، بما يتضمنه ذلك من تغيير موقعهم على مستقبل الخريطة العالمية، بما يمكن أن يؤثر على مسيرة الهيمنة والعولمة الغربية الراهنة. بل بات ¬

(¬1) المصدر السابق ص237 (¬2) استهداف العراق - العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية - جيف سيموند - مركز دراسات الوحدة العربية ص43

في كثير من الأحيان مجرّد انتماء المرء إلى الإسلام، أو إلى المنطقة الحضارية الإسلامية، مبررًا كافيًا لتشمله نظرة العداء الغربي، وعملية التطويع والتوظيف لتطبيق الأهداف الثابتة لشعار (العدو البديل). ومما يدل على ذلك ـ على المستوى السياسي ـ أن السلطات الأمريكية ـ التي تتقن توزيع الأدوار بين الحكومة ومجلسي الشيوخ والنواب، وأجهزة المخابرات، ووسائل الإعلام ـ لا تتردد عن كيل الاتهامات لدول شاع وصفها بالدول المعتدلة، رغم علاقاتها الوثيقة مع واشنطن، كالسعودية ومصر. كما نجد على المستوى الإعلامي، عشرات الأمثلة للخلط بين الحكومات والمنظمات والعلماء وعامة الشعوب، كلما أراد أحد الإعلاميين الأمريكيين التدليل على أن الإرهاب في المنطقة الإسلامية منتشر، وأنّ له جذوره في الإسلام نفسه، مما يساعد في نمو كثير من الأفكار النمطية عن الإسلام حتى في مبنى الكابيتول (¬1). ففي عام 1990م ربط (دان كويل) نائب الرئيس الأمريكي في خطاب له أمام تلاميذ أكاديمية أنابولس التجربة الأصولية الإسلامية بالنازية والشيوعية، وأعلن (باب بوكانان) أي المرشح الجمهوري اليميني في الحملة الرئاسية عام 1992م: "طيلة ألف عام دار الصراع حول مصير البشرية بين المسيحية والإسلام وقد يكون الأمر كذلك ثانية في القرن الحادي والعشرين، لأنه في الوقت الذي يذلنا فيه الشيعة، يملآ إخوانهم في الدين بلدان الغرب. فمنذ الأسر الإيراني للعاملين الدبلوماسيين الأمريكيين في عام 1979م وعبر احتجاز الأمريكيين رهائناً في لبنان، إلى نسف مركز التجارة العالمية في نيويورك في 1993م بدا أن الخطر يزداد قرباً، وقدم فيلم وثائقي تلفزيوني عرض في ديسمبر 1994م بعنوان الجهاد في أمريكا صورة درامية للنزعة الإسلامية، وهي تضرب مباشرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبلغ من قوة هذا القلق أنه حين انفجرت قنبلة خارج مبنى حكومي في مدينة أوكلاهوما وقتلت المئات، كانت الاستجابة المباشرة لكثير من معلقي وسائل الإعلام وللشرطة هي أن الانفجار من فعل إرهابي الشرق الأوسط، وجرى البحث عن رجال ذوي تقاطيع شرق أوسطية، وتحدث خبراء الإرهاب في التلفزيون، وصدرت ¬

(¬1) الإسلام عدو بديل - نبيل شبيب ـ إسلام أون لاين 12/ 01/2001م

دعوات إلى هجمات وقائية ضد العرب والمسلمين، ولكن كان الجناة مجانين من نبت أمريكي (¬1). وفي عام 1992م عثر رالف برايبانتى، وهو عالم وكاتب بارز في الشؤون الإسلامية، في أحد مكاتب الكونغرس، على بحث يتضمن "معالجة للإسلام بوصفه العدو الكامن للولايات المتحدة، هي الأشمل من نوعها، والأكثر إثارة للخوف" كان برايبانتى يشير إلى كتاب ليوسف بودانسكى، مدير مجموعة العمل المتخصصة بالإرهاب والحرب في الحزب الجمهوري. ففي كتابه عن تفجير مبنى "مركز التجارة العالمي" في مدينة نيويورك عام 1993م، عمد (بودانسكى) المحرر التقني الأسبق لمجلة (القوات الجوية الإسرائيلية) إلى إطلاق عنان خياله، إذ كتب يقول: لقد باشر الإرهاب الإسلامي الحرب المقدسة - الجهاد ـ ضد الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، وهو يشنها عبر الإرهاب الدولي بالدرجة الأولى. كما حذر الأستاذ الجامعي الأمريكي (عاموس بيرلماتر) في عام 1984م، من حرب إسلامية شاملة تشن ضد الغرب والمسيحية والرأسمالية المعاصرة، والصهيونية، والشيوعية في وقت واحد (¬2). كما نجد على المستوى الفكري سلسلة لا تنقطع من الأمثلة، منها أوّل كتاب ظهر في ألمانيا بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن بعشرة أيام فقط، حمل عنوانًا يزعم التعريف بأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، وإذا به لا يترك منظمة ولا جماعة إسلامية، ولا عالمًا معروفًا، إلا و"يخترع" صلة ما بينه وبين الإرهاب، بما في ذلك جماعة التبليغ مثلاً، التي اشتهرت ببعدها عن كل صورة من صور العنف، ورفضها لكل عمل سياسي. وهكذا يظهر أن المستهدف في الحملة القائمة هو الإسلام نفسه .. والأهم من الحملة ذاتها أن التغيير في العناوين الكلامية ـ للتعبير عنها خلال العقد الماضي ـ رافقه الثبات المطلق على الصعيد التطبيقي. فأصبح مضمون شعار العداء هو المحور الرئيس المطروح على بساط تبرير استمرار وجود حلف شمال الأطلسي بعد إلغاء ¬

(¬1) الإسلام وخرافة المواجهة -الدين والسياسة في الشرق الاوسط- فريد هاليداي- ترجمة محمد مستجير- ص 217 - مكتبة مدبولي-ط1 1997 (¬2) لا سكوت بعد ـ اليوم ـ بول فيندلى ـ ص87

التطبيق العسكري والأمني للشعار

حلف وارسو، وهو محور المهام المطلوبة (أمنيًّا) فيما سُمِّي (هلال الأزمات)، وعرَّفه الأمين العام الأسبق لحلف الأطلنطي بأنه المنطقة الممتدة بين المغرب وإندونيسيا! كما أصبح المحور الرئيس المطروح رسميًّا لأهداف تشكيل عدد من فرق (التدخل السريع)، لا سيما من جانب البلدان الأوروبية الجنوبية، أي في المنطقة الإسلامية المتوسطية (¬1). فالمشهد السياسي العالمي الذي تدور إستراتيجيته منذ سنوات على اتهام الإسلام والمسلمين، وإشعال الفتن في كل بؤرة إسلامية من الصومال إلى أفغانستان إلى البوسنة إلى جنوب السودان، إلى اذربيجان إلى الشيشان، إلى طاجيكستان إلى بورما، إلى كشمير إلى فلسطين، إلى العراق إلى ليبيا إلى سوريا، كل هذا المسرح العريض يشهد بأن هناك تحريضاً مستمراً واتهاماً ظالماً بالزور والكذب، والتآمر وسعي بالفتن، وبالسلاح وبالدولار في كل أرض عربيه وإسلاميه لزعزعة أمنها وإرهابها والإيقاع بين أهلها وتشويه دينها ومبادئها، وما يجري منذ سنوات هو أفضل تمهيد وتبرير للحرب الخاتمة القادمة (¬2). التطبيق العسكري والأمني للشعار مع استخدام ألفاظ الأصولية والإرهاب وما شابه ذلك، أصبح العداء للإسلام هو أيضًا المحور الرئيس في نوعية ما أدخل من تعديلات على المهام الأمنية لحلف شمال الأطلسي، منذ قمة بروكسل عام 1993م، وجرى تثبيته في قمة واشنطن عام 1999م، ورافق ذلك تعديل مماثل لصياغات المهام الأمنية على مستوى الجيوش الوطنية في الدول الأعضاء، وهو ما يأخذ عادة شكل إصدار (كتاب أبيض) جديد من جانب وزارات الدفاع. ورافق ذلك ـ أيضًا ـ امتداد ظاهرة عقد الاتفاقات والتحالفات، وتشكيل قوات مشتركة بما يتعدّى حدود الحلف شرقًا ويصل إلى البلدان المرشحة للانضمام، ثم من وراء ذلك إلى الاتحاد الروسي والصين الشعبية ودول وسط آسيا، التي استقلت دون أن تخرج من هيمنة الأنظمة القديمة عليها، ¬

(¬1) الإسلام عدو بديل - نبيل شبيب ـ إسلام أون لاين 12/ 01/2001م (¬2) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص46 - كتاب اليوم / اخبار اليوم - الطبعة السادسة

والمرتبطة بموسكو كما كانت ـ ولكن بلباس رأسمالي بعد اللباس الشيوعي السابق ـ هذا فضلاً عن العداء القديم المتجدد في الهند والفلبين وغيرهما. لهذا يمكن التأكيد على أن التسويق السياسي والإعلامي لعبارات من قبيل: أن الحرب على أفغانستان (هي حرب ضد الإرهاب، وليست ضد الإسلام أو المسلمين) لا يمثل سوى تسويق مواقف كلامية تضليلية. أما المضمون الفعلي لما يجري، فقد بدأ الإعداد له على امتداد سنوات عديدة سابقة، ووصل الآن إلى مرحلة أولى للتنفيذ، قد تليها مراحل أخطر وأوسع نطاقًا، يتم فيها وضع رداء (مكافحة الإرهاب الدولي) الفضفاض فوق كل تحرّك عدواني جديد، وكل ضربة جديدة لأي جهة مستهدفة، صديقة كانت ـ الآن ـ أم عدوة، وسواء شاركت في مكافحة الإرهاب فعلاً أم لم تشارك (¬1). ومما له دلالاته انه لم يعد هناك نقاش كثير حول حق الغرب في التدخل في شؤون الدول الإسلامية، بل إن ما تجري مناقشته الآن هو، كيف يمكن الوصول لتحقيق أهداف الغرب بأقل قدر ممكن من الخسائر؟. ومن الطبيعي في ظل هذا الجو السائد أن يقبل التصرف الأمريكي المعتمد على القوة العسكرية المتفوقة، والمتجاهل للأمم المتحدة مع الادعاء بالاعتماد على قراراتها مادام الأمر المطروح هو العقلانية أو الإسلام! بل إن التدخل الأمريكي يصبح مع الوقت حملة (تبشيرية) من أجل الحضارة والحرية" (¬2)، حيث أن الشواهد على هذا الموقف كثيرة، غير أن ما يجري على الأرض ربما يكون اكثر إقناعاً، من حرب الخليج إلى حرب الإبادة التي يتعرض لها كلا من الشعب الفلسطيني والشعب العراقي، مرورا بحرب أفغانستان وما تبعها بما سمته أمريكا بالحرب على الإرهاب، واخيراً حربها الحالية ضد العراق. وهنا يرصد المؤرخ التركي (كيريانجيل) في دراسة له أنه منذ عام 1798 م (عندما غزا نابليون مصر) وحتى عام 1953 م (عندما أطاح انقلاب عسكري أعدته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بنظام حكم محمد مصدق في إيران)، تعرض العالم الإسلامي إلى 318 هجوم عدواني من الغرب، وبين الفترة الممتدة من عام 1956م (العدوان الثلاثي على مصر)، حتى عام 1994م (العدوان الروسي على ¬

(¬1) الإسلام عدو بديل - نبيل شبيب ـ إسلام أون لاين 12/ 01/2001م (¬2) موقع الإسلام في صراع الحضارات و النظام العالمي الجديد ـ محمد السماك ص18

جمهورية شيشان)، أحصيت خمسة عشر هجوماً عدوانياً. والآن لا يبالغ الأمريكيون في الحديث عن حرب يمكن أن تمتد سنوات أو حتى عشرات السنين، كما قال مسئولون بريطانيون، فيما يشبه المزايدة على واشنطن. وقد سبق (لصامويل هنتنغتون) أن أشار إلى تورط الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس عشرة بين عامي 1980م و 1995م، طبقاً لتقارير من وزارة الدفاع الأميركية، في سبع عشرة عملية عسكرية في الشرق الأوسط، كانت كلها موجهة ضد المسلمين مباشرة، ولم تحدث أية عمليات من هذا القبيل إطلاقاً من قبل القوات العسكرية الأمريكية ضد أي شعب أو حضارة أخري. وخلص (هنتنغتون) إلي القول إن المشكلة بالنسبة للغرب ليست في التطرف الإسلامي، بل في الإسلام كطريقة مختلفة للحياة اقتنع المسلمون بسموها وتفوقها علي غيرها (¬1). ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 3/ 2/2003م

الفصل الثالث جورج بوش والدولة الصليبية

الفصل الثالث جورج بوش والدولة الصليبية دأب الزعماء الأمريكيون المدنيون والسياسيون على التحدث بصورة رسمية عن الأمة الأمريكية، كما لو أنها أمة مسيحية، أو على الأقل أمة تتبع الكتاب المقدس، حيث وصف كل من السياسيين ورجال الدين باستمرار أمريكا، بأنها إسرائيل الجديدة، والأمريكيين بأنهم شعب مختار، وشعب مرتبط بميثاق (مع الله)، بل إن خطابات تنصيب رؤساء الجمهورية طيلة القرن العشرين، قد طبقت العبارة البلاغية التي كان الحاكم (جون وينثروب John Winthrop) أول من استعملها عام 1630م، والتي تصف أمريكا بأنها "مدينة على تل" (¬1). فلا حاجة إلى القمر أو النجوم ليلاً، ولا حاجة إلى نور الشمس نهاراً. إنها القدس الجديدة التي لن تنطفئ (¬2). وما دامت أمريكا مدينة على تل، وإسرائيل الجديدة وشعبها مرتبط بميثاق مع الله، فقد كان طبيعياً أن يلعب الدين دوراً رئيساً في الحياة الأمريكية، وكان طبيعياً وبديهياً أيضاً أن تكون الكلمة العليا للخطاب الديني، لشن حمله صليبيه في الداخل والخارج، لتبرير قتل الهنود الحمر ونهب ثرواتهم، واستعباد الزنوج، وتلقين العالم دروس في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. فمادام هناك تكليف إلهي لأمريكا باعتبارها مدينه على تل، فإنه يحق لها ما لا يحق لغيرها، وليذهب الجميع إلى الجحيم ... "وهنا يمكن ملاحظة، أن عدم اتساق السياسية الخارجية الأمريكية وازدواجيتها ليس طارئاً، بل هو تعبير عن جانبين بارزين في الشخصية الأمريكية، وكلاهما تميز بأخلاقية ما. واحدة هي أخلاقية الميراث، التي شكل مزاجها المعرفي الشعور بالنقص الإنساني، والأخرى أخلاقية: التوكيد المطلق للذات التي أشعلتها ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن ص53 (¬2) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص344

الروح الصليبية ... والتي يأتي ضمنها تبرير التوسع، واستخدام القوة في شكل أقرب إلى الحملة الصليبية؛ لتحضير العالم على الطريقة الأمريكية" (¬1). وهكذا فإن الروح الصليبية هي التي صاغت نظرة الأمريكيين إلى حروبهم في الداخل والخارج قديماً وحديثاً، حيث لم يكن (جورج بوش) خارج هذا السياق عندما وصف حربه على العالم الإسلامي بالحرب الصليبية. فعندما نشر (ايزنهاور) مذكراته عن سنوات الحرب العالمية الثانية ـ كان العنوان الذي اختاره لها هو: (حملة صليبية في أوروبا)، حيث أن الإشارة إلى الحروب الصليبية الدينية ـ الإيمانية - كانت لها مقاصد ومعبأة بمدلولات دينية (¬2)، ليست بعيده عن إحساس الأمريكيين الأوائل بكونهم أمه مختارة، لهم رسالة، من أجل التسريع ببزوغ فجر النظام الدولي الجديد، أو بالتعبير التوراتي (العصر الألفي السعيد). ونفس الشيء ردده قبل ذلك الزعيم الصهيوني (إسرائيل زانغويل) عندما، وصف فيه المحاولات البريطانية والأمريكية الرامية إلى إعادة اليهود إلى أرض فلسطين، بقوله: "سبع حملات صليبية إلى الأرض المقدسة، عادت على اليهود بالمذابح، فهل ستؤدى الصليبية الثامنة إلى استرجاع اليهود لفلسطين؟ وإذا كانت صليبية حقه، فإن تلك الحقيقة بالذات تأتى بمثابة البرهان على النظام الجديد لعالم تسوده المحبة والعدالة" (¬3). وربما هذا ما كان يعنيه بوش عندما وصف الحرب الذي ينوى خوضها ضد أفغانستان، وكثير من الدول الإسلامية بدعوى محاربة الإرهاب، بأنها حرب صليبية، حيث كرر هذه المقولة كثير من أقطاب حكومته، ووصفوا هذه الحرب بأوصاف مختلفة، مره بأنها حرب بين قوى الخير وقوى الشر، ومرة بأنها صراع الحضارات، إلى غيرها من الأوصاف، التي مرت هي وغيرها من التلميحات والتصريحات للمسئولين الأمريكيين، ولوسائل الإعلام الأمريكية مرور الكرام، ولم يتناولها محللونا بالدراسة والتحليل، بل اكتفوا بإقناع أنفسهم والرأي العام المسلم، بأنها مجرد زلة لسان، بدون أدنى محاولة لمعرفة الأبعاد الحقيقية لهذا الكلام. "فبقدر ما حاول بوش في أعقاب الحادي عشر من ¬

(¬1) أرض الميعاد والدولة الصليبية - والتر ا. مكدوجال - ترجمة رضا هلال - ص289 - دار الشروق - ط2 2001 (¬2) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص 204 - المصرية للنشر العربي والدولي- ط.2 2002 (¬3) فلسطين، القضية، الشعب، الحضارة - بيان نويهض الحوت ص

بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية

سبتمبر أن يضبط أعصابه وأعصاب الأمريكيين تجاه أي رد فعل متهور ضد الوجود العربي الإسلامي داخل الولايات المتحدة، لامتصاص شحنة الغضب، وربما لنفخ النار فيها، كشف لأول مره في الخطاب الأمريكي المعاصر عن احتمال أن ينطوي الرد الأمريكي والغربي عموماً على بعد صليبي" (¬1). بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية كثيرون هم الرؤساء الأميركيون، الذين أكدوا تعلقهم بجذورهم الدينية فاستشهدوا في خطاباتهم باقتباس من الكتاب المقدس، إلا أن الدين لم يفرض يوماً وجوده في الحياة السياسية الأميركية بهذه الدرجة، قبل أن يطأ (جورج بوش الابن) عتبة البيت الأبيض، ولهذا كثرت الكتابة في الصحافة الأمريكية والعالمية عن الخلفية الدينية المؤطرة لتفكير الرئيس بوش، حيث أعدت مجلة (نيوزويك) الأمريكية ملفاً في عددها بتاريخ (10/ 03/2003م) عن الاعتقادات الدينية، التي تدفع (جورج بوش) إلى سلوكه السياسي والعسكري الحالي. وكيف ركب (بوش) موجة الأصولية البروتستنتية الصاعدة، وهو أحد أبنائها، ليقود أمريكا في مغامرات يطغى فيها الحماس الديني على البصيرة السياسية. يتألف الملف من ثلاث مقالات، أحدها بعنوان (بوش والرب)، بقلم (هاوارد فاينمان)، أحد كتاب المجلة، والثاني بعنوان: (خطيئة التكبر) بقلم البروفسور (مارتن مارتي) وهو قسيس وأستاذ بجامعة شيكاغو، أما المقال الثالث فهو بعنوان: (البيت الأبيض: إنجيل على نهر البوتوماك)، وهو بقلم (كينيث وودوارد) من كتاب نيوزويك. كما نشرت صحيفة (الواشنطن بوست) عن نفس الموضوع من قبل مقالاً بعنوان: (بالنسبة لبوش .. إنه الإحساس بالتاريخ والمصير) يوم 09/ 03/2003م وآخر بعنوان: (عن الرب والإنسان في المكتب البيضاوي) بقلم القسيس (فريتس ريتسش) يوم 02/ 03/2003م وهو مقال تحليلي عميق تناول المنطق الداخلي لفلسفة بوش الدينية، وآثارها السلبية على أمريكا بلداً، وعلى المسيحية ديناً. وإذا كان العديد من الأمريكيين بدءوا يدركون المخاطر المترتبة على سياسات الرئيس (بوش) التي ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص35

آل بوش

تأطرها رؤية دينية متحمسة، دون اعتبار للمصالح البعيدة المدى للأمة الأمريكية، أو لمطالب الضمائر الإنسانية في كل مكان، فإن الإنسان العربي والمسلم أولى بالاطلاع على خلفيات هذه السياسات التي تُرسم بدمه، وعلى وجه صحرائه النقي (¬1). آل بوش ولد جورج (دابليو بوش) لأبوين متدينين، هما جورج بوش الأب، وباربارا بوش في ولاية كونكتيكت الأمريكية عام 1946م، وانتقل به أبواه وهو صبي إلى ولاية تكساس، التي أصبحت موطنه ومكان صعود نجمه السياسي، وتزوج بوش عام 1977م، والتحق بالكنيسة الميتودية، التي كانت زوجته لورا عضواً فيها، وكان شخصاً عادياً غير متميز ينظر إليه الجميع على حد قول أحد المقربين، على أنه (ابن أبيه فحسب)، وكان يقضي الليل يعاقر الخمر، وعلى مر السنين أخذت لورا بوش تعرب عن استيائها، وقد غاظها انحراف زوجها، وفي العام 1985، غرق بوش في أزمة شديدة، وكان عندئذ في التاسعة والثلاثين من عمره، بعد أن تراكمت خسائره المهنية الواحدة تلو الأخرى (¬2). والرغم من التاريخ الحافل لـ (جورج بوش الأب) كمقاتل في الحرب العالمية الثانية، ورجل أعمال نفط في تكساس، وسفير لأمريكا في الصين، ورئيس للمخابرات الأمريكية ونائب للرئيس، ثم رئيس لأمريكا، إلا أن (جورج بوش الابن) أكبر أولاده ظل فاشلاً وضيعاً، كما أنه خسر ملايين الدولارات في عمله في النفط فساعده أصدقاء والده بالملايين، فعاد مرة أخرى للبيرة والنبيذ، حتى يوم 27/ 7/1986م حين اكتمل عمره أربعين عاما، حيث يقول: إنه ركع على ركبتيه وأقسم لزوجته (لورا) بأن لا يعود إلى ذلك مرة أخرى طالباً مساعدة الله في تحقيق ذلك (¬3). ¬

(¬1) بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية- مقال بقلم محمد الشنقيطي - الجزيرة نتـ4ـ2003 (¬2) عالم بوش السري ـ اريك لوران ـ ترجمة سوزان قازان ص11 (¬3) صحيفة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 17/ 2/2003ـ وجريدة الأسبوع العربي 24/ 2/2003م.

غباء بوش

غباء بوش أصبح اتهام الرئيس بوش بالغباء وانعدام البصيرة، اتهاماً كلاسيكياً، تواترت عليه آراء العديد من الناس من مذاهب ومشارب شتى: من رئيس جنوب إفريقيا السابق (نلسون مانديلا)، إلى الكاتب الأمريكي (مايكل مور) مؤلف كتاب (رجال بيض أغبياء)، حيث احتل كتابه المثير والساخر، قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة لمدة طويلة. والكتاب يحمل على جورج بوش الابن ويتهمه بالغباء, وبأنه يمثل أمة غبية. ورغم أن الكتاب كان قد تمت كتابته قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر2001م ونشر بعدها, فإن ذلك لم يفقده أهميته، بل ربما قوى من أطروحته التي تركز على جهل وغباء الرئيس الأميركي وعدم إلمامه بالسياسة وصناعة القرار، حيث يتطرق) مايكل مور) بكثير من التفصيل لحياة الرئيس بوش وإخفاقاته المتكررة في مجال الأعمال، وضعف فطنته، ورداءة لغته الإنجليزية. وأهم من ذلك كله ماضي بوش السياسي كحاكم لولاية تكساس، وقراراته الغبية، المضرة بالبيئة والسكان والفقراء, والمحابية للأغنياء، وأداء بوش السيئ في الحكومة والحزب والحياة العامة، ومواقفه الرافضة للالتزامات الدولية، التي تبنتها إدارته في الفترة التي سبقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (¬1). فقبل أن يصبح (جورج بوش) رئيساً، سأله أحد مراسلي مجلة غلامور في مايو 2000م حول مدي معرفته بالشؤون الخارجية، وكان السؤال عما إذا كان بوش يعرف ما هي طالبان؟ حيث أجاب بوش بأن هذا الاسم قد طرق مسامعه من قبل، وأنه يعتقد أنه اسم فرقة روك أند رول أمريكية. وعندما طلب منه المراسل أن يذكر له أسماء عشرة قادة دول، لم يستطع أن يذكر سوي اسم واحد فقط (¬2). ولإبراز حادثة تؤكد الطريقة التي يفكر ويتحدث بها بوش، التي تبرز تدينه وغباءه في صورة لا تخلو من التهكم والسخرية، قالت صحيفة دير شبيغل الألمانية: "إنه في بداية أكتوبر 2001م قام الرئيس بوش بدعوة خمسة من رجال الدين ثلاثة منهم مسيحيون، وواحد يهودي، وواحد مسلم، في البيت الأبيض للحديث عن الحرب ضد الإرهاب. ¬

(¬1) رجال بيض أغبياء ـ المؤلف ـ مايكل مور - الدار العربية للعلوم- كمبردج بوك ريفيو - الجزيرة نت (¬2) إمبراطورية الشرالجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م.

عائلة بوش ومنظمة الجماجم والعظام

وتحدث معهم بصراحة شديدة، قائلا لهم ـ بصورة أدهشت الجميع: "أنتم تعرفون أنني كنت مدمناً للكحول، إذا كان كل شيء سار على نفس المنوال، لكنت الآن جالساً في أحد بارات تكساس بدلاً من البيت الأبيض، إنما يوجد سبب واحد فقط، لأن أكون هنا في المكتب البيضاوي وليس في بار، وهو أنني وجدت الإيمان وجدت الله" (¬1). عائلة بوش ومنظمة الجماجم والعظام (¬2). نقرأ عن نكات كثيرة يرددها الأمريكيون والإنجليز تسخر من بوش الابن وبلاهته السياسية، وتصفه كرئيس لا يتمتع بأي قدرات، وتبرز في الأخطاء اللغوية الكثيرة التي يستخدمها، والتعابير والكلمات الساذجة التي يقولها، أثناء أحاديثه ومقابلاته. ونشاهد الرئيس بوش وهو يتحدث عن الشعوب والدول الأخرى المصنفة، أمريكياً بالمعادية لمصالح الولايات المتحدة، فنتذكر أشرطة العراب، في أفلام المخدرات والعنف، وهو يجلس على كرسيه يتحدث إلى مساعديه، ويصدر أوامره لرجاله، (اقتلوا كل من يريد منافستنا نريد أن تكون الشوارع كلها تحت سيطرتنا، وتخلصوا من كل شخص يقف في طريقنا، أو يحاول تحدينا)، ونشاهده وهو يتحدث عن العراق والفلسطينيين وحركات المقاومة، التي أدرجها على قائمة الإرهاب، فنتخيله كرعاة البقر الأمريكيين، وهو يرتدى قبعته ويمتطى جواده ويبدأ بإطلاق النار، على الجميع دون التفريق بين شيخ أو امرأة أو طفل، كما حدث مع القبائل الهندية (السكان الحقيقيين للولايات المتحدة). ولكن!! هذه البلاهة السياسية التي تميز بوش وروح الدعابة، التي يحاول أن يضفيها على شخصيته تخفى وراءها حقائق وأسراراً، وإستراتيجية خطيرة وخطيرة جداً تعود جذورها إلى العلاقة التاريخية لأسرة بوش مع المنظمة السرية، التي تسمى الجماجم والعظام " BONES & SKULLS " أو "إخوة الموت"، والتي تأسست في جامعة بيل، التي تعتبر من جامعات النخبة في الولايات المتحدة كجامعة هارفارد، عام 1832م على يد أعضاء في المنظمات الماسونية، حيث أصبحت من ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص46ا (¬2) مقال نشر بجريدة الخليج الإماراتية بقلم /جمال عبد الحي التميمي / باحث إعلامي فلسطيني (جامعة تيمز فالى) لندن

أكثر المنظمات، أو المجتمعات السرية تأثيراً في السياسة والمال في الولايات المتحدة. وقد أصبحت جامعة بيل (أمها المرضع). أما مؤسسها فهو الشاب الباطني (وليام راسل)، الذي تلقى السيامه الماسونية في ألمانيا على ما يبدو. ومنذ عام 1856م وحتى يومنا هذا وهذه الجمعية التي أصبحت نوعا من الطائفة النخبوية، تضم عديدا من الشخصيات الأمريكية البارزة بمن فيهم الرؤساء، الذين يجتمعون أسبوعياً في مبنى يطلق عليه اسم (الضريح) (¬1). وتمارس هذه المنظمة طقوساً تشبه إلى حد كبير طقوس المنظمات الماسونية في السرية والاجتماعات. وتؤكد الوثائق أن (وليام روسل) و (الفانسو تافت) والد الرئيس (وليام هاورد) أشرفا على تأسيس هذه المنظمة، ومارست نشاطها العلني تحت اسم شركة روسل منذ 1856م وكان (بريسكوت بوش) الجد شريكاً فيها، وأن اغلب أعضاء هذه المنظمة كانوا وزراء ومستشارين للأمن القومي، ورؤساء CIA، ورؤساء للولايات المتحدة. والمعروف عن آل بوش علاقاتها الممتدة منذ عقود طويلة مع شبكات المال والنفوذ، والأنظمة الدكتاتورية في جميع أنحاء العالم، وافتعال الحروب، والغزو لأغراض تجارية وتسويقية، فقد كان (صموئيل بوش) والد جد الرئيس الحالي للولايات المتحدة يمتلك معامل فولاذ، ومديرا لبنك فدرال ريزيرف في كليفلاند، ومستشارا للرئيس الأميركي (هربرت هوفر). وكان (بريسكوت بوش) ابن صموئيل أحد كبار الممولين الذين امتلكوا في العشرينيات من القرن الماضي بنوكا وشركات في أوروبا، حيث ورث جورج بوش الأب هذا المال والنفوذ. فاستلم منصب مدير المخابرات المركزية ( CIA) عام 1976م، وكان قد ترشح لانتخابات الكونغرس قبل ذلك مرتين، لكنه لم ينجح وتقدم في الحزب الجمهوري، ليكون نائب الرئيس نيكسون، لكنه اختار جيرالد فورد، ثم اختاره ريغان نائباً للرئيس وانتخب رئيسا للولايات المتحدة عام 1988م. وقد أدارت الاستخبارات المركزية في عهده، ثم في المرحلة التي كان نائباً للرئيس، ورئيسا مجموعة غامضة من الاستثمارات، والبنوك، ¬

(¬1) لهذا كله ستنقرض أمريكا ـ الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 35

والعلاقات التجارية مع رجال أعمال وسياسيين في جميع أنحاء العالم، منها البنك الدولي للقروض والتجارة، الذي كان يدير استثمارات قيمتها 30 مليار دولار، ويعمل في 73 دولة، ثم انهار البنك في أوائل التسعينيات على نحو مفاجئ ومريب، وقيل إنه كان يمول أعمال المجاهدين الأفغان، كما مول تجارة واسعة للمخدرات لتغطية نفقات القوات الموالية لأميركا في نيكاراغوا .. وبعد مجيء كارتر إلى السلطة استقال بوش من المخابرات المركزية، ليعمل في بنك هيوستن وفي الاستثمارات النفطية (¬1). وتقول صحيفة الصن البريطانية أن (جورج بوش الابن) انتمى إلى منظمة الجماجم والعظام في جامعة بيل، وتشير الصحيفة إلى ان (الكسندرا روبينز) مؤلفة كتاب (أسرار القبر: الجماجم والعظام)، عرضت معلومات عن هذه المنظمة، حيث تقول: "إن منظمة الجماجم والعظام تأسست في عام 1830م وضمت في صفوفها عائلات مثل تافت وروكفيلر وهاريمان، المعروفة بعلاقتها بالماسونية، ومجموعة كبيره من القضاة والرؤساء وكبار مسئولي السي آي إيه، وكبار رجال الأعمال. وتؤكد الصحيفة نقلاً عن الكتاب أن تسعه أشخاص من عائلة بوش بمن فيهم (بريسكوت بوش) الجد، كانوا أعضاء مخلصين للمنظمة وأهدافها وتوقعت التحاق (باربارا ابنه جورج بوش) في المنظمة بعد تخرجها من جامعة بيل. وتقول الصحيفة: إنه يتم قبول خمسة عشر عضواً جديداً فقط في المنظمة كل سنة، ويتم ذلك من خلال طقوس تشبه الطقوس الماسونية في غرفة تسمى القبر، تزينها رسومات من الجماجم والعظام. ونقلت الصحيفة عن الصحافي (رون وزانيوم)، الذي استطاع تصوير اجتماع لأعضاء الجماجم والعظام، بأنهم أكثر وحشية وعدوانية مما تقول (روبينز) في كتابها. ويقول: إن هذه المنظمة تملك قوة كبيرة في السيطرة على الشؤون الأمريكية، أكثر من أي منظمة أخرى، أو حتى منظمات المافيا، وتمارس أبشع الأساليب ضد أعدائها. إذاً فإن فهم طبيعة هذه المنظمة السرية وأهدافها السياسية، يجعلنا نستوعب طبيعة العدوانية السياسية والتهديدات المستمرة بشن الحروب، التي اعتاد بوش على ¬

(¬1) حرب آل بوش - أريك لوران- ترجمة: سلمان حرفوش ـ عرض/إبراهيم غرايبة

استخدامها ضد الكثير من الدول والشعوب (¬1). فأعضاء هذه المنظمة يؤمنون في ما يسمى التفوق العسكري، كأسلوب وحيد للسيطرة على الشؤون السياسية الدولية. وهو ما يجعلنا نفهم لماذا عندما جاء بوش إلى الإدارة الأمريكية بعد انتخابه افتتح عهده بقرارات تطالب بالانسحاب من المعاهدة؟ التي وقعت مع الاتحاد السوفيتي عام 1972م، والتي تتضمن بنودها الحد من انتشار الأسلحة النووية والبالستية، والتي كانت تعتبر حجر الأساس في حفظ التوازن الدولي، والتوقف عن سباق التسلح، حيث تحجج بوش بالتحديات، التي تواجه الولايات المتحدة في ما يسمى مواجهة الإرهاب. وكذلك رفض التوقيع على معاهدة الحد من الأسلحة البيولوجية والكيمائية، ووافق على الانسحاب من معاهدة كيتو، التي تهتم بالمناخ والتغييرات المناخية، التي يشهدها العالم. ولم يكتف بذلك، بل أكد على الاستمرار في برنامج التسلح وبرنامج حرب النجوم، وبدأ بإطلاق التهديدات ضد الكثير من الدول، ووافق على صرف 100 بليون دولار على مشروع نظام الصواريخ، الذي يهدف إلى توجيه الصواريخ العابرة للقارات والبالستية بالأقمار الاصطناعية، إضافة إلى 60 بليون دولار صرفت في وقت ريجان والجمهوريين خلال 15 سنة. وتؤمن منظمة الجماجم والعظام باستراتيجية تسمى (فرض النظام بالقوة)، بعد إشاعة الفوضى والقلاقل، حيث تورط أعضاء المنظمة في إثارة الفوضى والقلاقل في كثير من الدول، مثل تورط المخابرات الأمريكية في حرب فيتنام، ودعم عملاء المخابرات لرجال المافيا في إيطاليا لزعزعة الحكومة الاشتراكية في السبعينات، وتورط (بوش الأب) في إيران كونترا، وتقديم السلاح والدعم لمتمردي ¬

(¬1) كشف استطلاع للرأي نشرته صحيفة غارديان البريطانية أن معظم البريطانيين والمكسيكيين والكنديين يعتبرون الرئيس الأميركي جورج بوش أخطر على السلام العالمي من زعيم كوريا الشمالية ورئيس إيران. ورأى حوالي 75% من البريطانيين أن بوش يمثل خطرا كبيرا أو متوسطا على السلام العالمي، ولا يتفوق عليه إلا زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي حصل على 87%. كما يرى 69% من البريطانيين و62% من الكنديين و57% من المكسيكيين بأن سياسة بوش جعلت العالم أخطر من ذي قبل. وفيما يتعلق بالحرب على العراق، فقد رأى 89% من المكسيكيين و73% من الكنديين و71% من البريطانيين و34% من الإسرائيليين أن تلك الحرب لم تكن مبررة. والاستطلاع المذكور أجرته في بريطانيا صحيفة "الغارديان" وفي إسرائيل صحيفة "هآرتس" وفي كندا صحيفتا "لابريس" و"تورونتو ستار" وفي المكسيك صحيفة "ريفورما", وأعد بالتنسيق مع معاهد مهنية لاستطلاع الآراء في كل من البلدان المذكورة.) الجزيرة نت 4/ 11/2006 (

الإعداد لترشيح بوش للانتخابات

الكونترا في نيكاراجوا، وتقديم السلاح لفصائل المجاهدين في أفغانستان، ومحاولات الاغتيال لكثير من رؤساء الدول وزعمائها، والخطط التي أعلن عنها بوش بشأن العراق، وضم حركات المقاومة على قائمة الإرهاب، كلها تؤكد الإستراتيجية والذهنية الفكرية، التي يعمل من خلالها أعضاء هذه المنظمة أثناء وجودهم في موقع القرار السياسي في الإدارة الأمريكية. وتاريخ تلك المنظمة وأهدافها، قد يساعدنا على فهم واستقراء مفهوم النظام العالمي الجديد، الذي تروج له الولايات المتحدة، وتخوض الحروب، والاعتداءات ضد الشعوب الأخرى من اجل فرض المفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لهذا المفهوم في ظل مسوغات وإرهاصات العولمة. وتؤمن هذه المنظمة ونتيجة للعلاقة التاريخية بين اليهودية السياسية والماسونية، بإقامة علاقة فريدة وقوية مع إسرائيل، وهو ما يوضح لماذا أصبح بوش صهيونياً أكثر من شارون نفسه في الدفاع عن مصالح إسرائيل، ومعاداة العرب والمسلمين، والتنكر لحقوقهم التي أقرتها القرارات الدولية؟. فالرئيس بوش وأعضاء إدارته السابقة والحالية يعتنقون مبادئ اليمين المسيحي والصهيوني المتطرفة، بل أن بين أعضائها ما يزيد على عشرين عضوا يحملون الجنسية الإسرائيلية (¬1). ولهذا فإن طبيعة العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة في ظل إدارة بوش لا يمكن أن تفهم دون فهم تأثير مثل هذه المنظمات السرية المتطرفة، والتي ولدت في أحضان اليمين المسيحي المتطرف، الذي يغذيها بكافه أصناف الحقد والكراهية، وإباحة القتل والإبادة، والتي تجلت في حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي، التي بدأها في أفغانستان بدعوى محاربة الإرهاب .. ولن تنتهي في العراق .. فالقائمة طويلة. الإعداد لترشيح بوش للانتخابات نصت أهداف المنظمة على إقامة نظام عالمي جديد، تسيطر عليه حكومة الولايات المتحدة، حيث يؤمن أعضاء هذه المنظمة، أنه من خلال وجود حكومة قوية، وقوة عسكرية ضخمة في الولايات المتحدة، يمكن السيطرة على شؤون العالم ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية مسخرة لخدمة إسرائيل - سمير مرقص ـ جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672

تزوير الانتخابات

السياسية والاقتصادية والمالية، وإنشاء ما يسمى (نظام عالمي جديد)، وكلنا يتذكر خطاب (بوش الأب) في الكونغرس الأمريكي عام 1991م وإعلانه عن قيام نظام عالمي جديد. ولهذا عمل (بوش الأول) منذ مطلع عام 1998م علي ضمان التنسيق والمساعدة مع مستشاره السابق لشؤون الأمن القومي، (برنت سكاوكروفت)، ووزير الخارجية السابق في عهد ريغان (جورج شولتز)، وذلك لترشيح نجله (جورج دبليو بوش) للرئاسة الأمريكية، حيث كانت الأجندة الجديدة تسعي إلي الضغط من أجل تنفيذ المرحلة التالية من النظام العالمي الجديد. وفي صيف 1998م، انطلقت رسمياً حملة (جورج دبليو بوش) الرئاسية حيث ظهر جنباً إلي جنب مع والده بوش الأول وكوندوليزا رايس، وكان يقف وراءهم خلف الكواليس فريق كبير مكون في معظمه من رموز كبري سابقة في إدارة (بوش الأب)، والذين تفاوتوا ما بين أولئك المخلصين المؤمنين بالنظام العالمي الجديد إلي زمرة اللوبي الصهيوني. وبعد أن فاز بوش الصغير وتشيني بالانتخابات، تم تعيين هؤلاء، في مناصب حساسة في إدارة الرئيس الجديدة، وذلك لاستكمال مهمتهم في تنفيذ المرحلة التالية من إعادة صياغة وتشكيل النظام العالمي (¬1). تزوير الانتخابات يرصد احد الكتاب نقاط الخلل في سياسات أميركا وفي ثقافتها السياسية, ويرى أن أشد ترجمة لذلك الخلل هو انتخاب جورج بوش رئيساً, وهو يسميه اللص وليس الرئيس, إذ يعتبره سرق الرئاسة من آل غور عن طريق التزوير، والتآمر، وكل الطرق القذرة. وهنا فإن الكاتب لا يستهدف الرئيس (جورج بوش الابن) فحسب, بل والأب، والبطانة التي حوله، والتي سهلت له الفوز, أو بكلماته, تآمرت معه على سرقة الفوز. فقد اقتضى الأمر ستة وثلاثين يوماً من المفاجآت السياسية ـ القضائية حتى الوصول إلى حل للمشكلة العويصة، التي جاءت لمصلحة عشيرة بوش، حيث أعيد فرز الأصوات أربع مرات، وصدر عن المحكمة العليا ثلاثة قرارات، وعن المحكمة العليا الانتخابية قراران، وتقدم بوش على منافسه بصوت واحد في الهيئة الانتخابية، في ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 28/ 2/2003م

من مقارعة الخمر إلى الأصولية المسيحية

حين أن آل غور، نال نصف مليون صوت زيادة عما ناله خصمه، وبالرعم من ذلك فقد أعلن فوز بوش لنيله مائه وسبعه وثلاثين صوتاً إضافياً (¬1). ف http://www.aljazeera.net/books/2002/8/ - TOP الفوز بالانتخابات بحسب مقاييس أي شخص عاقل، باستثناء قضاة المحكمة الأميركية العليا (المعينين من قبل نيكسون وريغان) كان من نصيب آل غور، ولكن الجهود التي بذلتها زمرة بوش (جورج الثاني, وابن عمه جيب, وجميع رفاق جورج الأول القدامى، اليمين المتطرف) للتأثير في نتائج الانتخابات، بما فيها التلاعب غير القانوني المباشر بالسجل الانتخابي، وما تبعه من أحكام خاطئة، صدرت بعد التصويت، بالاضافة للتلاعب الذي حصل عبر التصويت البريدي، والذي فاز فيه بوش بأربعة أخماس أصواته بشكل مريب (¬2)، كان لها الدور الرئيس قي تغيير نتائج الانتخابات وايصال بوش إلي سدة الحكم، ليدير أجندتها الخاصة بنظام عالمي إمبريالي جديد. "فالوجوة تتغير في البيت الأبيض، أما القابضون علي مقاليد السلطة وراء الكواليس، فهم أنفسهم لا يتغيرون" (¬3). من مقارعة الخمر إلى الأصولية المسيحية لم يسر (بوش الشاب) في البداية على خطى أبويه المتدينيْن، بل كان مدمناً على الخمر، وكان يقود سيارته وهو سكران، (وهو أمر تشاركه فيه زوجته، التي تسببت بمقتل إحدى صديقاتها أيام التلمذة, كما يشاركه فيه نائبه ديك تشيني) , وتم إلقاء القبض عليه بسبب تصرفات طائشة أخرى، حتى سبب أكثر من إزعاج لزوجته (لورا). وقد كانت لورا صاحبة الفضل في إقناعه بالكف عن الشراب، والأخذ بيده إلى الكنيسة، التي اعتادت الذهاب إليها. ولكن التغير في شخصية بوش ـ كما يقول ستيفن مانسفيلد ـ بدأ خلال اجتماع عقد عام 1984م في إحدى كنائس ميدلاند مع القس أرثر بليسيت، الذي كان يجوب العالم حاملا الصليب، للدعوة إلى المسيحية. وحضر الآلاف من أهالي ميدلاند محاضرة بليسيت، وبعد المحاضرة طلب ¬

(¬1) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص25 (¬2) رجال بيض أغبياء ـ المؤلف ـ مايكل مور كمبردج بوك ريفيو (¬3) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م

(جورج دبليو) لقاء بليسيت. وخلال اللقاء وضح لجورج دبليو أنه غير متأكد من موقفه من المسيحية، ولكنه مع نهاية اللقاء شعر بالرغبة في التوبة، وطلب من بليسيت الدعاء له. وسرعان ما بدأ (جورج دبليو) في قراءة الإنجيل، والصلاة يوميا، وفي المشاركة بحلقة لدراسة الإنجيل مع بعض أصدقائه، وتوقف عن شرب الخمور، وبدأ الجميع يرون تحولا في حياة بوش على نحو أكثر جدية" (¬1). ولكن الرجل الذي أثر في حياة جورج بوش الدينية ونقله نقلة جذرية من حياة الإدمان إلى حياة الأصولية المسيحية، هو القسيس (بيلي غراهام) الذي استغل شعبيته الهائلة في الحصول على صداقة كبار الزعماء السياسيين، وأصبح من المترددين بانتظام على البيت الأبيض طيلة عهود عديدة من الرؤساء (¬2). وقد أثنى بوش على شيخه (بيلي غراهام) مرة، فقال: "إنه الرجل الذي قادني إلى الرب". حيث استطاع القس (جراهام) إقناع بوش بالانضمام إلى طائفة (الميسوديث)، المعبرة عن التحالف الصهيوني المسيحي، وسار بوش مع هذه الطائفة حتى صار أحد أعمدتها الأساسية" (¬3). وتردد المعلومات أن (توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني، انضم إلى طائفة الميسوديت منذ فترة، وانه أصبح منتظما في قراءة الكتاب المقدس للميسوديت، وأداء كل طقوس العبادة التي تقرها هذه الطائفة. وقد كان لانضمام بلير إلى الطائفة الفضل في وجود لغة مشتركة بينه وبين بوش، حيث يعتبر بلير أن بوش أستاذه في الطائفة. وتشير المعلومات إلى أن بوش تدرج في المراتب الدينية لهذه الطائفة حتى وصل إلى مرتبة عالية يطلق عليها (المعلم)، ومن يحصل على هذه المرتبة، لا بد أن يكون قد درس باستفاضة متناهية مبادئ (الميسوديت)، وبدأ يطبقها ويدعو إليها عمليا، ولما كان عيسى معلما فإنه يريد أن يتشبه به كخليفة له، حيث نجح (بوش) في اجتذاب مئات الشباب للانضمام إلى الميسوديت، وكذلك برع في قدرته على إقناع الآخرين بهذه الافكار. وقد تسببت هذه التطورات الفكرية التي طرأت على ¬

(¬1) عقيدة جورج دبليو بوش ـ ستيفن مانسفيلد - ط1 2004 - الناشر: جا. بي. تارشر, أميركا - عرض/ علاء بيومي - الجزيرة نت 3/ 5/2004م (¬2) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص 231 (¬3) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص126

جورج الابن في قلق الأب على المستقبل السياسي لنجله، خاصة بعد تلك النزعة الدينية الغالبة التي قلبت حياته رأساً على عقب، حيث أن جورج بوش الابن، كان رافضاً للطريق السياسي في البداية، بحجة أن الرب يريده للعبادة والتدين، ونشر المذهب الديني الصحيح في العالم كله، وأن السياسة ستأخذه من هذا الطريق، ولكن بعد حوارات عدة، اقتنع بأهمية السياسة لنشر الدين (¬1). فمع بداية العام 1999م، راحت تراود (جورج بوش الابن) فكرة ترشحه للرئاسة، فكلم أمه (باربرا) بالأمر أولا، في أحد الأيام قبل أن يقصدا الكنيسة معاً لحضور القداس، وكانت العظة تتناول في ذلك اليوم شكوك موسى حول كفاءاته كزعيم، فكشفت باربرا لابنها بالعبارة التالية: "إن شخصك أشبه بشخص موسى". وعند عودتهما إلى البيت، أخذا بمشورة القس (ببلى غراهام) صديق آل بوش الشخصي، وأشهر مبشر في الولايات المتحدة والمستشار الروحي والمؤتمن على أسرار كثير من الرؤساء الأميركيين" (¬2). يقول (ستيفن مانسفيلد): "إن فكرة ترشيح (جورج دبليو) نفسه للرئاسة جاءته أول مرة خلال حضوره صلاة بإحدى كنائس تكساس، وكان القس (مارك كرايج) يتحدث في تلك الصلاة عن قصة موسى (عليه السلام) ويقول: "إن موسى تردد بعض الشيء في قبول دعوة الله له لقيادة الناس"، في حين أن الناس في أشد الاشتياق، لقيادة تمتلك رؤية وشجاعة أخلاقية. وخلال الصلاة شعر (جورج دبليو) بأن الدعوة كانت موجهة إليه، وذلك قبل أن تلتفت إليه أمه الجالسة بجواره، وتقول له: إن القس "كان يتحدث لك"، وبعد فترة قصيرة اتصل جورج دبليو بالقس (جيمس روبيسون) وقال له: "لقد سمعت الدعوة، أعتقد أن الله يريدني أن أرشح نفسي للرئاسة" (¬3). ويقول (هوارد فاينمان) تحت عنوان (بوش والرب): "إن الرئيس بوش جمع عدداً من القساوسة قبل أن يرشح نفسه للرئاسة كي ينال بركاتهم، وأخبرهم بأنه تمت دعوته لينال منصباً أرفع في بلاده"! ولم يكن بوش أول رئيس أمريكي يفعل هذا، فقد سبقه ريجان الذي كان يصدق ما تقوله له قارئة الفنجان، والذي تحول بفضل الحظ الذي يؤمن به من نجم مطفأ في سماء هليوود إلى نجم ساطع ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص128 (¬2) عالم بوش السري ـ اريك لوران ـ ترجمة سوزان قازان ص17 (¬3) عقيدة جورج دبليو بوش ـ ستيفن مانسفيلد عرض/ علاء بيومي- الجزيرة نت - 3/ 5/2004م

في البيت الأبيض. وقد لعب الواعظ الأمريكي بيلي جراهام دوراً في تنوير السانت بوش، بحيث اعترف بأنه ولد مرة أخرى، وحرر روحه من الداء القديم (¬1). وبيل غراهام ـ لمن لا يعرفه ـ هو أبرز وجوه اليمين المسيحي الصهيوني في الولايات المتحدة اليوم وهو واعظ ذو شخصية كاريزمية يذهب إلى بوش وعائلته وأصدقائه بصورة دوريه ليس فقط للصلاة، بل للحديث عن قيادة العالم، وفي البداية كان (جورج بوش) يتابع ذلك بلا أدنى اهتمام. وتدريجياً بدأ اهتمامه في الازدياد إلى الحد الذي قال فيه يوما ما: "هناك حبة نبتت في قلبي، وبدأت أشعر أنني أتغير"، وكان ترك الخمر هو أول قرار يأخذه بعد التحول، ومنذ ذلك الوقت أصبح بوش واحدا من الستين مليون أمريكي، الذين يؤمنون (بالولادة الثانية للمسيح) وهذا ما دعاه للقول بأن المسيح هو أهم الفلاسفة السياسيين في جميع الأزمنة، لأنه ساعدني على التوقف عن شرب الخمر. وباعتباره مرشح يمثل المحافظون الجدد أو اليمين المسيحي المتطرف، فقد ركز بوش خلال حملته الانتخابية على إبراز تدينه حيث كان يقول: "أنه يبدأ حياته كل يوم بقراءة في الإنجيل، أو على الأصح في (الكتاب المقدس)، الذي يشمل الإنجيل والتوراة العبرانية. ووضح الأمر أكثر (تونى ايفانز) الواعظ من تكساس، وأحد مستشاريه الروحيين، فيقول: "تعاليم الإنجيل كانت سبباً رئيساً لاتخاذ بوش قراره بالتقدم لانتخابات الرئاسة، إنه شعر أن الله يكلمه، وأن واجباته قد تحددت بتكليف من الله بقوله: إنني اقتنعت بأن ثقافتنا بكاملها يجب أن تتغير بصورة جذريه، وإلى الأبد، فنحن نحتاج إلى تجديد روحي في أمريكا. وبذا تحول بوش من إنسان غبي غائب عن الوعي بفعل الإدمان على الكحول إلى رئيس أمريكي ثم إلى قائد عسكري يسعى لشن الحروب، حيث كانت (الولادة الثانية) لبوش يوم 11 سبتمبر، فقد كان حتى هذا اليوم مجرد حاكم بلا هدف، ولكن الهجوم على نيويورك وواشنطن أعطيا رئاسته الهدف والسبيل، وبعدها بدأ في الحديث بمصطلحات دينيه مثل (معركة ¬

(¬1) أفق آخر خيري منصور - سانت بوش ـ الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695

جدلية الدين والسياسة في تفكير الرئيس بوش

الخير ضد الشر) (العدالة الابديه) ـ (الحرب الصليبية) ثم مصطلح (محور الشر) الذي بدأ يضع فيه أعداءه، خاصة إيران والعراق وكوريا الشمالية" (¬1). جدلية الدين والسياسة في تفكير الرئيس بوش لاحظ كثيرون أثر الدين في رؤية بوش السياسية، بشكل غير معهود في الحياة الأمريكية: فهو يميل إلى التفسير الديني للأحداث السياسية الحالية، وقد قال في حديث للمذيعين الدينيين: "إن الإرهابيين يمقتوننا، لأننا نعبد الرب بالطريقة التي نراها مناسبة". كما يكثر في أحاديثه وخطاباته إيراد المصطلحات الدينية. فهو كثير الحديث عن (الرب) وعن (الصراع بين الخير والشر). وما مصطلح (محور الشر) إلا مثالاً واحداً على ذلك. وقد لاحظ أحد الكتاب أن بوش يفضل استخدام مصطلح (الحرية) على مصطلح (الديمقراطية)، وأن الحرية في عرف بوش ذات مدلول ديني، فهي ليست حرية الخيار السياسي بالضرورة، بل (حرية اكتشاف الرب) بكل المدلول المسيحي التبشيري لذلك. وذكرت مجلة نيوزويك أن أنصار بوش من الإنجيليين يأملون أن تكون الحرب على العراق فاتحة لنشر المسيحية في بغداد، كما يشير موقع (القس بيلي غراهام) على الإنترنت ـ وهو الأب الروحي للرئيس بوش ـ إلى "الجوع الروحي في العراق في الوقت الحاضر"، ولذلك مدلوله الخاص في السياق الحالي (¬2). ويميل الرئيس (بوش) إلى اعتماد البرامج الاقتصادية والاجتماعية، التي ترسخ الدين المسيحي في المجتمع الأمريكي وفي العالم. ومن أمثلة ذلك داخلياً تخصيصه بنداً من الميزانية لتمويل المؤسسات التربوية والاجتماعية الدينية، من كنائس ومدارس دينية وغيرها، وهي سابقة في تاريخ الولايات المتحدة، اعتبرها كثيرون بداية النهاية للموقف الحيادي من الدين الذي يلزم الدستور الأمريكي الحكومة به. وبذلك يكون بوش هو أول رئيس أميركي يمول التعليم الديني من ¬

(¬1) مجلة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 17/ 2/2003م ـ وجريدة الأسبوع العربي 24/ 2/2003 (¬2) بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية- مقال بقلم محمد الشنقيطي - الجزيرة نت ـ4ـ2003

ميزانية الدولة الأميركية، التي يفترض فيها أنها دولة علمانية تقف من الدين موقف الحياد" (¬1). ويشير الكاتب الصحفي (بوب وودوارد) في كتابه الجديد: (بوش في الحرب) إلى قصة طريفة تكشف عن جانب من جدلية الدين والسياسة في تفكير الرئيس بوش. فقد حكى بوش للكاتب في إحدى مقابلاته معه أثناء إعداد الكتاب قصة لقائه الأول مع الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) في 2001م. يقول بوش:"دخل الرئيس بوتين وجلس ... وحضر المترجمان .. وأراد بوتين أن يبدأ الكلام، لكني بادرته بالقول: السيد الرئيس .. دعني أبدأ بالإشارة إلى أمر لفت انتباهي، وهو أن والدتك أعطتك صليباً، وأنكم باركتم ذلك الصليب في إسرائيل الأرض المقدسة. فقال: صحيح. فقلت: إن هذا الأمر يثير عجبي، لأنك كنت شيوعياً وضابطاً في (الكي جي بي) ومع ذلك كنتَ راغباً في حمل الصليب، إن هذا الأمر بالنسبة لي يحمل من المعنى أكثر مما تحمله مجلدات". ثم يضيف الرئيس بوش: " .. وبدأ بوتين يتحدث عن ديون روسيا ... لكني كنت مهتماً أكثر بمعرفة هذا الرجل (بوتين)، الذي علي أن أتعامل معه، ولهذا أردت التأكد من صحة قصة الصليب" (¬2). http://www.aljazeera.net/cases_analysis/2003/3/3-11-1.htm - TOP ولكن هذا الحماس الديني الذي هو مصدر قوة الرئيس بوش وطاقته، فهو أيضاً مصدر ضعفه وسوء تقديره للأمور. وليس هذا رأي أعداء الرئيس بوش ومنتقديه فحسب، بل هو قول مساعديه ومقربيه كذلك. وقد ذكرت مجلة "نيوزويك" أن مستشاري الرئيس بوش يدركون أن "العديد من الأمريكيين ـ وكثيرين عبر العالم ـ يعتبرونه رجلاً أعمته معتقداته .. عن فهم تعقيدات العالم المحيط به كما هي". ولا ينكر مساعدو بوش هذه التهمة، بحسب المجلة، التي تضيف: "يقول مساعدو بوش: إن معتقداته المسيحية المتأججة تحت السطح تمنحه قوة وعزماً، لكنها لا تعينه على فهم السياسات اللازم اتباعها" (¬3). ¬

(¬1) البوشنية .. سيره يهودية / بقلم شوقي أبو شعيره ـ جريدة الخليج العدد 8609 - 14 ديسمبر 2002م (¬2) بوش في الحرب ـ بوب وودوارد ـ ص 120 - الناشر (سايمون وشوستر) - أكتوبر 2006 (¬3) بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية- مقال بقلم محمد الشنقيطي - الجزيرة نتـ4ـ2003

مكانة بوش على الخريطة الدينية الأميركية

مكانة بوش على الخريطة الدينية الأميركية تتسم الخريطة الدينية للولايات المتحدة بشيء من التعقيد، فلا يمكن رسم حدودها واضحة، وبيان مكانة بوش فيها بشكل مفصل في هذا الكتاب، ولكن يمكن القول إجمالاً: إن أنصار بوش هم في الغالب الأعم من البيض البروتستنت، وممن ينتمون للكنيسة المعمدانية أو الكنيسة المنهجية، التي ينتمي إليها بوش، ونتيجة لهذه العلاقة الحميمة بين بوش والتيار المسيحي الأصولي، وفرت الكنائس الإنجيلية المتصهينة لبوش فوزاً على منافسه الجمهوري (ماكين)، ثم فوزاً ملتبساً على منافسه الديمقراطي (آل جور). ولهذا فإن الذين يبرمجون الرئيس الأميركي هم قساوسة الحركة الصهيونية المسيحية. فالرئيس بوش هو من النوع الذي لا يدخل في نقاش مع نفسه، ولا يمارس التساؤل لكونه ـ أيضاً ـ ينطلق من مرجعية فكر ديني مطلق، لم يكن غريباً أنه صنف مجتمعات العالم إلى متحضرة وغير متحضرة، وخيرة وشريرة وعليها أن تختار أن تكون ضده أو معه، وتوعد من ليس معه بالعقاب الشديد. ومن هذا المنطلق الديني الأصولي يرى أن الأحداث التاريخية تتم كما قال الكاتب (جاكسون ليرز) على (يد إله عادل ومخلص) وأن رئاسته جزء من خطة مقدسة، حتى أنه قال لصديق له عندما كان حاكما لولاية تكساس: إن الله يريده أن يترشح للرئاسة .. وأوعز للولايات المتحدة بأن تقود حملة صليبيه تحريرية في الشرق الأوسط، بل ذهب (جاكسون ليرز) في هذه المقالة إلى القول بأن اللغة الدينية الأصولية كثيراً ما تستعمل في الثقافة السياسية الأميركية، خصوصاً بين أنصار بوش، الذين يؤمنون بأنهم يعملون بإرشاد الهي وينفذون إرادة الله" (¬1). http://www.aljazeera.net/cases_analysis/2003/3/3-11-1.htm - TOP علاقة بوش مع الكنيسة الكاثوليكية الكنيسة الكاثوليكية التي يقدر أتباعها بحوالي 60 مليون شخصاً، لا تربطها علاقة ود بالرئيس بوش، لأسباب سياسية ودينية وتاريخية كثيرة. فكما هو معروف تأسس الحزب الجمهوري في عام 1854م، بعد الهجرة الكاثوليكية المتنامية نحو أمريكا، وظهور تيارات دينية جديدة إضافة إلى ظهور العلمانية، حيث بدأت بعض ¬

(¬1) الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - ص63

المفاهيم تؤثر سلباً في اللغة الدينية السائدة في ذلك الوقت، وشعر البيوريتانيون بأن دولة الفضيلة التي عملوا على تأسيسها، تدخل مرحلة الانحدار، فجاء تأسيس الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه الرئيس الحالي (جورج بوش) عام 1854م معيداً الخطاب الديني البيوريتانى إلى الوجود، ومعيداً الأمل البيوريتاني إلى الوجود. فالتف اليمين البروتستانتى حول هذا الحزب الجديد بقوة على اعتبار أن برنامجه السياسي، الذي تطغى عليه القيم الدينية ينسجم مع طموحاتهم ببناء أمريكا المسيحية، حيث يمثل الحزب الجديد القيم المسيحية البيوريتانية الحقيقية، (المبادئ المسيحية اليهودية)، والذي سوف يعمل على تحقيق النبوءة التوراتية بإقامة مملكة الرب (يهوه) (¬1). وفي أواخر السبعينات والثمانينات من القرن الماضي حدث تحول يثير الاهتمام بوجه خاص، ألا وهو العلاقة الوثيقة المتزايدة بين اليمين المسيحي الجديد والحزب الجمهوري، حيث لم تبدأ هذه الصلة في أواخر السبعينات. فالعلاقة بين (بيلي جراهام) (ودوايت أيزنهاور) شيء معروف، مثله كمثل صلوات الإفطار في البيت البيض الأبيض أثناء فترة رئاسة نيكسون، ثم وصلت العلاقة إلى آفاق جديدة مع ترشيح (ريجان) ثم فترة رئاسته (¬2). إن هذه الخلفية المتطرفة للحزب الجمهورى، ربما توضح سبب تطرف (بوش الابن) وتعصبه ليس فقط تجاه العرب والمسلمين، بل تجاه المسيحيين الكاثوليك، حيث ـ معروف عنه ـ علاقاته الحميمة بالتيار الأصولي المسيحي المتطرف في أمريكيا، وبأكثر زعماء هذا التيار تطرفاً، أمثال (جون ايفانس)، وغيرهم، والذين يعتقدون أن الاتحاد الأوروبي ـ وبالذات دوله الكاثوليكية ـ هم من قوى الشر، التي ستحارب أمريكيا في المستقبل، ويسمون دولها العشر بالوحش الذي ورد ذكره في نبوءات التوراة (¬3). ولهذا لم يكن مستغرباً أن يرتبط بوش بعلاقات حميمة مع أكبر جامعة أصولية متطرفة، وهى جامعة (بوب جونز) الانفصالية المتشددة التي أسسها القس الأصولي المتشدد (بوب جونز) (¬4)، والتي تناصر الآراء المضادة للكاثوليكية، ¬

(¬1) أساطير في ثوب ديني وتحالف استراتيجي - رضا محمد حرب - الخليج العدد 8674 (¬2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة - ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص155 (¬3) يد الله - جريس هالسيل - 35 (¬4) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة - ص231

بوش واليهود وإسرائيل

حيث يصف رؤساؤها البابا بأنه عدو المسيح، ويمنعون الاختلاط العرقي بين الطلبة. وقد حرص (بوش) على زيارة هذه الجامعة باستمرار، حيث تسببت إحدى هذه الزيارات بجدل واسع، واتهمه منافسه للرئاسة (جون ماكين) باستخدامه الزيارة لتشويه صورته، واضطر بوش للدفاع عن نفسه ضد مزاعم التعصب، وأخبر الصحفيين في سياتل بقوله: اندهشت لأن الناس يصفوني بأني مناهض للكاثوليكية، أنا أرفض ذلك، فأنا حريص على التوحيد ليس التقسيم، يجب أن تتوقف حملة تشويه الصورة هذه، وبعث بوش رسالة للكردينال (جون اوكونور) في نيويورك معقل الناخبين الكاثوليك قائلاً: انه يشعر بأسف عميق لأنه لم ينأ بنفسه بوضوح عن سياسات جامعة بوب جونز. بوش واليهود وإسرائيل باعتباره أحد أعضاء الكنيسة الميثودية البارزين، كان بوش دائم التردد على إسرائيل، لأن الميثوديت تعتبر أن ارض إسرائيل هي البقعة المباركة في هذا العالم، وأن المسيحية الحقه جاءت لتقييم التحالف الروحي لإنقاذ العالم من خلال الاعتماد على التوراة، التي تمثل قيمة دينية عليا، وأن العالم لابد أن يبعث على أساس من التوراة والإنجيل الحق، ولهذا فإن بوش عندما يقرأ كل يوم في كتابه المقدس، فهو لا يقرأ الإنجيل المتداول بين المسيحيين، وإنما يقرأ الكتاب المقدس للميثوديت، الذي يجمع بين التوراة والإنجيل في مزيج مشترك، حتى أن صلواته التي يؤديها كل يوم وبانتظام، تعبر عن فكر الميثوديت والتحالف الصهيوني ـ المسيحي، ولا تعبر عن المسيحية المعروفة في الشرق أو الفاتيكان. والمتتبع لنشاط طائفة الميثوديت يرى أن أعدادها في تزايد مستمر بين الطوائف المسيحية، حيث أن هؤلاء هم بالأساس أصحاب هذه الفكرة في إقامة التحالف المسيحي ـ الصهيوني ضد الإسلام (¬1). يقول (مات بروكس) اليهودي الجمهوري: "إن جورج بوش، وبسبب إيمانه الديني العميق، يعتقد أن إسرائيل هي وطنه الروحي، بقدر ما هي وطن روحي لي أنا ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص127ـ128

اليهودي". ولبوش أصدقاء ذو اهتمامات بالغة العمق بإسرائيل، ولأنه بات أكثر تديناً في السنوات الأخيرة، فقد أصبح مهتماً بها بالعمق الذي يوليه أصدقاءه هؤلاء تماماً، هذا ما يقوله ـ أيضاً ـ صديق بوش الآخر اليهودي الأرثوذوكسي، الملتزم (دونالد ايترا) لمجلة نيوزويك. وتشير نيوزويك إلى أن موقف بوش من إسرائيل والفلسطينيين قد يكون في النهاية موقفا ايديولوجياً، وحتى دينياً متطرفاً، وليس موقفاًً سياسياً بحثاً. وتضيف أن زيارة بوش إلى إسرائيل في العام 1998م، التي رتبها له ضمن مجموعة من حكام الولايات الآخرين صديقه (مات بروكس)، وقام في أثنائها بجولة في طوافة مع شارون، فوق الضفة الغربية والجولان، لم تكن فقط زيارة استطلاع على جغرافية إسرائيل، ولا حتى جولة سياسية، لقد كانت رحلة في التاريخ التوراتى. وتشير المجلة إلى أنه وصديقه الآخر (دونالد ايترا) انتميا إلى جمعية سرية تدعى (سكول وبوناس)، عندما كانا في جامعة بيل، ويقول ايترا: إن تربية بوش اليهودية وتعلمه لها ومعلوماته عنها بدأت في تلك الفترة ... لقد تربى بوش مع مجموعة يهودية، وهو شخصياً يقدر عالياً الدين اليهودي. وقد صرح الرئيس بوش أكثر من مرة بأن "اليهود هم شعب الله المختار الوحيد على وجه الأرض" (¬1). وخلال الأشهر السابقة من وجوده في البيت الأبيض، لم يثبت الرئيس الأمريكي ما يدحض هذه الآراء، بل إنه، وإضافة إلى إطلاقه يد المحافظين الجدد في السياسات الخارجية، الشرق أوسطية منها خصوصاً، بنى نظاماً يستند بكل صراحة إلى البروتستانت الأصوليين، هؤلاء المتعصبين المقتنعين بان الولايات المتحدة تؤدى دوراً مركزياً في صراع الخير التوراتى ضد الشر، وهذا الدور الذي يستند إلى يقين بأن هذا البلد ينبغي أن يقود العالم. وقد توصل أحد الباحثين الأميركيين مؤخرا ـبعد دراسته لكل أحاديث الرئيس الحالي بوش وخطاباته ـ إلى أن بوش أصولي مسيحي، يؤمن بأن الضفة الغربية وقطاع غزة منحة ربانية لليهود لا يجوز التنازل عنها، وهو نفس الاعتقاد الذي عبر عنه (التحالف المسيحي) بقيادة (بات ¬

(¬1) البوشنية .. سيره يهودية / بقلم شوقي أبو شعيره ـ جريدة الخليج العدد 8609 - 14 ديسمبر 2002م

روبرتسون) مؤخراً في مسيرة له بواشنطن العاصمة، طالب فيها القادة الإسرائيليين بعدم التنازل عن الضفة الغربية وقطاع غزة، لأن ذلك مناقض لإرادة الرب (¬1). وربما كان إعجاب الرئيس (بوش) الشديد باليهود، وتبنيه لبرامجهم هو الذي دفعهم إلي الانضمام إلى الحزب الجمهوري. فبالرغم من وجود يهود في الحزب الديمقراطي، نظراً لانقسام اليهود إلى ليبراليين ومتدينين ـ وأحيانا تفادياً لوضع البيْض في سلة واحدة ـ فإن الجماعات اليهودية بدأت في الأعوام الأخيرة تميل إلى الحزب الجمهوري، لأن ولاءه للمسألة اليهودية نابع من اعتقاد ديني ثابت، مجرد من الاعتبارات السياسية والإستراتيجية في الغالب، بخلاف الحزب الديمقراطي ذي الميول الليبرالية، الذي يتعامل مع إسرائيل باعتبارها (دولة دنيوية) إلى حد ما، وربما هذا ما دفع الحزب الديمقراطي إلى محاولة استمالة اليهود من خلال ترشيح اليهودي (ليبرمان) لمنصب نائب الرئيس في الانتخابات السابقة. وربما يكون الخطاب الذى القاه بوش بتاريخ 15 مايو 2008 اما الكنيست الاسرائيلى بمناسبه استقلال اسرائيل خير معبر عن علاقته باليهود، ولاهميته سنعرضه بالكامل وللقارئ استخلاص المعانى المختلفة من خلاله: وثيقة: كلمة الرئيس الأميركي جورج بوش أمام الكنيست في الذكرى الستين لقيام "إسرائيل" الرئيس بيرس والسيد رئيس الوزراء، السلام عليكم جميعاً. إن (زوجتي) لورا وأنا نتحمس للعودة إلى إسرائيل. لقد تأثرنا كثيراً بالاحتفالات التي حضرناها خلال اليومين الماضيين. أما الآن فيشرّفني الوقوف في هذا الوقت أمام أحد المجالس النيابية الديمقراطية العظيمة في العالم لأنقل أماني الشعب الأميركي على شكل الكلمات الآتية: عيد استقلال سعيد ([قالها باللغة العبرية) إنها فرصة نادرة تتاح لرئيس أميركي لإلقاء كلمته أمام الكنيست .. ولا يؤسفني سوى غياب أحد أعظم الزعماء الإسرائيليين عنا ليشاركنا هذه اللحظة كونه ¬

(¬1) المصدر السابق.

محارباً مخضرماً ورجل سلام وصديقاً. إن الشعب الأميركي يدعو الله لشفاء أريئيل شارون (رئيس الوزراء السابق). إننا اجتمعنا لإحياء مناسبة بالغة الأهمية. كان دافيد بن غوريون قد أعلن قبل ستين عاماً في تل أبيب استقلال دولة إسرائيل القائم على أساس "الحق الطبيعي للشعب اليهودي لتقرير مصيره". وما تلا هذه الخطوة كان أكثر من مجرد إقامة دولة جديدة: إنه كان استيفاء وعد قديم مُنح لأبراهام وموشيه ودافيد بمعنى وطن قومي للشعب المختار على أرض إسرائيل. ولم تمضِ إلا 11 دقيقة حتى نالت الولايات المتحدة، بإيعاز من الرئيس هاري ترومان، شرف أن تكون أول دولة للاعتراف باستقلال إسرائيل. كما أن الولايات المتحدة يشرّفها في هذه الذكرى المفصلية أن تكون أقرب حليف وأفضل صديق لإسرائيل في العالم. إن التحالف بين الحكومتين لا يمكن كسره إلا أن مصدر الصداقة بيننا أعمق من أي حلف. إنه يعود إلى الروح المشتركة لكلا الشعبين، إلى الروابط القائمة على الكتاب المقدس والعلاقات الروحية. عندما نزل وليام برادفورد من السفينة "مييفلاور" [التي حملت طلائع المهاجرين الأوروبيين إلى أميركا الشمالية] عام 1620 فإنه استشهد بأقوال النبي إرميا: "هلم فنقصّ في صهيون عمل الرب إلهنا ". وكان مؤسسو دولتي قد رأوا أمام نواظرهم أرض ميعاد جديدة وقد أطلقوا بالتالي على بلداتهم أسماء مثل بيت لحم وكنعان الجديدة. وقد أصبح العديد من الأميركيين مع مرور الزمن يؤيدون بحماس فكرة نشوء دولة يهودية. وقد مضت قرون من المعاناة والتضحيات قبل تحقيق هذا الحلم. إذ عانى الشعب اليهودي ويلات المجازر ومأساة الحرب الكبرى (الحرب العالمية الأولى) وفظائع المحرقة التي أسماها [الكاتب اليهودي الأميركي الشهير إيلي فيزيل "مملكة الليل". وكان أناس لا ضمير لهم قد سلبوا الحياة وفككوا عُرى العائلات لكنهم عجزوا عن مصادرة روح الشعب اليهودي وانتهاك الوعد الإلهي.

عندما انبثقت رسالة قيام دولة إسرائيل لم تملك غولدا مئير (التي أصبحت فيما بعد رئيسة لوزراء إسرائيل) - التي كانت امرأة جسورة ترعرعت في ولاية ويسكونسين الأميركية - دموعها، ثم قالت: "لقد تمنّينا على امتداد ألفَي عام الخلاص وها هو ذا يأتي كبيراً وضخماً وتعجز الكلمات عن التعبير عنه". غير أن فرحة الاستقلال جُوبهت بالقتال العنيف وهو صراع ما زال ممتداً منذ ستة عقود. لكن إسرائيل تمكنت على الرغم من العنف والتهديدات من إنشاء نظام ديمقراطي مزدهر في قلب الأرض المقدسة. إنكم استوعبتم مهاجرين قدموا من كل حدب وصوب؛ إنكم بنيتم مجتمعاً حراً عصرياً يقوم على محبة الحرية والعدالة وكرامة الإنسان؛ إنكم عملتم دون كلل على دفع السلام قدماً وحاربتم بشجاعة من أجل الحرية. إن بلادي مُعجبة بإسرائيل غير أن هذا الإعجاب لم يأت من فراغ، إذ إن الأميركيين يرون عندما ينظرون إلى إسرائيل الروح الطلائعية التي صنعت المعجزات في المجال الزراعي وتصنع حالياً معجزة أخرى في المجال التكنولوجي. كما أننا نشهد الجامعات الراقية ودولة رائدة عالمياً في مجالات الأعمال والابتكار والفنون. إننا نشهد مورداً أهم من النفط أو الذهب ألا وهو الموهبة والعزيمة لدى شعب حر لا يسمح لأي عائق باعتراض سبيله نحو تحقيق ما قُدّر له. لقد حالفني الحظ لأن أشاهد إسرائيل عن كثب وأطّلع على ملامحها: لقد مسستُ حائط المبكى وشاهدت انعكاس أشعة الشمس في بحيرة طبريا وأديت الصلاة في مؤسسة "ياد فشيم" (لتخليد ذكرى المحرقة). وقد زُرت صباح اليوم موقع "متسادا" الذي يخلد ملهمة الجرأة والتضحية. إن الجنود الإسرائيليين يؤدون يمين الولاء في هذا الموقع التأريخي قائلين: إن متسادا لن تسقط ثانية. أيها مواطنو إسرائيل، إن متسادا لن تسقط ثانية إذ إن الولايات المتحدة ستقف دوماً إلى جانبكم. إن ذكرى (عيد الاستقلال) الحالية تشكل فرصة سانحة للتفكير ملياً في الماضي واستشراف المستقبل. عندما نسير نحو هذا المستقبل يستضيئ تحالفنا

بمبادئ واضحة وإيمان مشترك يقوم على النزاهة الأخلاقية ولا يتأثر باستطلاعات مختلفة للرأي العام وتقلبات مواقف بعض النُخَب الدولية. إننا نؤمن بالقيمة المطلقة لحياة أي رجل وامرأة وطفل وبالتالي نعقد العزم على أن أي شخص في إسرائيل له الحق في ممارسة حياة طبيعية وجيدة ومطمئنة مثل مواطني أي دولة أخرى. إننا نرى أن النظام الديمقراطي يمثل الطريق الوحيد لضمان حقوق الإنسان ولذلك فإنه من الخزي والعار إقدام الأمم المتحدة على تمرير قرارات روتينية ضد النظام الديمقراطي الأكثر حرية في الشرق الأوسط بداعي انتهاكه لحقوق الإنسان. إننا نعتقد بأن الحرية الدينية هي من ثوابت المجتمع المتحضر ولذلك ندين بمعاداة اليهود (اللاسامية) بكافة أشكالها سواء لدى أولئك الذين يشككون علناً في حق إسرائيل في الوجود أو لدى آخرين يبحثون سراً عن مبررات لهذا الموقف. كما أننا نرى أن الأحرار عليهم أن يتطلعوا إلى السلام ويستعدون للتضحية من أجله وبالتالي نؤدي التحية للقادة الإسرائيليين على قراراتهم الجريئة. كما أننا نعتقد بأن أي أمة تملك الحق في الدفاع عن نفسها ولا يجوز إجبارها على التفاوض مع قتلة يصرون على تدميرها. إننا نظن أن استهداف حياة الأبرياء من أجل تحقيق أهداف سياسية لهو خطأ في أي زمان ومكان. لذلك نقف دوماً ضد الإرهاب والتشدد ولن نتخلى عن يقظتنا ولن نثبط من عزيمتنا على هذا الصعيد. إن مكافحة الإرهاب والتشدد هي التحدي الأبرز في عصرنا. ولا يقتصر الأمر على تصادم الجيوش فحسب بل إنه صدام للرؤى أي صراع عقائدي كبير. ويقف من جهة أولئك الذين يدافعون عن المثل العليا للعدالة والكرامة بدافع قوة العقل والحقيقة، فيما يقف من الجهة الثانية أولئك الذين يعتمدون رؤية محدودة من القسوة والسيطرة تجيز القتل والترهيب ونشر الأكاذيب. ويتم شن هذا الكفاح بواسطة تقنيات القرن الحادي والعشرين لكنه أساساً صراع بين الخير والشر. ويدّعي القتلة بأنهم خرجوا من عباءة الإسلام لكنهم ليسوا متدينين. إذ لا يمكن لكل من يدعو رب أبراهام أن يضع حزاماً ناسفاً انتحارياً على

طفل بريء أو يفجر ضيوف ليلة النظام في عيد الفصح اليهودي [يقصد الاعتداء الشنيع على فندق "بارك" بنتانيا في ربيع 2002 أو يوجه طائرات إلى عمارات تجارية مليئة بمستخدمين لا يرتابون بشيء [يقصد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001. في حقيقة الأمر لا يخدم الأشخاص الذين ينفذون هذه العمليات الهمجية أي هدف سوى رغبتهم في السلطة. إنهم لا يغلّبون أي أخلاق إلهية على مصالحهم الأنانية، كما أنهم يوجهون الكراهية والبغضاء بالذات إلى أشد المدافعين غيرةً عن الحرية وبضمنهم الأميركيون والإسرائيليون. ولهذا السبب كان الميثاق التأسيسي لحماس قد دعا إلى القضاء على إسرائيل، ولذلك يردد أتباع حزب الله شعار "الموت لإسرائيل والموت لأميركا"، ومن هذا المنطلق تنص دروس أسامة بن لادن على أن "قتل اليهود والأميركيين هو من أكبر الفرائض"، فيما يحلم الرئيس الإيراني في إعادة الشرق الأوسط إلى القرون الوسطى ويدعو إلى محو إسرائيل عن الخارطة. ثمة أناس أخيار ومهذَّبون لا يسعهم استبطان ظلامية هؤلاء الأشرار مما يحملهم إلى تأويل كلامهم. هذا أمر طبيعي لكنه خاطئ تماماً. إننا - وبصفتنا شهوداً لشر الماضي - نتحمل مسؤولية جليلة لأخذ كلامهم مأخذ الجد. إن اليهود والأميركيين قد شاهدوا تبعات غض الطرف عن كلمات أدلى بها زعماء تأييداً للكراهية، ولا يجوز للعالم أن يكرر هذا الخطأ خلال القرن الحادي والعشرين. هنالك من يعتقد بوجوب التفاوض مع الإرهابيين والمتشددين وكأن مقارعتهم ببعض الحجج البارعة قد تقنعهم بأنهم كانوا في ضلال مُبين. كنا قد استمعنا إلى هذه الأوهام السخيفة. عندما اجتازت الدبابات النازية حدود بولندا عام 1939 صرح أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي آنذاك بما يلي: "يا ربي، لو كان بمقدوري الحديث مع هتلر لربما كنا نتفادى كل هذا المشهد". يجب علينا أن نسمي هذا التوجه بمسمياته الحقيقية أي راحة النفس الخادعة الناتجة عن استرضاء خاطر (الأشرار) والتي كان التأريخ قد أظهر بطلانها مراراً وتكراراً. ثمة آخرون يعرضون على الولايات المتحدة قطع علاقاتها مع إسرائيل وكأن هذه الخطوة وحدها كفيلة بحل جميع المشاكل في الشرق الأوسط. إن هذه حجة

مستهلكة تصب في دعاية أعداء السلام وترفضها الولايات المتحدة جملة وتفصيلاً. إن عدد سكان إسرائيل يتجاوز قليلاً 7 ملايين نسمة غير أن تعدادكم يصبح 307 مليوناً عندما تواجهون قوى الإرهاب والشر لأن الولايات المتحدة الأميركية تقف إلى جانبكم. إن الولايات المتحدة تناصركم في سعيكم لضرب الشبكات الإرهابية ورفض إيواء المتشددين. كما أن الولايات المتحدة تقف إلى جانبكم برفضها الشديد للطموحات الإيرانية بالحصول على الأسلحة النووية. إن السماح لأبرز راعٍ للإرهاب العالمي بامتلاك الأسلحة الأشد فتكاً سيكون بمثابة خيانة لا تُغتفر إزاء الأجيال القادمة. ويتعين على العالم حفاظاً على السلام عدم السماح لإيران بالحصول على السلاح النووي. ومن المتطلبات الأساسية لتحقيق الانتصار في هذه المعركة ضرورة طرح بديل عن العقائد المتشددة من خلال توسيع رؤيتنا الخاصة بالعدل والتسامح والحرية والأمل. إن هذه القيم هي حق لا يحتاج إلى أي مبرر لدى جميع الشعوب والأديان في كافة أنحاء العالم كونها هدية من الله عز وجل. كما أن حماية هذه الحقوق هي أفضل طريق لحماية السلام. إن الزعماء الذين يمكن لشعوبهم محاسبتهم لن يبحثوا عن المواجهة الدائمة وسفك الدماء؛ إن الشبان الذين تُحفظ لهم مكانتهم في المجتمع وتُسمع أصواتهم حول مستقبلهم سيفتر حماسهم للبحث عن مغزى حياتهم بالعقيدة المتشددة؛ إن المجتمعات حيث يتسنى للمواطنين التعبير عن ضمائرهم وعبادة ربهم لن تصدّر العنف بل ستكون شريكة للسلام. إن أهم العِبر المستفادة من القرن العشرين هي تلك البصيرة الأساسية القاضية بأن الحرية تفضي إلى السلام. وتنحصر مهمتنا الحالية بتطبيق هذه العبرة في القرن الحادي والعشرين. وما من مكان آخر على وجه الأرض حيث يكون العمل على إنجاز ذلك أشد ضرورة وعجالة من الشرق الأوسط. ينبغي علينا مناصرة الإصلاحيين العاملين على تحطيم الأنماط القديمة من الطغيان واليأس؛ يتحتم علينا منح الملايين من عوام الشعب الذين يحلمون في حياة أفضل في مجتمع حر فرصة إسماع أصواتهم؛ يتعين علينا مجابهة النسبية الأخلاقية التي تقبل بدرجة متساوية جميع أشكال الحكم وتحكُم بالتالي على مجتمعات بأكملها بالرق والعبودية؛

أما ما هو أهم من ذلك كله فهو ضرورة إيماننا بقيمنا وثقتنا بأنفسنا وسعينا اليقيني لتوسيع الحريات باعتبارها المسار المؤدي إلى مستقبل سلمي. إن هذا المستقبل سيختلف بصورة دراماتيكية عن الواقع الحالي السائد في الشرق الأوسط. وبالتالي، وتزامناً مع إحيائنا الذكرى الستين لتأسيس إسرائيل، دَعُونا نحاول تصور ملامح المنطقة بعد 60 عاماً من الآن. إن هذه الرؤية لن تتحقق بسهولة أو بين ليلة وضحاها بل ستواجه مقاومة عنيفة، غير أنه يمكننا استشراف ملامح الشرق الأوسط مستقبلاً إذا ما كنّا نحن والرؤساء [الأميركيون] القادمون ومجالس الكنيست المقبلة سنبقى مصممين وواثقين من مثلنا العليا، لتكون كما يلي: ستحتفل إسرائيل بعيد استقلالها المئة والعشرين وقد أصبحت من أعظم النظم الديمقراطية في العالم، وطن قومي آمن ومزدهر للشعب اليهودي. وسيتمتع الشعب الفلسطيني بوطن لطالما حلم فيه واستحقه لتكون لديه دولة ديمقراطية يسودها القانون واحترام حقوق الإنسان ورفض الإرهاب. وسيعيش الناس انطلاقاً من القاهرة وصولاً إلى الرياض وبغداد وبيروت في مجتمعات حرة ومستقلة حيث تعزَّز التطلعات إلى السلام بالروابط الدبلوماسية والسياحة والتجارة. وستكون إيران وسوريا دولتين مسالمتين وسيغدو الطغيان الحالي ذاكرة بعيدة فيما يستطيع الناس التعبير بحرية عن آرائهم وتنمية المواهب التي منحهم إياها الله. وستُهزم القاعدة وحزب الله وحماس في الوقت الذي سيدرك فيه المسلمون في المنطقة بأسرها فراغ رؤية الإرهابيين والظلم الذي تنطوي عليه قضيتهم. وسيتسم الشرق الأوسط إجمالاً بعصر جديد من التسامح والتكامل. ولا يعني ذلك أن إسرائيل وجيرانها سيكونون أفضل الأصدقاء، غير أن إسرائيل ستفتح صفحة جديدة مفعمة بالآمال عندما سيكون زعماء المنطقة ملزمين بالتجاوب مع شعوبهم ويبذلون جل طاقاتهم في بناء المدارس وتوفير فرص العمل وليس في الهجمات الصاروخية والتفجيرات الانتحارية. وبالتالي سيتسنى للشعب في إسرائيل

ممارسة حياة طبيعية وسيتم تطبيق حلم هرتصل ومؤسسي الدولة عام 1948 في نهاية المطاف. إنها رؤية جريئة وقد يقول البعض إنها لن تكون أبداً قابلة للتحقيق. ولكن فكِّروا بما كنا قد شهدناه في عصرنا: عندما كادت أوروبا تقضي على نفسها في حرب شمولية وعمليات إبادة للشعوب كان من الصعوبة بمكان تصور قارة تنعم بعد مضي ستة عقود بالحرية والسلام؛ عندما قام طيارون يابانيون [خلال الحرب العالمية الثانية] بمهمات انتحارية تستهدف السفن الحربية الأميركية كان من المستحيل أن نتصور تحوّل اليابان بعد ستة عقود إلى نظام ديمقراطي ودعامة رئيسية للأمن في آسيا وأحد أقرب أصدقاء الولايات المتحدة؛ وعندما وصلت موجات من اللاجئين المعدمين إلى هنا حيث توجد صحراء محاطة بجيوش معادية كان من شبه المستحيل تصور تنامي إسرائيل وتحولها إلى إحدى الدول الأكبر نجاحاً وحرية على وجه البسيطة. غير أن جميع هذه التحولات قد حدثت بالفعل. ولذلك من الممكن إحداث تحول مستقبلي في الشرق الأوسط ما دام الجيل الجديد من القيادات يملك الجرأة على دحر أعداء الحرية والإقدام على القرارات الصعبة المطلوبة لإحلال السلام والاستناد بحزم على صخرة القيم العالمية المتينة. قبل ستين عاماً، عشية استقلال إسرائيل، توقفت عند عمارة في الحي اليهودي من البلدة القديمة في أورشليم القدس مجموعة من آخر الجنود البريطانيين لدى مغادرتهم المدينة. وطرق أحد الضباط الباب وقابل أحد الحاخامات الكبار. وقد أهدى الضابط إليه قطعة حديدية قصيرة - مفتاح باب صهيون - قائلاً إنها المرة الأولى منذ ثمانية عشر قرناً حيث يملك يهودي أحد مفاتيح أبواب أورشليم القدس. وعندها دعا الحاخام رب العالمين شاكراً إياه على أنه "بعث فينا روح الحياة وسمح لنا بالوصول إلى هذا اليوم"، ثم استدار نحو الضابط ولفظ الكلمات التي طالما انتظرها اليهود: "إنني أتقبل هذا المفتاح باسم أبناء شعبي".

بوش والمسلمين

وقد تمكن الشعب اليهودي على مدى العقود الستة الماضية من إنشاء دولة كان ذلك الحاخام المتواضع سيتفاخر بها. إنكم بنيتم مجتمعاً عصرياً في أرض الميعاد. إنكم أصبحتم منارة للشعوب التي تحافظ على تراث إبراهام ويتسحاق ويعقوب، وإنكم أقمتم صرحاً ديمقراطياً عظيماً سيبقى إلى الأبد وسوف يمكنكم دوماً الاعتماد على وقوف الولايات المتحدة الأميركية إلى جانبكم. بارك الله فيكم (¬1). بوش والمسلمين في مقابل هذه المواقف السابقة للرئيس بوش من اليهود، نجد مواقفه من المسلمين على النقيض. فمن سخريات القدر أنه بالرغم من أن الرئيس (بوش) مدين للمسلمين في أمريكيا بوصوله للحكم ـ حيث أعطوه 70% من أصواتهم، في حين أعطى اليهود أصواتهم للمرشح الديمقراطي (آل جور) ونائبه اليهودي (ليبرمان) ـ ولكن بالرغم من ذلك قلب بوش ظهر المجن للمسلمين، وتعرض المسلمون في أمريكيا، وفي العالم لأسوأ حملة إرهاب وتعصب وملاحقة في تاريخهم، بسبب حملة التضليل والتزييف التي قادتها إدارته الجمهورية اليمينية المتطرفة ضد المسلمين، فبعد أحداث11 سبتمبر في نيويورك، دعا الواعظ الأصولي (بات روبرتسون) أتباعه للصلاة "كي يمنع الرب انتشار الإسلام في أمريكا" كما قال: إن الإسلام دين تخلف ورق وعبودية، وأضاف: إن العالم الإسلامي مرتع لعمل الشيطان. وهذا الكلام الذي قاله (روبرتسون) لا يختلف كثيراً عما قاله ويؤمن به الرئيس بوش، الذي تأثر كثيرا بأفكار القس جراهام وأصبح واحداً من مريديه المقربين وكان يبدو مقتنعاً بما يردده (جراهام) من أن المسلمين، هم الذين يشكلون الخطر الأكبر على عودة المسيح إلى الأرض، وإن هؤلاء المسلمين لا يتبعون ملة دينية، وإنما يتبعون رجلاً اسمه محمد .. الخ. وكان يقول له دائماً: إن المسيحية تعرضت للكثير من التغيير والتبديل على يد المسيحيين، الذين أرادوا تحويلها لمنافع ¬

(¬1) المصدر: وزارة الخارجية الإسرائيلية

شخصية لهم، وقد آمن بوش بهذه الأفكار، وراح يرددها أمام زوجته والمقربين منه، وكان يقول لها: المسلمون ليسوا أصحاب ديانة والمسيحيون أصحاب ديانة، تعرضت للتغيير، والرب غاضب على هذا العالم الذي غير دينه. وبالرغم من أن الرئيس بوش اضطر لأسباب دعائية إلى وصف الإسلام على أنه (دين سلام)، خلال زيارته للمركز الإسلامي بواشنطن في 17 سبتمبر2001م، إلا أن هذه التصريحات أثارت عاصفة من النقد في أوساط اليمين المتدين، إلى حد قول أحد رجال الدين: "يمكننا أن نتحمل 11 سبتمبر، ولكن لا يمكننا أن نتحمل 17 سبتمبر". كما وقف قادة اليمين المتدين موقفاً أكثر تشدداً تجاه الإسلام والمسلمين بعد أحداث سبتمبر، عبر عنه (فرانكلين جرام) ـ الذي ألقى دعاء افتتاح حفل تنصيب (جورج دبليو)، وذلك خلال مقابلة أجرتها معه قناة NBC الأميركية في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001م إذ قال: "لا أعتقد أن هذا (الإسلام) دين رائع ومسالم .. عندما تقرأ القرآن فإنه يدعو لقتل الكفار وغير المسلمين .. من قاموا بالطيران في أبنية ليسوا طائفة مسيحية (ما) .. الهجوم كان على بلدنا من قبل أعضاء بالديانة الإسلامية" (¬1). وقد سار بوش على خطى معلمه في موقفه من الإسلام، حيث كان يرى في الإسلام انه دجل ديني، وأن المتخلفين والمتعصبين هم الذين يحركون الناس نحو هذا الإسلام، وقد دفعت هذه القناعة (جورج بوش) إلى الاقتناع الكامل بمقولات القس (جراهام) وابنه (فرانكلين) الذين أصبحا فيما بعد من أعز أصدقاء بوش، وكذلك رفيقه في كل خطواته الدينية والسياسية. وقد استطاع القس (جراهام) إقناع (بوش) بالانضمام إلى طائفة (الميثوديث) المعبرة عن التحالف الصهيوني المسيحي. وقد سار بوش مع هذه الطائفة حتى صار أحد أعمدتها الأساسية (¬2). وفي البداية كان (جورج بوش) يريد أن يكون داعية للميثوديت في البلدان الإسلامية والعربية، إلا أن (جراهام) و (فرانكلين) أقنعاه بأن المهمة الأولى هي تطهير المسيحية والرجوع إلى أصولها الأولى، بينما كان بوش يخالفهم، ويرى أهمية القضاء على ¬

(¬1) عقيدة جورج دبليو بوش ـ ستيفن مانسفيلد- عرض علاء بيومي- الجزيرة نت - 3/ 5/2004م (¬2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص126

المسلمين أولاً قبل التفكير في إصلاح أحوال المسيحيين، ولهذا فان من كتبه المفضلة التي يقرأها يومياً في البيت الأبيض ـ طبقا لنيوزويك ـ كتاب للقسيس (أوزوالد شامبرز) الذي مات في مصر عام 1917م وهو يعظ الجنود البريطانيين والأستراليين هناك، بالزحف على القدس وانتزاعها من المسلمين. كما أن بوش كان ينفي دائماً في جلساته مسألة الوجود الديني للإسلام وكان يقر بأن المسيحية الحقه ستنتصر في النهاية. وهذا التعصب الأعمى والحقد على الإسلام له جذور عميقة في عائلة بوش حيث أن الجد الأكبر لبوش الابن (1796ـ1859م) ألف كتاباً عن حياة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونشره في سنة 1831م ووصف فيه المسلمين أبشع الصفات، وشتم فيه محمداً صلى الله عليه وسلم. ولذلك يعد الكتاب من أشنع وأقذر ما كتب في الولايات المتحدة عن العرب والمسلمين، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم. والكتاب موجود في مكتبة الكونجرس، ويحظر على أي ما كان الاستعانة به إلا عدد قليل ومحدود من المسئولين الأمريكيين. كما أن لجورج بوش الجد عشرات الكتب في شرح العهد القديم، ويعتبر كتابه المسمى (وادي الرؤى) عمل إحياء لرميم إسرائيل، وهو يذاع في أبرز المحطات الصهيونية الأمريكية الداعية إلى ضرورة العمل من أجل تجميع يهود العالم في فلسطين، وتدمير وسحق إمبراطورية (السارزان)، وهذه التسمية كانت تطلق على العرب والمسلمين إبان الحروب الصليبية في العصور الوسطى، وكان يطلقها الرومان على بعض رعاياهم وعبيدهم تحقيراً لهم. يقول (بوش الجد) في كتابه: "ما لم يتم تدمير إمبراطورية السارزان ـ المسلمين ـ فلن يتمجد الرب بعودة اليهود إلى وطن آبائهم وأجدادهم"، وهذا القول مقتبس من كتاب حياة محمد لجورج بوش (الجد الأكبر) لبوش الابن، وهذا الكتاب هدى الكثيرين لفكر (جورج بوش الابن) وأبيه قبل ذلك (¬1). ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ أحمد حجازي السقا ص43

بوش والحرب الصليبية

بوش والحرب الصليبية بعد أن عرضنا للخلفية الدينية المتطرفة للرئيس بوش، فإن ما يهمنا هنا بالدرجة الأولى، هو التعبير السياسي لها، والذي تجلى بعد أحداث 11 سبتمبر، في ذلك الخطاب الديني المتطرف، الذي يشبه إلى حد كبير الخطاب الديني، الذي كان سائداً إبان الإمبراطورية الرومانية، وتكفي عودة سريعة في هذا الصدد إلى جملة خطابات وتصريحات الرئيس بوش، التي أعقبت أحداث سبتمبر، للتيقن التام من ذلك، فعبارات الحرب العادلة والحرب الصليبية، (وهي العبارة التي نطق بها الرئيس بوش) ثم عاد فلحسها تحت وطأة المخاوف التي أبدتها بعض أوساط النخبة الأمريكية الحاكمة من عواقبها، فضلاً عن تقسيم العالم إلى معسكر خير وآخر للشر، تتقاطع كلياً مع تخريجات السلطة الدينية الكنسية، في عصر الإمبراطورية الرومانية التي ابتدعتها لإسعاف القيادة السياسية في الإمبراطورية، من تحقيق أهدافها الاستعمارية على بلدان المعمورة قاطبة. فالخطاب هو الخطاب، واللغة هي اللغة، والمفردات هي المفردات، لا يكاد يفرقها عن بعضها بعضاً سوى الزمن والمكان اللذين صيغت وخطت وقيلت فيهما، والشخوص الذين صاغوها وخطوها ونطقوا بها، فهل نقول ما أشبه الليلة بالبارحة؟ يبدو أن الأمر كذلك .. أو ليس التاريخ في بعض فصوله، يعيد إنتاج نفسه مرة بصورة مأساوية، وأخرى بصورة تراجيدية (¬1). نعم إن التاريخ يعيد نفسه، ولكن هذه المرة ليس بناء علي تخريجات سلطه كنسية، بل بناء علي رغبة جماعات مسيحية يمينية متطرفة، استطاعت السيطرة على مقاليد الحكم في أمريكيا، وتمكنت من الدفع بقيادة سياسية متطرفة إلي البيت الأبيض، ممثلة بجورج بوش الابن، الذي فاق سابقيه جميعاً في تأثره بالتخريجات اللاهوتية لسياسته، والتي كان أشهرها عبارة (الحرب الصليبية) التي وصف بها حربه على أفغانستان، حيث حاول البعض التقليل من شأنها، واعتبارها زلة لسان، متغافلين عن الكم الهائل من التعبيرات الدينية التي زخر بها خطابه السياسي. فما يصدر عن رئيس اكبر دوله في العالم لا يمكن أن يكون زلة لسان، بل انه يعنى ما يقول حرفياً، ويبدو إن هذه كانت زلة لسان على النمط الفرويدي لا زلة لغة، ¬

(¬1) حول علاقة الدين بالدولة الأمريكية الحديثة / محمد الصياد ـ جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672

وان بوش يضمر في الحقيقة ما يعلنه بات روبنسون وغيره من قساوسة الأصوليات المسيحية الأمريكية المتطرفة، حيث إن ما كان يطمح إليه هؤلاء على الدوام ـ بحسب القس فريتس - هو "قائد على منوال شخصية داود الإنجيلية، يوحد مطامحهم السياسية مع رؤاهم الدينية". وكل المؤشرات تدل على إيمانهم بأنهم وجدوا هذا القائد اليوم في شخص الرئيس بوش. يقول (دانا ميلباك) في جريدة واشنطن بوست: "أن بوش توصل إلى الاستنتاج بأن قيادته لأمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر كانت مسألة قدر .. كانت إرادة الله" (¬1). ويقول المقربون منه إن هجمات 11 سبتمبر لم تعطه معنى لرئاسته فقط، بل منحته مهمة ورسالة في الحياة. فبوش يعتبر قيادته لأمريكا بعد 11 سبتمبر أمراً إلهياً واختياراً ربانياً" (¬2). وربما كانت هذه الجبرية الدينية هي مصدر ما وصفه البعض بـ (التفاؤل الساذج) الذي يطبع خطاب بوش وقراراته، حتى أن أصدقاءه يأخذون عليه ذلك. فبوش الابن الذي يفتخر بأنه لا يقرأ الكتب، ويسمى الإغريق بـ (الاغارقه) والذي تلعثم طويلاً، ولم يعرف في المناظرة التلفزيونية التي سبقت انتخابه اسم الحاكم العسكري لباكستان، لا يثير إعجابه، ولا يؤثر فيه، إلا كتاب واحد هو التوراة. وحينما سأل الصحفي الشهير (جيم لهرر) جورج بوش أثناء مناظرة تلفزيونية مع (آل غور) عن برنامجه اليومي، رد بوش بأنه يبدأ يومه بقراءة في الكتاب المقدس، وإطعام كلبه، وإعداد القهوة لزوجته. كما صرح مراراً بأن المسيح هو مثاله السياسي. وهذه مظاهر جديدة على السياسة الداخلية الأميركية، كما لاحظ البروفيسور (جون أسبوزيتو) مدير مركز التفاهم الإسلامي المسيحي بجامعة (جورج تاون)، في كتابه الجديد (الحرب غير المقدسة) (¬3). ¬

(¬1) جريدة الخليج ـ11ـ3ـ2003م ـ عدد 8696 (¬2) الواشنطن بوست 09/ 03/2003م (¬3) البوشنية .. سيره يهودية / بقلم شوقي أبو شعيره ـ جريدة الخليج العدد 8609 - 14 ديسمبر 2002م

بوش يركب الزوبعة ويوجهه العاصفة

بوش يركب الزوبعة ويوجهه العاصفة قال سانت بوش الابن في خطاب القسم يوم 21 يناير عام 2001م: "بوسع ملاك أن يركب الزوبعة وأن يوجه هذه العاصفة". وحسب تحليل هوارد فاينمان، فإن هذه العبارة مأخوذة من كتابي أيوب وحزقيال، فالزوبعة ترمز إلى صوت الرب!. يقول حزيقيال: "أوحى الرب إلى حزيقيال الكاهن ابن بوزي عند جوار نهر خابور، في ديار الكلدانيين، إذ كانت على يد الرب، فابصرت ريحاً عاصفة تهب من الشمال مصحوبة بسحابة هائلة، ونار متواصلة متوهجة بهالة حيطة من الضياء، ومن وسطها يتألق مثل النحاس اللامع البارق من وسط النار، ومن داخلها بدا شبهه أربعة كائنات حية تماثل في صورها شبه إنسان، وكان لكل واحد منها أربعة أوجه، وأربعة أجنحة" (سفر حزقيال). موت الشرير كم مره ينطفئ مصباح الأشرار؟ وكم تتوالى عليهم النكبات، إذ يقسم لهم نصيباً في غضبه؟ يصبحون كالتبن في وجه الريح، وكالعاصفة التي تطوح بها الزوبعة. أنتم تقولون: إن الله يذخر إثم الشرير لأبنائه، لا! إنه ينزل العقاب بالأثيم نفسه، فيعلم. فليشهد هلاكه بعينه، وليجرع غصص غضب القدير. إذ ما بغيته من بيته بعد فنائه، وقد بتر عدد شهور حياته (سفر أيوب). كما قال الرئيس (المؤمن) (بوش) في ذكرى أحداث سبتمبر 2001م: إن النور يضئ في الظلمة والظلمة لن تهزمه". وحسب المرجعية التي وضعها السيد (فاينمان) لهذه العبارة، فهي إشارة إلي إنجيل يوحنا، ومأخوذة من كتب اليهود المقدسة حول مجيء المسيح! وعلينا أن نصدق بأن البيت الأبيض محفوف بالملائكة، وأن الرئيس قديس يتخفى في جلد نيرون! (¬1). http://www.aljazeera.net/books/2003/4/ - TOP إعلان الحرب من كاتدرائية إمعاناً في إضفاء المعاني الدينية على سياسته، وإحاطتها بهالة من القداسة، وكأن ما يقوم به ما هو إلا تنفيذاً لإرادة إلهية، عمد الرئيس بوش إلى اللجوء إلى ¬

(¬1) أفق آخر خيري منصور - سانت بوش ـ الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695

الكنيسة لإعلان حربه المقدسة على الارهاب. ففي 13 سبتمبر 2001م جرى تنظيم قداس لا مثيل له في الكاتدرائية الوطنية، وصلى فيها الرئيس بوش وعقيلته، وأربعة رؤساء سابقين ... وجميع الشيوخ والنواب تقريباً. وترأس كاردينال وحاخام وأمام (شيخ) بدورهم هذه الصلاة، وكان إنجيلي التلفزة الأكثر شهره في العالم، القس (بيلى غراهام)، الذي قام بهداية (جورج دبيليو بوش) نفسه قبل خمس عشرة سنه خلت، قد ألقى عظته التي دعا خلالها إلى إعادة البناء على أسس راسخة تقوم على الإيمان بالرب. وبعد هذه العظة، صعد الرئيس (بوش) إلى المنبر، وقدم بدوره عظة كان مستشاره التوراتى الأصولي (مايكل جرسون)، قد أعدها له حيث قال: "إن مسئوليتنا تجاه التاريخ جلية ... علينا أن نرد على هذه الاعتداءات، ونحرر العالم من الشر" (¬1) ... وقد اتسمت هذه العظة بنبرتها الدينية، حيث علقت صحيفة واشنطن بوست عليها، قائلة: منذ تحول مذهب المحافظة الديني إلى حركة سياسية، يتولى رئيس الولايات المتحدة، لأول مره، زعامتها فعلاً ـ وهى زعامة لم يحظ بها قط (رولاند ريغان) نفسه، رغم ما أحاط به المحافظون الدينيون من رعاية. فقد أظهرت المجلات المسيحية والإذاعات والتلفزيونات الرئيس بوش وهو يصلى، بينما كان الخطباء الوعاظ يصفون زعامته بأنها نعمة من عند الرب. وقد شهد موكب من القادة الروحيين ممن إلتقوه على إيمانه، وشجعت بعض مواقع (الويب) الناس على الصوم والصلاة من أجل الرئيس (¬2). وفي الرابع عشر من سبتمبر، التزمت الدول الثلاث والأربعون المنتمية للمجلس الأوربي ودول أخرى، بالوقوف ثلاث دقائق صمت، تحية لذكرى ضحايا الاعتداءات، تلبية لدعوة الرئيس بوش، حيث لم يكن لهجوم مماثل على أي بلد آخر، أن يطلق مثل هذا القدر المتدفق من العواطف، و بدا وكأن العالم كله قد شعر بفقدان البراءة مثل الأمريكيين تماماً (¬3). وكتب (جون ماري كولمباني) عموداً شهيراً ¬

(¬1) الحرب الصليبية - جيمس كارول - ترجمة د. قاسم عبده قاسم - ص48 (¬2) التضليل الشيطاني / تيرى ميسان ـ ص72 (¬3) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص12

بعنوان (نحن كلنا أميركيون) في لوموند بتاريخ 12 سبتمبر 2001م تضامناً مع الأميركيين عقب تفجيرات 11 سبتمبر، وأثار هذا العمود ردود فعل في فرنسا، إذ رأى فيه البعض مبالغة وانسياقاً وراء الإدارة الأميركية (¬1)، التي أضفت، بتحريكها الشعور الديني، طابعاً من القدسية على ضحايا الاعتداءات، وعلى روايتها للأحداث على حد سواء، وغدا بعد ذلك كل طعن بصحة الرواية الرسمية، في العالم أجمع، بمثابة اختراق للقدسيات. وهكذا عبر الجميع عن قبولهم الضمني بزعامة أصولي ملهم، يعلن عن عزمه على تولى قيادتهم في معركة هائلة ضد الشر، مما يعني أن جنون إنجيلي التلفزة، الصوفي السياسي أصبح معدياً! وإلا فلا يمكن تفسير هذا الاندفاع الورع، لا بالصدمة النفسية ولا بالاحترام الذي نكنه للأموات. فبالرغم من أن الولايات المتحدة كانت في الأصل تيواقراطية أسسها عدد من المطهريين الفارين من تعصب التاج البريطاني، إلا أن ذلك لا يعنى أن تصبح أمه متزمتة، يحل فيها انجيليو التلفزة محل الاستراتيجيين العسكريين. فلا وجود على كل حال، لأي سابقة تاريخية تلا فيها رئيس أمريكي إعلان الحرب من داخل كاتدرائية (¬2)، مما يعني أن لحظة الصلاة تلك شكلت نقطة تحول تاريخي، حيث كتبت واشنطن بوست تقول: إن الولايات المتحدة دخلت الحرب حينما دوى النشيد الوطني في أجواء الكاتدرائية. تلك هي ملاحظة يمكن توسيعها، والقول بأن العالم قد دخل الحرب باشتراكه في الجنازة الأمريكية. ¬

(¬1) الكل أميركيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 ـ جون ماري كولمباني- ط1 2002 - الناشر فايار، باريس- عرض كامبردج بوك ريفيوز - الجزيرة نت (¬2) التضليل الشيطاني / تيرى ميسان ـ ص70ـ71

الفصل الرابع أفغانستان .. بدايتها جهاد .. ونهايتها إرهاب

الفصل الرابع أفغانستان .. بدايتها جهاد .. ونهايتها إرهاب إعداد المسرح .. ! لمعرفة طبيعة الحملة التي شنتها أمريكا على أفغانستان، لابد من إلقاء الضوء على خلفية هذه الحملة، والمقدمات التي أوصلت إليها، ابتداء بالغزو السوفيتي لأفغانستان، ومروراً بحركة الجهاد ضده، ووصولاً بطالبان والقاعدة، واحتلال أفغانستان من قبل القوات الأمريكية. ففي سنة 1979م أقدم الاتحاد السوفيتي السابق على غزو أفغانستان واحتلالها. وخوفاً من انتشار النفوذ الشيوعي، مدت الولايات المتحدة يد المساعدة في تنظيم وتسليح المجاهدين، مقاتلي الإسلام في سبيل الله، الذين كانوا سيخوضون حرباً مقدسة ضد الجيوش الشيوعية السوفيتية، التي لا تعرف الله، فيلحقوا بها الهزيمة بعون الله، والأموال الأمريكية وصواريخ ستنغر (¬1)، حيث تقول الحقائق المتوفرة أن كل ما تم في أفغانستان منذ استيلاء الشيوعيون عليها وحتى الآن، كان مخططاً أمريكياً من الألف إلى الياء، والقصة نعرضها كما هي وكما أوردها الأستاذ (محمد حسنين هيكل) في كتابه من نيويورك إلى كابول، على لسان (بريجنسكى) مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس (كارتر). يقول هيكل: "في الساعة الثانية من صباح يوم 27 ديسمبر 1979م انعقد مجلس الأمن القومي بحضور الرئيس كارتر، لبحث الدخول العسكري السوفيثى في أفغانستان، ولاستعراض الخيارات المفتوحة أمام الولايات المتحدة للرد عليه. حيث انتهت مداولات مجلس الأمن القومي الأمريكي برئاسة (جيمي كارتر) صباح 27 ديسمبر 1979م بتوجيه رئاسي، يقضي بأن يتوجه مستشار رئيس الآمن القومي (رنجنيو برجينسكي) إلى منطقة الشرق الأوسط بادئاً بالقاهرة، لمقابلة الرئيس (أنور السادات) والبحث معه في تنظيم جهد إسلامي شامل يساند المقاومة الإسلامية الأفغانية، في مواجهتها لجيش الاحتلال السوفيتي، ثم يتوجه مستشار ¬

(¬1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص137

الأمن القومي بعد القاهرة إلى الرياض، لمقابلة الملك خالد، وولي العهد الأمير فهد، ووزير الدفاع الأمير سلطان، ويجري معهم محادثات تضمن حشد موارد السعودية ونفوذها لقيادة جهاد إسلامي ضد الشيوعية في أفغانستان، وإذا نجح (برجينسكي) في مهمته مع الرئيس السادات، فإنه يستطيع أن ينقل إلى القادة السعوديين ما يطمئنهم إلى أنهم ليسوا وحدهم في ساحة الجهاد. وأخيراً يتوجه مستشار الأمن القومي إلى باكستان ليقوي موقف الحكومة فيها بموارد السعودية ونفوذها، وبثقل مصر ووسائلها، وحتى تثق هذه الحكومة في إسلام أباد أنها سوف تكون وسط عمل إسلامي يلتف فيه من حولها، ويجمع على أرضها قوى الإسلام وإمكانياتها. وكان ذلك حلم باكستان، الذي بدأ بعيد المنال والآن أصبح في متناول اليد. ويضيف هيكل: وطوال الأسبوع الأول من شهر يناير 1980م كان (زنجينيو برجنسكي) مستشار الرئيس (جيمي كارتر) للآمن القومي في زيارة سرية ممتدة للشرق الأوسط. ففي يوم 3 يناير قابل الرئيس (أنور السادات) لمدة ثلاث ساعات ونصف الساعة، وفي اليوم التالي 4 يناير كان في جدة يقابل الأمير فهد والأمير سلطان، ويوم 5 يناير وصل (برجنسكي) إلى إسلام أباد، ليرتب الأرضية للجهاد باسم الإسلام ضد الإلحاد (¬1). وبالرغم من هذا التحرك الأمريكي لتجنيد دول إسلامية للجهاد ضد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، إلا أن المؤامرة الأمريكية كانت سابقة على الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، وبالذات بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، حيث تلقت المخابرات الأمريكية تكليفاً من د. بريجنسكي مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي، بتحضير وإعداد دراسة شاملة حول الحركات الإسلامية في جميع أنحاء العالم العربي .. حتى تعرف الإدارة الأمريكية أفضل الأساليب للتعامل معها، حتى لا تتكرر مفاجأة الثورة الإسلامية في إيران (¬2). ¬

(¬1) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص 241 (¬2) صلاة الجواسيس - عادل حمودة ص97 - الفرسان للنشر - ط11 2003

بريجنسكى يكشف المستور

بريجنسكى يكشف المستور كشف بريجنسكي أخيراً عن تفاصيل أكبر لحقيقة الحرب في أفغانستان، وكيف أنها بدأت حتى قبل الاحتلال السوفيتي. وقد كشف عن ذلك في سياق الحقائق، التي تكشف أخيراً، أن (برجنسكي) كان يتستر عليها بأستار سميكة من الغموض، ولكنه أخيراً فتح خزائن ذاكرته وأوراقه، واعترف في حديث طويل مع المجلة الفرنسية (لا توفيل أوبسرفاتور) (¬1) اعترافاً كاملاً وافياً، وقد جرى الحديث بالنص التالي: سؤال: إن المدير السابق لوكالة المخابرات الأمريكية (روبرت جيتس)، كتب في مذكراته، التي صدرت أخيراً بعنوان (من الظلال) أن المخابرات الأمريكية بدأت تساعد المجاهدين في أفغانستان بشكل مكثف، قبل ستة شهور من دخول الجيش السوفيتي إلى ذلك البلد، وقد كنت أنت في تلك الأيام مستشاراً للأمن القومي، لرئيس الولايات المتحدة، معنى ذلك أنك تعرف، وأنه كان لك دور، فهل ما ذكره جيتس صحيح؟. برجينسكي: ليس بالضبط .. نحن لم نقم بـ زق الروس حتى يتدخلوا، ولكننا عارفين بما نفعل .. رفعنا درجة احتمال تدخلهم. سؤال: هل معنى ذلك أن الروس كانوا على حق في تبرير دخولهم في أفغانستان على أساس أنهم اضطروا لمواجهة عملية سرية تقوم بها الولايات المتحدة ضدهم؟ كانوا يقولون ذلك ولم يكن أحد يصدقهم، والآن يظهر أن فيما قالوه شيئاً من الحقيقة. ذلك أمر يدعو إلى الأسف. ¬

(¬1) اجريت المقابله في يناير عام 1998 واعيد طباعتها تحت عنوان " كيف انشأت والرئيس كاتر المجاهدين- بريجنسكي - اعيد طبعه على موقع شبكة Counter Punch في 8 اكتوبر 2001. راجع كتاب "ما وراء 11 سبتمبر (مختارات معارضة) - تحرير فل سكراتون - تعريب د. ابراهيم يحيى الشهابي - راجعه وفيق زيتون - ص 35 - الحوار الثقافي - ط1 2004

برجنسكي: الأسف على ماذا؟ إن العملية السرية التي قمنا بها كانت فكرة رائعة، لقد أدت إلى دخول السوفيت في فخ تمنينا أن يدخلوا في مثله .. وقد دخلوا .. فهل تريدون أن أقول لكم أنني آسف على مخطط وضعناه ونفذناه ونجح بامتياز؟ (¬1). سؤال: هل تعرف أن ذلك معناه أنكم أعطيتم السلاح للإرهابيين، الذين أصبحوا أعداء لكم؟ ... إنكم خلقتم بذلك صورة الإسلام الإرهابي. برجنسكي: أيهما أفضل للغرب انهيار الاتحاد السوفيتي، أو ممارسة الإرهاب بواسطة بعض الجماعات الإسلامية؟ أيهما أخطر على الغرب طالبان أو الاتحاد السوفيتي؟ (¬2). وجواب بريجنسكي واضح، حيث كانت هزيمة السوفييت بالنسبة للأمريكيين أهم، مما قد تشكله الجماعات الإسلامية من خطر. فهي من ناحية، إثباتاً وتبريراً لعقيدة ريغان المتمثلة بتشجيع المقاومة المسلحة للأنظمة الشيوعية، وإذلالاً مؤكداً للسوفييت مقارنة مع ما عاناه الأمريكيون في فيتنام، ومن ناحية أخرى كان لهزيمة السوفييت في أفغانستان عواقبها، التي انتشرت في المجتمع السوفييتي ومؤسساته السياسية، وساهمت بشكل عظيم في تفكك وانهيار الإمبراطورية السوفييتية. فقد هزم السوفييت في نهاية المطاف بسبب ثلاثة عوامل، حيث لم يستطيعوا أن يجاروا بشكل فعال ـ أو علي الأقل يتعادلوا مع تقنية الحرب الأمريكية، ولا أن يواجهوها. أما السبب الثاني فكان الأموال السعودية، بينما تمثل السبب الثالث في الأعداد الضخمة من المسلمين وحماسهم للقتال (¬3). يقول بريجنسكي: "يوم تدخل الروس بجيشهم في أفغانستان كتبت للرئيس كارتر مذكرة قلت له فيها: إن أمامنا الفرصة الآن لكي نجعل الاتحاد السوفيتي يذوقون مرارة الكأس التي شربناه في فيتنام. والحقيقة أننا ولمدة عشر سنوات، جعلنا الروس ينزفون دماً ولا ينزفون جهداً فقط، فهم حين دخلوا أضروا باقتصادهم ¬

(¬1) يبدو أن الإدارات الأمريكية المختلفة مغرمة بمثل هذه العمليات السرية ومنذ زمن طويل، وسيتضح لنا كيف أن أحداث 11 سبتمبر ما هي إلا عملية سرية نفذتها الإدارة الأمريكية لخلق مبرر لحملتها الصليبية على العالم الإسلامي. (¬2) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص 243 (¬3) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 3/ 2/2003 م

وأرهقوا سلاحهم وأضعفوا معنويات جنودهم، وأضروا بهيبتهم، وذلك أدى في النهاية إلى تمزق الإمبراطورية السوفيتية" (¬1). ويوضح الأستاذ محمد حسنين هيكل الأمر أكثر، بقوله: "فالعملية كما اتضح الآن، كان وراءها أكثر مما ظهر منها، لأن الجهاد الإسلامي الذي أعلن ضد الاتحاد السوفيتي لم يكن رد فعل طبيعياً لدخول الجيش السوفيتي، وإنما كان خطوة وسط في سياق جرى قبلها واستمر بعدها. كانت الخطوة الأولى قراراً أمريكيا بإزعاج السوفيت في جمهورياتهم الجنوبية، من قواعد في أفغانستان، حيث أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بدأت التحريض ضد الاتحاد السوفييتي باسم الإسلام ومن وراء حدود أفغانستان، بينما النظام الملكي يحكم في كابول، والعرش عليه الملك (ظاهر شاه) والسلطة الحقيقية في يد ابن عمه، ورئيس وزرائه السردار داود خان. وقد أدى التحريض إلى قلاقل أوصلت إلى عزل الملك (ظاهر شاه) وجاءت بـ (داود خان) لرئاسة الدولة في محاولة لتهدئة التحريض ولم تنجح" (¬2). هذه هي قصه الحملة الأمريكية في أفغانستان، وقصة ما سمي بالجهاد الإسلامي، وما أفرزه من تنظيمات وجماعات إسلامية كان على رأسها تنظيم القاعدة، الذي أصبح بقدرة قادر العدو الأول لأمريكا. ففي حين أن العدو الحقيقي للعرب والمسلمين كان الاغتصاب الإسرائيلي في فلسطين، فإن العمل العربي والإسلامي ذهب للجهاد في أفغانستان مقاتلاً ضد الإلحاد المادي، الذي دخل من بوابات (كابول)، وكانت الخطط الأمريكية محكمة، والإشراف الباكستاني حازماً يشرف عليه رئيس المخابرات العسكرية الباكستانية الجنرال (حميد غول)، والتمويل الخليجي سخياً، وحشد السلاح وتجنيد المتطوعين شديد الهمة والعزم. وتقول كافة الشواهد أن شباباً عربياً مسلماً أضاع نفسه وهدفه وحياته في حرب لا معنى لها، ضد طرف لم تثبت عداوته للعرب ولا للمسلمين، لكنه اتهم بالإلحاد واختص بالعقاب، رغم وجود كثيرين غيره في عالم ضاع فيه الكثير من اليقين. فسقط شباب كثيرون ـ مسلمون وعرب ـ في هذه الفجوة بين الجهاد والإرهاب، وخرجوا من زمنهم ومن المستقبل، ¬

(¬1) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد ـ ص 33 (¬2) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص130

سيناريو جاهز

وكانت الأنظمة التي أرسلتهم إلى الجهاد ضد الإلحاد، هي نفسها الأنظمة التي استقبلتهم حين عودتهم إلى بلادهم بإيداعهم وراء قضبان السجون، بتهم ثابتة في بعض الأحيان، وبشكوك مستريبة مقدماً في أحيان أخرى (¬1). سيناريو جاهز في ظل التوجهات الأمريكية منذ عقدين من الزمان، والتي اتخذت الإسلام كعدو بديل، في استراتيجيتها الكونية، وسعت جاهدة لخلق وتضخيم الخطر الإسلامي لإقناع العالم بتوجهاتها العدائية تجاه الإسلام، فإنه لم يكن صدفة أن تلجأ الإدارات الأمريكية المتلاحقة إلى تضخيم هذا الخطر، بل وتشارك في صناعته، عن طريق استخدام بعض الحركات الإسلامية ورموزها، لتحقيق هذا الهدف. وأي مراجع ومدقق لبعض الحركات الإسلامية أو الأصولية ـ كما تسميها أمريكيا ـ سيكتشف أنها في غالبيتها نشأت وترعرعت بمباركه أمريكية (¬2). فقد نجحت وكالة الاستخبارات الأميركية في الثمانينات في تجنيد متشددين إسلاميين، وتنظيم صفوفهم في حرب ¬

(¬1) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص 131 (¬2) نشرت جريدة الشعب المصرية دراسة "حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامى" التي أعددتها بعد أحداث 11 سبتمبر حيث علقت عليها بالقول: " تنشر الشعب هذا البحث الذي ورد إليها، وهو يكشف إلي أي حد سيطرت الخرافة والأسطورة على كثير من صناع القرار في الغرب، ومنهم رؤساء للولايات المتحدة الأمريكية. البحث في عمومه جيد، لولا الأخطاء الحتمية التي يقع فيها من يتناول الشأن الإسلامي بمرجعية غير إسلامية، وعلي سبيل المثال فإن البحث الذي تصدي لكشف مدى انحراف الفكر الغربي، المتعلق بمنطقتنا، لا يتورع عن تبنى مقولاته ومقولات عملائه، من أن الولايات المتحدة هي التي صنعت الإرهابيين ومولتهم كي تستعملهم كذريعة بعد ذلك في الهجوم علي العالم الإسلامي وتدميره. وهي مقولة خاطئة، ويترتب علي الاقتناع بها أن نوغل في مزيد من الخطأ. التصور الصحيح للمسألة، أن أمريكا، كممثلة للغرب، وطليعة له، قد استطاعت أن تؤمن في معظم دول المنطقة، حكاما عملاء، وبتعبير ريتشارد نيكسون في كتابه " انتهزوا الفرصة"، أنهم ليسوا سوي وكلاء للولايات المتحدة في حكم شعوبهم .. وأن معظم من يطلقون عليهم الإرهابيين، هم الفئة المجاهدة التي رأت المخاطر المحدقة بالأمة، وحاولت أن تقاوم انجرافنا للهاوية، وقد كلف الغرب الوكلاء المحليين بمحاولة القضاء عليها، كما كلفت إسرائيل، وعندما عجزوا، جيش الغرب جيوشه كلها للقيام بالمهمة. لن نقول أن قصور البحث في تناول هذه النقطة لا ينال منه، لكننا في نفس الوقت نؤكد على أهمية وغزارة المعلومات الواردة فيه، وخطورتها". جريدة الشعب ـ مصرـ 12/ 10/2001م ـ ومع احترامي الشديد لكاتب هذا التعليق، الذي افترض بأنني اكتب بمرجعيه غير إسلامية، فإنني اعتقد انه غير رأيه الآن بعد تكشف كثير من الحقائق عما يسمى بتنظيم القاعدة، وتكشف الدور الخطير الذي لعبه ولا يزال يلعبه في خدمة المخططات الأمريكية.

عسكرية ضد القوات السوفياتية في أفغانستان، والحكومة الشيوعية الأفغانية المتحالفة معها. وكانت الولايات المتحدة حسب (بريجنسكي) تسعى لاستدراج الروس إلى الفخ الأفغاني، وكانت ردة فعل كارتر ـ الرئيس الأمريكي الأسبق ـ على الغزو السوفياتي لأفغانستان مبنية على تأويل مغلوط للقرار الروسي بالتدخل. وبالنسبة للريغانيين الذين استلموا الحكم بعد كارتر، فقد كان الهدف الوحيد لديهم هو استنزاف الروس والتشهير بالسوفيات لدى الرأي العام، وكانت النتيجة المباشرة تدمير أفغانستان، وحصول تداعيات أشد سوءا بعد انسحاب الروس. فبعد الانسحاب السوفياتي من افغانستان، استولت حركة (طالبان) -التي تدرب أعضاؤها على أيدي الباكستانيين- على كابول (1994) ثم على القسم الاكبر من البلاد، حيث تلقت الحركة دعماً عملياً من الولايات المتحدة حتى العام 2001. وبحسب بعض المصادر فان مسؤول وكالة المخابرات المركزية الاميركية في اسلام اباد، قام بزيارة كابول عام 1996 للاجتماع بزعماء طالبان. وقد نجم عن حرب افغانستان المأسوية عقدين كاملين من الإرهاب والحرب الأهلية. ملايين اللاجئين وتجارة مخدرات غير خاضعة للرقابة، اضافة إلى ثقافتي الكلاشنيكوف والجهاد، حيث تم توجيه بعض الجهاديين نحو كشمير و الشيعة وغيرهم من الاقليات في كل من افغانستان وباكستان، فيما اندفع قسم آخر منهم إلى دول عربية واسلامية اخرى، ثم انتقل الإرهاب إلى داخل الولايات المتحدة نفسها، وذلك لخلق حالة عامه من عدم الاستقرار في المنطقة ولابراز الخطر الإسلامي الذي يهدد السلم العالمي. فقد كانت سنوات حكم ريغان سنوات اقتصاد ضعيف، ولم يستفد من النمو إلا الأغنياء، وأصاب الركود الأجور الفعلية، وزادت ساعات العمل. والحال أنه ليس من السهل الاحتفاظ بالسلطة السياسية في ظروف كهذه، وثمة طريقة واحدة صالحة ومعروفة، هي بث الخوف. وقد استخدم هذا الأسلوب طوال عهد ريغان، ثم بوش، حيث دأبت القيادة على اختلاق الشياطين الواحد تلو الآخر لإرهاب السكان وحملهم على الإذعان (¬1). ¬

(¬1) الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم ـ نعوم تشومسكي ـترجمة سامي الكعكي ـ بقلم/ إبراهيم غرايبة29/ 7/2004م

فأفغانستان عدوة اليوم، كانت قبل فتره حليف يتلقى الدعم من أمريكيا بكل الوسائل، والأفغان العرب الذين تطاردهم أمريكيا والحكومات العربية اليوم، هم حلفاء أمريكا بالأمس القريب ... الخ. وهذا يعني أن ما قامت به أمريكيا في السابق ما هو إلا عملية تجهيز للمسرح وللمعركة الفاصلة بين قوى الخير وقوى الشر كما يسمونها، حيث تم إعداد المسرح بالكامل منذ فترة، وتم توزيع الأدوار، ولم يتبقَ إلا إشعال فتيل الحرب، والذي تمثل في تفجيرات نيويورك وواشنطن، والذي نؤكد أن الذين قاموا بهذا العمل الجبان هم من داخل أمريكيا، ومن الجماعات المسيحية الأصولية ـ وما أكثرها في أمريكيا ـ والتي تسعى إلى استعجال العودة الثانية للمسيح، والتي لابد أن يسبقها حسب اعتقادهم معركة فاصلة تسمى هرمجيدون بين قوى الخير، ممثلة بأمريكا وإسرائيل، وبين قوى الشر، ممثلة بالعالم الإسلامي وروسيا ودول أخري. وبالرغم من إدراكنا لخطورة الحروب الدينية، وأنها ليس في مصلحة أي طرف، إلا أننا لن ندس رؤوسنا في التراب وكأن الأمر لا يعنينا، بل يجب توضيح هذا الأمر للرأي العام وفضح المخطط الأمريكي الرهيب الذي يسعى إلى زج العالم الإسلامي، بل العالم أجمع في صراع ديني رهيب، لتنفيذ نبوءات وخرافات توراتية مزيفه. فديننا الإسلامي يحثنا على الوقوف في وجه الظلم، وعلينا واجب يجب أن نقوم به من أجل إفشال هذا المخطط الرهيب، ليس فقط لحماية الإسلام والمسلمين، بل وأيضاً لتجنيب العالم بأسره، وأمريكيا بالذات ويلات هذه الحرب التي يريدها الساسة الأمريكان حرب عالمية ثالثة، أو ما يسمونها هرمجدون أو المحرقة الكبرى، التي يباد فيها ثلثي الجنس البشري، ليتحقق ما يسمونه العصر الألفي السعيد، ويعود المسيح إلى الأرض ويحكم العالم من مقره في القدس. إنها خرافات ونبوءات رهيبة، ولكنها للأسف هي التي تحكم أمريكا الآن، وترسم سياستها الخارجية تجاه المنطقة والعالم، والمصيبة الكبرى، أن الاعتقاد بهذه الأمور ليس قاصراً على جماعات دينية متطرفة، بل يشمل غالبية صناع القرار في أمريكيا، من وزراء ورؤساء أمريكيون وقادة وجنرالات في وزارة الدفاع. وقد بينا سابقاً، كيف أن الرئيس الأمريكي السابق (رولاند ريجان) كان من أشد المؤمنين بهذه

قبيلة الإستراتيجيين الأمريكيين والإبقاء على السيطرة على العالم

الخرافات؟. أما إدارة (بوش الابن) فكلها من اليمين المتشدد، التي تتميز ـ ليس فقط بانتمائها للتيار الأصولي المسيحي ابتداء من الرئيس ونائب الرئيس ووزير الدفاع، وعدد آخر من أقطاب الحكومة، بل والأخطر من ذلك هو غلبة التركيبة العسكرية لهذه الإدارة، حيث تعتبر من أكثر الإدارات في تاريخ ـ أمريكيا، التي تضم عسكريين بين صفوفها حيث بلغ عددهم أكثر من 30 عسكرياً مما يدل على التوجه العدواني والشرير لهذه الحكومة، والتي ستجر العالم إلى حروب مدمرة. فوزير الدفاع رامسفيلد، كان سبب اختياره لهذا المنصب ـ كما أشار (د. برهان غليوم) في مقابله مع قناة الجزيرة (¬1) ـ هو اطروحه قدمها لوزارة الدفاع الأمريكية، رسم فيها سيناريو الحرب بين قوى الخير والشر، والتي ستؤدى إلى معركة هرمجيدون، حيث لم يكن مصادفة أن يدعى أن جماعات إسلامية بقيادة أسامه بن لادن، ستقوم بالهجوم على نيويورك بواسطة الأقمار الصناعية، وتتسبب في أحداث دمار في المدينة، مما يتطلب رد أمريكي كبير على ذلك!!؟؟ قبيلة الإستراتيجيين الأمريكيين والإبقاء على السيطرة على العالم في تحليله للمقاربات النظرية للإستراتيجية يقترب (ألان جوكس) في كتابه (إمبراطورية الفوضى) من (تحقيق أنثروبولوجي في قبيلة الإستراتيجيين الأمريكيين)، موضحاً أن هم هؤلاء هو كيفية الإبقاء على السيطرة الأمريكية على العالم؟ ويقول إن سنة 1993م شهدت ميلاد ثلاث مقاربات استراتيجية لعالم ما بعد الحرب الباردة. أولها: (صدام الحضارات) لهيتنغتون الذي يعتبر من أبرز المنتجين للمقاربات لصالح المؤسسة السياسية العسكرية رغم انتمائه للمدرسة الواقعية، فإنه لا يؤمن بأولية الدول ـ الأمم كهويات إستراتيجية حقيقية في العلاقات الدولية، فأطروحته حول صدام الحضارات تقول بالصراع بين الحضارات، وليس الدول، وبالتحديد بين الحضارة الغربية والحضارتين الإسلامية، والصين، مع الإصرار على ضرورة منع أي ¬

(¬1) لقاء مع د. بهام غليوم مع قناة الجزيرة

توافق بينهما حتى لا تعملا سوياً ضد الحضارة الغربية. وينتقد الكاتب أطروحة هيتنغتون وتصنيفه للحضارات، بإقصائه الأرثوذكس من الحضارية الغربية، بدعوى أنهم ليسوا من الكاثوليك ونظرته التبسيطية للإسلام. ويعتبر أن هم هيتنغتون في حقيقة الأمر هو كيف يمكن تقسيم العالم للسيطرة عليه؟. ثانيها: (الثالوث التوفلري) أي الصدام بين الأمواج الثلاث للحضارات (الزراعية والصناعية والمعلوماتية) حيث تعتبر (ألفين وهادي توفلر) أن هذه الأمواج هي بنية عالم اليوم، وحسب (ألفين) و (هايدي توفلر) فإن (الحرب المعلوماتية) ـ بل حرب المعرفة ـ كـ (حرب الموجة الثالثة)، تأتي من ظهور الإليكترونيك الذي يحدث ثورة تكنولوجية ثالثة في تاريخ الإنسانية. ويقول المؤلف: إن مقاربتهما هذه تعتبر أن الأمواج الثلاث هي التي تطبع عالم اليوم حيث تتعايش فيما بينها بين موجة سفلى (الزراعية)، وموجة متوسطة (الصناعية)، وموجة عليا (المعلوماتية). ثالثها: وآخرها مقاربة (أنطوني ليك)، مستشار الأمن القومي لكلينتون الذي طرح مقاربة (التوسع) أو التوسيع، لتحل محل (الاحتواء)، التي عُمل بها خلال الحرب الباردة. ومقاربة التوسيع تخص مجالين، اقتصاد السوق (ضد الاقتصاد الموجه)، والديمقراطية التمثيلية (ضد الأنظمة التسلطية والاستبدادية). ويقول المؤلف: إن مقاربة (ليك) الذي لاحظ تزايد عدد الديمقراطيات، مقاربة (توسيع العالم الحر) هي عملية هجومية، ولكن اقتصادية، على عكس مقاربة الاحتواء، التي كانت دفاعية عسكرية. ورغم عالميتها، تعمل مقاربة (ليك) وفق إطارات جغرافية مختلفة. حيث يقسم (ليك)، العالم إلى قسم البربرية، وقسم الحضارة. فالديمقراطية والسوق يوجدان في الشمال، بينما يغيبان في الجنوب ما عدا بعض الاستثناءات. لكن هناك فرقاً في هذا التقسيم بين الدولة غير الديمقراطية، والدولة الاستبدادية، مثل العراق الذي تتحكم فيه أمريكا عبر الحصار الاقتصادي والتهديد العسكري، وبين اللادولة الحربية مثل الصومال. أما المنطقة الوسطى الأساسية فتتشكل من البلدان غير الديمقراطية، والتي تحاول انتهاج ليبرالية اقتصادية، ونجد ضمنها الصين والعالم الإسلامي عامة، وهما القطبان الثقافيان لهيتنغتون .. وينادي (ليك) في حال الدول

اللجنة الثلاثية واستراتيجيتها للقرن الحادي والعشرين

الاستبدادية بضرورة عمل أحادي أمريكي كلما اقتضى الأمر ذلك، وألاّ ترتبط أمريكا بالقيود التي تضعها الأمم المتحدة (¬1). اللجنة الثلاثية واستراتيجيتها للقرن الحادي والعشرين دفعت اللجنة الثلاثية بكثير من أعضائها ليصبحوا رؤساء أمريكيين. فمنذ إنشائها عام 1973م، كان كل من الرؤساء (كارتر)، (بوش)، و (كلينتون) من أتباع اللجنة الثلاثية. وأثناء اجتماع لهذه اللجنة الثلاثية في 19/ 3/1999م في واشنطن دي. سي، قدم (روبرت زوليك)، وهو متحمس آخر للصهيونية، تقريراً بعنوان استراتيجيات اللجنة الثلاثية للقرن الحادي والعشرين: في السلم أو الحرب، دعا فيه إلي التهيؤ لمواجهة نزاع عسكري مع الصين. وهذا يجب أن يفسر السبب في نشر القواعد العسكرية والقوات في الدول المجاورة للصين في آسيا الوسطي وأفغانستان، بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، كجزء من الخطة الرئيسية للنظام العالمي الجديد والتي حبكت خيوطها قبل أحداث 11 أيلول (سبتمبر). وعقد الحزب الجمهوري مؤتمره للبرنامج السياسي كما سيكون في عهد الرئيس بوش الصغير في فيلادلفيا في3/ 8/2000م، حيث احتضن سياسات النظام العالمي الجديد، وهي ذات السياسات التي عبرت عنها اللجنة الثلاثية، حيث وقد أصبح مبدأ صراع الحضارات هو المعتقد الرسمي لهم. وسوف يلاحظ من الاقتباسات التي سنوردها علي لسان مهندسي هذا النظام العالمي الجديد، أن هناك إجماعاً علي مبدأ ينص علي عدم السماح لأية حضارة أو مجموعة من الحضارات الكبيرة، والدول التي تمثلها أن تصل إلي حالة الدولة العظمي. لقد تمكن الاعتداء الأمريكي علي أفغانستان وآسيا الوسطي من دقّ إسفين فرقة بين القوي غير الغربية الأخرى، مثل: الصين، روسيا، الهند واليابان، بحيث لا يكتب لها أن تتواصل فيما بينها أبداً. وقد تحققت هذه الرغبة الأمريكية بسرعة البرق في خلال بضعة أشهر بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، وهذا سبب آخر يدعونا ¬

(¬1) إمبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة -ألان جوكس

أزمة كيسنجر الاقتصادية تتطلب حربا

إلي الإيمان بأن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) كانت أكثر من مجرد صدفة أو حدث عابر (¬1). أزمة كيسنجر الاقتصادية تتطلب حرباً (¬2) يعرض كيسنجر في كتابه (هل تحتاج أمريكا سياسة خارجية؟ نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين) الميلادي للجدل الذي دار في أميركا حول الإستراتيجيات القادمة، والتعامل مع المرحلة الجديدة بعد انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وسيادة تقنية المعلومات والاتصالات. وينبغي أن تقرأ هذه السياسات والأفكار التي يقترحها كيسنجرمرتين، إحداهما في ضوء افتراض أن أحداث سبتمبر لم تقع. والثانية مع تداعيات الأحداث وتفاعلاتها، وربما سيجد القارئ، وكأن هذه الأفكار هي برنامج اقترحه كيسنجر بعد الأحداث، أو أنها مراجعة للسياسات الأميركية والمواقف التي أدت إلى الأحداث. بالطبع ليس المقصود هنا هو أن (هنري كيسنجر) كان على علم مسبق بتنفيذ العملية، لكنه، ولا ريب، من الأشخاص المستعدين لاستغلال مثل هذه الأزمة لتحقيق أهداف مدروسة ومخطط لها مسبقاً. في كتابه هذا يجتر (كيسنجر) ولعه (بالتفكير الجيوبوليتيكي)، الذي يدعي أنه قد تم إهماله أثناء إدارة الرئيس (كلينتون)، ويتم إحياؤه الآن في عهد الرئيس جورج بوش الابن. فهو يجاهر بأن "لجيوبوليتيك لم يختف بعد كجزء من السياسات العالمية، ويطرح (إستراتيجيات جيوبوليتيكية) لآسيا وروسيا وأجزاء أخرى من العالم. فكيسنجر يشعر بالذعر، لأن النظام الاقتصادي العالمي يتأرجح بدون سيطرة، وأن ذلك سيحول جميع مخططاته الكبرى إلى حطام. فهو لا يخفي فزعه من أن هذه الأزمة ستدفع دولا مثل البرازيل في أمريكا الجنوبية، وجنوب أفريقيا، وآسيا، إلى ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم -القدس العربي- 28/ 2/2003م (¬2) هل تحتاج أمريكا سياسة خارجية؟ نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين- هنري كيسنجر- إصدار: نيويورك: سايمون أند شوستر 2001 - عرض: مارك بوردمان (كاتب بمجلة إكزكتف إنتلجنس ريفيو) - السويد - حسين النديم- 2001/ 10/18 - http://www.islamonline.net/arabic/economics/2001/10/article6.shtml

قلب شروط اللعبة، وهي شروط تمكن هو ورفاقه في المؤسسات المالية ـ السياسية الأنجلو أمريكية من فرضها على العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. في مثل هذه الحالة النفسية والعقلية، لا يكون أمام (كيسنجر) إلا الحل الوحيد الذي طالما لجأ إليه في الأوقات العصيبة، وهو: إشعال حرب وتأسيس نظام دكتاتوري عالمي لإدارة الأزمة. أما بؤرة اهتمام هذه البنية الحربية فهي كالعادة الوضع المتفجر في الشرق الأوسط. من البدايات الأولى للكتاب يبين (كيسنجر) قلقه من الوضع الاقتصادي العالمي، ويتناقض هذا القلق مع محاولاته كيل المديح للعولمة، وطبيعة القوة الأمريكية التي لا تقهر، فيحذر قائلا: "إن الأزمة الاقتصادية العالمية هي أكبر تهديد للديمقراطية المعاصرة". ثم يضيف: "إن وقوع أزمة مالية مهمة أخرى في آسيا أو في الديمقراطيات الصناعية، سيعجل بالتأكيد جهود دول آسيوية للحصول على سيطرة أكبر على مصائرها السياسية والاقتصادية عن طريق خلق بديل آسيوي للنظام الإقليمي الحالي". ويضيف: إن بروز تكتل آسيوي معاد يضم مزيجًا من أكثر دول العالم كثافة بالسكان (الصين والهند)، وأكثرها وفرة في الموارد الطبيعية (روسيا وآسيا الوسطى) وأكثرها تقدمًا من الناحية الصناعية (اليابان) لن يكون في المصلحة القومية لأمريكا". ويتذمر كيسنجر ويضطرب حين يفكر باحتمال أن يقلب "الهبوط الحاد" في الولايات المتحدة جميع أمنياته بخلق اتحاد التجارة الحرة للأمريكتين، واتحاد التجارة الحرة عبر الأطلنطي. وتصل حالة الذعر إلى ذروتها في الفصل السادس من الكتاب بعنوان (سياسات العولمة)، حيث يحذر (كيسنجر) في هذا الفصل من أن "العملية التي أنتجت ثروات أعظم في أجزاء من العالم من أي وقت مضى، قد تؤدي هي ذاتها إلى توفير آلية لنشر أزمة اقتصادية واجتماعية حول العالم. وكما كان الاقتصاد الأمريكي يمثل الماكينة العالمية للنمو، ستكون لهزة كبرى في الاقتصاد الأمريكي نتائج وخيمة على الاقتصاد في كل مكان". في هذا السياق يدلنا هوس (كيسنجر) بالجيوبوليتيك إلى أنه وأصدقاءه يبحثون عن حرب، حيث يصر على تشابه حالة الشرق الأوسط مع أحوال حرب الثلاثين عاماً الأوربية في القرن السابع عشر الميلادي، وهذا يعنى أن (كيسنجر) يقول: إن وقوع حروب جديدة هو أمر لا مفر منه، لا .. بل ومرغوب أيضًا، أي إننا يمكن

بريجنسكى ورقعة الشطرنج العظمى

أن نشهد حرباً دينية كحرب الثلاثين سنة الدينية، التي شهدتها أوروبا، مما يعني وجود مخاطر انزلاق حقيقية خاصة تلك المتعلقة بصراع الحضارات (¬1). وبالرغم من أن نظرة كيسنجر إلى مستقبل آسيا ليس بنفس قسوة وصراحة نظرته إلى الشرق الأوسط، لكن النظرة الكيسنجرية، تقول بأن الحرب تلوح في أفق آسيا أيضاً. فهو يشبه الوضع في آسيا اليوم بالوضع في القرن التاسع عشر الميلادي. فآنذاك كانت السياسة الناجحة الوحيدة هناك هي سياسة (موازنة القوى) التي مارستها الإمبراطورية البريطانية. لذلك على الولايات المتحدة اليوم ممارسة سياسات "موازنة القوى" لمنع ظهور تجمع مناهض لأمريكا في آسيا، أو في أوراسيا عمومًا. وإذا قارنا ظهور التحالف الأورآسيوي بين الصين ودول آسيوية أخرى وروسيا، وبعض الدول الإسلامية من جهة، وعملية التعبئة الجارية للأساطيل الأمريكية والبريطانية لدق إسفين في وسط القارة الأورآسيوية من جهة أخرى، فإن الصورة ستتضح أكثر في ضوء ما يقوله (كيسنجر). فالقضية التي تهم (كيسنجر)، هي منع ظهور بديل سياسي ـ اقتصادي حقيقي وقوي على هذه القارة الشاسعة، يستبعد أمريكا وبريطانيا عندما ينهار نظام العولمة المالي والنقدي الذي تسيطران عليه. فليس أمام الولايات المتحدة سوى الحرب لاسترداد سيطرتها وهيبتها، وتحولها إلى إمبراطورية كونية (لا تحتاج إلى سياسة خارجية) أو دبلوماسية. وقد قدمت عملية ضرب مركز التجارة العالمي، والبنتاجون يوم 11 سبتمبر الذريعة المناسبة للقيام بذلك. فكل من ينظر إلى حجم التعبئة العسكرية والسياسية، التي تقوم بها أمريكا يدرك أن القضية أكبر من (أسامة بن لادن) و (طالبان) إنها "حرب .. طويلة .. طويلة". بريجنسكى ورقعة الشطرنج العظمى في كتابه (رقعة الشطرنج العظمى) الذي صدر عام 1997م يقدم بريجنسكى رؤيته الجيوستراتيجية المثيرة، والجريئة، لتفوق أمريكا خلال القرن الواحد والعشرين. فالمسألة المركزية لتحليله هي كيفية ممارسة القوة على القارة الاوراسية (أوروبا وآسيا)، فهذه القارة هي الأضخم في العالم، من حيث السكان، ¬

(¬1) َفرْطُ الإرهاب: الحرب الجديدة - فرانسوا هايزبور ومؤسسة البحث الإستراتيجي- كامبردج بوك ريفيوز.

والموارد الطبيعية، والنشاط الاقتصادي. فأوراسيه هي رقعة الشطرنج العظمى، التي سيتم عليها الإقرار بتفوق أمريكا وتحديه في السنوات القادمة. يقول بريجنسكي: إن الجائزة الكبرى التي حازت عليها الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة هي أوراسيا، وبصفتها القوة العظمي الوحيدة الآن، فإن بإمكان الولايات المتحدة أن تسيطر علي مقدراتها، فلن يسمح لأية قوة عظمي أو تحالف قويً مثل روسيا، الصين أو الهند بالسيطرة عليها. وقد نقل الكاتب الأمريكي (مايكل روبرت) مؤلف كتاب (عبور الحد) ان بريجنسكي قال قبل هجوم 11 سبتمبر بأربع سنوات، إنه إذا لم تهاجم أميركا كما هوجمت في بل هاربر فإن الشعب الأميركي لن يؤيد العمل العسكري في وسط آسيا والشرق الأوسط للسيطرة على المنطقة (¬1). ويبدو أن هذا هو الهدف المنشود الذي كان وراء أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، وقد تحقق فعلاً (¬2). فبريجنسكى يرى أن المهمة التي تواجه الولايات المتحدة، ما هي إلا مهمة إدارة النزاعات والعلاقات في أوروبا واسيا والشرق الأوسط، بحيث لا تبرز أية قوة عظمى منافسه تهدد المصالح والرفاه الأمريكي. فقد ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن العشرين الميلادي على أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم من حيث أنها امتلكت ما لم تمتلكه أية أمه أخرى من قوة عسكرية واقتصادية. ولفت مصالحها العالم دون أن يكون لها نظير في التاريخ. ومع ذلك يبقى السؤال الحاسم دون جواب: ماذا ينبغي أن تكون إستراتيجية أمريكا العالمية للحفاظ على موقعها الاستثنائي في العالم؟ فهذا السؤال الذي يعالجه السيد بريجنسكى في هذا الكتاب. فبعد أن تنبأ (بريجنسكى) بسقوط الشيوعية في كتابه الإخفاق الكبير الصادر عام 1988م، ها هو يتنبأ ويعد بعالم متعدد الأقطاب، مع تجنب التنبؤ بمن ستكون تلك القوى التي لا محال ستكون الولايات المتحدة إحداها. فهو يقصى أهم مرشحي اعتلاء مكانة القوة العالمية، وهما روسيا والصين والاتحاد الأوربي، في حال كانت وجهة كل واحد منها وجهة لا تروق لأمريكا. وهذا التصور المتناقض الذي يطرحه ¬

(¬1) أجراس الخطر .. الحقيقة وراء 11 سبتمبر ج3 - قناة الجزيرة برنامج سرى للغاية- مقدم الحلقة: يسري فودة- تاريخ الحلقة: 22/ 9/2005 (¬2) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم -القدس العربي- 28/ 2/2003م

مجموعة الهوس الديني / المحافظون الجدد

بريجنسكي لمستقبل توازن القوى سيوقعنا في مطب طالما كان هاجس القرن المنصرم (ماذا تكيد أمريكا للعالم؟)، حيث كان هناك من يجابهه هذا التساؤل في القرن الماضي. أما في القرن الحالي فهل يقف العالم كله متفرجاً على ما ستفعله أمريكا رافعاً يديه إلى السماء داعياً أن يكون ما ستفعله خيراً (¬1). مجموعة الهوس الديني / المحافظون الجدد هكذا أصبح الأصوليين في شبكة القاعدة، الذين تحولوا لإرهابيين يواجهون رئيساً أمريكيا متهماً بما هو أكثر من انتقام عنيف، حيث رد بوش مراراً بهجوم علني انطلاقاً من الكتاب المقدس على الشر والأشرار، وتشاور مع أصدقاء شعروا أن الرب اختارهم لقيادة الأمة في ردها، بل وفي لحظة صراحة زائدة وصف بوش الرد الأمريكي على هجمات سبتمبر بأنه (حملة صليبيه) (¬2). وهنا فإنه من الخطأ الاعتقاد بأن هذا الجنون الأمريكي، قد بدأ مع وقوع أحداث 11 سبتمبر 2001م، فمن الثابت أن المشروع الإمبريالي الأمريكي كان موجوداُ وممارساً، فقط أدت الأحداث الإرهابية يوم 11 سبتمبر إلى تسريع عجلته مع تسخين الرأي العام الأمريكي لقبوله (¬3). فهجمات 11 سبتمبر لم تفجر فقط مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاجون، ولكنها فجرت أيضاً الهوس الكامن داخل العقل الباطن للمجتمع الأمريكي، والذي كانت تخفيه غلاله رقيقة اسمها: الحياة على الطريقة الأمريكية. وهذه الغلالة لم تخف سوى الصديق والحليف الأمريكي، التي ظهرت الآن بوضوح بعد أن طار برجان من عقله!! ونتيجة تحريض حكومي وإعلامي مستمر طوال 24 ساعة يومياً بإلحاح لا مثيل له، على وجدان الشعب الأمريكي .. تفجرت الرغبة المسعورة في الانتقام، ممن؟ ليس مهماً .. المهم الانتقام والضرب بعنف. لذا أعلن الرئيس بوش الحرب من قبل أن يحدد من هو العدو الذي سيحاربوه!! بل بدأوا بالهجوم على ابن لادن وحركة طالبان، التي تحميه دون تقديم دليل واحد يؤكد تورطه أو مسئوليته! طوفان ¬

(¬1) رقعة الشطرنج العظمى - زبيغنييف بريجنسكى - ترجمة سليم أبراهام ص 5 - -دار علاء الدين سوريا- ط1 2001 (¬2) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 196 (¬3) الانحياز الأمريكي لإسرائيل ـ دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 207.

الهوس الأمريكي هو طوفان بلا حدود .. وقد انطلقت منه موجات وموجات .. وهي لن تتوقف. وهي ليست بالطبع في مجال التصديق أو الاستجابة لدى المؤمنين بالله وبقضائه وقدره .. لكن المشكلة هي أن الأمريكيين يصدقونها ويؤمنون بها بشدة (¬1). وهنا يلاحظ الكاتب والروائي البريطاني (جون لوكاريه) أن الولايات المتحدة تشهد موجة من الجنون، هي الأسوأ بين كل ما شهدته في تاريخها، حيث كانت مجموعة الرئيس الأمريكي (جورج بوش) في مرحلة السعي لتبرير حرب شاملة مجنونة، وقد وجدت في أحدث 11 سبتمبر فرصة لهذه الحرب المخطط لها قبل سنوات عدة. فقد كانت الإدارة الأمريكية محاطة بمجموعة من الأزمات الكبيرة، مثل شرعية رئاسة بوش، وانهيار شركة إنرون ذات الصلة بالمسئولين الأمريكان الحاليين، وانحياز الإدارة الأمريكية للشركات الكبرى العملاقة، وعدم اكتراثها بفقراء العالم والبيئة والمعاهدات الدولية، ثم الانحياز المطلق لإسرائيل، الذي أوقع الولايات المتحدة في خروقات عدة لميثاق الأمم المتحدة وقراراتها. وقد أتاحت أحداث 11 سبتمبر الفرصة لحرب تريدها الإدارة الأمريكية وتخطط لها، وجاءت هذه المرة بدعم شعبي كبير، وبموازنة إضافية هائلة (360 مليار دولار). ولكن لعل الجانب المقزز في الحرب الاستعمارية الأمريكية، والهيمنة الأمريكية على العالم بما في ذلك أوروبا هو النفاق الديني، الذي يغطي به المحافظون الجدد إرسال الجنود إلى القتال، وتعميم فكر سوريالي مثل أن الله أوكل إلى أميركا إنقاذ العالم، وكل من يجرؤ على المساءلة سيجد نفسه في تهمة لا يستطيع الخروج منها، كالعداء للسامية، والعداء لأميركا، والإرهاب (¬2). ووفق هذه الرؤية فان دور (ملاك الرب) الذي تضطلع به أميركا لا بد أن يكون مزدوجا: يد ممدودة لمصافحة الأصدقاء والأوفياء، قبضة حديدية لردع الأشرار وحصرهم في معقل شرهم، (فأما معنا وإما مع الإرهاب)، حسب تعبير (بوش الابن) ¬

(¬1) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص189 - دار الاحمدى للنشر - الطبعة الأولى 2003 (¬2) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ ـ جان بودريار وآخرون- ترجمة بسام حجار-ط1 2003 - الدار البيضاء، المركز الثقافي- الجزيرة نت

ولا مكان لمنزلة ثالثة، هذه الرؤية توفر مساحة كبيره من الرضا الأخلاقي عن النفس، فهي لا تفعل سوى أنها تؤدي واجبها. وباستثناء الهزيمة المذلة في فيتنام (60 ألف قتيل أمريكي)، فإن أمريكا يطيب لها أن تتصور أنها تؤدي دور (الشريف) في أفلام الكاوبوي، وتفخر دوما بنتائج تدخلاتها بدءا من الفلبين، التي احتلتها منذ 1899م لتحررها من الحكم الطاغوتي الأسباني ولتحبوها منذ 1935م بأول دستور ديمقراطي في تاريخها وتاريخ آسيا، ومرورا بألمانيا النازية، التي حررتها من نظامها النازي، ونزعتها العسكرية المزمنة، وانتهاء باليابان التي أجبرتها ـ لصالحها ـ على أن تكون ديمقراطية وتحديثيه على الطريقة الغربية، وهي كما تفخر بتدخلاتها العسكرية، تفخر بتدخلاتها الاقتصادية، فحصارها للدول الإبليسية الممثلة بمحور الشر (حصر دودة الشر) في شرنقتها (¬1). ولكن دور ملاك الرب هذا، التي تحاول أمريكا الإضطلاع به قديماً وحديثاً، بدأ ينكشف كذبه وخداعه ووحشيته، بعد تكشف الجرائم الأمريكية الكثيرة، التي ارتكبت باسم الحرية والديمقراطية، حيث بدأ العالم يدرك أن أمريكا تدار من قبل عصابة عنصرية متطرفة وجشعه. و http://www.aljazeera.net/books/2003/7/ - TOP مطالعة محدودة في سيرة بوش ومجموعة الإدارة المحيطة به، تكشف مدى تورطهم في فساد الشركات الكبرى العملاقة، التي تبحث عن حرب جديدة تنقذ الخسائر التي تتعرض لها، وتغطي على الفضائح والفشل سياسياً وإعلامياً. http://www.aljazeera.net/books/2003/7/ - TOP وهنا تتحدث مقالة نشرت في صحيفة اللوموند الفرنسية عن المجموعة المحيطة بالرئيس الأميركي بوش، والتي تمثل النفوذ في البيت الأبيض، وهم الأشد حماساً للحرب على الارهاب، ويؤيدون الليكود الإسرائيلي بشدة وتقول: "إن عددهم ليس كبيراً، ولكن البيت الأبيض يصغي لما يقولون، من بينهم (بول ولفويتز)، الرجل الثاني في وزارة الدفاع الأمريكية، والباحثة (لين تشيني) زوجة ديك تشيني نائب الرئيس بوش. وهناك ثلاثة شخصيات لا تتحدث عنها وسائل الإعلام كثيرا، ولكنهم الأكثر أهمية في صوغ السياسات الأمريكية والتفكير السياسي، وهم (إيرفنغ كريستول)، و (غاري باور)، و (ريتشارد بيرل)، وهذا الأخير يرأس مجلس السياسات الدفاعية، وهي الهيئة الاستشارية لوزارة الدفاع الأمريكية، ¬

(¬1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص1،4ـ1،5 - دار النفائس - ط1 2003.

وقد وصفته الصحافة بأنه بطل الحرب الباردة، وكان نائب وزير الدفاع في عهد ريغان، وكان يقود ويوجه سياسات ريغان المحافظة، والتي ينتمي إليها المحافظون الجدد المحيطون ببوش، وهو مقرب من الليكود الإسرائيلي. أما (كريستول) فيبلغ الثالثة والثمانين من العمر، ويعمل في المعهد الأمريكي للمشاريع، أحد أبرز معاهد تيار المحافظين الجدد، ويعتبر (كريستول) عراب هذا التيار. أما (غاري باور) فهو يقود الأصولية المسيحية حول بوش، ويرأس مجموعة القيم الأمريكية، التي تدير عدة كنائس بروتستانتية متنفذة وقوية، وقد كان (باور) أحد مستشاري الرئيس الأمريكي الأسبق (دونالد ريغان)، ويرأس أحد أهم اللوبيات وأكثرها نفوذا في السياسة الأميركية، وهو لوبي حماية الأسر العاملة (¬1) ان المحافظون الجدد هم اناس "متحمسون وحضورهم دائم لخوض معارك جديدة، ويقاتلون بفرح واندفاع .. انها كوكبة من الرجال والنساء صنعها التاريخ، وصاغتها الافكار، اعتقدوا بسلطة الافكار في حين كانت اوروبا تعلن موت الايدولوجيات، كان عندهم ثقة بالموهبة الأمريكية الخارقة، اذ الكل يعتقد ان لأمريكا مهمة عليها اتمامها، وانه تحمل القيم العالمية المتكيفة والملائمة لرغبات الشعوب .. يحق للمحافظين الجدد التكبر على الاخرين، اذ تمكنوا بعد اعتداءات ايلول عام 2001، بعدة اشهر من السيطرة على السياسة الأمريكية، كان عندهم تفسير جاهز للافعال الارهابية واذا كان صحيحا انهم لم يتوقعوا حدوثها فإنهم اطلقوا تنبيهات وانذارات" علينا الا نترك انفسننا ننام عند نهاية الحرب الباردة، لنبقى يقظين، انه من المبكر، ان يتم التحدث عن مغانم السلام، لان هناك مخاطر جديدة تهددنا" (¬2). . ¬

(¬1) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ ـ جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجارـ الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي (¬2) أمريكا المسيحانية (حروب المحافظون الجدد- الان فوشون، دانيال قرنه- ترجمة موريس شربل - ص 5 وما بعده - دار الجليس -جروس برس طرابلس 2005

بول ولفويتز والنظام العالمي الجديد

بول ولفويتز والنظام العالمي الجديد عين (ولفويتز) نائباً لوزير الدفاع في إدارة الرئيس بوش الابن، وعمل وكيلاً لوزارة الدفاع زمن الرئيس بوش الأول حين كان ديك تشيني يشغل منصب وزير الدفاع. وهو معروف جداً علي أنه أحد مهندسي النظام العالمي الجديد الرائدين، حيث صرح (ولفويتز) في الإرشاد الذي قدمه حول التخطيط الدفاعي، والذي يتعامل مع النظام العالمي الجديد: إن هدفنا الأول هو الحيلولة دون نشوء منافس جديد سواء في أراضي الاتحاد السوفييتي سابقاً، أو في أي مكان آخر يمثل تهديداً كذلك، الذي كان يمثله الاتحاد السوفييتي. علينا أن نبذل جهداً جباراً في السياق ذاته لنمنع أية قوة عدوانية من السيطرة علي هذه المنطقة، التي تكفي مصادرها، إذا ما تضامنت معا بشكل جيد، لتوليد قوة عظمي. وتشمل هذه المنطقة أوروبا الغربية، شرق آسيا، وأراضي الاتحاد السوفييتي سابقاً، وجنوب غرب آسيا. لذا فإن النظام العالمي الجديد يدعو إلي الحفاظ علي القوة الأمريكية أحادية الجانب. فالقوة الأمريكية أحادية الجانب هذه في شكل إمبراطورية أمريكية، تتطلب من الولايات المتحدة أن تظهر روح القيادة اللازمة لتأسيس وحماية نظام جديد يحمل في طياته الوعد بإقناع منافسينا المحتملين بأنه لا يتعين عليهم، ولا حاجة لهم، بأن يلعبوا دوراً أكبر من الذي يلعبونه الآن، أو أن يسعوا إلي معاداة الآخرين حتي لو كان ذلك في سبيل حماية حقوقهم ومصالحهم الشرعية (¬1). إستراتيجية إمبريالية كبرى في حين أن الولايات المتحدة ستسعى باستمرار للحصول على دعم المجتمع الدولي، فإننا لن نتردد في التحرك وحدنا، إذا ما اقتضت الضرورة، لممارسة حقنا في الدفاع عن النفس بالتصرف استباقياً. إن البشرية اليوم تمسك بيديها الفرصة لتحقيق انتصار أكبر للحرية على جميع هؤلاء الأعداء. وترحب الولايات المتحدة بمسؤوليتها للقيادة في هذه الإرسالية العظيمة (التي تؤكد على رسالتنا). ولكن ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم -القدس العربي- 28/ 2/2003م

الحرب غير المتوازنة

مسؤوليتنا أمام التاريخ واضحة: أن نرد على جميع هذه الهجمات، والتخلص من الشر العالمي". (هذا الكلام منقول) عن استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة (2001، ص6، المقدمة، وص5) (¬1). هكذا تصدرت الأجندة العالمية في خريف عام 2002م إعلان أقوى دولة في التاريخ، نيتها الحفاظ على هيمنتها، سواء من خلال التهديد بالقوة المسلحة أم باستخدامها فعلاً، وهو بعد من أبعاد السيطرة والسلطان. وجاء في الصياغة الخطابية الرسمية للإستراتيجية: "يجب أن تكون قواتنا قوية بما فيه الكفاية لثني الخصوم المحتملين عن مواصلة بناء قوة عسكرية بأمل مضاهاة القوة الأمريكية أو تجاوزها". وهي حالة يجب أن تكون بنظر الإدارة الأمريكية دائمة، بحيث يتعذر على أية دولة أو مجموعة دول أن تتحدى في أي وقت الولايات المتحدة كزعيم للعالم يبسط حمايته، وينفذ إرادته بالقوة. ومن شأن هذه المقاربة أن تجعل المعايير الدولية الخاصة بالدفاع عن النفس والمكرسة، في المادة (51)، من ميثاق الأمم المتحدة، عديمة المعنى. وتؤكد الإستراتيجية الإمبريالية الكبرى على حق الولايات المتحدة في شن حرب وقائية على هواها ـ وقائية وليس استباقية ـ أي أن الحرب يمكن أن تكون لإزالة تهديد محتمل، أو مختلق وملفق، وهي حروب وأعمال تندرج في خانة جرائم الحرب (¬2). الحرب غير المتوازنة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أواخر إدارة بوش الأول، وجدت المؤسسة الدفاعية الأمريكية نفسها فجأة أمام سؤال وجودي. ما المنطق المحدد الكامن وراء الاحتفاظ بالقوات الأمريكية الجبارة والكبيرة مع الإبقاء على الميزانيات اللازمة لذلك في غياب (إمبراطورية الشر)؟ وهنا طلب ديك تشيني (¬3) وقد كان وزيراً للدفاع من مساعد وزير الدفاع (بول ولفوفيتز) أن يقوم بالتعاون مع رئيس الأركان (كولن باول)، بإعداد خطة لاستراتيجية دفاعية أمريكية جديدة ... وقد المح (باول) للاستراتيجية الجديدة في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب عام 1992م بقوله: "إن الولايات المتحدة بحاجه إلى قوة كافية من أجل ردع أي متحد عن ولو مجرد التفكير، بتحدينا على المسرح العالمي". وأضاف "أريد أن أكون فتوة الحارة" حتى لا يكون ثمة مستقبل لمن يخطر بباله أن يحاول تحدي قوات الولايات المتحدة المسلحة (¬4). وهكذا فقد كانت الولايات المتحدة تحضر نفسها نظرياً منذ حرب الخليج .. لشيء جديد تصورته بعض مجموعات الخبراء القريبة من القوات البرية أو البحرية. إذ اعتبرت هذه المجموعات أن التفوق المطلق الذي حققته أمريكا بفضل تحكمها في الثورة الإليكترونية في مختلف المجالات (العسكرية، والفضائية، والاقتصادية والمالية)، سيقود مع العولمة، إلى آثار لا تحتمل. وظنت أن الدول والشعوب والطبقات المضحى بها، سوف تتحرك عبر مناورات غير منتظرة، "قد تأخذ في بعض الأحيان شكل الإرهاب، (سلاح الضعفاء). هذا الهجوم المعاكس سيتطلب من أمريكا قوة ابتكار متزايدة تحسباً لوضع كهذا، وفي خضم هذا التصور ولد المفهوم الأمريكي العام لـ (الحرب غير المتوازية) " (¬5). ¬

(¬1) الجذور الإنجيلية للأحادية الأمريكية اليمين المسيحي وكيفية مواجهته -بقلم: دوان أولدفيد: أستاذة مشاركة في العلوم السياسية في جامعة نوكس. قدمت نسخة هذا البحث في الاجتماع السنوي لجمعية العلوم السياسية الأمريكية الذي انعقد في الفترة ما بين 28ـ31 آب/2003.- مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية (¬2) الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم ـ نعوم تشومسكي ـ ترجمة سامي الكعكي ـ بقلم/ إبراهيم غرايبة29/ 7/2004م (¬3) اعتقد إن ديك شينى ـ وهو من أكثر أعضاء إدارة بوش يمينية وتطرفاً ـ هو المخطط الرئيسي لأحداث 11 سبتمبرً، حيث اختفى بعد الأحداث مباشرة ولمدة أكثر من أربعة اشهر بحجة الخوف على حياته. واعتقد انه كان يشرف بنفسه على أداره هذه العملية المعقدة وتبعاتها، كما سيتضح لنا ذلك. (¬4) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص34 (¬5) إمبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة ـألان جوكسكامبردج بوك ريفيوز

وفي كتابه (من نيويورك إلى كابول)، يوضح الأستاذ محمد حسنين هيكل الأمر أكثر، بقوله: "كنت على معرفة بأن هناك نوايا وخططاً فرغت الإدارة الحالية في الولايات المتحدة من ربيع هذا العام 2001م من بلورتها، وهي على وشك أن تطرحها للتنفيذ على اتساع قارات العالم، وفيها المنطقة التي تعنينا أكثر من غيرها، وهي في منطقة الشرق الأوسط. وبالفعل فقد كنت اطلعت على نصوص تقرير رئاسي أمريكي بشأن استراتيجية جديدة جرى اعتمادها من جانب الإدارة الأمريكية لمستقبل العمل في هذه المنطقة. والتقرير عبارة عن خلاصة موجزة لتقدير الموقف الذي وقعه (ويليام كوهين) وزير الدفاع الأمريكي في الإدارة السابقة، وأقره رئيسها (بيل كلينتون) على هيئة توجيه رئاسي، ثم راجعه (دونالد رامسفيلد) وزير الدفاع الحالي، وأقره (جورج بوش) على هيئة توجيه رئاسي ملزم، يرى أن المخاطر المحتملة على الولايات المتحدة وأمنها ومصالحها لها مصادر محددة ومعروفة". * دول مارقة وعت درس حرب الخليج، وأصبح جهدها موجهاً إلى العثور على نقاط ضعف أمريكية، عسى أن تنفذ منها وتستغل وتضرب. * دول صديقة وهنت قواها حتى أوشكت على الإفلاس، مما يعرضها للسقوط، ومع أن الولايات المتحدة لا تسمح بهذا السقوط، فهي في الوقت نفسه لا ترى وسيلة للمساعدة على منعه. * إرهاب وصل إلى مرحلة العولمة في نفس وقت وصول مجتمعات الدول إلى مرحلة العولمة، وهو ما أطلق عليه التقرير اسم الحرب غير المتوازنة" (¬1). ولم تكن هيئة التقديرات في البنتاجون وحدها، التي وصفت الأخطار الجديدة وصكت لها تعبير (الحرب غير المتوازنة) بل تابعتها هيئة أركان حرب القوات الأمريكية، ورئيسها الجنرال هنري شيلتون، الذي قدم تقريراً تحدث عن شكل الخطر القادم، بدا وكأنه يشير صراحة وقبلها بسنتين إلى صواعق النار والدمار التي نزلت على نيويورك وواشنطن يوم الثلاثاء 11 سبتمبر 2001م، حيث جاء في التقرير وهو يحاول تعريف الحرب غير المتوازنة قوله: ¬

(¬1) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص 140

"الحرب غير المتوازنة، هي محاولة طرف يعادي الولايات المتحدة أن يلتف من حول قوتها، ويستغل نقط ضعفها معتمداً في ذلك على وسائل تختلف بطريقة كاملة عن نوع العمليات التي يمكن توقعها. وعدم التوازن يعني أن يستغل العدو طاقة الحرب النفسية، وما يصاحبها من شحنات الصدمة والعجز، لكي ينتزع في يده زمام المبادرة وحرية الحركة والإرادة، وبأسلوب يستخدم وسائل مستحدثه وتكتيكات غير تقليدية، وأسلحة وتكنولوجيات جرى التوصل إليها بالتفكير في غير المتوقع، وغير المعقول، ثم تطبيقه على كل مستويات الحرب من الإستراتيجية، إلى التخطيط، إلى العمليات، بعرض أفق عليه بدائل طار إليها خيال لا يخطر على البال منطقياً ولا يطرح نفسه عملياً في التقديرات التي نستطيع تصورها. وكان ما توقعه رئيس هيئة أركان الحرب المشتركة للقوات الأمريكية المسلحة الجنرال (هنري شيلتون) هو بالضبط ما وقع 11 سبتمبر الأخير (¬1). فالسيناريو جاهز ليس فقط لدى وزارة الدفاع، التي يمثلها المتطرف رامسفيلد، بل إن وزارة الخارجية كان لديها المعرفة بهذا المخطط، هذا بالرغم من أن البعض يحاول جاهداً تقسيم الإدارة الأمريكية إلى صقور وحمائم، واضعاً الجنرال (باول) في صف الحمائم، ومتناسين عن عمد وسبق إصرار، جرائمه في العراق أثناء حرب الخليج الثانية. ففي منتصف يوليو 2001م، لجأ الوفد الأمريكي إلى المفاوضات المتعددة الأطراف حول مستقبل أفغانستان، إلى التهديد بعد أن تأكد له فشل هذه المفاوضات، وحسب ما أورده سفير باكستان السابق في باريس، (نيازنايك)، والذي شارك في تلك المفاوضات، فإن الأمريكيين أعلنوا أنهم سيحتلون أفغانستان في منتصف أكتوبر وأنهم سوف يقلبون نظام طالبان. وفي بداية سبتمبر 2001م وتحت غطاء المناورات السنوية في بحر عمان، عمدت بريطانيا إلى القيام بأكبر انتشار لأسطولها وحشدت قواتها مقابل السواحل الباكستانية، في حين نقل حلف الأطلسي، بمناسبة مناورات النجم الساطع التي أجراها في مصر، أربعين ألف جندي إلى منطقة النزاع. وهكذا فان القوات الأنجلو أمريكية، كانت قد اتخذت مواقعها في المنطقة، قبل الاعتداءات. ¬

(¬1) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص 114 - 115.

أما عن الحرب على الإرهاب، فإن هيئة الأركان العامة الأمريكية، كانت قد أعدت لها مطولاً من خلال إجرائها لمرتين على التوالي، ما تسميه القتال الشامل. وضبطت الإجراءات التكتيكية أثناء ما جرى مؤخراً ضمن هذا الإطار في يوليو 2000 م. لكن المناورة الصورية المبرمجة أصلاً لشهر يونيو 2001م كان قد تم إلغاؤها. وهو الأمر الذي تم تفسيره من قبل الضباط المعنيين على أنه علامة انتقال إلى العملية الوشيكة الوقوع (¬1) التي بدأت باغتيال أحمد شاه مسعود قائد التحالف الشمالي في أفغانستان قبل التفجيرات بيومين فقط، أي في 9 سبتمبر علي يد عملاء للمخابرات بعد رفضه التام لأي محاولة للتحالف مع الولايات المتحدة أو غيرها لإسقاط طالبان، فتم قتله، ليفتح الباب أمام من هو مستعد للتحالف، وهو ما حدث بالفعل!! ومما يؤكد أن هذه العملية من تدبير أمريكي، هو أنه في مثل هذه الأحداث يقوم المسئولون بتقديم استقالتهم، والاعتراف بتقصيرهم، ولكن الذي حصل في أمريكا فهو العكس، حيث لم يجر أيه تغيير أو استقالة، بل تضخمت سلطات بعض المسئولين، وبالذات (دولاند رامسفيلد) (وجورج تنت)، والمفترض أن يكونوا أول المقصرين، حيث أن الأمر لم يقتصر على عدم عزل مدير السي. آي. إي، عقب انكسار الحادي عشر من سبتمبر الفاضح، بل إن الإعتمادات المخصصة للوكالة زيدت على الفور بما نسبته 42% ضماناً لحسن تنفيذ مخطط الهجوم العالمي (¬2). كما أن (تنت) بدأ يتصرف وكأنه رئيس دوله، يزور الدول، ويلتقي الرؤساء ويضع خطط السلام، وكأن الرئيس (بوش) يريد مكافأته على قيامه بالدور الموكل له على أكمل وجه. فالسيناريو جاهز ومعد مسبقاً، ولم يبقَ إلا التنفيذ، حيث نجزم أن الهجوم على نيويورك وواشنطن قامت به مجموعه من الانتحاريين المهووسون من اليمين المتطرف، لتعجيل العودة الثانية المسيح، لأنه بدون هرمجيدون لا توجد عودة للمسيح حسب اعتقادهم (¬3). وبالرغم من إدانتنا الشديدة للتفجيرات التي هزت أمريكيا والعالم، وقناعتنا بضرورة معاقبة المسئولين عنها، إلا إننا يجب أن لا ننساق ¬

(¬1) التضليل الشيطاني / تيرى ميسان - ص 64 - 65 (¬2) التضليل الشيطاني - تيري ميسان ص151 - - دار الوطنية الجديدة - دمشق 2002 (¬3) سنلقى مزيد من الضوء على هذه الجماعات في هذا الكتاب.

مغزى أحداث 11 سبتمبر

وراء الرغبة الأمريكية الجامحة في تجيير الحادث الأليم، لجر العالم إلى حروب مدمره لا يعلم مداها إلا الله. مغزى أحداث 11 سبتمبر اعتبر جل المراقبين أن مأساة 11 سبتمبر تمثل الدخول في قرن جديد. فبعد الاحتفال سنة 2000م، بحلول القرن الـ 21 سرعان ما عادت بنا الأمور إلى الواقع لتظهر لنا أن العولمة ليست حتماً سعيدة، إذ ضرب الإرهابيون أميركا في رموز قوتها العسكرية والاقتصادية، وهذا يعني أن مغزى هذه الأحداث، ووقعها العالمي، يمكن مقارنتها من حيث أثرها على تطور العالم بسقوط جدار برلين. فواقع التغير الحقيقي الذي قادت إليه هذه الأحداث قد يتجاوز بكثير الإدراك الحالي لانتقال العالم إلى مرحلة جديدة تحت وقع الإرهاب. وجراء هذا البعد غير المعهود لعمليات 11 سبتمبر، حدثت (وثبة نوعية) في الإرهاب الدولي. والجديد في هذا البعد للإرهاب، يكمن أساساً في طريقة التنفيذ (¬1). فـ (الثلاثاء الأسود) جاء في الوقت الذي بدأ فيه العالم الخروج من مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث كان هناك "تزامن بين هجوم 11 سبتمبر، وهذا التطور الأساسي, والتفاعل بين الاثنين كانت له تداعيات عميقة على النظام العالمي" (¬2). وبالرغم من أهمية معالجة الظروف الدولية الناجمة عن عمليات 11 سبتمبر الإرهابية حصراً، إلا أنه من المهم حتى هذا التاريخ مراجعة الوضع بعد مرور سنوات على حرب الخليج، والظروف المثيرة لمجيء بوش للسلطة، مما عطل عملية السلام الإسرائيلية ـ الفلسطينية، وتوجه الحلف الأطلسي نحو آسيا الوسطى، عبر الوثيقة المؤسسة بين الحلف وروسيا، والممارسات القمعية لنظام طالبان .. كل هذا كان ينذر بمشاكل في ملتقى شرق ـ غرب/ شمال ـ جنوب الشرق أوسطي. كما أن أوروبا بدأت ¬

(¬1) الكل أميركيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 - المؤلف: جون ماري كولمباني ـ كامبردج بوك ريفيوز (¬2) َفرْطُ الإرهاب: الحرب الجديدة تأليف/ فرانسوا هايزبور ومؤسسة البحث الإستراتيجي- كامبردج بوك ريفيوز

كقوة متعددة وملتقى القارات، تشكل على الأرجح قطب المقاومة الأساسي لهذه الإمبراطورية الأمريكية، لأسباب بنيوية، ليس فقط أيديولوجية، بل سياسية وأمنية أيضاً، حيث يعتبر دور فرنسا في أوروبا كبيراً ذلك أن فرنسا تعتبر مجالاً للوعي السياسي، الذي سيشكل جمهورية أوروبا القادمة". كما أنه في ظل التصور الأمريكي، في إشارة إلى مسألة الحرب والسلام عالمياً، فإن الحروب اليوم تبدو وكأنها كلها تقاد كـ (حروب قمع دول ليبرالية ضد الإرهاب). وهذا يعود إلى المجهود الإعلامي لأمريكا، التي تلزم حلفائها بأن يعبروا عن تضامنهم بعبارات غريبة بل وغير معقولة تتوافق والنظرة الأمريكية للعالم الخارجي ... وبما أن الإرهاب ليس خصماً، ولكن شكلاً من العنف السياسي فقط، فإن القضاء عليه ليس هدفاً سياسياً .. بإمكانه أن ينتهي بنصر وسلام، لاسيما وأن الأعمال المكافحة للإرهاب مرتبطة دائماً بإرهاب الدولة أو الإمبراطورية، وخروقات حقوق الإنسان. وهذه الإجراءات تعد ـ أيضاًً ـ مصدراً للمقاومات الأكثر تطرفاً، وللإرهاب، مما يقوي من دوامة العنف دون محاربة أسبابه (¬1). وهنا يتساءل المفكر الفرنسي (جاك دريدا) حول ما تؤول إليه مفاهيم العقل والديمقراطية والسياسة والحرب والإرهاب، عندما تنتهي سيادة الدول أو تنتقص، وهو ما تقوم به الولايات المتحدة مستخدمة قوتها العالمية الضاربة. والواقع أن ما تقوم به الولايات المتحدة والدول المتعاونة معها، وما تزعمه هذه القوى من رعاية للقانون الدولي، وما تتخذه من ذرائع لشن الحرب على بعض الدول، تجعل الولايات المتحدة برأي دريدا في طليعة الدول المارقة (¬2). وهل ان نظام طالبان يحظى باحترام العالم، ويرقى إلى مرتبة النموذج الذي يحتذى، عندما اختارته أميركآا للنزال؟!. أم هو استعراض للعضلات، واختيار لأرض محروقة، أو بنية ضعيفة أدنى إلى أن تكون دمية أو قطعة أثرية مجتلبة من المتحف، لردع من تسوِّل له نفسه أن يعترض، ولتحقق ¬

(¬1) إمبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة -ألان جوكسكامبردج بوك ريفيوز. (¬2) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ - جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجار-الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي

الحرب على الإرهاب ـ ضرب أفغانستان

مقاصد بعيدة على طريقة عصا موسى؛ يتوكأعليها ويهشُّ بها على غنمه، وله فيها مآرب أخرى؟ (¬1). الحرب على الإرهاب ـ ضرب أفغانستان قال (جورج بوش) في التقرير القومي، الذي أعلنه في 20 سبتمبر 2001 م: "حربنا على الإرهاب تبدأ بالقاعدة، لكنها لا تنتهي عندها. لا يجب أن يتوقع الأمريكيون معركة واحدة، بل حملة طويلة لا سابق لها على كل بلد، وكل منطقة. الآن الاختيار: أما أن تكونوا معنا، وأما أن تكونوا مع الإرهابيين .. على أن الكفاح ليس كفاح أمريكا وحدها .. انه كفاح العالم بأسره .. انه كفاح حضارة. وأضاف: "أن الولايات المتحدة لن تسمح لأي طرف بأن يتحدى تفوقها العسكري بمثل ما كانت الحال في الحرب الباردة، ولن تنتظر الولايات المتحدة قدوم التهديد إليها، ولو كمجرد احتمال، وإنما هي التي ستذهب إليه لضربه عسكرياً على نحو استباقي" (¬2). وإذا أخذنا في الاعتبار التصريحات التي عرضنا لها سابقاً حول الحرب الإستباقية، والحرب غير المتوازنة، فإن هذا يعنى أن البداية المعلنة للحرب على ما يسمى بالإرهاب لم تكن في 11 سبتمبر، بل أنها كانت خطة مرتبة ومعدة منذ زمن طويل، للتحول إلى إمبراطورية، والعودة إلى الإمبريالية، وإخضاع الدول التي تهدد الولايات المتحدة للاحتلال المباشر أو الوصاية. حيث أعيدت صياغة الرأي العام الأميركي، ليتقبل أي تنازل عن الحريات والحقوق الشخصية المقدسة، وعن أي قيمة أخلاقية. وهنا يقول منسق شؤون الإرهاب (فرانسيس إكس تايلور) في مقدمة التقرير الأميركي السنوي عن الإرهاب في العالم: "إن الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة على الإرهاب دبلوماسية، وإستخباراتية، وقانونية، وعسكرية، واقتصادية". وقد أمكن إقامة تحالف عالمي ضد الإرهاب يضم 150 دولة، وشملت الحرب 189 ¬

(¬1) أمريكا و الارهاب- ص 5 - موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة ا الإنترنت- http://www.awu-dam.org (¬2) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق- نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص23.

دولة، وجماعة، وهيئة، وفرداً، جمدت أصول أموالهم، وقامت دول عدة بتعديل قوانينها، لتمنع تمويل الإرهاب وفقاً للرؤية الأميركية التي اعتبرت، فيما اعتبرت- مساعدة أسر شهداء فلسطين تشجيعاً للإرهاب. وعرضت 136 دولة مساعدات عسكرية على الولايات المتحدة، ومنحت 89 دولة حق التحليق للطائرات العسكرية الأميركية، ومنحت 76 دولة حق الهبوط لهذه الطائرات، ووافقت 23 دولة على استضافة القوات الأميركية وقوات التحالف المشاركة في حرب أفغانستان، وعززت 55 دولة المجهود الحربي الأميركي (¬1). وهكذا لم يتأخر رد الفعل الأميركي على أحداث 11 سبتمبر، وجاء بثماره بقلب نظام طالبان، الذي كان يحمي أسامة بن لادن. فيما اتفق على حل سياسي في أفغانستان بجمع القبائل الأفغانية، ولكن (مراحل) أخرى من الحرب على الإرهاب كانت قادمة (¬2)،حيث بدأت أميركا في عمليات مواجهة شاملة مع من اعتبرتهم مسئولين عن أحداث تدمير برجي مركز التجارة العالمي، دون الدخول في تدقيق قضائي، وأثارت جوا من الكراهية ضد المسلمين، لأنها كانت تشعر بالحاجة إلى البحث عن ضحية أي ضحية، لتغطية الفشل الإستخباري في اكتشاف الحدث، وخلفياته وتداعياته. فالقضية لم تكن عقاب مجرم تثبت جريمته بالطريقة القضائية، بل هي مسألة يراد منها تنفيذ أكثر من مخطط سياسي (¬3)، حيث فرضت الولايات المتحدة في حربها على أفغانستان والقاعدة، ثم في حربها على العراق، نظاماً عالمياً جديداً يستثني الشرعية الدولية، ولا يقيم وزناً لهيئة الأمم المتحدة، ويفرض مفاهيمها للإرهاب، مع أن مفهومها للإرهاب ليس واضحاً، أو محدداً، بل هو خاضع لمواقف يومية ورؤى متغيرة تتناقض في ما بينها، وعلى العالم أن يتبعها في نزواتها وتناقضها وجهلها (¬4). ¬

(¬1) سفر الموت .. من أفغانستان إلى العراق (وثائق الخارجية الأميركية) - محمود المراغي-ط1 2003 - دار الشروق، القاهرة- الجزيرة نت (¬2) الكل أميركيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 - المؤلف: جون ماري كولمباني- كامبردج بوك ريفيوز (¬3) المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي-المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله- عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت- ط1 2003 - رياض الريس للكتب والنشر، بيروت (¬4) المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي-المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله- عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت

فتقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب، اعتمد المادة الثانية والعشرون من القانون الأميركي (2656 دي) الذي يعرف الإرهاب بأنه عنف متعمد بدوافع سياسية، يجري ارتكابه ضد أهداف غير محاربة، بواسطة جماعات شبه قومية أو عملاء سريين، ويهدف عادة إلى التأثير في الجمهور. ويفسر مصطلح غير محاربة على أنه يتضمن المدنيين والعسكريين الذين يكونون وقت الحادثة غير مسلحين أو خارج الخدمة وكذلك المنشآت العسكرية أو العسكريين في حالة عدم وجود أعمال عدائية في تلك المواقع، مثل التفجيرات ضد القواعد الأميركية في أوروبا، والفلبين، وأماكن أخرى. ويعنى الإرهاب الدولي، الذي يشمل مواطنين أو أراض أكثر من دولة، ويعنى مصطلح جماعات إرهابية، أية جماعة تمارس الإرهاب، أو أية جماعة لها جماعات فرعية هامة تمارس الإرهاب الدولي. وبالرغم من أن هذا التعريف يغفل أمور كثيرة وتم وضعه ليتناسب مع المصلحة الأمريكية، لتبرير حربها على العالم الإسلامي، وأيه جهة تحاول مقاومة الهيمنة الأمريكية، حيث تغافل عن إرهاب الدولة التي تمارسه أمريكا وإسرائيل، وخلط بين الإرهاب والمقاومة المشروعة للشعوب، إلا أن التقرير المشار إليه يفضح الادعاءات الأمريكية حول الإرهاب الإسلامي، http://www.aljazeera.net/NR/exeres/ حيث سجل التقرير 348 عملية يعتبرها إرهابية، وقعت في أنحاء العالم في العام 2001م، وكان نصف هذه العمليات عمليات استهدفت خطوط النفط في كولومبيا، التي تملكها شركات أميركية، ووقعت 194 عملية من بين هذه العمليات في أميركا اللاتينية، و68 في آسيا، و33 في أفريقيا، و29 في الشرق الأوسط، و17 في أوروبا. وقد قتل في هذه العمليات 3547 من بينهم حوالي ثلاثة آلاف هم ضحايا تدمير برجي المركز العالمي للتجارة في نيويورك. وبالطبع فإن التقرير يتجاهل الذين قتلتهم إسرائيل، أو الذين قتلوا في أفغانستان، ومن بينهم على سبيل المثال ألف أسير قتلوا خنقاً في شاحنات مغلقة. وكانت الأغلبية الساحقة من القتلى، أو كلهم عدا 677 شخصا- في الولايات المتحدة وإسرائيل، مما يعنى أن الحرب هي في الحقيقة موجهة لبلد واحد هو الولايات المتحدة وحليفه الأساسي، إسرائيل وليست حرباً عالمية كما يريدنا التقرير أن نعتقد. ويبدي التقرير والتصريحات الرسمية المرافقة أن العدو هو ما يهدد المصالح

ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟

الأميركية فقط، دون اعتبار لأعداء فرنسا أو إيطاليا أو مصر ـ على سبيل المثال ـ أو غيرها من دول العالم. http://www.aljazeera.net/books/2003/5/ - TOP كما يبدي التقرير الأميركي وفق معاييره للإرهاب، أن ضحايا الإرهاب على مدى السنوات الماضية كان ضئيلاً جداً باستثناء عام 2001م، ففي عام 1996م قتل 25 شخصا، وفي عام 1997م قتل سبعة فقط، وفي عام 1998م قتل 12، وفي عام 1999م قتل خمسة، وفي عام 2000م قتل 23. ويشير التقرير أيضاً إلى أن عدد العمليات الإرهابية منذ عام 1981م حتى 2001م يتجه إلى التناقص وليس إلى الزيادة، كما توهمنا إعلامياً الولايات المتحدة. ولا تشمل تلك الإحصاءات بالطبع ضحايا الإرهاب الإسرائيلي في فلسطين، وفي لبنان، ولا ضحايا الإرهاب في دول أخرى كثيرة، مثل مصر والجزائر ودول أفريقية عدة، واتسعت القائمة في الوقت نفسه لتشمل حركات مقاومة الاحتلال الذي تؤيده جميع الشعوب والمواثيق (¬1). وظهر صراعاً في استعمال مفاهيم الإرهاب والمقاومة والجهاد، تغذيه وسائل الإعلام، خاصة تلك التي تهيمن عليها أميركا رغبة منها في الدفاع عن سمعتها بعد الذي حدث في أفغانستان والعراق، وهو ما يؤدي إلى حرب المصطلحات فيتصارع مفهوم القتل والانتحار والاستشهاد، كما يتصارع مفهوم التحرير مع مفهوم الاحتلال، ومفهوم الديمقراطية مع مفهوم الشورى، ومفهوم الاستعمار مع مفهوم الإستدمار، ومفهوم النصر مع مفهوم الهزيمة (¬2). ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ في كتاب (ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟) يقدم مجموعة من الكتاب الأوروبيين، آراءهم حول ما يتم تعريفه باعتباره إرهابا وتداعيات أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، والحرب الأميركية على العراق، حيث يفتح الكتاب آفاقا للقراءة والتأويل والمحاورة حول أهداف الإمبراطورية الأميركية الجديدة، وسعيها لتوسيع ¬

(¬1) سفر الموت .. من أفغانستان إلى العراق - تأليف محمود المراغي- الجزيرة نت (¬2) بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة-عرض/سكينة بوشلوح

فرضيات حول الإرهاب

مصالحها، ومحاولتها لإحاطة نفسها بهالة من الأفكار والشعارات والرموز والاعتقادات، وتحولها إلى سبب للعنف ومصدره. وهنا يفسر الفيلسوف الفرنسي (جان بودريار) الفعل الإرهابي، وما يترتب عليه في قراءته لأحداث 11 سبتمبر قائلا: "نحن (الغرب) الذين أردنا هذه الأحداث، وإن ارتكبها (هم)، وإذا لم ندرك ذلك يفقد الحدث كل بعده الرمزي، فيبدو حادثة محضة نفذها بضعة متعصبين يمكن القضاء عليهم وإزالتهم من الوجود، والحال أننا نعلم جيدا أن الأمر ليس كذلك". فالحادث برأي (بودريار) يتعدى بكثير مجرد الحقد على قوة عالمية مسيطرة، فمن المنطق أن يؤجج تفاقم القوة الرغبة في تدميرها، وأن تكون شريكة في تدميرها الخاص. فالغرب وقد تصرف كما لو أنه في موقع (الله) ذي القدرة الإلهية الكلية والشرعية والأخلاقية المطلقة يغدو انتحارياً، ويعلن الحرب على نفسه، وقد كان انهيار برجي مركز التجارة تواطؤا غير مرتقب. فالنظام الذي وضعته هذه القوة العالمية، هو الذي أنشأ الشروط الموضوعية لهذا الرد العنيف المباغت، وباستئثاره على كل الأوراق، فإنه يرغم الآخر على تغيير قواعد اللعبة، فهو رعب مقابل رعب. فقد كانت فكرة مقاومة النظام العالمي أو العولمة بسيطة، فهذا النظام الذي يكره الموت ويتجنبه، يكون السلاح المميت ضده هو الموت، وقد استخدم المنفذون رتابة الحياة الأميركية قناعاً للعبة مزدوجة، وكانت قدرتهم على تدمير هذه الحياة السرية أكثر أهمية وخطورة من العمل الذي قاموا به في 11 سبتمبر (¬1). فرضيات حول الإرهاب يلاحظ الفيلسوف الفرنسي (جان بودريار) أن النظام العالمي المهيمن يقتضي بالضرورة وجود إرهاب لكي يستمر في العمل والسيطرة، لأنه دون إرهاب سينهار هذا النظام، وهكذا فإن تواطؤاً عميقاً ينشأ بين الخصمين، حتى إن المحلل يتساءل من يستخدم من؟. فهذا التواطؤ ليس بالضرورة خطة مقصودة تعد مسبقاً، ولكن ¬

(¬1) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ - جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجار عرض/ إبراهيم غرايبة -الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي

نظام الهيمنة والعولمة والسلطة بحد ذاته يحمل نقيضه، وقد يكون التناقض حاجة بنيوية في النظام نفسه. والأميركيون يحتاجون لأن يكونوا ضحايا ويتعاطف العالم معهم، فالضحية في حل من أي عقدة ذنب تجاه أفعاله وجرائمه، وتحتاج أن تستخدم مأساتها كما لو أنها بطاقة ائتمان! وقد جاءت أحداث مركز التجارة العالمي لتستخدم أميركا قوتها الفائضة التي لم تكن تعرف كيف تتصرف بها، وهي مرتاحة الضمير. وقد يكون هذا السيناريو مثل حكايات الخيال العلمي، ولكن هذا الموقف الافتراضي القائم على وجود قوة غامضة تهدد بالإبادة كان موجوداً بالفعل في الذهن أو اللاوعي الأميركي، وكان قائماً لديهم هم فقط، ولا يشاركهم فيه أحد حتى تحول هذا الافتراض إلى حقيقة بفضل الإرهاب والعنف، وتلك هي أميركا كما تحسب نفسها في ظل غياب الغير، وترمق نفسها بتعاطف يكاد يقارب العته. وهناك رواية متطرفة مفادها، أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، هي مؤامرة إرهابية داخلية نفذها اليمين المتطرف الأصولي في أميركا بالتعاون مع وكالة الاستخبارات الأميركية، فماذا لو كان هذا الحادث مزيفاً ومفبركاً؟. الواقع أن هذه الرواية يتواطأ معها الميل الغربي للتقليل من شأن الخصم، فقد تكون أفضل لدى الغرب من الاعتراف بقدرة هؤلاء المجاهدين الغامضين على تكبيد الأميركان هذه الضربة الكبيرة، وقد سبق في قضية تحطم طائرة لوكربي، أن ساد لوقت طويل التحليل القائل بترجيح العطل الفني في الطائرة سبباً لتحطمها، فالاعتراف بالتقصير ـ حتى لو كان خطيراً ـ هو أفضل من الاعتراف بقوة الآخر. ولكن حتى لو كان هذا التفسير حقيقياً، وثبت بالفعل أن الحادث كان من تدبير بعض المتطرفين أو العسكريين الأميركان، فإنه في المحصلة يصب في الافتراض الأول، وهو أن النظام يحمل عناصر تدمير ذاته، ويبقى علامة على عنف داخلي مدمر للذات يؤكد صحة الافتراض الأول (¬1). ¬

(¬1) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ - جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجار-الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي

الفصل الخامس اللعبة الكبرى .. يعملها الأمريكان ويقع فيها المسلمون!

الفصل الخامس اللعبة الكبرى .. يعملها الأمريكان ويقع فيها المسلمون! (¬1) أضواء أخرى ... على ما حدث في 11 سبتمبر لم تكن هجمات الحادي عشر من سبتمبر مجرد ضربة وجهت للقوة العظمى الوحيدة في الصميم فحسب، بل غدت مفصلاً تاريخياً ومنعطفاً أفرز الكثير من الظواهر، ولم تسبب تلك الهجمات أضراراً على صعيد الأرواح والممتلكات فقط، بل برزت فيما بعد أضرار أخرى، من بينها الشعور الوطني المتعجرف في أميركا، والسياسة الخارجية العدوانية، والنظام الدولي المرعب الجديد. ولم تنته آثار تلك الأحداث عند هذا الحد، بل أخذت تفرز ظواهر أخرى، قد تكون أصغر حجماً لكنها ليست أقل ضرراً وإزعاجاً، من بينها ردة الفعل السمجة التي باتت تظهر على صعيد الكتب والتحليلات الإعلامية. والمقصود بهذا هو موجة الكتب والتحليلات المملة، التي يمكن تسميتها بكتب (الحادي عشر من سبتمبر)، أو كتب (النظام الدولي الجديد)، التي ينشرها من باتوا يعرفون بـ (نقاد الثقافات) و (مؤرخو الأفكار)، أو (ما يسمون زوراً بالخبراء) الذين يطلون علينا عبر الفضائيات، ووسائل الإعلام المختلفة، لإقناعنا بوجه نظر معينه في أغلب الأحيان لا تكون بعيده عن دوائر الاستخبارات الأمريكية، أو يقدمون تفسيراتهم الشخصية لما حدث في الحادي عشر من سبتمبر. ومثل هذه الكتب والتحليلات تقدم للقارئ الكثير من الإدراك المتأخر، والقليل من المعرفة، وتحاول أن تضع تلك الأحداث ضمن اتجاهات تاريخية واسعة، ما كانت خافية على أحد بمن في ذلك مؤلفو تلك الكتب وقراؤها. وأصبح من الصعب اليوم العثور على (مثقف) في الغرب، امتنع ـ لحد الآن ـ عن الإدلاء بدلوه في هذا الموضوع، سواء من ¬

(¬1) اللعبة الكبرى .. يعملها الأمريكان ويقع فيها المسلمون! - أورخان محمد علي- اسلام اون لاين-3 - 11 - 2001 - http://www.islamonline.net/arabic/politics/2001/11/article4.shtml

خلال بحث نشره أو ملاحظة عابرة أدلى بها. وفي كل تلك الإسهامات تطل من بين الكلمات تلك النبرة المتعالمة، التي تقول للقارئ، ألم أقل لكم ذلك؟ " (¬1). وفي معالجتنا في هذا الكتاب لأحداث 11 سبتمبر، سنحاول الخروج عن تلك الظاهرة، لان تلك الاحداث ليست موضوعنا الرئيس في الاساس، بل جاءت في اطار رؤية شامله نحاول من خلالها القاء الضوء على الابعاد الدينية والتوراتية للسياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية والعالم، يضاف إلى ذلك اننا سنحاول اثباث فرضية طرحناها منذ الاسبوع الأول للاحداث، استنتجناها من خلال فهمنا للتوجهات الأمريكية تجاه المنطقة العربية والعالم الإسلامي في ظل النظام الدولي الجديد، حتى يمكن الاستفادة منها في المستقبل، ليس فقط لادانة أمريكا، بل لادانة انفسنا بالدرجة الأولى، لاننا سمحنا لانفسنا بالجري وراء سراب وبطولات مزعومه، وغيبنا وعينا وعقولنا، وحتى تغافلنا عن مبادئ ديننا السمح الذي لايقبل مثل هذه العمليات، والتي ارتدت علينا كمسلين وعرب باسوأ النتائج. ولهذا فاننا سنحاول هنا تقديم تحليل منطقي للأحداث وتداعياتها، بالرغم من التضليل الإعلامي الهائل الذي مارسته وسائل الأعلام الأمريكية، لإقناع الرأي العام العالمي بمسئولية ابن لادن وتنظيم القاعدة على وجه الخصوص، والمسلمين عامه عن أحداث 11 سبتمبر. فبالرغم من أن كثيراً من الدراسات والتحقيقات شككت في صدق هذه الاتهامات الأمريكية، لأسباب عديدة ـ سنوضحها في هذا الفصل ـ إلا انه للأسف، ظلت مثل هذه الأصوات خافته وغير مسموعة أو تم إسكاتها، هذا بالرغم من مشروعية طرحها ومنطقيته. فآلة الدعاية الأمريكية الضالة والمضللة استطاعت بأكاذيبها تضليل العالم، من خلال ما يشبه عملية غسيل دماغ كونية، مارستها الإدارة الأمريكية بآلتها الإعلامية الضخمة، مستعينة بخبراء ومتخصصين من كل الجنسيات لتمرير ما تريده هذه الإدارة، التي مارست أعتى أنواع الإرهاب على العالم، بحيث أصبحت حرية الرأي مقيدة قبل أن تبدأ. ¬

(¬1) الإرهاب والليبرالية- بول بيرمان ـ الناشر: نورتون، نيويورك ولندن- ط1 2003 - عرض/ كامبردج بوك ريفيوز

فالإرهاب الذي واجهت به أمريكيا العالم رافعة شعار: (إما معنا أو مع الإرهاب)، سيظل إلي أبد الآبدين وصمة عار في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية .. لا .. ليس في تاريخ الولايات المتحدة فقط .. بل في تاريخ الحضارة الغربية كلها .. وصمة الكذب القادر علي قتل من يرفض تصديقه .. وصمة البرابرة والهمج التي سقطت عن وجوههم فجأة كل الأقنعة، التي تقنعت بها لتكشف زيفاً عاش بالكذب القرون تلو القرون. فالأمر هنا لا يتعلق فقط باتهام أغلب الظن أنه كاذب، شنت أمريكا بسببه حرباً عالمية، بل بالممارسات التي صحبت شن هذه الحرب. وحتى لو كان هذا الاتهام صادقا، ً فإنه لا يبرر علي الإطلاق شن مثل هذه الحرب، ولا أي حرب علي الإطلاق. لأن أفغانستان الدولة لم تشن حرباً علي الولايات المتحدة، و إنما تشتبه الأخيرة في شخص ما وتتهم أفغانستان بإيوائه (¬1). ولكنها اللعبة الكبرى للقرن الحادي والعشرين .. لعبة قامت بها مراكز القوى الخفية التي تحكم الولايات المتحدة من خلف الستار ونفذتها بكل نجاح. وهي تفوق في آثارها وانعكاساتها عملية اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق (جون كيندي)، التي نفذتها هذه القوى أيضًا، ونجحت في إسدال ستار كثيف من الغموض عليها. هذه اللعبة الكبيرة والخطيرة سترسم الخطوط العامة للسياسة الدولية لعشر سنوات مقبلة على الأقل، ولا يستطيع أحد الآن توقع مضاعفاتها وتطوراتها وآثارها في السياسة الدولية، وفي تصعيد الهيمنة الأمريكية على العالم، وإن بدت آثارها القريبة في أنها أشعلت الحرب الأولى لهذا القرن. كما أنها تنذر بحدوث توترات شديدة بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة، حتى إنها حدت بالكثيرين للقول بأن حرب الحضارات التي تنبأ بها (هانتنجتون) قد بدأت (¬2). إنها عملية محبوكه ومنظمه يديرها رجال تسللوا إلى مقاعد صنع القرار، وجواسيس، وأموال، وزعامات سياسيه، ورؤوس تفكر وتخطط، وعصابات تقتل، وإرهاب يفجر، ولكن الجرائم لم يحدث قط أن ولدت كاملة، وكل جريمة لا بد أن ينقصها شيء، والمجرم مهما بلغ ذكاؤه، لا بد أن ينسى شيئاً ... شيئاً صغيراً تافهاً ¬

(¬1) راجع بل هي حرب على الإسلام - الدكتور محمد عباس- مكتبة مدبولي - 2002 (¬2) راجع بتفصيل مقال أورخان محمد علي- موقع الإسلام انلاين3 - 11 - 2001

التقرير الألماني

ينهار بسببه البنيان كله في الوقت المعلوم. فأصابع الاتهام تجاوزت الجناة، الذين أطلقوا النار مباشرة إلى مدبرين في الخفاء .. رسموا الخطة في بقعة من الأحراش، في (لانجلي) إحدى ضواحي واشنطن .. حيث مقر وكالة المخابرات الأمريكية (¬1). وهذه الجريمة الصهيونية المحبوكة، التي اشترك فيها مئات العقول الذكية، وقد امتلأت بالثغرات سوف تفتضح وتنهار، رغم حبكتها فكل بنيان يحمل معه جرثومة فنائه، وكل أكذوبة تحمل معها جرثومة فضيحتها (¬2). التقرير الألماني يتساءل (التقرير الألماني) (¬3) عما حدث يوم 11 سبتمبر: هل هو إرهاب، أم انتقام داخلي، أم انقلاب عسكري؟! ويواصل التقرير تساؤله: ما هذا الذي حدث؟ ومن ذا الذي استطاع أن يذل أمريكا ويمرغ أنفها في التراب، وأن يستهدف أهم مراكزها الاقتصادية والعسكرية، ومؤسساتها الأمنية، وكرامتها السياسية، وهي عاجزة حتى عن فهم ما حدث!! فهل هو فعلا (بن لادن)، الذي يعطونه حجماً أكبر بكثير من حجمه، وأن تكون العملية لمجرد الانتقام من الهيمنة الأمريكية أم هو انتقام يقوم به اليمين الأمريكي المتطرف؟ أم هو عمل أجهزة مخابراتية أجنبية متفوقة لمنع الولايات المتحدة من المضي في مشروع مظلة الصواريخ الدفاعية؟ أم هو صراع الأجنحة المتعارضة داخل السلطة الأمريكية، وبدء النظام العالمي الجديد فعلاً؟. وفي البداية نؤكد أننا سنعرض لاحتمالات قد تبدو خيالية، إلا أنها ستظل أكثر واقعية من التصريحات الأمريكية الساذجة، التي تعودنا عليها من قبل، سواء في ضرب مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم، بزعم أنه مصنع للأسلحة الكيماوية، أو حكاية انتحار (جميل البطوطي) في قصة الطائرة المصرية الشهيرة. فقد بدا واضحاً، ¬

(¬1) صلاة الجواسيس - عادل حمودة ص11 (¬2) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص26 (¬3) ما حدث هل هو إرهاب، أم انتقام داخلي، أم انقلاب عسكرى- تقرير وليد الشيخ - المصدر: شبكة المعلومات العربية محيط

أسئلة مريبة

ومنذ اللحظة الأولي لعديد من خبراء مكافحة الإرهاب الأوروبيين، أن دقة وتنظيم وكفاءة العملية أكبر من إمكانيات جميع المنظمات المعروفة، مثل الجهاد، أو حماس، أو حزب الله، أو الجبهة الشعبية، أو الديمقراطية، بل أيضاً من منظمة القاعدة، التي يترأسها ابن لادن. كما شكك العديدون في التصريحات الرسمية الأمريكية، حتى أن أحد الخبراء أكد في القناة الثانية الألمانية ( ZDF) ، أن كل ما يقال مجرد تكهنات، وأن التحقيقات محاطة بالسرية التامة، بل أن المخابرات الأمريكية إما أنها تحاول تسليط الأضواء بصورة مقصودة إلى جهة محددة، حتى لا تتجه أفكار الرأي العام إلى جهات أخرى حالياً، وإما أنها ليس لديها أي فكرة عما حدث، وفي حقيقة الأمر فإن هناك العديد من الألغاز التي تتعارض مع التفسيرات الأمريكية التي زعمت أن الأمر تم عن طريق خطف طائرات مدنية وتوجيهها إلى أهداف معينة كقنابل مدمرة. أسئلة مريبة من نافلة القول: إنه لا توجد في العالم بأسره منظمة أو جماعة تستطيع تنفيذ مثل هذه العملية الدقيقة، التي تتطلب ليس فقط مستوى عالياً من الخبرة والتكنولوجيا، بل الأهم أنها تتطلب وجود متعاونين وعملاء في أرفع مستويات المسؤولية في البنتاجون، وغيره من المراكز الحساسة التي تقبض على الإدارة الأمريكية .. وإلا فمن يستطيع تفسير كيف أن أجهزة الإنذار في طول البلاد وعرضها تصاب بالشلل لمدة تقارب الساعة! علمًا بأن هذه الأجهزة مبرمجة منذ سنوات الحرب الباردة على العمل الفوري، بحيث إن الطائرات الحربية تغطي السماء الأمريكية في بضع دقائق فقط. ومن يستطيع تفسير كيف سكتت أجهزة الإنذار الموجودة في مبنى البنتاجون، المعروف بأنه أحصن بناية في العالم، مع أنه مر وقت طويل يقارب الساعة بعد وقوع الهجوم الأول على مركز التجارة في نيويورك؟!! .. ومن يستطيع الوصول إلى أجهزة الإنذار الموجودة في أماكن حصينة لا يمكن الوصول إليها، إلا بعد المرور من نقاط تفتيش، وسيطرة عديدة، ولا يسمح لغير المسؤولين بالاقتراب منها أصلاً؟! .. ومن يستطيع معرفة رموز الشفرات السرية الخاصة بهذه الأجهزة؟!! .. أيستطيع هذا

لا توجد جريمة كاملة

عملاء من منظمة من الشرق الأوسط، أو من أفغانستان؟!! .. وهنا يمكن إذن تصور مدى نفوذ وسيطرة هذه القوة الخفية التي نجحت في شلِّ كل أرجاء الولايات المتحدة مدة ساعة تقريبًا، بل أكثر من ساعة ـ إن حسبنا الوقت الذي مضى بعد خروج أول طائرة عن مسارها، وحتى هجوم الطائرة الأخيرة على البنتاجون. وهل من المعقول أن تخرج أربع طائرات عن مسارها، ولا تطرف عين في الولايات المتحدة؟! لا توجد جريمة كاملة يقال في علم الجريمة: (لا توجد هناك جريمة كاملة)، أي أن المجرم لا بد أن يصدر منه خطأ أو قصور أثناء ارتكابه الجريمة. وهذه المقولة تصدق هنا أيضًا؛ فالذين رتَّبوا ونفذوا هذه الجريمة وهذه اللعبة الكبرى اضطروا أن يتركوا وراءهم العديد من الأدلة والمستمسكات، ولكن أجهزة الإعلام الأمريكية والغربية استطاعت، لحد كبير، التغطية على هذه الآثار الواضحة، وحولت أنظار الجماهير إلى نواحٍ أخرى غطّوها بسيل من الأدلة الزائفة (¬1). والأسئلة التي نطرحها تكشف هذا الأمر ¬

(¬1) اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية أسامة بن لادن بأنه يقف وراء التفجيرات التي شهدتها واشنطن ونيويورك، وزعمت أن لديها الأدلة الدامغة التي تثبت إدانته، إلا أن أمريكا لم تقدم الأدلة التي تقنع العالم بتورط بن لادن. وأعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش: "أن واشنطن تملك أدلة الإدانة، ولكنها لن تعلن عنها الآن". وأكد ذلك رئيس الوزراء البريطاني "توني بلير" في خطابه أمام مجلس العموم البريطاني في 4 - 10 - 2001م، إلا أن خبراء بريطانيين قالوا: "إن الأدلة الأمريكية التي أعلنها بلير ليست دامغة، ولا يمكن الاعتماد عليها أمام محكمة قضائية".وقال "ويليام ولاس" أستاذ العلاقات الدولية: "إن ما تم الإعلان عنه لا يكفي لاتهام أسامة بن لادن أمام أي محكمة قضائية في العالم؛ لأنها استنتاجات من معلومات غير مكتملة، وليست أدلة قاطعة". وتناول عدة كتاب، ومحللين بريطانيين تفنيد الأدلة الأمريكية وقالوا: إنها مجرد تصورات مبنية على شواهد تاريخية مسبقة على علاقة الكره بين بن لادن والإدارات الأمريكية، وليست أدلة دامغة تربط بينه وبين إنفجارات أمريكا .. كما أن ما قامت به الإدارة الأمريكية من وضع معتقلي القاعدة وطالبان في معسكر اعتقال في قاعدة جوانتانامو، وليس داخل أمريكيا، يؤكد أن الإدارة الأمريكية ليس لديها أي دليل على تورط هؤلاء في التفجيرات، لأنه لو تم اعتقالهم في سجون أمريكية فإنهم سيخضعون إلى القوانين هناك، مما يعنى تقديم أدله ضدهم والسماح للمحامين ومنظمات حقوق الإنسان بزيارتهم، وهذا ما لا تريده أمريكا، ولهذا تم اعتقالهم في هذه القاعدة العسكرية التي لا تخضع للقانون الأمريكي.

1 ـ قالوا إن الخاطفين من العرب الذين تلقوا دروسًا في الطيران المدني. ولا يحتاج الإنسان إلى ذكاء كبير، ليعلم أن الدروس التي تعطى للهواة في نوادي الطيران تشمل قيادة الطائرات الصغيرة، ولا يستطيع المتدرب قيادة طائرات مدنية ضخمة، وأن يخرج بها عن المسار المحدد دون خريطة جوية للمسار الجديد، وأن يطير على ارتفاع منخفض بين ناطحات السحاب فوق مدينة يزدحم جوّها بعشرات الطائرات في كل لحظة، ثم يصيب هدفه بدقة كبيرة ... لا يمكن لأحد تصديق ذلك. حيث تشير تقارير خبراء الطيران إلى أن الضربات نفذها محترفون في الطيران؟ بل إنها ضربات طيارين عسكريين لا يمكن أن ينفذها الهواة. وهنا لابد أن نتساءل: لماذا أغفلت الإدارة الأمريكية النظر في سجلات الطيارين الأربعة؟ وهم أمريكيون ثلاثة منهم شاركوا في فيتنام والرابع قتل أخوه في فيتنام، وقيل أنهم ينتمون إلى جماعات يمينية متطرفة؟! 2ـ كيف استطاعت أربع طائرات الخروج عن المسار دون أن تقع حادثة اصطدام واحدة؟ وكيف لم تصادف أي من الطائرات المنحرفة عن خطوط سيرها العشرات ـ بل المئات ـ من الطائرات التي تزدحم بها السماء؟ وكيف لم يبلّغ أي طيار أبراج المراقبة عن وجود طائرات منطلقة على هواها؟ وكيف لم تُعلن حالة الطوارئ في طول الولايات وعرضها، ولم تعلن المطارات حالة الإنذار القصوى؟ علمًا بأن الطائرات بقيت خارج مسارها المحدد لها أكثر من نصف ساعة. وكيف لم تقم أبراج المراقبة بالاتصال المستمر مع طياري الطائرات الأربع؟ وأين تسجيلات الاتصالات؟ ولماذا لم تنشر أو تذاع؟ 3 ـ لماذا لم يرسل أي طيار ـ من قائدي الطائرات الأربع ـ رسالة استغاثة عند حدوث عملية اختطاف؟ حيث إنه لا يحتاج إلا إلى ثوان معدودات. ويستحيل على الخاطف أن يكمل عملية الخطف بسرعة البرق دون مرور بضع دقائق لا بضع ثوان. ولا توجد حادثة اختطاف واحدة في تاريخ الطيران لم يستطع فيها قائد الطائرة إبلاغ برج المراقبة بأن الطائرة قد اختطفت. 4ـ ما الدليل المادي على تورط ابن لادن وبالتالي طالبان التي تؤويه بما حدث في نيويورك وواشنطن؟! لكي تتخذ الولايات المتحدة موقفاً عملياً من أول يوم ضدهم. حيث أعلن رئيس الـ (سي آي إيه) في مقابلة له بعد الحادث بأربع ساعات أن

العمليات عليها بصمات ابن لادن؟! فهل التهمة معدة مسبقاً والإدارة الأمريكية على علم بالحادث؟! ثم لماذا أعلن وزير الخارجية كولن باول عن الكشف عن أدلة تورط ابن لادن في العمليات، ثم يعلن الرئيس الأمريكي بعده عن عدم الكشف عن الأدلة؟. 5ـ ما السر في أن الصندوقين الأسودين لكل طائرة لم يحملا أية معلومات؟! أم أنها معلومات لا تناسب الإدارة الأمريكية؟! و إذا كان ادّعي أن بعض الصناديق تأثرت بالحرارة فلماذا لم يستفد من صناديق طائرة بنسلفينيا رغم أن الإدارة الأمريكية أعلنت نبأ العثور عليه سليماً، ثم ما لبثت أن قالت أن المعلومات التي وجدت به غير ذات قيمة؟ علماً أنه من المستحيلات في علم الطيران المادي أن تفقد المعلومات من طائرتين تحطمتا فكيف بأربع أو ست طائرات!!. 6ـ لماذا تكتمت المخابرات الأمريكية على طائرتين أخريين عدا الأربع المعلنة، كانت شركة الطيران (أميركا إيرلاينز) أعلنت عن فقدهما، ثم أعلنت سقوطهما، وسحب الخبر وتوارى عن الأنظار والأسماع؟! ومن الذي أسقط الطائرة التي وقعت في بنسلفانيا؟ ولماذا زعمت الولايات المتحدة أنها سقطت على إثر شجار دار بين الخاطفين والطاقم؟! ولم ترد على التقارير التي أثبتت عن طريق شهود عيان أن مقاتلات أمريكية اعترضتها فأسقطتها؟! كما أعلنت الولايات المتحدة عن إحباطها لعملية خطف طائرة في مطار جون كيندي والقبض على المتورطين ولم تعلن حتى اليوم عن أي معلومة أخرى عن أولئك الخاطفين، الذين زعموا أنهم أحد خلايا الإرهابيين العرب؟!. 7ـ كيف وصل الخاطفون إلى الشفرات السرية، لأجهزة الإنذار التي لا يمكن معرفتها بسهولة إطلاقاً، وكيف استطاعوا أن يصلوا إلى هذه الدقة في التوقيت والأهداف مع وجود سيارات مفخخة على الأرض انفجرت خلف البيت الأبيض وأمام وزارة الخارجية أليس في ذلك ما يدل على احتمال أن تكون التهمة متعلقة بأشخاص في الإدارة الأمريكية ذاتها؟! بل ربما في المخابرات أو البنتاغون؟! 8 ـ لماذا أهملت الولايات المتحدة التهديدات التي أصدرتها منظمة مهرب المخدرات الكولومبي (أوشو) بعد تسليمه لكولمبيا قبل العمليات بأسبوع وتوعدوا فيها أنهم سيجعلون واشنطن جحيماً؟! وتزامنت العمليات مع زيارة وزير الخارجية

الأمريكي لكولمبيا؟! ولماذا تجاهلت ايضاً إعلان منظمة الجيش الأحمر اليابانية مسئوليتها عن سلسلة الانفجارات، والذي جاء في اتصال مع صحيفة أردنية. حيث بررت المنظمة الاعتداءات بالرغبة في الانتقام لقتلى هيروشيما، مشيرة إلى أن هذه الانفجارات هي (بيرل هاربير) جديدة. 8 ـ كيف أعلنت الولايات المتحدة عن عدد من الخاطفين أنهم أتباع لابن لادن، وقد عرف عن بعضهم عدم التزامهم الديني، بل نقلت الأخبار أن بعضهم كان يتعاطى المحرمات؟! فكيف لمن هذا حاله، أن ينفذ مثل تلك العمليات؟! وكيف قبضت الولايات المتحدة على رجل سيخي وزعمت أنه من أتباع ابن لادن لمجرد أنه ملتح؟!. والأسئلة كثيرة جداً والتناقضات لا تنتهي، وكل يوم هي بازدياد، فالتخبط الأمريكي واضح، والارتباك ظاهر من أول ساعة عندما اختبأ الرئيس في ملجئه، وألقى الخطاب مرتجف الشفتين، والهول بادٍ في عينيه. ولكننا ننصح الجميع بأن لا ينجروا وراء هؤلاء المتخبطين، وليطالبوهم بالدليل العملي، فكما زعمت ثبوت التهمة على مفجري طائرة (بان أمريكان) فوق لوكربي وأحضرت ألف وخمسمائة شاهد، وفشلت في إثباتها على أحدهما، واستمر استئناف الحكم لعدم وضوح الأدلة، حتى قررت ليبيا إنهاء القضية. الطائرات لم تُختطف .. فإذا لم تكن الطائرات قد اختطفت؟ فكيف جرت الأمور إذن؟ منذ البداية شكك الكثيرون في قصة اختطاف أربع طائرات ـ في البداية قيل خمس ثم قيل ست ثم ثمان وهكذا ـ حتى أن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق (جورج شولتس)، صرح مشككاً في ذلك، قائلاً: منذ عشر سنوات لم يتم اختطاف طائرة أمريكية، فكيف يتم اختطاف خمس طائرات خلال ساعة واحدة؟ كما أنه من المعروف أن لكل طائرة مدنية تقوم برحلة ما خط سير معين، وارتفاع معين، لا تستطيع الخروج منه، حتى لا تحدث كارثة وتصطدم بطائرات أخرى، خاصة وأن منطقة بوسطن، نيويورك، واشنطن، علي الساحل الشرقي للولايات المتحدة، تعد أكثر منطقة في العالم حماية ومراقبة بسبب الاستعداد القديم لمواجهة أي هجوم نووي من قبل الاتحاد السوفيتي خاصة، علي أهم مدينتين: واشنطن ونيويورك. بالإضافة إلى وجود قاعدة البحرية الأمريكية التي تتعامل بأشعة الليزر، ولعلنا لا ننسي إسقاط

الطائرة المصرية، ومحاولات التزييف، والتي حُرّفت فيها الوقائع، وحاولوا إلصاق التهمة بالطيار المصري، والادعاء بأنه قام بعملية انتحارية (¬1). وهذا يعنى أن خروج الطائرة عن مسارها سيتم إبلاغه فوراً علي الأقل لحمايتها من السقوط مثلا، كما أن تغيير المسار كان هاماً جداً، حيث خرجت الطائرة الأولي عن مسارها إلى الشمال بدرجة 120 درجة فجأة، حين اقتربت من نيويورك، بينما خرجت الطائرة الثالثة من مطار نيويورك، وسارت في مسارها حتى دخلت ولاية بنسلفانيا، ثم دخلت ولاية أوهايو، ثم عادت فجأة بصورة حادة 30 درجة، حتى تم إسقاطها بجوار مدينة بتسبورج. والرابعة هي الأغرب، حيث أن ما حدث يتناقض مع الفكر الإرهابي، الذي يختار أقصر الطرق، حيث أن الطائرة اقتربت من مطار واشنطن، وسارت في مسارها حتى مرت بولايتي ويست فرجينيا ثم أوهايو .. وفجأة عادت لتقصف مقر البنتاجون في واشنطن نفسها، رغم أنها كانت تستطيع فعل ذلك بمجرد إقلاعها من المطار، وعبور نهر (بوتماك)، بحيث تنتهي من مهمتها في خمس دقائق بدلاً من ستين دقيقة من الذهاب والعودة (¬2). حدث كل هذا دون أي رد فعل لأي جهاز أمني أمريكي، وكأنهم يشاهدون فيلماً سينمائياً. ليس هذا فقط بل يتم تحطيم جزءاً كبيراً من وزارة الدفاع الأمريكي البنتاجون بطائرة ثالثة، أي بعد 58 دقيقة من أول اصطدام بمركز التجارة العالمي، رغم أن البنتاجون هو أول هدف يمكن قصفه عند حدوث أي هجوم نووي، أو حتى عسكري علي الولايات المتحدة، فإذا كان البنتاجون لا يستطيع حماية نفسه من طائرة مدنية، فماذا سيفعل مع أي هجوم عسكري حقيقي؟!!. ¬

(¬1) الطائرة المصرية تم إسقاطها عمداً من قبل عملاء للموساد الإسرائيلي وبالتعاون مع السلطات الأمريكية، حيث كان على متنها عدد كبير من الضباط المصريين الذين انهوا تدريباتهم في أمريكيا في تخصصات عسكرية مقدمه .. ولحتى هذه اللحظة لم يتم الكشف عن ملابسات هذه القضية، التي لم تكتفي أمريكا باغتيال ركاب هذه الطائرة، بل عمدت إلى الإساءة للإسلام ولقائد الطائرة بالادعاء بأنه أقدم على الانتحار لمجرد انه كما زعمت كان يتلو آيات من القرآن، والتي هي أمر طبيعي عند أي مسلم. (¬2) 11 سبتمبر .. سيناريو ما حدث هناك- بقلم كابتن/إسحاق الكوهجي- اسلام اون لاين-8 - 1 - 2002 - http://www.islamonline.net/arabic/science/2002/01/article3.shtml

مشروع إلكتروني سرى

تحقيق خطير لمحققين أمريكيين يقلب رواية أحداث 11 أيلول رأساً على عقب (¬1) تولى محققون خاصون (جوفاليز) و (كورنس ماى) وغيرهما، كشف ملابسات ما يسميانه فضيحة المؤامرة، التي تجلت بالطائرات، التي دمرت برجي مبنى مركز التجارة العالمية يوم 11 أيلول 2001م، ويقول هذان المحققان (إن اتهام إرهابيين عرب) باختطاف الطائرات، إنما هو جزء من المؤامرة المبيتة منذ وقت طويل. فقد واجهت الولايات المتحدة الأمريكية في السبعينات أزمة متصاعدة، تجلت في اختطاف طائرات تجارية للمطالبة بفدية تخدم أهدافاٌ سياسية، إلا أن الإدارة الأمنية قررت إحباط تلك العمليات، وكلفت شركتين بالعمل مع وكالة نادراً ما يشار إليها في وسائل الإعلام، تعرف باسم (وكالة مشاريع الدفاع المتقدمة) وذلك لوضع مخططات تتيح استعادة الطائرة المختطفة، من دون إرادة المختطفين أو حتى قائد الطائرة نفسه. والخطة في نقاطها الأساسية، كانت تتيح للمراقبة الأرضية الاستماع لكل كلمة وهمسة تقال على متن الطائرة المختطفة، ثم السيطرة عليها بالريموت كونترول وقيادتها لتهبط في المكان المقرر أن تهبط فيه من دون أن يستطيع أحد من الذين على متنها إطلاقاً التحكم بتلك الطائرة. مشروع إلكتروني سرى سرية المشروع وأهميته من حيث التخطيط المستقبلي، اقتضت كلها ألا يعرف الطيار أو أحد من المسؤولين في شركة الطيران نفسها بوجود الأجهزة الإلكترونية الدقيقة، وهى على أية حال ليست أجهزة ضخمة، بل عبارة عن (سوفت وير) أي برنامج كومبيوتر، يتولى السيطرة على الطيار الآلي ويتحكم به حسب ما يريد المراقبون على الأرض. ويعرف من يتابع التطورات التكنولوجية، أن الولايات المتحدة بدأت منذ عام 1984م بتجارب للسيطرة عن بُعد على الطائرات والتحكم في سيرها، وأنها نجحت في تجاربها هذه قبل عشر سنوات تقريبًا. وقد أجرت تجربتها الأولى ¬

(¬1) صحيفة القدس العدد 11701 يوم الخميس 21 آذار 2002

فكرة استخدمت للجريمة

الناجحة على طائرة مدنية من نوع بوينج خالية من الركاب ومن طاقم الطائرة. وقد أقلعت هذه الطائرة باستخدام هذه التكنولوجيا، ثم هبطت بسلام في إحدى القواعد. ويقول خبراء في الطيران أن الأمر كله، عبارة عن التحكم بالطيار الآلي وتعطيله تماماً، ليتم توجيه الطائرة الكترونياً من الأرض، تماماً كما يتم توجيه طائرة التجسس بدون طيار، حيث يتم التحكم في الطائرات (المدنية منها والحربية) عن بُعد، باستخدام نظام حديث يدعى ( JPLS) . فإذا دخلت أي طائرة ـ سواء أكانت مدنية أم عسكرية ـ مجال هذا النظام، استطاع مشغل النظام فكَّ رموز وشفرات نظام الطيران في الطائرة ـ حتى وإن لم يَقُم الطيار بإعطائه هذه الرموز ـ ثم يكمل السيطرة على الطائرة وتوجيهها إلى الهدف الذي يريده، كما يتم إسكات جميع أجهزة الاتصال والتخابر الموجودة على الطائرة. وقد أنفقت الولايات المتحدة على اكتشاف وتطوير هذا النظام الخطير مبلغ (3,2) مليارات دولار. وتعاونت وزارة الدفاع مع مجموعة شركات رايثون RAYTHEON، وهي حوالي عشرين شركة متخصصة في نظم الصواريخ، والدفاع الجوي، ونظم السيطرة على حركة المرور الجوية والنظم الإلكترونية. ويتم تشغيل هذا النظام -أي نظام التحكم في سير الطائرات عن بُعد- بواسطة الأقمار الصناعية. فكرة استخدمت للجريمة يقول المحقق الخاص (جوفيالز): إن علينا أن ندرك أولاً أن الغاية من هذا الاختراع، لم تكن الاستغناء عن قائد الطائرة، بل إحباط عملية الاختطاف، ولكن سرعان ما تولت العقول المتآمرة تحويل الفكرة واستخدامها لتحقيق غايات توصف بأنها لخدمة مافيات سياسية وعسكرية ومالية تدير دفة العالم، وتتحكم بالسياسات العليا للدول وتعتبر نفسها (حكومة العالم). فهناك في كل طائرة جهاز إلكتروني يعرف باسم (المجيب) تكفى لمسه خفيفة ليرسل إشارة استغاثة، تنبئ أن الطائرة مختطفه، ويستخدم دوماً في الاتصال بالطائرات المختطفة. أما بالنسبة لطائرات نيويورك فقد عرف العالم أن أجهزة المجيب في الطائرات الأربع لم تتلق أية إشارة ولم تبعث بأية إشارة تدل على وجود

مشكلة. المحقق (جوفيالز) يقول أن ذلك مستحيل إلا إذا أمكن التحكم بتلك الأجهزة وتعطيلها، وكل التحقيقات تبين أن من قيل أنهم خطفوا الطائرات لا يمكن لأي منهم التوصل إلى هذه المرحلة، ثم لا تفسير إطلاقاً لسكوت (المجيب) في الطائرات الأربع، وليس من المعقول أن يتم هذا من قبل خاطفين، قيل: إن سلاحهم سكاكين صغيرة. وهناك نقطة أخرى، فهل يعقل لأكثر من سبعين أو ثمانين راكباً يرون أنهم على وشك الهلاك، ألا يوجد بينهم من يقاوم أو يحاول المقاومة، أو يصرخ أو يستنجد أو حتى يستغيث ويسترحم، حيث لم تصدر عن أي من تلك الطائرات أية إشارات تدل على ذلك، وهذا يخالف كل منطق! يتابع المحقق (جوفيالز) فيقول: إن كل القرائن والأدلة تبين أن الطائرات اختطفت الكترونياً بالريموت كونترول، وتم توجيهها لتدمير البرجين، وقد حملت أقوال بعض الشهود ساعة الحادث أن الطائرة التي ضربت البرج الثاني، كانت تميل مبتعدة قليلاً، لكنها تعود لتتجه نحو البرج، وتفسير ذلك أن الطيار كان يحاول الابتعاد دون جدوى. إلى أكثر من ذلك يذهب (تيرى ميسان) فيكشف عن جانب آخر من الأسرار لا يدركه إلا المتخصصون في علم الطيران، حيث يقول: إنه بعد سؤال الخبراء في هذا المجال، تبين انه من المستحيل على الطائرات المدنية كالتي استعملت في الهجوم، أن تصيب هدفها بهذه الدقة ما لم تكن هناك رادارات معدة سلفاً داخل البرجين المستهدفين أو في واجهة كل منهما، وهو ما حصل فعلاً قبل ساعتين فقط من بدء الهجوم، وأحدث تشويشاً على أجهزة الراديو والتلفزيون الكائنة في المنطقة، أما من دون ذلك فمن العبث أن يتمكن الطيار يدوياً أو أوتوماتيكياً من النجاح في التصويب الدقيق، حتى لو قامت بتنفيذ هذه العملية عدة طائرات في وقت واحد (¬1). وهكذا يتبين من تسلسل أحداث الهجمات ـ التي تمت على نيويورك وواشنطن ـ أن الطائرات لم تُختطف، بل تم التحكم فيها عن بُعد، وأجبرت على السير نحو الأهداف المرسومة لها من قبل (¬2). ¬

(¬1) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان - ص28 (¬2) راجع: http://www.sweetliberty.org/issues/war/homerun.htm

حادث الطائرة المصرية

حادث الطائرة المصرية إن حادث (نيويورك وواشنطن) لم يكن الحادث الأول، الذي تُستخدم فيه برمجة طائرات مدنية من قبل منفذي هذا الهجوم، ولكن قد تم الترتيب لهذا الهجوم قبل عامين، عندما تم التجريب على الطائرة البوينج 767 المصرية في رحلتها من نيويورك إلى القاهرة، وتحطُّمها في المحيط الأطلسي بعد الإقلاع بنصف ساعة تقريبًا! وما تبع ذلك من التصريحات الأمريكية المتناقضة والإشاعات الإعلامية الرخيصة، حيث أن هذا الحادث كاد يفجر أزمة سياسية بين الحكومتين المصرية والأمريكية، وما زالت نتيجة التحقيقات غامضة إلى يومنا هذا. وفي هذا الحادث الغامض للطائرة المصرية، لم يُعط أي تفسير علمي أو منطقي يبرر سقوط الطائرة إلا كلمة تفوَّهَ بها الطيار، فُسِّرَتْ بأنها إشارة، إلى أن الطيار قد قام بعملية انتحارية! (¬1) مع أن تقرير التسجيل الصوتي الذي تم نشره، أكد أنه كان يستغيث، ويطالب زميله الكابتن (الحبشي) بأن يساعده في إخراج الطائرة من الوضع الذي كانت تهوي فيه إلى المحيط، لكن جهودهم باءت بالفشل لعدم ¬

(¬1) الكلمة التي قالها الطيار والتي فسرها الأمريكيون على أنها تعنى قيامه بعمليه انتحارية هي "توكلت على الله" وبالرغم من استهجان كافة المسلمين لهذا التفسير الأمريكي الباطل، إلا أننا فوجئنا، بل صدمنا من قيام قناة الجزيرة ببث حلقتين من برنامج "سرى للغاية" للمذيع يسرى فوده، حيث استند في اتهامه لتنظيم القاعدة ومحمد عطا بأنهم يقفون وراء التفجيرات إلى آية قرآنية سطرها محمد عطا على رسالته لنيل شهادة الماجستير، حيث ركز هذا المذيع على هذه الآية وكأن محمد عطا كان يقصد من ذلك نيته القيام بهذه العملية، بالرغم من انه لا توجد أية علاقة بين الحادثين. وهذا التفسير المغلوط والمغرض والملتوي يعنى أن كل مسلم يضع أية آية قرآنية على مكتبه أو في بيته أو في رسالته ... الخ هو إرهابي ويخطط للقيام بعمليه استشهادية. منطق غريب واعوج. يقول يسرى فوده في برنامجه المليء بالمغالطات والذي أذيع في12/ 9/2002م: أمام الغربيين سؤال، وسؤال آخر أمام المسلمين، فرغم أننا استطعنا من خلال هذا التحقيق أن نقطع الشك باليقين في من أراد، ثم خطط ثم نجح في أن يصفع الإدارة الأميركية صفعة مدوية على أرض أميركية أمام العالم كله، فإننا لسنا متأكدين بعد من أن أحداً ما في هذا البلد لم يمانع في الواقع في الانحناء ولو قليلاً لتلقي هذه الصفعة كي ينطلق منها إلى ركل ورفس في كل زاوية دون رادع. وأمام الغربيين وبخاصة الأميركيون منهم إن أرادوا حقاً إنصافاً بأنفسهم أن يتساءلوا عن ذلك الذي يمكن أن يدفع شباباً بعضهم على أعلى درجات العلم، وبعضهم على أعلى درجات الانفتاح على الحياة، وبعضهم من أثرى أثرياء العرب، وكلهم في عمر الزهور إلى أن يلقوا بأنفسهم طوعاً إلى ما يراه الأميركيون تهلكة ويرونه هم جنة الفردوس. هكذا نستطيع الآن أن نفهم لماذا اختار الأمير محمد عطا أن يصدر رسالته للماجستير بهاتين الآيتين (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ) صدق الله العظيم.

لا صحة لسقوط طائرة على البنتاجون

استجابة الطيار الآلي لزر الانفصال، واستمرت الطائرة في النزول وبسرعة وهو ما حدا بالطيار إلى القيام بإغلاق المحركات، محاولا بذلك قطع التيار الكهربائي عن جميع أجزاء الطائرة مؤقتًا، ظنًا منه أن ذلك سيكون كفيلاً لفصل التيار عن أجهزة الطيار الآلي، ومن ثم يعاود تشغيل المحركات والسيطرة على الطائرة، لكن الأجل المحتوم حال دون ذلك، وتحطمت الطائرة، وتركت تساؤلات كثيرة أهمها وجود العدد الكبير من خيرة الطيارين العسكريين من أبناء مصر، وغيرها من التساؤلات المهمة، والتي لم نجد لها جواباً مقنعاً وشافياً إلى يومنا هذا (¬1). لا صحة لسقوط طائرة على البنتاجون يشير (تيرى ميسان) إلى أن الإدارة الأمريكية قد ادعت أن الهجوم على البنتاجون تم من خلال اختراق طائرة بوينغ 757 للطابق الأول أو الثاني من البناء، وان ذلك تم بعد هبوطها إلى مستوى لامس الحشائش المزروعة حول البنتاغون قبل الاختراق. وعند سؤال خبراء في الطيران الحربي ـ كما يقول ميسان ـ أكدوا أن ذلك أمر مستحيل بالنسبة لطائرة مدنية مثل البوينغ 757، فهي إما أن تجتاح الموقع عمودياً من فوق، أو تنزل إلى مستوى غير قريب جداً من الأرض، وتقوم باجتياحه أفقياً، ولما كان مبنى البنتاغون غير مرتفع ويتألف من طابقين، فإن من المستحيل ضربه أفقياً بطائرة مدنية كما ادعت الإدارة الأمريكية، لأن من المستحيل نزولها إلى هذا المستوى وان نزلت ـ افتراضاً ـ فإن من الطبيعي أن تتسبب بأضرار للسيارات والمركبات الموجودة في المكان، وكذلك الحشائش وأعمدة الكهرباء وما إلى ذلك، وهو ما لم يحصل ولم يوجد أي أثر على ذلك في مكان الحادث. إذن كيف حصل هذا الحادث؟ الإجابة على هذا السؤال يفسرها قرار عدم سماح السلطات الأمنية الأمريكية لأي كان بالدخول إلى المنطقة، إلا بعد فترة تمكنت خلالها فرق الإنقاذ من ترتيب ساحة العمليات! والملفت أكثر للانتباه في هذا الجانب أن أحدا لم ير هيكل الطائرة في المكان، ولا تم تصويره أبداً، ولا تصوير أجزاء منه، بل تم إحضار صندوق أسود ¬

(¬1) مقال منشور بموقع إسلام اون لاين بتاريخ 8/ 1/2002 بقلم كابتن/إسحاق الكوهجي

الطائرات لم تدمر برج التجارة العالمي

قيل إنه وجد في مكان الحادث في الوقت الذي تردد في التصريحات الأولية أن الطائرة كانت مروحية. أضف إلى ذلك أن الموقع الذي ضرب كان خالياً من الموظفين والعسكريين، لأن فيه إصلاحات وأعمال بناء، لذلك لم يصب إلا العمال وبعض المتواجدين قربه بالصدفة، وكان مثيراً للدهشة أن عسكرياً واحداً فقط قد لقي مصرعه في الوقت الذي جرى الإعلان فيه عن عدد كبير من الضحايا العاملين في البنتاغون نفسه، كما كان مثيراً للدهشة عدم وجود أي أثر للطيارين أو منفذي العملية! (¬1). كما أنه أعيدت إذاعة صور تفجير برجي التجارة العالمي مئات المرات على جميع القوات التلفزيونية، حتى حفرت الصور في أذهاننا جميعاً .. بينما على العكس تماماً .. فقد عرضت صور قليلة جداً لتفجير مبنى البنتاجون، ولم نرَ فيها سوى جزء المبنى المنهار وصور رجال الإطفاء وهم يحاولون إطفاء اللهب .. !! (¬2). الطائرات لم تدمر برج التجارة العالمي بعد انهيار البرجين بشكل لم يتوقعه أحد، لم يتم إجراء تحقيق رسمي متكامل حول الحادث وظروفه وكيفية وقوعه .. الخ، بل تم اعتماد الرواية الرسمية حول الطائرتين دون التفكير بأي شيء آخر، مع التركيز على أسماء المتهمين دون التأكد فعلاً من وجودهم أو تورطهم، ثم تم الانتقال بعد ذلك فوراً إلى التركيز على عملية الهدم السريع لما تبقى من الأبنية المتصدعة وإزالة أنقاضها بالكامل، كما تم وضع كل شيء وجد في هذا المكان بين أيدي الـ (اف. بي. اي)، واعتبر سراً من أسرار الدفاع الوطني! وهذا الاستعجال في لفلفة الأمور لم تعجب المسؤولين عن جهاز الإطفاء في مدينة نيويورك، الذين لم تتطابق قناعاتهم مع أقوال السلطة. ذلك لأن حمولة الطائرتين من الوقود لم تكن كافية لصهر الهيكل المعدني للبرجين في هذا الوقت القصير، وهذا أمر مستحيل من الناحية العملية الكيميائية، وإلا لكان هذان البرجان مصنوعين من الكرتون، ولهذا طالب رجال الإطفاء بفتح تحقيق لمعرفة ما إذا كان قد ¬

(¬1) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان - ص 9 - 25 (¬2) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص49 - دار الاحمدى للنشر - الطبعة الأولى 2003

حصل هناك انفجار في قاعدة البرجين، لكن السلطات الفيدرالية لم توافقهم على هذا الطرح. وهذا يعني أن الانهيار الكامل لبرجي مركز التجارة العالمي لم يكن ممكن الحدوث دون وجود متفجرات مزروعة داخل المبنى مسبقاً (¬1). فكل الخبراء يقولون: إنه لا يمكن تدمير البرجين بالكامل، وبهذا القدر من الدقة دون وجود متفجرات مزروعة مسبقاً في مواقع استراتيجية داخل البرجين (¬2)، وقد تم توقيت تفجيرها بعناية بالغة. فلا يمكن لارتطام الطائرة بالبرج من الناحية الهندسية أن يدمر المبنى بالشكل الذي حصل (¬3). وقد شاهدت بنفسي حلقة من البرنامج الوثائقي (حدث في مثل هذا اليوم) عرض فيه لحادثة اصطدام طائرة ب 52 العسكرية العملاقة في عام 1945م، ببرج في مدينة نيويورك، حيث لم يؤدى هذا الحادث إلا إلى إلحاق أضرار بسيطة بالبرج، بالإضافة إلى مقتل عدد من الأشخاص في الدور العلوي الذي اصطدمت به الطائرة، وبعض المارة على الأرض نتيجة تساقط حطام الطائرة على الأرض. ولإخفاء حقيقة أن البرجين تم تدميرهما بواسطة متفجرات زرعت بالبرجين مسبقاً، تم تلزيم التخلص من أنقاض البرجين بعد اقل من 24 ساعة من الحادث، وقد رسى التلزيم على الشركة نفسها التي تعهدت بالتخلص من أنقاض مبنى (مورا) في مدينة اوكلاهوما؟. ويتضمن التعهد الإسراع في صهر الفولاذ وإعادة تدويره دون إجراء أي تحقيق أو بحث، مما آثار غضب مسئولي الدفاع المدني في نيويورك. أمريكي ينفق ملايين الدولارات لإثبات نظرية (مؤامرة من الداخل) وراء أحداث سبتمبر انفق (جيمي وولتر) أكثر من ثلاثة ملايين دولار للترويج لنظرية مؤامرة مفادها أن أحداث 11 سبتمبر 2001م في الولايات المتحدة كانت عملاً من الداخل. وهو يعرض الآن جائزة مالية لمن يثبت خطأ نظريته. والناشط المليونير مقتنع تماماً بوجود تغطية حكومية على الأمر إلى درجه جعلته يعرض جائزة قدرها مائه ألف ¬

(¬1) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص79 (¬2) أستاذ الفيزياء في جامعة بريغهام يونغ ستيفن جونز أكد ان انهيار البرجين لم يكن بسبب اصطدام الطائرات بل بسبب وجود متفجرات مزروعه في المبنى. (¬3) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان - ص 28

أدلة أخرى

دولار، لأي طالب هندسة يمكنه أن يثبت أن برجي مركز التجارة العالمي انهارا بالطريقة التي أعلنتها الحكومة، حيث أعلن أن لجنه تحكيم من خبراء في الهندسة ستقيم الأوراق التي يقدمها الطلبة. وفي مقابلة قال وولتر (57 عاماً) الذي ورث ثروة والده المقدرة بأحد عشر مليون دولار، حققها في مجال التشييد: بالطبع لا نتوقع فائزين. واتهم وولتر شخصيات في الحكومة والجيش وقطاع الأعمال بالتورط في أحداث 11 سبتمبر. ويصر (وولتر) على أنه كانت هناك بالتأكيد متفجرات زرعت في البرجين وهذا ما تسبب في سقوطهما بهذه الطريقة بالذات. كما رفض التفسير الرسمي للتلفيات التي لحقت بمبنى بالبنتاجون. وانفق (وولتر) ملايين الدولارات لدعم قضيته ونشر إعلانات على صفحات كاملة في صحف ومجلات كبرى، وإعلانات تلفزيونية مدة كل منها 30 ثانية. وأشار استطلاع أجرته مؤسسة زغبي وكشف عن أن 66 في المائة من سكان نيويورك، يريدون إعادة فتح التحقيقات في الهجمات (¬1). أدلة أخرى من المعروف أن الطائرة رقم11 اصطدمت بالبرج الشمالي الساعة 8:46 صباحاً، ثم اصطدمت الطائرة 175 بالبرج الجنوبي الساعة 9:30 صباحاً، وخلافاً لهذا الترتيب انهار البرج الجنوبي أولاً الساعة 9:50 صباحاً، أي بعد 47 دقيقة من التصادم الثاني للطائرة 175 به، ثم انهار البرج الشمالي الساعة 10:29 صباحاً، أي بعد 103 دقيقة من التصادم الأول للطائرة 11 به (¬2). وهنا نتساءل لماذا احتاج حديد الهيكل الإنشائي بالبرج الشمالي إلى ضعف الزمن الذي احتاجه نظيره بالبرج الجنوبي لينصهر مثله؟!! لقد تعرض الحديد في هيكلي البرجين لنفس درجة الحرارة، لأنها نتجت عن اشتعال نفس نوع الوقود في الطائرتين وبكميات متساوية. والمنطقي أن ينصهر الحديد في زمنين متساويين أو متقاربين، لكن ليس في زمنين أحداهما ضعف الآخر؟ لكن الإعلام الأمريكي يصر على أن يجعلنا نصدق أن هيكل البرج ¬

(¬1) جريدة الخليج- العدد 9343 - 17/ 12/2004 (¬2) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص87

محاولات تزييف التحقيقات

الشمالي ذاب في ضعف الزمن الذي احتاجه البرج الجنوبي، خلافاً حتى لقوانين الطبيعة! وحتى لو سلمنا بذلك الزعم، فان حقيقة جديدة يمكن أن تعترضنا وتنسف هذا الزعم نسفاً .. ذلك أن مراجعة شرائط الفيديو المسجلة للإصطدامين، تبين لنا أن الطائرة الأولى (رحلة 11) قد اصطدمت بمنتصف واجهة البرج الشمالي، وغاصت بكاملها داخله، بينما اصطدمت الطائرة الثانية (رحلة 175) قرب الركن الجنوبي للبرج، أي أن هناك فارق بين التصادمين تتبدى أهميته في أن وقود الطائرة الثانية قد تطايرت كمية كبيرة منه إلى خارج المبنى الجنوبي، عبر الحائط المجاور للركن أو الزاوية محدثاً انفجاراً اكبر حجماً خارج البرج، كما رأينا فيما بثته القنوات الفضائية عقب الحادث، بينما اشتعل وقود الطائرة الأولى بكامله داخل البرج الشمالي. إذن فحجم الوقود الذي اشتعل داخل البرج الجنوبي كان أقل حجماً من نظيره الذي اشتعل بالبرج الشمالي، ومعنى ذلك أن كمية الحرارة التي نتجت في حريق البرج الشمالي كانت اكبر بكثير من كمية الحرارة التي نتجت عن حريق البرج الجنوبي .. ومع ذلك فقد انصهر الصلب في أعمدة وكمرات الهيكل الإنشائي بالبرج الجنوبي أسرع من توأمه الشمالي، وانهار بعد 47 دقيقة! يضاف إلى ما تقدم حقيقة علمية مهمة وهي أن صلب الأعمدة الحديدية لا يمكن أن ينصهر من وقود الطائرات، لان الحرارة الناتجة من اشتعال وقود الطائرات تصل إلى 815 درجه مئوية بينما الحديد الصلب ينصهر عند درجة 1538 (¬1). محاولات تزييف التحقيقات مما تقدم يتضح انه من العبث القيام بالبحث عن خاطفين لهذه الطائرات، لأنها لم تختطف، بل وُجِّهت عن بُعد إلى الأهداف المرسومة لها. كما أن الأبراج لم تنفجر نتيجة اصطدام الطائرات بالأبراج، بل نتيجة تفجير داخلي ... الخ. ولكن لما كان من شروط اللعبة اتهام العرب والمسلمين بتنفيذ الضربة الجوية، كان من الضروري ترتيب سيناريو خطف الطائرات من قبل إرهابيين عرب. ولكن عندما ¬

(¬1) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص87 - 91

اتجهت التحقيقات إلى مثل هذه الوجهة الخاطئة، ظهر العديد من محاولات التزييف، وتبين أن غاية التحقيقات لم تكن من أجل الوصول إلى الحقائق، وتعيين مرتكبي العملية، بل إلصاق التهمة بالعرب وبالمسلمين. نذكر هنا أمثلة من هذه المحاولات: 1 ـ عندما أعلنت الخطوط الجوية الأمريكية أول لائحة بأسماء الركاب، لم يكن فيها اسم أي عربي. ثم تم تغيير اللائحة فجأة ودون ذكر مبرر للتغيير، وقدمت لائحة تحتوي على أسماء 19 راكبًا عربياً، اتجهت إليهم أصابع الاتهام. فكيف يمكن تغيير لائحة الأسماء ببساطة؟ ومن يقف وراء تغيير مسار التحقيق؟ وهنا نتساءل، من يعرف مصير أصحاب الأسماء العربية التي نشرت وقيل إنهم مختطفو الطائرات؟ من أخفاهم أو من تخلص منهم وبأية طريقة؟ ما دام لا يوجد أي اسم منهم في قائمة أسماء الركاب لأي من الطائرات الأربع، فأين هم وكيف اختفوا؟ إلا يستحق هذا السؤال أن يثار من قبل من يتصدون لكشف الحقيقة؟ المحقق الخاص (جوفيالز) نشر لوائح كاملة بأسماء الركاب، وأطقم الطائرات الأربع، وهو يقول: إنه لا يوجد بينها اسم واحد لعربي واحد، ويتحدى السلطات الرسمية أن تنشر كشوفات غير تلك التي ينشرها شرط أن تبين مصدر تلك اللوائح؟ وشرط أن تخضع لتحقيق خبراء محايدين للتأكد من أن أصابع الاستخبارات، والمافيات المتآمرة لم تعبث بها (¬1). 2 ـ بعد نشر اللائحة الجديدة تبين أنها مزيفة تمامًا، إذ وردت فيها أسماء أشخاص توفُّوا قبل سنتين، كما وردت فيها أسماء أشخاص أحياء ويعملون حاليًا في بلدان أخرى. ومع وجود محاولات التزييف هذه، لم تشعر وسائل الإعلام الغربية - إلا في النادر - بالحاجة للتنديد بالأخطاء الكبيرة في سير التحقيق، ولا إلقاء أي شبهة على نية المحققين ولا كفاءتهم، وبقيت التهمة لاصقة بالعرب وبالمسلمين. 3 ـ ظهر أن المختطفين استخدموا هويات عربية مسروقة أو مفقودة قبل 11 عامًا. ولم يكن أسامة بن لادن قد شكَّل منظمة القاعدة بعد، فكيف حصلت منظمة القاعدة إذن على الجوازات ثم استخدمتها؟ وكيف يمكن لمستخدمي الهويات والجوازات المسروقة التي انتهت مدة صلاحيتها استخدامها عند شراء بطاقات السفر؟ ¬

(¬1) راجع: http://www.sweetliberty.org/issues/war/homerun.htm

هل تم شرائها عن طريق الانترنت، أي استخدموا بطاقات الائتمان. ولكن كيف يمكن استخراج بطاقات الائتمان بهويات مسروقة انتهت مدد صلاحياتها؟ 4ـ خرجت الولايات المتحدة بعد العمليات بعشرة أيام برسالة، تزعم أنها توجيهات من أبي عطا إلى الخاطفين وجدت في أمتعته، وهي التي تخبطت في إدانته في البداية أكثر من أربعة أيام؟ فلو كانت الرسالة لديها كما تزعم لماذا تخبطت كل تلك الفترة!!. 5ـ يتفق الجميع على أن هذه الجريمة بالغة التنظيم، لذلك يجب أن يكون الذين قاموا بها على أعلى درجة من الكفاءة، فهل يُعقل أن يكونوا بهذا الغباء والإهمال بحيث يتركون الأدلة عليهم ملقاة في كل مكان، ولا يتركوا رسالة مكتوبة توضح الغرض من الجريمة؟ فإذا كان الجناة عرباً، ألم يكن أجدر بهم ترك رسالة بدلاً من تركهم مخالفات وأدلة ملقاة في كل مكان. فحجز الأماكن بالطائرات المخطوفة كان بأسماء عربية، والسيارات التي تم استئجارها للوصول إلى المطار تُركت، وبها مصحف، وكتيبات تعليم طيران، وكتب أخرى باللغة العربية. فالجريمة لا تكتمل إلا بإلْصاق التهمة بالمسلمين، وهذا هو الهدف من ورائها، لذلك نجد الأدلة المختلفة في كل مكان بطريقة مكشوفة تدعو للريبة. يتبين من هذه الأسئلة ـ ومن أسئلة أخرى طرحها آخرون (¬1) ـ كيف أن التحقيقات لم تَجْرِ بشكل حيادي للوصول إلى الفاعلين الحقيقيين. فعندما لم تجد أمريكا دليل واحد على مسئولية ابن لادن .. أخذت تلفق الأدلة وتتخبط تخبط جاهل عيي .. لكنه الجاهل العيي، الذي يمسك في يده مسدساً سيطلقه على الفور على من يكذب حججه المتهافتة .. ولم تكن الأدلة التي قدمتها محض غباء، ولا مجرد استهانة بالعالم الإسلامي .. بل كانت إهانة. فتسريب أخبار كاذبة وملفَّقة وبعيدة عن العقل، وعن المنطق، يدل على محاولة تحريف الحقائق عن عمد. فقد سُرِّب مثلاً خبر العثور ـ في أنقاض مركز التجارة ـ على جواز سفر أحد الخاطفين وجُثّة قائد الطائرة الثانية، ويداه مربوطتان. وتلفيق الخبر واضح، لأنه من المستحيل بقاء جثة يمكن التعرف عليها بعد ذلك الانفجار الهائل الذي أذاب الأعمدة الفولاذية للبناية .. إذ كيف يمكن بعد مثل هذا الانفجار وجود جثة غير محترقة؟

وهناك علامات استفهام أخرى عديدة لم تحاول وسائل الإعلام الأمريكية أو الغربية الأخرى نبشها ومحاولة الإجابة عنها، مثل: 1 ـ لماذا ألغى شارون زيارته المقررة لمدينة نيويورك يوم الهجوم؟ ولماذا لم تحقق الولايات المتحدة مع رئيس الوزراء اليهودي السابق (إهود براك) الذي كان قبل العمليات بساعة يلقي خطابه في أحد المحطات الأمريكية، ويدين فيه الإرهاب العربي ويدعو لمكافحة الإرهاب؟! .. 2 ـ لماذا شهدت بورصة نيويورك - في اليومين السابقين للهجوم - حركة ونشاطًا غير اعتياديين؟ .. ألا يدل هذا على أن أناسًا كانوا يعرفون ما سيحدث فبدأوا ببيع أسهمهم؟ 3 ـ قام مصورون بتصوير هجوم الطائرة الأولى على مركز التجارة تصويرًا حيًّا، فكيف عرفوا أن شيئًا ما سيحدث لكي يوجِّهوا كاميراتهم إلى البناية؟ (¬1). ولماذا أهملت الولايات المتحدة الاحتفال الذي قام به متطرفون يهود أمام أنقاض مبنى التجارة؟! 4 ـ لماذا لم يكن في الأمكنة المستهدفة عدد يذكر من اليهود؟! وقد أعلنت بعض التقارير عن تغيب 4000 آلاف يهودي عن العمل صبيحة الضربات؟! فقبل ساعتين من الهجوم تم بث رسائل إلى شركات إسرائيلية وموظفيها ممن لها مكاتب في إسرائيل وفي مركز التجارة العالمي، تحذر من الهجوم الوشيك. واعترف (الاف بي أي) بأنه كان يحقق في الرسائل التي تلقيها وأرسلتها شركة (اوديغو) الإسرائيلية. 5ـ لماذا كانت نسبة وفيات الإسرائيليين في مركز التجارة الدولي متدنية بشكل لا يصدق، ما لم يكن هناك على الأقل بعض المواطنين الإسرائيليين ممن تم تحذيرهم. فقد أوردت صحيفة الجيروزليم بوست، وهى من كبريات الصحف الإسرائيلية في عددها في اليوم الذي تلا الهجمات في عناوينها الرئيسة أن هناك أربعة آلاف إسرائيلي، يعتقد أنهم كانوا في محيط مركز التجارة العالمي. فقد كان انخراط إعداد ضخمة من المواطنين الإسرائيليين في الأعمال المصرفية والسمسرة ¬

(¬1) بثتت بعض محطات التلفزيون أخيرا صور جديدة للحادثة لم تقم ببثها من قبل، تصور الهجوم منذ بدايته ومن زوايا مختلفة.

والتمويل والتجارة الدولية في مركز التجارة العالمي أمراً أسطورياً، فحتى مالك مركز التجارة العالمي بالشراكة كان هو نفسه مواطناً إسرائيلياً، لذا فإنه على عكس ما أوحت به الجيروزالم بوست حول عدد القتلى الإسرائيليين في مركز التجارة العالمية، فإن العدد الحقيقي للقتلى الإسرائيليين لم يتجاوز الواحد فقط. هذا هو الصحيح .. قتيل واحد فحسب، وهو رقم غير معقول بكل المقاييس، إلا أن يكون بعض الإسرائيليين قد تم تحذيرهم من الهجوم الوشيك. هذه الأسئلة وغيرها، أجاب عليها (تيرى ميسان) في كتابه التضليل الرهيب حيث قال: إن مؤسسة إسرائيلية هي وحدها التي استقبلت وقبل نصف ساعة من بدء العمليات رسالة إنذار من مؤسسة أخرى غير معروفة، تحذر من وقوع الهجوم في اليوم ذاته، ثم قامت المؤسسة الإسرائيلية المتخصصة في مجال الاتصالات الإلكترونية بإرسال هذا الإنذار إلى جهات صديقة عديدة متواجدة في برجي مركز التجارة، لكن الكثير من هذه الجهات لم يأخذ هذا التهديد على محمل الجد، ولما وقعت الواقعة الرهيبة لم تدل هذه المؤسسة بأية تفاصيل أخرى عن مضمون الإنذار الذي أتاها، إلا لعدد قليل جداً (لا يتجاوز 4ـ5 جهات) فقط، وكانت صحيفة (هاآرتس الإسرائيلية) إحدى هذه الجهات حيث نشرته بصيغه ما في أحد أعدادها ولكنها لم تقم بمتابعة الموضوع بعد ذلك، بل سكتت عنه، والسؤال المنطقي هنا: من أي مصدر عرفت (هاآرتس) بهذا الإنذار، ولماذا هي دون غيرها من صحف العالم؟! علماً بأن الوحيدين الذين اخذوا هذا الإنذار على محمل الجد هم اليهود، الذين كانوا متواجدين في مركز التجارة لثقتهم بمصدره الإسرائيلي فهرعوا هاربين. ومع أن هذه المؤسسة لا تخضع للقانون الأمريكي كما تقول معلومات (ميسان)، إلا إنها سرعان ما توقفت عن الإدلاء بأي حديث حول هذا الموضوع، كما امتنعت عن الرد على أي استفسار باستثناء جهاز الـ (اف بى آي)! (¬1). ويؤكد فينس كانيستروانو من (وكالة المخابرات المركزية CIA) حقيقة علم الإسرائيليين المسبق بالحادث، فيقول: أعتقد أنه كان لدى الإسرائيليين من المعرفة ما يكفي لأن يكونوا على بعد دقيقتين من اصطدام الطائرة بالبرج، كان ¬

(¬1) التضليل الرهيب - تيرى ميسان ص30

عدم الثقة بالتحقيقات الأمريكية

الإسرائيليون يعرفون أن شيئاً سيحدث، فأرسلوا أناسهم لتصويره. لا أعتقد أنهم كانوا يعلمون أنها عملية إرهابية للقاعدة، لكنهم كانوا يعلمون أن شيئاً ما سيحدث، ولم يقولوا لنا، لكن الأهم من اعتقادي، هو اعتقاد بعض عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي أن مكتبهم كان يمكن أن يحصل على معلومات مهمة لو كان الإسرائيليون أخبرهم بما كانوا يفعلون قبل الحادي عشر من سبتمبر. عدم الثقة بالتحقيقات الأمريكية من الجدير بالذكر أن نشير قبل مواصلة طرح الأسئلة على الولايات المتحدة، إلى أمور كثيرة تدعو إلى عدم الثقة بالتحقيقات الأمريكية. فقد ضربت أمريكا مصنع الشفاء للدواء في الخرطوم، بناءً على تقارير مؤكدة لدى الـ (سي آي إيه)، بأنه مصنع للكيماويات ومرتبط بأسامة ابن لادن، ولكن التحقيق الذي قامت به أطراف محايدة اثبت عدم صحة التقارير الأمريكية، وبالرغم من ذلك لم تتراجع الولايات المتحدة ولم تعوض أو تعتذر أو توافق أن تكون طرفاً في محاكمة دولية. وكذلك ضربت الولايات المتحدة أفغانستان ودمرت معسكر البدر للكشميريين زاعمة أنه هو معسكر القاعدة الرئيسي، بناءً على تقارير مؤكدة طبعاً!!! وكذلك اتهمت الحكومة الأمريكية بن لادن في تفجير سفارتيها ولا زالت حتى اليوم رغم ان محاكمة المتهمين لم تثبت ما يدين ابن لادن قانونياً. وكذلك وجهت التهمة شبه رسمية إلى الإسلاميين في تفجير أوكلاهوما، وبعد التحقيق اتضح بأنهم يمينيون أمريكيون متطرفون. وهذه التقارير الوهمية التي استندت عليها الحكومة الأمريكية في الاعتداء على الآخرين ومحاكمتهم غيابياً صادرة عن نفس الهيئة التي ستعتمد عليها الحكومة الأمريكية في إدانة أسامه بن لادن وطالبان، ومن ثم ضرب أفغانستان وقائمة طويلة من الدول الإسلامية. لذا يجب ألا يصدّق العالم تلك التقارير التي تزعم أن لدى الحكومة الأمريكية 40 ألف خيط يؤدي إلى إدانة الفاعلين، كما صرح (رامسفايلد) وزير الدفاع في ثاني يوم من التفجيرات. ويجب على دول العالم بناءً على عدم الثقة

فضائح تحقيقات FBI

في التقارير الأمريكية بسبب تاريخها السابق، أن تطالب بتشكيل لجنة دولية للتحقيقات، ولا تسمح للولايات المتحدة بأن تتكتم على أدلة التحقيقات وتوجه التحقيقات والإدانة إلى من شاءت وتصرفها عمن شاءت. ويناقش كتاب (تقرير لجنة 11/ 9 التجاهلات والتحريفات) من تأليف (دافيد راي غريفين) - والذي صدر بعد ثلاث سنوات من الأحداث- التقرير الرسمي عن الأحداث، ويفند كثيراً مما جاء فيه، ويجد المؤلف أن اللجنة لم تكن تدير تحقيقاً فعلياً، وأن التقرير النهائي للجنة لا يمكن الوثوق به بسبب الادّعاءات الكاذبة والتحريفات والتجاهلات التي قامت بها اللجنة، وأن الدلائل تشير إلى تورط إدارة بوش في هجمات11/ 9 لتحقيق سيطرة أمريكية على العالم، وللحصول على مصالح تجارية ونفطية لصالح مجموعة في الحكم والإدارة وحلفائها، وللتغطية على فساد واختلاسات وتجاوزات كبيرة (¬1). فضائح تحقيقات FBI الأكاذيب الكبرى .. يتبعها ناس كثيرون .. عبارة شهيرة لهتلر تنطبق بامتياز علي ما يشهده العالم عما يقال عن إقامة تحالف دولي ضد ما يسمي (الإرهاب الإسلامي)، مما يدل علي وقوع العقل الغربي في أسر عقلية عنصرية تلفيقية متطرفة، تتحدث عن تفوقها الحضاري، وعن قيادة (حرب صليبية) طويلة المدى تعتمد علي إجراءات علنية وأخري سرية .. ضد الإرهاب تحت عنوان (النسر النبيل) وتنتهي (بانتصار الخير علي الشر)، لتحقيق (العدالة الأبدية المطلقة). ليس ذلك فقط بل إن الإعلام الغربي .. وبعض الصحف الغربية أصبحت تنقل عن المباحث الفيدرالية الأمريكية FBI والمخابرات المركزية الأمريكية CIA وكأنها ناطق رسمي باسمها (¬2)، دون أن تدقق في مصداقية الأدلة رغم سذاجتها وتهافتها. ¬

(¬1) انظر "تقرير لجنة 11/ 9 التجاهلات والتحريفات" - تأليف دافيد راي غريفين- ترجمة بسام شيحا- مكتبة مدبولي-ط 1 - 2006 (¬2) لم يقتصر هذا الأمر على وسائل الإعلام الغربية، بل أن كثير من وسائل الإعلام العربية تبعتها في ذلك.

وإذا عدنا إلى مصداقية سلطات التحقيق الأمريكية خاصة CIA و FBI في ملفات أخرى، فإنه واضح للعيان في موضوع إسقاط الطائرة المصرية بجوار نيويورك رغم التزييف الهائل للأدلة. كما انه كان اشد وضوحاً في قضية قتل الرئيس الأمريكي (جون كيندي) في 22 نوفمبر سنة 1963م، حيث قامت هذه الجهات بتلفيق تحقيقات وأدلة، والاعتماد علي ما يسمي "السرية" لإخفاء أدلة أخرى، بل وصل الأمر إلى اغتيال الجاني الحقيقي بواسطة عملاء هذه الجهات، تم استدل ستار من الغموض على القضية. وهنا يستدعي التقرير الألماني قول أيزنهاور: "إن التأثير الكامل للنفوذ السياسي للبنية الصناعية العسكرية واضح في كل مكتب، وكل مدينة، وهي تعد خطراً كبيراً، لأن قوتها الهائلة تعمل علي انهيار التوازن السياسي" (¬1). ثم يستطرد إلي أن (كنيدي) تصادم مع (المؤسسة الشبحية) أو المؤسسة X، وهي المؤسسة التي تضع الأهداف الحقيقية للإستراتيجية الأمريكية، والتي لها رجالها في المناصب العليا سواء مؤسسة الرئاسة أو الكونجرس أو CIA و FBI، فيما بعد وكالة الأمن القومي NSA، وأخيراً وكالة الاستطلاع القومي هذا بالإضافة إلى البنتاجون والبحرية الأمريكية ... و ... و ... !! فهي المؤسسة الحاكمة فعلاً في الولايات المتحدة لذا كان يجب أن يموت "كنيدي" حيث اتجه إلى إعلان سعيه لإنهاء الحرب الباردة، والبدء في التعاون مع خورشوف، وإنهاء الحرب في جنوب شرق آسيا، لذا فقد بدأ (كينيدي) في العمل مع مؤسسات عدة من أهمها مخابرات البنتاجون وصلت في سبتمبر 1963 إلى تجهيز خطة تهدف إلى سحب القوات الأمريكية من فيتنام حتى نهاية العام 1965م. ولكن بعد أسبوع من قتل الرئيس الفيتنامي في (سايجون) وقبل أسبوعين من قتل "كيندي" تم إلغاء الأمر في 7 يونيو 1963م ولكن كنيدي أصر علي إكمال الخطة، ولم يخضع للتهديدات التي حذرته بقتل الرئيس الفيتنامي ¬

(¬1) راجع: خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص129

أسلوب الكشف عن المجرم

فكان لابد من التخلص منه، وكان لابد أن يحدث الانقلاب ضد الحكم الشرعي فيما يسمي "بالديمقراطية الأمريكية" (¬1). ويناقش كتاب "تقرير لجنة 11/ 9 التجاهلات والتحريفات" من تأليف (دافيد راي غريفين) - والذي صدر بعد ثلاث سنوات من الأحداث- التقرير الرسمي عن الأحداث، ويفند كثيراً مما جاء فيه، ويجد المؤلف أن اللجنة لم تكن تدير تحقيقاً فعلياً، وأن التقرير النهائي للجنة لا يمكن الوثوق به بسبب الادّعاءات الكاذبة والتحريفات والتجاهلات التي قامت بها اللجنة، وأن الدلائل تشير إلى تورط إدارة بوش في هجمات11/ 9 لتحقيق سيطرة أمريكية على العالم، وللحصول على مصالح تجارية ونفطية لصالح مجموعة في الحكم والإدارة وحلفائها، وللتغطية على فساد واختلاسات وتجاوزات كبيرة (¬2). أسلوب الكشف عن المجرم هناك قاعدة تقول إنه لا من جريمة كاملة .. حيث أنه يجب أن تكون هناك آثار وأدلة تقود إلى المجرم الحقيقي .. وهناك قاعدة أخرى في علم الجريمة تقول: "فتِّش عن سبب الجريمة، والدافع إليها، ثم ابحث عن المستفيد من هذه الجريمة" .. فما الدافع إلى هذه الجريمة؟ ومن المستفيد منها؟ ومن قام بها؟. خطاب لاروش حجة قوية ألقى (ليندون لاروش) من الحزب الديمقراطي، محاضرة في واشنطن في 24ـ7ـ2001م، أي قبل 48 يومًا من وقوع الهجوم في نيويورك وواشنطن قال فيها: "نحن في أزمة مالية .. إن الولايات المتحدة الأمريكية تدار بشكل سيئ منذ عهد ¬

(¬1) التقرير الألماني /ما حدث هل هو إرهاب، أم انتقام داخلي، أم انقلاب عسكرى- تقرير وليد الشيخ - 19 - 9 - 2001 - المصدر: شبكة المعلومات العربية محيط (¬2) تقرير لجنة 11/ 9 التجاهلات والتحريفات" - تأليف (دافيد راي غريفين سام شيحا- مكتبة مدبولي-ط 1 - 2006

كارتر. ونظامنا على حافة الإفلاس. إن نظم المواصلات، والطاقة، والتعليم، والصحة، وبنيتنا التحتية في حالة انهيار. إن80% من الشعب هم من ذوي الدخول المحدودة، ووضعهم الآن أسوأ بكثير من وضعهم في عام 1977م، وما دام صندوق النقد الدولي، وسياستنا الحالية، و (وول ستريت)، والنظام الاحتياطي الفيدرالي لا يزال مهيمنًا علينا، فلا يتوقع أحد أي إصلاح أو تحسن. وإذا استمرت الحال على هذا المنوال، فقد يضطر الرئيس بوش إلى التخلي عن منصبه قبل انتهاء مدة رئاسته. إن الانهيار لا يظهر فجأة أمام الأعين، فالسياسات الخاطئة تستمر وفجأة تقع الأزمة". ويكمل قائلاً: "ليست الولايات المتحدة وحدها، بل إن إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا ـ أي دول غرب أوروبا ـ على حافة الإفلاس أيضًا .. ولكن عندما أشرفنا نحن وأوروبا على الإفلاس، سحبنا أمريكا الجنوبية أيضًا إلى الانهيار .. إن أفريقيا تُزال من الوجود أمام أعين الولايات المتحدة من قبل الإنجليز، ومن قبل بعض الأوساط في الولايات المتحدة، فمثلاً يقوم والد الرئيس بوش بالاتفاق مع رئيس الوزراء السابق لكندا بواسطة شركتهم ( Barrick Gold) بالاستقرار في الكونغو، وبنهب مناجم الذهب والماس فيها. ويقوم هؤلاء - وكذلك العديد من الشركات المتعددة الجنسيات ـ بتشكيل فرق جيوش خاصة في جميع أنحاء أفريقيا، وبدفع الأفريقيين لقتل بعضهم البعض. وبهذه الطريقة، ينهبون ثروات أفريقيا من جهة، ويقلِّلون نفوس سكانها من جهة أخرى. من جهة أخرى هناك تحولات جديدة في آسيا .. في روسيا والصين والهند، بل حتى في اليابان. لقد تأسست منظمة (وحدة شنغهاي)، وهناك جهود لتأسيس خطوط مواصلات تبدأ من الصين ومن آسيا وتمتد إلى أوروبا. وتخطِّط دول جنوب آسيا لتعاون مماثل. هناك أعداد كبيرة من الناس في آسيا، ونستطيع بعد توحيد كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية إنشاء خطوط مواصلات تمتد من هنا إلى سيبيريا ومنها إلى أوروبا. نستطيع مد يد المساعدة لنهضة الدول التي تقع على هذه الخطوط، وغيرها من الدول بإعطاء القروض دون فوائد. ونستطيع بذلك فتح أسواق جديدة وواسعة لنا. ولكن يتم في مثل هذه الأوضاع والفترات في العادة إشعال نار حروب عالمية. لقد تسبب الإنجليز في إشعال نار الحرب العالمية الأولى للحيلولة دون حدوث

مثل هذه التحولات في آسيا. قاموا أولاً بإشعال النار في البلقان، ثم في العالم بأسره. وقام الألمان بإشعال نار الحرب العالمية الثانية بنفس الدوافع. والآن تريد القوى الموجودة في داخل الولايات المتحدة وفي إنجلترا ـ ومن ضمنهم بريجنسكي ـ إشعال حرب عالمية لعرقلة هذه التحولات الجديدة الجارية في آسيا. إن شهر أغسطس أفضل وقت لإشعال مثل هذه الحرب. وسيعلنون أن هذه الحرب هي حرب بين الغرب والإسلام. علينا أن نمنع وقوع مثل هذه الحرب. ولهذا علينا أن نوقف شارون في إسرائيل قبل كل شيء. الحرب هي الهواية الوحيدة لهذا الشخص. علينا أن نوقفه وأن نؤمن السلام في الشرق الوسط، وأن نحيي نظامنا ونتحول إلى النهضة بطريقة روزفلت" .. هذا هو الخطاب التاريخي الذي ألقاه لاروش قبل حادثة الهجوم. وهو يبين مدى بُعْد نظر هذا السياسي. وبعد أسبوع واحد من وقوع الهجوم، صرَّح في مقابلة إذاعية بما يأتي: "إن عملية 11 سبتمبر عملية مكياج صُنعت في فترة تسود فيها أزمة مالية ونقدية في العديد من الدول. لم تقم بهذه العملية أي قوة من خارج الولايات المتحدة الأمريكية أبدًا. يحتمل أن هناك أفرادًا من بلدان أخرى تم استخدامهم فيها. ولكن الذي قام بهذه العملية عبارة عن قوى موجودة في داخل الولايات المتحدة، والهدف منها القيام بانقلاب إداري فيها، وجرِّ الولايات المتحدة إلى الحرب. وهذه القوى مستعدة للقيام بعمليات أخرى للوصول إلى هدفها، وستقوم بإثارة الجماهير لجرِّ الحكومة ودفعها للحرب. علينا أن نوقف هذا. عليكم ألا تصدقوا أبداً الأخبار التي تذيعها قنوات CNN و FOX TV والقنوات المشابهة لهما. إن تصديق ما تذيعه هذه القنوات لجر البلد إلى الحرب يعني أنك تكون آلة لتحقيق أهداف الذين قاموا بهذه العملية. علينا ألا نفكر في التدخل في أفغانستان، وعلينا إيقاف إسرائيل عند حدها، لأنها تشكِّل خطرًا على الولايات المتحدة الأمريكية وعلى غيرها من الدول، وأن نؤسس السلام في الشرق الأوسط؛ لأن التوتر الموجود في هذه المنطقة جزء من الحرب المخطط لها في آسيا". وفي مقابلة صحفية قام بها مدير تحرير ( Executive Intelligence Review) مع لاروش في 18/ 9 /2001م صرح لاروش بما يأتي: "قبل كل شيء ..

إن ما حدث في الولايات المتحدة يوم الثلاثاء الماضي في اليوم الحادي عشر عبارة عن هجوم رتبته قوة غامضة؛ وهذه العملية تتسم بالخداع وصادرة من داخل حجاب وستار قوى الأمن في الولايات المتحدة. لم يأت أصحابها من الشرق الأوسط ولا من أوروبا ولا من أمريكا الجنوبية. يحتمل وجود أفراد من أمم أخرى تم توريطهم فيها (¬1)، ولكن هذه العملية عملية معقدة ورفيعة المستوى جداً، ولا يمكن حالياً لأحد خارج الولايات المتحدة تنفيذ مثل هذه العملية، لذا فنحن نرى أنها عملية متسمة بالخداع وذات مستوى رفيع من التنظيم وهي من داخل بلدنا. والمشكلة لا تنحصر في هذا فقط، فنحن نعلم أنه إن حدثت مثل هذه العملية فإن أمورا أخرى عديدة ستسير نحو وجهات خاطئة ... نحن لا نحاول هنا اكتشاف مقترفي العملية لعقابهم فقط، بل للحيلولة بينهم وبين القيام بما ينوون من اقتراف أمثال هذه العمليات، بل بأسوأ مما حدث في 11 سبتمبر" (¬2). ¬

(¬1) اعتقد أن الأشخاص الذين اتهموا بتدبير التفجيرات اغتيلوا ولم يكن لهم آي علاقة بها، وحتى أسامه بن لادن هذه الكذبة الكبيرة التي صنعتها أمريكيا لا يعلم أي شيء عن هذه التفجيرات وليست لديه أي قدره على تنفيذ مثل هذه العمليات، ولكن استغلت أمريكا حالة التعاطف معه وحولته إلى بطل وقامت بتلميعه، ودست عملاء لها في صفوف تنظيم القاعدة، والذين ربما اقنعوا بن لادن أنهم قاموا بهذه التفجيرات، وليس أدل على ذلك أن الأسرى الأمريكان والبريطانيين "كلهم بروتستانت" تم اعتقالهم في أفغانستان، ولكنهم سجنوا حسب المزاعم الأمريكية في سجون في بلدانهم بعيداً عن السجناء الآخرين من تنظيم القاعدة، واطلق صراحهم فيما بعد. كما أن اعتقال حركة طالبان لعدد من عملاء المخابرات الأمريكية والبريطانية قبل الأحداث مباشرة يؤكد وجود مثل هذه المؤامرة. وحتى الضجة الإعلامية الكبيرة التي افتعلتها أمريكا حول خطابات بن لادن لم يكن الهدف منها منع إذاعة هذه الخطابات، بل لاغراء الناس لسماعها، لأنها حوت اعتراف مبطن من بن لاذن عن مسئوليته عن هذه العمليات، والذي خدم أمريكيا اكبر خدمه بعد إن كانت ولازالت تتخبط في إيجاد الأدلة المضحكة والتي جعلت كل دول العالم تسخر منها .. ولكن جاءت تلميحات بن لادن لتنقذها من هذه الورطة، ولهذا فهي المستفيدة الأكبر من هذه الخطابات، وهى المستفيدة الأكبر من وجود بن لادن وبقاءه حياً لتنفيذ مخططاتها. وهذا لا يعنى أن بن لادن عميل لأمريكا، بل نعتقد انه ساذج ومسير من قبل عملاء مدسوسون في صفوف تنظيمه، وهذه سياسة استخدمتها إسرائيل وأمريكيا في كثير من بلادنا العربية. (¬2) راجع صفحة الإنترنت الخاصة بليندون لاروش www.larouchein2004.net

محاضرة لضابط سابق في شرطة لوس انجلوس

محاضرة لضابط سابق في شرطة لوس انجلوس كشف مسئول سابق في شرطة لوس أنجلوس الأمريكية أن حكومة بلاده متواطئة وشريكة في تنفيذ هجمات 11 سبتمبر على مركز التجارة العالمي! ففي محاضرة أقيمت في حرم جامعة ولاية بورتلاند ونظمتها صحيفة رير جارد Rear Guard ـ واستمرت لمدة ساعتين ونصف الساعة - اشتملت على عرض للوثائق المتصلة بهجمات 11 سبتمبر وما أعقبها، وحضرها جمع غفير، تحدث) مايك روبرت) الضابط السابق في شرطة لوس أنجلوس، وكشف عن تلك الحقائق والتفاصيل المذهلة، وبدأ محاضرته بتقديم رهان بمبلغ (1000) دولار أمريكي لأي شخص يستطيع أن يبرهن على أن المصادر التي أشار إليها ليست مصادر موثوقا بها، أو أنه قد قدم معلومات مغلوطة. وخلال المحاضرة قدم أكثر من (40) معروضًا بصريًا تؤكد اشتراك الحكومة الأمريكية وعلمها المسبق بالهجمات. وازدادت حرارة انفعال الجمهور وغضبه عندما قدم (مايك روبرت) مقتطفات من كتاب (رقعة الشطرنج العظمى) الذي أصدره في عام 1997م (زبيغنيو برزنسكي) مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس "كارتر" وعضو اللجنة الثلاثية. وهذه المقتطفات بالإضافة إلى خرائط (لآسيا الوسطى) أوضحت بجلاء أن الحرب الحالية في أفغانستان كانت قيد التخطيط منذ أربع سنوات على الأقل. وتشير مقتطفات من ذلك الكتاب إلى الحاجة الماسة إلى هجوم يشابه هجوم (بيرل هاربور). وكانت المحاضرة حافلة بالإثباتات الوثائقية، وأوضح بالأدلة الدامغة أن الولايات المتحدة وبريطانيا نشرتا قوات كبيرة في المنطقة قبل وقوع الهجمات في نيويورك وواشنطن. وأوضح مايك روبرت كيف أن الدكتور (هنري كيسنجر) كان العقل المدبر لتلك الصفقة. واختتم (روبرت) محاضرته بتقديم تحليل عن أثر هجوم 11 سبتمبر على الحقوق المدنية الأمريكية في شكل ما يسمى بقانون ( PA-Tiot) ، وقرارات أصدرها من جانب واحد الرئيس (بوش) ووزير العدل (جون اشكروفت)، والتي أبطلت عمليًا ثلاثة تعديلات في مشروع قانون الحقوق، وحذفت جزءًا منه، وعرض أيضًا

إدوارد اسبانوس (رئيس تحرير انتلجنس ريفيو)

أدلة وثائقية من وثائق الكونغرس لمساندة ادعائه بأن إدارة (بوش) تخطط لنهب أموال الضمان الاجتماعي (وهذا ما حدث في فضيحة شركة ارنون) (¬1). إدوارد اسبانوس (رئيس تحرير انتلجنس ريفيو) يقول إدوارد اسبانوس من حركة (لاروش): عد إلى اغتيال (كينيدي) كانت هناك كمية من المموهات، دخان، تراب، لبلبلة الموقف، لذا نصر على ما نعرف أنه حقيقة، والحقيقة أن ابن لادن لم يكن يستطيع القيام بذلك، وأن هذه كانت عملية في غاية التعقيد والسرية، تمت من داخل أميركا، ونحن نعلم من كان لديه الدافع، وأين تكمن الإمكانات. ويضيف إدوارد اسبانوس: لدينا في حركة (لاروش) تجارب مع مكتب التحقيقات الفيدرالي، نصبوا لنا فخاً، وسجنوا لاروش زوراً إننا نعلم كيف يعملون، ونعلم أنهم قادرون على تزييف الأدلة، والإيقاع بالناس، ولذلك لا نستطيع استنتاج شيء محدد بالنسبة للتسعة عشر، فقد تكون العملية كلها مجرد فخ. فهؤلاء التسعة عشر هل كانوا على الطائرات؟ لا أحد يعلم، ولا دليلاً قاطعاً على أنهم قاموا بها، وبالتأكيد لا يوجد دليل على أن ابن لادن قد قام بها على الإطلاق، طرح الافتراض من البداية انه ابن لادن، سنركز عليه، ثم نشن حرباً في الشرق الأوسط. إن ما ينبغي قوله بشأن التسعة عشر أنه حين نشر مكتب التحقيقات الفيدرالي تلك القائمة في غضون يوم أو يومين اكتشفنا أن ستة أو سبعة منهم كانوا أحياءً لم يموتوا، وبعضهم كان حيا يرزق في السعودية (¬2). ثم يتساءل اسبانوس: لماذا تم ضرب مركز التجارة أولاً؟ ويجيب على ذلك بقوله: طبعاً لأنك حين تضرب مركز التجارة العالمي أولاً سيذهب تفكير الناس فوراً إلى أسامة بن لادن، القاعدة، لأن عمليةً وقعت في مركز التجارة عام 93، لذا فإن ضرب المركز أولاً يرسَّخ فكرة أن وراءها ابن لادن والإرهاب الإسلامي. ويستنتج إدوارد اسبانوس من ذلك: إذا كان خطط للعملية كما نعتقد من داخل أميركا على يد ¬

(¬1) راجع صحيفة رير جارد Rear Guard الأمريكية 3/ 11/2001م (¬2) اين هم اصحاب الاسماء العربية - جريدة القدس - الخميس 7 محرم 1423 - عدد 11701

مقتل المسئول الأول عن مطارة ابن لادن

أتباع (برجينسكي) نظرياً، وعسكرياً على يد ذلك التيار داخل البنتاجون لجر أميركا إلى حرب صراع حضارات في الشرق الأوسط فعليك أن تلبسها للإرهابيين الإسلاميين كي يبدو أنهم القائمون بالعملية. مقتل المسئول الأول عن مطارة ابن لادن جون أونيل كان نائباً لرئيس جهاز اف. بي. أي، وكان المسئول الأول عن مطاردة أسامة بن لادن منذ عام 1993م. وقبل أسبوعين من أحداث 11 سبتمبر استقال اونيل من منصبه بعد أن صار مؤمناً أن إدارة بوش تتعمد إعاقة تحرياته ضد الإرهاب، بل واتهمها اونيل بأنها أعاقت مبادرة طالبان لتسليم بن لادن للإدارة الأمريكية مقابل حصولها على معونتها سياسياً واقتصادياً! والطامة الكبرى أن أونيل ردد اتهاماته علنا بعد تركه منصبه في أف. بي. أي وتوليه عملاً جديداً هو منصب مدير امن مركز التجارة العالمي، الذي قتل بداخله بعد أيام. من الجدير بالذكر أن جون أونيل صرح قبل مقتله للمؤلفان الفرنسيان شارل بريسارد وجيلوم داسكييه في كتابهما المثير (الحقيقة المستورة): أن العقبة الرئيسة أما تحرياتنا عن الإرهاب الإسلامي كانت مصالح شركات البترول الكبرى، والذي تلعب العربية السعودية دور فيها!! فهذا الكتاب يفضح بشدة دور الإدارة الأمريكية ومن خلفها اللوبي البترولي "الذي نصب جورج بوش" رئيساً للبلاد، في إعاقة كل محاولات إدانة بن لادن قبل 11 سبتمبر. ومنذ صدوره عتم الإعلام الأمريكي الموجه عليه بشدة، واعتبرت مأساة جون اونيل موضوعاً اقل أهمية من موت كلب الرئيس السابق كلينتون! أن موت أو نيل يعني للإدارة الأمريكية سكوت مصدر اخطر ما يمكن أن يوجه إليها من نقد، فتخيل ما كان ممكن أن يحدث لو كان اونيل حياً طوال الشهور الماضية! َ! (¬1). ¬

(¬1) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص124 - 125

أمريكا يمكن أن تضرب نفسها

أمريكا يمكن أن تضرب نفسها قد يستبعد البعض قيام قوى في الولايات المتحدة بضرب مواطنيها، من خلال افتعال بعض العمليات لتحقيق أغراض معينة. وربما يكون هذا الأمر صحيحاً لو أن هذه القوى تفكر بطريقة سوية وليست عنصرية متطرفة لديها استعداد للوصول إلى أهدافها بكل السبل. ونحن نقدم الدليل التاريخي الموثق على عدم تردد مثل هذه القوى عن الإقدام على أي أمر يرونه يحقق أهدافهم ومطامعهم (¬1). ويكفي أن نقرأ كتاب الكاتب الأمريكي ( James Bamford) الذي يحمل عنوان ( the Ultra-Secret National Security Agency Body of Secrets: Anatomy of) في هذا الكتاب يطلعنا المؤلف على وثائق سرية تعود لعهد الرئيس كيندي، عندما فشل الإنزال الأمريكي في خليج الخنازير، وهي عملية كانت تستهدف الإطاحة بالرئيس الكوبي كاسترو. وقد صارت هذه العملية لطخة عار في جبين المخابرات الأمريكية. وقد قامت هيئة الأركان العامة الأمريكية بوضع خطة أخرى أطلقت عليها اسم ( Northwoods) وكانت ترى أن العسكريين سينجحون فيما فشل في تحقيقه المدنيون (يقصدون رجال المخابرات الأمريكية). وقام رئيس الأركان الأمريكي آنذاك (الجنرال لايمن لامنتزر) في 13/مارس 1962م بتقديم ملف كامل إلى الرئيس كيندي حيث جاء في باب (شرح الأعذار الموجبة للتدخل العسكري في كوبا): "ستبدأ العملية بعد تزايد التوتر بين الولايات المتحدة وكوبا، بعد سلسلة متعاقبة من العمليات المرتبة بحيث تجعل الرأي العالمي والأمم المتحدة تحت تأثير وقناعة بأن حكومة كوبا تتصرف بشكل غير مسئول وأنها تشكل تهديداً للغرب وللعالم". ولكن ما العمليات التي كانت رئاسة الأركان الأمريكية تخطط لها؟ من هذه العمليات، قيام الجيش الأمريكي بإلباس الموظفين من أصل كوبي العاملين في القاعدة البحرية الموجودة في خليج (جوانتانامو) ـ من الذين سبق أن ¬

(¬1) هذا الأمر ممكن ومتبع في كثير من الدول وبالذات أمريكيا وإسرائيل، ويكفى أن نشير إلى ما قامت به إسرائيل بعد تأسيها بعمليات وتفجيرات في كلاً من العراق ومصر لإجبار اليهود على الهجرة إلى فلسطين.

هاجروا إلى الولايات المتحدة ـ الملابس العسكرية الكوبية، ثم قيام هؤلاء بإشعال حريق في القاعدة العسكرية والهجوم على عدد من الطائرات وإحراقها، وكذلك إغراق سفينة حربية فيها. أي أن رئيس الأركان الأمريكية كان يخطط لعملية يحرق فيها بعض طائراته الحربية وبعض سفنه!! ولم تكن العمليات تكتفي بهذا، بل يضيف الكاتب الأمريكي التفاصيل الأخرى فيقول بأن التخطيط كان يشمل: "القيام بحملة إرهابية في ميامي، وفي فلوريدا، بل حتى في واشنطن. ففي فلوريدا، سيتم إغراق زورق يحمل مهاجرين كوبيين، كما سيتم تفجير بعض القنابل البلاستيكية في بعض الأماكن والمحلات المختارة. ثم يتم القبض على بعض العملاء الكوبيين وتسرّب بعض الوثائق التي تبرهن على عزمهم على ارتكاب عمليات إرهابية أخرى. كما سنقوم بواسطة طائرة ميج سوفيتية مزيفة بالتعرض لبعض الطائرات المدنية والتحرش بها، وكذلك بفتح النيران من قبلها على بعض سفن النقل التجارية وعلى بعض الطائرات العسكرية، التي تقوم بمهمات الحراسة. ونرتب حادثة وكأن هذه الطائرة السوفيتية أسقطت طائرة مدنية في المجال الجوي الكوبي" (¬1). ولكن الرئيس كيندي رفض الخطة المدبرة، فأمر رئيس الأركان بإتلاف جميع الوثائق العائدة للعملية أي عملية (نورثوودس). ولكن بعض الضباط سربوا بعض الوثائق المتعلقة بها إلى هذا الكاتب. إذن، فليس من المستبعد أبدا قيام بعض القوى بتنفيذ مثل هذه العمليات لكي تؤثر على الرأي العام الأمريكي والعالمي، ولكي تشكل عذرا في القيام بشن عمليات حربية للوصول إلى أهداف معينة سوف نشرحها (¬2). وهذا المثال الموثق الذي قدمناه دليل واضح على ما نقول. كما أن تيري ميسان في كتاب (التضليل الشيطاني) يكشف عن قدم لجوء الإدارات الأمريكية لمثل هذه العمليات لتحقيق أهداف معينه حيث يقول: "في القرن التاسع عشر عندما ذهبت ¬

(¬1) أجراس الخطر .. الحقيقة وراء 11 سبتمبر ج3 - قناة الجزيرة برنامج سرى للغاية- مقدم الحلقة: يسري فودة- تاريخ الحلقة: 22/ 9/2005 (¬2) تزايدت الاصوات التى تتهم الحكومة الأمريكية بالضلوع في تدبير عمليات 11 سبتمبر، وفي اخر استطلاع للرأى فإن اكثر من نصف سكان نيويورك يعتقدون أن حكومتهم كانت على علم مسبق بتفاصيل الهجوم وأنها اختارت عمدا أن تغض الطرف عنه. وفي استطلاع اخر اعرب شخص من بين اربعة اشخاص كنديين ان الحكومة الأمريكية تقف وراء التفجيرات. (أجراس الخطر .. الحقيقة وراء 11 سبتمبر ج3 - قناة الجزيرة).

فيلم القبلة الطويلة

أميركا لغزو أسبانيا قام رجالها بتحطيم سفنهم الحربية بأنفسهم، وقتلوا بحارتهم، ثم ادعوا أن أسبانيا هزمتهم، كي تكون ذريعة لحرب انتقامية مشروعة" (¬1). فيلم القبلة الطويلة (خيانة) .. هذا عنوان وموضوع فيلم أمريكي، جددت بثه قناة أمريكية في أغسطس 2006، والفيلم من اخراج المخرج اللامع كوستا جافراس. ويكثف هذا الفيلم الضوء ـ في ايماءات لا تخفى ـ على احداث 11 سبتمبر 2001. وتقول الايماءات والتلميحات: ان تلك الاحداث وقعت بـ (تدبير من قوى داخلية امريكية خالصة). وفي عام 1999 ـ قبل 11 سبتمبر بعامين تقريباً ـ انتج فيلم امريكي بعنوان (صائد العاصفة) .. وقصة الفيلم و (حبكته) الجوهرية المثيرة هي: ان مجموعة من القوات الخاصة في الجيش الأمريكي، بقيادة جنرال طيار مرموق، قامت باختطاف طائرة عسكرية. وقد تعذر على تقنيات الدفاع الجوي اكتشاف هذه الطائرة في الحالات كلها، الاقلاع .. والتحليق .. والتوجه إلى الهدف والنيل منه .. وتبلغ الحبكة السينمائية ذروتها حين يتبدى في الفيلم، ان الذين خططوا لهذا العمل الضخم المرعب هم البيت الابيض ووزارة الدفاع. والكونجرس (¬2). وقد قامت أمريكا وحليفتها بريطانيا بإيقاف عرض الفيلم بسبب أن حواراً ساخناً يجري بين سيناتور في الكونجرس الأمريكي (وهو في الفيلم رمز القوة الخفية وراء الأستار)، والعميل السري الذي يكلفه هذا السيناتور بإنجاز بعض المهام السرية الممنوعة من الناحية القانونية. ويقول السيناتور في هذا الحوار: "أجل ... أجل سنقوم بإسقاط طائراتنا ... وسنقوم بضرب مبانينا ... وسنعرض الوجه القبيح للإرهاب أمام الأنظار ... وبهذا نحصل على تأييد الرأي العام لشن حرب على الدول الإرهابية". وبعد ان جرى تنفيذ الخطة بنجاح، اتخذت اجراءات فدرالية سريعة وواسعة النطاق. وقد تمثلت هذه ¬

(¬1) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان ص139 (¬2) 11 سبتمبر: دعوة للتفكير الحر .. في الوثائق والحقائق والوقائع- بقلم زين العابدين الركابي - الشرق الاوسط - السبت 09 شعبان 1427 هـ 2 سبتمبر 2006 العدد 10140

لورانس رايت وفلم (حالة طوارئ)

الاجراءات اكثر ما تمثلت في (تقييد الحريات) في الولايات المتحدة بموجب قوانين استثنائية وأليس هذا ما تم فعلا في الواقع؟! كما أن هناك فيلماً أميركياً اسمه (القبلة الطويلة قبل النوم) أنتج هذا الفيلم، وعرض قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، جاء في مقطع منه ـ أذيع على قناة الجزيرة ـ الحوار التالي: "أتذكرين تفجير المركز التجاري الدولي عام 1993م؟ أثناء محاكمة أحد المشاركين ادعى أن المخابرات المركزية تعلم مسبق بالأمر، الدبلوماسي الذي أصدر التأشيرات للإرهابيين كان من مكتب المخابرات، ليس بالأمر الذي يصعب التفكير فيه، فهم مهدوا الطريق للتفجير، لتبرير زيادة الأموال ... تقصد إنك ستقوم بعملية إرهابية كاذبة، لموافقة الكونجرس على زيارة الأموال ... لسوء الحظ يا سيد (هنسي) ليس عندي فكرة كيف أكذب بمقتل أكثر من 4 آلاف شخص، لذا يستوجب أن نقوم بها حقيقة، وبالطبع ننسبها للمسلمين .. هكذا أحصل على تخصصاتي المالية. ليلة سعيدة يا سيدة. http://www.aljazeera.net/programs/top_secret/articles/2002/9/9-9-1.htm - TOP." (¬1) . ومن المفارقات الغريبة والتي لها دلالتها، أن الكونجرس الأميركي وافق بعد الهجوم، على ميزانية عسكرية جديدة قدرها أربعمائة مليار دولار، وهو ما يعادل ميزانية خمسة وعشرين جيشاً من أهم جيوش العالم، بعد الجيش الأميركي بالطبع، ولم يكن ليخطر على بال الشعب الأميركي أن يدفع ذلك في الأوقات العادية (¬2). لورانس رايت وفلم (حالة طوارئ) ليس من باب الصدفة أن يكون بمستطاع (لورنس رايت) أن يسوق وقائع قصة الحركة الإسلامية بمثل هذه القوة السردية الحادة في كتابه (القاعدة والطريق إلى الحادي عشر من سبتمبر). فهو إلى جانب عمله كصحافي كان يمارس كتابة السيناريو أيضاً. واحد من هذه السيناريوهات قد تم تصويره بالاشتراك مع دينزل واشنطن وبروس ويلليس سنة 1998 في شريط سنمائي بعنوان (حالة طوارئ). ¬

(¬1) أذيع جزء من هذا الفيلم على قناة الجزيرة في برنامج سرى للغاية الذي أذيع بمناسبة مرور عام على أحداث 11 سبتمبر. (¬2) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان - ص151

توصية بافتعال عمليات إرهابية لاصطياد المطلوبين

ويروي الفلم وقائع عملية تفجير يقوم بها نشطون إسلاميون في مدينة نيويورك التي ستعلن داخلها حالة الطوارئ وتعلق فيها مجمل الحقوق المدنية للمواطنين. لقد كان رايت مدركا تمام الإدراك للبعد النبوئي للسيناريو الذي كتبه: "هذا هو فلمي" سيقول لنفسه بعيد عمليات الحادي عشر من سبتمبر، ويتضرع إلى رئيس تحرير صحيفته بأن يكلفه بمتابعة الحادثة؟؟! " (¬1). توصية بافتعال عمليات إرهابية لاصطياد المطلوبين لم يكتفي قادة البنتاجون بالقيام باعمال ارهابية لتنفيذ مخططاتهم بل ان مجلس علوم الدفاع في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ووزير الدفاع (دونالد رامسفيلد) اوصيا بأن تتبع الوزارة استراتيجية جديدة تستهدف إغراء (الإرهابيين) لاقتراف أعمال إرهابية، حيث جاء في تقرير أعده المجلس حول العمليات الخاصة والقوات المشتركة في دعم مكافحة الإرهاب: "انه لما كانت الحرب ضد الإرهاب تتطلب استراتيجيات جديدة وحالات خاصة وتنظيماً، فإنه ينبغي إيجاد نشاط دعم استخباري متطور يدعى (مجموعة عمليات مؤيدة للنشاط واستباقية). وطبقاً لما تسرب من معلومات حول تقرير اتحاد العلماء الأمريكيين المتعلق بسرية أنشطة الحكومة الأمريكية، فان التوصيات التي كشف عنها وصفت خطة البنتاجون التي تحاك في الظلام بأنها تهدف إلى إثارة هجمات إرهابية. ويبدو أن توصيات مجلس علوم الدفاع تتماشى مع استراتيجية الأمن القومي للبيت الأبيض التي دعت إلى شن هجمات وقائية. ويدعو التقرير أيضاً إلى إيجاد وحدة من قوات الكوماندوز لمكافحة الإرهاب بكلفة سبعة مليارات دولار. كما يدعو إلى وضع مواد كيماوية خاصة على الإرهابيين حتى يمكن ملاحقتهم بأشعة الليزر في أي مكان في العالم، وإيجاد فريق (احمر) من المفكرين لوضع هجمات إرهابية وهمية ضد الولايات المتحدة حتى تضع الحكومة الأمريكية الخطط لإحباطها. ويتشكل هذا الفريق من مائة اختصاصي في مكافحة ¬

(¬1) لورنس رايت: (القاعدة والطريق إلى الحادي عشر من سبتمبر) - بقلم أندريان كرايه - ترجمة علي مصباح - حقوق الطبع قنطرة/زوددويتشه تسايتونغ 2007

حقيقة ما حدث

الإرهاب وعمليات الدعاية والإعلام، والعمليات النفسية، وهجمات شبكات الكمبيوتر، وإشارات المخابرات السرية، وعمليات القوات الخاصة والخداع. ويوضع تحت تصرف هذا الفريق على الأقل مائة مليون دولار. والمعروف أن مجلس علوم الدفاع يقدم تقاريره مباشرة إلى وزير الدفاع الأمريكي، كما قدم ولا يزال المشورة إلى الرؤساء الأمريكيين طيلة أكثر من أربعين عاماً، وهو يعمل على تحويل القوات المسلحة الأمريكية لكي تلبى المطالب المناطة بها في عالم متغير. وفي تعليقه على ما تسرب بشأن التقرير الأخير، يقول المحلل العسكري وليام أركين: "أن المجموعة التي أوصت الدراسة بإيجادها "تجمع معاً عميلاً لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وعميلاً عسكرياً سرياً، ومعلومات حرب ومخابرات وتغطية وخداع". ويوصى التقرير بالقيام بعمليات سرية هدفها إثارة ردود فعل بين الإرهابيين والدول التي تمتلك أسلحة دمار شامل. أي دفع (الخلايا الإرهابية) إلى العمل وتعريضها لهجمات أمريكية سريعة". ويضيف أركين في مقالة له بعنوان (الحرب السرية): "أن البنتاجون المحبط بفشل المخابرات يقوم وبصورة درامتيكية بتوسيع (عالمها الأسود) من العماليات السرية، فيما يمكن أن يكون أكبر توسع في العمل السري من جانب القوات المسلحة الأمريكية منذ حرب فيتنام، وان حكومة الرئيس جورج بوش تحولت إلى ما يصفه البنتاجون (العالم الأسود)، من اجل تشديد الحرب ضد الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل" (¬1). حقيقة ما حدث بعد أن عرضنا للعديد من الحقائق ووجهات النظر، التي أكدت بما لا يدع مجالاً للشك، بأنه لا توجد أية صلة لأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة بأحداث 11 سبتمبر، فإنه من حقنا معرفة حقيقة ما حدث. ¬

(¬1) جريدة الخليج العدد 8649 - 23 يناير 2003م.

انقلاب عسكري

انقلاب عسكري يرى (تيرى ميسان) مؤلف (التضليل الشيطاني) أن هناك قوة أمريكية خفية، أو جهة متعصبة داخل الولايات المتحدة شبهها، وكأنها حكومة داخل الحكومة، أرادت الإمساك كلياً بزمام السياسة الأمريكية بقوة عبر أي وسيلة وتوجيهها نحو منحى آخر، يعزز القبضة العسكرية النووية الأمريكية على العالم ويعطى الأولوية لممارسة القوة على ما سواها في التعامل مع الأحداث، وهذا ما حصل. وللتدليل على واقعية رأيه في هذا الانقلاب، ولماذا حصل لفت الانتباه إلى الخلاف الذي وقع بين الإدارة الأمريكية والجيش أبان ولاية كلينتون؟ على خلفية قيام الرئيس الأمريكي وقتها بإعطاء الأولوية للجانب الاقتصادي في سياسته، على حساب الجانب العسكري، الأمر الذي دفع العسكريين بشكل عام إلى التذمر من هذا التوجه، الذي اعتبروه ماساً بهيبة القوة الأعظم، وأعطى مثلاً على ذلك من بعض ما حصل داخل مركز التجارة الدولية ذاته، فقال: "إن إحدى المؤسسات التي قضى عليها الهجوم، كانت مركزاً للتجسس الاقتصادي بعد أن كانت في السابق مؤسسة عسكرية تابعة للجيش الأمريكي، إلا أن تغيّر الأولويات في نهج كلينتون قد شملها بالتغيير" (¬1). وهناك رأي أخر، يذهب إلى أن ما حدث أكبر من ذلك بكثير، فهو أقرب إلى الانقلاب العسكري في السلطة الأمريكية بعد وجود خلافات شديدة، بين أجنحة السلطة الأمريكية إثر خلافات عديدة، بين التيار الأصولي المسيحي، الذي يؤمن بعودة المسيح في نهاية العالم بعد المعركة الفاصلة بين الخير والشر والقضاء علي الأشرار (العرب والمسلمين) في موقعة (هرمجيدون)، خاصة أن عملية السلام وصلت إلى نهايتها، وأصبح الاستعداد للقضاء علي الفلسطينيين مسألة وقت فقط، والتيار الآخر الذي يسعى إلى سيطرة أمريكا علي العالم بصورة متدرجة، وصراع بين الأجهزة الأمنية المتعارضة مثل CIA والمباحث الفيدرالية FBI، وكالة الأمن القومي NSA، والبحرية الأمريكية والقوات الجوية، والبنتاجون. فقد تزايدت الخلافات بين التيارين إلى الدرجة التي تسعي فيها بعض الأجنحة إلى تحدى السلطة الأمريكية الحالية، لتثبت لها أنها تملك السلطة الحقيقية في ¬

(¬1) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان - ص29

شيفرة السر النووي

أمريكا، ولعلهم يبررون ذلك بالطريقة التي تبدو أقرب إلى مباراة في التحدي بين فريقين، حيث أثبتت الفرق التي قامت بالتفجيرات بأنها تجيد لعب المباراة بمهارة. فقد قامت بتعطيل جميع شبكات الكمبيوتر الخاصة بالجيش الأمريكي، ووزارة الدفاع، ثم بدأت في الهجوم علي السلطة الحاكمة بأتفه وأضعف الأشياء، وهز أمريكا كلها بدون قنبلة واحدة أو جرام من المتفجرات بل بطائرات مدنية، ليس ذلك فقط، بل قامت باختيار أوقات الهجوم بصورة تحتوى علي التحدي و الاستهانة. شيفرة السر النووي كشف (تيرى ميسان) عن سر آخر لم يتطرق إليه أحد من قريب أو بعيد حتى الآن. فأشار إلى أن معلوماته الموثوقة تقول: "إن جهة ما قامت بالاتصال مع أحد المسئولين الأساسيين في البيت الأبيض قبل فترة وجيزة جداً من وقوع أول هجوم وأبلغته أن مسلسلاً من العمليات سينفذ على الفور، أن لم تستجب الإدارة الأمريكية لمطالب استراتيجية تريدها هذه الجهة. وتأكيداً على جديتها وقدرتها على الفعل وطول باعها داخل اخطر المؤسسات الرسمية أعطت المسئول أرقام الشيفرة السرية لمنظومة السلاح النووي الأمريكي، التي لا يعرفها إلا عدد محدود جداً من كبار المسئولين في هرم الإدارة الأمريكية. أي أنهم قدموا الإثبات الذي لا يشك فيه بأن في يدهم ما يمكن أن تؤدى معرفته إلى إشعال حرب عالمية ثالثة في أي لحظة، وطلبوا إبلاغ الرئيس بوش شخصياً بذلك والرد على الفور. وفي اللحظة ذاتها اتصل المسئول المتواجد في البيت الأبيض بالرئيس الأمريكي، وكان في طريق عودته بالطائرة إلى واشنطن ـ كما تقول المعلومات ـ وليس في مكان آخر كما ذكرت وسائل الإعلام وقتها، فأعطى الأوامر بالنزول فوراً في ملعب لكرة القدم تابع لأحد المراكز النووية، حتى يتأكد من صحة ما تدعيه هذه الجهة، وهل الشيفرة التي لديها صحيحة أم لا. وعلم المتواجدون في المركز بعد دقائق من وصول بوش أنه في اجتماع طارئ وسري، ولم يعرف ماذا جرى فيه؟ ومع مرور الوقت المحدد لاستلام الرد كانت عملية الهجوم على برج مركز التجارة قد تمت بشقيها فأذهلت العالم، ثم تلتها على الفور عملية البنتاغون، وسقوط طائرة رابعة

اختفاء بوش وهروبه

في بنسلفانيا، ثم اكتشاف طائرة خامسة شمالي أوهايو ـ كما يقول (ميسان). وقبل أن يستمر المسلسل في التواصل (حيث أعلن عن وجود ست طائرات مخطوفة) خرج بوش من الاجتماع الطارئ وعليه بوادر الانفعال فخاطب الذين التفوا حوله، بالقول: لم تعد هناك مشكلة! وكانت هذه العبارة كافية تماما للدلالة على أن ثمة مشكلة كبيرة قد تم تجاوزها أثناء هذا الاجتماع. ولكن السؤال ما هي حقيقة هذه المشكلة؟ ومن هي الجهة التي فجرتها ومن المستفيد من هذه العمليات التي تمت؟ (¬1). اختفاء بوش وهروبه إن اختفاء الرئيس الأمريكي وهروبه إلى ولايات مختلفة حتى يصل إلى نبراسكا، وإغلاق المجال الجوى الأمريكي، وإعلان قصف أي طائرة تتحرك وإخلاء موظفي وزارة الخارجية ومجلس النواب والشيوخ والأمم المتحدة، بل وإخلاء مقار المخابرات الأمريكية وحدوث حالة من الهرج والمرج غير العادي، ثم إرسال حاملات طائرات عسكرية وصواريخ موجهة لحماية السواحل الأمريكية، ثم إعلان استدعاء الاحتياطي الأمريكي للجيش، وفتح باب قبول متطوعين جدد، وإرسال نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني) إلى مكان سرى، قيل أنه في جبال (ميرلاند) لحمايته. كل ذلك آثار شكوكاً مريبة حيث أن ذلك لا يحدث إلا إذا كان هناك هجوم خارجي، أو لوجود سلطة قادرة علي الوصول إلي الرئيس في أي مكان، أو فشل كامل في السيطرة علي أجهزة التحكم الأمريكية، وليس مجرد بعض الأفراد اختطفوا بضعة طائرات. فكل ما حدث يؤكد أن الأمر يتجاوز إرهاب وطائرات .. لا ابن لادن ولا حتى إرهاب أي جهاز مخابرات في العالم ... بل هو أقرب إلى حالة الحرب الحقيقية. حيث أشار كثير من المحللين إلى أن ما حدث من فزع وذعر وهروب وإجراءات أكبر ألف مرة من مواجهة هجمات إرهابية، يقوم بها مختطفو طائرات مدنية. كما أن البعض يتساءل: أين كانت الرادارات الأمريكية؟ .. وأين القوات الجوية؟ .. وما الذي منعها من مواجهة الموقف، خاصة أن المفاجأة انتهت منذ اصطدام أول طائرة بمركز التجارة ¬

(¬1) راجع المقال المنشور على موقع العرب أون لاين بقلم نبيل جعفر

الحادي عشر من سبتمبر والإمبراطورية الأميركية

العالمي وما هو نوع الشلل الذي أصاب البنتاجون وباقي الأجهزة الأمنية؟ ولماذا حدث ذلك؟ فالضابط المسئول في البنتاجون تلقى إخطاراً بخطف الطائرات، وأمر بإقلاع الطائرات من قاعدة جوية على مسافة دقيقتين من واشنطن، ليفاجأ بأن الطيارين غير موجودين في أماكن عملهم .. !! فأصدر أمرا إلى قاعدة على بعد 200 ميل، وكانت أطقم الطائرات غير كاملة، إلا أنها أقلعت بأطقمها الناقصة لتصل بعد تدمير البرج الثاني، وعادت الطائرات إلى قاعدتها، والقائد الميداني في البنتاجون، في مركز القيادة العسكرية علي مستوى العالم يكاد يجن وهو يجري الاتصالات بباقي القواعد الأمريكية ليفهم ما يحدث، خاصة بعدما اكتشفوا فقدان برنامج الطوارئ من علي كمبيوتر البنتاجون كما أشارت المخابرات الهولندية، ومرت ساعة كاملة وبعدها توقف القائد الجبار عن جهوده، فقد كان مكتبه، مكتب قيادة العالم هدفا للطائرة الثالثة، ومات الرجل دون أن يفهم ما يحدث (¬1). لذا فإن اتهام (بن لادن) بأنه المسئول عن هذه العمليات يفترض انه قوة عالمية أخطر وأشد قوة من جميع الأجهزة الأمريكية بما فيها الجيش الأمريكي، أو انه حصل علي مساعدة علي أعلي المستويات من وزارة الدفاع إلى المخابرات إلى المباحث الفيدرالية، لاستغلال هذا الدعم العالمي غير المسبوق، لحصار العالم الإسلامي، والوصول إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، الذي يتبع أمريكا كقائد عالمي لحكومة عالمية مهيمنة. الحادي عشر من سبتمبر والإمبراطورية الأميركية (¬2). اخيراً شكك مفكرون جلهم أميركيون في الرواية الرسمية الأميركية عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 ووصفوا تلك الرواية بـ"الزائفة" كما جاء في كتاب "الحادي عشر من سبتمبر والإمبراطورية الأميركية" الذي شارك في ¬

(¬1) التقرير الألماني- شبكة المعلومات العربية محيط - تقرير وليد الشيخ (¬2) الحادي عشر من سبتمبر والإمبراطورية الأميركية - تحرير ديفد راي جريفين وبيتر ديل سكوت - دار نهضة مصر في القاهرة - الجزيرة نت 10/ 9/2008

تجاهل الأدلة

تأليفه 11 مؤلفا. ويقول محررا الكتاب ديفد راي جريفين وبيتر ديل سكوت إن باحثين لا ينتمون إلى التيار السائد توصلوا إلى أدلة تفند الرواية الرسمية "بشأن المسؤول النهائي عن تلك الهجمات" التي أصبحت بمثابة الأساس المنطقي وراء ما يقال إنها حرب عالمية على الإرهاب استهدفت حتى الآن كلا من أفغانستان والعراق، وكانت بمثابة المبرر وراء "التدني المسرف" في سقف حريات الأميركيين. ويؤكد الباحثان أن اكتشاف زيف الرواية الرسمية بشأن أحداث 11 سبتمبر "يصبح أمرا غاية في الأهمية". تجاهل الأدلة يرى المحرران أن هناك تجاهلا لأدلة يقدمها باحثون مستقلون بحجة أنهم "أصحاب نظرية المؤامرة" ويبديان دهشة من كيفية اتفاق أكاديميين ودبلوماسيين في نظرية المؤامرة ولا يستبعدان أن تكون "الرواية الرسمية حول 11 سبتمبر هي في حد ذاتها نظرية للمؤامرة". فهي تزعم -والكلام للباحثين- أن الهجمات تم تنظيمها بالكامل على أيدي أعضاء عرب مسلمين في تنظيم القاعدة بإيعاز من "زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن القابع في أفغانستان" حيث كانت تؤويه جماعة طالبان التي كانت تحكم أفغانستان حتى نهاية 2001. الهيمنة على العالم يقول مورغان رينولدز الأستاذ بجامعة تكساس والعضو السابق بإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت عملية زائفة وأكذوبة كبيرة لها علاقة بمشروع الحكومة الأميركية للهيمنة على العالم. وعن فكرة الهيمنة العالمية يقول أستاذ القانون ريتشارد فوولك -وهو رئيس مؤسسة سلام العصر النووي- إن إدارة بوش يحتمل أن تكون إما سمحت بحدوث هجمات الحادي عشر من سبتمبر وإما تآمرت لتنفيذها لتسهيل ذلك المشروع". وأضاف فوولك أن هناك خوفا من مناقشة حقيقة ما حدث ذلك اليوم حتى لا تكتشف أسرار يصفها بالسوداء. ويشدد أستاذ الفلسفة جون ماكمورتري على أن "زيف الرواية الرسمية جلي لا شك

مؤلفو الكتاب

فيه" مستشهدا على استنتاجه بأن الحروب التي أعلنت عقب الهجمات انطلقت من أسباب إستراتيجية فما وصف بحرب "تحرير العراق خير مثال على ما يسميه القانون الدولي الجريمة العظمى". مؤلفو الكتاب شارك فيه 11 شخصا بارزا لا يمكن حسب محرري الكتاب أن يكونوا "بالمعنى السلبي للمصطلح" من أصحاب نظرية المؤامرة. ويقول المحرران إن المساهمين في الكتاب يحظون بكثير من الاحترام فعشرة منهم يحملون درجة الدكتوراه وتسعة أساتذة في جامعات عريقة وكان أحدهم ضابطا في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إضافة إلى بيتر فيليبس مدير مشروع مراقب أين الحطام؟ تقول كارين كوياتكوفسكي الأستاذة الجامعية التي عملت ضابطة بالجيش الأمبركي لمدة عشرين عاما حتى 2003 إنها كانت حاضرة يوم 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 في وزارة الدفاع وإن "لجنة 11 سبتمبر لم يكن بين أعضائها أي شخص قادر على تقييم الأدلة من الناحية العملية". مضيفة أنها لم تر حطام الطائرة التي قيل إنها ضربت مقر وزارة الدفاع ولا الدمار الذي يتوقع أن يحدثه هجوم جوي. تفجير متحكم به ويرى أستاذ الفيزياء بجامعة بريجهام ستيفن جونز أن طبيعة انهيار البرجين التوأمين والمبنى رقم 7 بمركز التجارة العالمي لا تفسرها الرواية الرسمية، فالطائرات لم تسقط البنايات والتفسير "الأقرب أن تدمير تلك البنايات كان من خلال عملية هدم بالتفجير المتحكم به تمت باستخدام متفجرات مزروعة سلفا". ويتفق المهندس كيفين رايان مع جونز في التشكيك بالتقرير الرسمي بشأن انهيار البنايات ويراه غير علمي، مضيفا أن التوصل إلى السبب الحقيقي "مسألة ذات أهمية قصوى

إستراتيجية التوتر

لأن ذلك الحادث هو الذي هيأ الشعب الأميركي نفسيا لتقبل ما يسمى بالحرب على الإرهاب". إستراتيجية التوتر يقول الأستاذ بمعهد بحوث السلام الدولي في أوسلو بالنرويج أولا توناندر إن الأثر الأخطر للهجمات هو استغلال ما يسميه إرهاب الدولة وتطبيق "إستراتيجية التوتر" على العالم بعد ترسيخ سلام أميركي يُفرض على الآخرين تحت قناع الحرب العالمية على ما تعتبره واشنطن إرهابا. ويقول محررا الكتاب في المقدمة إن جهودا بدأت تتضافر للتوصل إلى تلك الحقيقة منها هذا الكتاب إضافة إلى تأسيس منظمة يترأسها ستيفن جونز بمشاركة نحو خمسين أكاديميا ومفكرا منهم خبراء عسكريون سابقون وأطلقوا على أنفسهم اسم "حركة الحقيقة بشأن الحادي عشر من سبتمبر". ويرى ديل سكوت -وهو دبلوماسي سابق وأستاذ جامعي- أن "الشعب الأميركي وقع ضحية التضليل" في حين يناقش جريفين "الروايات المتناقضة" كما وردت في الرواية الرسمية قائلا إن سلوك الجيش الأميركي يوم 11 سبتمبر يشير إلى تورط قادتنا العسكريين في الهجمات. ويضيف أن انهيار برجي مركز التجارة والبناية رقم 7 كان مثالا على عملية هدم بالتفجير المتحكم به تمت بزرع متفجرات في جميع أرجاء المبنى. http://www.aljazeera.net/News/Templates/Postings/DetailedPage.aspx?FRAMELESS=false&NRNODEGUID=%7bEEBEEFAA-5AC7-4DE1-902D-F79642BBF455%7d&NRORIGINALURL=%2fNR%2fexeres%2fEEBEEFAA-5AC7-4DE1-902D-F79642BBF455%2ehtm&NRCACHEHINT=Guest غسيل الدماغ إذا كان ما عرضناه سابقاً، قد ألقى الضوء على ما حدث يوم 11 سبتمبر، وطبيعة القوى التي تقف وراءه، فإنه من المهم بمكان توضيح كيف استطاعت هذه القوى الخطيرة تضليل العالم وغسل دماغ الرأي العام في داخل أمريكا وجزء كبير من الرأي العام الدولي لإقناعه بأن ابن لادن وتنظيم القاعدة هم الذين نفذوا تفجيرات 11 سبتمبر، من أجل تحقيق أهداف مرسومة مسبقاً، تجاه الإسلام والمسلمين بل والعالم أجمع؟!!. فبالتأكيد أن تلك القوى الشيطانية التي خططت ونفذت التفجيرات، كانت على علم مسبق بالصعوبات التي ستواجهها، عند محاولتها ترويج ادعاءاتها غير المنطقية، ولهذا لم يكن أمامها إلا اللجوء إلى الكذب والخداع والتضليل، والمبالغة

غسيل الدماغ

والتكرار وغيرها من الأمور، لإجبار العالم على تقبل مزاعمها، أي باختصار محاولة غسل دماغ العالم. ولخطورة مفهوم غسيل الدماغ، فإننا سنلقى عليه الضوء بصوره مختصره، لنتعرف على هذا المفهوم وتقنياته وأساليبه، وعلى القارئ مقارنتها بما جرى على ارض الواقع ليتأكد إلى أي حد نجحت أمريكا في غسل دماغ العالم من خلال استخدامها المكثف لأساليب غسل الدماغ وتقنياته. غسيل الدماغ (¬1) لقد أضحت صناعة الوعي، أو تصنيع العقل وصياغة ثقافات الشعوب، فناً دولياً أو تقنية تملك زمامها الولايات المتحدة، أو الشركات متعدية القوميات. ومن سخرية الأقدار أن تطالب هذه الشركات بإلحاح - بحقوق الإنسان في جميع البلدان، وتدعو إلى عقل حر، ولكن بمعنى: عقل متحرر من ثقافته القومية، وانتمائه القومي، وأهدافه القومية، أي نبتاً بغير جذور، وصفحة بيضاء تملؤها هي بما تشاء من معلومات، وتتولى هي محو ما فيها بداية، ثم تصب فيها ما تشاء من خلال برامجها. وأداتها في ذلك التلفزيون والسينما والكتب والصحف والأنباء والإعلانات الموجهة والمرسومة، خصيصاً لهذا الغرض، والعلاقات العامة و (الموضة)، وكذلك إنشاء جماعات سياسة ودينية واجتماعية، بل وخلق بدع دينية أو اتجاهات تحمل طابعاً ديناً لإثارة الشقاق والفتن، وتصدير قضايا ومذاهب فكرية تثير الخلاف، وتستنزف الجهد. ثم هناك برامجها وسياساتها الخاصة بمؤسسات ثقافة الطفل، وكلها لصوغ عقول الناشئة داخل البيت وفي الطريق، وفي المحال العامة وداخل المدرسة. وهكذا يتحول الغزو الفكري أو التضليل الإعلامي إلي أداة للقهر والترويض وإخضاع الشعوب (¬2). فالإعلام الأمريكي تحول إلى أداة طيعة في أيدي الشركات الاحتكارية الكبرى، ورجال الحكم المتحالفين معها مما أفقدها ثقة الجمهور، وجعل المجتمع الأمريكي ينصرف عن المشاركة في الحياة العامة والانتخابات خاصة، كما حصل في انتخابات الكونجرس عام 1994م حيث لم يشارك سوى 14% من الناخبين، مما يعني أن ¬

(¬1) لمزيد من لمعلومات عن غسل الدماغ يرجى مراجعة كتاب غسل الدماغ - الدكتور فخرى محمد صالح الدباغ- دار الطليعة وكتاب مختار حمزة - أسس علم النفس الاجتماعي-- دار البيان العربي/ جده، 1989،. (¬2) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص228

الديمقراطية الأمريكية قد جرى اغتيالها وإفراغ التراث الليبرالي من محتواه، وإبداله بنظام اوليجاركي (حكم القلة) أفرز نوعاً من ثقافة الكذب، التي تنبع من العلاقات المؤسسية الخفية التي تسيطر على صناعة الأخبار. وهكذا أصبح الإعلام الأمريكي، الذي شهد تنامياً في الطاقات والاستثمارات المالية الضخمة والتقدم التكنولوجي المتسارع، الأداة الرئيسة في إعادة تشكيل فكر ووجدان الشعوب المختلفة. وتحول الإعلام ـ حسب تعبير (نيل بوستمان) أستاذ علم الاتصال الأمريكي ـ من إثارة الفكر والنقاش إلى التسطيح، وتحولت المعلومة إلى سلعة ثم إلى أداة للترفيه وتغييب العقل، وأصبح الإعلام هو جهاز غسيل المخ في هذا الزمان، وهو صانع الأكاذيب والشائعات والأخبار الموجهة، وهو الملقن الذي يلقن الصحف ما تكتب لنا كل يوم (¬1). ولما كانت عملية خداع الجماهير، وصناعة الإجماع أو الإذعان ضرورة لازمة لإعطاء الجماهير الجاهلة الوهم بأنها تمارس النفوذ الديمقراطي، كما يقول (وولتر ليبمان)، فقد أصبحت ملكية الإعلام والسيطرة علي أمورها أمراً لازماً للمحافظة علي مصالح الثروات الخاصة، والممارسات الاستمرارية لخداع الجماهير وتضليلها. ومثلما انحصرت رؤوس الأموال في أيدي القلة المتنفذة، فإن ملكية الصحف والوكالات الصحافية في القرن التاسع عشر إلي جانب صناعة الأفلام في هوليوود، ومن ثم التلفزيون والإذاعة في القرن العشرين، قد تمركزت كلها في أيدي القلة ذاتها. ومن البديهي أن الإعلام هو أمر حاسم للغاية في خلق حالة من الإجماع العام وتصنيع الرأي العام. وبإمكان المرء أن يستشعر وجود الكارتل الإعلامي، عندما يسافر ويتنقل بين أرجاء الولايات المتحدة. فهناك آلاف من المحطات الإذاعية وآلاف من القنوات التفلزيونية وآلاف من الصحف. ولكن في حقيقة الأمر، فإنك إذا سمعت خبراً من إحداها، فكأنك سمعته من كل هذه الوسائل الإعلامية، لأن كل مكوناتها محتكرة في أيدي بضع شركات، وهي تتقاسم القيم والمبادئ نفسها. فالجميع يقدمون الرسالة ذاتها بلا زيادة أو نقصان، وهذه الرسالة تصمم بالمقاس لتخدم أجندة بارونات الربا في كل أقطار العالم (¬2). ¬

(¬1) إسرائيل .. البداية والنهاية ـ د. مصطفى محمود ص25 (¬2) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 29/ 2/2003م

وهكذا تحول الإعلام إلى أداةٍ تابعةٍ وظيفتُها تسويقُ السياسات، التي يقررها النظام الحاكم سياسياً واقتصادياً، وأصبحت وظيفة الإعلام صناعة الموافقة مما يسمح بتنفيذ السياسات في مجتمع يتخذ الشكل الديمقراطي، حيث ترى الليبرالية الرأسمالية في فن الدعاية وسيلة شرعية لإعداد الجماهير لتقبل سياساتها" (¬1). "أما إذا رفض الشعب ذلك وتمرد فإن علاج ذلك سهل ويسير عند عراب غسل الدماغ (ورهوس فريدريك سكينر 1904) ـ الأستاذ بجامعة هارفارد، ومؤلف العديد من الكتب في علم النفس والتربية والفكر الفلسفي ـ وذلك عن طريق التحكم من الخارج في سلوكهم، أو دفعهم إلى طريق الفساد والرذيلة، هكذا في صراحة وفجور. وبدا ينعمون بالحرية، أو لنقل العبارة مقلوبة، ينعم أهل الثراء والسلطة بالحرية، إذ يخلو لهم الجو. هذه نصيحة (سكينر) وأغلى وصاياه التي أسداها إلى أهل الثراء والسلطان، وإلى جميع الحكومات التي تسعى إلى ترويض شعوبها" (¬2). وهكذا أصبح غسل الدماغ علماً وفناً معروفاً لدي كافة المؤسسات التي تسعى إلى السيطرة على العقل البشري، وتوجيهه الوجهة التي تريدها، ومنها بالطبع الحكومات ووكالات الاستخبارات بكافة أشكالها. وغسل الدماغ في أبسط صورة، يعني كل محاولة للسيطرة على العقل البشري، وتوجيهه لغايات مرسومة بعد أن يجرد من ذخيرته السابقة، حيث يقوم مفهوم غسل الدماغ وإجراءاته على افتراض أساسي، مفاده أن اتجاهات الفرد ومعتقداته وقيمة هي نتاج تراكمي لعملية التعليم، يكتسبها الفرد عبر عملية التنشئة الاجتماعية. ولذلك يرى الباحثون العالمين في مجال تعديل السلوك -بشكل عام- وفي مجال غسل الدماغ بشكل خاص، أنه يمكن استخدام مبادئ التعليم وبخاصة مبادئ الاشتراط الكلاسيكي، والاشتراط الإجرائي في أية عملية تهدف إلى تغيير سلوك الأفراد على المستوى الانفعالي والمستوى المعرفي (¬3). فهندسة الثقافة تعتمد على إنكار العقل والوعي، وترى أن ما نسميه عقلاً هو حاوية أفعال منعكسة، وإن بالإمكان تغيير العقل أو التلاعب به عن طريق ¬

(¬1) الثقافة والإمبريالية - ادوارد سعيد ـ تعريب كمال أبو ديب ص 343 - دار الآداب/ بيروت - ط1 1997 (¬2) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص154 - مكتبة مدبولي- ط1 1997 (¬3) راجع كتاب "غسل الدماغ" للدكتور فخري الدباغ

تكوين أفعال منعكسة شرطية أخرى حسب الطلب. وهذا هو المقصود بإحداث التغييرات في الظروف البيئية، تتمثل بدورها في تغييرات السلوك، وبهذا المعنى نغير الاعتقادات. وقد عرف الفكر الإنساني عمليات التحوير الفكري وغسل الدماغ منذ أقدم العصور، إلا أن هذه المعرفة كانت معرفة مبسطة لم تصل إلى التعقيد الذي وصلت إليه الآن. فقد كان لتقدم العلوم في عصرنا الحاضر ـ وعلم النفس بالذات ـ دور كبير في تطوير التقنيات والأساليب المستخدمة في عملية غسل الدماغ، حيث ظهرت كثير من النظريات والدراسات النفسية التي ألقت ضوءاً كبيراً على خفايا النفس الإنسانية وما تتحكم بها من غرائز وميول ونزعات، مما ساعد العلماء على دراسة النفس الإنسانية، على أسس علمية مكنتهم من التوصل إلى أساليب وتقنيات قادرة على تعديل سلوك الأفراد والجماعات بدون إثارة الشخص المعني. وقد عبر بطل رواية (فالدن) للمفكر سكينر عن هذا النهج حين قال: "إننا نلتزم نظاماً للسيطرة بحيث أن المسيطر عليهم يشعرون بأنهم أحرار على الرغم من أنهم يخضعون لقانون أشد صرامة من النظم القديمة. وقد وفرت تكنولوجيا التحكم في السلوك سبل القوة والانتصار وتغيير العقول" (¬1). وتتراوح أهداف غسل الدماغ بين الدعاية والترويج لسلعة أو فكرة معينة، وحتى إزالة الاتجاهات والقيم والمعتقدات. وهناك أسس تقنية عديدة يستند عليها الدعاة - لمذهب أو لفكرة أو لسلعة في تحوير الاتجاهات وغسل الدماغ أهمها: 1) تعمد الدعاية إلى خلق هدف آخر بدل الهدف الأول. فقد تعمد إلى تعويض الغرائز والحاجات غير المشبعة لدى الجماعات والأفراد. ففي أيام الحروب والضيق الاقتصادي، الذي رافق الحرب العالمية الثانية، لم تجد الحكومات الديكتاتورية إلا أن تسمح بالحرية الجنسية، أو بتناول الخمور دونما قيود، وذلك للتغطية على قمعها للحريات واستفرادها بالقرارات المصيرية، والهاء الشعب بأمور أخرى. وهكذا خلقت الحكومة النازية شعار (المتعة أثناء العمل)، وابتكرت حكومة موسوليني شعار (المتعة بعد العمل). ¬

(¬1) العقل الأمريكي يفكر ـ من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص230

2) استغلال أو تطوير أو تأكيد الهيئة الدارجة أو الفكرة السائدة عن الأشخاص أو الشعوب، فللزنجي انطباع خاص لدى الرجل الأبيض. وتعمد الدعاية المضللة ضد الزنوج إلى تضخيم وإبراز تلك الانطباعات، ومن يهمه محاربة الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية يفتش عن النواحي المعروفة لدى السذج ويتفنن في خلق الصور المرعبة عن المجتمع الاشتراكي .. الخ. ويصعب تبديل تلك الانطباعات الأولية إلا بالتوجيه والإعلام والتثقيف. 3) التعويض عن الأسماء المحبوبة أو المكروهة بغيرها، أو العاطفية الحادة بالمعتدلة. فكلمة يهودي مكروهة في معظم أنحاء العالم بسبب الطباع اليهودية الانعزالية والخبيثة. لذلك استعملت كلمة yid بدل Jew للتخفيف من وقعها على الأسماع في المجتمعات التي يعيشون فيها. وكلمة جرماني توحي أحياناً بمعاني الفظاظة والغلظة لذلك استعملت كلمة ألماني بدلاً منها للتخفيف كذلك. 4) الانتخاب: فمن بين مجموعة من الحقائق ينتخب القائم بالدعاية حقيقة، أو بضع حقائق تلائم أغراضه ويهمل البقية، ثم يبنى أكاذيبه ودعايته عليها. ومحطة إذاعة إسرائيل وقناة CNN و BBC وغيرها من المحطات، والصحف السائرة في ركابها تنفذ هذه الحيلة باستمرار. 5) الكذب: فمنذ أن موه رجال الدعاية في الحروب الصليبية الغايات الحقيقية على المجتمع المسيحي نفسه .. إلى أكاذيب (جوبلز) الضخمة .. إلى إدعاء الحلفاء بأن ألمانيا الهتلرية صنعت الصابون من ذهن الأسرى الأموات ... إلى أكاذيب (بوش) و (بلير) بشأن أفغانستان والعراق ... كان الكذب هو محور تلك الدعايات. 6) التكرار والإعادة الرتيبة والتعابير والملصقات واللافتات (خطاب باول في مجلس الأمن). 7) التأكيد والمجاهرة بصحة الإدعاء (راجع تصريحات بوش وبلير وزمرتهم). 8) الإشارة إلى عدو ما، سواء أكان عدواً وهمياً أو حقيقياً لتقوية معنويات الناس وتجميع عواطفهم العدائية نحو هدف يبعد عن صاحب الدعاية، ويخفف من غرائز العداء لدى الإنسان (الإسلام - الارهاب - بن لادن).

9) الاستعانة بالسلطة أو المصادر الموثقة للتأكيد على صحة ادعائهم كما هو واضح من الإعلان التالي "ألف طبيب يؤكدون أن معجون (كذا .. ) يجعل الجلد أكثر رقة وحيوية وجمالاً"، فمن أين جاء الألف طبيب؟ وكيف أثبتوا صفات الحيوية والجمال؟؟ لكن ذكر طبيب كمصدر يستحق الثقة، يوهم الناس بصحة الإدعاء. 10) استغلال الظواهر السلبية عند العدو وتوسيع التناقضات الظاهرة. ويضاف إلى هذه الأساليب والتقنيات أساليب أخرى تستخدم في عمليات الدعاية وغسل الدماغ، مثل الإيحاء والاستهواء والإقناع والتكرار والاستمرار في لفت النظر والتنويع المبتكر تجنياً للملل، ويراعى في كل ذلك الاختصار والسرعة والتوكيد والأحكام. وفي الواقع فإن كل هذه الأساليب والتقنيات المستخدمة في الدعاية وغسل الدماغ، تقوم على مبادئ رئيسة أهمها: محاولة الوصول إلى بؤرة الانتباه عن طريق جذب انتباه، ولفت نظر أكبر عدد ممكن من الجمهور، والاعتماد على الترغيب والتشويق والمبالغة وضرب الأمثلة وتقديم العينات، هذا بالإضافة إلى مبدأ مهم، وهو اختيار الأوقات المناسبة لعرض الأفكار والحقائق المتصلة بموضوع الدعاية وغسل الدماغ. ومن العرض السابق اتضح لنا أن عملية غسل الدماغ، عملية صعبة ومعقدة تتطلب إلمام كبير بالنظريات والعلوم النفسية والاجتماعية، هذا بالإضافة إلى وجوب توفر كم هائل من المعلومات عن الشخص أو مجموعة الأشخاص الذي أو الذين يراد تعديل سلوكهم، أو نشر أفكار معينة بينهم (¬1)، لأن هذه المعلومات ستمكن القائمين بعملية غسل الدماغ من معرفة نقاط الضعف والقوة، التي يجب أن يركزوا جهودهم عليها، وبالتالي تمكنهم من اختيار الأساليب والوسائل التي تحقق أهدافهم. وفي عصرنا الحاضر الذي تتصارع فيه فلسفات وأيدلوجيات وعقائد متعددة، تسعى كلاً منها إلى كسب مزيد من الأنصار إلى صفوفها، لعبت الدعاية وغسل الدماغ دوراً مهما في الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، ¬

(¬1) يوجد في أمريكا عشرات المراكز التي تقدم الدراسات اللازمة لصناع القرار عن المنطقة العربية والإسلامية، هذا بالإضافة إلى إسهامات المستشرقين والمبشرين قديماً وحديثاً.

وأصبحت وسيلة مهمة من وسائل الدعاية السياسية والأيديولوجية، وحتى في مجال التبشير الديني والترويج التجاري. وبالتأكيد فإن أمريكا في سعيها إلى إقناع العالم والشعوب الغربية بصحة توجهها نحو اتخاذ الإسلام كعدو بديل، ولتبرير حملتها الصليبية على العالم الإسلامي بدعوى محاربة الإرهاب والدفاع عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، تدرك أهمية أساليب غسل الدماغ ودورها في تغيير اتجاهات الرأي العام، وكسب التعاطف مع أهدافها الشيطانية. لهذا فان الإدارة الأمريكية استخدمت هذا الأسلوب بكل دقة وحرفية، وأية مقارنه بين ما تقوم به أمريكا على أرض الواقع وبين أساليب غسل الدماغ يؤكد هذه الحقيقة. وحتى لا نتوسع في هذا الموضوع، فإننا سنترك للقارئ التأكد من ذلك، حيث سيجد مئات الامثله التي تنطبق على هذا الأسلوب، وسنكتفي بعرض مثال واحد للتوضيح. فخلال حرب الخليج، كانت الإدارة الأمريكية تروج للحرب وتلمعها في عيون مختلف قطاعات المجتمع الأمريكي وغيره علي حد سواء. ولتسويق هذه الحرب لأنصار البيئة، قامت شبكة CNN بعرض صور حية لطائر يموت بسبب بقعة نفطية، وقالت إنه طائر من طيور الخليج يموت بسبب النفط الذي سكبه العراقيون القساة في الخليج. لكن المشاهدين أخبروا الـ CNN بأن الطائر المسكين الذي شاهدوه كان من طيور ألاسكا Alaska، ولم يكن من طيور الصحراء العربية، وأنه قتل بسبب النفط الذي سربته شركة إيسو ESSO النفطية الأمريكية، وليس الرئيس العراقي (صدام حسين). وقد اعتذرت CNN عن هذا التضليل! وبعد هذه المحاولة، قال مراسل CNN في بغداد بيتر آرنت Peter Arnet، في تعارض صارخ مع ما قاله البنتاغون، إنه لم يكن هناك أي دليل علي الإطلاق علي أن مصنع حليب الأطفال، الذي أمطر بوابل من القنابل الأمريكية، يحتوي علي منشآت لتصنيع الأسلحة، فما كان من إدارة CNN إلاّ أن أغلقوا فم (بيتر آرنت) وأرسلوا مكانه (كريستيان أمانبور) التي حظيت بالمال والشهرة لتنفيذها أجندة الرأسمالية المعلوماتيّة (¬1). هذا مثال بسيط ويمكن سرد آلاف الأمثلة لحملة التضليل والكذب الأمريكية .. ولكن ما خفي أعظم .. !! ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي-29/ 2/2003

الفصل السادس من المستفيد ... ومن يقف وراء الحادث؟

الفصل السادس من المستفيد ... ومن يقف وراء الحادث؟ من القواعد الثابتة في علم الجريمة، التفتيش عن دافع الجريمة ثم عن المستفيد منها، وقد شرحنا الدافع على لسان (كيسنجر) و (بريجنسكي) و (لاروش) وغيرهم. والآن لنتناول الجهة المستفيدة من هذه الجريمة، لنعرف من هو الفاعل وهي قاعدة قانونية قديمة. فإذا استثنينا العرب والمسلمين فإن المستفيد من هذه الجريمة هم تلك القوى اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة .. والكيان الصهيوني للأسباب التالية: 1 - منحت تداعيات الحادي عشر من سبتمبر، أمريكا فرصة مفتوحة على مصراعيها لتصفية جل الحركات الإسلامية في العالم بحجة (مقاومة الإرهاب) (¬1)، كما أن تل أبيب كانت قبل التفجيرات، تواجه موقفا عصيباً لم تواجهه من قبل، قلب جميع موازين الأمن عندها ودب الهلع في نفوس شعبها. وزادت الهجرة المعاكسة، وقلّت الهجرة إلى فلسطين المحتلة. ولم ينفع مجيء شارون للحكم ولا سياسة القتل والإرهاب التي اتبعها. واستنفدت تل أبيب كل حيلها وفشلت في ترويض الفلسطينيين وإنهاء الانتفاضة، وساءت سمعتها في الخارج، وبدأ تحول ملحوظ في الرأي العالمي ضد سياستها، لذا شعرت أن أمنها بل وكيانها أصبح على كف عفريت، لذا كان عليها القيام بعمل ما ... قررت وضع الولايات المتحدة أمام الانتفاضة وأمام منظمة حماس التي تقود الشارع الفلسطيني وتقود الانتفاضة والعمليات الاستشهادية (¬2). أي إن من أهم أهداف هذه اللعبة الكبرى هو جر الولايات ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص78 (¬2) أثار أستاذ أمريكي بجامعة شيكاغو يعد من أبرز الخبراء الغربيين بشؤون الإرهاب، تخصص على وجه الدقة في تحليل المعلومات المتعلقة بالعمليات الانتحارية، جدلاً واسعاً في الولايات المتحدة بعدما خلص في كتاب جديد- بعد تحليل المعلومات المتعلقة بكل العمليات الانتحارية التي وقعت في العالم منذ 1980 حتى مطلع 2004 - إلى أن الأصولية الإسلامية ليست السبب الحقيقي ل "الإرهاب الانتحاري"، وأن المسلمين ليسوا الأكثر هجمات انتحارية بل هم نمور التأميل في سريلانكا. وأكد البروفيسور روبرت باب أن الانتحاريين والاستشهاديين لا تطلقهم دوافع دينية لشن هجماتهم، بل هدف استراتيجي واضح. وقال إن "الإرهاب" الانتحاري ينبع أساساً من الاحتلال الأجنبي وليس من التطرف الإسلامي، حيث إن "الاستخدام المكثف للقوات العسكرية لتغيير المجتمعات الإسلامية سيزيد على الأرجح الهجمات الانتحارية التي تستهدفنا" .. فما أن تنسحب القوات المحتلة من أوطان الإرهابيين فإن الهجمات تتوقف في الغالب". فلبنان شهد 41 عملية انتحارية خلال الفترة 1982 - 1986م. لكنها توقفت عملياً بعدما سحبت الولايات المتحدة وفرنسا قواتهما، وبعدما انسحبت "إسرائيل" إلى ما سمته الشريط الأمني العازل على الحدود مع فلسطين المحتلة. وأشار إلى أن دراسة المعلومات الخاصة بالهجمات الانتحارية في لبنان إبان ثمانينات القرن ال 20 تنبؤ بأن 8 فقط منها شنها متشددون إسلاميون، فيما شن 28 منها شيوعيون واشتراكيون، وشن ثلاثاً منها مسيحيون. وأضاف أن الانتحاريين في العراق هم صنيعة الغزو الأمريكي. (الانتحاريين في العراق صنيعة الغزو - الخليج-23 - 7 - 2005)

المتحدة إلى إعلان الحرب على (الإرهاب) أولا، ثم إدراج منظمة حماس ومنظمة حزب الله ضمن المنظمات الإرهابية التي يجب على الولايات المتحدة محاربتها والقضاء عليها (¬1). 2 - جاءت هذه العمليات لتخفيف الضغط السياسي والإعلامي عن إسرائيل، ولإعطائها المبرر الأخلاقي والسياسي الذي يتيح لها ذبح الفلسطينيين تماماً، كما فعلت الولايات المتحدة مع أفغانستان بالإضافة إلى استغلال الفرصة لإنهاء اتفاقية السلام تماماً والقيام باحتلال كامل لمناطق السلطة الفلسطينية، وربما القيام بقصف مشترك مع الولايات المتحدة وربما الناتو كله لقصف الدول التي تحمي الإرهاب، وهي في عرف أمريكا تضم سوريا والعراق ولبنان وإيران وهذا ما يمكن أن يعجل بالحرب العالمية الثالثة، أو ما يطلقون عليه المعركة النهائية (هرمجيدون) للقضاء علي (الشر) في العالم والإعداد لقدوم (المسيح) ليحكم العالم لمدة ألف سنة. 3 - كان شارون والموساد يعلمون بالطبع إن إسرائيل هي المستفيد الوحيد من الهجمات، وان هذه الهجمة الرهيبة ضد مواطنين أمريكيين، سوف تصيب الفلسطينيين بنكسة وتلحق ضرراً هائلاً بالقضية العربية برمتها وهذا بالطبع هو ما حدث. فوسط اللهب والموت وأنقاض مركز التجارة العالمي، والبتاجون نالت إسرائيل ¬

(¬1) هذا ما حدث فعلاً حيث أعلنت أمريكيا قائمة طويلة من المنظمات الإسلامية ووضعتها على قائمة الإرهاب وقامت بتجميد أموالها وملاحقة إتباعها، وطالبت الدول الإسلامية ودول العالم باتخاذ إجراءات ضدها، بل وصل الأمر إلى حظر نشاط منظمات دعوية وخيرية بدعوى مساعدتها للإرهاب. والحديث الآن يدور عن محاولات أمريكية لإجبار الدول الإسلامية على تغيير مناهجها الدراسية.

كل ما أرادت، والفلسطينيون الذين كانوا قاب قوسين أو أدنى من إقامة دولتهم المعترف بها دولياً، انتكست قضيتهم وتراجعت القهقرى سنوات عدة في جهودهم من اجل الحرية. قتل الآلاف منهم ودمرت آلاف المنازل، وزج في غياهب السجون بعشرات الآلاف من الفلسطينيين وتعرضوا للتعذيب، وها هي أمريكا الآن تتحفز للخروج إلى الحرب ضد أعداء إسرائيل. والخطط التي رسمت وقتها لم تقتصر على مهاجمة تنظيم القاعدة، بل العراق وإيران وسوريا أيضاً. 4 - لم يعد هناك ما يلجم شارون فانطلق دون رادع لارتكاب جرائم بلا حدود ضد الشعب الفلسطيني. لقد أطلقت يداه فلم يعد يخشى أي خطوات انتقامية جدية لا من الولايات المتحدة، ولا من أية جهة أخرى. وبالطبع فإن شارون انتهز الفرصة فاندفع للقيام بهذه المهمة بالضبط. ومن الأمثلة المفحمة التامة في دلالتها على أن إسرائيل أصبح بامكانها، ومنذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ارتكاب ما يحلو لها مثل ذاك الهجوم على جنين (¬1). 5 - من أهداف هذه العملية إعاقة تنامي قوة الأقليات الإسلامية في الولايات المتحدة، وفي العديد من الدول الأوروبية، بعد أن أصبحوا الآن قوة ملحوظة. وقد أبدى المسلمون في الانتخابات الأمريكية الأخيرة نشاطاً ملحوظاً. وأي تعاظم لقوة الحركة الإسلامية أو للأقلية الإسلامية يعني هبوطاً لقوة اللوبي الصهيوني. وهو ما لا ترضى به تل أبيب، ولا يمكن أن تهمل هذا الأمر الخطير بالنسبة لها، أو أن تتناساه. فكان إلصاق هذه العملية الإرهابية بالمسلمين ضرورياً لإثارة الرأي العام ضدهم في الولايات المتحدة وفي أوروبا، وتنفيره منهم وتجميد نشاطهم وتقليل هجرة المسلمين إليهما. 6 - لقد رأى القيمون على إدارة بوش في أحداث 11 سبتمبر فرصة لتقوية الحكومة ولكسب تأييد شعبي، عن طريق إقامة حالة حرب داخلية. فبعد الهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن عرفت الولايات المتحدة، في الواقع، تحولاً جذرياً في علاقات السكان مع الشرطة والقوات المسلحة، كما في الإطار الدستوري ¬

(¬1) عام على أحداث 11 سبتمبر / بقلم ديفيد ديوك- ترجمة كمال البيطار - جريدة الخليج 6/ 9/2002 - عدد 8510

والقضائي. وعندما منح البيت الابيض نفسه سلطات جديدة هامة في حقل القمع الداخلي إنما أضفى على البونوبارتية الأمريكية علامة فارقة: التضييق على الحريات العامة (¬1). 7 - جر الولايات المتحدة إلى الحرب أمر في مصلحة شركات السلاح، التي هبطت مبيعاتها بنسبة كبيرة. وكما لا يخفى على أحد، فلهذه الشركات تأثير قوي في الحياة الاقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة. حيث أشارت بعض التقارير بإصبع الاتهام إلي شركات السلاح العملاقة التي كانت وراء الانقلابين: انقلاب كينيدي، وانقلاب بن لادن، وكان هدف تلك الشركات في الانقلابين أن تستمر الحرب، وتستعر ليستمر تدفق الأموال ودوران مصانع الأسلحة وفرض النفوذ العسكري والسياسي الأمريكي. لهذا كان لابد من حرب جديدة، فقد انتهت الحرب الباردة، وحربا الخليج و حرب (كوسوفا) بعد حرب البوسنة والهرسك، فالحروب يجب أن تستمر ومصانع الأسلحة يجب ألا تتوقف طالما أن كل ذلك يتم علي حساب الآخرين، سواء كانوا الأوربيين أو اليابان، أو حتى الدول العربية النفطية!! كما أن اختيار أفغانستان بالذات له علاقة بمطامع الشركات النفطية الأمريكية التي تسعى إلى السيطرة على نفط بحر قزوين من خلال الامتداد والاستقرار في منطقة آسيا الوسطى الغنية بمصادر الطاقة. 8 - الهجمات زادت من قوة الولايات المتحدة في معظم المجالات القانونية والعسكرية والإستراتيجية، حيث إن الولايات المتحدة اليوم من الناحية العسكرية أكثر قوة مما كانت عليه قبل الهجمات, وقامت بتوسيع قواعدها العسكرية في العالم لمواجهة تهديدات جديدة. ويحكمها رئيس راغب باستخدام القوة العسكرية الأميركية، من أجل تغيير العلاقات الدولية بطريقة يعتقد أنها ضرورية. فالأحداث عززت من سلطة الرئيس بطريقة لم تكن لتحدث لولا تلك الهجمات. كما أصبحت السياسة الخارجية الأميركية الآن أكثر نشاطاً وأكثر تدخلاً في شؤون الآخرين، مما كانت عليه خلال السنوات العشرين الماضية أو أكثر. مما أدى إلي نتائج ¬

(¬1) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق- نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص28

الأضرار التي لحقت بالمسلمين

كارثية جداً لكثير من دول العالم، لأن الولايات المتحدة تمارس الآن نفوذاً قوياً وضغطاً كبيراً على عدد كبير من دول العالم بطرق لا تحبها هذه الدول. إضافة إلى ذلك فإن المسائل الأمنية تحتل الآن أولوية في العلاقات الدولية عندما يتعلق الأمر بالمساعدات الاقتصادية الخارجية، أو الاستثمارات أو التنمية البشرية. فالإرهاب أصبح القضية الأولى على جدول أعمال أي مباحثات دولية مما همش غالبية القضايا الأخرى. 9 - من أخطر ما ستجنيه الولايات المتحدة هنا، هو أنها حصلت على (صك على بياض) للتدخل أينما شاءت ومتى شاءت بحجة محاربة الإرهاب. ولم يتسن لأي دولة حتى الآن الحصول على مثل هذا الامتياز الفريد والخطير. فإذا ما أرادت ضرب العراق فبهذه الحجة، وإذا أرادت ضرب السودان أو إيران أو ليبيا أو سوريا فبهذه الحجة. أي انها حصلت على مرونة وحركة سياسية كبيرة وعلى حجة وعذر للتدخل في شؤون جميع الدول في العالم، ولا سيما الدول الإسلامية والعربية. وهذا مكسب كبير للكيان الصهيوني واليمين الأمريكي. وإذا كانت الأمور السابقة توضح أن اليمين المسيحي المتطرف الذي يحكم أمريكا الآن، وإسرائيل هم المستفيدون من هذه التفجيرات، فإن الأضرار التي لحقت بالمسلمين تزيد الأمر وضوحاً. الأضرار التي لحقت بالمسلمين 1 - تقويض العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب، حيث أن التوتر بين الجانبين لم يكن أسوأ مما هو عليه الآن خلال العصور الحديثة. إذ مارست الولايات المتحدة ضغوطاً دبلوماسية قوية على غالبية الدول الإسلامية وخصوصاً العربية لحملها على التعاون في مكافحة الإرهاب. والمثير في هذا الأمر المضحك المبكي، هو أن هذه الولايات المتحدة الأمريكية المتضخمة والمنغلقة الذات، والتي باتت أقل علمانية وأكثر أصوليه اعتباراً بالحضور القوي للدين في الحياة الأمريكية في السنوات القليلة الماضية، ووجود 60 مليون مسيحي متعصب يشكلون الدعامة الانتخابية الرئيسة لجورج بوش، واليمين الجديد المحافظ. إن هذه أمريكا السلفية

المتطرفة هي نفسها، التي ترمي بلدان العالم الإسلامي بالأصولية، وتطالبها بتغيير مناهجها التعليمية والتربوية لتصفية البني التحتية على حد تعبيرها لبؤر التطرف. 2. اليوم تحوم الشبهات حول المسلمين أينما ذهبوا، ليس في الولايات المتحدة فقط بل وعلى مستوى العالم أيضاً. والمسلمون في الولايات المتحدة والغرب تحت المراقبة الشديدة أكثر مما كان عليه الوضع من قبل. وأصبح حصول المسلمين على تأشيرات إلى الدول الغربية مسألة أكثر صعوبة، كما استفاد حكام الدول الإسلامية من الحرب على الإرهاب لتعزيز قبضتهم وقمعهم لشعوبهم في كثير من هذه الدول, وخصوصاً ضد الإسلاميين. وهكذا فقد المسلمون حرياتهم. إضافة إلى ذلك استفاد قادة كل من روسيا والهند والصين والفليبين من الحرب على ما يسمى بالإرهاب للانقضاض على الأقليات المسلمة في بلدانهم. 3. لو كان (تصادم الحضارات) الذي تحدث عنه (صموئيل هانتنغتون) قبل ذلك أمراً ممكناً، فإن وجهات نظر (هانتنغتون) أثبتت الآن صحتها للأسف، حيث إن أعداد الأميركيين والمسلمين الذين يؤمنون بـ (صدام الحضارات) تزداد اليوم بشكل أكبر مما كانت عليه، عندما طرح هانتنغتون هذه المسألة أول مرة. 4. تعزز موقف الجماعات المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، إلى جانب الصهاينة المسيحيين والمحافظين الجدد ذوي الأطماع الإمبريالية، فقد منحتهم الهجمات سلاحاً قوياً، وزادت الهجمات الفكرية والسياسية ضد الإسلام والمسلمين، بينما لم يعد الأشخاص الذين يتعاطفون مع القضايا العربية قادرين على الحصول على فرص كبيرة لعرض مواقفهم في وسائل الاعلام المختلفة، إذ أن المجال في تلك الوسائل ممنوح للذين يتعاطفون مع الأفكار المعادية للتربية الإسلامية، وتلك التي تلصق صفة الإرهاب بالإسلام، وأصبح غالبية الغربيين ينظرون إلى المدارس الدينية في العالم الإٍسلامي على أنها مدارس لتدريب الإرهابيين. وهكذا فإنه من الصعب أن يجادل أحد لصالح الإسلام، ليس في أميركا وحدها ولكن في أي مكان في الغرب، حيث تضررت صورة الإسلام كثيراً.

تفجيرات 11 سبتمبر/ بين بوش وشارون

5. كما أن علاقة الولايات المتحدة بالفلسطينيين هي الأسوأ منذ حوالي عشر سنوات، وباسم الحرب على الإرهاب تعمل الولايات المتحدة جنباً إلى جنب مع أكثر الحكومات الإسرائيلية قسوة ويمينية منذ سنوات عديدة (¬1). تفجيرات 11 سبتمبر/ بين بوش وشارون مما تقدم نخلص إلى أن تفجيرات 11 سبتمبر 2001م جاءت لتوفر ظروف رد فعل للقوات العسكرية الأمريكية المستعدة منذ سنة لإظهار قدراتها على خوض حروب في كل الاتجاهات، وفي نفس الوقت وفرت الغطاء لشارون لممارسة إرهابه بحق الشعب الفلسطيني. فإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي قررت الدخول "فوراً في عملية عسكرية في هذيان، الحرب العالمية على الإرهاب"، والتي تتجسد منذ أكثر من ثلاثين سنة في الاحتلال العسكري غير الشرعي لأراضي كانت الأمم المتحدة خصصتها لدولة فلسطينية عربية. فشارون يخوض (حرباً استعمارية) ضد الفلسطينيين تقوم على مصادرة الأراضٍ لإقامة المستوطنين عليها. وتصريحاته وأفعاله من قتل وتدمير واغتيال هي من قبيل (ثقافة الاغتيال السياسي)، التي تجعله يتبنى الأسلوب نفسه الذي أعلن عنه جورج بوش وفريقه، وهي لغة قانون (لينش) لليمين المتطرف البروتستنتي. وهنا يجب التذكير بأن هيجان شارون ضد الفلسطينيين سابق لعمليات 11 سبتمبر، حيث لاقت سياسته القمعية دعم أمريكا، حيث لم يتوانَ شارون عن ارتكاب المذابح والاغتيالات ضد الفلسطينيين ولم يتوان في تشبيه الانتفاضة بطريقة غير صحيحة، وغير عادلة، بإرهاب طائفة بن لادن، محاولاً خلق الذعر في رأيه العام ولا يعير أهمية للرأي العام الدولي، بل يتوجه للرأي العام الأمريكي الذي يجد فيه مساندة معتبرة لسياسته. فالروح الانتقامية تجد طريقاً لها في الشعب الأمريكي والشعب الإسرائيلي، إلى درجة أنه يمكننا أن نتساءل إن لم نكن بصدد أسرلنة الرأي العام الأمريكي أو أمركة الرأي العام الإسرائيلي (¬2). ¬

(¬1) موقع الجزيرة نت الثلاثاء 3/ 7/1423هـ الموافق 10/ 9/2002م (¬2) إمبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة -ألان جوكس كامبردج بوك ريفيوز http://www.aljazeera.net/books/2002/12/ - TOP

سيناريو ضلوع إسرائيل في أحداث 11 سبتمبر

سيناريو ضلوع إسرائيل في أحداث 11 سبتمبر ثمة أمور مزعجة في هذا التواطؤ العجيب بين مصالح إسرائيل وأمريكا. ويتساءل بعض المسئولين رفيعي المستوى في قلب إدارة بوش حول الدور المباشر الذي أدته إسرائيل في دخول الولايات المتحدة الحرب ضد العراق، فقد أعلن مكتب التحقيقات الاتحادية على سبيل المثال، أنه يدرس احتمال قيام حكومة أجنبية بمناورات تهدف إلى تقوية الدعم لحملة عسكرية ضد العراق. بهذه الرؤية يقدم الكاتب الفرنسي الشهير (اريك لوران) فصله السابع (رئيس غير عقلاني) في مؤلفه الشهير (عالم بوش السري) والذي يميط فيه اللثام عن الاختراق اليميني الديني للسياسة الأمريكية، إضافة إلى الدور (الإسرائيلي) الواضح للعيان في الكثير من الأحداث على صعيد الولايات المتحدة بخاصة منذ وصول (بوش الابن) إلى البيت الأبيض. ويخلص المؤلف إلى نتيجة مؤداها أن إسرائيل كانت حاضرة وبقوة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبالقدر نفسه كذلك كانت وراء حرب العراق والرابط بين الأمرين لا يخفى على أحد، إذ طلب بوش ثاني أيام الاعتداءات على واشنطن ونيويورك من مستشارته للأمن القومي في ذلك الوقت (كوندوليزا رايس)، إعداد خطة عسكرية لغزو العراق (¬1). اتهام أمريكي مباشر لـ (إسرائيل) كان نهار الخميس السادس عشر من يونيو 2005م، موعداً داخل الكونجرس لاجتماع وجه فيه عدد من الديمقراطيين اتهامات صريحة بأن الرئيس (بوش) قد ضلل الرأي العام الأمريكي عندما أراد الذهاب إلى العراق. وأضاف (راي ماكغافرن) المسؤول السابق في جهاز الاستخبارات الأمريكية CIA أثناء الاجتماع أن أمريكا ذهبت إلى الحرب على العراق من أجل النفط وإسرائيل، وإقامة قواعد عسكرية أرادها المحافظون الجدد كي تتمكن أمريكا وإسرائيل من الهيمنة على ذلك الجزء من العالم. ولم يقتصر الأمر على التلميح، إذ تعداه إلى التصريح حيث قام نشطاء في الحزب الديمقراطي خلال اللقاء المتلفز بتوزيع منشورات تضمنت اتهامات بأن شركة ¬

(¬1) عالم بوش السري - اريك لوزان- ص 143

إسرائيلية تلقت تحذيراً قبيل اعتداءات 11 سبتمبر في إشارة إلى أن (إسرائيل) كانت تعلم بالاعتداءات قبل حصولها، وأن إسرائيل ربما كانت متورطة أيضا في مضاربات في الأسواق المالية عشية الاعتداءات لتحقيق مكاسب ضخمة (¬1). وقد استدل هؤلاء بما أعلنته شبكة فوكس الأمريكية في صدر نشراتها الإخبارية في تلك لفترة من أنها علمت بوجود نحو ستين إسرائيلياً من بين مئات المعتقلين، الذين ألقت السلطات الأمريكية القبض عليهم بعد حوادث التفجيرات، وأن المحققين الاتحاديين من جهاز ال FBI كانوا يبحثون عنهم منذ مدة طويلة على خلفية اتهامهم بالتجسس على مواقع رسمية تابعة للحكومة الأمريكية. وتضيف شبكة فوكس، أن بعض هؤلاء الإسرائيليين ناشطون في الجيش الإسرائيلي، أو عمليات الاستخبارات. وأما اعتقالهم فجرى باتهامات تتعلق بالهجرة أو تحت لافتة قانون (باتريوت اكت)، (تشريع المواطن) لمكافحة الإرهاب. وأضافت في ذلك الوقت نقلاً عن محققين اتحاديين، أن بعض المعتقلين الإسرائيليين لم ينجحوا في اجتياز اختبار فحص الكذب حول التهم المنسوبة إليهم والمتعلقة بأنشطتهم التجسسية ضد الولايات المتحدة. وقد خلصت الشبكة إلى أن شكوكاً كبيرة قد اندلعت في عقول المحققين حول احتمال أن يكون هؤلاء المحتجزين قد جمعوا معلومات إستخبارية حول هجمات 11 سبتمبر قبل وقوعها، ولكنهم لم يشركوا أحداً في معلوماتهم تلك. ولكي لا تلقي الشبكة اتهاماتها جزافاً، فقد نقلت عمن وصفته بالمحقق الكبير قوله لها: إن هناك علاقة بين الإسرائيليين والهجمات. لكنه عندما سئل عن تفاصيل هذه العلاقة رفض الإفصاح وقال: الأدلة التي تدين الإسرائيليين، بما جرى في الثلاثاء الحزين هي (مصنفة)، ولا يمكن أن أتحدث عنها. ومعنى مصنفه، أنها معلومات سرية للغاية ولا يجوز إطلاع احد عليها غير المخول لهم ذلك. أمر آخر كشفت عنه فوكس، وهو الإعلان عن مجموعة إسرائيلية كانت تحتفظ بشقة في ولاية كاليفورنيا بهدف التجسس على مجموعة من العرب، الذين تحقق معهم السلطات الأمريكية للاشتباه بعلاقتهم بالإرهاب. وتؤكد فوكس على أنها حصلت ¬

(¬1) سؤال يتجدد: هل كانت "إسرائيل" وراء أحداث سبتمبر؟ إميل أمين الخميس- جريدة الخليج- 30 - 6 - 2005 - العدد 9538

على كمية كبيرة من الوثائق المصنفة التي تشير إلى أنه حتى قبل 11 سبتمبر كان قد تم وضع 140 إسرائيلياً آخر قيد الاعتقال والاحتجاز، وأن ذلك قد تم ضمن تحريات سرية للاشتباه بأنهم يتجسسون لمصلحة إسرائيل في أمريكا. اما التحقيقات التي جرت بعد الأحداث فقد قادت إلى إلقاء القبض على عشرات الإسرائيليين العاملين في أكشاك صغيرة داخل مراكز تجارية؟، اعتبرت واجهات لممارسة نشاطات إسرائيل التجسسية، والمثير جداً في هذا الصدد أنه بعد أن أوردت صحيفتا واشنطن بوست ونيويورك تايمز نبأ اعتقال أشخاص إسرائيليين، بتهم تتعلق بالهجرة في نوفمبر عام 2001م، بدأت هذه العربات التي تعمل كأكشاك صغيرة بالاختفاء من مواقع انتشارها. وباختصار غير مخل يقول ضابط كبير ممن يشرفون على التحقيقات لفوكس: إن حكومة الدولة تقوم بأعنف حملة تجسس ضد الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من أي دولة حليفة لأمريكا. في تلميح مباشر للتورط الإسرائيلي في القيام بنشاطات تجسسية فوق الأراضي الأمريكية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مكتب أمن الاتصالات في جهاز المباحث الاتحادية وضع تقريرا أشار فيه إلى أنه تم تحديد عدد من ثغرات الاختراق لأجهزة الكمبيوتر بالمكتب، وهي نقاط صممت بحيث تتيح لعملاء دولة أجنبية دخول نظام المعلومات، المركزي والاطلاع على محتويات الملفات، التي يتضمنها النظام. وهنا تلزم الإشارة إلى أن عمليات المراجعة الأمنية في أعقاب هجوم الحادي عشر من سبتمبر، قد كشفت عن أن الأجهزة والبرامج التي استخدمها مكتب التحقيقات الاتحادية آنذاك، تضمنت برامج مستوردة من شركة (كومفيرس أنفوسيس) الإسرائيلية، وأن تلك البرامج تضمنت نوافذ سرية يمكن لخبراء الشركة المنتجة، وهم أصلاً من صمموها، استخدامها للاطلاع على محتوى الملفات والبيانات بأجهزة المكتب من دون أن يتمكن خبراء الأمن في المكتب من رصد تلك النوافذ بسهولة. وبعد الكشف عن تلك الثغرات ألقي القبض على عدد من الإسرائيليين، وتم ترحيلهم من الولايات المتحدة، وتردد أن مسئولا عسكريا إسرائيلياً، وضع أيضاً رهن الاعتقال وحقق معه، ثم أعيد إلى إسرائيل، وبذل خبراء المكتب جهدا كبيرا لسد الثغرات، إلا أنهم وضعوا تقريرا قالوا

إرهاب الموساد ضد أمريكا

فيه: إنه من الأفضل تغيير نظام الاتصالات داخل مكتب التحقيقات بأكمله (¬1). إرهاب الموساد ضد أمريكا رغم وضوح الرؤية لمعظم المتابعين بأن هجمات 11 سبتمبر كانت مدفوعة ـ على الأقل في جزء منها ـ بقضية السيطرة على الشرق الأوسط، إلا انه من غير الواضح فيما إذا كان ذلك هو الدافع الرئيس، وفي حال استثنينا العرب الساكنين في الكهوف الأفغانية، فإننا لا نعلم بعد ـ الجناة الحقيقيين، ولكن يدل التنسيق والدقة في الهجمات على نيويورك وواشنطن على التورط المباشر لواحدة من وكالات الاستخبارات الحكومية للعالم الأول، حيث كانت الفوضى الناتجة عن الهجمات أكيدة ومميتة بالمنظور الاستراتيجي (¬2). وفي مقال له بمناسبة مرور عام على أحداث 11 سبتمبر، طرح الكاتب الصحفي (ديفيد ديوك) سيناريو جديد لما حدث، حيث اتهم الحكومة الإسرائيلية بزعامة الإرهابي شارون بأنها تقف وراء هذه العملية، حيث يقول: "سوف أقدم الدليل الدامغ لتورط شارون في الهجوم الإرهابي على مركز التجارة العالمي"، حيث مهد لذلك بتسليط الضوء على الإرهاب الإسرائيلي، والشاروني بالذات وعدم تورعه عن اللجوء إلى أحط الوسائل لتنفيذ ما يسميه بأهداف الصهيونية القذرة، وسعيها إلى جر العالم إلي حرب عالمية ثالثة. فطالما كان للموساد تاريخ مديد حافل من الإرهاب المقنع والخيانة الخفية. ففي عام 1940 عندما قرر الانكليز إنقاذ اليهود المهددين من قبل النازية بنقلهم إلى جزيرة (موريس) عمد قادة (الهاغانا) الصهاينة بزعامة بن غوريون حينذاك إلى تفجير السفينة (باتريا) المحملة باليهود حينما رست في ميناء حيفا، وكان ضحية ذلك 252 يهودياً أضف اليهم بحارة السفينة الانكليز .. كل هذا بغية إثارة روح العداء لبريطانيا التي لم تسمح بتحقيق رغبة اليهود في النزول إلى (ارض الاجداد) .. وبعد ثمانية عشر عاماً يكتب موشي شاريت رئيس مجلس الوزراء ورئيس الوكالة ¬

(¬1) سؤال يتجدد: هل كانت "إسرائيل" وراء أحداث سبتمبر؟ إميل أمين الخميس- جريدة الخليج- 30 - 6 - 2005 - العدد 9538 (¬2) العراق أولاً - حرب إسرائيل الخاطفة على نفط الشرق الأوسط (عملية شيخينا) - تأليف جوفيالز- ترجمة مروان سعد الدين ص29.

التزييف الرسمي لحقيقة حادث (ليبرتي)

اليهودية معلقاً على هذه الكارثة: "من الضروري في بعض الاحيان أن نضحي ببعض الاشخاص في سبيل إنقاذ الأغلبية". وهناك مثال آخر من يهود العراق الضاربين بجذورهم العميقة في هذا البلد .. حيث بدأت الاعمال الارهابية في بغذاد عام 1950. فتجاه تردد بعض اليهود العراقيين في تسجيل اسمائهم في قائمة المهاجرين إلى اسرائيل لم تتورع المخابرات الاسرائيلية - بغية اقناع اليهود بانهمم في خطر - عن أن ترمي بالمتفجرات على المعبد اليهودي فتقتل ثلاثة أشخاص وتجرح العشرات (¬1). وفي حقبة الخمسينات فجر عملاء الموساد الإسرائيليون منشآت أمريكية في مصر، ضمن خطة محبوكة بالغة التعقيد لإلصاق تهمة الإرهاب ضد أمريكا بالمصريين، لكسب التأييد بذلك والدعم الأمريكي لـ إسرائيل ضد مصر، ولحسن حظ الولايات المتحدة ومصر، فإن قنابل احد العملاء اليهود انفجرت قبل التوقيت المحدد لها وافتضحت المؤامرة وكان على وزير الحرب الإسرائيلي (بنحاس لافون) تقديم استقالته بسبب الفضيحة التي انفجرت آنذاك. وخلال حرب 1967م هاجمت إسرائيل سراً سفينة حربية أمريكية هي (ليبرتى)، بطائرات أزيلت عنها شاراتها ونزعت أعلامها بزوارق طوربيد في محاولة، لإغراق السفينة ولإلقاء اللوم مره أخرى على المصريين وإلصاق تهمة ارتكاب هذه المجزرة بهم. وقد قتل في هذه المجزرة 43 أمريكيا وجرح 173، ولم تنج السفينة من الغرق، إلا بفضل بسالة طاقهما وشجاعتهم، والتي أنقذت السفينة من الغرق، وعرت دور إسرائيل في الهجوم، مما دفعت مسئولين أمريكيين إلى القول بان الهجوم الإسرائيلي كان متعمداً (¬2). التزييف الرسمي لحقيقة حادث (ليبرتي) (¬3) فضحت مشادة في مؤتمر عقدته إدارة التاريخ والتوثيق التابعة لوزارة ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص285 - 286 (¬2) عام على أحداث 11 سبتمبر / بقلم ديفيد ديوك- ترجمة كمال البيطار - جريدة الخليج 6/ 9/2002م - عدد 8510 (¬3) وورد بوسطن /كبير المستشارين في تحقيقات السفينة ليبرتي -كورونادو كاليفورنيا -في 8 يناير /كانون الثاني 2004 - جريدة الخليج - 14 - 1 - 2004م

الخارجية الأمريكية حقيقة تاريخية، تكتمت عليها إدارة الرئيس الأمريكي الراحل (ليندون جونسون) في شأن حقيقة ما حصل للسفينة الحربية الأمريكية (ليبرتي) في البحر الأبيض المتوسط في 8 يونيو 1967م. فقد منع منظمو المؤتمر الناجين من حادث إغراق ليبرتي، من تلاوة نص شهادة موثقة باليمين وقعها (وورد بوسطن) (84 عاماً) كبير مستشاري التحقيق في حادثة ليبرتي، ويعلن فيها انه تلقى تعليمات مباشرة من (جونسون) والأدميرال (إسحاق كيد) رئيس لجنة التحقيق في البيت الأبيض ووزير الدفاع آنذاك (روبرت ماكنمارا) بتغيير نتيجة التحقيق، وتكتم الحقيقة حتى لا يتعرض احتمال إعادة انتخاب (جونسون) للخطر بسبب النفوذ الإسرائيلي القوي. ويفضح في شهادته، كيف تم تغيير تقرير التحقيق؟ ويؤكد للشعب الأمريكي أن إسرائيل هي الجاني على سفينته وبحارته (¬1). وقد نشرت (جريدة الخليج الإماراتية) نص الشهادة/ الوثيقة، حيث أوضح (فيليب تورني) رئيس جمعية محاربي ليبرتي للخليج أن شهادة بوسطن مهمة في ضوء المحاولات الأمريكية، لإعادة كتابة تاريخ حادثة إغراق سفينة التجسس ليبرتي بنيران القوات الإسرائيلية، لطمس تلك الحقيقة، وإلصاق التهمة بمصر والعرب. وقال إن الهدف الحقيقي كان يتمثل في استدراج أمريكا لدخول حرب 1967م في صف إسرائيل ضد العرب بتحميل الأخيرين مسؤولية إغراق ليبرتي، بيد أن بحارة السفينة المنكوبة نجحوا في إرسال إشارة استغاثة نصها (إسرائيل تهاجمنا). وأوضح أن طاقم السفينة نجحوا في إرسال أحد البحارة إلى أعلى الساري لتركيب هوائي، بديل عن الهوائيات التي دمرتها الطائرات الإسرائيلية في طلعة الهجوم الأولى ضد ليبرتي لمنعهم من إرسال استغاثة، ولم يسلم ذلك البحار من استهداف الطائرات الإسرائيلية التي أطلقت عليه النيران، وهو يحاول تركيب الهوائي البديل، ولكنه أتم المهمة بسلام رغم إصابته، ما أتاح لطاقم السفينة إرسال استغاثة. ففشلت الخطة الإسرائيلية لإغراق السفينة بالكامل. يقول (بوسطن) في نص الوثيقة التي مُنع الناجون في مؤتمر وزارة الخارجية الأمريكية من تلاوتها، بل حدثت مشادة مثيرة، ¬

(¬1) الانحياز - علاقات أمريكا السرية باسرائيل-ىستيفن غرين - ص 187 - 215 - مؤسسة الدراسات الفلسطينية- ط2 1992 - القدس

لدرجة أن رئيس الجلسة أمر بإخراج من حاول من الناجين شرح الحقيقة: 1. لقد كنت صامتاً لأكثر من 30 عاماً على موضوع السفينة ليبرتي، فقد كنت رجلاً عسكرياً أتلقى الأوامر من وزير الدفاع، والرئيس الأمريكي، ولكن المحاولات الأخيرة لإعادة كتابة التاريخ ترغمني على كتابة الحقيقة. لقد كنت في يونيو 1967 م كابتن بالقضاء العسكري التابع للبحرية الأمريكية، عندما تم تعييني ككبير المستشارين القانونيين للجنة التحقيق في البحرية الأمريكية، حول موضوع حادث اغراق ليبرتي. وقتها أعطانا الأدميرال (إسحاق كيد) رئيس لجنة التحقيق مهلة أسبوع واحد فقط لجمع المعلومات، رغم أننا رأينا أن الموضوع يحتاج لستة أشهر. 2. ورغم الوقت القليل المتاح لنا فقد جمعنا كمية كبيرة جداً من المعلومات والأدلة، بما فيها ساعات من شهادات الناجين المأساوية، حيث كانت الأدلة واضحة، وقد آمنت بثقة أنا والأدميرال (كيد) بأن هذا الهجوم الذي أسفر عن مصرع 34 جندياً أمريكياً، وجرح 172 كان بفعل جهد مدبر ومتعمد لإغراق سفينة أمريكية، لقتل كل أفراد طاقمها. وقد استمرت مناقشتنا، وأتذكر أن الأدميرال (كيد) كرر مرات عدة تأكيده أن القوات الإسرائيلية مسئولة عن الهجوم، وكرر وصفهم بأنهم قتلة وأولاد سفاح. 3. كان رأينا المشترك والمبني على الأدلة والشهادات التي سمعناها ورأيناها، أن الهجوم كان مخططاً ومتعمداً ولا يمكن أن يكون حادثة، وأنا على ثقة من أن الطيارين الإسرائيليين الذين قاموا بالهجوم وكذلك رؤساءهم الذين أمروا بالهجوم كانوا يعلمون أن السفينة أمريكية. لقد رأيت العلم الذي دل بوضوح على هوية السفينة مخترقاً بالرصاص الإسرائيلي. 4. إسرائيل لم تهاجم فقط السفينة ليبرتي بالنابالم والرصاص والصواريخ، بل قامت قوارب التوربيدو الإسرائيلية بفتح مدافع رشاشاتها الثقيلة على ثلاثة قوارب نجاة، كانت تحمل جرحى أمريكيين أنزلهم طاقم ليبرتي إلى الماء في محاولة لإنقاذهم، وهذه جريمة حرب. 5.الأدميرال (كيد) وأنا كلانا شعرنا بأنه من الضروري وقتها السفر إلى إسرائيل لاستجواب الإسرائيليين، الذين شاركوا في الهجوم، وطلب الادميرال (كيد) من الادميرال (جون ماكين) القيام بترتيبات هذه الزيارة، لكنه أبلغني لاحقاً بأن

الادميرال ماكين أصر على عدم ذهابنا إلى إسرائيل، أو التحدث مع الإسرائيليين حول هذا الموضوع مطلقاً. وللأسف أننا في لجنة التحقيق لم ننظر في شهادات أكثر من 60 شخصاً من الناجين والجرحى. 6. أنا شديد الأسف، وغاضب للغاية من هؤلاء، الذين يبررون لإسرائيل في هذا البلد (الولايات المتحدة)، ويرددون بأن الهجوم كان بسبب عدم التعرف إلى هوية السفينة، وعلى وجه الخصوص (جي كريستول). (فجي كريستول) يلوي الحقائق ويقدم بطريقة خاطئة أولئك الذين حققوا في الحادث. ومحاولات (كريستول) المليئة (باللؤم) لغسل الحقائق دفعتني للخروج عن صمتي. 7. أنا أعلم من محادثاتي مع الأدميرال كيد أن الرئيس (جونسون) ووزير الدفاع (روبرت ماكنمارا) أمراه بأن يجعل نتائج التحقيق تخلص إلى أن الهجوم على ليبرتي، كان حادثاً بسبب عدم التعرف إلى هوية السفينة، وإنما كان حادثاً تم خطأ، رغم الأدلة التي تدل على عكس ذلك. فالأدميرال (كيد) قال لي بعد عودته من واشنطن: إنه تلقى أوامر بالجلوس مع شخصين مدنيين من البيت الأبيض ووزارة الدفاع، لإعادة كتابة أجزاء من تقرير لجنة التحقيق. 8. الأدميرال (كيد) أيضا قال لي: إنه قد صدرت إليه أوامر بالتغطية على كل شيء له علاقة بالهجوم على ليبرتي، و (إننا) ممنوعان من التحدث على الإطلاق عنها، وأن علينا أن نحذر الآخرين من ألا يفتحوا فمهم في هذا الموضوع إلى الأبد، وأنا ليس لدي أي سبب يجعلني أشك في هذا الكلام. أنني أعرف أن لجنة التحقيق والسجل المكتوب الذي نشر لاحقاً للرأي العام ليس هو السجل الذي كنت قد وقعت عليه وأرسلته إلى واشنطن. لقد كان علينا تحت ضغوط الوقت أن نصحح باليد، ونوقع على عدد كبير من الصفحات. وعندما قمت بفحص التقرير الذي نشر لم أر أياً من الصفحات التي سجلتها، وكانت تحمل توقيعي، وأيضاً فإن أصل التقرير لم تكن به صفحات بيضاء كالتي رأيتها في التقرير المنشور. أيضاً شهادة الملازم (بينتر) المتعلقة بالهجوم المتعمد على (الجرحى الأمريكيين) في قوارب النجاة من قبل أطقم التوربيدو الإسرائيلي، تم حذفها من التقرير الرسمي المنشور. وبعد نهاية عمل لجنة التحقيق استمررنا أنا وكيد في التواصل ومناقشة الموضوع في ما بيننا، وفي كل مرة كان الأدميرال مصراً على أن الإغراق كان متعمداً، ومن المهم للشعب

شارون وأحداث سبتمبر

الأمريكي أن يعلم أن (إسرائيل) مسئولة عن إغراق السفينة ليبرتي، وقتل بحارتها الأمريكيين، وعن هؤلاء الضحايا الذين قتلوا ومشاعر أسرهم، وكذلك الناجين الذين عاشوا هذه الظروف التي تفوق الوصف (¬1). شارون وأحداث سبتمبر ونعود إلى (ديفيد ديوك) الذي - بعد ان سلط الضوء على المنطلقات الذهنية اليهودية العنصرية الحاقدة على البشرية، والطريقة التى يفكر بها القادة الصهاينة وشارون بالذات وعدم تورعه عن اللجوء إلى أحط الوسائل لتنفيذ ما يسميه بأهداف الصهيونية القذرة، وسعيها إلى جر العالم إلي حرب عالمية ثالثة - يتابع مقاله بالقول: لقد أوردت هذا لأقول إنه من هنا، ومن هذه المنطلقات في الذهنية اليهودية ينبغي أن نبدأ النظر، إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا. فقد تملكت شارون رغبة جامحة بافتعال حدث جديد خفي وسرى على غرار قضية (لافون) و (ليبرتى). كان يسعى لقضية لا يعتريها الخطأ ولا يفسدها خلل ما. كان شارون يتلهف بيأس على حدث رهيب بالغ الشناعة يقلب العالم رأساً على عقب، ويحول الرأي العام العالمي ويطلق له العنان ليفعل ما يشاء بالفلسطينيين، وعثر على ضالته في منظمة القاعدة بزعامة بن لادن، حيث اخترقها الموساد واقترح خطة هجمات نيويورك وواشنطن. وهنا يقول (ديفيد ديوك): "إن خبراء مركز الأبحاث والدراسات العسكرية في الجيش الأمريكي، يقولون: إن الموساد لديه القدرة على توجيه ضربات لقوات ومصالح أمريكية، وجعل الأمر يبدو على أنه من تدبير فلسطينيين أو عرب" (¬2). ويضيف (ديفيد ديوك): "لا يجرؤ على التستر على الدور الخياني المجرم الذي قامت به إسرائيل في هجمات 11 سبتمبر سوى الخونة من الأمريكيين. الخونة وحدهم هم الذين يحجمون عن مقاضاة مائة من جواسيس إسرائيل، الذين تم ¬

(¬1) راجع أيضا العراق أولاً - حرب إسرائيل الخاطفة على نفط الشرق الأوسط (عملية شيخينا) - تأليف جوفيالز- ترجمة مروان سعد الدين ص17 (¬2) سؤال يتجدد: هل كانت "إسرائيل" وراء أحداث سبتمبر؟ إميل أمين الخميس- 30 - 6 - 2005 - العدد 9538

الجماعات المسيحية المتطرفة وأحداث 11 سبتمبر

القبض عليهم، ويعيدوهم ـ بدل أن يحاكموهم ـ إلى إسرائيل كي يطمس الحق، ويتم التستر على دور إسرائيل في الهجمات. الخونة وحدهم هم الذين يقدمون الدعم الأمريكي لجرائم إسرائيل المروعة ضد الشعب الفلسطيني، تلك الجرائم الشنيعة ضد الإنسانية، وهى جرائم لا تتصف فقط بأنها تسدد طعنة للإحساس الأمريكي بالعدل، بل أنها جرائم تدمر بلدنا في كل أنحاء العالم وتشوه سمعتنا، وتجعلنا عرضة لمزيد من الإرهاب في المستقبل. ثم يختم (ديفيد ديوك) كلامه بالقول: "أنني ارتجف خشية على أمريكا، بلدي، وامتلئ مرارة وألماً لفقد بلدي استقلاله وحريته ورضوخه مذعناً لهيمنة دعاة التفوق العنصري اليهودي، مثل القاتل بالجملة، ومجرم الحرب أرييل شارون. وأنني لابتهل إلى الله من اجل أن يحل السلام، وقلبي كله لوعه مما يصيب عشرات الآلاف من الفلسطينيين المجهولي الأسماء، الذين يعانون في هذه اللحظة اشد المعاناة في وطنهم الحبيب، كما أنني أتضرع إلى الله من اجل أولئك اليهود الأبرياء، الذين دفعوا ثمن إرهاب شارون وغيره من دعاة العنصرية اليهود، وأصلي من أجل الشعب الأمريكي كي تتمكن من كسر أصفاد هذه الخيانة ضد شعبنا .. الخيانة ضد كل تلك المبادئ السامية، التي قام على أساسها بلدنا الحبيب (¬1). الجماعات المسيحية المتطرفة وأحداث 11 سبتمبر إذا كان احتمال مسئولية اسرائيل عن احداث 11 سبتمبر كبير حسب ما اوردناه من ادلة وشواهد واقعية وتاريخية، فإن احتمال مشاركة الجماعات اليمينية المتطرفة في الاحداث كبير جداً بسبب علاقاتها المميزة مع اسرائيل ورغبتها في التعجيل بالمعركة النهائية بين ما يسمى الخير والشر. فمن خلال ما تقدم اتضح لنا ـ وبإجماع الخبراء ـ على أن التفجيرات لا يمكن أن يخطط لها من الخارج، بل إن المخططين والمنفذين من داخل أمريكيا، ولديهم معلومات بالغة الدقة في كافة المجالات، وهنا لا بد من التساؤل: لماذا لم يتم توجيه الاتهام للجماعات المسيحية المتطرفة التي ¬

(¬1) عام على أحداث 11 سبتمبر / بقلم ديفيد ديوك- ترجمة كمال البيطار - جريدة الخليج 6/ 9/2002 - عدد 8510

تعد بالمئات؟ والتي تمتلك أسلحة ومليشيات، ولديها سوابق في هذا المجال مثل ما حدث في (اوكلاهوما)، كما أن هذا الجماعات تؤمن بأفكار ونبوءات متطرفة وجنونية، تقول بقرب نهاية العالم، وقيام معركة فاصله بين قوى الخير وقوى الشر، ولهذا فلا يستبعد أن تكون إحدى هذه الجماعات، هي التي نفذت الهجوم لاستعجال نهاية العالم وعودة المسيح إلى الأرض، وهنا سنعرض لمثل حي لهذه المحاولات، حيث سبق لمكتب التحقيق الفدرالي أن نبه إلى خطر هذه الجماعات، في تقرير نشر في 20/ 10/1999م (¬1). فقد ذكرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، نقلاً عن تقرير صادر عن المكتب الفيدرالي الأمريكي في 20 أكتوبر 1999 م أن المتطرفين المسيحيين الأمريكيين يستعدون للقيام بأعمال عنف كبيرة في بداية القرن العشرين داخل الولايات المتحدة. وأضافت الصحيفة تقول: إن هذا العنف المتوقع سيكون راجعاً لاعتقاد الذين يؤمنون بالإنجيل بأن نهاية العالم ستكون في الألفية الثالثة (¬2). وذكرت أن التقرير الأمريكي يشير إلى أن هناك توترات يمكن أن تحدث بين المسلمين واليهود في القدس استنادًا للأسطورة -التي يؤمن بها مسيحيون ويهود- والقائلة بأن منطقة (هرمجيدون) التي تقع شمال فلسطين ستشهد حرباً بين الخير (اليهود) والشر (المسلمين)، وسينتصر فيها الخير، كما سيتم استخدام الأسلحة النووية في هذه الحرب، وسيباد كل المسلمين، وسيعود العالم مرة أخرى إلى حالته البدائية. ويضيف التقرير: أن الآلاف من السياح الأمريكيين بدءوا يتوافدون على إسرائيل للاشتراك في هذه المعركة، وأن الإيمان الراسخ بهذه الأسطورة دفع أشخاصاً عديدين لاقتناء حاجاتهم من الغذاء والمال والسلاح والملابس انتظارًا لنهاية العالم. ¬

(¬1) موقع إسلام اون لاين 20/ 10/1999 (¬2) عبر الرئيس نيكسون عن هذا الاعتقاد بقوله: سوف نحتفل بعد اثني عشر عاماً بيوم يأتي كل ألف سنه، فهو بداية سنه جديدة وقرن جديد وألف سنه جديدة. ولأول مره في مثل هذا اليوم التاريخي، لن يكون الخيار المطروح أمام الجنس البشرى هو مجرد جعل المستقبل خيراً من الماضي، بل إذا كنا سنعيش لنتمتع بالمستقبل أم لا. فقد استهل العالم الألف سنه الماضية بإحساس محموم بأنه نذير شؤم، وذلك عندما استشار زعماء الدين الإنجيل وتنبأوا بأن نهاية العالم وشيكة. إذ خشوا انه في سنة 1000 سوف تدمر قوة الرب العالم، وفي سنة 2000 ستدمر قوة الإنسان العالم، إذا لم يقم بعمل للحيلولة دون ذلك. (1999 نصر بلا حرب - ريتشارد نيكسون - تقديم المشير/ محمد عبد الحليم أبو غزالة ص23). مركز الاهرام, 1989.

وفي الإطار نفسه، وفي يناير سنة 1999م اعتقلت الشرطة الإسرائيلية وأبعدت إلى الولايات المتحدة ثمانية أعضاء في طائفة أميركية (المسيحيون القلقون)، اتهمتها بالسعي إلى الانتحار بشكل جماعي بمناسبة حلول الألفية الثالثة. وأفادت الصحافة الأميركية أن زعيم هذه الطائفة (مونتي كيم ميلر) تنبأ بأنه سيقتل في شوارع القدس في ديسمبر 1999م، وأن هذا الحدث سيطبع نهاية الألفية الثانية. ويعتقد المسيحيون من أصحاب هذه النظرية أن تدمير مسجدي القدس (الأقصى وقبة الصخرة)، وإعادة بناء المعبد اليهودي مكانها يشكل مقدمة لعودة المسيح وللدينونة الأخيرة. ويضيف التقرير: إن عدداً من المنظمات الدينية التي تنتظر يوم الدينونة في سنة 2000م، خزنت أسلحة في مخابئ سرية بغية تنفيذ اعتداءات تستهدف قواعد للجيش الأميركي، ومكاتب الأمم المتحدة والمؤسسات اليهودية، والسكان السود في الولايات المتحدة، والأقليات العرقية فيها، ولذلك طلب مكتب التحقيقات الفيدرالي ( F. P.I) من أجهزة الشرطة المحلية مراقبة الميليشيات المتطرفة، والطوائف التي يمكن أن تستغل حلول عام ألفين للقيام بأعمال إرهابية أو عمليات انتحار جماعي. وفي تقرير من أربعين صفحة وُزِّع عبر العالم، أوضح مكتب التحقيقات الفيدرالي أنواع التهديدات، وفصّل المراجع التوراتية التي تستعملها هذه المجموعات. وجاء في هذا التقرير أيضاً: أن هذه الحركات قد تستغل اقتراب عام ألفين من أجل التعجيل بـ (نهاية العالم)، وهي تعتقد أنها باتت قريبة. ويطلب التقرير من أجهزة الشرطة المحلية أن تكون بالمرصاد، وأن تبلغ عن أي تغيير في تصرفات هذه المجموعات، مثل استعدادات مشبوهة أو تخزين متفجرات ... وما إلى ذلك. ويخشى ( F.P.I) أيضا من حصول أعمال فردية يقوم بها أعضاء في هذه المجموعات. وأوضح مكتب التحقيقات الفيدرالي في بيان له، "أن (مشروع مجدو) يقدم (رؤية شاملة لأيديولوجيات متطرفة مختلفة، وخصوصاً تلك التي تدعم أو تدعو إلى القيام بأعمال عنف في عام 2000م". ومن بين هذه المجموعات المستهدفة، يعدد البيان خصوصاً (مناصرين أشداء لتفوق العنصر الأبيض)، الذين يسعون إلى شن حرب عنصرية، ويؤمنون ببدع تنتظر معركة كبرى نهائية عنيفة، وكذلك أعضاء متطرفون في

ميليشيات يخشون أن تقوم الأمم المتحدة باجتياح الولايات المتحدة وإقامة نظام عالمي جديد (¬1). هذا تقرير لمكتب التحقيق الفدرالي أعد منذ سنوات، ربما يفيد في تحديد المسئول عن التفجيرات، ولكن يبدو أن الإدارات الأمريكية السابقة والحالية، لا تروق لها هذه الأدلة، ولهذا لم تفتش عن السبب الحقيقي، بل لجأت إلى عدو وهمي وجاهز لإلصاق التهمه به، وهو العرب والمسلمين، من أجل إشعال هرجيدون وتحقيق النبوءات التوراتية. وفي نفس الاطار يورد (بول فندلي) في كتابه (لا سكوت بعد اليوم) حادث مشابهه حيث يقول: "في الأيام الأخيرة من سنة 1999م، استعد العديد من الأمريكيين لمواجهة مزيد من العنف. كانت مجزرة اوكلاهوما سيتى حية في ذاكرتهم، حين جاءت بلاغات إدارة كلينتون التحذيرية، حول هجوم محتمل، قد يشنه إرهابي مسلم في يوم رأس السنة الجديدة، أو لاحقاً. وتعمقت المخاوف حين حاول جزائري مسلم، يسعى للدخول إلى الولايات المتحدة، تهريب ما وصف بأنه تجهيزات لصنع متفجرات، عبر نقطة جمارك، بالقرب من (سياتل) على الحدود مع كندا. واحتل نبأ اعتقاله صدارة عناوين الأخبار، لعدة أيام، في كافة وسائل الإعلام الأمريكية المرئية والمقروءة. وازداد قلق الأمريكيين، أكثر فأكثر، عندما اعتقل مسلمان آخران في مدينة نيويورك سيتى، وجرى استجوابهما بحثاً عن أي علاقة محتملة تربطهما بالمعتقل في سياتل أو بان لادن. وعلى الرغم من عدم مقاضاة هذين الشخصين، إلا أن الأنباء عن اعتقالهما التي أرفقت بصور ابن لادن الخطير، عززت خوف الأمة جمعاء من إرهاب يفد عليها من الخارج" (¬2). من خلال مقارنه هذا الكلام بالتقرير الذي نشرته F.P.I، وقامت بتوزيعه على مراكز الشرطة والصحف، فإننا نلاحظ أن تقرير F.P.I لم يحظَ بالتغطية الإعلامية المناسبة، بل حصل العكس، حيث تم إسقاط التهمه على عدو جاهز خارج أمريكا يتمثل بالمسلمين، وتم تلفيق تهمه مزيفه لأشخاص عاديين، جريمتهم ¬

(¬1) سنعرض لافكار مثل هذه الجماعات عند حدثنا عن الارهاب الأمريكي الداخلي (¬2) لا سكوت بعد اليوم - بول فندلى - ص102

الوحيدة أنهم مسلمون، ليكونوا جاهزين ككبش فداء لما كان متوقعاً أن تقوم به الجماعات الأصولية الأمريكية المتطرفة. وبهذا ضربت الإدارة الأمريكية عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية تصدر مشاكلها إلى الخارج، حتى لا تضطر إلى مواجهة الجماعات الأصولية الأمريكية المتطرفة، مما سيؤدى إلى حالة اضطراب وفوضى داخل أمريكيا، ومن ناحية أخرى يتيح لها اتهام العرب والمسلمين تحقيق مخططها الصليبي في المنطقة. "فالفاعل في احداث 11 سبتمبر -كما يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل- كانت تحركه دوافع نفسية مختلفة بالكامل عن التصور العربي للحركة المطلوبة إزاء الولايات المتحدة. بمعنى أن مطلب العرب من أمريكا أن تضغط على إسرائيل، وهذا الضغط في حد ذاته ـ لابد أن يكون بعيار ومقدار، بان مرات متعددة في عمليات سابقة سببت أضراراً جسيمة، ومع ذلك تركت قنوات مفتوحة! لكن الفاعل صباح الثلاثاء 11 سبتمبر لم يظهر راغباً في التأثير أو مباشرة الضغط بمختلف درجاته، بل لم يكن في شكل فعله انه يبعث بإشارة ـ حتى لو كانت دموية ـ إلى المستقبل، ولم يترك ثغرة لفرصة. وإنما كان الفاعل كما تقول كافة الإشارات غاضباً، وكان مصراً على الانتقام، وفي الغالب من شيء وقع (¬1). ولهذا فقد رجّح الدكتور (عصام العريان) أحد قيادات الإخوان المسلمين بمصر، أن يكون منفذ سلسلة الهجمات التي طالت مؤسسات صنع القرار الأمريكي في نيويورك جماعات من داخل الولايات المتحدة لا من خارجها. وقال العريان: إن هناك غضباً من المواطنين الأمريكيين تجاه عدم العدالة التي يعانون منها، وهو ما اعترف به من قبل "ماكفاي" مفجّر أوكلاهوما عام 1993م، حيث ذكر أنه نفّذ الحادث (لأن أمريكا دولة ظالمة) من وجهة نظره، و (لا تقيم العدل بين مواطنيها). وأشار القيادي الإسلامي إلى أن السياسة غير الرشيدة لإدارة بوش ومن سبقه قد تكون دفعت إحدى التنظيمات السرية إلى القيام بمثل هذه العمليات التي لم يسبق لها مثيل في العالم (¬2). يضاف إلى كثير من العمليات ¬

(¬1) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص135 (¬2) "إسلام أون لاين. نت" الثلاثاء 11ـ 9ـ2001م

حوادث لها دلالات

الإرهابية التي حدتث في أمريكيا، ولم تولها وسائل الإعلام أي اهتمام، والتي سنعرض لبعضها .. حوادث لها دلالات في ظل سيطرت لاهوت هرمجيدون على صلب اهتمامات المتهودين البروتستانت ـ وعلى رأسهم كثير من صناع القرار الأمريكي ـ وفي ظل الانتشار الكبير للجماعات الأصولية المسيحية المتطرفة، يجب أن نتوقع تصعيد كبير في حملة أمريكيا الصليبية على العالم الإسلامي عن طريق افتعال واختلاق المبررات لإشعال الحرب في المنطقة. فبالرغم من أنه قد ثبت، وباعتراف الإدارة الأمريكية أن المسئول عن نشر بكتيريا الجمرة الخبيثة، هم جماعات يمينية أمريكية متطرفة، إلا أننا لاحظنا محاولات أمريكية لإلصاق هذه التهمة بالمسلمين كما فعلت في تفجيرات نيويورك. فقد نشرت جريدة الملتقى الدولي في عددها 425 الصادر يوم الخميس 25/ 10/2001م تقريراً قالت فيه: اكتشفت الولايات المتحدة الأمريكية، أن منفذي العمليات الحقيقية في نيويورك وواشنطن ليست جماعة تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن، وتوصلت أجهزة التحقيقات في المباحث الفيدرالية الأمريكية وجهاز الاستخبارات الأمريكية والمدعي العام التابع لوزارة العدل الأمريكية أن الجناة الحقيقيين لا علاقة لهم بتنظيم أسامة بن لادن، وأن جماعة أمريكية متطرفة هي صاحبة تدبير مؤامرة مركز التجارة العالمي .. وأن الذين نفذوا العملية عناصر من أحد جماعة تدعى U.P.A، وهي جماعة مسيحية بالغة التطرف تسعى للانقلاب على النظام العالمي الجديد، وتدعو إلى تدمير صور الحضارة العالمية بكل صورها .. وتعتقد تلك الجماعة أن الولايات المتحدة الأمريكية بتقدمها التكنولوجي تمضي على عكس ما تنص عليه المعتقدات الدينية لهذه الجماعة، ومن هنا وجب الانقلاب على الولايات المتحدة وتدمير قوتها وعظمتها الاقتصادية والعسكرية. وقد ألقت السلطات الأمريكية القبض على شابين أمريكيين بعد محاولة اختطاف طائرات مدنية، وتنفيذ عمليات إرهابية وقد منعت كل أخبار هذين الشابين الأمريكيين. لكن المقربين من

التحقيقات كشفوا أن هذين المواطنين الأمريكيين اعترفا أمام رجال المباحث الأمريكية أنهم وجماعتهم وراء هذه الإنفجارات، لأنهم يعتقدون أن نزول المسيح لن يكون إلا بعد أن تدمر الحضارة المدنية بدءاً من أمريكا (¬1). كما أنه بعد تفجيرات نيويورك حدثت العديد من محاولات اختطاف الطائرات والعمليات الإرهابية، التي قام بها أمريكيون من أتباع التيار اليميني المتطرف، حيث حاولت الإدارة الأمريكية التكتم على التحقيقات بشأنها أو الإيحاء بأنهم من أصول عربية، ولكن بسبب كثره هذه العمليات ووجود دلائل دامغة على منفذيها الحقيقيين لم تستطع اتهام العرب والمسلمين بها، نذكر منها: 1. بكتيريا الجمرة الخبيثة: حاولت الإدارة الأمريكية توجيه التهمه في البداية إلى تنظيم القاعدة والعراق، بسبب رغبتها في توسيع دائرة الحرب، ولكن بسبب اتضاح هوية الذين يقفون وراءها للجميع أضرت إلى الاعتراف بمسئولية الجماعات اليمينية المتطرفة عنها، وطي ملف هذا القضية الخطيرة، بدون اعتقالات أو ملاحقات أو حملات عسكرية!!؟. 2. في 9/ 1/ 2002م قالت الشرطة في إحدى مقاطعات ولاية كاليفورنيا: إن موظفاً سابقاً في محطة للطاقة النووية اعتقل بعد تهديده بتنفيذ عمليات إرهابية بالمحطة. كما أعلنت الشرطة اكتشاف عشرات من قطع الأسلحة في مخزن سري بمنزل المتهم، وتم احتجاز الرجل الذي لم يكشف النقاب عن اسمه في سجن في سانتا آنا, للتحقيق معه بتهمة التهديد الإرهابي. وكان المتهم (43 عاماً)، تعرض للطرد من عمله في محطة لتوليد الطاقة النووية تقع في شمال مقاطعة سان دييغو. وقالت أنباء إنه أعلن تهديدات ضد المحطة وضد أحد زملائه في العمل. ووجدت في بيت الرجل 150 قطعة سلاح إضافة إلى آلاف من الطلقات الحية. كما تم العثور على مواد كيماوية مختلفة تم إرسالها للفحص، وقال أحد المسئولين: "إننا نأخذ على محمل الجد أي تهديد خصوصاً من أولئك الذين كانوا يعملون سابقاً في منشأة نووية, كما أن وجود هذا الكم من السلاح في مخزن سري يجعلنا نعتقد أنه قادر على تنفيذ تهديده". وكان أحد أصدقاء المتهم قد أبلغ السلطات بفحوى التهديدات، التي ¬

(¬1) جريدة الملتقى الدولي -عدد 425 - الخميس 25/ 10/2001م

صدرت عنه بحق العاملين في المحطة النووية. غير أنه لم يتم الكشف عن فحوى تلك التهديدات (¬1). 3. وقعت في تلك الفترة العديد من حوادث اختطاف وتفجير الطائرات، والتي قام بها أمريكيون منها: - تحطم طائرة أمريكان ايرلاين بتاريخ 13 نوفمبر2001م بعيد إقلاعها من مطار نيويورك بدقائق، حيث أدى الحادث إلى مقتل 260 شخصاً كانوا على متنها إضافة إلى عدد من الأشخاص في المنطقة التي تحطمت الطائرة فوقها، ولم تعرف الأسباب الحقيقية لذلك وطوى ملف القضية. - قام شخص بريطاني يدعى (ريتشارد ريد) بمحاولة إشعال مواد متفجرة كان يخفيها في حذائه داخل طائرة أمريكان ايرلاين، التي كانت متجهة من باريس إلى ميامى، حيث زعم في البداية أن المتهم ذو ملامح عربية، ولكن بعد التحقيقات الدقيقة اتضحت هوية هذا الشخص، فطوي ملف القضية ولم يعد يسمع عنها أحد!!؟ - بتاريخ 5/ 1/2002 م قام صبى أمريكي يدعى (تشارلز بيوش) (15عاماً) بالتوجه إلى مطار سانت بيترسبورج الدولي، لتلقى دروس الطيران، وبعد ذلك قام بالإقلاع بطائره صغيره ذات محرك واحد، بدون مدربه، ودون إذن من المطار، وقام بالتحليق فوق منطقة ممنوعة هي القيادة المركزية، التي تدار منها الحرب في أفغانستان، حيث لاحقته طائرات أمريكية مقاتلة، وطالبته بالهبوط ولكنه تجاهل ذلك، واصطدم بمبنى بنك اوف أمريكا المؤلف من 42 طابقاً وسط مدينة ميامى، حيث أسفر الحادث عن مقتل الصبي وأحداث أضرار بسيطة في المبنى. وحينها ادعت الشرطة الأمريكية أنها عثرت على رسالة في جيب الصبي تشير إلى تعاطفه مع أسامه بن لادن؟!! وهو الأمر الذي شكك في صدقه كثير من المراقبين الذين قالوا: إن الإعلان عن وجود رسالة في جيب الصبي يأتي في إطار المحاولات ¬

(¬1) موقع إسلام اون لاين

إنتحاريون من أجل هرمجيدون

الأمريكية لإلصاق أي تهمة بالعرب والمسلمين. والغريب في الأمر إن الشرطة الأمريكية رفضت اعتبار ما حدث على أنه عمل إرهابي (¬1). - أجلت سلطات مطار سان فرانسيسكو الدولي بولاية كاليفورنيا الأميركية صباح يوم 30/ 1/2002م آلاف المسافرين من المطار، وأغلقت أحد مبانيه لنحو ساعتين ونصف بعد العثور على آثار متفجرات في حذاء مسافر أبيض في الأربعين من عمره، تمكن من الاختفاء بين حشود المسافرين قبل أن يتم استجوابه. وقد شن عناصر أجهزة الأمن في المطار عملية بحث عن المشتبه به - الذي لم يعثر عليه ـ بعد أن أمرت هيئة الطيران المدني الفدرالية في الولايات المتحدة بإغلاق بوابات الصعود إلى الطائرات، كما أمرت بإعادة الركاب الذين كانوا على متن الطائرات، وأخضعوهم لعملية تفتيش جديدة. كما أنه تم تعليق الرحلات من 30 بوابة في المبنى الثالث من المطار، وتأجيل 80 رحلة داخلية لشركة طيران يونايتد إيرلاينز (¬2). - حاول شخص أمريكي يدعى (ادوارد كوبيرن) قيل: إنه مختل عقلياً، اقتحام قمرة لطائرة بوينج تابعة لشركة أمريكان ايرلاينز، كانت متجهة من لوس انجلوس إلى شيكاغو، وتحمل على متنها 153 راكباً. وقد تمكن الركاب من السيطرة على الرجل الذي كان بصحبة والده (¬3). إنتحاريون من أجل هرمجيدون تنتشر في أمريكيا العديد من الجماعات اليمينية المتطرفة، التي تعتقد بهرمجيدون، حيث أقدم العديد من أتباع هذه الجماعات على الانتحار اعتقاداً منهم بأن نهاية العالم اقتربت، وان عليهم أن يسبقوا الجميع ليكونوا من الناجين من المحرقة الكبرى. وقد لعبت أفكار المفكر الديني المتطرف (سيروس سكوفيلد) دوراً رئيساً لانتشار هذه المفاهيم، حيث كان يقول: "إن المسيحيين المخلصين يجب أن ¬

(¬1) موقع إسلام اون لاين (¬2) موقع إسلام اون لاين (¬3) موقع إسلام اون لاين

يرحبوا بهذه الحادثة لأنه بمجرد ما تبدأ المعركة النهائية فإن المسيح سوف يرفعهم إلى السحاب وأنهم ينقذون، وأنهم لن يواجهوا شيئاً من المعاناة التي تجرى تحتهم" (¬1). هذا المفهوم هو الذي شجع كثير من الجماعات المتطرفة على الانتحار الجماعي، لتنجوا من المحرقة الكبرى أو للتعجيل بحدوثها. يقول الباحث المؤرخ (ديف ماك بيرسون): إن خطر عقيدة هرمجيدون يكمن في أنها عقيدة قاتلة ومعدية. مثال على ذلك، استطاع هيبربرت ارمسترونج في نهاية الستينات، وفي بداية السبعينات، أن يقنع الآلاف من أتباعه بتسليم ممتلكاتهم إلى كنيسته (كنيسة الله العالمية)، وذلك على أساس الاعتقاد بأن العالم يتجه نحو النهاية. ويقول (تيد دانيال) رئيس تحرير نشرة (تقرير نبوءات الألفية) في فيلادلفيا: "إن الناس الذين يعتقدون بنهاية العالم قريباً، يقومون بأعمال غريبة" فحتى 1999م سجل دانيال أكثر من 1200 حركة من هذا النوع من بين هذه الحركات الدينية في الولايات المتحدة وفي غيرها: - حركة (هاى أوجو) وهى حركة ما ورائية توقعت أن يشهد عام 1992م نهاية الطريق السوي إلى الجنة، وبداية مرحلة جديدة لبقية العالم مبنية على النبوءة (في العهد القديم). - الانتحار الجماعي لطائفة هيكل الشعب التي يتزعمها القسيس جيم جونز الذى قاد تسعمائة شخص من أتباعه إلى عملية انتحار جماعي طوعية (¬2)، حيث قال لهم حين كان يقودهم إلى الموت: إن النهاية ستصل بسرعة، لذلك دعونا نرافقها. دعونا نستبق الحشود. - تنظيم مذبح الشمس، وهي جماعة ألفية (تؤمن بعودة المسيح وبسيادته لمدة ألف سنة على العالم) وقد نظمت هذه الحركة في عام 1994م عملية قتل، وانتحار جماعي، في كل من سويسرا وكندا، قتل من جرائها خمسون شخصاً، كان بعضهم يزين صدره بميداليات ترمز إلى الخيالة الأربعة، التي تشير إليهم نبوءة سفر ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 71 (¬2) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص 270

الرؤيا، وهم يمثلون بصورة عامة المسيح والحرب والجماعة والموت. - الداودية نسبة إلى رئيسها (دافيد كورش) وهي حركة كان أفرادها يعيشون خارج مدينة واكو - تكساس، وفي أبريل 1993م اقتحمت العناصر الفدرالية مجمعهم فأقدموا على الانتحار، فكانت الحصيلة مقتل 80 عضوا من هذه الحركة. - جماعة بوابة السماء انتحر 39 عضواً من أعضاء هذه الحركة في عام 1997م في ضاحية مدينة سانتا جو، وتركوا وراءهم وثائق تقول: إن العالم كان شريراً وأنه محكوم عليه بالدمار الحتمي. - صوت في البراري، وهي حركة ألفية في ميلفورد (نيوهامشير)، تدعو أتباعها إلى عدم زرع الأشجار، أو التخطيط للمستقبل، وذلك على أساس إن العالم لن يبقى بما فيه الكفاية، حتى يكون لمثل هذه الأعمال ما يبررها. - مدينة الوهيم وهي مدينة أشبه بالحصن تقع بالقرب من مدينة ليتل روك (اركنساس)، حيث يعمل ويصلي ويقوم بأعمال ميليشياوية حوالي مائة من السكان المدججين بالسلاح، وذلك بانتظار وقوع عدد من الكوارث التي يعتقدون بأنها سوف تضع نهاية للتاريخ الإنساني. وكان (تيموني ماك فاي) الذي أدين بحادث التفجير في مدينة أوكلاهوما، قد اتصل هاتفيا بأصدقاء له في مدينة الوهيم في عام 1995م قبل تفجير المبنى الاتحادي في أوكلاهوما (¬1). - في مطلع 1999م اعتقلت الشرطة الإسرائيلية مجموعة من القدريين الأمريكيين، الذين قدموا من دنفر بكولورادو، والذين يطلقون على أنفسهم المسيحيين المهتمين. وبعد أن وضعت الأغلال في أيديهم، وسجنتهم كمجرمين عاديين أبعدتهم إلى الولايات المتحدة، بتهمة التخطيط للقيام بنهاية دموية بهدف تسريع العودة الثانية للمسيح. وقيل إنهم خططوا لتدمير المسجد الأقصى (¬2). ¬

(¬1) يد الله - غريس هالسل ص19 (¬2) المصدر السابق ص64

تيموثي ماكفي / اليمين المسيحي المتطرف

هذه أمثله بسيطة لبعض الجماعات الأمريكية ولطبيعة النبوءات المسيطرة على تفكير أتباعها ممن ينتمون للتيار الأصولي المسيحي المتطرف، الذي أصبح اكبر قوة مؤثرة في صناعة السياسة الأمريكية، من خلال تأثيره على كثير من صناع القرار في أمريكيا، وعلى جزء كبير من الشعب الأمريكي، والتي يمكن أن تساعدنا في تحديد المسئول عن أحداث 11 سبتمبر. تيموثي ماكفي / اليمين المسيحي المتطرف استدعت وكالات الأنباء ما صرح به (تيموثي ماكفي) منفذ انفجار أوكلاهوما، الذي قال قبل إعدامه: إنه يوجد في الجيش الأمريكي أكثر من عشرة آلاف يحملون نفس الفكر الذي نفذ بموجبه عمليته. وقد ذهبت تحليلات أخرى منذ البداية إلى أن ما حدث شبيه بما حدث في انفجار أوكلاهوما عام 1996م، وأن الإنفجارات يمكن أن تكون من داخل أمريكا، بل أن صحيفة (برلينر تسايتوبج) كتبت تقريراً أكد أن الإشارات تدل علي أن مدبر الهجوم من أتباع الجماعات والميليشيات العسكرية الأمريكية التي تنتمي لليمين المتطرف والتي تشعر بفخر وطني شاذ أو أن لديها تفويضاً إلهياً، وأشارت إلى أن (تيموثي ماكفاي) كان عضواً في أحد هذه الجماعات، بل أشارت أيضاً إلى جماعات أخرى مثل (كوكلوكوس كلان) و (أمة آريان) و (حليقي الرؤوس) و (النازيون الجدد)، و (المراقب الوطني)، المعروفة بثقافة العنف والعنصرية والانتحار. كما أجرت صحيفة (ديرتاجيس شبيجل) حوارا مع (توماس جدومكه) الخبير في شئون اليمين الأمريكي، الذي أكد أن لديه معلومات بأن سلطات الأمن الأمريكية تقوى تحرياتها في اتجاه مسئولية اليمين المتطرف المعروف بالتعصب، وبالأيدلوجية المتطرفة اللازمة للقيام بمثل هذا الهجوم، ولديهم أيضا الإمكانيات الاستراتيجية الهائلة. مضيفاً أن الدقة غير العادية التي تم بها الهجوم تتجاوز قدرة المنظمات الإرهابية العادية، كما أنها تشير إلى استحالة إتمام هذه العمليات بدون مساعدة عديد من الأمريكيين، الذين يشغلون مناصب حساسة في الأجهزة الأمنية بصورة كاملة، وليس فقط عن طريق الدعم اللوجيستى الهائل، الذي يمكن من خطف

والآن كيف تمت الجريمة؟

طائرات في وقت واحد، بل أيضاً الهروب من أجهزة الرادار، وهذا أمر غير ممكن بدون خبرة تكنولوجية عالية من داخل المؤسسات الأمريكية نفسها، مضيفاً أنه لا يمكن المرور هكذا وبسهولة فوق البنتاجون بدون أن يشعر بك أحد!! ويضيف (جرومكه) أن اليمين المتطرف متغلغل في الجيش بصورة كبيرة، ويحصلون علي تعاطف غير محدود مما يمكنهم من الحصول علي دعم لوجيستي كبير، كما يستبعد وجود تعاون بين هذه المنظمات ومنظمات شرق أوسطية، مؤكدا أن منظمة مثل (عنصر الآريان الأبيض) والمعروفة اختصارا باسم WAR ( أي الحرب) تعادى السامية بشدة. ويضيف أن (اليكس كورتس) مؤسس جماعة (المراقب الوطني) كان قد عرض على الإنترنت أدلة تشير إلي قدرته علي إنتاج أسلحة بيولوجية، بينما تم القبض منذ عامين علي أحد أعضاء منظمة (أمة آريان) وهو ينقل فيروسات (الجمرة الخبيثة) في سيارته (¬1). والآن كيف تمت الجريمة؟ لما كانت الضحية موجودة .. فلم يعد سواها: العالم الإسلامي .. وكانت الخطة موضوعة تنتظر الذريعة لتنفيذها .. ذريعة يرجح الغربيون أنفسهم أنها مصنوعة .. فالمكاسب الناجمة عنها هائلة .. يضيق هذا الكتاب عن حصرها، فمن التواجد في مركز يتيح لها تهديد الصين وروسيا وباكستان والهند وإيران والعالم العربي، إلي اكتمال السيطرة على بترول العالم وخطوط مواصلاته، إلى إحكام الحصار النهائي حول العالم الإسلامي كله في آخر حرب صليبية، تمهيداً لإقامة إسرائيل الكبرى وهدم الأقصى، وبناء الهيكل كمقدمه لعودة المسيح المنتظر، ليحكم العالم من مقره في القدس. ولتحقيق كل هذه المكاسب، قامت جماعة مسيحية أو يهودية متطرفة، أو حتى صناع القرار من اليمين المتطرف بتنفيذ الجريمة باعتبارها شيئًا مقدساً، وقدمت الأدلة العديدة لإلصاق التهمة بالمسلمين. ففي ذلك اليوم قامت بخطف عدد من الأشخاص العرب ـ ومن بينهم طيارون أو دارسو طيران ـ ثم قتلتهم، وأَخفتْ جثثهم، ¬

(¬1) المصدر: شبكة المعلومات العربية محيط - تقرير وليد الشيخ

وقامت بعد ذلك بحجز أماكن على الطائرات بالأسماء العربية للضحايا، ثم صعد المجرمون إلى الطائرات، أو تم التحكم بها آلياً من الأرض، وقاموا بفعلتهم النكراء، وتم توجيه التهمه للمسلمين وتنظيم القاعدة بالذات، بعد أن تم دس عدد من العملاء الأمريكيين داخل هذا التنظيم (¬1)، والذين اقنعوا ابن لادن بأنهم يقفون وراء تنفيذ التفجيرات، فوقع ابن لادن في الفخ، وأعلن مسؤولية تنظيمه عن التفجيرات، وهكذا تمت الجريمة وتحققت أهدافهم، كما تولّت باقي الجماعة مهمة إشعال نيران الغضب والإثارة والتهييج ضد العرب والمسلمين بمختلف الوسائل، ومن بينها إرسال آلاف التهديدات الكاذبة، كما قامت أجهزة الإعلام بدور خطير لاستفزاز المشاعر، وشحنها ضد المسلمين في كل مكان. ولكن ربما يستبعد البعض مثل هذا السيناريو (¬2)، ولكن ما عرضناه في هذا الكتاب وما سنعرضه لاحقاً على حقائق الإرهاب والعربدة الأمريكية حول العالم منذ ¬

(¬1) في مقال منشور على الانترنت بعنوان "الضربة الرهيبة .. ويليامز وإخوانه يتحركون ضد أمريكا بأوامر بن لادن" كشف احد أتباع تنظيم القاعدة، عن رسالة تلقاها أسامة بن لادن عن طريق الحمام الزاجل من رجل يدعى "ويليامز" بشأن هجوم جديد يستهدف أمريكا حيث يقول: الشيخ أسامة بن لادن ... خيمة صغيرة على إحدى الجبال الباكستانية , بداخلها سلاح عادى وآر بى جى , ومستلزمات حياتية بسيطة, وكتب فقهية وعقائدية, وراديوا صغير .. فجأة .. تصل رسالة مربوطة في رجل حمامة زاجلة, يقدم لها الشيخ بعض الحبوب, ويفتح الرسالة ... يتهلل وجه الشيخ ويعيد القراءة, ثم يسجد, ويبكى ويبكي وهو يقول: [يا رب أسألك نصرك الذي وعدت, فأنا عبد فقير لا أملك إلا قلب يحبك]. ويتابع الكاتب قوله: أتريد أن تعرف الرسالة أخي القاريء .. [وصلنا عبر إخواننا على الشبكة بأن الترتيبات شارفت على الانتهاء وهذه اللحظة هي اللحظة الوحيدة التي يمكن أن نتوقف فيها إذا ما قبلت الإدارة الأمريكية هدنة من طرفكم, لأن الدمار سيكون شاملا] سيكون شاملاَ ... سيكون شاملا ... لماذا دائما يبر الله قَسَمَ بن لادن؟؟ أتظنون أنها أضغاث أحلام .. بكل ثقة في الله , أقول لا .... إنها الحقيقة. أما من هو ويليامز فحسب صاحب المقال فإن ويليامز يعنى في قاموسنا: الغربي المسلم, المجند في القاعدة, الذي لم يلتق يوما أسامة بن لادن, ولا أيمن الظواهري, ولم يذهب يوما إلى أفغانستان أو حتى الشيشان ... تجنيده من الدرجة الثالثة, أي أنه جندي من أفكار القاعدة لا من معسكراتها التدريبية .. وليامز له قدرات في كل المجالات, ويقدم للمسلمين كثير من الخدمات، لكنه عمّا قريب, سيقدم أكبر خدمة للبشرية المضطهدة من قبل دولة الغرور والكبرياء أمريكا ... ". واعتقد أن الكلام السابق يكشف صدق تحليلنا من أن القاعدة مخترقه من عملاء المخابرات الأمريكية الذين يخططون وينفذون وينسوب هذه الأعمال للقاعدة، وما على بن لادن والظواهري إلا إلقاء البيانات والخطب من جبال أفغانستان والتي تصلهم مكتوبة وجاهزة بالحمام الزاجل؟!!. (¬2) هناك مقال منشور على الانترنت بعنوان "كيف قام المتآمرون بعملية الحادي عشر من سبتمبر؟ " يضع سيناريو مشابه لهذا السيناريو حيث جاء فيه: لقد تم توجيه الطائرات الأربع بأجهزة تحكم دون أدنى شك، لكن المشكلة هي كيف تتم العملية وإظهارها في الوقت ذاته بفعل فاعل؟. بمعنى آخر كيف تشير أصابع الاتهام إلي العرب والمسلمين دون غيرهم؟. الأمر في غاية البساطة، فجهاز المخابرات المركزية الأمريكية قام بالتعاون مع العديد من الجماعات الإسلامية المتطرفة أثناء الوجود السوفييتي في أفغانستان، بل إن بعضهم هو صناعة أمريكية بحتة، بعد الانتهاء من الاتحاد السوفييتي، لم يكن صعبا على أجهزة المخابرات نفسها بأساليبهم المختلفة إقناع هذه الجماعات أن عدو الله الجديد الآن هو الولايات المتحدة الأمريكية، أصبحت الشعارات المعلنة هي العداء لأمريكا، وصار في داخل هذه الجماعات رجال مستعدون للتضحية بحياتهم في سبيل الله، وهم معروفون بالاسم للأمريكان، تلك الأسماء التي كتبت في التقارير ونتائج التحريات والتحقيقات، هذه المعرفة التي سهلت تلفيق الأدلة المزعومة، لم يكن هناك أية فائدة من الطلب من هؤلاء الرجال اختطاف طائرات وتفجيرها، فقط سجلت أسماؤهم في تقارير الطيارين المزعومة أيضا قبل إقلاع الطائرات، وتم توجيه الطائرات آلياً، ومن الطبيعي والبديهي أن توجد جثث لأشخاص عرب على الطائرات الأمريكية، تم إلصاق الأسماء المعدة سلفا إلى جثثهم. http://www.shamaleel.com/vb/archive/index.php/t-1321.html

تأسيس أمريكا وحتى الآن، لا يدع مجالاً للشك في صدق هذا التفسير (¬1)، يضاف إلى ذلك الكمَّ الهائل من الأفكار والتوجيهات والإيحاءات التي تنادي بالاستعداد لعودة المسيح، وانتصاره على الشر، وإقامته للسلام في العالم، بالإضافة ـ طبعاً ـ إلى إعادة بناء هيكل سليمان، فانه من الطبيعي أن يفرز ذلك الجو المشحون جماعات مسيحية أو يهودية متطرفة تشبعت بتلك الأفكار المشوَّهة، والتي يمكن أن تصل إلى درجة عالية من التطرف، فتعمل على تحقيق نبوءات (التوراة) بقيام الحرب العالمية الثالثة للقضاء على المسلمين، لقدوم المسيح الجديد. وخلاصة كل ذلك أن جماعة دينية متطرفة، وبالتعاون مع الإدارة الأمريكية الحالية الأكثر تطرفاً، قد نفذت هذه العملية، من أجل تحقيق هدف عزيز لديها، وهو إبادة المسلمين وقيام المسيح وبناء الهيكل، وكل هذه الغيبيات التي يمكن أن يضحي في سبيلها بالروح (بالانتحار). فالذين قاموا بالجريمة قادرون على الانتحار في سبيل تحقيق أهدافهم (¬2). إن ما حدث في 11 سبتمر كان عملية محبوكة ومنظمه يديرها رجال تسللوا إلى مقاعد صنع القرار وجواسيس وأموال وزعامات سياسيه ورؤوس تفكر وتخطط ¬

(¬1) قال ضابط سابق في وكالة الامن القومي الأمريكي ويدعى وين ماديسون، إن وكالة الاستخبارات الأمريكية دبرت عملية اغتيال قرنق ورئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري ومسؤول جهاز الأمن السابق في القوات اللبنانية ايلي حبيقة. (جريدة الخليج - عدد 9982 - بتاريخ 17 - 9 - 2006). http://www.aljazeera.net/News/Templates/Postings/DetailedPage.aspx?NRORIGINALURL=%2fNR%2fexeres%2f13EA1ECC-12C1-4A88-B159-661B97D3977F%2ehtm&FRAMELESS=false&NRNODEGUID=%7b13EA1ECC-12C1-4A88-B159-661B97D3977F%7d&NRCACHEHINT=Guest - # (¬2) التفجيرات الأمريكية: سيناريو مختلف .. لكنه ممكن جدًا - أ. د. أحمد حسن مأمون - اسلام أو لاين -2001/ 09/29 - http://www.islamonline.net/arabic/arts/2001/09/article17.shtml

وعصابات تقتل وإرهاب يفجر، ولكن الجرائم لم يحدث قط أن ولدت كاملة وكل جريمة لا بد أن ينقصها شيء، والمجرم مهما بلغ ذكاؤه لا بد أن ينسى شيئاً ... شيئاً صغيراً تافهاً ينهار بسببه البنيان كله في الوقت المعلوم. وهذه الجريمة الصهيونية المحبوكة التي اشترك فيها مئات العقول الذكية وقد امتلأت بالثغرات سوف تفتضح وتنهار رغم حبكتها. فكل بنيان يحمل معه جرثومة فنائه، وكل أكذوبة تحمل معها جرثومة فضيحتها (¬1). ¬

(¬1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود- ص26

الفصل السابع أسامة بن لادن .. وصناعة صورة العدو

الفصل السابع أسامة بن لادن .. وصناعة صورة العدو في روايته (في انتظار البراربرة) يتحدث الروائي الجنوب أفريقي (ج. م. كوتزي) (¬1) عن إمبراطورية لعلها جنوب أفريقيا، وتنطبق في أوصافها وظروفها ـ أيضاً ـ على الولايات المتحدة الأميركية، وغيرها من الدول التي يقسم سكانها بين مستوطنين (متحضرين) يملكون الحكم والسيطرة والسلاح والموارد والاستعلاء، وبين فئات من السكان الأصليين من البدو والفلاحين الفقراء البسطاء، الذين يعملون في الرعي والصيد والفلاحة. وتقوم في واحة على الحدود الممتدة أكثر من ألف ميل مدينة للمستوطنين هي آخر نقطة للدولة أو ما يسميها أهلها الحضارة لتبدأ بعدها صحارى وجبال يعيش فيها (البرابرة)، وهم السكان الأصليون من الصيادين، وبعض البدو الرعاة الذين يختلفون عن الصيادين والبرابرة، ولكنهم أيضا فئة ليست مرغوبة لدى الدولة (الحضارة). ويعيش أهل المدينة حياة هادئة وسعيدة، ويتبادلون مع السكان الأصليين المنتوجات والخدمات، فهم يبيعون في المدينة الجلود والفراء والثمار والحيوانات التي يصيدونها أو يربونها، ويشترون الملابس والأغذية والسكر والشاي وسائر احتياجاتهم في الريف والبادية والجبال. ومن يسمون البرابرة هم في الحقيقة قوم هادئون ومسالمون، بل ويتعرضون غالباً للنصب والاحتيال من بعض أهل المدينة، التي يمرون بها في المواسم فقط، ثم يقضوا بقية السنة بين البادية والجبال والسهول وضفاف الأنهار والبحيرات، متتبعين مواسم الرعي والصيد والطقس البارد والحار. ¬

(¬1) مؤلف الرواية ج. م. كوتزي من جنوب أفريقيا، حائز على جائزة نوبل للآداب، ويعمل مدرسا لعلوم اللغة والأدب في جامعة كيب تاون، وقد حاز على جائزة بوكرز مرتين، بالإضافة إلى جوائز رابطة كتاب الكومنولث للأدب المكتوب بالإنجليزية و CAN والجائزة الأدبية الأولى في جنوب أفريقيا.

القاضي والجنرال

وهذه الرواية تجعلك تتذكر فورا قصيدة (في انتظار البرابرة) للشاعر سي. بي. كفافي، والتي كتبها عام 1898م وتحمل نفس العنوان، ولكنك تستدعيها إن كنت قرأتها من قبل على نحو تلقائي (¬1). "يتجه سكان مدينة قديمة إلى بواباتها بقيادة إمبراطورهم، لانتظار وصول البرابرة الغزاة، ولكن البرابرة لم يظهروا، ماذا كان يمكن أن يحدث؟ وما الذي يمكن القيام به؟ لم كل هذا الذهول المفاجئ، وهذا الارتباك؟ كم أصبحت ملامح وجوه الناس حادة لماذا تخلو الشوارع والتقاطعات من المارة بسرعة وكل يذهب إلى بيته غارقاً في التفكير لأن الليل أرخى سدوله ولم يأت البرابرة وبعض رجالنا الذين وصلوا من الحدود قالوا لم يعد هناك برابرة بعد الآن والآن ماذا سيحدث لنا من دون برابرة كان أولئك الناس نوعا من الحل." وإذا لم يعد وجود للبرابرة في قصيدة الشاعر (كفافى)، إلا أنهم هنا في رواية (كوتزي) يتم خلقهم، حيث تتفتق عبقرية (المكتب الثالث) (المخابرات) والإمبراطورية عن خلق البرابرة، وليس انتظار مجيئهم تحت رحمة الصدف، فإذا كان البرابرة ضرورة فلابد من وجودهم أو إيجادهم (¬2). القاضي والجنرال تنسج الرواية على لسان قاض، لا يكشف المؤلف عن اسمه برغم أنه محور الأحداث، وتبدو كما لو أنه يتحدث لنا عن تجربته وفلسفته وأحداثه، ويدير القاضي ¬

(¬1) في انتظار البرابرة - تأليف ج. م. كوتزي -ترجم: ابتسام عبد الله عرض- المركز الثقافي العربي / الدار البيضاء- ط2 - 2004 - عرض إبراهيم غرايبة--الجزيرة نت ـ24/ 6/2004 م (¬2) في انتظار البرابرة -المؤلف: ج. م. كوتزي -ترجمة: ابتسام عبد الله عرض- المركز الثقافي العربي / الدار البيضاء- ط2 - 2004 - عرض إبراهيم غرايبة--الجزيرة نت ـ24/ 6/2004 م

شؤون المدينة التي يعمل فيها منذ أكثر من ثلاثين سنة، وينظم الحياة والإدارة في المدينة على نحو يضمن مصالح المستوطنين والأصليين من الصيادين والرعاة، ويسعى في خدمة المدينة وتطويرها وحمايتها، والعمل على الكشف عن آثارها، ودراسة تاريخها وتوثيقه، وهو عمل لا يبدو أنه يشغل أحدا في الإمبراطورية، وربما يشغل إدارتها على نحو يهدف إلى طمس التاريخ واحتقاره وتجاهله، وجعله يبدو قسراً، وقد ابتدأ بلحظة قدوم المستوطنين. وبعد عقود طويلة تأسست فيها المدينة وقامت بعيداً عن مركز الإمبراطورية يأتي إليها العميد (غول) من (المكتب الثالث)، وهي تسمية نفهم من قراءة الرواية أنها تطلق على وكالة المخابرات في الإمبراطورية، ويجتمع بالقاضي في فندق المدينة. وينشغل القاضي بضيافة الضابط، ويحدثه عن الصيد والزراعة في المدينة ومحيطها باعتبارهما الموضوع الرئيس الذي يشغل أهل المدينة والسكان، سواء للمعيشة أو الهواية أو التجارة. ولكن العميد غول يبدو مشغولاً وغير مهتم بحديث القاضي، وكأنه لا يستمع إليه، ويظهر احتقاراً مكتوماً للقاضي ومغلفاً بقدر واهٍ ومزيف من الاحترام والمجاملة. يخبر العميد غول القاضي بأنه يريد أن يذهب في حملة لملاحقة البرابرة في مناطقهم وتأديبهم، واعتقال المتمردين منهم الذين يسيئون إلى الإمبراطورية. وتعتقل قوة الطوارئ بقيادة غول رجلاً كهلاً وابنه الصبي من السكان الأصليين، ولكن لا يوجد سجن في المدينة، ولا يكاد توجد جرائم كبيرة، ويتعامل القاضي عادة مع الجنح والمخالفات بعقوبات من قبيل العمل التطوعي. ولكن غول يعتقد أن المعتقلين خطران وأنهما من المتآمرين على نظام الإمبراطورية، ويجب أن يعد لهما سجن وحراسة لئلا يهربا، فيوضعا في مستودع للحبوب تحرسه ثكنة عسكرية. يحاول القاضي أن يفهم المشكلة من الرجل المعتقل، ويفهمه أنه متهم بتنظيم غارات على أهالي المدينة وممتلكاتهم، ولكن الرجل يؤكد أنه لا يعلم شيئاً عن الغارة، وقد اعتقل في طريقه إلى المدينة لمعالجة ابنه الصبي المريض. يحاول القاضي أن يفهم المسألة في حديثه مع العميد غول، فالعجوز وابنه المريض لا يقدران على الغارة، ولا يصلحان في ظروفهما أن يكونا جزءاً من فريق أو عصابة للإغارة، ولا يبدو أن لشخصين بسيطين مثلهما فائدة في التحقيق أو جمع المعلومات. ولكن غول الصامت غالباً يقول: يجب أن أستجوبهما. ويتعرض العجوز في الليل

حروب البرابرة

لتعذيب وحشي حتى يموت تحته، ويقدم الحارس إفادة للقاضي -وفق تعليمات غول- بأنه هاجم المحقق وحاول قتله، هذا برغم أن يديه كانتا موثقتين، وهي الملاحظة التي نسي الحارس علاقتها بسؤال آخر عن كيفية مهاجمة عجوز مقيد لضابط شاب قوي ومدرب. حروب البرابرة بعد هذه الحادثة يقود العميد غول حملة عسكرية إلى مناطق (البرابرة) رافضاً نصائح القاضي بعدم ضرورة الحملة، فالسكان الأصليون ليسوا إرهابيين، ويمكن استيعابهم والسيطرة على المشاكل التي يسببونها بدون استعدائهم أو استفزازهم، كما أن المنطقة التي سيتوجه إليها الجنود منطقة مجهولة وصعبة، وبعضها لم يصلها أحد من المستوطنين من قبل. ولكن غول يصر على رأيه ويمضي بالحملة، ويعود بعد عدة أسابيع من الحملة وقد جلب عدداً كبيراً من السكان الأصليين. أعداداً كبيرة من الرجال والنساء والأطفال لا يعلمون شيئاً عن سبب مجيئهم، يحشرون في ساحات الثكنات، وتكون عمليات إيوائهم وحراستهم مرهقة جداً، وتؤدي عاداتهم في الطعام وقضاء الحاجة إلى فوضى عارمة في المدينة. ويقوم غول وأتباعه بعمليات تحقيق واسعة مصحوبة بتعذيب وحشي واغتصاب للنساء، ويموت الأطفال بسبب الإهمال، ويتحول السكان الأصليون إلى أعداء بالفعل، وهنا فقط يكتشف القاضي اللعبة! فما كان يجري لم يكن عملية متابعة لعنف وإرهاب، ولكنه صناعة واعية للأعداء والكراهية، وما كان يبدو من عمليات قتل للموظفين وسرقة واعتداء على الأملاك لم يكن على أيدي البرابرة، الذين لم يرهم أحد، ولكن على يد جماعات الجنرال غول. وتنتهي الحملة العسكرية ويعود الجنرال إلى العاصمة، ويبقى عدد كبير من البرابرة الذين أطلق سراحهم في المدينة، ويتحولون إلى مشردين ومتسولين، والمحظوظون منهم يعملون في الخدمة والدعارة. واحدة من الفتيات المتبقيات في المدينة تعرضت للاغتصاب وقتل والدها وعذبت تعذيباً شديداً جعلهاً غير قادرة على المشي إلا بصعوبة، يشغلها القاضي في خدمته ويمضي شهوراً عدة

في محاولة علاجها وإعادة تأهيلها، ولكنه يفشل فيقرر نقلها إلى أهلها. يحتاج تنفيذ القرار إلى مغامرة صعبة تتضمن المسير أياما طويلة في الثلوج والصحاري والجبال، وعندما يعود القاضي إلى المدينة يعتقل بتهمة الخيانة والتواطؤ مع الأعداء. ويجري تحقيق مع القاضي تستخدم فيه الأخشاب والأعمال الأثرية التي عثر عليها أثناء عمليات البحث والتنقيب وأدلة مادية على رسائل سرية متبادلة بين القاضي والبرابرة. ويتعرض القاضي لتعذيب علني مهين يؤدي به إلى الجنون، ويتحول إلى متسول يمضي أيامه في الطرقات يتسول الطعام، ويقدم خدمات بسيطة في المنازل مقابل إطعامه. ويعيد غول حملته في العام التالي، حيث هيمن الجنود على المدينة ونهبوا متاجرها، وأجبروا الأهالي على خدمتهم والترفيه عنهم. ولكن البرابرة كانوا هذه المرة مستعدين ولم يباغتوا كما حدث في العام الماضي، لقد استدرجوا الجنود بدون قتال إلى الصحاري وغابات القصب والجبال البعيدة وتركوهم أسرى الجوع والخوف والتيه، وتشتت الحملة ولم يعد معظم أفرادها. ويجعل فشل الحملة من تبقى من الجنود عرضة لغضب الأهالي، وبدون أن يقول لنا المؤلف، نشعر أن غول هو الآخر تحول إلى مجنون متشرد ومتسول (¬1). هكذا تقدم رواية (في انتظار البرابرة) تصويراً رائعاً ومدهشاً لحروب مفتعلة ووهمية تقوم بها الدول والإمبراطوريات والإدارات الحكومية لإظهار القوة وإرهاب الشعوب، وتعرض أفكاراً فلسفية عن الحياة وذهنية رجل المخابرات حامي الإمبراطورية، الذي يقوم بتدمير حياة هانئة وسعيدة باسم شعارات كبرى عن الوطن. فالامبراطورية تحتاج إلى الهياج والحرب لتبرز قوتها، وترهب شعبها قبل البرابرة باسم شعارات كبرى عن الوطن والاعداء. ففي رواية كوتز السابقة تتفتق عبقرية المكتب الثالث (المخابرات)، والإمبراطورية على خلق البرابرة، وليس انتظار مجيئهم تحت رحمة الصدف، فإذا كان البرابرة ضرورة فلابد من وجودهم أو إيجادهم، وهذا ربما يفسر كثيراً مما يسمى حرب الإرهاب، التي تخوضها واشنطن الآن؟ فالارهابيون ليسوا موجودين ولكن لابد من إيجادهم، ليكونوا مبرراً لعمليات ¬

(¬1) في انتظار البرابرة -المؤلف: ج. م. كوتزي -ترجمة: ابتسام عبد الله عرض- المركز الثقافي العربي / الدار البيضاء- ط2 - 2004 - عرض إبراهيم غرايبة--الجزيرة نت ـ24/ 6/2004 م

في انتظار القاعدة .. وابن لادن

التدخل والنهب؟ ألا يمكن إعادة صياغة الرواية بواقعية وبدون ملكات أدبية تحت عنوان (في انتظار القاعدة)؟. (¬1) في انتظار القاعدة .. وابن لادن بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي، لم يعد بمقدور رعاة البلبلة في واشنطن أن يصرخوا قائلين: أن الروس قادمون، وان طول الواحد منهم يبلغ عشرة أقدام! (كحجة للتدخل)، ولذلك فإنه يتعين عليهم على الدوام أن يجدوا عدوا جديداً. فأمريكا تعز أعدائها، وبدون أعداء تتحول لأمة بلا هدف أو اتجاه. فبدلاً من المؤامرة الشيوعية الدولية، تخبرنا واشنطن حالياً ـ في يوم أو آخرـ أنها تخوض حرباً ضد المخدرات أو التجسس العسكري أو الصناعي، أو انتشار أسلحة الدمار الشامل أو الجريمة المنظمة، أو نيابة عن حقوق الإنسان، أو بصفة اخص ضد الإرهاب (¬2). وقد بدأت أمريكا بخوض هذه الحروب، وبالذات الحرب ضد الإرهاب، حيث مهدت لذلك بتشويه صوره الإسلام وإبرازه وكأنه الخطر الرئيس الذي يهدد العالم الغربي، ولهذا بدأ منذ ذلك الحين العمل على اتخاذ الإسلام كعدو بديل كما وضحنا سابقاً، وأصبح إبراز رمز بانتماء إسلامي، ليكون في صدارة أهداف الحملات ضد (الإرهاب الدولي) هدفا ملحاً بحدّ ذاته، وكان هذا من قبل أن يضع تنظيم القاعدة بزعامة بن لادن نفسه في هذا الموضع، لا سيما بعد إخفاق محاولات أخرى تركَّزت على منظمة (حزب الله) في لبنان، حيث أخفقت تلك المحاولات، نتيجة سياسته التي جعلت منه مقاومة إسلامية معترفًا بها وطنياً وعربياً. كما جرت محاولات للتركيز على منظمتي (حماس) و (الجهاد الإسلامي) في فلسطين، لكن مؤتمر (شرم الشيخ) ـ الذي انعقد لهذا الغرض ـ أخفق إخفاقًا ذريعًا على مذابح جرائم العدوان الإسرائيلي المستمرة. لهذا تم اختيار تنظيم القاعدة وزعيمه بن لادن ليكون الرمز الجديد للإرهاب الإسلامي. ¬

(¬1) في انتظار البرابرة - ج. م. كوتزي - ترجمة ابتسام عبد الله - المركز الثقافي العربي (¬2) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد- ص 45

فكل الوقائع تشير إلى أن التركيز على ابن لادن وتنظيمه، وإعطاءه مركز (الصدارة) بدأ من قبل أن يظهر هو نفسه بقوة على سطح الأحداث. بل بدأت ملاحقته - كما كان بإخراجه من السودان إلى أفغانستان ـ من قبل أن يتجاوز حدود الإعلام والاستثمارات المالية في التعبير عن معاداته للوجود العسكري الأمريكي في الخليج، ولكنه كان يجمع سائر المواصفات الأخرى التي تصلح لجعله رمزًا دولياً بانتماء إسلامي للإرهاب (¬1). فأسامة بن لادن نفسه هو شخصية يمكن فهمها بدون حاجة إلى دراسة عميقة في علم النفس، تغوص في النوازع والهواجس الداخلية لتصرفات البشر. والقصة فيما هو شائع قصة شاب من عائلة سعودية لها جذور يمنية تعمل بالمقاولات، وكان له مكتب يمارس نشاطه التجاري في أفغانستان، وعندما بدأت الحرب الخفية ضد الإلحاد في أفغانستان استعمل مكتب بن لادن واجهة لتوصيل الأموال بشكل يبدو مشروعاً إلى أوجه نشاط لم تكن وقتها مشروعة (¬2). أي انه عمل تحت إمرة المخابرات السعودية والأمريكية لمقاومة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان. وهذه ليست المرة الأولى التي تستعمل فيها المخابرات الغربية والأمريكية الإسلام لتحقيق أهدافها .. فقد سبق أن جربته في مصر، عندما سعى (كيرميت روزفلت) مسئول الشرق الأوسط في المخابرات المركزية الأمريكية إلى تجميل صورة الملك فاروق، وحاول إقناعه بأن يكون أمير المؤمنين، وأن يتحالف مع الإخوان المسلمين لمنع الثورة الشيوعية في مصر. حيث يعترف كيرميت بأنه استوعب نظرية استعمال الإسلام استعمالاً سياسياً من نابليون بونابرت .. الذي حاول إقناع المصريين خلال حملته الشهيرة على مصر بأنه ولى من أولياء الله الصالحين .. وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ زاره في المنام، وباركه، وبشره بأنه سيصبح سلطاناً على الشرق. وراح نابليون يطوف بحلقات الذكر .. ويناقش مشايخ الأزهر في تفسير القرآن .. لكن الإسلام الذي استعمله هو نفسه الإسلام الذي أحرقه في ثورة القاهرة (¬3). ¬

(¬1) إسلام اونلاين (¬2) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص130 (¬3) صلاة الجواسيس - عادل حمودة ص13

قصة تنظيم القاعدة

قصة تنظيم القاعدة في كتابه (باسم أسامة بن لادن) يعرض الكاتب الفرنسي (رولان جاكار)، مدير المرصد الدولي للإرهاب (باريس) والخبير في الإرهاب لدى مجلس الأمن، للعلاقة بين عائلة ابن لادن الثرية، والعائلة الملكية في السعودية، حيث يناقش المؤلف ما يشاع عن مشاريع البناء الضخمة، التي تولت عائلة ابن لادن تنفيذها في السعودية ومنها عمارات قطنها فيما بعد أفراد القوات الأميركية المتمركزة في السعودية، كتلك التي استهدفها انفجار الخبر .. وبطريقة غير مباشرة يضع صلة بين المنشآت التي أنجزتها عائلة ابن لادن والانفجارات التي اتهم فيها أسامة ابن لادن، والتي استهدفت بعضا منها .. ثم يتحدث عن تنامي مؤسسات عائلة ابن لادن المالية والاقتصادية في أوروبا (¬1). أما عن الظروف التي تم بها إنشاء تنظيم القاعدة، والدور الأمريكي في ذلك، "فيكشف) بول. إل. ويليامس) في كتابه (القاعدة .. الإخوة الإرهابيون) عن اليد الأمريكية في تشكيل ما سمي حينها بـ (مكتب الخدمات) عام 1979م، وهو الجهة التي تطوّرت فيما بعد لتحمل اسم (القاعدة) عام 1988م (¬2). "ولكن مسار بن لادن الجهادي بدأ في العام 1980م، عندما كلفه (الأمير تركي الفيصل) (مدير المخابرات السعودية) بتنظيم مهمات (الأفغان العرب)، الذين كانوا يعبرون آنذاك عبر جدة إلى بيشاور (باكستان) للالتحاق بأفغانستان، حيث أصبح ابن لادن حجر الأساس في شبكة تجنيد وتدريب المجاهدين" (¬3). وفي عام 1984م انتقل ابن لادن إلى باكستان حيث بدأ تنظيم الجهاد في أفغانستان من خلال الاتصال بزعماء المجاهدين، حيث "كان تنظيم القاعدة هو القيادة التي وضعت تحت تصرفها كل إمكانيات التكنولوجيا الأمريكية، وكل مقدرة العسكرية الباكستانية، وكل كرم التبرعات الخليجية والسعودية -صندوق دوار فيه ¬

(¬1) باسم أسامة بن لادن: رولان جاكار - الناشر Paris, Jean Picollec éditeur - ط1 2001 - خدمة كامبردج بوك ريفيوز- الجزيرة نت (¬2) القاعدة .. الإخوة الإرهابيون -المؤلف: بول. إل. ويليامس - ط1 2002 - الناشر: ألفا بوكس، بيرسون أديوكيشينال - كامبردج بوك ريفيو- الجزيرة نت (¬3) باسم أسامة بن لادن: رولان جاكار - خدمة كامبردج بوك ريفيوز

دائماً (500 مليون دولار) - وكل نشاط التسليح والتجنيد المصري والسوري والمغربي وحتى الفلسطيني، بما وصل مجموعه الكلي على مساحة خمس سنوات إلى قرابة خمسين ألف شاب مسلم، نصفهم من العرب بينهم ستة آلاف مصري على أرجح التقديرات، وقد درب هؤلاء جميعاً بكل جد وشحنوا بطاقة إيمان مشبوبة بالنار" (¬1). وبحلول عام 1985م أدرك ابن لادن نطاق المقاومة وبعدها الدولي، فبدأ بالانفتاح على المنظمات الإسلامية المتشددة في العالم للحصول على دعمها، واتصل بأصوليين مصريين وجزائريين، وأنشأ تنظيمه الخاص (القاعدة) الذي تولى نشاطات عدة منها تجنيد المقاتلين وإيصالهم إلى أفغانستان، حيث استقر عندئذ نهائياً في شرقي أفغانستان، وأخذ على عاتقه الأعباء المالية لعمل مخيمات للمجاهدين، بعد الانسحاب السوفيتي (1989م)، مستخدماً ثروته الشخصية، والتبرعات القادمة من المملكة العربية السعودية، والأموال التي تدفعها حكومات دول في الشرق الأوسط، تضاف إلى ذلك الأموال القادمة من تجارة الهيروين الذي ينتج في أفغانستان، كما يزعم بعض الكتاب الغربيين (¬2). ولكن عندما انتهت الحرب الباردة، ورفعت الولايات المتحدة يدها عن الحرب الخفيفة في أفغانستان، وكفت المخابرات المركزية الأمريكية عن التخطيط للمعركة ضد الإلحاد الشيوعي، أصبح الاستمرار الأمريكي والعربي الرسمي غير مبرر، وغير مطلوب وبالتالي وقع الانسحاب (¬3). ففي عام 1990م، وبطلب من الأميركيين أوقفت السعودية دعمها للأفغان العرب واضعة بالتالي (نهاية لمهمة أسامة بن لادن الرسمية). وبعد عودة هذا الأخير إلى الرياض، حاول إقناع العائلة الملكية بضرورة مواصلة مساعدة المجاهدين في أفغانستان لكن بدون جدوى .. فشعر بالخيانة، وبدأ بعدها معارضته للسلطة والتحالف سراً مع معارضي العائلة الحاكمة في الخارج .. فكان أن انشق عن النظام وأخذ على عاتقه، دعم المجاهدين الأفغان رغم معارضة العائلة الملكية وواشنطن .. وزادت خلافاته مع العائلة الحاكمة إثر حرب الخليج، حيث ندد بوجود قوات غربية في الأراضي المقدسة، وغادر السعودية في 1991م واستقر ¬

(¬1) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص130 (¬2) القاعدة .. الإخوة الإرهابيون -المؤلف: بول. إل. ويليامس - كامبردج بوك ريفيو (¬3) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص130

ابن لادن في السودان

في السودان (¬1). وحاول تنظيم القاعدة أن يواصل ما يقضي به الإيمان، لكنه ما لبث أن تحول في نظر الذين قاموا على إنشائه، من كتائب جهاد إسلامي إلى عصابات إرهاب إجرامي (¬2). ابن لادن في السودان في السودان أحاط ابن لادن نفسه بأفغان عرب، وبدأ مجموعة من الاستثمارات الاقتصادية، التي اعتبرتها المخابرات الغربية وسيلة لدعم الإرهاب الأصولي في العالم، وعاش ابن لادن بوصفه رجل أعمال لمدة خمس سنوات في منفاه السوداني، حيث كانت علاقاته متينة مع حسن الترابي زعيم الجبهة القومية الإسلامية .. ومول المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي الذي جمع الحركات الإسلامية وبعض الحركات المعارضة بتنظيم من الترابي في الخرطوم .. كما حاول تطوير تنظيمه (القاعدة). ولكن نشاطاته سببت صعوبات للسودان، ودفعت بالأميركيين إلى الضغط على السعودية، لإصدار قرار توقيف بحقه فكان لهم ما أرادوا .. حيث اتهمته السعودية بدعم الإرهاب في الجزائر ومصر، وباتصالات مع معارضين دينيين حاولوا إنشاء منظمة مستقلة لحقوق الإنسان في المملكة في بداية 1996م .. وكانت السلطات السعودية قد جردته من جنسيته السعودية عام 1994م. الالتقاء مع جماعات إسلامية والكفاح ضد أميركا مع تزايد الضغوط السعودية والغربية على السودان، تخوف ابن لادن من احتمال تسليمه للسعودية، فغادر الخرطوم في مايو 1996م عائداً إلى أفغانستان .. وتزامن ذلك مع بروز حركة الطلبان ودخولها كابل في سبتمبر 1996م، حيث سهل ذلك استقرار ابن لادن في أفغانستان إذ أصبحت علاقته وطيدة مع الملا محمد عمر زعيم الطالبان. وفي منفاه الأفغاني، أعاد ابن لادن تنظيم شبكاته واتصالاته بقياديين إسلاميين، وباشر نشاطه السياسي بالاتصال والاجتماع إلى هؤلاء وفتح ¬

(¬1) باسم أسامة بن لادن: رولان جاكار - خدمة كامبردج بوك ريفيوز (¬2) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص130

طريد المخابرات العالمية

العديد من المخيمات التدريبية، كما واصل ووطد علاقاته بالجماعات الإسلامية في كثير من دول العالم، وهكذا أصبح ابن لادن على رأس شبكة إسلامية متعددة الحدود ومتفرعة وغير واضحة المعالم. ومن أفغانستان أعلن ابن لادن الكفاح ضد الوجود الأميركي في الأراضي المقدسة، وبدأت المعركة بينه وبين أميركا التي قصفت أحد مخيماته في أغسطس 1998م عقب تفجير سفارتيها في نيروبي ودار السلام .. ويعود إعلانه الجهاد ضد أميريكا إلى أغسطس عام 1996م، حيث شكلت تصريحاته فيما بعد سنداً للهجوم على المصالح الأميركية في السعودية، وفي كينيا وتنزانيا واليمن (¬1). طريد المخابرات العالمية منذ عام 1998م أصبح ابن لادن مركز اهتمام وكالات الاستخبارات الأميركية، حيث ظهرت (خلية أزمة) باسم ابن لادن تقتضي آثاره، وتتجسس عليه، وتحاول كشف معاقله ومخابئه وتطارد شبكاته المالية عالمياً، وهنا نتساءل، لماذا رفضت هذه الأجهزة التعاون مبكراً مع الدول العربية مثل الجزائر ومصر ضد بن لادن وأعوانه المزعومين؟، ولماذا رفضت الحكومات الغربية مطاردة الإسلاميين الجزائريين والمصريين من المتشددين، الذي يمولون ويدعمون الإرهاب في بلدانهم؟ لماذا انتظروا استهداف المصالح الأميركية ليتحركوا؟ (¬2). والإجابة على ذلك هو أن تنظيم القاعدة بعد أن انتهى دوره في الحرب على السوفييت، وجدت أمريكا أهمية استخدامه لتبرير حروبها المقبلة على العالم الإسلامي، من خلال تضخيم الخطورة التي يشكلها على أمريكا والعالم. فأمريكا أرادت أن تجعل من (القاعدة) قوة مستقرة وشريرة، لتبرر التدخل في أي مكان وفي أي وقت باسم الإرهاب (¬3). ¬

(¬1) باسم أسامة بن لادن: رولان جاكار - خدمة كامبردج بوك ريفيوز (¬2) باسم أسامة بن لادن: رولان جاكار - خدمة كامبردج بوك ريفيوز (¬3) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز

صناعة صورة العدو

صناعة صورة العدو بدأت الإدارة ووسائل الإعلام الأمريكية، تسلط الضوء على خطر ما أسموه (الإرهاب أو التطرف الإسلامي) على العالم وأمريكيا بالذات، من خلال نشر تقارير وأفلام وتحقيقات عن المنظمات الإسلامية المختلفة، وعلى رأسها تنظيم القاعدة، لصناعة صورة العدو، أو الوحش الذي يهدد الحضارة والإنسانية، حيث رسمت وسائل الإعلام صوره قاسية لتنظيم القاعدة، ولأسامة بن لادن المدجّج بأسلحة الدمار الشامل، والذي يقود مجموعة من القتلة الذي يستخدمون الأسلحة البيولوجية والكيميائية للقضاء على أعداد كبيرة من الأميركيين وسواهم. وقد عززت هذه الصورة وساهمت في تضخيمها بعض قيادات التنظيمات الإسلامية، من خلال بعض تصرفاتها وتصريحاتها، المسيئة والساذجة والغبية، والتي لا تمت بأيه صله للإسلام (¬1). ففي 21 نوفمبر 1994م أذاعت شبكة تلفزيون P.B.S الأمريكية برنامجاً عن الجهاد في أمريكا .. أعده وعلق عليه الصحفي المعروف (ستيفن امرسون)، الذي اشتهر بتحقيقاته عن الإرهاب الدولي. وفي البرنامج انطلقت حناجر المتطرفين الإسلاميين تصرخ وتزوم وتهدد بنسف الحضارة الأمريكية .. وسفك دماء غير المسلمين ... وإعلان الجهاد في سبيل الله من البيت الأبيض، والكونجرس ومجلس الأمن. وقال المعلق: أنهم يهدفون إلى مقاتلة الكفار وإقامة إمبراطورية إسلامية. وفي اليوم التالي لعرض برنامج الجهاد في أمريكا، عرضت نفس المحطة برنامجاً آخر بعنوان (الأصولية الإسلامية والديمقراطية) ندد فيه عمر عبد الرحمن بالديمقراطية الغربية ووصفها بالتدني والحقارة (¬2). وبعد انقضاء أربع سنوات على انفجار اوكلاهوما سيتى، وخمس سنوات على بث شريط الجهاد في أمريكيا، بث فيلم وثائقي ثان، عزز القلق الشعبي إزاء المسلمين، وأظهر هذا الفيلم الأذى الذي لا يمكن أن يلحقه بسمعة الإسلام إلا أحد ادعيائه. ففي إنتاج بدا انه تتمه لفيلم الجهاد في أمريكا، قدمت شبكة ب. ب. س ¬

(¬1) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص131 (¬2) صلاة الجواسيس - عادل حمودة ص11

شريطاً يحمل عنوان (الإرهابي والقوة العظمى) تناول خطاب أسامة بن لادن، الذي قدم نفسه كمدافع عن الإسلام. حيث يزعم الفيلم ان بن لادن قام بدور رئيس عام 1998م في تفجيري سفارتي أمريكا في كينيا تنزانيا، كما قدم تحقياً عن عمليات القصف الانتقامي الأمريكي لأهداف في السودان وأفغانستان. وفي هذا الشريط الوثائقي أعطى بن لادن صورة مزيفه، بشعة، فاسدة عن الإسلام. فباسم الدين دعا المسلمين إلى قتل الأمريكيين أينما استطاعوا ومتى استطاعوا، وهى دعوة تنتهك مبادئ العدل التي تطبع الإسلام، انتهاكاً فاضحاً، وشدد على أن أمريكا هي عدو الإسلام الرئيس وقال: إنه يتوجب على المسلمين محاربتها. ومها يكن الدافع الذي أدى إلى تفجر نقمة ابن لادن، فقد أظهره منتجو الشريط بصورة المسعور، إذ عمدوا إلى حذف المقاطع التي تضمنت عبارات متقدة، مشوبة بإحساسه بالظلم الواقع من جانب أمريكا (¬1). وفي البرنامج اعترف رجال المخابرات الأمريكية ورجال المباحث الفيدرالية: إن علاقتهم بالمتطرفين بدأت خلال الحرب الأفغانية .. أنهم دربوا منهم حوالي 20 ألف مقاتل ... والمعنى .. أن الأمريكيين هم الذين ربوا هذه الديناصورات التي استدعوها من أزمنة غابرة ليقاتلوا بها أعداء الله ... السوفيت الكفار في أفغانستان (¬2). وينقل (بول فندلى) حديث دار بينه وبين أحد أصدقائه عن الأثر الذي تركته تلك المقابلة عن الإسلام حيث يقول صديقه: "يثير قلقي سعودي متطرف يعيش في أفغانستان، ويعد نفسه مسلماً، وهو متهم بأنه الدماغ المخطط للإرهاب. لقد أجريت معه مقابلة تلفزيونية الليلة الماضية. إنني لا أتذكر اسمه، غير انه بدأ على الشاشة كالممسوس". سألته: هل يدعى أسامة ابن لادن؟ فأجاب: هو بعينه. لقد أظهرت نشرة الأخبار هذا الشخص، وأظهرت الإسلام، بمظهر سيء. قد يكون أصدقائك المسلمون أناساً رائعين، إلا أن صورة المسلمين التي عرضها التلفزيون في الأسبوع الماضي بعيده عن أن تكون جذابة. والواقع أنى وجدتها مقلقة ومهينة". ويعلق فندلى على ¬

(¬1) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى-.ص99 - 100 (¬2) صلاة الجواسيس - عادل حمودة ص9 - 19

خرافة السوبر مان مقابل الدولة الأعظم

ذلك بقوله: "لم تفاجئني حدة كلماته، ولا ربطه لابن لادن بأفغانستان، فالتقارير التي تقشعر لها الأبدان عن الحكومة الأفغانية سيطرت على الأخبار، فالصور التي وصلتنا عبر التلفزيون، وعناوين الصحف، لقد بثوا صوراً عن نظام القهر الذي انتزع من رعاياه حقوقهم، وقمع النساء منهم، وقدم ملاذاً لثرى عربي أصبح إرهابياً خطيراً" (¬1). ومن أيامها ـ أي بعد تلك المقابلة ـ والإعلام الأمريكي والسياسة الأمريكية لا تنطلق إلا باسم ابن لادن، وكأن ذلك الرجل الذي قضى صباه وشبابه مقاولاً لبناء الطرق، ثم عاش ذلك النوع من الحياة التي يعيشها أقرانه من أبناء الغنى السريع في المملكة العربية السعودية، ثم حملته المصادفات إلى أفغانستان في ظروف شديدة الالتباس وقد حلت فيه فجأة روح (هولاكو) و (هتلر) و (جنكيز خان) و (ستالين) في الوقت نفسه" (¬2). خرافة السوبر مان مقابل الدولة الأعظم لان الأمريكيين يبحثون عن الأشباح التي ضربتهم واختفت .. فإننا نسمع ونقرأ في الأخبار والتصريحات والتعليقات عجباً .. بعضه حقائق مذهلة وبعضه كوميديا هزلية .. وأغلبه هلاوس وهذيانات! فمخابراتهم ومباحثهم الفيدرالية قد تعرف كل شيء .. ولكنها أبداً لم ولن تعرف حقيقة ما حدث يوم 11 سبتمبر (¬3). والولايات المتحدة الأمريكية تعجّ بأكثر أنواع الاستخبارات تعقيداً في العالم إلي جانب قدراتها الفائقة علي المستوي التقني، إلا أنها وقفت عاجزة أمام أسطورة ابن لادن وتنظيمه الذي يديره من احد الكهوف في أفغانستان، حيث استطاع إذلال القوه العظمى الوحيدة في العالم، واختراق كافة أنظمتها واستخباراتها وتقنيتها المتقدمة. هذه هي الصورة المغلوطة التي أريد لنا وللعالم أن نقتنع بها، من خلال عملية غسل دماغ منظمة مارستها الولايات المتحدة، بالرغم من أن الواقع يقول غير ذلك. ¬

(¬1) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى-. ص 141 (¬2) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص167 (¬3) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص182

فالولايات المتحدة لا تملك وكالة استخبارات واحدة، بل إنها تقوم علي عدة وكالات للمخابرات تعمل علي المستويين المحلي والدولي، وتربطها أنظمة تعاون وتنسيق غاية في التعقيد، أثبتت كلها نجاعتها. ومن بين هذه الوكالات نذكر: وكالة المخابرات المركزية، وكالة استخبارات وزارة الدفاع، واستخبارات الجيش، واستخبارات البحرية، وخدمات استخبارات سلاح الجو، ووكالة الاستخبارات التابعة لوزارة الخارجية، وهو مكتب الاستخبارات والبحث، واستخبارات مفوضية الطاقة الذرية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، وأخيراً وليس آخراً، وكالة الأمن القومي، وهي كبري وكالات الاستخبارات الأمريكية علي الإطلاق. وتعمل وكالة الأمن القومي NSA بمراقبة كل الاتصالات الخاصة والحكومية في العالم، من خلال تقنيات عالية التطور والتعقيد، حيث تعتبر الذراع الالكتروني الذي يسترق السمع علي العالم لحساب الاستخبارات الأمريكية. وقد قامت هذه الاستخبارات بتحذير كلينتون من أن سفارة دولة أجنبية، معينة كانت تتنصت علي مكالماته الهاتفية مع مونيكا لوينسكي، ممّا دفعه إلي الكف عن تلك المكالمات. وعندما أنكر الاتحاد السوفييتي أنه قام بإعطاء الأوامر لإسقاط الطائرة الكورية المدنية، التي كانت تحلق فوق منطقة روسية، قامت وكالة الأمن القومي NSA بعرض الشريط الصوتي الكامل، الذي يحتوي الاتصالات التي دارت بين قائد طائرة الميغ MiG الروسية، وبين محطة القيادة الأرضية، حيث كانت محطة القيادة تعطي أوامرها للطيار بإطلاق النار علي الطائرة المدنية الكورية وإسقاطها. وحتى في المراحل الأولي من عصر التقاط الصور بالأقمار الصناعية، كان بإمكان وكالة الأمن القومي أن تحصي الدبابات السوفييتية عدداً، ومن خلال تقنية الصور الأولية كان بمقدورهم أن يحددوا جاهزية تلك الآليات للعمل. وتمتلك وكالة الأمن القومي، سفن تجسس في المحيطات، وأقماراً صناعية وطائرات أواكس تجوب أرجاء السماء علي مدار الساعة، مغطية كل أنحاء العالم. ويتم اعتراض كل حركات الاتصال من الولايات المتحدة وإليها، كما تصنّف الرسائل التي يتم اعتراضها، ومن ثم تُوجّه لمن هم معنيون بها. وفي مقر وكالة المخابرات المركزية CIA، ثبت جهاز المقارن علي لوح من الغرانيت يزن 7 أطنان ليجعل آلية عمله الحساسة بمعزل عن

أحداث 11 سبتمبر

اهتزازات المبني. أما العقل المدبر في مقر الوكالة في (لانجلي) فهو عبارة عن مزرعة ديسكات كمبيوتر في غرفة، تماثل مساحتها مساحة ملعب كرة قدم، إضافة إلي سبع صوامع عملاقة تحتوي كل منها علي (6) آلاف شريط كمبيوتر مغناطيسي، تقوم الروبوتات بتحميلها. وتتم تغذية عشرات الآلاف من صور الأقمار الصناعية في كمبيوترات فائقة السرعة، التي تعيد عرض رسوم كرتونية للشوارع والأسواق والبنايات أو أي شيء آخر تري الوكالة أو أي من عملياتها ضرورة لمراقبته. وتستطيع وكالات الاستخبارات اقتحام أجهزة الكمبيوتر الشخصية، ونسخ المعلومات الموجودة عليها، دون الحاجة إلي اقتحامها فعليا في مواقعها. وباستخدام شعاع صغير غير مرئي يرسل من محوّل علي بعد مئات الأمتار من النافذة، يتم تضخيم اهتزازات النوافذ، وبالتالي تسجيل المحادثات التي تجري داخل الغرف. وهذا جزء لا يذكر إذا ما قورن بالمعجزات التقنية، التي لا يتم نشرها علي الملأ. ومع ذلك فقد أعلنت الولايات المتحدة مباشرة بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، أن رجلاً يعيش في كهف علي مبعدة عنهم تقدر بنصف محيط الكرة الأرضية هو المسئول عن هذه الهجمات، وأن هذا الرجل الخارق قد تفوَّق علي جيوش وكالات الاستخبارات المذكورة في مهاراته وذكائه. وهذا الرجل هو أسامة بن لادن، ووفقاً للرواية الأمريكية الرسمية، فإن أسامة بن لادن من كهفه، قد تفوق علي القوة العظمي الوحيدة في العالم. وقد طالب هذا العالم أمريكا بتقديم الدليل، ولكن شيئاً لم يُقدَّم (¬1). أحداث 11 سبتمبر من المعلوم أن الولايات المتحدة اتهمت أسامة بن لادن وما أسمته هي تنظيم القاعدة ـ إن كان ثمة شيء اسمه تنظيم القاعدة ـ بالمسؤولية عن أحداث 11 سبتمبر بعد ساعات من وقوع الحادث دون دليل واضح ومقنع، بل إن اللجنة المكلفة بالتحقيق في الحادث خلصت إلى نتائج متهاونة على حد وصف مسئول مكافحة الإرهاب السابق في البيت الأبيض (ريتشارد كلارك)، الذي قال في مقال نشرته ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة -عبد الحي زلوم- القدس العربي 27/ 1 - 3/ 2/2003م

صحيفة صنداي نيويورك تايمز: إن من بين الحقائق الواضحة الموثقة، ولم تذكرها اللجنة أن إدارة الرئيس جورج بوش لم تفعل الكثير بشأن الإرهاب قبل الهجمات (¬1). فالرغم من ان الولايات المتحدة الأميركية توافر لها ما لم يتوافر لأي دولة وقعت ضحية لجريمة كبرى من المعلومات خلال الثلاث سنوات الماضية، توافر لديها أفغانستان كلها بكل ما فيها من وثائق ومن مواقع للتدريب ومن معسكرات، توافر لديها أكثر من 600 شخص في غوانتانامو تحقق معهم خلال ثلاث سنوات، توافر لديها أكثر من ثلاثة آلاف شخص على مستوى العالم تم إلقاء القبض عليهم وصبت كل المعلومات في النهاية لدى الأجهزة الأميركية، كل هذه الأشياء لم تعط واشنطن حتى الآن أي مبرر لاتهام أي شخص في العالم سواء زكريا موسوي الذي يتم الآن التفاوض حول تخفيف الاتهام أو إلغائه هذا الأمر يلقي بالفعل كثيرا من الشكوك حول ما حدث (¬2). بل إن الإدارة الأميركية وعلى لسان وزير الدفاع الأميركي (رمسفيلد) أعلنت أنها لا ترغب في اعتقال ومحاكمة أسامة بن لادن، لأنها ببساطة لا تملك أدلة الاتهام، وهو ما حدث لمعتقلي غوانتانامو الذين لا يملكون معلومة ولا علاقة لهم بالأحداث، وإذا قدموا لمحكمة فإنه لا يوجد تهمة توجه ضدهم، فالولايات المتحدة تشن حربا على المجهول (¬3). http://www.aljazeera.net/books/2003/5/ - TOP ولأنها حرب على المجهول، ولا وجود لهذا الخطر المزعوم، فقد بدأت وسائل الإعلام في إيراد التهم التي ثم ألصاقها بالقاعدة، والتي كانت أداة مفيدة بيد الدعاية الأمريكية، لكنها لا تبدو معقولة في نظر القارئ المحايد، حيث بدأ الحديث عن الأسلحة التي تمتلكها القاعدة، وإنها تتكوّن من كميات هائلة من الأسلحة التقليدية التي تشتريها المنظمة من باكستان بصورة رئيسة، كما تمتلك أسلحة نووية تكتيكية يمكن استخدامها من قبل شخص واحد حصلت عليها من مصادر من الاتحاد السوفيتي السابق، إلى جانب ترسانتها من الأسلحة البيولوجية ومن بينها الإنثراكس، والطاعون، والسارين، وبكتيريا التسمّم العصبي. ¬

(¬1) الجزيرة نت- 25 - 7 - 2004 (¬2) أجراس الخطر .. الحقيقة وراء 11 سبتمبر ج3 - قناة الجزيرة برنامج سرى للغاية- مقدم الحلقة: يسري فودة- تاريخ الحلقة: 22/ 9/2005 (¬3) سفر الموت ... من أفغانستان إلى العراق - تأليف محمود المراغي- الجزيرة نت

المسؤولية عن هجمات 11 سبتمبر في خطابات بن لادن

لكن الغريب على ضوء تلك الخطورة، أن يمر كل هذا الوقت على هجمات 11 سبتمبر دون أن يوضع أي من تلك الأسلحة موضع الاستعمال، حيث من الصعب تصوّر جماعة بهذه الدرجة من التسلّح تضم 20 ألف شخص في الحد الأدنى، أو 70 ألفاً في الحدّ الأقصى، من المسلّحين المدرّبين المنتشرين في جميع أنحاء العالم، لا تقدم على أي عمل مهم، في الوقت الذي تعرّض زعماؤها إلى تلك الهجمة العاتية، التي شنت عليهم، وهنا يبدو غريباً أنّ الهجوم البيولوجي الوحيد الذي وقع حتى الآن هو الهجوم المتفرّق بالإنثراكس، الذي لم تظهر للقاعدة علاقة به، بل كان من تدبير جماعة يمينية أمريكية متطرفة (¬1). المسؤولية عن هجمات 11 سبتمبر في خطابات بن لادن كان من اللافت للنظر أن زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن لم يعلن مسؤولية تنظيمه مباشرة عن الهجمات التي تعرضت لها مرافق حيوية في الولايات المتحدة يوم 11 سبتمبر 2001، بل عمد إلى التدرج في إعلان هذه المسؤولية. فإثر الهجمات وتحديدا بتاريخ 16/ 9/2001 أصدر بن لان بيانا مطبوعاً أعرب فيه عن استغرابه لاتهام أميركا له وللقاعدة بالوقوف وراء تلك الهجمات، وأكد أنه لم يقم بهذا العمل معرباً عن قناعته بأن من قاموا بها إنما نفذوها بدوافع ذاتية. وذكر في البيان أنه يعيش في إمارة أفغانستان الإسلامية وقد بايع أمير المؤمنين فيها على السمع والطاعة في جميع الأمور، وهو لا يأذن بالقيام بمثل هذه الأعمال من هناك. وبعد ذلك تدرج بن لادن في بياناته وأحاديثه المسجلة والمصورة خلال السنوات الخمس من نفي المسؤولية عن الهجمات إلى التشجيع على القيام بها والإشادة بها، فالإشارة إلى ما يوحي بالمسؤولية عنها. فبعد شن الولايات المتحدة حربها على أفغانستان بغرض الانتقام من الهجمات التي تعرضت لها، قال بن لادن في شريط مصور بثته قناة الجزيرة في 3/ 11/2001 إن أفغانستان وتنظيم القاعدة يتعرضان لقصف عنيف دون أن يثبت أي دليل على تورطهما في الهجمات التي تعرضت لها واشنطن ونيويورك، غير أنه أشاد في كلمته ¬

(¬1) القاعدة .. الإخوة الإرهابيون -المؤلف: بول. إل. ويليامس - كامبردج بوك ريفيو

بالهجمات ووصفها بالضربات العظيم. وبعد ثلاثة أشهر من هجمات سبتمبر، وصف بن لادن في شريط مصور بث بتاريخ 10/ 12/2001 - الهجمات بالمباركة، وقال إنها شنت (ضد الكفر العالمي وضد رأس الكفر أميركا)، وأشار إلى أن أحداث 11 سبتمبر ما هي إلا رد فعل على الظلم المتواصل الذي يمارس (على أبنائنا في فلسطين وفي العراق وفي الصومال وفي جنوب السودان وفي غيرها كما في كشمير وآسام). ووصف في الشريط الذين قاموا بالهجمات بأنهم فتية فتح الله عليهم بأن يقولوا لرأس الكفر العالمي أميركا ومن حالفها أنتم على باطل وضلال، وضحوا بأنفسهم من أجل لا إله إلا الله، على حد تعبيره. وبعد عام على الهجمات تطرق زعيم القاعدة لأحداث سبتمبر في شريط مصور بثته الجزيرة في 10/ 9/2002 فقال: "عندما تتحدث عن غزوتي نيويورك وواشنطن، تتحدت عن أولئك الرجال الذين غيروا مجرى التاريخ وطهروا صفحات الأمة من رجس الحكام الخائنين وأتباعهم، بغض النظر عن أسمائهم ومسمياتهم، نتحدث عن رجال لا أقول إنهم حطموا برجي التجارة ومبنى وزارة الدفاع الأميركية فقط، فهذا أمر يسير، ولكنهم حطموا هبل العصر، وحطموا قيم هبل العصر". وذكر بن لادن أسماء منفذي الهجمات وأشاد بهم فرداً فرداً. وفي الذكرى السنوية الثانية للهجمات بثت الجزيرة في 10/ 9/2003 شريط فيديو يظهر فيه كل من بن لادن ونائبه أيمن الظواهري وهما يسيران جنباً إلى جنب. وتضمن الشريط كلمتين للرجلين أشادا فيهما بمنفذي الهجمات وتوعدا الأميركيين بشن المزيد من الهجمات. وفي 29/ 10/2004 وجه بن لادن رسالة إلى الشعب الأميركي، والتي حصلت عليها الجزيرة بالصوت والصورة للمرة الأولى منذ أكثر من عامين، حيث تحدث بن لادن في بدايتها عن الأسباب التي دعته لاختيار الولايات المتحدة لكي ينفذ فيها أحداث 11 سبتمبر. وهي المرة الأولى التي تحدث بن لادن فيها عن الدوافع التي جعلته يفكر في التخطيط لتلك الهجمات، مؤكدا أن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 كان أول الأحداث التي جعلته يفكر في ذلك. وفي شريط بثته الجزيرة ناشد الرجل الثاني في القاعدة أيمن الظواهري المسلمين الاقتداء بمنفذي هجمات 11 سبتمبر، قائلاً: "إن العدو لا يفهم غير لغة الأبراج المحترقة والمصالح المدمرة. ووعد الظواهري بأخبار قال إنها ستثلج صدور المسلمين".

لغز اختفاء بن لادن!

وفي الذكرى الخامسة للهجمات حصلت الجزيرة على شريط مصور بثته في 7/ 9/2006 تضمن صوراً بثت لأول مرة عن أجواء الإعداد لضربة الحادي عشر من سبتمبر قبل خمس سنوات. وتظهر الصور التحضيرات التي سبقت الهجمات أو ما تسميه القاعدة غزوة منهاتن (¬1). ويرصد التسجيل الذي يذاع لأول مرة تفاصيل الحياة اليومية للمنفذين في أفغانستان وقت التحضير للتفجيرات (¬2). لغز اختفاء بن لادن! (¬3) مثل أي فيلم عنف أميركي سيئ الإخراج والحبكة، بقيت النهاية مفتوحة في الحملة الأميركية ضد تنظيم القاعدة، ولا يزال الأشرار (أسامة بن لادن والملا محمد عمر) هاربين من الرجال الطيبين (الولايات المتحدة بالطبع!)، الذين يريدون إحقاق العدل وسط تصفيق المشاهدين البلهاء. كيف اختفى أسامة بن لادن من جبال تورا بورا، ومن تحت الأقمار الصناعية الأميركية، ومن بين أعين المخابرات الأميركية، والمرتزقة الأفغان الباحثين عن مكافأة تسليمه؟ بكل بساطة اختفى (المجاهد) أسامة بن لادن، لأن الدور المطلوب منه لم ينته بعد، فقد سيطرت الولايات المتحدة على أفغانستان بالكامل، وحولتها إلى قاعدة عسكرية واستخباراتية أميركية في مواجهة إيران والصين وروسيا، وإبقاء الرقابة على الهند والباكستان وبرامجهما النووية، ولكن لا يزال لأسامة بن لادن دور آخر. المفروض أن يظهر ابن لادن في مكان ما، ربما عن طريق وسائل الإعلام الأميركية أولاً، ومن ثم تسريبات الاستخبارات الأميركية، فهو سيظهر إما في الصومال أو اليمن أو الباكستان أو حتى الشيشان، ولا تستبعدوا الفلبين والسودان ولبنان، ولا سبب يمنع تسلله إلى السعودية أيضاً، فكلها موضوعة في لائحة مواقع الاستهداف، والحرب الأميركية القادمة، وقد قالها بوش بصراحة: "ربما لا نقبض عليه ¬

(¬1) ما سمي بالتحضيرات ما هى الا لقطات عامه لحياة مجموعه من المسلحين تشمل تدريبات روتينة وحوارات لا يمكن الادعاء بانها تحضيرات لهجمات 11 سبتمبر، بل يمكن وضع ما شئت من العناوين لهذ اللقطات. (¬2) المسؤولية عن هجمات سبتمبر في خطابات بن لادن - شاهر احمد- 13 - 9 - 2006 - الجزيرة نت- http://www.aljazeera.net/channel/archive/archive?ArchiveId=337866 (¬3) مقال بقلم باتر محمد علي وردم منشور في جريدة الدستور بتاريخ 11/ 3/2002 م.

الزرقاوي .. لغز جديد

اليوم أو غداً ولكننا سنفعل ذلك في النهاية"، وهذه النهاية لن تأتي قبل تدمير كل مقدرات الدول والتنظيمات التي يمكن أن تهدد أمن إسرائيل والولايات المتحدة. يجب أن يكتشف العالم الإسلامي وبسرعة ظاهرة ولغز أسامة بن لادن وسيرة حياته غير العطرة، فلا يمكن أن يبقى هذا الشخص في نظر المسلمين إما بطلاً ومجاهداً ـ وهو أبعد ما يكون عن ذلك- أو مجرماً إرهابياً قاتلاً - وهو كذلك أكثر سذاجة من أن يكون كذلك- ولا شك أن هناك سراً وراء اختفائه المفاجئ وغير المفهوم من أنقاض أفغانستان، والذي ترافق مع تخفيف كبير للحملة الأميركية لإلقاء القبض عليه، فقد قضى الأميركيون تماماً على الشبان العرب من تنظيم القاعدة والأفغان من حركة طالبان، ولكن قيادات هذه التنظيمات لم يمسها أي شر، فهل يعقل أن يهرب هؤلاء جميعاً من ساحة المعركة بدون أثر؟ التفسير الوحيد هو أن أسامة بن لادن لم يكمل دوره بعد، فإما أنه يسير ضمن مخطط مرسوم لصالح الولايات المتحدة، أو أنه ترك ليهرب من أفغانستان تحت سمع وبصر القوات الأميركية تمهيداً للضربة الثانية، ولا نعلم ما هي الدولة المتعوسة التي سيهرب إليها ابن لادن ليعيث الخراب فيها من جديد؟. في مثل هذه الأحداث نبقى جميعاً نشاهد ما يسمح لنا برؤيته ونحلل ونصفق ونشتم كما نريد، ولكن في الخفاء توجد الكثير من الأسرار التي لا يعرفها أحد، والتي لا يكشفها ابن لادن في خطبه العصماء على قناة الجزيرة، والذي لم يقل بوضوح فيما إذا كان قد خطط بالفعل لعمليات 11 أيلول أم لا؟، وفي كل التاريخ لم نر متهما يتجاهل الدفاع عن نفسه بهذه الطريقة المحيرة، وسيبقى لغز ابن لادن قائماً بينما يدفع المسلمون الثمن لواحدة من أكبر حماقات التاريخ، أو أكثر مؤامراته ذكاءً!!. الزرقاوي .. لغز جديد الزرقاوي مصاب .. الزرقاوي لم يصب وبخير .. مجرد بيانات على الانترنت مجهولة المصدر باتت تحتل صدارة الأخبار لتسارع الإدارة الأمريكية الحريصة على إيجاد مبرر لاستمرار احتلالها للعراق إلى التهوين من قيمة هذه البيانات، مؤكدة أن إصابة الزرقاوي أو حتى وفاته لن تؤثر في ما يسمى بـ (تنظيم القاعدة في بلاد

الرافدين)، ولن يحول دون نشاط تلك الجماعة المسلحة في العراق حسب تعبير أحد جنرالات البنتاجون، الذي أكد أن ما يهم بلاده هو معرفة أين هو الزرقاوي وفي أي حالة، خصوصاً أن مكافأة ال 25 مليون دولار، التي رصدتها بلاده للقبض على الزرقاوي لم تعجل في تحقيق هذه الغاية. وبالتزامن مع حديث الزرقاوي المطلوب الأول حالياً في العراق، فاجأنا الرئيس الباكستاني الجنرال (برويز مشرف) بعد مرور 24 يوماً على اعتقال المدعو أبو (الفرج الليبي)، الذي قيل إنه الرجل الثالث فيما يسمى بـ (القاعدة) ـ القيادة المركزية ـ إذا جاز الوصف لا يملك معلومات لها قيمة عن مكان قائده أسامة بن لادن، ومن ثم تراجعت واشنطن عن مكافأة العشرة ملايين دولار، التي سبق ورصدتها لمن يساعد على إلقاء القبض عليه. ويبدو أن واشنطن هي المستفيد من هذه الأشباح، التي جعلت البعض يقول ساخراً إن تنظيم القاعدة هو مجرد صناعة للدعاية الأمريكية، وأن مكان إقامة ابن لادن والزرقاوي .. ممن سمعنا وسنسمع بهم هو البنتاجون، لأن المستفيد الأول من استمرار بقائهما هي الإدارة الأمريكية الحالية، التي تحرص على اختراع عدو لاستخدامه فزاعة، وذريعة لحرب الهيمنة على العالم، خصوصاً المنطقة ومقدراتها، مهما اختلفت العناوين التي تطلقها على تلك الحرب، وأعتقد أن الملايين من أبناء المنطقة يتمنون وضع حد لهذه الأساطير اليوم قبل غدٍ وساعتها لا ندري ماذا ستقول أمريكا (¬1). فيلم بريطاني: لا وجود دولياً لـ (القاعدة) .. الأمريكيين يصنعون أكاذيب الخطر الخارجي ويصدقونها يؤكد الفيلم التسجيلي البريطاني (قوة الكابوس)، أن القاعدة لا توجد كشبكة منظمة ومنتشرة في العالم، وأن المتطرفين الإسلاميين في العالم والمتطرفين الأمريكيين ممثلين بالمحافظين الجدد يمثلان وجهين لعملة واحدة. ويجري الفيلم مسحاً شاملاً لنشوء الحركات الإسلامية ونموها وتطورها، في كل من مصر، والجزائر، ثم أفغانستان مدعماً بالوثائق، والتحليلات، وشهادات بعض رجال الاستخبارات، وتأكيدهم أن شبكة القاعدة غير موجودة كتنظيم دولي له امتداداته. ¬

(¬1) ذرائع الإرهاب الأمريكي- غريب صابر- جريدة الخليج - عدد 9506 - بتاريخ 29 - 5 - 2005م

والفيلم الذي أنتجه تلفزيون الـ (بي بي سي) وعرض في إطار التظاهرة الرسمية لمهرجان كان السينمائي ال 58 خارج المسابقة هو للمخرج (آدم كورتيس). وينطوي الفيلم على تقنية فنية عالية إذ يعمد إلى استخدام الإعلانات الدعائية والتلفزيونية وصور الأفلام العربية والأمريكية القديمة للتخفيف من حدة الموضوع الذي يطرحه، عائدا بجذور القضية إلى خمسينات القرن الماضي. وحلقة بعد حلقة وعبر معلومات مكثفة ومدروسة، يقود الشريط البريطاني مشاهده ليستنتج ان شبكة القاعدة غير موجودة أساساً، وإن كثيراً من الشبان المعتقلين في جوانتانامو لا علاقة لهم بالقاعدة، وهم أتوا إلى أفغانستان للتدرب على استخدام السلاح لأهداف وطنية مثل شباب الشيشان واذربيجان، الذين أرادوا تغيير أنظمة الحكم في بلادهم. كما يؤكد الفيلم أن التحقيقات والاعتقالات، التي تمت في الولايات المتحدة لم تفض إلى شيء ولم يُدَنْ فيها احد، في حين أكد الرئيس الأمريكي (جورج دبليو بوش) أن القاعدة موجودة في الولايات المتحدة وفي نحو ستين بلداً. ومن النقاط المهمة، التي يبرزها الفيلم الغني بالمعلومات أن أسامة ابن لادن ليس الزعيم الفعلي للقاعدة، وأنه كان فقط البنك الممول لكل هؤلاء الشباب، الذين أتوا إلى أفغانستان، ولا أيمن الظواهري، هو العقل المدبر. ويؤكد الفيلم أن الظواهري الذي تأثر بنظريات سيد قطب وجاء إلى أفغانستان بعد إطلاقه من السجن في مصر مع مجموعة من الإسلاميين المتورطين باغتيال السادات، هو الذي يكره الولايات المتحدة. ويقول الفيلم: إن ابن لادن إضافة لكونه ممولاً، كان (ثرثاراً يدعي ما لم يقم به)، ويعطي بالتالي صدقية للدعاية الأمريكية. ويبين الفيلم كيف أن المسئول عن الوضع في العالم اليوم، هي آيديولوجيات متقابلة يكمل بعضها بعضا وتتسلح بفكرة الدفاع عن الخير ضد الشر، وان كلاً منها مقتنع بالشيء ذاته. ويوضح الفيلم أن فكرة الخطر الخارجي كان يستخدمها الأمريكيون منذ السبعينات، كما حدث مع الاتحاد السوفييتي حين هوّل المحافظون القدرة العسكرية النووية لهذا البلد وأنشأوا فريقاً كاملاً للتحقيق في قدرته النووية وخرج التحقيق بنتائج تبين اليوم أنها كانت كاذبة

تزويد الأنفاق بالظلام

بمجملها. ويتعقب الفيلم كيفية تحول الأكاذيب إلى حقائق يصدقها الأمريكيون وهم صانعوها (¬1). تزويد الأنفاق بالظلام إذا كان بن لاذن وتنظيم القاعدة ما هم الا صناعة امريكية، وينفذون بعلم أو بغير علم مخططات امريكية، فكيف استطاعوا في بداية ظهورهم الحصول عل تعاطف وتأييد كثير من المسلمين؟! ويجيب على ذلك العلامة (محمد حسين فضل الله) محاولاً القاء الضوء على الظروف، التي أحاطت بظهور بن لادن على ساحة العمل الإسلامي، والسبب الذي جعل الكثيرين ينظرون إليه كمخلص للأمة من أزمتها الخانقة حيث يبدأ بوصف حالة الإنسان العربي بعد انتفاضة الأقصى الثانية وأحداث سبتمبر فيقول: "ربما يشكو الإنسان من المظالم ويكتشف الكراهية لأميركا نتيجة سياساتها". ويرى أنها وصلت إلى درجة بات يشعر فيها الناس بالإحباط، ولا يرون فائدة من العمل، "ويأتي هذا مع حالة في المنطقة العربية يصادر فيها الشعب كله، وتسيطر فيها دوائر المخابرات وقوانين الطوارئ، ويشعر الإنسان بالرعب من الحرية والتفكير الحر، ويرى المرء عمليات التدمير، التي تلحق بفلسطين والفلسطينيين، وتبدو في نهاية النفق أميركا تسده بالظلام". وأمام هذا الضغط الاستكباري، قرأت بعض الاتجاهات الإسلامية، الإسلام وآيات الجهاد، والموقف من الكفار وربما قرأت بعض تاريخ العنف، فوصلت إلى نتيجة مؤداها أن الوصول إلى الهدف يكون بعمل عنفي يرضي الحالة النفسية، والشعور بالقهر الذي يسيطر على كثير من المسلمين، بغض النظر عما إذا كان يؤدي إلى نتائج في مستوى الهدف أم لا (¬2). وهذه هي ¬

(¬1) الخليج - عدد 9494 ـ 17 ـ5 ـ2005م (¬2) هناك امثلة كثيره في تاريخنا الإسلامي استغل فيها المستعمرين الحالة النفسية المهزومه للامه الإسلامية للدفع ببعض عملائهم أو بعض السذج لتصدر ساحة الدعوة أو القيادة ليكون اداه لتحقيق اهدافهم الخبيثة كما حصل في الهند .. فقد كان القضاء على مقاومة المسلمين للوجود البريطاني في الهند عن طريق محاربة الدين الإسلامي ومفهوم الجهاد، من أهم الأهداف التي سعى الاستعمار البريطاني إلى تحقيقها، حيث اتبع الاستعمار عدة أساليب لتحقيق ذلك، ولكن هذه الأساليب لم تأتي بثمارها المرجوة، مما دفع الانجليز إلى البحث عن وسيلة جديدة لتحقيق أهدافهم، فقاموا بالإستعانة بالمستشرقين المتخصصين في الدراسات الإسلامية وطلبوا منهم وضع تقرير عن الوسائل الكفيلة بإلغاء مفهوم الجهاد الذي يدفع المسلمين إلى المقاومة الدائمة. وفعلاً قامت لجنة من المستشرقين والمحررين الإنجليز، بزيارة الهند في عام 1969، حيث درسوا أحوال المسلمين هناك وسجلوا ملاحظاتهم وتوصياتهم في تقرير قدموه إلى الدوائر الإستعمارية في لندن في عام 1870، وقد خرج أعضاء اللجنة بقناعة مفادها: أنه لايؤثر في المسلمين وفي توجهاتهم مثل قيام رجل منهم بإسم منصب ديني رفيع يجمع حوله المسلمين ويخدم سياسة الانجليز، لهذا أكدت اللجنة في تقريرها على ضرورة الدفع بأحد المسلمين ليدعي أنه المسيح الموعود أو أنه نبي، ليصدر أوامره بإلغاء الجهاد وليدعوا المسلمين إلى طاعة الانجليز. وفعلاً بدأ الانجليز بالبحث عن شخص يقوم بهذا الدور واستعانوا بالمبشرين لكي يساعدوهم في ذلك، فوجدوا في غلام أحمد الذي تربى في أحضان المبشرين وعمل في خدمتهم، والذي كان مضطرب الأفكار والعقيدة وكان طموحاً إلى تأسيس ديانة جديدة، هذا بالإضافة إلى انتماؤه إلى أسرة معروفة بعمالتها للإنجليز- وجدوا فيه أفضل شخص يمكن أن يقوم بهذا الدور. فأوعزوا لغلام أحمد لكي يدعي أنه المسيح الموعود الذي ينتظره المسلمون ليحقق لهم أهدافهم مستغلين في ذلك الشهرة الكبيرة التي نالها غلام أحمد من خلال مناظراته مع القساوسة والمبشرين في الهند. كما أنهم استغلوا الحالة النفسية للمسلمين والتي كانت مهيئة لتقبل هذه الفكرة في ذلك الوقت، حيث اجتاحت العالم الإسلامي في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حالة من اليأس في النصر على المستعمر الأوروبي، إذ بلغت سيطرته على البلاد الإسلامية ذروتها في ذلك التاريخ. فتوجه المسلمون إلى مصدر القوة التي لاتقهر. إلى الله سبحانه وتعالى، ولما كانت رسالة محمد (ص) هي خاتمة الرسالات السماوية فلن يبعث الله رسول برسالة أخرى. لهذا ترقبوا قرب نزول المسيح ليحكم بالقرآن ويكسر الصليب ويقتل الخنزير. فاستغل الانجليز هذا الوضع النفسي للمسلمين فدفعوا بعميل لهم هو الميزرا غلام أحمد إلى ساحة الدعوة الدينية ليحد من تيار الدعوة إلى الجهاد ضد المستعمر - لأنه فسره على نحو يبطل فرضيته - فادعى أنه المسيح الذي أخبر بنزوله وينتظره المسلمون ليخصلهم من الاستبداد وليمكن لدين الله في الأرض. (راجع كتابنا: "احمد ديدات بين القاديانية والإسلام - يوسف الطويل- مكتبة مدبولى - الطبعة الأولى - 2002).

مشكلة هذه الاتجاهات في فهم التحرك نحو الأهداف الإسلامية، فهم يخلطون بين عنف الفكرة في مواجهة فكرة أخرى وعنف الوسيلة، فعنف الفكرة لا يعنى عنف الوسيلة، إلا أن الذهنية غير المثقفة وغير الواعية تخلط بينهما. ولهذا فقد كان من أكبر الأخطاء، ولعله خطأ متعمد أن يقع الخلط بين الاستنكار العربي للسياسة الأمريكية وبين ترجمة هذا الاستنكار على أنه الإعجاب بابن لادن، وربما ساعد على الترويح لهذا الخطأ المتعمد أن الأمة العربية لا تجد في هذه اللحظة قيادة معترفاً بها تتوافر لها المصداقية، ولا فكرة جامعة لها طاقة وحيوية أن تلهم وتحرك" (¬1). فواقع الشرق أو العالم الثالث أمام الأزمات الخانقة، وأمام كثير من حالات الإحباط والسقوط يجعله يفتش عن بطل أو منقذ ثائر. فمن السهل أن تتحرك بعض الطموحات لتقدم نفسها في موقع البطل، سواء من خلال الموقف المتحدي الذي ¬

(¬1) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص166 - 167

يتسم بالعنفوان، أو من خلال حركة تقوم هنا أو هناك، ما يوحي بأن هناك قوة قادمة يمكن أن تحل المشكلة أو تخفف بعض أوضاعها. وشخصية ابن لادن توحي بالكثير من الإعجاب، بتضحياته وزهده بالدنيا رغم توافرها بين يديه، وتبدى عنفوانه بأعمال عنف حتى خيل أنه إسقاط لعنفوان القوة الكبرى أميركا، وحولت الحماسة التمنيات إلى واقع، وهكذا استطاع هذا الرجل أن يحصل على الإعجاب والتأييد في العالم الإسلامي على امتداده، وربما أمكنه أن ينفذ إلى مجموعات من المتعلمين، لأن المسألة كانت عندهم هي الثأر بغض النظر عن المضمون (¬1). http://www.aljazeera.net/books/2003/7/ - TOP وهنا أعتقد من يسمون بالأفغان العرب، ودون دراسة للظروف الموضوعية التي تحقق فيها الانتصار في أفغانستان، أن انتصارهم على الاتحاد السوفيتي يمكن أن يحقق لهم انتصاراً على أميركا. وخلق هذا الانتصار حالة من العنفوان ابتعدت بهم عن الواقع، وكان أن حدثت هجمات سبتمبر، وكانت اللحظة الأولى بعدها، في العالم الإسلامي وغير الإسلامي وفي كل العالم المستضعف هي لحظة فرح، لأن العنفوان الأميركي سقط. وخاصة عندما رأى الناس ما لا يرونه إلا في السينما والمسرحيات، فرئيس الولايات المتحدة لا يملك أن ينزل بطائرته في واشنطن، ونائب الرئيس اختفى، وكذلك أغلب الإدارة الأميركية، حتى أن أمريكا مرت في ساعات من انعدام الوزن. كان هناك فرح ينطلق من معنى الثأر والشماتة، ولكن الولايات المتحدة استعادت المبادرة بسرعة، وعلمت كيف تستفيد من الأحداث وتحصل على أكبر مكسب من خلالها. وهذا ما حدث، فقد بادرت أميركا واتهمت الإسلاميين، واستغلت صورة ابن لادن الجاهزة في وسائل الإعلام، وكانت أفغانستان تحتضن ابن لادن والقاعدة، وبهذا أصبح كبش الفداء جاهزاً. وكان يخيل للناس أن طالبان سوف تصمد، وأن أميركا سوف تغرق في وحول أفغانستان كما غرق الاتحاد السوفيتي. ولكن أميركا لم تدخل وحدها، فقد كان الأفغان المعارضون لطالبان جاهزين للعمل معها، في الوقت الذي انسحبت فيه باكستان، وتركت طالبان وحدها في مواجهة حرب عالمية فسقطت، ولا تزال الحرب ¬

(¬1) أظهر استبيان أجرته الجزيرة على مدى اربعة ايام خلال الفترة من 7 - 9 - 2006 إلى 10 - 9 - 2006 انقساما في موقف المشاركين تجاه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، حيث أيد 49.9% منهم بن لادن مقابل 50.1%، وهذا يعني ان الناس بدأت تدرك الحقيقة؟!

العالمية موجهة ضد هذا العدو الأسطوري، الذي استطاعت أميركا بإعلامها أن تضخمه، ليكون انتصارها عليه بحجمها هي لا بحجمه الحقيقي هو. وهكذا قدم هؤلاء الإسلاميين خدمة لأميركا لو بذلت المليارات لما استطاعت أن تحصل عليها، في الوقت الذي أرادوا فيه أن يسقطوا أميركا (¬1). فجهل بعض رموز الحركات الإسلامية بالسنن الإلهية الكونية، وبموطئ أقدامهم فيها، وكذلك تسرع البعض الآخر من هذه الرموز، وسوء النية والطوية عند قسم ثالث منهم، جعل الإسلام والمسلمون يدفعون ثمنه مرتين: مرة من قبل هؤلاء المتسرعين والجهلة وذوي الأغراض الشخصية، إذ يعيقون بمواقفهم وسلوكهم حركة الإسلام وتقدمه. ومرة من قبل أعداء الإسلام، وأعداء توجهاته السياسية في الداخل والخارج، عندما ينسبون مواقف هؤلاء وأخطاءهم إلى الإسلام نفسه ولله الأمر من قبل ومن بعد (¬2). وهذه ليست كل الصورة، حيث أن ما يفعله هؤلاء بجهالة في أفغانستان والجزائر والصومال والسودان وغيرها وراءه أشرار كبار، يخططون في الخفاء، ودول صاحبة مصلحة في إشعال النار تنفق وتسلح وتستعمل الجواسيس والعملاء، وتستغل حب الرياسة في هذا وذاك وحب المال في هذا وذاك ... نعم وراء كل قنبلة تنفجر هناك جيش من الشياطين يعمل، وأجهزة مخابرات تخطط، ليظل الجحيم مستعراً وليظل المسلمين سجناء تخلفهم إلى الأبد. فالصورة كلها صورة بوليسية، والعمل عمل جواسيس محترفين، لكن القيادات الإسلامية، والمسلمون الكبار ليسوا أبرياء فوقوعهم في مصيدة الفتنة، وفي أحابيل المكر الذي حاكته العقول الاستعمارية المحترفة هو ضعف وسذاجة، تحسب عليهم في آخر المطاف، فهم لم يكونوا بالنضج ولا بالوعي الكافي الذي تستلزمه الرسالة التي وهبوا أنفسهم من أجلها. والتساؤل الأعجب، لماذا توجه هذه الفرق الإسلامية رصاصها إلى الفرق الإسلامية المنافسة ولماذا تكون العدوات بينها أشد؟ (حارب الأفغان بعضهم البعض ¬

(¬1) المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي-المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله- عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت (¬2) الإسلام .. والغرب .. وإمكانية الحوار - إبراهيم محمد جواد

تنظيمات عبثية

بأشنع مما حاربوا العدو السوفيتي) لقد غاب حب الرياسة في قلوبهم على حب الحق، وعلى حب الدين، الذي يدعون أنهم يحاربون من أجله، وكان سقوط المأجورين منهم بإغراء الدولارات أفدح وأخزى. لقد سقطوا في الاختبار رغم الشعارات الإسلامية التي يرفعونها، ولهذا اسقط الله الرايات من أيديهم، فالله لا يحابي في الحق أحداً، والله لا ينظر إلى بطاقة المقاتل وإنما ينظر إلى قلبه (¬1). تنظيمات عبثية مع أن المعركة في أفغانستان بعد الانسحاب السوفيتي لم تعد لها صلة ـ ولا حتى بالإدعاء ـ بين إيمان والحاد، وإسلام وكفر، لأنها أصبحت حرباً بين قبائل وعشائر ومشايخ، فإن أسامة ابن لادن ظل يقود تنظيماً بلا قضية في ارض بلا هوية (¬2)، ودخل في تحالفات مع مسلمين ضد مسلمين رافعاً شعار الجهاد ومقاتلة الكفار، حلفاء الأمس، في صراع مقيت جلب الدمار والخراب للمسلمين، وشوه صورتهم في كل مكان، ولا شيء هناك سوى قتال بدائي على السلطة، ومن وراء الكل هناك من يدفع ويمول ويلقى بالأسلحة والذخائر في أتون المعارك حتى لا يجتمع المسلمون على كلمة، وحتى لا ترتفع للإسلام راية في أي مكان، وحتى يصبح الإسلام محل الشبهة والاتهام ومنبع لكل مصيبة. فقد زين لهم جهلهم أسباباً ومبررات لقتالهم وهم لا يعرفون من الإسلام إلا ما قيل لهم، وما وضع في أفواههم ومن ورائهم شياطين اقدر وامكر يستعملونهم، والشريعة الإسلامية بريئة من كل هذا الهراء. فهذا الإرهاب الذي أسموه ظلما بالإرهاب الإسلامي له، في بنوك أمريكا وإنجلترا أرصدة دولاريه بالملايين .. وقد رأينا إنجلترا تحتضن هؤلاء الإرهابيين علناً، وتنظم لهم مؤتمراً كبيراً، ومائدة مستديرة ليجتمعوا عندها في لندن .. ثم رأيناها تنسحب في آخر لحظة خشية الفضيحة وخشية كشف المستور. فقد التقت إرادة الغرب وإرادة إنجلترا وأمريكا على هذا الأمر. ¬

(¬1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص38ـ39 (¬2) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص132

وفي كتابه (علاقات خطره) يكشف مؤلفه (اندرولسلي كوكبيرن) عما يجري في كواليس المخابرات الأمريكيه ال C.I.A والموساد، ويفضح جانباً من ذلك التنظيم السري الرهيب بين الاثنين لتمويل كل البؤر المشتعلة في العالم لصناعة الانقلابات في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولتجنيد العملاء وشراء الزعماء وإفساد الذمم، وتحريض الطوائف وإفقار الفقراء وقتل الأبرياء في مخطط دموي رهيب للهيمنة والسيادة على العالم بقوة السلاح (¬1). فحرب أفغانستان تم خوضها بمساعدة المخابرات المركزية الأميركية من قبل متطوعين إسلاميين، دربوا على الحدود الباكستانية، ولكنه ومع نهاية الحرب أصبحت هذه المنطقة معقلاً للأممية المتعصبة المُشَّكلة من مجموعات صغيرة متشددة منفصلة عن المجتمع، والتي تتبع حصراً أهدافاً متطرفه، حيث تتحمل الولايات المتحدة جزءا من المسؤولية في قدوم هذا النمط الجديد من المتطرفين (¬2). فكثيرين بين العرب والمسلمين ساورتهم الشكوك من سنين عديدة حول هذا الذي يجري في أفغانستان باسم الجهاد، وضد الإلحاد. وهم في كل الأحوال لم يصنعوا بن لادن أو يكتشفوه، وإنما سمعوا باسمه لأول مرة على لسان الرئيس (بيل كلينتون) حين وجه إلى مواقعه في جبال أفغانستان دفعة من صواريخ كروز صيف 1998م عقاباً على تفجير سفارتين للولايات المتحدة في عاصمتين أفريقيتين. ثم عاد اسم ابن لادن يتردد على لسان الرئيس (جورج بوش) منذ ارتفع صوت الرئيس الأمريكي لأول مرة مساء 11 سبتمبر وهو يعلن الحرب عليه (¬3). كما تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في صناعة أسامة بن لادن الذي دربته ومولته واستخدمته في أفغانستان ضد السوفيات، كما أن الطالبان حظوا بدعم من العالم الأنجلوساكسوني (أمريكا وبريطانيا) (¬4) حيث أن سياسة واشنطن المناهضة لإيران وإستراتيجيتها ¬

(¬1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود - ص134 (¬2) َفرْطُ الإرهاب: الحرب الجديدة تأليف/ فرانسوا هايزبور ومؤسسة البحث الإستراتيجي- كامبردج بوك ريفيوز (¬3) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص166 (¬4) الكل أمريكيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 - جون ماري كولمباني- كامبردج بوك ريفيوز

توظيف الدين بين بوش وبن لادن

دفعتها إلى تسهيل قيام نظام طالبان الذي شكل فيما بعد القاعدة السياسية المثلى لمواصلة معارك ابن لادن. توظيف الدين بين بوش وبن لادن (¬1) سؤال مشروع في ظل تزايد الحديث عن خطاب ديني (ديماغوجي) يدعو إلى تحقيق الأهداف بالعنف، وخطاب ديني مضاد (منظم) يدعو إلى أهداف موازية وبالعنف أيضاً!!! وبين الخطابين يقبع العالم المسكون بدهشة الصور، التي تلقمها له ماكنة إعلامية ضخمة منقسمة بين طرفي المعادلة الفظيعة. خيط رفيع .. لكنه بالغ الأثر يجمع بوش وابن لادن .. يضيق في أحدهم ليتسع في الآخر، ذلك هو توظيف الدين، (فصليبية) بوش الابن، جاءت في مقابل (جهاد) ابن لادن، وكل منهما كان يقسم العالم إلى ثنائية متضادة حدية، فسطاطي بن لادن (إيمان وكفر)، ومحوري بوش (خير وشر)، و (من ليس معنا ـ نحن الخير المطلق ـ فهو ضدنا). كان الموقف تمثيلاً للتناقضات الموجودة على أرضية دينية، المرتهنة إلى ثنائيات تبسيطية للعالم بأسره، واحد يستلهم القرآن، والآخر يستلهم الكتاب المقدس، وكلاهما يعيش مع الرب؛ ويقوم بتكليف إلهي! " (¬2). الأصولية الإسلامية المتطرفة (وهي يمين متطرف بالضرورة)، تدعو إلى محاربة (الشيطان الأكبر) المتمثل في الغرب والولايات المتحدة خصوصاً، ومحاربة الشيطان الأكبر في عمق هذه الميثولوجيا الأصولية المتطرفة، تتطلب إيماناً شديداً بضرورة العنف، وإلغاء الآخر، بهدف الوصول في النهاية إلى عالم يوتوبي مثالي (دولة الشرع العالمية)، حيث يقيم (المؤمنون) دولتهم، وأيضاً في سياق نفس الميثولوجيا المتواترة، فإن هذه الدولة ستكون آخر إشارات (نهاية العالم)، حين تنتصر (قوى الخير)، في معركة ميدانها (فلسطين)، والتي ستسترجع بعد حرب تدميرية، يصرخ فيها الشجر مستنجداً بالمسلمين من يهودي مختبئ خلفه، ويتبع ¬

(¬1) الحرب العالمية الأخيرة -ما الفرق بين تنظيم القاعدة وطاقم الإدارة الأمريكية- بقلم مالك عثامنة- جريدة المرايا الالكترونية. (¬2) الرجال الثلاثة .. والطريق إلى العراق! (الشبكة الإسلامية) - بقلم معتز الخطيب * كاتب وباحث سوري

ذلك ظهور المسيح الدجال، ونزول المسيح إلى الأرض، وقيام معركة دموية بين الخير والشر، لتنتهي بانتصار الخير، وبعد زمن قليل ... ينتهي العالم!!!! هذا الخطاب الأصولي، وفي سبيل تحقيق الرؤيا، يسعى إلى رفع (الظلم) عن المؤمنين من خلال نبوءات دينية بحتة، والمشكلة ـ الكارثة تكمن في التفسير العقائدي لهذا الحدث، والذي يزداد شرعية من خلال إعلام الكاسيتات، والتواتر التقني عبر الإنترنت، ليعزف على وتر العقيدة، مما يدخل (الاجتهاد الفردي)، بتفسير النص إلى خانة المقدس غير القابل للتأويل، ويسهل عملية تجييش البسطاء من (المؤمنين) في حرب تدميرية شاملة، طمعاً بجنة سماوية أو أرضية، وهذا في النهاية ـ حسب الخطاب الأصولي ـ أمر إلهي قادم من (الله) مباشرة، وعليه ... فلا يجوز النقاش فيه. في الجهة الأخرى، هناك إدارة أميركية (جمهورية جديدة)، حوالي 90% من قاعدتها في معظم الولايات خاضعون للكنيسة البروتستانتية المجددة (التدبيريون)، وهم يؤمنون أيضا بضرورة محاربة الشيطان و (محاور الشر) في العالم، وتؤمن بالعنف و (إلغاء الآخر) الشرير بالمطلق، بهدف الوصول ـ حسب رؤيتهم ـ إلى عالم يوتوبي مثالي (مملكة الرب)، حيث يقيم (المؤمنون) دولتهم، وفي نفس السياق الميثولوجي الغريب، فلا بد من السعي إلى (إنهاء العالم)، وتجميع اليهود في فلسطين للوصول إلى المعركة الحتمية الفاصلة وميدانها سهل (مجيدون) في الأرض المقدسة، وهي أرض الميعاد لهذه المعركة التي وعد بها الرب، ولا خوف على (المؤمنين) من السلاح النووي، لأن المسيح سيبعث من جديد، ويحمي أتباعه. فأصولية هؤلاء هي صورة مشابهة تماما لأصولية (ابن لادن) وهم يرون أن هجمات 11 سبتمبر هي بداية حرب دينيه ضد الكفر والكفار، وهذا ما تم تمهيد الأرض له من قبل الكنائس الراديكالية التي تروج لمقولة: "الأشرار يجب أن يعاقبوا والأخيار يجب أن يكافئوا. لقد جاء وقت العنف". ومثل هذه الأفكار هي التي أدت إلى الوصول إلى منطق: "من ليس معنا أي ضد الكفار- فهو ضدنا"، حيث كانت النتيجة الطبيعة هي حدوث خلط متطرف ولاعقلاني بين المقاتلين الإسلاميين المتطرفين، وبين الإسلام كدين وهذه ما جعل القس (فرانكلين جراهام) يذهب للاتفاق مع الرئيس بوش بصورة متطرفة واضحة حتى انه يصف الإسلام بكامله في خطبه "بأنه

(أقصى أنواع الشر) وبأنه دين ذميم، فلسنا نحن من هاجمنا الإسلام بل هو الذي هاجمنا". بينما يقول زميله (جيري فينز) القس الأكبر لكنيسة بابست في فلوريدا في خطبه: "أن المسيحية تأسست على يد سيدنا المسيح عيسى الذي ولد كابن لله من امرأة عذراء، إنما الإسلام تأسس على يد محمد الذي تلبسه الجن وتزوج من 12 امرأة، أخرهن كانت في التاسعة من عمرها". مضيفاً بقوله: "أقول لكم: أن الله ليس هو يهوه، فان يهوه لم يرسل أي نبي إرهابي". ( ... (¬1) أما القس (اندرو ستيوارت) فإنه يقوم بالدعوة في الكنائس بقوله: "اللهم دمر أعداءنا ودمرهم إلى الأبد وافرد شراعك على رئيسنا وصديقنا رجل تكساس جورج بوش". والمعروف أن هذا القس ينتمي إلى أحد اكبر الطوائف البروتستانتية هي (كنائس بابست) اليمينية المتطرفة، التي تقوم على أسس شديدة التزمت والكراهية والعنف. وفي كنيسة (توماس رود) في ولاية (فيرجينيا) يجتمع أسبوعيا ألف متدين ليس لسماع دروس دينية، بل للانفعال والدعاء لتطهير أمريكا من الكفار ويقوم فيها الواعظ المعروف تليفزيونيا (جيري فالويل) الذي يحظى بمتابعة الملايين لينادي بصراع الحضارات ووجوب الدفاع عن (القيم المسيحية) بأي وسيلة، ومهما كانت الظروف، لتسود العالم. بل انه يرى أن أحداث 11 سبتمبر كانت عقاباً إلهياً للعاصين من شعبه، وان الحل هو عودة المسيحيين لتحقيق كلمة الله بالقضاء على الأشرار. ويستخدم في ذلك الإنترنت الذي أصبح وسيلة سريعة لنشر التطرف بين هذه المنظمات، حيث يمكن القول أن الثقافة الأصولية الأمريكية في العشرين عاماً الماضية شكلها المقاتلون والمتعصبون الذين يزدادون نفوذاً (¬2). والمفارقة هنا أن هذا الخطاب المسيحي اليميني المتطرف كذلك، صادر من (الرب) مباشرة، وإستراتيجيته قائمة على .. "من هو ليس معنا، فهو معهم! " حسب تعبير سيد البيت الأبيض الواشنطوني جورج والكر بوش. ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص45أو صحيفة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 17/ 2/2003م - وجريدة الأسبوع العربي 24/ 2/2003 م (¬2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص45أو صحيفة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 17/ 2/2003 - وجريدة الأسبوع العربي 24/ 2/2003م

حذار الحرب الصليبية الجديدة

وفي الحين الذي يبدو ابن لادن خارجاً عن سياق كثير من المؤسسات الدينية التي أعلنت أن هذا ليس من الإسلام، وأن القرآن يحض على التسامح والخير، بدا بوش أيضاً كذلك، فالطوائف المسيحية الرئيسة كلها (باستثناء حزام التوراة الجنوبي) أعلنت موقفاً ضد الحرب، عبر عنه موقف البابا (يوحنا بولس الثاني) الذي عاد إلى مانوية بوش معكوسةً معتبراً أن "الخيار بين السلام والحرب هو خيار بين الخير والشر" (¬1). ويغذي الأصولية الأولى، شيوخ (رجال دين) من أمثال (الملا محمد عمر)، و (أسامة بن لادن)، و (أبو حفص المصري)، ويغذي الأصولية الثانية قساوسة (وهم رجال دين أيضا)، من أمثال (بات روبرتسون) و (جيري فولويل)، و (ديك تشيني)!!! ... نعم، ديك تشيني، الملتزم حد التعصب بما يعتقد، والمؤمن بضرورة العنف للوصول إلى (الأرماجيدون)، في سبيل بعث المسيح مرة أخرى!! (ديك تشيني)، ونتيجة لأي حادث صدفة محتمل، قد يصبح رئيساً دستورياً للقوة الأعظم في العالم، وحينها، فإن (الله) وحده فقط يعلم ماذا يمكن لرجل مثله "يؤمن بخلاص العالم وراحة البشر؟، من خلال تدمير هذا العالم وقتل هؤلاء البشر! " أن يفعل، وطرف سبابته بعيد عن كبسة الزر النووي بضعة إنشاءات لا أكثر!! بلا مبالغة ... أعتقد أن العالم تحت رحمة مجانين! " (¬2). حذارِ الحرب الصليبية الجديدة كتب الاستاذ القدير / جورج حاوي مقالاً رائعاً في صحيفة السفير بتاريخ 15 سبتمبر 2001 بعنوان (حذار الحرب الصليبية الجديدة) تعليقاً على احداث 11 سبتمبر، جاء فيه: "نبدأ بالاستنكار، بل بالإدانة! ونستطرد بتقديم التعازي الحارة إلى أُسر الضحايا، والى الشعب الأميركي المنكوب، والمجروح في كرامته الوطنية وفي كبريائه!. ونعلن رفضنا للإرهاب بكل صوره وأشكاله، ولكل الأعمال الإجرامية التي تطال مواطنين مدنيين عزّلاً وأبرياء ... في كل زمان ومكان. فليس هكذا تحارَب ¬

(¬1) الرجال الثلاثة .. والطريق إلى العراق! (الشبكة الإسلامية) معتز الخطيب * كاتب وباحث سوري (¬2) الحرب العالمية الأخيرة -ما الفرق بين تنظيم القاعدة وطاقم الإدارة الأمريكية- بقلم مالك عثامنة- جريدة المرايا الالكترونية.

الامبريالية، ولا هكذا يمكن التصدي (للنظام العالمي الجديد) ولهجمته الهمجية ضد شعوب الأرض، وبلدان العالم. فمثل هذه الأعمال تخدم عتاة هذا النظام، إلى درجة تسمح باتهام هذه القوى الأكثر رجعية في التاريخ، بأنها، هي، وليس سواها، وراء مثل هذه الجرائم البشعة، أكان ذلك مباشرة، أم بصورة غير مباشرة. ونوعية العنف بالذات تشير إلى انه عنف (أميركي) واخلاقيات أميركية، وأسلوب أميركي، أكان ذلك بفعل اختراق خطير في أعلى درجات القرار في الأجهزة الأميركية، أم بفعل عصابات وميليشيات الإجرام الداخلي، أم وحتى من قبل قوى نقيضة انتقلت اليها عدوى النظام، وعقلية النظام، وأساليبه الاجرامية. أوَلَمْ تصدر في أميركا عشرات الأفلام الشبيهة بما جرى؟ بل مئات لعب الأطفال على الكومبيوتر (والبلاي ستايشن) فيها أعنف مما جرى على الأرض!. فعندما يصبح العنف المطلق وسيلة لتسلية الأطفال، هل نستغرب حصول مثله على أرض الواقع؟ إنه مجتمع العنف المطلق، والمتحرر من أي قيد أخلاقي أو رادع ضميري، أو قيم دينية أو إنسانية. عنف العولمة الذي يسحق شعوب الأرض كما يسحق الإنسانُ نملة أو صرصاراً أو وكر نمل. أوَلم نجد نماذج لهذا العنف حيال العراق، وليبيا، وفلسطين ولبنان ... وحيال غرينادا ونيكاراغوا وكوبا ويوغوسلافيا وكوسوفو ... عبثاً نحارب الإرهاب أن لم نقلع عن نهج إرهاب الدولة (ونموذج ممارسته في تصرف حكام أميركا وحلفهم الأطلسي وأعوانهم الصهاينة)، وعن (عقلية الإرهاب)، و (ثقافة الإرهاب) و (حضارة الإرهاب). أما بعد، فقد أعلنت أميركا الحرب!. وبدأت تفتش عن الضحية، أو عن الضحايا: إنه تارة أسامة بن لادن، والطالبان، وطوراً العراق أو ليبيا. وتسارع إسرائيل إلى القفز على المناسبة، فتحشر اسم سوريا، وحزب الله، والفلسطينيين ... ويذهب شارون إلى أقصى الوقاحة ويحدد الهدف: السلطة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات!. وتسارع الأنظمة، أنظمة الخوف والذعر والإرهاب والقمع ... ليحشر كل واحد منها اسم عدوه

الداخلي ... أو نقيضه. وتتحدد معالم هذا العدو الذي سيشن هذا (التحالف المقدس) حرب الإبادة ضده: إنه الإسلام، والعروبة، وحركات التحرر. وباختصار: انه (الحرية)!. إننا على أبواب شن حرب صليبية جديدة، تقرع لها الطبول، وتحشد لها الأساطيل بحراً وجواً، ويجري نقل الجيوش براً في كل مكان. والعالم أمام مرحلة سوداء، من قمع الحريات، بحجة تدابير الأمن ومكافحة الإرهاب، حيث ستداس البقية الباقية من حقوق الإنسان، وكرامة المواطن، وسط سُعار نار العنصرية ضد (الغرباء) من رعايا دول الغرب بالذات: الجاليات العربية والإسلامية. إنها (الحروب الصليبية الجديدة) وسيلة نشر (النظام العالمي الجديد). ونتائجها ستكون بداية الإرهاب الحقيقي المعمم، وليس نهاية الإرهاب. حذار، وألف حذار قرع طبول الحرب الصليبية الجديدة. فلنقف صفاً واحداً في مواجهة الإرهاب، ندين معاً ما تم في نيويورك وواشنطن، ونبحث معاً عن سبل حقيقية لمعاقبة مسببيه، ومفتعليه، والمجرمين الذين نفذوه. ولنبحث عن سياسة جديدة لاستئصال الإرهاب. ونحن، ضحايا الإرهاب، أَولى من سوانا بمواجهة الإرهاب. ندين الإجرام بشدة، نعم! ولكن لا نرتعب أمام هجمة الثور المجروح، الباحث عن تغطية عجزه الداخلي بانتقام جهنمي من شعوب العالم. نواجه، نقاوم الإرهاب القادم من الغرب متمسكين بثقافتنا وحضارتنا، وتعاليم أدياننا السماوية ومبادئنا الإنسانية. حضارتنا ... نعم حضارتنا، وقيمنا العربية، والإسلامية، والمسيحية المشرقية، تلك التي وقفت في وجه الغزوة الصليبية السابقة وأحبطت أهدافها، وستقف صفاً واحداً في وجه الهجمة الصليبية التلمودية الجديدة، وتحبط هدفها! " (¬1). ¬

(¬1) جورج حاوى- صحيفة السفير -15 أيلول - سبتمبر 2001

الفصل الثامن حرب الخليج الثالثة

الفصل الثامن حرب الخليج الثالثة بوش يركب الزوبعة .. ويوجه العاصفة لتدمير العراق في عام 1998م افتعلت الإدارة الأمريكية مشكلة مع العراق لإيجاد مبررات لضربه وتدميره، فيما عرف وقتها بازمة القصور الرئاسية، حيث قوبلت هذه المحاولة الأمريكية برفض دولي واسع، تدخل على أثرها كوفي عنان وتوصل لحل لها. وفي حينها قمت بنشر دراسة في جريدة القدس العربي بعنوان (البعد الديني للضربة الأمريكية للعراق) بينت فيها الإبعاد الدينية لضرب العراق وحصاره، وتساءلت في نهاية الدراسة بالقول: نجاح مهمة عنان .. هل ينهى المشكلة؟؟ وقلت: "بعد الانتهاء من كتابة هذا الموضوع، تناقلت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة نبأ توصل أمين عام الأمم المتحدة (كوفى عنان) لاتفاق مع القيادة العراقية، فيما يتعلق بالمشكلة القائمة، حيث رحبت جميع دول العالم بهذا الاتفاق، باستثناء أمريكيا وبريطانيا، حيث كان ذلك واضحاً من خلال تصريحات مسئوليها، الذين تلقوا نبأ الاتفاق بحذر وبوجوم شديد بدا واضحاً على وجوههم، مما يعنى أنهم إن قبلوا بالحل السلمي، فإنهم سيقبلونه على مضض، نتيجة الرفض الدولي المنقطع النظير لاستخدام القوة ضد العراق، ونتيجة لاقتناع دول العالم بأن قضية تفتيش القصور الرئاسية التي افتعلتها أمريكا، ما هي إلا حجة وذريعة استخدمتها لتحقيق أمر ما في نفس يعقوب. وتابعت قائلاً: وهنا لابد من التساؤل، هل انتهت المشكلة التي افتعلتها أمريكيا مع العراق، وهل سيتخلص الشعب العراقي من الحصار الجائر المفروض عليه منذ سبع سنوات، وهل ستكف أمريكيا عن ملاحقة الدول العربية والإسلامية وفرض الحصار والعقوبات عليها!! بالتأكيد لا، وسنرى جميعاً في الأيام القادمة مشكلة جديدة ستفتعلها أمريكا لتنفيذ ما تريد سواء مع العراق أو مع إيران أو سوريا .. الخ (¬1). هذا ما كتبته قبل تسع سنوات، ثم جاءت الأحداث لتبرهن على صحته. وأنا ¬

(¬1) راجع الإعداد المنشورة في جريدة القدس العربي ـ أكتوبر 1998 م.

الحرب على العراق

هنا لا ادعى القدرة على التنبوء بقدر ما ادعي القدرة على معرفة الطريقة التي تفكر بها تلك العصابة التي تحكم البيت الأبيض، والتي أصبح دليلها تلك النبوءات والخرافات التوراتية التي عرضنا لبعضها سابقاً. فقد افتعلت أمريكا حربها مع أفغانستان ثم جاء دور العراق، والآن تتجه الأنظار إلى سوريا وإيران ثم مصر للأسباب ذاتها التي شرحناها في هذا الكتاب. الحرب على العراق منذ سنوات حينما تجمع العرب مع دول العالم لضرب العراق في حرب الخليج كتب د. عماد الدين خليل موجهاً كلامه للعرب: "إنكم تضربون العراق بأيد أمريكية، وسوف يكون النصر دامياً لنفوس الجميع، وسوف يكره كل واحد نفسه وأخاه وسوف تفتح جراح عربيه لا تندمل، وسوف تستنزف الثروات العربية بدون جدوى، وسوف يستبقى الأمريكان صدام حسين لاستعماله للتهديد والابتزاز كلما حلا لهم، وكلما احتاجوا إلى رشفة أخرى من المال العربي .. وقد حدث كل هذا وأكثر. لقد كانت مكيدة محكمة شربناها جميعاً وجاءت القواعد العسكرية الأمريكية لتحتل سواحل الخليج والجزيرة العربية تحت شعار معلن، هو حماية بترول العرب من أجل العرب، وبدأ الكل يدفع فواتير الاحتلال الجديد ونفقات الجنود الأمريكان بالدولار وبالبترول المرهون تحت الأرض إلى ما شاء الله، ونزلت بعض الميزانيات العربية إلى ما تحت الصفر والحسابات الدائنة أصبحت مدينه، والجيوب المليئة غدت خاوية. فأمريكا تقتلنا ثم تطلب منا أن نعطيها ثمن الرصاصات التي أفرغتها أو ستفرغها في رؤوسنا. وهذا الابتزاز الأمريكي للمال العربي لا يأخذ صيغة واحدة، وإنما يتدرج بين الاستلاب المباشر تحت مبدأ (حكم القوي على الضعيف) وبين التوظيف غير المباشر لرؤوس الأموال، والفائض المالي وفق صيغ مصرفيه واستثماريه شتى فيما هو معروف للقاصي والداني، وفي الحالتين فإن الذي يحدث هو أن (المال العربي) يستخدم أمريكيا ليس فقط ضد مصالح العرب أنفسهم، وإنما ضد دينهم ومصيرهم معا" (¬1). ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص75

لقد كشف احتلال الأمريكان للعراق عن خسة ونذالة الأنظمة التى تحكم بلادنا والتى لم تقف موقفا واحدا مشرفا بل كانت مواقفها تتسم بالخيانة والعمالة ... لقد وعد الأحمق المطاع بوش أن يكون العراق نموذجا يحتذى به لكنه في الحقيقة صار عبرة لمن يعتبر ... فمن صدقوا وعود ذلك الأفاك الدجال سيكون مصيرهم وبال ... اذن فنحن نعيش في عصر اللاقانون واللاأخلاق واللامبادئ ... ونرى بوضوح أن التوحش الأمريكى لا يفله الا الحديد والمقاومة التى تنخر في عظام الاحتلال وتستنزف قواه حتى يخر صريعا وما ذلك على الله بعزيز ... لقد سقط الاحتلال الأمريكى قبل ذلك في فيتنام وتلاه الاحتلال الروسى فىأفغانستان ... اذن فهذا الكابوس ليس كابوسا أزليا وانما قد اقتربت نهايته باذن الله (¬1). وبعد أن أسدل الستار على الفصل الأول من المأساة .. يرتفع اليوم الستار عن الفصل الثاني من المكيدة الأمريكية، والابتزاز الغربي ليضغط الدائنون الكبار على دول المنطقة الجريحة، التي تنزف دماً واقتصاداً ليقبلوا الأفعى الإسرائيلية في الحضن العربي، ويفسحوا لها مكاناً في أرضهم واقتصادهم ولقمة عيشهم ويوقعوا على سلام إسرائيلي بشروط إسرائيلية وذلك من أجل أن تتدفق الأرض لبناً وعسلاً، ويعم الرخاء على الجميع. واللبن والعسل والرخاء الموعود والجنة الإسرائيلية الفصل الأخير والختامي من المأساة، حينما تفتح إسرائيل نيران ترسانتها العسكرية في مشهد العشاء الأخير الذي يعود فيه يهوذا الاسخريوطي لينتقم من أولاد العم فيما يسمونه في الكتب القديمة معركة هرمجدون، وهي ليست سوى الصليبية الثانية، التي يحلم بها الغرب ليضع بها النهاية الخاتمة للإسلام وأهله وتلك أحلامهم. وقد تحقق منها الفصل الأول بحذافيره" (¬2). نعم بدأ الفصل الثاني .. وجاءت أحداث 11 سبتمبر 2001م (أو بالأحرى جئ بها) لتكون ذريعة كافية لشن حمله صليبية على العالم الإسلامي. فعندما حصل (بوش) على إذن بالحرب بعد أحداث سبتمبر بثمانية أيام، جاءت تصريحات رسمية بأن الحرب قد تمتد إلى عشرة أعوام، ومن أفغانستان إلى مواقع أخرى، فهي حرب ¬

(¬1) الكابوس الأمريكي وحلم الخلاص - محب الصالحين - http://www.almotmaiz.net/vb/showthread.php?t=9872 (¬2) إسرائيل .. البداية والنهاية - مصطفى محمود ص1ـ8

مفتوحة زمانياً وجغرافياً، ولم يكن العراق مستبعداً منذ اللحظة الأولى (¬1). ففي مساء اليوم التالي الثاني عشر من سبتمبر، جرى في إحدى غرف البيت الأبيض هذا الحوار العجيب بين الرئيس الأميركي جورج بوش وأشهر أميركي في مكافحة الإرهاب (ريتشارد كلارك) وفقا لما كشفه هذا الأخير. جورج بوش: اسمع أعلم كم أنتم مشغولون الآن ... لكنني أريد منكم بأسرع ما يمكن أن تراجعوا كل شيء .. كل شيء ابحثوا لعل صدام فعل هذا ابحثوا لعل له صلة من أي نوع. كلارك: ولكن سيادة الرئيس القاعدة هي من فعل هذا. جورج بوش: أعلم هذا .. أعلم هذا ولكن ابحث فيما إذا كان صدام متورطاً فقط ابحث، أريد أن أعرف كل خيط. كلارك: بكل تأكيد سنبحث من جديد. وعندما غادر الرئيس حدقت إحداهن في كلارك متمتمة، يا إلهي لقد تمكن منه وولف فيتس" (¬2). فحتى حينما كانت الحرب على أفغانستان بقيادة الولايات المتحدة تخطط وتنفذ، حيث عجزت الولايات المتحدة، على الرغم من المجهود غير العادي، في العثور على أي روابط مقنعة بين (صدام حسين) و (أسامة بن لادن) أو شبكة القاعدة، مع ذلك فقد ظل جوهرياً في استراتيجية واشنطن أن يستهدف العراق. كانت في جانب منها مسألة (عمل لم ينته): لقد صمم بوش الثاني على إكمال الوظيفة التي كان قد بدأها بوش الأول (¬3). http://www.aljazeera.net/books/2003/4/ - TOP ¬

(¬1) سفر الموت .. من أفغانستان إلى العراق - تأليف محمود المراغي ـ الجزيرة نت (¬2) أجراس الخطر .. الحقيقة وراء 11 سبتمبر ج3 - قناة الجزيرة برنامج سرى للغاية- مقدم الحلقة: يسري فودة- تاريخ الحلقة: 22/ 9/2005 (¬3) استهداف العراق - العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية - جيف سيموند - مركز دراسات الوحدة العربية ص18

مسار أزمة العراق

مسار أزمة العراق منذ عام 1990م مرت المسألة العراقية بأحداث كثيرة، أهمها قرار مجلس الأمن رقم 661 الذي يقضي بفرض عقوبات اقتصادية على العراق، ثم الحرب الأمريكية مع حلفائها عام 1991م على العراق، وانسحاب العراق من الكويت، وإلزامه بتفكيك أسلحة الدمار الشامل والصواريخ بعيدة المدى، وتنظيم ما يسمى منطقة حظر الطيران في شمال العراق وجنوبه، ومواصلة ضربه بالصواريخ ومراقبة أرضه وأجوائه، ثم إطلاق (برنامج النفط مقابل الغذاء) تحت إشراف الأمم المتحدة عام 1996م، حيث استقال المشرف على البرنامج (دينس هاليداي) بعد سنه وبرر استقالته بالقول: "إننا في مسار تدمير مجتمع بكامله". وفي عام 1998م أوقف العراق تعاونه مع (أونسكوم) بعدما رفض مجلس الأمن تأكيد أن العقوبات الاقتصادية سترفع في حال التثبت من نزع الأسلحة العراقية، وبعدها قصفت القوات الأمريكية والبريطانية العراق على مدى أربعة أيام في (عملية ثعلب الصحراء) من دون استشارة الأمم المتحدة أو إخطارها. وفي عام 1999م كشفت معاينات أجرتها اليونيسيف في جنوب العراق ووسطه أن معدل وفيات الأطفال تضاعف من 56 حالة وفاة لكل ألف ولادة عام 1989م إلى 131 حالة وفاة لكل ألف ولادة. وفي عام 2000م استقال منسق الشؤون الإنسانية (هانز فون سبونيك) احتجاجا على العقوبات الاقتصادية، وواصلت أميركا وبريطانيا قصفهما لمواقع عراقية ومحطات رادار بحجة خطورتها على الطيارين الأميركان والبريطانيين. وفي عام 2002م وضعت قائمة طويلة خاصة بالسلع المزدوجة الاستخدام التي لا يسمح للعراق باستيرادها، وقد جعلت هذه القائمة التي سميت (العقوبات الذكية) الوضع الإنساني في العراق أسوأ من قبل. القضاء على التفتيش لم تكن السياسة الأميركية والبريطانية معنية بالتهديد الناشئ عن امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، فقد فعلت الولايات المتحدة الكثير لإتلاف نظام التفتيش وإفشاله، هذا بالرغم أن الأمم المتحدة أنشأت بقرارها رقم 687 وكالة

التفتيش الخاصة بالعراق (أونسكوم) لمراقبة نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية والتثبت من ذلك، تمهيداً لرفع العقوبات عن العراق. فبعد سبعة أعوام من أعمال التفتيش والمفاوضات والمراقبة والمواجهة حققت أونسكوم الكثير. وفي بداية عام 1998م رفضت بريطانيا والولايات المتحدة مناقشة إنهاء العقوبات على العراق إذا قررت أونسكوم أن العراق التزم بقرارات مجلس الأمن، وبدا واضحاً أن العقوبات ستبقى مفروضة على العراق في جميع الأحوال والاحتمالات. كما دفعت أمريكا العلاقة بين العراق وأونسكوم للانهيار بالإصرار على تفتيش مواقع حساسة لا صلة مباشرة لها بصناعة أسلحة الدمار الشامل، ويعتبرها العراقيون حساسة من زاوية أمنهم القومي وكرامتهم وسيادتهم الوطنية، مثل مرافق الحرس الجمهوري، ومكاتب الاستخبارات والأمن والقصور الرئاسية. ورغم كل التعجيز الذي وضع في وجه تعاون العراق مع أونسكوم، فإن رئيس اللجنة قال في تقريره: إن الجزء الأكبر من عمليات التفتيش قد نفذ، ومن بين 300 عملية تفتيش كانت هناك خمس حوادث فقط اعتبرها تقرير (بتلر) مخالفة لقرار التفتيش. وكان (بتلر) يقدر ستة إلى ثمانية أسابيع لانتهاء مهمة أونسكوم، وبدلاً من ذلك خربت الولايات المتحدة وكالة التفتيش وأعاقت عمل لجنة أنموفيك (¬1)، حيث كان المسمار الأخير في نعش أونسكوم انكشاف سلسلة من الأسرار تتعلق باختراق الاستخبارات الأميركية للوكالة، وهذا ما اعترف به رئيس الوكالة (رولف إيكيوس) في يوليو 2002م و (سكوت ريتر) الرئيس التالي، وتبين أن فريق التفتيش يضم على الأقل تسعة عملاء سريين شبه عسكريين تابعين لوكالة الاستخبارات الأميركية، حيث استخدمت المخابرات الأمريكية وكالة أونسكوم في التجسس واختراق الشيفرة والاتصالات العسكرية والأمنية العراقية، وقال (ريتر): إنه زار إسرائيل مرات عدة واجتمع بقائد الاستخبارات الجنرال (أيالون)، وقدمت له إسرائيل آلات تسجيل وتصوير رقمية لتسجيل المكالمات المشفرة والمرسلة من أعمق مصادر القوة الأمنية والعسكرية العراقية. ¬

(¬1) خطة غزو العراق (عشرة أسباب لمناهضة الحرب على العراق) - ميلان راي ترجمة: حسن الحسن- بيروت: دار الكتاب العربي، 2003م - عرض/ إبراهيم غرايبة ـ الجزيرة نت

أحداث 11 سبتمبر ـ بوش يعلن حربا في كل الاتجاهات

ويفصل (ديليب هيرو) في كتابه (العراق تقرير من الداخل)، كيفية توظيف المنظمة الدولية كأداة بيد واشنطن لتحقيق أهداف سياسية وأمنية واستخباراتية لا علاقة لها بعمل الأمم المتحدة، سواء عن طريق اختراق لجان التفتيش من قبل السي آي إي, أو عن طريق التلاعب بقرارات الأمم المتحدة, أو السيطرة على لجانها الخاصة بفرض الحصار على العراق، حيث نقرأ تفصيلات مذهلة تكاد تقترب من الأفلام السينمائية في بعض أجزائها (¬1). وقد أشار المحلل العسكري (وليام أركين) أن عملية ثعلب الصحراء استهدفت في الأساس الجهاز الأمني الداخلي في العراق اعتماداً على المعلومات التي جمعت من خلال أونسكوم، وكان اغتيال الرئيس العراقي أهم بالنسبة للولايات المتحدة من تأمين نزع أسلحة العراق. أحداث 11 سبتمبر ـ بوش يعلن حرباً في كل الاتجاهات بعد هجمات 11 سبتمبر على واشنطن ونيويورك اختيرت أفغانستان مره أخرى لهجوم عسكري أمريكي، ولكن هذه المرة كهدف لحملة قصف طويلة بالقنابل بغرض الإطاحة بنظام طالبان الحاكم وتشتيت شبكة القاعدة (¬2). وبعد سقوط طالبان تساءل الأمريكيون عن مسرح حربهم المقلبة لأنهم بحاجة لخوض حرب جديدة. وتعددت الخيارات (الصومال، الفلبين لضرب تمرد الإسلاميين، العراق .... ). حيث طغى على الخطاب السياسي الأمريكي مقاربة (هينغتون) لمّا استخدم بوش تعبير الحرب (الصليبية) ضد الإرهاب، ضد جهاد (بن لادن). وقد أظهر هذا أن فريق بوش يحبذ إعطاء الحروب القادمة صبغة دينية. لكن الصياغة الأكثر تخويفاً هي الرسالة الرئاسية حول حال الاتحاد في جانفي 2002م. "هذا الخطاب السنوي .. الملقى أمام الكونغرس .. أصبح أيضاً منذ رئاسيات عديدة خطاباً حول (حال العالم)، دلالة على اتساع النطاق الإمبراطوري. ¬

(¬1) العراق .. تقرير من الداخل ـ المؤلف: ديليب هيرو - الطبعة: الأولى 2003 - الناشر: London, Granta Books- كامبردج بوك ريفيوز ـ الجزيرة نت (¬2) استهداف العراق ـ العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية ـ جيف سيموند ـ مركز دراسات الوحدة العربية ص44

ففي هذا الخطاب يعلن بوش حرباً في كل الاتجاهات، ومعركة معسكر الخير ضد معسكر الشر مشيراً بصريح العبارة إلى ثلاثة دول أعضاء في الأمم المتحدة، هي كوريا الشمالية، العراق وإيران، وهي متهمة بالسعي للتزود بأسلحة نووية، وبالتالي بقدرات ردعية كافية لا يمكن أن تتحملها الإمبراطورية الأمريكية إن قررت ضربها عسكرياً في المستقبل، حيث شكل خطاب بوش هذا (إعلان وفاة الأمم المتحدة)، هذا بالرغم من أن وفاة الأمم المتحدة قضية مفروغ منها في قول وممارسات إدارة بوش، التي تؤسس ل ـ "قدوم إمبراطورية كونية لا يمكنها أن تقبل أية قاعدة أعلى منها" (¬1). وفيما كانت المرحلة الأولى من حرب الرئيس بوش المزعومة على الإرهاب ـ أي استهداف أفغانستان ـ ماضية بسرعة ـ وكانت غالبية الموجودات العسكرية الأمريكية في أماكنها وخلال أيام قليلة أخذت القنابل في التساقط لتدمر ما بقى من البنية التحتية الاجتماعية لأفغانستان التي مزقتها الحرب، لتسدل الستار على جهود الإغاثة، التي كان ملايين الناس يعتمدون عليها في بقائهم، ولتقتل ـ في أحد التقديرات ـ نحو 10 آلاف مدني، بينما كان كل ذلك يجرى لم يكن هذا كله كافياً لاستراتيجي واشنطن، بل كان يجرى التخطيط بالفعل للمرحلة الثانية من حرب بوش، كما كان يجرى الدعاية لها. فقد كانت بلدان عديدة تذكر باعتبارها تستحق نوع المعاملة التي كانت ستخص سريعاً أفغانستان، ولم يكن بوش قد ألقى بعد خطابه المثير للسخرية عن محور الشر (العراق وإيران وكوريا الشمالية)، ولكن (دولاً مارقة) عديدة، (الدول المثيرة للقلق) كانت تصطف لجذب الانتباه. إيران، العراق، كوريا الشمالية، سوريا، أفغانستان، السودان، الصومال، اليمن، كوبا، العالم كله كان بالتأكيد منطقة غنية بالأهداف. أفغانستان، هكذا اعلن خبراء الدعاية، سيتم التعامل معها. فأين يكون التوجه التالي لقوات الذين يملكون صولجان الصواب؟ لقد ظل العراق الخيار الأكثر ترجيحاً. ¬

(¬1) إمبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة ـ ألان جوكس كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت

فمع غياب عدو حقيقي في الخارج بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وعدم وجود خصم حقيقي في الداخل، أخذ معسكر الحرب يردد بصوت واحد النغمة المعروفة، التي كان مجلس الشيوخ في روما القديمة يرددها إزاء قرطاجه: (يجب تدمير بغداد) (¬1). إما لماذا فهذا لا يهم؟! .. فالسيناريو معد مسبقاً ومحتويات الشريط معروفة من قبل أن نشاهده. لا ينقص سوى العنوان. هل هو العودة إلى بغداد، أو بغداد 2، أو نهاية دكتاتور. أو العدالة الراسخة، أو الإمبراطورية تشن هجوماً مضاداً؟ فلنصبر، فإن اختصاصيي هوليود سيجيبون عن السؤال في الوقت المناسب. فقد أجريت كل الحسابات: عدد القتلى الأمريكيين الذين يمكن أن يتقبله الرأي العام، خليفة صدام، ردود فعل البلدان المجاورة .. كل شئ معلب أو يكاد (¬2). وهكذا فقد تخلى بوش وطاقمه الإداري بعد سنة ونصف من أحداث 11 سبتمبر عن حربه على القاعدة وأسامة بن لادن، واتجه إلى العراق وصدام حسين، بالرغم من أن الإدارة الأميركية، لم تشر قبل عمليات الهجوم على برجي مركز التجارة في 11 سبتمبر 2001م إلى الخطر العراقي الداهم كما فعلت منذ أوائل عام 2002 م. وبينما كان العراق يتهيأ مجدداً لهجوم أمريكي ضار، ومسؤولوه، يسلمون بأنهم يتخذون عدداً من الاحتياطات غير المحدودة، كأن يجري نشر وحدات عسكرية في أنحاء البلاد، والطعام يتم تخزينه في مستودعات الحكومة، كان الرئيس بوش يعلن مجدداً أن دولاً أخرى ستستهدف بعد المرحلة الأولى من الحرب ضد الإرهاب: "اليوم نحن نركز على أفغانستان. ولكن المعركة أوسع. إن كل دولة تملك خياراً لاتخاذه. في هذا الصراع لا توجد أرض محايدة" (¬3). ¬

(¬1) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار ـ ترجمة ميشال كرم ص79 - دار الفارابي - ط1 2004 (¬2) المرجع السابق نفسه ص14 (¬3) استهداف العراق - العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية ـ جيف سيموند ـ مركز دراسات الوحدة العربية ص 51ـ 52

الهدف تغيير نظام الحكم

الهدف تغيير نظام الحكم في شهر أبريل 2002م كشف بوش للمرة الأولى، أن تغيير نظام الحكم في العراق هو هدفه، وبدأت عمليات تصعيد كبرى تتوالى لدق طبول الحرب على العراق، وكانت إدارة المخابرات المركزية في غاية الحماس لعمليات سرية في العراق وذلك لتجاوز العجز الكبير الذي ظهرت فيه غداة هجمات 11 سبتمبر، وبخاصة أنه بعد عدة أشهر من الحرب على أفغانستان لم يمكن القبض على أسامة بن لادن أو اغتياله، وصار مغريا للإدارة الأميركية أن تتحول لتنقض على هدف جلي وواضح مثل العراق. http://www.aljazeera.net/books/2003/4/ - TOP ولما كانت السياسة الأميركية الخارجية ليست موضع اهتمام الرئيس (بوش)، وهو ينظر إلى الموضوع العراقي على أنه اختيار سهل يجلب التأييد والإجماع ويجنبه قضايا شائكة وخطرة سياسياً مثل الضرائب والنمو الاقتصادي، فأنه وفي خطاب الاتحاد السنوي الذي يعرض السياسات العامة الأميركية كان منتظرا تقديم برامج وسياسات داخلية بعد انتهاء حرب أفغانستان، ولكن الخطاب توجه نحو حروب جديدة، وتوسعة لنطاق الحرب والعمليات العسكرية ليشمل برأي (بوش) شبكات الإرهاب في العالم، ودولاً اعتبرها محور الشر، مثل العراق وإيران وكوريا الشمالية. ولما كانت إيران وكوريا الشمالية لا علاقة لهما بأسامة بن لادن، فإن العراق وضعها غامض ويمكن الحديث عن علاقة ما من هذا القبيل (¬1). محاولة ربط العراق بالقاعدة كان فريق المحافظين الجدد الواصل إلى البيت الأبيض مهووساً بخلق مسوغات كافية للهجوم على العراق. وفي قلب عملية صنع القرار الأمني والإستراتيجي، كان هناك تياران يتنافسان في إثبات أيهما أكثر خطراً على مصالح الولايات المتحدة: الإرهاب العالمي وفي مقدمته القاعدة, أم العراق وشبكة الاتهامات ضده من امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل وحتى مزاعم صلاته بالقاعدة والإرهاب وغير ذلك. كان (بول وولفويتز) نائب وزير الدفاع الأميركي، وأحد أهم صقور ¬

(¬1) حرب آل بوش ـ تأليف/ أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش ـ عرض/إبراهيم غرايبة ـ الجزيرة نت

المحافظين الجدد حامل راية الحرب على العراق وعرابها الأهم. فقد كان يستهزئ بالتقارير التي تريد لفت الانتباه إلى القاعدة عوضاً عن بغداد. ففي يوم 11 سبتمبر الذي وقعت فيه الهجمات الرهيبة، وبعد خمس ساعات من ارتطام الطائرات المختطفة بوزارة الدفاع الأمريكية، تلقى الجنرال المتقاعد (ويسلي كلارك) مكالمة غريبة من شخص يمثل البيت الأبيض (لم يصرح باسمه) وقال (كلارك) لمقدم برنامج مقابلة مع الصحافة (تيم راسيرت)، كنت أشاهد محطة ألـ سي. إن. إن، وتلقيت مكالمة في بيتي تقول: "ينبغي ربط الأحداث بعضها بعضاً. هذا إرهاب برعاية دولة. ويجب ربط الأمر بصدام حسين". قلت: "لكن أنا أرغب في قول ذلك، لكن ما هو الدليل لديك؟. ولم أحصل على أي دليل. ولم نحصل نحن على دليل كذلك" (¬1). فقد كان (وولفويتز) ومجموعة قريبة منه يتبنون نظرية غريبة وهامشية، ظهرت في كتاب صدر بعد محاولة تفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك سنة 1993م لمؤلفة يمينية هي (لوري ميلروي). في ذلك الكتاب بذلت (ميلروي) (ص 95) جهداً خارقاً لمحاولة إثبات مسؤولية العراق عن ذلك التفجير, وأن (رمزي يوسف) الباكستاني المتهم الأول لم يكن سوى عميلاً للمخابرات العراقية, وليس أحد عناصر الحركات الإسلامية القريبة من زعيم القاعدة أسامة ابن لادن غير المشهور آنذاك. كانت النظرية تقول: "إن الرئيس العراقي صدام حسين أراد الانتقام من الولايات المتحدة بعد الحرب فنظم ذلك التفجير. لكن الـ CIA والـ FBI لم يكونا على قناعة بضلوع النظام العراقي بذلك, فظل الاتهام يحوم في هوامش المتطرفين اليمينيين، الذين كانوا حانقين على الرئيس (جورج بوش الأب) بسبب عدم إسقاطه لصدام حسين في حرب الخليج الأولى. لذلك فإن فكرة الحرب على العراق تذهب أبعد بكثير من سنة 1998م التي يراها كثيرون كنقطة ارتكاز في فهم تطور ونضوج مخطط الحرب وإسقاط النظام العراقي (¬2). ¬

(¬1) الكذبات العشر - بقلم كريستوفر شير - مدير تحرير موقع "الترنيت دوت اورج"ـ جريدة الخليج ـ 6ـ7ـ2003 ـ عدد 8813 (¬2) ضد كل الأعداء .. رؤية من داخل الحرب الأميركية ضد الإرهاب ريتشارد كلارك - ط1 2004 - الناشر: فري برس، الولايات المتحدة- عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت 10/ 4/2004م

فبعد أحداث 11 سبتمبر تكررت محاوله اتهام العراق بالوقوف وراء هذه الأحداث من خلال محاولة ربطه بالقاعدة، وبدأت الإدارة الأميركية تفكر في الحرب عليه، حيث ألح المتشددون في الإدارة الأميركية مثل (بول وولفويتز) نائب وزير الدفاع الأميركي، (وريتشارد بيرل) على هذه الحرب، وبدأت المجموعة المتشددة وعلى رأسها وزير الدفاع (رامسفيلد) ـ الذي وصفه كيسنجر بأنه الذاهب دائماً إلى الحرب ـ في البحث عن أدلة تربط العراق بالقاعدة، منها ما قيل عن علاقة (محمد عطا) الذي زعم أنه رئيس المجموعة الفدائية التي نفذت هجمات 11 سبتمبر بأحد أفراد المخابرات العراقية، وعن لقائهما معا في براغ، بل إن (وولفويتز) ذكر من شواهد الإرهاب العراقي وفاة (أبو نضال) في بغداد في ظروف مشبوهة كأحد الأدلة ضد (صدام). ونظراً لفشل مخطط ربط العراق بالقاعدة لجأت الإدارة الأمريكية إلى ذرائع أخرى. فلم يكن ثمة حاجة لدليل لتعلم الإدارة الأميركية أنه أقرب إلى المستحيل ربط العراق بشبكات القاعدة. ولكن أمريكيا يمكنها الإدعاء بأن أسلحة الدمار الشامل، التي يمكن أن ينتجها العراق، يمكن أن تصل إلى أتباع التنظيمات الإرهابية، ولا تحتاج الولايات المتحدة إلى الانتظار حتى تقع هذه الأسلحة بأيدي الإرهابيين، بل عليها أن تتحرك وفق إستراتيجية جديدة معلنة لمنع وصول الأسلحة إلى الإرهابيين، وهي الإستراتيجية التي عرضها وزير الدفاع الأميركي السابق في عهد (كلينتون) (وليام بيري) في كتابه (الدفاع الوقائي) (¬1). ولهذا كانت إدارة بوش تعمل جاهدة للعثور على صلات بين النظام الحاكم العراقي والإرهاب، على الرغم من أن (كولن باول)، وزير الخارجية اضطر لأن يعترف بأنه لم يتم العثور على صلة واضحة. وفي نهاية سبتمبر2001م كان ثمة هياج متصاعد في الولايات المتحدة تحريضاً على ضربه لإنهاء النظام العراقي دفعة واحدة وإلى الأبد (¬2)، وبأي طريقة وبأي مبرر. ولهذا فقد كان قرار إعادة عمل لجنة التفتيش عن الأسلحة في العراق مخالفا لرغبة الإدارة الأميركية، فهي تريد تفويضا بالحرب دون حاجة لقرار جديد من ¬

(¬1) حرب آل بوش ـ تأليف/ أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش ـ عرض/إبراهيم غرايبة ـ الجزيرة نت (¬2) استهداف العراق ـ العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية - جيف سيموند ـ مركز دراسات الوحدة العربية ص50

تدين بوش وخطة غزو العراق

مجلس الأمن، ولا تقرير من لجنة التفتيش، ولا تريد أن تتصور أي احتمال مهما كان ضئيلاً لمنع الحرب، ويبدو أنها كانت تدرك أن حربها غير منطقية من وجهة نظر العالم كله بما في ذلك أصدقاؤها وحلفاؤها في أوروبا والدول العربية والدول الأخرى، وفشلت الولايات المتحدة في إقناع مجلس الأمن بحربها غير المبررة على العراق، وكذلك حلف الناتو. وفي الوقت الذي قبل فيه العراق بعودة المفتشين دون قيد أو شرط، بدأت الولايات المتحدة بترتيب أوضاع عسكرية جديدة على الأرض بسرعة مذهلة. ووقعت الحرب كما يعلم الجميع (¬1)، حيث رفضت الولايات المتحدة إسناد دور للأمم المتحدة في مستقبل العراق، وهي ماضية في حربها دون مشورة أو تنسيق مع أحد حتى مع أقرب حلفائها (¬2). http://www.aljazeera.net/books/2003/4/ - TOP تدين بوش وخطة غزو العراق تحدث كثيرون عن مجموعة (ريتشارد بيرل) وزملائه في (معهد الاسراتيجيات المتقدمة والدراسات السياسية) الذين هم أصل فكرة غزو العراق. فقد أعد ريتشارد بيرل منذ أعوام ضمن فريق ترأسه من مثقفي اليهود الأمريكيين دراسة عن (الاستراتيجية الإسرائيلية، إلى العام 2000م) قدموها إلى (بنيامين نتنياهو) فور نجاحه في الانتخابات الإسرائيلية، ودعوا فيها إلى دفع أمريكا إلى غزو العراق باعتبار ذلك جزءاً محورياً من الاستراتيجية الإسرائيلية لاستمرار التفوق العسكري والاستراتيجي في الأمد المنظور. كما دعوا إلى انتهاج سياسة هجومية عدائية ضد الفلسطينيين، والتخلي عن فكرة (السلام الشامل) لصالح فكرة (السلام القائم على ميزان القوى). وقد ورد في سيرة حياة (ريتشارد بيرل) الذي ترأس فريق الدراسة آنذاك، أنه عمل عضواً في مجلس إدارة (المعهد اليهودي لدراسات الأمن القومي) ومديراً لصحيفة (الجروسالم بوست) الإسرائيلية. لكن الأهم والأغرب أنه ترأس (مجلس سياسات الدفاع) في الولايات المتحدة، وعمل مستشارا لوزير الدفاع (دونالد ¬

(¬1) حرب آل بوش - تأليف/ أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش ـ عرض/إبراهيم غرايبة ـ الجزيرة نت (¬2) خطة غزو العراق تأليف: ميلان راي ترجمة: حسن الحسن ـ عرض/ إبراهيم غرايبة ـ الجزيرة نت

رامسفيلد)، مع العديد من اليهود الأمريكيين المحيطين بوزير الدفاع الأمريكي، وليس أقلهم شأناً نائب الوزير (بول ولفويتز). وقد قدمت قناة "سي أن أن" (ريتشارد بيرل) في مقابلة معه، على أنه "الرجل الذي ينظر إليه باعتباره صاحب فكرة غزو العراق" .. ولا يترك (أفرايم كام) الباحث في (مركز جافي للدراسات الاستراتيجية) بجامعة تل أبيب، شكاً في أن إسرائيل هي صاحبة المصلحة الأولى والأخيرة في غزو العراق، وذلك في دراسة له منشورة بعنوان: (صبيحة ما بعد صدام). لكن ما هي علاقة كل ذلك بتدين (جورج بوش)؟ الحق أن العلاقة وطيدة، لأن اليمين المسيحي الذي ينتمي إليه (جورج بوش) يؤمن بأن إسرائيل مشروع إلهي، ومحطة تاريخية لازمة لعودة المسيح. وكل رجال الدين الأقوياء الذين يقفون وراء (بوش) ويمثلون القاعدة الانتخابية للحزب الجمهوري معروفون بولائهم لإسرائيل في عقائدهم ومشاعرهم. وهذا المعتقد الديني الراسخ هو الذي يجعل رجلاً مثل (بوش) يتبنى الخطة الإسرائيلية لغزو العراق، حتى ولو عنى ذلك إشعال الحرب مع العالم الإسلامي، وانهيار العلاقات التاريخية بأوربا (¬1). وهكذا فإن خطة العدوان على العراق هي خطة إسرائيلية وضعها الصهيوني الأمريكي (ريتشارد بيرل)، بمشاركة عناصر هامة من اللوبي اليهودي الصهيوني، وجرى إقناع الرئيس (بوش) بتبنيها باعتبارها بداية تحقيق الحلم الإلهي الكبير بقيام دولة إسرائيل الكبرى، التي ستمهد لعودة المسيح ونشر المسيحية في أنحاء العالم الإسلامي بعد القضاء على الإسلام. اقرأوا ما نشرته مجلة النيوزويك في عدد 10 مارس 2003 م عندما قالت: "إن أنصار بوش من الإنجيليين يأملون أن تكون الحرب القادمة على العراق فاتحة لنشر المسيحية في بغداد". فأمريكا تتحرك الآن وفي يدها الصليب الذي تحمله دعاوى زائفة، ومجموعة الهوس الديني داخل البيت الأبيض، قررت أن تشن حرباً دينية مرتبطة بمخطط استراتيجي هدفه القضاء على الأمة وعقيدتها، والسيطرة على كل مناحي الحياة على أرضها (¬2). ¬

(¬1) بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية- محمد بن المختار الشنقيطي - الجزيرة نت 21/ 3/ 2004م (¬2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ أحمد حجازي السقا125

في مهمة إلهيه حرب جورج بوش الصليبية

في مهمة إلهيه حرب جورج بوش الصليبية في مقال منشور في جريدة الأسبوع المصرية في 24/ 2/2003م ما نصه: "التقرير الذي نشرته مجلة دير شبيغل الأولى في ألمانيا وإحدى أهم المجلات الأسبوعية الأوروبية والعالمية، كتبه كل من (هانز هو بنج) و (جيرهارد شبرول) ولأهميته، تم وضعه ليكون عنوان الغلاف في عددها الصادر يوم الاثنين 17 فبراير 2003م ويحمل عنواناً (في مهمة إلهيه حرب جورج بوش الصليبية)، بدأها الكاتبان بالتأكيد على أن الرئيس بوش لا يريد باجتياحه بغداد إلا أن يقوم بتنفيذ (تكليف إلهي) يقوم على أفكار مسيحية يمينيه متطرفة، وعلى ما يبدو فمن النادر أن تجتمع المصالح القومية المتطرفة، والأصولية الدينية الأمريكية بهذه القوة، كما هي اليوم إلى الحد الذي أصبح فيه المسيحيون المتحمسون يطالبون علنا بشن (حرب صليبيه) ضد الإسلام". وتضيف المجلة: "انه كلما اقتربت حرب العراق، ازداد الرئيس في الحديث عن معتقداته وقيمه. لذا فان تقواه الدينية لها تأثير كبير على تعامله مع هذه القضية، ورغم انه يعرف أن أمريكا في أزمة وطنيه إلا أن الرئيس يقدم نفسه كواعظ، بل ويتحدث عن أسس سياسته بطريقة اقرب إلى نبرة القساوسة". فبوش يقول: "إنني مقتنع بأن الله وضعني في منصبي في هذه اللحظة التاريخية، أرجو أن أكون قبل الجميع قويا بما يكفي لتحمل هذه المهمة المقدسة". ويضيف قائلا: "لقد نادانا الله للدفاع عن بلدنا ولنقود العالم إلى السلام". وتعلق مجلة (دير شبيغل) على ذلك بقولها: "إن البيت الأبيض لا يمثل فقط قلب وعقل القوة العظمى اليوم بل هو أيضا مكان تجمع الأتقياء والمتدينين". وتنهي (دير شبيغل) تقريرها بعبارة قالها (بوش) للبحرية الأمريكية في فلوريدا يوم الخميس 13/ 2/2003م بقوله: "ترغب أمريكا في أن تكون بلدا فوق الجميع"، مستندة في ذلك إلى مفاهيم إنجيليه قد سبق لعديد من الرؤساء الأمريكيين الحديث عنها وهي أن: "البشرية بكاملها يجب أن تنظر لأمريكا كيوتوبيا واقعية لمدينة القدس السماوية كمدينة إلهية على الأرض". مثل هذه الادعاءات المفرطة غير المعقولة هي التي تهيمن على السياسة الخارجية الأمريكية، فحكومة بوش حاولت منذ البداية تبرير حربها ضد العراق بأسباب متناقضه مرة بسبب علاقة صدام حسين وابن لادن التي

لم ينجحوا أبداً في إثباتها، ومرة لتغيير النظام العراقي المعادى لأمريكا، ومره لتدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية، ومره لضمان أمن احتياطي النفط في الشرق الأوسط، ثم مرة أخرى لتحرير الشعب العراقي من صدام حسين. ورغم أن هناك أهداف معروفه لحربه ضد العراق مثل تدمير أسلحة الدمار الشامل، والسيطرة على النفط وتدمير منظمة الاوبك، إلا أن مهمته (التبشيرية) أو ما يسميه (التكليف الإلهي) لها اثر أعمق في هذه الحرب. فهو يؤدي إلى سيطرة نوع من الراديكاليه الورعة، كما أن هناك شائعات تقول: إن بوش يحكم ولا يحكم بمعنى أن الكلمة العليا للنظام الرئاسي الذي يضم وزير الدفاع (رامسفيلد) ووزير الخارجية (باول) ومستشارة الأمن (كونداليزا رايس) ونائب الرئيس (ديك تشيني)، الذي يزداد نفوذه كثيراً عن مجرد نائب للرئيس". وتضيف المجلة: "إن الرئيس الضعيف قد يكون خطراً، إلا أن الرئيس المؤمن ربما يكون أخطر على العالم، خاصة إذا أخفقت خططه لتحسين العالم (¬1). وبعيداً عن المسوغات القانونية أو العقلانية للحرب, يلتقط (ديليب هيرو) في كتابه (أسرار وأكاذيب عملية تحرير العراق) أسبابا (غيبية) للحرب, وهي مدهشة. فهو أولاً يشرح التأثيرات المسيحية الأنجليكانية على الرئيس (جورج بوش) , وكيف قال ذات يوم لمجموعة من رجالات الدين اجتمع بهم في البيت الأبيض: "لولا الإيمان ولولا قوة الصلاة، لكنت الآن في بار بتكساس, وليس في البيت الأبيض". ثم يقتبس مقتطفات قالها لرئيس الوزراء الفلسطيني السابق (محمود عباس) في يونيو 2003م نقلتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية جاء فيه: "لقد أمرني الرب أن أضرب القاعدة وقد ضربتهم, ثم أمرني أن أضرب العراق وقد ضربته, والآن أنا مصمم على حل المشكلة في الشرق الأوسط". ويعلق (هيرو) ساخراً: "وحيث أن (جورج بوش) كان قد قرر ضرب أفغانستان ظهر يوم 11 سبتمبر نفسه, فيبدو أن الرب قد تحرك سريعاً حقاً لتزويده بالأوامر! " (¬2). ¬

(¬1) صحيفة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 17/ 2/2003ـ وجريدة الأسبوع العربي 24/ 2/2003م (¬2) أسرار وأكاذيب .. عملية "تحرير العراق" وما بعدها ـ ديليب هيروـ ص 383 - عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ المصدر: الجزيرة.

الصراع بين الخير والشر

فالرئيس (بوش) يرى وفقاً لمعتقداته "أن الخطر الأكبر على ظهور المسيح سيكون من خلال العراقيين حيث أنهم الأكثر تأهيلاً لقتال إسرائيل، وان أي ضعف ديني أو سياسي لإسرائيل سيؤدي إلى تأخير عودة المسيح. وان كل يوم يمضي دون ظهور المسيح ستلعن فيه طائفة الميسوديت ـ التي ينتمي إليها بوش ـ وان هذه اللعنة ستجعلهم يعذبون يوم القيامة" (¬1). كما أن القس (دافيد بريكنر) يقول: "إننا نعرف أن تدمير بابل الذي ورد في الإصحاح 18 يعني تدمير العراق"، كما إن القس تشالز داير أستاذ اللاهوت في جامعة دلس يدعي "إن إصحاح اشعيا 13 يشير إلى قيام صدام حسين والى غزوة للكويت، وذلك لإقامة قاعدة للهجوم على إسرائيل". واعتبر القس داير في تفسيراته لهذه النبوءات " (صدام حسين) خليفة (نبوخذ نصر)، الذي هزم الإسرائيليين وسباهم إلى بابل ودمر الهيكل، وذلك بسبب عدائه لإسرائيل وبسبب نواياه لإعادة بناء بابل". وهكذا تبدو عملية ربط الوقائع السياسية بالنبوءات الدينية عملية متحركة فإذا كان القس (داير) يعتبر العراق اليوم بمثابة بابل القديمة فان القس (سكوفيلد) وهو من اللاهوتيين المؤسسين لهذا الفكر الصهيوني الإنجيلي في الولايات المتحدة يرفض فكرة التماثل الحرفي بين العراق وبابل، ويقول: "إن المقصود ببابل وما تمثله من خطر على إسرائيل، هو الفاتيكان بسبب ما يكنه (سكوفيلد) وأمثاله من عداء للكاثوليكية وللبابوية" (¬2). الصراع بين الخير والشر لقد عميَ بوش عن رؤية الآثار السلبية التي قد تنتج عن حربه ضد العراق، ومنها: سقوط عدد كبير من المدنيين العراقيين والعسكريين الأمريكيين في القتال، ومزيد من الهجمات داخل أمريكا، وحدوث أزمة نفطية عالمية، وتعميق الجفوة بين العالم الإسلامي وأمريكا، واحتمال انهيار بعض الحكومات الموالية لواشنطن، وعزلة الولايات المتحدة في العالم، وبث الكراهية لها في أركان الأرض .. الخ. وبدلاً من الرد ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص192 (¬2) الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - ص53

بوش و معركة هرمجدون كما جاءت في سفر اشعياء

على هذه الاعتبارات العملية بحجج عملية مناقضة، فإن (جورج بوش)، يصوغ خطابه بلغة المطلقات: صراع بين الخير (أمريكا) والشر (العرب والمسلمون)، ورسالة أمريكا التاريخية لنشر الحرية، منحة الرب المقدسة لكل البشر .. وهو خطاب يجذب اليمين المسيحي، ويرضي اليمين اليهودي، ولا يهم ما يحدث بعد ذلك. فخطاب الرئيس (بوش) يذكر بخطاب المستعمرين في القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين، وحديثهم عن (مسؤولية الرجل الأبيض) و (الهم الذي يحمله بين جنبيه) و (العبء الملقى على عاتقه) لنشر الحضارة، وتمدين الشعوب المتوحشة!! فالرئيس (بوش) الذي يعتقد بأنه رسول العناية الإلهية وأن جنوده هم جند الله على أرضه، قال في إحدى خطبه الملتهبة قبل الحرب على العراق واصفاً الأمة الأمريكية بأنها: "تلك الأمة الإلهية التي تقودها اعتبارات أخلاقية غير قابلة للتفاوض، وعلى فضائلها أن تنطبق على العالم بأسره" (¬1). فها نحن إذن إزاء نداء سماوي هبط على واشنطن في ليله ظلماء، فالمسيحي الذي جرى تهويده ينتظر الخلاص، وقد يتولاه بنفسه لأنه نافذ الصبر، متعجل من أمره، وأمر دمار العالم، وما كنا نتوقع من عصر القنابل الذكية، والانترنت، الذي يطرح نفسه بديلاً لجملة حضارات دفعة واحدة، أن يفرز هذا الغباء، الذي حاول عدد من الأمريكيين رصده، وهم يكتبون سيرة آخر الرؤساء. فالسانت (بوش)، لم يكن يعرف شيئاً عن السياسة الدولية، وظل يتصور حتى العام الماضي أن (جوزيف بروز تيتو) على قيد الحياة والرئاسة في يوغسلافيا. ومن يقرأ ما كتبه الساخرون عن رئيسهم تأخذه الدهشة، وقد يعيد النظر بما كان للتو مسلمات في المشهد الثقافي الأمريكي" (¬2)! بوش و معركة هرمجدون كما جاءت في سفر اشعياء يأخذ البعض على بوش النظرة الجبرية التي تسم رؤيته الشخصية والسياسية، إذ تشير الكاتبة (دانا ميلبانك) إلى أن الحرب على العراق، "يراها كثيرون مغامرة، لكن بوش يعتبرها حتمية تاريخية"، وتضيف الكاتبة: "إن هذه الثقة رغم ¬

(¬1) جريدة الخليج 3ـ5ـ 2003 م (¬2) افق آخر- خيري منصور - سانت بوش ـ الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695

المخاطر ورغم قوة المعارضة للحرب، تكشف الكثير عن شخصية (بوش) ورؤيته للعالم. ويعبر الرئيس (بوش) عن هذه الحتمية التاريخية بقوله: "إننا نؤمن بأنفسنا. لكن ليس بأنفسنا وحدها. إننا لا نزعم أننا نعرف كل الطرق التي تعمل بها العناية السماوية، بيد أننا نثق بها ونضع كل ثقتنا في الله المحب الذي يقف وراء كل التاريخ". فالله له دور فعلاً في أفعال بوش .. ) كما يعتقد المبشر (ستيف كلارك) (¬1). وقد قام المؤرخ (بول س. بوير) وهو أستاذ في التاريخ في جامعة ويسكونسن، بتحليل خطاب (حال الاتحاد) الذي أعلن فيه الرئيس الأمريكي: "أنه يمكن لصدام حسين أن يثير يوم رعب لم يعرفه أحد". وخلص من خلاله أن بوش في كلامه هذا "يعود إلى ذكرى الحادي عشر من أيلول مستعملاً مفردات مرمزة وقديمة، تذكرنا برؤيا القيامة وتتضمن رسالة محددة تطال المؤمنين وتعلن عن نهاية قريبة ليس نهاية صدام حسين فحسب، بل نهاية التاريخ البشري كما عرفناه حتى يومنا هذا" (¬2). فقد ظن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) أنه مبعوث العناية الإلهية فزعم أنه في حربه على العراق إنما ينفذ مهمة إلهية مقدسة، وأن الله يبارك هذه الحرب. وبوش في تبريره للحرب يزعم: "أن ما جاء في العهد القديم ولا سيما في سفر اشعياء النبي الفصول 10،13،47، وهي الفصول التي تتحدث عن أشور وبابل وخرابهما، لا بد أن يتحقق في العراق اليوم". وبوش بتفسيره الخاطئ لنبوءات الكتاب المقدس، إنما ينتمي إلى بعض الجماعات المسيحية الأصولية، التي تربط بين مجيء المسيح ثانية، وبين دولة إسرائيل الحالية. فبوش يظن أنه عندما يحارب أعداء إسرائيل فهو يتمم نبوءات الكتاب المقدس، ويعجل بنهاية العالم، ومجيء المسيح ثانية. وما يؤكد هذا: أن (جورج بوش الأب) أثناء غزو العراق للكويت، كان يستمع للواعظ الشهير (بيلي جراهام) في موطنه بولاية Miame ووعظ (بيلي جراهام) عن المعني الكتابي لبابل وقال لسامعيه: إن الأحداث التي تجري الآن في الخليج قد تكون لها دلالة روحيه فإن الموقع الجغرافي لبابل هو الآن في العراق". ¬

(¬1) جريدة الخليج 11ـ3ـ 2003 م (¬2) عالم بوش السري ـ اريك لوران ـ ترجمة سوزان قازان ص20

وقال (جراهام): "إن هذا المكان هو الذي ابتدأ فيه التاريخ وان الكتاب المقدس يعلمنا أن التاريخ سينتهي من حيث ابتدأ. ويبدو أن (بوش الابن) ينتمي إلى نفس المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها أبوه، فهذه المدرسة تخلط بين الحقائق الدينية والأحداث السياسية، وتخرج باستنتاجات حول نهاية العالم ومجيء المسيح ثانية. وهذه المدرسة عندما تفسر نبوءات الكتاب المقدس لا تطبق مبادئ علم النفس فلا تراعي النص الأصلي، ولا تاريخه، ولا ظروف كتابته، ولا القرائن المختلفة للنص. كذلك لا تركز هذه الجماعات على التفسير التاريخي للنبوءة بل تعطيها بعداً مستقبلياً وتربطها بالأحداث السياسية المعاصرة. الأمر الذي يشبع الفضول البشري، لذلك فإن بوش عندما يقرأ سفر اشعياء ويفسره بما يتماشى مع أهوائه وأغراضه السياسية يرى في نفسه أنه متمم هذه النبوءات، وأنه مبعوث العناية الإلهية، وأنه بتدميره العراق إنما ينفذ مهمة إلهية مقدسة" (¬1). مما تقدم يتضح أن بوش يعتبر نفسه موضوعاً على جدول أعمال الله، وبالتالي فكل ما يفعله ـ بما في ذلك الحرب على العراق ـ يعتبر تجسيداً لمشيئة العناية الإلهية وإرادتها .. كما يقول (جيم كودي) المبشر البروتستانتي البارز. يقول (سانت بوش) في خطاب الأمة في 29 يناير عام 2003م: "الحرية التي نناضل من أجلها ليست هدية أمريكا إلي العالم، بل هي هدية الرب إلى البشرية". وهنا هل يمكن لعاقل أن يرى بالعبارة التي وردت علي لسان (السانت)، وهي الحروب الصليبية مجرد زلة لسان؟ خصوصاً إذا تذكرنا ما قاله بالحرف الواحد في خطاب ألقاه في حفل تخريج في أكاديمية (ويست بوينت) العسكرية: "بعد الآن ستسمى أمريكا الشر باسمه". وأول ما يمكن استخلاصه من هذه الجملة هو أن أمريكا هي الخير الخالص، والنور المحض مادامت تقع علي النقيض التام من الشر غير المسمى بعد! " (¬2). لقد أعلن (جورج بوش الصغير) أن العالم بات مقسوماً بين الخير والشر وبين المؤمنين والكفار، والمؤمنون هم أولئك الذين يرتضون القيم الأمريكية للرأسمالية ¬

(¬1) مجلة روز اليوسف 12ـ4ـ2003 القس/ رفعت فكرى سعيد راعى الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف ـ شبرا مصر (¬2) أفق آخر خيري منصور ـ سانت بوش ـ الخليج ـ 10ـ3ـ2003 م ـ عدد 8695

لاري فلايشر يهدد صدام بما كتب على الحائط

الانكلو ـ ساكسونية برمتها، أما الكفار فهم الذين يرفضونها، ويجب على الأمم الآن أن تقرر ما إذا كانت مع هذه القيم أو ضدها، وعليها كذلك أن تقرر إن كانت مع الحرب الأمريكية على الكافرين بهذه القيم. وهنا تصبح الدول التي لا تقبل بالقيم الأمريكية والغربية دولاً شريرة بشّرها (بوش) بعذاب أليم (¬1). وهنا يبدو أن تقسيم بوش للعالم إلى محورين لا ثالث لهما، وهما محور الشر ومحور الخير، قد جاء تلبية لنداء ليلي، فالملائكة تحرس الإمبراطورية، وتملي على الرئيس قائمة بأسماء الأسلحة التي يريد تجريبها في لحوم الأطفال العرب والأفغان، حيث أعلن (بوش) أن الحرب ستكون طويلة ضد الإرهاب .. ويا لها من حرب غريبة لا مثيل ولا سابق لها!. لقد بدأت الحرب الأمريكية الجديدة ضد حركة طالبان في أفغانستان، وضد أسامة بن لادن وضد صدام حسين في العراق .. وفي الانتظار قائمة طويلة من الأشرار والدول المارقه التي وردت في ذلك النداء الليلي الذي ترائي للسانت بوش. فكيف يمكن لهذا الجنون أن يكون توأم التكنولوجيا في ذروة عبقريتها؟ وأية كيمياء سياسية هذه التي تمزج الثلج بالنار؟ فيبقى الثلج ثلجاً، وتبقى النار ناراً! لو ادعى أي زعيم في العالم الثالث كل هذا، لوصف بالشعوذة والجنون، وكتبت عنه مئات الكتب التي تحشره في خانه واحدة مع الشيطان، لكن الأمريكي مؤمن ومحروس معصوم، مادامت القوة هي المنطق البديل، ومادام الآخرون لا يفتحون أفواههم إلا ليقولوا نعم، أو ليتثاءبوا"! (¬2) لاري فلايشر يهدد صدام بما كتب على الحائط بعد كل هذه الخرافات والهوس الديني الذي يسيطر على تفكير رئيس أكبر دولة في العالم، فإنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون التهديد الذي أطلقه المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض (آري فلايشر) في يوم السبت 15مارس 2003م قبيل بدء الحرب بأيام على العراق، على شكل رسالة ملغزة إلى الرئيس العراقي صدام حسين يؤكد فيها على ما يلي: "لا يزال هناك وقت لكي يرى صدام ¬

(¬1) إمبراطورية الشرالجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م (¬2) أفق آخر خيري منصور ـ سانت بوش ـ الخليج ـ 10ـ3ـ2003 م ـ عدد 8695

حسين ما كتب على الحائط ويرحل عن العراق". وهنا يستخدم (آري فلايشر) قصة من قصص العهد القديم (التوراة)، وبالتحديد من سفر دانيال، لتهديد الرئيس العراقي ومعناها: أن الملك (بيلشاصر) عمل حفلة ودعا إليها ألفا من عظمائه من الرجال والنساء، وأمر بإحضار آنية الذهب والفضة التي استولى عليها أبوه من هيكل سليمان بأورشليم، وشربوا فيها الخمر. وفي لحظة ابتهاجهم، ظهرت يد إنسان على الحائط وكتبت ثلاث كلمات غامضه المعنى وهي: 1ـ (منا) 2ـ (تقيل) 3ـ (فرسين). فذهل الملك عندما رأى هذه الكلمات، وطلب منجميه لفك رموز هذه الشفرة، ولم يتمكن واحد من التفسير. وعندئذ أرشدته أمه إلى دانيال النبي الذي كان سجيناً في بابل من أيام غزو والده نبوخذ نصر لفلسطين، وسبى اليهود إلى العراق فاستدعاه، وفسر له دانيال هذه الكلمات على النحو التالي: كلمة (منا) تعني أن الله قد أحصى أيام مملكتك، ووضع لها حداً. كلمة (تقيل) تعني، لقد وضعت في الميزان ولم يعد لك وزن. كلمة (فرسين) تعني: أن مملكتك قد قسمت وتم تسليمها إلى الفرس والميديين. ويستطرد دانيال قائلاً: إنه في تلك الليلة تحقق ما كتب على الحائط (¬1). ولما كان بوش ورفاقه يستدلون بنبوءات التوراة والإنجيل على أخذ العراق بالقوة بالتفسير الذي يرونه للنصوص، رأينا أن نوضح نبوءة دانيال عن تشبيه (نبو خذ نصر) رئيس مملكة (بابل) برأس تمثال من الذهب، وقد سحب بوش ورفاقه التشبيه في عصرنا هذا على أهل العراق برئاسة (صدام حسين)، فشبهوا (العراق) ورئيسه (صدام حسين) بـ بابل، ورئيسها (نبوخذ نصر) بالتمثال الذي رآه في الحلم. وعلى كل الأحوال فإن هذه النبوءات ليست إلا دعوة صريحة للانتقام من العراق ¬

(¬1) 1). إلى هنا تم معنى كلام دانيال وقد هدد به (آري فلايشر) الرئيس صدام حسين ليرحل من العراق، لأنه في تلك الليلة قد تم اغتيال الملك بيلشاصر ملك بابل، على يد ملك الميديين البالغ من العمر 62 عاما، والملك (بيلشاصر) هو ابن الملك نبوخذ نصر الذي أنهى ملك اليهود في بابل، وكان (صدام حسين) يشبه نفسه به" ¬عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - أحمد حجازي السقا ص 5

الصدمة والرعب

بسبب نبوخذ نصر المشبه بالرأس من ذهب، ولذلك صرح (بوش) في بدء المعركة مع العراق أنها معركة الرأس، ويقصد بذلك: أن صدام مثل نبوخذ نصر المشبه بالرأس من ذهب في حلم التمثال والحجر في الإصحاح الثاني من سفر دانيال. فكأصولى مسيحي ولد من جديد، يعلم بوش جيداً خطايا بابل القديمة (أحد مواضيع العهد القديم المفضلة) ويعلم الأشعار المصاحبة لسرد تلك الخطايا (¬1). الصدمة والرعب مما يدل على أن بوش ورفاقه يحاربون المسلمين حرباً دينية، أنهم يقتبسون عبارات وردت في التوراة لتطبيقها على العصر الحاضر كما لاحظنا في المثالين السابقين، بل إن الخطط العسكرية سميت بأسماء من التوراة: مثل (الصدمة والرعب)، التي سميت بها خطة غزو العراق. ففي الإصحاح الثاني من سفر اشعياء: "إنه في آخر الأيام سيظهر النبي المنتظر، وسيحارب اليهود الكافرين به والأمم الكافرة في (يوم الرب)، في أرض (هرمجدون) في الساعة التي قال عنها المسيح عيسى ـ عليه السلام ـ إنه لا يعلمها إلا الله وحده. وقال اشعياء مهدداً بهذا اليوم: "ويسمو الرب وحده في ذلك اليوم وتزول الأوثان بتمامها ويدخلون في مغاير الصخور، وفي حفائر التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته، عند قيامه ليرعب الأرض" (¬2). وفي الإصحاح الثامن من سفر اشعياء: "هيجوا أيها الشعوب وانكسروا، واصغي يا جميع أقاصي الأرض. احتزموا وانكسروا. تشاوروا، فتبطل. تكلموا كلمة، فلا تقوم لأن الله معنا. فإنه هكذا قال لي الرب بشدة اليد، وأنذرني أن لا أسلك في طريق هذا الشعب قائلاً: لا تقولوا فتنة لكل ما يقول له هذا الشعب: فتنة ولا تخافوا خوفه، ولا ترهبوا. قدسوا رب الجنود، فهو خوفكم وهو رهبتكم. ويكون مقدساً وحجر صدمة وصخرة عثرة لبيتي إسرائيل. وفخاً وشركاً لسكان أورشليم. فيعثر بها ¬

(¬1) بوش في بابل (إعادة استعمار العراق) - طارق على ترجمة د. فاطمة نصر ص46 - دار سطور- ط1 2004 (¬2) سفر اشعياء - الإصحاح الثامن.

النسر النبيل

كثيرون ويسقطون، فينكسرون ويعلقون فيلقطون عصر الشهادة. واختم الشريعة بتلاميذي" (¬1). النسر النبيل كلنا يعلم ما سقط من لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش عشية غزو أفغانستان حين اعتبر الغزو حرب صليبية جديدة، بل سمى إحدى حملاته العسكرية تلك بعملية (النسر النبيل) أو العظيم مستوحياً تلك التسمية من الكتاب المقدس، حيث يقول يوحنا اللاهوتي: "ولما رأى التنين انه طرح إلى الارض اضطهد المرأة التي ولدت الابن الذكر. فأعطيت المرأة جناحي النسر العظيم لكي تطير إلى البرية إلى موضعها حيث تعال زماناً وزمانين ونصف زمان من وجه الحية. فالقت الحية من فمها وراء المرأة ماء كنهر لتجعلها تحمل بالنهر. فاعانت الارض المرأة وفتحت الارض فمها وابتلعت النهر الذي ألقاه التنين من فمه. فغضب التنين على المرأة وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله وعندهم شهادة يسوع المسيح (¬2) ". فحملة الثأر لضحايا يوم الرعب الأمريكي في نيويورك وواشنطن تأتي تحت عنوان (النسر النبيل) و (العدالة المطلقة). ولكي يتطابق العنوان الموضوع مع الفعل المأمول لا بد ان تتسيد الحكمة منطق المعالجة لكي تبقي العدالة قائمة بعيدا عن الارهاب. فان لم يكن الامر كذلك لن يتم القضاء علي الارهاب بسلاح الاهداف السياسية. وعندها قد تنتهي عدالة القوة المحمولة علي اجنحة النسر النبيل أو العظيم كما تنبأ بها يوحنا اللاهوتي الي القضاء علي نمط محدد من الارهاب، الا انها لن تجتث جذوره. وعندها سنكون بانتظار انماط جديدة ووسائل مبتكرة توقظ الارهاب من مضاجعه. ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - أحمد حجازي السقا ص166 (¬2) نبوءة يوحنا اللاهوتي الاصحاح 12 - (13 - 18)

الصلاة مع ومن أجل الرئيس بوش

الصلاة مع ومن أجل الرئيس بوش عندما ترشح الحاكم (جورج بوش) للرئاسة، أكد أن يسوع المسيح كان فيلسوفه السياسي المفضل، واليوم بعد أن أصبح رئيساً، يبدأ كل اجتماعاته الوزارية بصلاة (¬1). فواشنطن صارت مدينة التقوى والورع، والنفوذ الديني المسيحي اليميني، بدأ يسيطر عليها بصورة غير معقولة، بل إن الشعائر الدينية تقام حتى في البيت الأبيض إلى الحد الذي تبدأ فيه جلسات الحكومة بالصلاة، حيث يطلب الرئيس (بوش) من وزرائه التمتمة بعبارات دينيه بتركيز شديد يقوم فيه جميع من في المكان بتشبيك أيديهم وإغلاق أعينهم وخفض رؤوسهم إلى الأسفل انحناء وورعاً، بينما يقوم المقاتل العجوز (دونالد رامسفيلد) بالتضرع إلى الله. ليس ذلك فقط، بل نجد أيضاً حلقات لقراءة الإنجيل بصورة يوميه في البيت الأبيض. ورغم عدم وجود أي إجبار للعاملين في البيت الأبيض إلا انه يتم تسجيل الحاضرين والغائبين عن هذه الحلقات. فالسباب هناك ممنوع والتدخين والشراب، ليس ذلك فقط، بل إنه لا أحد مسموح له بالعمل هناك دون ملء استمارة تنص على إتباعه جميع الأوامر والنواهي الدينية المنصوص عليها. فحركة الإنجيليين الجديدة تكتسح البيت الأبيض، وتسيطر عليه تماماً، فالقس (ديفيد فروم) الذي كان يقوم بكتابة الكلمات التي يلقيها الرئيس (بوش) في خطبه يقول: "إن بوش يقرأ الإنجيل يومياً (¬2)، ويتحدث عن (أشياء جديده) تعطيه القوة بصورة دائمة. ويؤكد (بوش) ذلك قائلاً: "إنني اصلي لأحصل على القوة والإرشاد والغفران، أرجو من الله الودود الكريم أن يقبل شكري له" (¬3). وهذه الدرجة العالية من التدين تعكسها العبارات الدينية التوراتيه في كلام الرئيس الأمريكي خاصة عندما يتحدث عن الشرق الأوسط، حيث أن كاتب خطاباته وتصريحاته هو القس (مايكل جيرسون) الذي حل في هذا العمل محل كاتب آخر هو (دافيد فروم)، الذي اضطر للتخلي عن عمله لأنه لم يكن يشارك الرئيس إيمانه ¬

(¬1) الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب - من قسم العالم إلى فسطاطين - أسعد أبو خليل ص33 (¬2) تاريخ بوش السري الاسود ورجال البيت الابيض- انيس الدغيدي- ص12 - دار الكتاب العربي- ط1 2004 (¬3) صحيفة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 17/ 2/2003 م ـ وجريدة الأسبوع العربي 24/ 2/2003م.

بالولادة الثانيه. ويذكر (فروم) في مذكراته التي نشرها أخيراً: "إن أول سؤال كان يواجهه في الصباح هو لماذا تغيبت عن الدرس الديني؟ ذلك أنه صباح كل يوم وقبل بدء العمل في البيت الأبيض، يتجمع كبار الموظفين والمستشارين مع الرئيس (بوش) للاستماع إلى موعظة دينيه يقدمها أحد القساوسة تعقبها صلاة ودعاء، ثم يتوجه الجميع إلى مكاتبهم" (¬1). وهكذا تبدو الرئاسة في الولايات المتحدة أشبه بقاعة للصلاة يقوم فيها المعنيون بين قراءتين جماعيتين للعهد القديم أو العهد الجديد بإدارة شؤون أميركا والعالم (¬2). ويبرر مساعدو بوش ومستشاروه عادة الصلاة اليومية بالقول: "ان الرئيس الأمريكي يرتاح حين يؤدي الصلاة لأنها تعطيه قوة داخلية وإيماناً عميقاً" (¬3). وربما لهذا السبب سعى هؤلاء المستشارين لإجبار الجنود الأمريكيين في العراق للدعاء والصلاة للرئيس. فبالرغم من أن الجنود الأمريكيين الذين يشاركون في القتال ضد العراق هم الذين يواجهون الخطر في ارض المعركة، إلا أنه طلب منهم الدعاء من اجل رئيسهم (جورج بوش). حيث وزعت كتيبات علي آلاف من رجال مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) تحمل عنوان (واجب المسيحي)، وتحتوي علي أدعية كما تحتوي علي جزء يتم نزعه من الكتيب لإرساله بالبريد إلى البيت الأبيض، ليثبت أن الجندي الذي أرسله كان يدعو من أجل (بوش). وطبقاً لأحد الصحفيين المرافقين للقوات الغازية فان هذا الجزء يقول: "لقد صليت من أجلك ومن اجل عائلتك وموظفيك وجنودنا في هذه الأوقات التي تسودها حالة عدم اليقين والإضطراب. ليكن سلام الله دليلك". ويقدم الكتيب الذي وضعته جماعة تسمى (ان توتش منيستريز) صلوات يومية من اجل الرئيس الأمريكي. وتقول صلاة يوم الأحد: "ادع من أن يلجأ الرئيس ومستشاروه إلى الله وحكمته كل يوم ولا يعتمدون علي فهمهم الخاص". أما صلاة الاثنين فتقول: "ادع أن يكون الرئيس ومستشاروه أقوياء وشجعاناً لعمل الصواب بغض النظر عن النقاد" (¬4). ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - احمد حجازي السقا ص126 (¬2) عالم بوش السري ـ اريك لوران ـ ترجمة سوزان قازان ص19 (¬3) جريدة الخليج - 11ـ3ـ2003 عدد 8696 (¬4) جريدة الخليج الأحد 30/ 3/2003م عدد 8715

استغلال المسيحية لتبرير الغزو

استغلال المسيحية لتبرير الغزو ليس جديداً علي التاريخ أن يضيف المحاربون إلى غزواتهم جرعة سماوية، ويزعمون بأنهم يلبون نداءً سماوياً، فتلك حيلة لاذ بها غزاة عديدون ادعو الإلهام ... فالطغاة الكبار لديهم وهم كبير أيضاً، فهم يتصورون أنهم خالدون وليسوا من البشر الفانين (¬1). وهنا يعبر القس (فريتس ريتسش) في مقاله له بالواشنطون بوست، عن قلقه من هذه الظاهرة التي تقلب العلاقة التقليدية بين الكنيسة والدولة في التاريخ الأمريكي رأساً على عقب، وتجعل رجل الدين في خدمة رجل الدولة، بكل ما يعنيه ذلك من استغلال المسيحية في تبرير الغزو والاستعمار، وإشعال الحروب مع ديانات أخرى وخصوصاً الإسلام. فالعلاقة بين الرئيس بوش والقاعدة الدينية اليمينية التي حملته إلى الرئاسة ليست علاقة صحية، ذلك أن: "أنصار بوش المتدينين يتصدرون المصفقين له. وبدلاً من أن يقدموا له الهداية الأخلاقية، فإنهم يرضون بأن يكونوا تلاميذ ومريدين له حسب تعبيره. ويقصد القس (فريتس) بذلك قادة اليمين المسيحي من أمثال بيلي غراهام وابنه فرانكلين، وجيري فالويل، وبات روبرتسون، وغيرهم .. وكلهم معروف بصداقتهم الحميمة للرئيس (بوش) ودعمهم المطلق له، وكلهم معروف بعدائه السافر للمسلمين، وهجومه على الإسلام ومقدساته، وبإيمانهم الراسخ بالدولة اليهودية. ويعترف القس (فريتس) بحقيقة تأثير الدين في السياسة الأمريكية اليوم أكثر من أي وقت مضى، فيقول: "لم يحدث في التاريخ أن كانت أمريكا مسيحية سياسياً وبشكل علني مثل ما هي اليوم". لكنه يحذر، "بأن اقتناعنا بأن الرب إلى جانبنا، يجعل الحاجة إلى مراجعة الذات وإلى التواضع أقل". ويختم القس فريتس مقاله العميق بدعوة رجال الدين المسيحيين إلى بث رسالة التواضع والإنصاف، ويحذر قائلا: "إن التكبر الأمريكي في العصر النووي، ليس انحرافاً أخلاقياً فقط، بل هو يحمل بين جنبيه أيضا بذور الكارثة" (¬2). وفي كتابه الجديد (القيم الأمريكية تتعرض للخطر) يتناول الرئيس السابق ¬

(¬1) أفق آخر خيري منصور - سانت بوش ـ الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695 (¬2) بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية/بقلم محمد بن المختار الشنقيطي - الجزيرة نت 21/ 3/2004م

(كارتر) العلاقة بين الدين والحكومة في ظل إدارة بوش، فيقول: "أن من أعجب الخلطات بين الدين والحكومة، النفوذ القوي لبعض الأصوليين المسيحيين على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. إن كل شخص في أمريكا قد سمع بسلسلة روايات (المخلفين Left Behind) ، تأليف (تيم لاهاي) و (جيري جنكينز)، وهي اثنا عشر كتاباً سجلت رقم مبيعات لم يسبق له مثيل. ومنطقها قائم على اختيارات منتقاة بعناية من آيات الكتاب المقدس، ومعظمها من سفر الرؤيا، وهي تصف سيناريو يوم القيامة، أو نهاية العالم. فعندما يعود المسيح، سوف يرفع المؤمنون إلى السماء، حيث يرقبون مع (الرب) تعذيب معظم البشر الآخرين الذين خلفوهم وراءهم. وسوف يكون هذا الحدث فورياً وفي وقت لا يمكن التنبؤ به". ويتابع (كارتر) قائلاً: "إن هنالك ملايين من زملائي المعمدانيين الذين يؤمنون إيماناً تاماً بكل كلمة في هذا التصور، على أساس تمجيد الذات الذي تكنه القلة المختارة لنفسها، إلى جانب الإدانة والتخلي، خلال فترة (المحنة)، عن أفراد العائلة، والأصدقاء، والجيران الذين لم يقع عليهم الاختيار للخلاص". ويتابع كارتر قائلاً: "إن حقن هذه المعتقدات في سياسات الحكومة الأمريكية مبعث للقلق. فهؤلاء المؤمنون مقتنعون بأنهم يتحملون مسؤولية تعجيل حدوث هذا (الاختطاف)، من أجل تحقيق النبوءة التوراتية. ويدعو جدول أعمالهم إلى شن حرب في الشرق الأوسط ضد الإسلام (العراق؟) واستيلاء اليهود على (الأرض المقدسة) كافة (احتلال الضفة الغربية؟)، مع الطرد التام للمسيحيين والأغيار الآخرين. ومن المفروض أن يتلو ذلك استيلاء الكفار (المناوئين للمسيح) على المنطقة، ثم انتصار المسيح نهائياً. وفي هذا الوقت من الاختطاف، إما أن يتحول جميع اليهود إلى المسيحية، وأما أن يحترقوا. ويقول كارتر متابعاً: "بناء على هذا المنطق، أصبح بعض كبار الزعماء المسيحيين في طليعة المؤيدين لحرب العراق، وهم يقومون بزيارات متكررة إلى إسرائيل، لكي يدعموها بالتمويل، ويحشدوا التأييد في واشنطن لاستعمار الأرض الفلسطينية. وكان الضغط القوي من قبل اليمين الديني عاملاً رئيساً في قبول أمريكا الخانع بقيام إسرائيل، بعملية بناء هائلة للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية، وإقامة شبكة واسعة من الطرق في الضفة الغربية المحتلة. وقد أفاد

اعتراضات من داخل المسيحية

بعض الزعماء الإسرائيليين من هذه المساعدة بينما غضوا الطرف عن نبوءة محنة جميع اليهود في نهاية الأمر" (¬1). اعتراضات من داخل المسيحية لعل أعمق تحليل ونقض لفلسفة بوش وحماسه الديني، الذي يطغى على حكمته السياسية، هو ما كتبه القس (فريتس ريتسش) في مقاله في الواشنطون بوست (عن الرب والإنسان في المكتب البيضاوي). فقد تتبع القس فريتس المصطلحات الدينية في خطاب جورج بوش، والنزعة الوثوقية في أحاديثه بأن الرب إلى جنبه دوماً. مثل قول بوش: "إن الحرية والخوف، العدل والفظاعة، ظلا دوماً في صراع، ونحن نعرف أن الرب ليس حيادياً في هذا الصراع". ومن ذلك تكراره الدائم أن أمريكا "أمة مؤمنة وخيِّرة ومثالية"، وأحيانا "أمة رحيمة وسخية". وبالطبع فإن أطفال العراق وفلسطين يعرفون عن تلك الرحمة وذلك السخاء أكثر من غيرهم!! ويعلق القس (فريتس) على ذلك داعياً إلى قدر أكبر من التواضع وقدر أقل من التبجح، فيقول: "إن أغلب المصلين الذين يحضرون إلى كنيستي الصغيرة لا يعتبرون أنفسهم، ولا يعتبرون الأمة الأمريكية، مجموعة من القديسين، وهم ليسوا مستيقنين من الورع الأمريكي الذي يتحدث عنه (جورج بوش). وهم يرون أن انتصارنا على صدام حسين ليس دليلاً كافياً على فضيلتنا أمام الناس ولا أمام الله، وهو لا يبدو حتى دليلاً كافياً على انتصارنا على الإرهاب". فتقديم (جورج بوش) تبريرات دينية لحربه على العراق لأمر مقلق بل مرعب للكثيرين حسب تعبير القس (فريتس). وهو بدون نزاع أكثر جرأة من أي رئيس سبقه في هذا المضمار، باتفاق الجميع. ثم يقدم القس (فريتس) خلفية تاريخية لما يبدو حماساً دينياً متأججاً لدى الرئيس (بوش)، فيجد جذوره في تراث المستوطنين الأوربيين الأوائل في القارة الأمريكية، الذين كانوا متدينين لحد التعصب، يؤمنون بأن أمريكا هي صهيون الجديدة، والأرض الموعودة. والأمريكيون ـ اليوم ـ هم ورثة أولئك روحياً". وهو يشير ¬

(¬1) القيم الأمريكية تتعرض للخطر ـ تأليف: جيمي كارتر - الناشر: سايمون وشوستر - ط1 2005 - عرض: عمر عدس ـ جريدة الخليج الإماراتية - عدد 9709 بتاريخ 18ـ12ـ2005 م

إلى أن الأمريكيين الحاليين مثل أجدادهم السابقين "يؤمنون بأنهم محط عناية إلهية وقدر إلهي محتوم". لكن اليمين المسيحي الذي ينتمي إليه (جورج بوش) صاغ هذه الأفكار الثيولوجية صياغة سياسية عملية. حيث يرى أن (بوش) ومَن ورائه من الأصوليين المسيحيين واليهود في أمريكا، يمثلون فلسفة دينية أساها العنف والكراهية والتكبر، في وقت تحتاج فيه البشرية إلى التواضع والإنصاف واعتماد النسبية في تقويم الأفراد والأمم، فلا يوجد بين البشر من هو شرير بشكل مطلق ولا مَن هو خيِّر بشكل مطلق، ولا يوجد في البشرية (محور شر) و (محور خير) كما يريد بوش أن يقنعنا بذلك اليوم" (¬1). كما أن الكنائس الأمريكية الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية المختلفة، بدأت ترفع صوتها منددة بالتوظيف السياسي للدين، الذي يتناقض مع ما تقول به العقيدة المسيحية حتى أن القس (ملفين تالبيرت) رئيس الكنيسة الميثوديه، التي يعتبر الرئيس (بوش) أحد أبنائها قال في مقابلة تليفزيونية أجريت معه: "إن سياسة إدارة الرئيس بوش في الحرب على العراق ستنتهك الشريعة الإلهية كما تنتهك تعاليم السيد المسيح". كما أطلقت مجموعة ضغط مسيحية ليبرالية في واشنطن نشاطاً مكثفاً، لمنع إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي (بوش) ومواجهة نفوذ المحافظين الجدد من المسيحيين اليمينيين، والصهاينة الذين يرسمون لبوش سياساته واستراتيجياته. وقالت (بريندا بترسون) مديرة (شبكة الزعامة الكهنوتية): "إن الإدارة تتلاعب بالدين بمستويات غير مسبوقة ومثيرة للغضب. ونددت بما سمته (عقلية رعاة البقر) التي تنتهجها إدارة (بوش). ويقول رئيس المنظمة (البرت بينيباكر): "نحن هنا لتشجيع التغيير في القيادات الفاشلة وسياساتهم الأكثر فشلاً. وعملنا يركز على تجميع الليبراليين ليتحدوا في مواجهة إدارة بوش وسياساتها الخارجية والاقتصادية وهي الإدارة التي تحاول تمييع أساسيات الفصل بين الدولة والكنيسة، ¬

(¬1) بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية/بقلم محمد بن المختار الشنقيطي - الجزيرة نت 21/ 3/2004

وتنتهج سياسات خارجية تعتمد على البطش وتهديد الدول الأخرى، وسياسات داخلية تكافئ الأغنياء على حساب الفقراء والأطفال" (¬1). ولا شك في أن اشد عبارات التنديد المسيحية بسياسة الرئيس (بوش) وردت على لسان البابا الراحل (يوحنا بولس الثاني)، الذي قد أوفد الكاردينال (اتشيجارى) أوائل فبراير إلى بغداد في مبادرة مسيحية لافته، حيث أعلن بابا الفاتيكان خلال صلاته الأسبوعية، أن الخيار بين السلام والحرب في الوضع الدولي الراهن هو أيضاً الخيار بين الخير والشر، وكأنه يرد على تقسيم (بوش) للعالم إلى أخيار وأشرار. وقال للمصلين المحتشدين في ساحة القديس بطرس: "في الإطار الدولي الراهن: نشعر بقوة بضرورة تطهير الضمير واهتداء القلب إلى طريق السلام الحقيقي. ففي أعماق قلب كل شخص يتردد صوت الله وصوت إبليس الماكر". وقال وهو يعلن مناسبة الصوم والبدء بأسبوع رياضات روحية: "خلال أسبوع التأمل والصلاة هذا، ستكون مطالب الكنيسة ومشاغل البشرية جمعاء حاضرة في مخيلتي، ولا سيما بالسلام إلى العراق والأرض المقدسة". وكان البابا قد دعا قبل ذلك مسئولي العالم أجمع إلى (فحص ضمير) من أجل تجنيب البشرية نزاعاً مأساوياً آخر" (¬2). كما أن البيان الذي صدر في الخامس من فبراير 2002م عن المؤتمر المشترك لمجلس الكنائس العالمي، ومؤتمر الكنائس الأوروبي، والمجلس الوطني لكنائس المسيح في الولايات المتحدة، ومجلس كنائس الشرق الأوسط يعتبر عن حق (البيان المسيحي) المبدئي الرافض للحرب على العراق، باعتبارها حرباً غير مبرره أخلاقياً أو دينياً، وقد ندد البيان بمبدأ اللجوء إلى القوة العسكرية بدلاً من المساعي السياسية لحل الخلافات (¬3). كما وجه الرئيس الألماني (يوهانس راو) انتقاداً شديداً إلى نظيره الأمريكي (جورج بوش) بسبب تبريره الحرب على العراق بأنها (مهمة إلهية)، وقال (راو) في مقابلة تلفزيونية: "أن استشهاد (جورج بوش) بالله في خطاباته حول الحرب في العراق يولد سوء تفاهم هائلاً، اذ يتحدث (بوش) عن ¬

(¬1) جريدة الخليج - العدد 5993ـ بتاريخ 2/ 1/2004 (¬2) جريدة الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695 (¬3) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص29 أو جريدة الأهرام 12ـ2ـ2003م

رفض الحلول والسعي للحرب

(مهمة إلهية) أوكلت إليه لتبرير الهجوم الأمريكي على العراق". وأضاف (راو): "إنها رسالة تخفي نيات مبيتة يوجهها بوش". وأكد (راو) "أن الإنجيل لا يأتي إطلاقاً على ذكر أي حملة صليبية، وقال:"لا أعتقد أن شعباً ما يمكن أن يتلقى أمراً إلهياً بتحرير شعب آخر" (¬1). رفض الحلول والسعي للحرب لقد كان الأمر أكثر تعقيداً مما يتصور الرئيس الأمريكي، الذي غطى الحماس الديني على بصيرته السياسية، وأعماه عن الصراعات الدينية والسياسية القادمة، التي سيفتح لها الباب بحربه على العراق، وبرجوعه إلى عصر الاستعمار المباشر بعد أن أصبح الضمير البشري يرفض هذا النمط من الاستعمار. ولكن الذي يبشر بالخير أنه لا يزال في أمريكا اليوم أصوات ـ مثل صوت القس فريتس ـ تدعو إلى التواضع والإنصاف، وهي أصوات قد يكون لها شأن في المستقبل، لكن من المحزن أن هذه الأصوات لا تكاد تسمع الآن بسبب طبول الحرب وصخب الأصولية المسيحية وأختها اليهودية. وفي محاولة يائسة لمنع الحرب، أصدرت جماعة من المثقفين الأمريكيين نداء بعنوان (ليس باسمنا)، رد فيه موقعو البيان على قول الرئيس بوش: "إما أن تكونوا معنا، أو تكونوا ضدنا"، بقولهم: "نحن نرفض إعطائكم الحق بان تتكلموا باسم جميع الأمريكيين. نحن لن نتنازل أبداً عن حقنا في المساءلة. نحن لن نقدم لكم ضمائرنا لقاء وعود أمنية فارغة. ونقول لكم: ليس باسمنا. نحن نرفض أن نشارك في هذه الحروب، ونرفض كل افتراض بأنها تخاض باسمنا أو لأجل خيرنا" (¬2). وبالرغم من هذه المعارضة الداخلية والخارجية للحرب، "أعلن الرئيس (بوش) في يناير 2002م عن نيته توسيع حربه على الإرهاب إلى ما يتعدى تدمير شبكة القاعدة إلى كوريا الشمالية وإيران والعراق، وربما أعداء رسميين آخرين للولايات المتحدة. واستبعدت كوريا وإيران في جملة واحدة وركز بوش على العراق، ودلت خطب متوالية لشخصيات بارزة في إدارة بوش على أن واشنطن عازمة على شن ¬

(¬1) الخليج 2/ 4/2003م عدد 8718 (¬2) خطورة أمريكا (مفات حربها المفتوحة في العراق- نويل مامير، باتريك فاربيار- ترجمة ميشال كرم- ص 252 - دار الفارابي - ط1 2004

هجوم كبير على العراق" (¬1). وهكذا تحولت آلهة الحرب من جبال الأولمب إلى واشنطن، لكي تبدأ صفحة جديدة من سفك الدماء، متذرعة هذه المرة بمبررات مقاومة الإرهاب وحماية السلام .. وهي الحجة نفسها التي سفكت الشيوعية تحت مظلتها أنهارا من الدماء" (¬2). ولكن التحضيرات للحرب على العراق كشفت عن هموم عميقة لحلفاء بوش، فقد جاهر قسم كبير من وزارة حرب (بوش الأب) بمعارضة الحرب على العراق، مثل جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، وبرنت سكوكروفت مستشار الأمن القومي الأسبق. ولكن الحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق وربما غيرهما في المستقبل، كانت مطلباً ملحاً للإدارة الأميركية التي تسعى وتخطط لتحقيقها وتهيئ الظروف المواتية لإشعالها، فقد كان يمكن على سبيل المثال تسلم أسامة بن لادن قبل عام 1998م، وأبدت قيادة طالبان في أفغانستان استعدادها لتسليمه إلى السعودية، وكان ثمة مفاوضات قطعت شوطا مهما مع (تركي الفيصل) المدير السابق للمخابرات السعودية، ولكن قصف أفغانستان والسودان قوض المشروع، بل إنه حتى بعد أحداث 11 سبتمبر كان ثمة فرصة لتسليم أسامة بن لادن لباكستان ومحاكمته هناك. وكان من المحتمل أن تفضي هذه المحاكمة إلى تسليمه للولايات المتحدة، أو يطبق عليه حكم لن يقل عما يفترض أن تسعى إليه الولايات المتحدة، وبخاصة أن باكستان دولة حليفة لأميركا، ولكن بريطانيا والولايات المتحدة تجاهلتا الاتفاق وعملتا على هدمه (¬3). وحتى الحرب الأمريكية البريطانية الأولى على العراق كان يمكن تجنبها، حيث أبدى صدام حسين استعداده للانسحاب من الكويت بشرط ضمان عدم تعرضه لضربه أمريكية، كما جاء في مذكرات (بريماكوت) المبعوث الروسي لبغداد، والذي لم يستطع أن يعطي أي تعهد بضمان عدم إقدام أمريكا على ضربه، وحتى حرب احتلال العراق الأخيرة، كان يمكن الوصول إلى حلول كثيرة ومخارج لها ولكن أمريكا تريد الحرب ولا تريد غيرها مهما حدث. وهنا يطرح (فليب هيرو) في كتابه (العراق تقرير ¬

(¬1) خطة غزو العراق تأليف: ميلان راي ترجمة: حسن الحسنـ عرض/ إبراهيم غرايبةـ الجزيرة نت (¬2) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص110 (¬3) خطة غزو العراق تأليف: ميلان راي ترجمة: حسن الحسن ـ عرض/ إبراهيم غرايبة ـ الجزيرة نت

من الداخل) مجموعة من الأسئلة الحادة, ويقول: إن الولايات المتحدة لا تستطيع تفادي الإجابة عنها أمام الرأي العام العالمي, وهي: لماذا قامت الولايات المتحدة بالحرب على العراق مع أن تقارير لجان التفتيش التابعة للأمم المتحدة أكدت أنه تم نزع ما بين 90 إلى 95% من أسلحة الدمار الشامل العراقية؟ وأين الدليل على صلة العراق بتنظيم القاعدة؟ ثم ما دور جهازي الاستخبارات الأمريكية (سي آي إي) والبريطانية (أم آي سكس) في محاولات الانقلاب الست الفاشلة التي نظمت للإطاحة بنظام حكم صدام حسين منذ عام 1991م؟. فالمؤتمر الوطني العراقي برئاسة (أحمد جلبي) الذي تأسس برعاية أميركية عام 1990م، وثم ترسخه في اجتماع فيينا عام 1992م وموله جهاز (السي آي إي) , كان الهدف منه قلب نظام الحكم في بغداد، حيث وضعت مخططات انقلابات عسكرية بين عامي 1995م و1996م أشرفت عليها السي آي إي بالتعاون مع المؤتمر الوطني والأحزاب الكردية في شمال العراق من أجل التخلص من النظام في بغداد، لكن الفشل كان حليفها. ومن المثير هنا أنه عندما اقترب انقلاب سنة 1995م من النضوج، أرسل مدير جهاز (السي آي إي) آنذاك (جون ديتش) إلى رئيس محطة عمان التابعة للجهاز فريقاً خاصاً للتنسيق مع المخابرات الأردنية بشأن الانقلاب (¬1). ومن الجدير بالذكر أيضاً ان ولفويتز كان وراء محاولات الاغتيال المتكررة التي استهدفت الرئيس العراقي صدام حسين، كما طور إلي جانب -ديك تشيني- خطة عام 1991، أطلق عليها عملية العقرب، للقيام بغزو بري للعراق. ومرة أخري، خطط (ولفويتز) لغزو شمال العراق انطلاقاً من تركيا، حيث أطلق علي تلك العملية عملية المطرقة. وفي عام 1997م، وضع (ولفويتز) والجنرال (وين داوننغ) مسودة خطة ضد العراق باستخدام المعارضة العراقية التي تتخذ من لندن مقراً لها (¬2). ¬

(¬1) العراق .. تقرير من الداخل ـ المؤلف: ديليب هيرو كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت (¬2) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـالقدس العربي ـ 28/ 2/2003م

أسباب رفض العالم للحرب

أسباب رفض العالم للحرب حملت الصفحة الأولى لجريدة واشنطن بوست بتاريخ 24/ 2/2003م مادة تقول: إن كثيرين في العالم يعدون الرئيس (جورج دبليو. بوش) تهديداً للسلم العالمي أكثر من صدام حسين. ليس هذا تطوراً حديثاً ناجماً عن الجدل الدائر حول ما يمكن عمله بشأن العراق، بل حقيقة وهاكم ما تقوله الغارديان اللندنية: باتت أمريكا، تلك الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها، توشك أن تشبه الدولة المارقة المطلقة. فبدلاً من قيادة أسرة الأمم والدول، تبدو أمريكا بوش مياله أكثر فأكثر إلى مجابهة هذه الأسرة. فبدلاً من مدينة مشعة على تلة .. ثمة جلجلة قومية: نحن نفعل ما نريد .. وإذا لم يرق لكم ذلك، فلكم إن تنطحوا الجدار (¬1). وهكذا لم تكن صورة الأمريكي في التاريخ بمثل بشاعة الصورة التي صنعتها إدارة الرئيس بوش، وفي ذلك ظلم لقطاع مهم من الشعب الأمريكي الذي عبر عن حقيقة مشاعره وقناعاته من خلال المسيرات ضد الحرب، ومن خلال بيانات المجالس الكنسية الأمريكية التي اعتبرت الحرب خروجاً على تعاليم المسيح وانتهاكا لقيمها (¬2). وهنا يرى (ميلان رأى) أن هناك عشرة أسباب لرفض الحرب الأمريكية، فالعراق لم يطور أو يمتلك أسلحة دمار شامل بحسب المعلومات، وعمليات التفتيش والمراقبة التي أجريت، ولا يوجد رابط بين العراق وهجمات 11 سبتمبر، وهذه الحرب ليست من أجل الديمقراطية، بل ولا تستهدف تغيير سوى شخص الرئيس العراقي صدام حسين، ويمكن أن تؤدي إلى كارثة إنسانية وتدمر كردستان العراق، وهي حرب غير مشروعة ولا تغطيها الأمم المتحدة، وستعرض جيران العراق للخطر وهم يعارضونها. كما يعارض الحرب معظم القادة العسكريين في الولايات المتحدة، ويعارضها أغلب الناس في بريطانيا، ومن شأنها أن تسبب ركوداً عالمياً (¬3). أما (دبليب هيرو) فيقول: لقد نجح (جورج بوش الابن) عن طريق شن هجوم وقائي ضد العراق، في استفزاز صدام حضارات بين الإسلام والغرب, وهو الأمر الذي فشل فيه أسامة ¬

(¬1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص10 (¬2) الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - ص92 (¬3) خطة غزو العراق تأليف: ميلان راي ترجمة: حسن الحسنـ عرض/ إبراهيم غرايبةـ الجزيرة نت

معارضة فرنسا للحرب

بن لادن. وبهذا فإن (هيرو) يحمل (بوش) والإدارة الأمريكية اليمينية المتطرفة التي يرأسها، بالتسبب في تشجيع وتكريس مقولات صدام الحضارات بسبب تبني سياسات هجومية هوجاء (¬1). أما الكاتب الأمريكي (روبرت كيغان) فله رأى آخر حيث يرى أن العالم خارج أوروبا ما زال، يعيش (في التاريخ). وأن العالم ما يزال مليئاً بالإرهابيين و الدول المارقة. فصدام حسين كان خطراً حقيقياً وداهماً هدد سلامة الغرب، وأن ما يراه الأوروبيون خلاف ذلك ليس سوى الرد الطبيعي الذي اقترن بالضعفاء الذين دأبوا عبر التاريخ على دفن رؤوسهم في الرمال، كلما برز لهم خطر على الطريق. ويرى كيغان أن الموقف الأوروبي كان دافعه الجبن لأن الأوروبيين حسبوا أن المخاطر التي كانوا سيتعرضون لها في حالة تصديهم لإزاحة صدام تفوق المخاطر التي تنجم عن تركه وشأنه (¬2). معارضة فرنسا للحرب إن التوتر الذي نجم عن الأزمة العراقية ليس ظاهرة استثنائية في العلاقة بين باريس وواشنطن، فقد كان الفرنسيون دوماً ابطال معاداة أمريكا في اوروبا الغربية (¬3). ذلك أن هذه العلاقة لم تكن قط منسجمة سواء خلال الحرب الباردة أم بعدها. فالرفض الفرنسي للانفرادية الأمريكية قضية مبدأ، حيث أن هذه الانفرادية توجه ضخم وعميق في سياسة أميركا التي بقوتها المتزايدة لم تعد تتحمل الضغوط الخارجية والالتزامات المتعددة الأطراف. وهذه الانفرادية سابقة على انتخاب بوش وإن كان هذا الأخير قد عمقها. ولهذا جاء استهداف أميركا لفرنسا والتهديد بمعاقبتها دون سواها بسبب الدور الأساسي الذي لعبته في معارضة السياسة الانفرادية الأمريكية. ففرنسا هي الوحيدة التي بإمكانها تجسيد سياسة كونية مختلفة عن ¬

(¬1) العراق .. تقرير من الداخل ـ المؤلف: ديليب هيرو كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت (¬2) الفردوس والقوة .. أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديدـ روبرت كيغان ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت (¬3) العدو الأمريكي (اصول النزعة الفرنسية المعادية لأمريكا) - فليب روجيه - ترجمة بدر الدين عرودكي- المشروع القومي للترجمة عدد 816 - ط1 2005

بيلير وتشرشل .. التاريخ يعيد نفسه

النموذج الأمريكي، فهي لم تعارض فقط أميركا، بل دافعت عن تصور لمجتمع دولي مبني على أساس القانون وتعدد الأطراف، فحالت دون تمتع أميركا بأغلبية في مجلس الأمن، بل وفي العالم أيضاً. فهي أثبتت أن عالما آخر كان ممكناً، لذا فهي مستهدفة من قبل أميركا، لهذا السبب ففرنسا لا تتمتع بشعبية في أميركا، لكنها للسبب نفسه لها شعبية في العالم لأن عملها حال دون ظهور عالم أحادي القطب. ففرنسا وضعت على رأس أولوياتها احترام إجراءات الأمم المتحدة، فبالنسبة إليها وإلى روسيا أيضاً الذي كان مهماً في المسألة العراقية هو المنظمة الأممية، وهذا من باب القناعة بضرورة العمل في إطار المنظمات الدولية واحترام القانون الدولي. وهكذا فإن الفشل هو فشل أميركا أكثر منه فشل المنظمة الأممية، فهذه الأخيرة لم تكن حقيقة فعالة في السابق، ذلك أن واشنطن رغم الضغوط والإمكانات لم تفلح في الحصول على أغلبية. ويعني طلب أميركا عون الأمم المتحدة للخروج من المستنقع العراقي اعترافاً ضمنياً بفشل عملها الانفرادي وفوقية الإجراءات المتعددة الأطراف. فالعالم الأحادي القطبية غير موجود، وحرب العراق أعطت الدليل على ذلك، حيث أن مفهوم القوة تغير وأنه في عالم معولم يميزه تعدد الفاعلين فمن غير الممكن أن يتحكم بلد وحده في مجمل بقية الدول (¬1). بيلير وتشرشل .. التاريخ يعيد نفسه تبدو مسألة التأييد الدولي مهمة لدى الرأي العام الأمريكي، الذي وإن كان يؤيد عملاً عسكرياً ضد العراق، فإنه يفضل أن تكون هذه الحرب تحت غطاء دولي. وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية في أغسطس 2002م أن 20% من الأميركيين فقط يؤيدون حرباً أميركية منفردة على العراق، في حين أعرب 65% عن اعتقادهم بضرورة الحصول على تأييد من الحلفاء للحرب، وتفويض من الأمم المتحدة. ولذلك فقد كان (بلير) هو حبل النجاة لبوش لتسويق الحرب ¬

(¬1) فرنسا ضد الإمبراطوريةـ باسكال بونيفاس - ط1 - 2003الناشر روبير لافون باريس - عرض/ كمبردج بوك ريفيوز الجزيرة نتـ23/ 2/2004م.

وإعطائها طابع التحالف الدولي، ولكن بلير كان مكشوفاً على نحو خطر، فأغلبية حزبه (العمال) تعارض الحرب وحتى من داخل وزارته، بالإضافة إلى أغلبية الرأي العام البريطاني. ولذلك كان يجب أن تسوق الحرب على النواب والرأي العام على أنها حرب خاطفة، لن يكون لها ضحايا كثيرون ولن تستغرق وقتا طويلا (¬1). لهذا فقد كان لاستماتة (جون بلير) في الدفاع عن مزاعم (بوش) لتبرير الحرب على العراق، وحملة الأكاذيب التي قادها، أصداء واسعة على المستويين البريطاني والعالمي، حيث بدت بريطانيا وكأنها تابعة بالكامل لأمريكا، ووصف البعض (بلير) بأنه كلب بوش المدلل وغيرها من الأوصاف، بسبب تحمسه الكبير للحرب على العراق ووقاحته في افتراء الأكاذيب والدفاع عنها، ورحلاته المكوكية حول العالم لجلب التأييد لهذه الحرب. وهنا يجب أن نشير إلى أن (بلير) ليس ظاهره شاذة في التاريخ البريطاني، فقد سبقه إلى مثل هذا الأمر من الكذب المكشوف والفج والوقاحة في الدفاع عن الحرب كثير من الزعماء البريطانيين، أمثال: بلفور ولويد جورج وتشرشل وتاتشر وغيرهم، ولكن تشرشل كان أشدهم في هذا المجال. فقد كان تشرشل منذ فترة قصيرة بطلاً لا يبارى ولكن الشعوب تعيد فتح سيرة أبطالها وأحياناً ما تكشف أخطاء تاريخية قاتلة، وهنا ظهر المؤرخ الإنجليزي (ماكولي) وأكد أن ظهور ونستون تشرشل في المجتمع يعود لتهتك شقيقية ودعارتها، كما أنه أتصل بأكثر العاهرات فسقاً وكانت حياته دناءة ليس لها نظير وخسة ليس لها مثيل (¬2). أما عن دوره في إشعال فتيل الحرب العالمية الثانية، فتشير الحقائق إلى أن تشرشل لم يكن يريد سوى القضاء على القوة الألمانية الناشئة حتى لا تقوم لها قائمة من جديد وتنافس انجلترا وفرنسا في العربدة في أوروبا والعالم، فأخذ يفترى ويختلق عليها الأكاذيب حتى يهيج الشعب عليها فيطالب بحرب معها. ولهذا يعتبر مجرم الحرب تشرشل من أسوء شخصيات القرن الماضي بسبب امتداد شروره تشرشل إلى كل العالم وذلك بإشعاله للحرب العالمية الثانية. فقد كانت ألمانيا تحرر أراضيها المغتصبة، وظل تشرشل يحرض النواب في البرلمان الإنجليزي على الحرب ¬

(¬1) خطة غزو العراق - تأليف ميلان راي- ترجمة حسن الحسن ـ عرض/ إبراهيم غرايبة (¬2) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص 36

ضد ألمانيا ويقلب منطق الأمور، ويزعم أن ألمانيا هي المعتدية ثم دفعه أصحاب الاحتكارات إلى قمة السلطة في انجلترا ليقوم بجرائمه الكبرى أثناء الحرب العالمية (¬1). يقول (وليم جاى كار) في كتابه (أحجار على رقعة الشطرنج): لا احد يستطيع أن ينكر أن (هتلر) حاول مره بعد مره الوصول لحل عادل لمشكلة (دانزج)، لكن المرابيين العالميين لم يسمحوا له بذلك وذلك بإيهام تشمبرلين بإنذارات هتلر المزورة وتحريك جيوشه وكان هذا الخداع والكذب قد جعل تشمبرلين ينصح متردداً الحكومة بإعلان الحرب على ألمانيا. فعلى مدى 6 شهور طلب هتلر من بولندا إعادة مدينة دانزج ومنطقة الممر التي تحتلها بولندا، ورفضت بولندا بإيحاء إنجليزي وقدم (هتلر) مبادرتي سلام، ولكن بولندا رفضت النقاش (¬2) ... فكان أن بدأ (هتلر) حرب التحرير، فأعلنت انجلترا وفرنسا الحرب على ألمانيا. يقول تشرشل: "ها نحن نعود مرغمين إلى حمل السلاح دفاعاً عن دولة صغيرة، انتهكت حرمتها وتعرضت لعدوان لغير سبب يدعو لذلك، وهكذا أصبح علينا أن نحارب دفاعاً عن كياننا وشرفنا ضد غضبة الشعب الألماني وقوته" (¬3). أليس هذا ما حدث عندما احتل العراق الكويت، حيث سارعت بريطانيا وأمريكا لنصرة الدولة الضعيفة الكويت، وأيضاً دفاعاً عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ولا يهم إن أدى ذلك إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين، كما فعل تشرشل الذي كان هو أول من بدأ بضرب المدنيين .. وكان يقول لا ينبغي لنا أن نقف مكتوفي الأيدي بسبب مبادئ حمقاء. ومن الجدير بالذكر هنا أن بريطانيا استخدمت الأسلحة الكيماوية في عام 1919م عندما تدخلت قواتها في شمال روسيا ضد الثورة البلشيفية، محققة نجاحاً باهراً، حسب القيادة البريطانية. حيث كان رئيس الوزراء البريطاني تشرشل وزيراً للحرب في عام 1919م، وكان متحمساً بشدة لاستخدام الغاز السام ضد القبائل الهمجية من الأكراد والأفغان. وفوض تشرشل سلاح الجو الملكي في الشرق الأوسط ¬

(¬1) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص 7 (¬2) اعتقد أن هذا الموقف يذكر بالمقدمات التي سبقت غزو الكويت. (¬3) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص 49

التخطيط لضرب العراق

باستخدام الأسلحة الكيميائية ضد العرب المتمردين، على سبيل التجربة، متجاهلاً اعتراضات مكتب الهند ومعتبراً إياها (غير مقبولة) ومستهجناً الحساسية المفرطة حول استخدام الغاز. وأوضح تشرشل أيضاً "أننا لا نستطيع تحت أية ظروف أن نقبل الاستسلام لعدم استخدامنا الأسلحة المتوفرة لدينا التي تستطيع أن تحقق لنا النصر الأكيد وتنهي أعمال الشغب المندلعة على الحدود". وأضاف كذلك، "أن الأسلحة الكيميائية ما هي إلا "تطبيق العلم الغربي على الحرب الحديثة" (¬1). ومن سخريات القدر أن بريطانيا وأمريكا حاربت العراق وتريد محاكمة قادته بدعوى استخدام أسلحة كيماوية ضد الأكراد، هذا في حين أن البريطانيين كانوا أول من استخدمها ضدهم، وهم الأولى بالمحاكمة. ويلقى كتاب (الإمبراطورية .. كيف صنعت بريطانيا العالم الحديث) الضوء على كيفية نشوء الإمبراطورية البريطانية؟ حيث يبين كيف أنها توسعت من خلال القرصنة وافتعال الحروب، وممارسة الإبادة العنصرية ضد الشعوب التي احتلتها (¬2). التخطيط لضرب العراق كان التحسن المطّرد للعلاقات العراقية العربية عاملاً محفزاً على تسريع مسار المواجهة والحرب معه، إذ إن آخر ما كانت تريده واشنطن هو أن يتصالح العرب مع النظام في العراق مهما كانت أرضية ذلك التصالح, حتى لو كان اعتذار بغداد للكويت عن غزو سنة 1990م، حيث أن مؤتمر قمة القاهرة في أكتوبر 2000م قطع خطوة مهمة في ذلك الطريق. كما أن أهمية العراق الدائمة تكمن في نفطه، فالعراق يحتوي على ثاني أكبر مخزون للنفط في العالم بعد السعودية, ويعتبر النفط العراقي من أنظف وأجود أنواع النفط. ولا يمكن للغرب أن يتسامح مع وجود نظام غير مؤيد له يسيطر على ذلك المخزون (¬3). وهنا يميل الكاتب والروائي البريطاني ¬

(¬1) الدولة المارقة - حكم القوة في الشؤون الدولية ـ نعوم تشومسكي - ترجمة محمود على عيسى ص39 (¬2) الإمبراطورية .. كيف صنعت بريطانيا العالم الحديث؟ ـ نيل فيرغسون - ط1 2003 - الناشر: بنغوين, لندن- كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت ـ 16/ 2/2004م (¬3) العراق .. تقرير من الداخل ـ المؤلف: ديليب هيرو كامبردج بوك ريفيوز

(جون لوكاريه) إلى الاعتقاد أن العراق لا يشكل تهديدا لجيرانه، ولكن سوء حظه يقع في النفط الذي يتوافر في أراضيه بكميات هائلة مغرية للشركات الأميركية، وأما مسألة حقوق الإنسان فهي لا تحتاج إلى نقاش، فمعظم حلفاء أميركا المهمين يمارسون انتهاكات بشعة للحريات والديمقراطية وأبسط حقوق الإنسان (¬1). ولكن أياً كان التحسن في علاقات بغداد مع جوارها الإقليمي, أو الاعتراف بأهمية نفطها, فإن أحداث 11 سبتمبر وفرت للولايات المتحدة الفرصة التاريخية، لتحاول الحسم مع العراق بالقوة العسكرية هذه المرة. لكن الخطط الأميركية للقيام بعمل عسكري ضد العراق سبقت قدوم إدارة (جورج بوش الابن) وتفجيرات سبتمبر 2001, وتعود إلى (رؤى) قدمها صقور أميركيون عام 1998م إلى الرئيس السابق بيل كلينتون تدعو إلى الإطاحة بصدام عسكرياً. وكان من سخريات القدر أن أولئك الصقور الذين كانوا خارج إدارة كلينتون, صاروا من أعلى القيادات في إدارة جورج بوش الابن, مثل دونالد رمسفيلد وريتشارد بيرل وبول وولفويتز. وهكذا فقد سارعت تلك المجموعة إلى تفعيل (المسار العراقي) البعيد وغير الموصول بكل قصة (الحرب ضد الإرهاب) أو بتنظيم القاعدة أو أسامة بن لادن. وتم الإعلان عن محور الشر الذي ضم بالإضافة إلى العراق إيران وكوريا الشمالية (¬2). ولكن كيف تحول المشروع الإمبراطوري الأمريكي من الحرب على الإرهاب إلى الحرب على العراق؟ وكيف انتقلت بؤرة الحوادث في ما جرى يوم 11 سبتمبر 2001م من نيويورك إلى كابل، ثم من كابل إلى بغداد؟. يجيب الأستاذ (محمد حسنين هيكل) على ذلك بقوله: "لقد وجدت الإدارة الأمريكية بعد تدمير برجي مركز التجارة مباشرة أنها بحاجة إلى ضرب العراق، لأن الشعب الأمريكي برأي الرئيس بوش كان بحاجة إلى عمل كبير، وليس معركة واحدة، ولكن حرب ممتدة يشعر بها الشعب ¬

(¬1) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ ـ جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجارـ الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي (¬2) العراق .. تقرير من الداخل ـ المؤلف: ديليب هيرو كامبردج بوك ريفيوز

الأميركي، ويتأكد أن الإدارة الأميركية تدافع عنه حتى أقاصي الأرض، واتخذ قرار الحرب على العراق بعد الأحداث بأيام قليلة" (¬1). وفي الحقيقة فإن الحرب على العراق بدأت عام 1991م، ولم يكن الغزو عام 2003م إلا استكمالا لهذه الحرب، ولا علاقة له بالحرب على الإرهاب، وقد شنت الولايات المتحدة أربع حروب متتالية على العراق منذ العام 1991م، وهي حرب الخليج وتدمير البنية التحتية المدنية العراقية، وحرب الاستنزاف الطويلة والعملية الاستخبارية المتواصلة بالتعاون مع لجان التفتيش، وحرب العقوبات الجماعية الخطيرة، وأخيرا غزو العراق في 20 مارس 2003م، حيث شنت الولايات المتحدة في مساء 19 مارس 2003م هجوماً على العراق، وأسقطت في الساعات الثلاث الأولى لحربها على العراق 3000 قنبلة وصاروخ معلنة حرباً لاحتلال العراق استغرقت 20 يوماً وانتهت بسقوط بغداد في 9 أبريل (¬2). ودخلت الولايات المتحدة فوراً في ترتيب الغنائم وإحصائها والسيطرة عليها، وأهمها بالطبع هو النفط، ثم السيطرة الإستراتيجية على المنطقة وتهديد جميع الأنظمة السياسية والدول, وربما يكون التحول في السلوك والمواقف العربية، والإعلان عن مشروعات لتغيير مناهج التعليم في الدول العربية من تجليات ونتائج الحالة الجديدة الناشئة بعد احتلال العراق. وقدرت خسائر الدول النفطية بسبب غزو العراق عام 2003 بعشرات المليارات من الدولارات، وتكبدت الدول المجاورة للعراق خسائر فادحة، وتدهورت أسعار النفط، وتضررت السياحة العربية والقطاعات الحليفة لها كالطيران والفنادق والمطاعم والصناعات الحرفية، وتراجعت بل انحسرت الاستثمارات الأجنبية الموجهة إلى البنى التحتية، وعمليات الخصخصة في الدول العربية. وتقدر الخسائر الملموسة بـ 400 مليون دولار يومياً، وقدرت الخسائر ¬

(¬1) الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق ـ محمد حسنين هيكل - دار الشروق- ط5 200 - عرض/ إبراهيم غرايبةـ الجزيرة نت ـ 12/ 2/2004م (¬2) زلزال في أرض الشقاق العراق (1915ـ2015) ـ ـ كمال ديب ـ عرض/ إبراهيم غرايبة ـ المصدر: الجزيرة ـ19/ 2/2004م

هكذا سوقت أمريكا حربها ضد العراق

العربية حتى نهاية العام 2003 م بـ115 مليار دولار، وهذا المبلغ يساوي 15% من الناتج العربي العام البالغ 750 مليار دولار سنويا (¬1). هكذا سوقت أمريكا حربها ضد العراق اتخذ بوش وفريق اليمين المتطرف في مارس 2002م، قرار الحرب على العراق، ومنذ ذلك الوقت عمل ذلك الفريق على (التجميع القسري) لمبررات ومسوغات الحرب. حيث كان الهدف واضحاً لكن طريق الوصول إليه كان شائكاً, إذ أن الرأي العام العالمي لم يكن مقتنعاً بالحرب, ولهذا كان لابد من حشد كل الأسباب وتضخيمها والتمهيد للحرب. فمحاولات الربط المتعسف بين العراق والقاعدة على خلفية تفجيرات 11 سبتمبر, كان بسبب نجاحات الأمم المتحدة في نزع سلاح العراق, حيث كانت تلك النجاحات تثير بشكل غير مباشر المحافظين الجدد, والذين أرادوا قطع الطريق على فرق التفتيش الأممية التي كانت تقاريرها تشير إلى عدم بقاء أية قوة معتبرة لدى العراق, خاصة على صعيد أسلحة الدمار الشامل. ولهذا يرى (هيرو) أن الغزو (الأنغلو أميركي) للعراق ـ كما يسميه إذ يرفض قبول تعبير (التحالف) ـ يمثل ظاهرة فريدة في الحروب الحديثة، إذ إن ذلك الغزو أول حرب وقائية منذ قرن تقريباً، ولا يماثله إلا غزو الإمبراطورية النمساوية الهنغارية لصربيا عام 1914 م. ويمثل أيضاً أول حرب أميركية - بريطانية مستندة كلياً على معلومات مضللة، وكاذبة, ولا أساس لها من الصحة (¬2). فأي دولة مهما بلغت قوتها لا يمكنها أن تدخل في صراع مسلح دون أن تتسلح بمساندة الشعب أولاً. ويجب على هذه الدولة أن تمعن في إقناع شعبها من خلال الأوساط الإعلامية، بأن هذه الحرب التي تخوضها, إنما هي من أجل العدل والشرف. وفي سبيل ذلك لا تدخر الدولة جهداً في إظهار الخصم بمظهر الشيطان الأكبر، كما وتحاول أن تقلل من أهمية الخسائر التي يمكن أن تقع بين جنودها, أو في صفوف ¬

(¬1) زلزال في أرض الشقاق العراق (1915ـ2015) ـ ـ كمال ديب ـ عرض/ إبراهيم غرايبة ـ المصدر: الجزيرة ـ19/ 2/2004م (¬2) أسرار وأكاذيب .. عملية "تحرير العراق" وما بعدها ـ ديليب هيروـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ المصدر: الجزيرة

حملة أمريكا الإعلامية لتمرير الحرب

السكان العزل من جهة الخصم. وإلى جانب ذلك لا تفتأ هذه الدولة توجيه الانتقادات الشديدة للخونة، واستخدام كافة الوسائل الممكنة لإنجاح حربها ضد عدوها، ومن هنا نرى أن الحرب الأخيرة ضد العراق كانت نموذجاً للأمريكيين يحتدا به على مستوى العالم، وذلك لمن أراد أن يبيع الحرب للشعب على الطريقة الأمريكية (¬1). حملة أمريكا الإعلامية لتمرير الحرب لم يكن أحد يتوهم فيما يخص النوايا الحقيقية لأميركا، فالمبررات الأميركية للدخول في الحرب لم توقن بها أغلبية الحكومات وشعوب العالم. ويكشف عن ذلك تصريح (بول ولفوفيتز) في مايو 2003 م لما أعلن أن الأميركيين اتفقوا على قضية أسلحة الدمار الشامل، لأنها السبب الوحيد الذي كان محل اتفاق الجميع. وهكذا فإن (ولفوفيتز) يعترف رسمياً بأن المبرر الرسمي, الذي على أساسه بررت الحرب على العراق منذ صيف 2002 م لم يكن إلا ذريعة، بل أكثر من ذلك أكذوبة تم التفوه بها لإقناع الرأي العام. وهنا يلاحظ منطق الكيل بمكيالين في سياسة واشنطن التي تختار الحرب على العراق, الذي خضع للتفتيش, وأكد خلوه من أسلحة الدمار الشامل، فيما تحبذ التفاوض مع كوريا الشمالية, التي صرحت علناً وبقوة بقدرتها النووية وطردت المفتشين الدوليين من ترابها وقامت أخيراً بإجراء تجربه نووية. إن عدم عثور الأميركيين على الأسلحة, التي شنوا باسمها الحرب على العراق يكشف إنه تم تلفيق المعلومات, وإسكات كل الأصوات التي تقول العكس، بل تم التغاضي عن بعض التقارير الأميركية مثل تقرير وكالة الاستخبارات التابعة للبنتاغون في سبتمبر 2002 م الذي أكد عدم وجود معلومات موثوق بها تثبت وجود هذه الأسلحة في العراق، حيث دفع عجز الأميركيين عن العثور على هذه الأسلحة مجلة (تايم ماغزين) في يونيو 2003 م إلى تسمية أسلحة الدمار الشامل (العراقية) بـ (أسلحة الاختفاء الشامل). أما العلاقة بين القاعدة وعراق صدام حسين، فقد أكدت المخابرات المركزية الأميركية عدم وجود معلومات لديها حول هكذا علاقة. ولكن الإدارة الأمريكية أصرت على أن عناصر من القاعدة أقاموا في العراق. لكن هؤلاء ¬

(¬1) جريدة الخليج العدد 8949ـ19/ 11/2003

تضليل الرأي العام

أقاموا في حوالي خمسين بلداً بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا، دون أن يستدعي ذلك ضرورة قلب أنظمة كل هذه الدول. ولكن الإطاحة بصدام كانت هدفا أميركيا سابقا على أحداث 11 سبتمبر، حيث إن (ريتشارد بيرل) تحدث عنه عام 1996م (لبنيامين نتنياهو) و (رمسفيلد) , وحث (كلينتون) عام 1998 م على جعل إزاحة صدام هدفا لسياسته الخارجية (¬1). ... فالعراق احتل لأنه لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل يدافع بها عن نفسه ويردع من تسول له نفسه مهاجمته ... وأمريكا لم تتجرأ على مهاجمة كوريا الشمالية التى أعلنت وأقسمت بأغلظ الأيمان أنها تمتلك أسلحة دمار شامل في الوقت الذى كان فيه العراقيون يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم لا يمتلكون تلك الأسلحة فكان الغزو للعراق و الحوار مع كوريا (¬2)!!! تضليل الرأي العام لم تكن الحرب على أفغانستان كافية، ولم تكن هي المقصودة، حيث نجحت الإدارة الأميركية مرة أخرى في إقامة (بنية تحتية) من الأكاذيب والاختلاقات, التي أُريد من ورائها تسويغ الحرب وتسويقها على مستوى الرأي العام الأميركي والغربي أو العالمي؟ up وفي كتابه (خطة غزو العراق) يناقش (ميلان راي) الدعاوى الأميركية والبريطانية في الحرب، ويقدم حقائق تواجه برأيه التشويه والكذب الرسمي الذي يتعرض له شعبا الولايات المتحدة وبريطانيا في سياق حملة علاقات عامة مذهلة, وهائلة لتسعير حمى الحرب على العراق. حيث أن (بوش) (وبلير) استغلا معاناة 11 سبتمبر, لتبرير اندفاعهما نحو الحرب وإسكات الأفواه عن توجيه الانتقادات لمريدي الحرب تحت غطاء الوطنية، وأصبح إظهار الخصم بصورة الشيطان وإثبات أن الحرب ضرورية لا مفر منها، جزء من المبادئ الأساسية التي يتبعها مروجي الحملات ¬

(¬1) فرنسا ضد الإمبراطوريةـ باسكال بونيفاس ـ الجزيرة نت ـ23/ 2/2004معرض/ كمبردج بوك ريفيوز (¬2) الكابوس الأمريكي وحلم الخلاص - محب الصالحين - http://www.almotmaiz.net/vb/showthread.php?t=9872

الإعلامية الحربية (¬1). وقد لخصت المؤرخة البلجيكية (آن موريلي) القوانين الأساسية لإطلاق حملة حربية في عشر نقاط هي: 1 - نحن لا نريد الحرب. 2ـ المعسكر المعادي هو المسؤول الأول عن الحرب. 3ـ رئيس المعسكر المعادي هو بمثابة الشيطان 4ـ ما ندافع عنه يتعلق بشيء نبيل وليست لنا مصالح معينة 5ـ العدو يثير القلاقل والأعمال الوحشية وإذا اضطررنا إلى ارتكاب بعض التجاوزات فإنما سيكون ذلك لا إرادياً وعن غير قصد. 6 - العدو يستخدم أسلحة محظورة 7ـ خسائرنا قليلة جداً مقارنة مع الخسائر الفادحة في صفوف العدو. 8 - جميع المثقفين والفنانين يؤيدون الحرب. 9 - كل الذين يشككون في حملتنا هم خونة. 10 - قضيتنا تحمل طابعاً مقدساً. والمتتبع للأحداث يلاحظ أن النقاط السابقة تم ترديدها بحذافيرها من قبل الإدارتين الأمريكية والبريطانية, وعلى رأسهما الرئيس (جورج بوش) (وطوني بلير) (¬2)، حيث ساهمت وسائل الإعلام التي تخلت عن وظيفتها الحقيقية, وتحولت إلي بوق دعائي للحكومة في عملية التضليل المنظمة للرأي العام. كما تكشفت المواقف تجاه الديمقراطية بوضوح تام في أثناء التعبئة للحرب، إذ صار من الضروري التعامل بطريقة أو بأخرى مع المعارضة الشعبية الكبيرة، وداخل ائتلاف أصحاب الإدارات، وكان الجمهور الأميركي تحت السيطرة بفعل الحملة الدعائية التي أطلقتها الحكومة. أما في بريطانيا فكان الجمهور منقسماً حول الحرب، ولكن الحكومة حافظت على وضعية الشريك الأصغر التي قبلتها على مضض بعد الحرب العالمية الثانية، والتصقت بها حتى وهي ترى القادة الأميركيين يستهينون بمخاوف بريطانيا في لحظات كان فيها مصير البلاد نفسه في مهب الريح. كانت أغلبية الأوروبيين العظمى تعارض الحرب، ولكن الإعلام كما الإدارة تجاهل الرأي العام، وقدمت تغطية ¬

(¬1) خطة غزو العراق تأليف: ميلان راي ترجمة: حسن الحسنـ عرض/ إبراهيم غرايبة (¬2) جريدة الخليج العدد 8949ـ19/ 11/2003

صحفية للموضوع مبعثرة وملتوية، وتصور المعارضة للحرب على أنها مجرد مشكلة تسويقية بالنسبة لواشنطن (¬1). وحتى قوى المعارضة في هذه الدول لم تكن فعاله بالدرجة المطلوبة، فالمعارضة الرئيسة للحرب قادتها قوى شعبية وليست أحزاب. فالحزب الديمقراطي، مع بعض الاستثناءات، انضوى تحت جناح الرئيس في عرض جبان لوطنية زائفة. فعندما تلقي نظرة على الكونجرس تلمس دلائل اللوبي الصهيوني أو اليمين المسيحي أو التجمع العسكري - الصناعي ثلاث أقليات متطرفة بالغة النفوذ، يجمع بينها العداء للعالم العربي وقناعة خرقاء بأنهم من أنصار الملائكة. كما تحول الإعلام إلى مجرد جناح لبذل الجهود التي تتطلبها الحرب. وبتنا لا نسمع في أي من المحطات صوت المعارضة أو حتى ما شابه المعارضة. فوظفت كل محطة كبرى الجنرالات المتقاعدين وعملاء الاستخبارات المركزية الأمريكيين السابقين، وخبراء الإرهاب، ومحافظين حديثي العهد (مستشارين) يتقنون اللهجة المقززة, التي صممت كآلية موثوق بها، لينتهي بها الأمر إلى تأييد كل ما تقوم به الولايات المتحدة، من مجلس الأمن حتى المنطقة العربية. فنحن لا نقرأ أية مقالة معارضة ولا نسمع صوت أي من المعارضين في وسائل الإعلام الكبرى في هذا البلد ... وعندما تذكر هذه المؤسسات خرق العراق لسبعة عشر قراراً لمجلس الأمن كذريعة للحرب، لا نجدها تذكر قط القرارات الأربعة والستين التي ضربت بها إسرائيل عرض الحائط بدعم من الولايات المتحدة، ناهيك عن مآسي الشعب العراقي خلال السنوات الإثنتي عشر المنصرمة ... ويجعل هذا الواقع من التوبيخ الذي يوجهه بوش وأمثاله إلى الأمم المتحدة بضرورة تقيدها بقراراتها أمراً مضحكاً للغاية. وهكذا نشهد نية متعمدة على خداع الشعب الأمريكي، فقد شوهت مصالحه وبترت من عقالها، وطمست الأغراض الحقيقية لحرب (بوش الابن) الخاصة طمساً يلامس حد الغطرسة. فزمرة المتغطرسين أمثال (وولفويتز) ومساعديه المدعوين للإدلاء بشهادتهم دعماً للحرب من نتائج وتكاليف أمام الكونجرس المخدر, في ¬

(¬1) الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم ـ نعوم تشومسكي ـترجمة سامي الكعكي ـ بقلم/ إبراهيم غرايبة29/ 7/2004م

صناعة الأكاذيب وحمايتها - لعبة الترويج والإسكات والتضليل

أغلبيته، قد سمحوا لهؤلاء بملازمة الصمت حيال الكثير من التجاوزات ... فيخدعون الشعب الأمريكي أكثر مما هو عليه، هذا الشعب الذي لم ينشد وجودهم أساساً. ديمقراطية مطعونة ومخدوعة، ديمقراطية محتفى بها ولكن غارقة بالذل، وقد داست عليها مجموعة صغيرة من الرجال الذين بكل بساطة استولوا علي مقاليد الأمور في هذه الجمهورية (¬1). صناعة الأكاذيب وحمايتها - لعبة الترويج والإسكات والتضليل (¬2) في أمثالنا يقال: (حبل الكذب مقطوع). ويعرف دارسو التاريخ الذي لا يكتبه إلا المنتصرون أن حبل الكذب موصول .. بحلقات من الخديعة، والتزييف، والحكايا المتقنة تحت تلك المظلة الواسعة، تتشابك علاقة الصحافة بالأنظمة وأجهزة المخابرات. تتلاحم حيناً بالتواطؤ أو بالمصادفة , وتتلاطم في معظم الأحيان. الموساد أزعجه تقرير ألـ (بي بي سي) الشهير الذي طرح الأسئلة البديهية مباشرة، ببساطة وبوضوح. في زمن أصبحت فيه البديهيات تتسول من يطرحها. فضلأ عن أن (يسمعها) وسط كل هذا الصخب المتلاحق الإيقاع, الذي لا يدع فرصة حقيقية للنظر في (الأمر) بدلاً من مجرد النظر (إليه). والنظر في الأمر مطلوب لندرك، فنحسن (الوصف) وندقق (التعريف)، وهما كذلك ضروريان (للفهم) الذي هو مقدمة لابد منها "للتفسير. ألـ (بي. بي. سي) طرحت الأسئلة البسيطة: من يملك حقاً أسلحة للدمار الشامل في الشرق الأوسط؟! الإسرائيليون ولا نعرف من أعطاهم الحق ـ احتجوا على الأسئلة معتبرين أنهم غير مطالبين، بل حتى غير معنيين بمناقشة الأجوبة. وإنما ككل (السادة) في مجتمع غير متوازن رفعوا عصا العقاب. فالـ (بي بي سي) باتت ممنوعة في الكيان الصهيوني. وشارون قاطع الإذاعة العريقة في زيارته للندن. ¬

(¬1) من يدير الدفة في الولايات المتحدة؟ إدوارد سعيد جريدة الخليج - 10ـ3ـ2003 ـ عدد 8695 (¬2) صناعة الأكاذيب وحمايتها - لعبة الترويج والإسكات والتضليل ـ بقلم/ ايمن الصياد - الخليج عدد 8845ـ 7 أغسطس 2003

ديفيد كيلي

والاتهام المعلب (معاداة السامية) تم توزيعه على نطاق واسع (إرهاباً فكرياً) لكل ذي صلة ليخرس من يعرف، وليتجنب المشكلات من بوسعه ذلك. ديفيد كيلي أسئلة أخرى في موضوع آخر، ولكن أيضاً لمحطة (بي بي سي) , وأيضا بحثاً عن الحقيقة، غزلت خيوط دراما من نوع آخر، (ديفيد كيلي) ذو الشعر الأشيب والصوت الهادئ, وسنوات العمر الستين (مات) بالبساطة نفسها التي كان يجيب بها على أسئلة التحقيق الفظة, حول لماذا أخبر (اندرو جيليجان) صحافي المحطة بالحقيقة التي لا يحبها عادة السادة الأقوياء. مات؟! ديفيد كيلي بهدوء على زاوية الغابة القريبة من بيته بجرح في رسغه, وبجواره أقراص مهدئة ومشرط، كأنما الانتحار لا يصلح (درامياً) إلا في الهواء الطلق وظلال الزيزفون. تتفق الروايات أو تتشابه وتتقاطع الشكوك، أو تتناثر، ويبقى الثابت فقط أن الرجل مات، وإن لم يكن عقاباً، فبالضرورة نتيجة لبحث الصحافة عن الحقيقة، وأن أسمه سيضاف على الأرجح إلى قائمة الذين غيبهم الموت في سحابة داكنة من الظنون، والغموض. ليس بدءاً (بجون كنيدي) ولا نهاية (بديانا) الجميلة في النفق الباريسي الشهير. هدد الإسرائيليون محطة (بي بي سي) ومات (ديفيد كيلي)، وقتل (طارق أيوب) مراسل الجزيرة عشية دخولهم بغداد .. فهل يعادي سادة العالم الجديد الصحافة؟ ليس دائماً ولكنهم ككل السادة، يكرهون أن يقول الآخرون غير ما يقولونه هم. فالحقيقة ككل شئ ملكهم, وينبغي أن تظل كذلك. وبغض النظر عن الواقع على الأرض، يبدو أنه في الزمن الأمريكي (أحادى القطب) تصبح الحقيقة أيضاً (أحادية الجانب). ويصبح على الجميع شاءوا أم أبوا أن يتعاملوا معها، حتى وإن كانت في واقعها (أكذوبة كبرى). حماية الأكاذيب حماية الأكاذيب في الزمن الأمريكي/ الإسرائيلي, اقتضت بحكم الخبرة والمهارة, إشهار كل أسلحة الإرهاب الفكري، قديمها (معاداة السامية) أو جديدها

(التحريض) , أو (التعاطف مع الإرهاب) بغض النظر عن (تعريفه)، أو (تشجيع العمليات الإستشهادية) بغض النظر عن المعتقدات الدينية وحريتها، إن "دفع أموال الزكاة لجماعات إسلامية " قد تصبح "إرهابية" في المستقبل, أو "لأسر الشهداء" وبغض النظر عن أنها أحد مصارفها الشرعية. والحبل - كما يقولون - على الجرار. ففي كل الأحوال، ليس مهماً "توصيف التهمة" أو الاتفاق على أنها كذلك. كما أنه ليس مهماً - أيضا - تحديد من يملك صلاحية الاتهام. المهم هو إيجاد حالة من الإرهاب الفكري تصبح كفيلة بحماية منظومة القيم الجديدة في زمن يمسكون بعقاربه كما يتصورون. نتذكر كيف نجحوا يوماً في إسكات (روجيه جارودي)، لأنه تساءل؟! ونعرف أنه في وسط سحابات الأكاذيب تغيب الحقيقة. وتحت غيوم الأباطيل يكون طبيعياً أن ينزلق الجميع في أوحالها، فلا تبقى ثوابت ولا تستقر بديهيات. نستعرض عناوين الصحف وتصريحات المسؤولين فنستخلص أنه في الزمن الأمريكي ومع بداية القرن الحادي والعشرين ما عاد شيء بديهياً، فالذين يقاومون المحتل، إن في الفالوجة أو خانيونس "إرهابيون" بعد نصف قرن من الأوسمة والنياشين, وأوصاف البطولة لأولئك الذين قاوموا المحتل النازي مثلاً في أوروبا. والأمريكيون المبشرون بالديمقراطية, والحداثة يقولون: " إنهم لن يسمحوا بأن يحكم الإسلاميون العراق "حتى وإن كان ذلك عن طريق انتخابات حرة". ومجلس العراقيين يعتبر أن يوم سقوط عاصمتهم هو يوم عيدهم الوطني الوحيد. عشر سنوات من الكذب والتحدي في 12 سبتمبر 2002 م وقف (جورج دبليو بوش) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مدشناً حملته التمهيدية لترويج الحرب، وليلقي تقريره الشهير الذي حمل عنواناً دعائياً: (عشر سنوات من الكذب والتحدي). يومها انصب التقرير كله على اتهام العراقيين (بالكذب). وكانت أدلة الاتهام الرئيسة كما يلي: العراق يقيم علاقات وثيقة مع القاعدة ... العراق يهدد أمن الولايات المتحدة والعالم .... العراق يملك أسلحة دمار شامل. اليوم بعد الحرب وآلاف الضحايا, وبلايين الدولات يتضح أن لا دليل أبداً على ذرائع الاتهام الثلاث. ويصبح السؤال: من الذي كان حقيقة يكذب؟!. نعرف أن السيف سبق العذل. ونعرف أن العراقيين الضحايا في الحرب وبدونها، والذين يعيشون الآن حالة من الزئبقية السياسية غير مسبوقة لم يعد يهمهم لماذا

الكذبات العشر

قامت الحرب؟. إلا أن السؤال يظل مشروعاً ثم مطلوباً عندما نسمع من قادة البنتاجون يقولون: إننا نستخلص الدروس من العراق لجعل احتلالنا لأى بلد آخر أكثر إتقاناً!!. الكذبات العشر (¬1) لم يوافق الأمريكيون على إعطاء مفتشي الأمم المتحدة مهلة للتأكد من وجود أسلحة الدمار الشامل. وقرروا أن يذهبوا بأنفسهم ليحضروا الدليل الذي لم يكن موجوداً أبدا. ولكنهم لم يجدوا حرجاً في أن يقولوا بعد أن وقعت الواقعة وبعد أن عادوا بلا دليل: لقد اعتمدنا إبراز موضوع خطر أسلحة الدمار الشامل لأنها تشكل الحجة الوحيدة التي يمكن أن يتوافق عليها الجميع. (بول وولفويتز 30 مايو 2003 م). واليوم، وبعد مرور أكثر من خمس سنوات على إعلان الحرب المثير، من قبل الرئيس (بوش)، لم يعثر على أي أسلحة كيماوية، أو بيولوجية أو نووية، ولا على أية وثائق تدل على وجود تلك الأسلحة، أو أية إشارة إلى أنها قد نشرت في الميدان. وتقوم وسائل الإعلام السائدة، بعد سنيين من الجبن، بلفت الأنظار الآن بصورة متأخرة إلى المستوى المفرط من الخداع الإداري. وتبدو متعجبة إذ تجد فيما يتعلق بالعراق، أن إدارة بوش لا تلجأ إلى الكذب النفعي بين الحين والآخر، بل هي في حقيقة الأمر، لم تقل الحقيقة أبداً تقريباً. وليس ما نسوقه فيما يلي، إلا الأهم والأكثر إثارة للغيظ بين عشرات الأكاذيب الصريحة, التي أطلقها بوش وكبار موظفيه على مدى أكثر من سنة، ضمن ما يرقى إلى مرتبة الحملة المنظمة لإرهاب الجميع: الكذبة الأولى: "تشير الأدلة إلى أن العراق يقوم حالياً بإعادة بناء برنامج أسلحته النووية, وقد يحاول شراء أنابيب ألومنيوم شديدة القوة ومعدات أخرى تلزم في صنع أجهزة الطرد المركزي الغازية، التي تستخدم في تخصيب يورانيوم الأسلحة النووية". (الرئيس بوش، 7اكتوبر 2002 م، سينسيناتي). ¬

(¬1) الكذبات العشر - بقلم كريستوفر شير -مدير تحرير موقع "الترنيت دوت اورج" والنص منشور في هذا الموقع ـ جريدة الخليج ـ 6 ـ7ـ2003 ـ عدد 8813

الحقيقة: هذه الحكاية، التي تم تسريبها إلى (جوديت ميللر)، التي سارعت إلى نشرها في صحيفة (نيويورك تايمز) تبين أنها هراء محض. ويقول المسؤولون في وزارة الطاقة، الذين يقومون بمراقبة المصانع النووية، أن الأنابيب لا يمكن استخدامها لتخصيب اليورانيوم. وقد صرح أحد محللي المعلومات الاستخبارية، الذي كان عضواً في فريق التحقيق في موضوع الأنابيب، لصحيفة (ذي نيو ريببليك)، بقوله غاضباً: "لدينا مسؤولون أمريكيون كبار مثل (كوندوليزا رايس)، يقولون: إن الإستخدام الوحيد لهذا الألومنيوم هو أجهزة الطرد المركزي لليورانيوم. وقد قالت ذلك على شاشة التلفزيون. وذلك كذب محض. الكذبة الثانية: "علمت الحكومة البريطانية أن (صدام حسين) سعى مؤخراً للحصول على كميات كبيرة من اليورانيوم في إفريقيا". (الرئيس بوش، 28 يناير في خطاب حال الاتحاد). الحقيقة: كانت هذه الفرية مبنية على وثيقة كان البيت الأبيض يعلم أنها زائفة بفضل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وكانت الوثيقة التي بيعت إلى المخابرات الإيطالية من قبل أحد النصابين، تحمل توقيع موظف رسمي كان قد ترك منصبه قبل عشر سنوات، وتشهد بقانون لم يعد معمولاً به. وقد استشاط السفير السابق الذي أرسلته وكالة المخابرات الأمريكية للتحقيق من صحة الحكاية غضباً، وقال لصحيفة (ذي نيو ريببلك) دون أن يصرح باسمه: إنهم يعلمون أن حكاية النيجر كانت كذبة صريحة .. وكان البيت الأبيض غير مقتنع بشأن أنابيب الألومنيوم، وقد أضاف ذلك لدعم قضيته. الكذبة الثالثة: "نحن نعتقد بأن صدام حسين، قد أعاد بناء أسلحته النووية حقاً". (ديك تشيني نائب الرئيس في 16 مارس 2003 م، ضمن لقاء مع برنامج لقاء مع الصحافة). الحقيقة: ليس لهذا التصريح، ولم يكن له، أي أساس من الصحة. فلم تظهر تقارير المخابرات المركزية الأمريكية خلال سنة 2002 م أي دليل على وجود برنامج أسلحة نووية عراقية. الكذبة الرابعة: "تتوافر لدى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تقارير دامغة حول اتصالات على مستوى رفيع بين العراق وتنظيم القاعدة، تعود إلى عقد مضى

من الزمن". (مدير المخابرات المركزية الأمريكية، (جورج تنيت)، ضمن تصريح مكتوب أدلى به في 7 أكتوبر 2002 م وتردد صداه ضمن الخطاب الذي ألقاه الرئيس بوش ذلك المساء). الحقيقة: كانت وكالات المخابرات تعلم بوجود اتصالات متقطعة بين صدام وحركة القاعدة في أوائل التسعينات، لكنها لم تعثر على دليل على استمرار العلاقة. وبكلام آخر، وبلغة مضطربة، أدار (تينت وبوش) موقف المخابرات 180 درجة لتقول عكس ما كان قد قيل تماماً. الكذبة الخامسة: "علمنا أن العراق قد درب أعضاء حركة القاعدة على صنع القنابل والسموم والغازات الفتاكة، وقد يتيح التحالف مع الإرهابيين للنظام العراقي أن يهاجم أمريكا دون أن يترك أي بصمات". (الرئيس بوش، 7 أكتوبر) الحقيقة: لم يقم أي دليل على ذلك، ولم يتسرب أي دليل. وقد قال: (كولن باول) في الأمم المتحدة إن هذا التدريب المزعوم قد حدث في معسكر في شمال العراق. لكن ما ينبغي أن يحرجه أشد الحرج، أن المنطقة التي أشار إليها، كما كشف مؤخراً، كانت تقع خارج سيطرة العراق، وأن طائرات التحالف كانت تقوم بدوريات فوقها. الكذبة السادسة: "اكتشفنا كذلك من خلال أجهزة المخابرات, أن العراق لديه أسطول متعاظم من العربات الجوية المأهولة, وغير المأهولة التي يمكن أن تستخدم لنشر الأسلحة الكيماوية والبيولوجية عبر مناطق واسعة. ونحن معنيون بأن العراق يقوم باستكشاف طرق لاستخدام هذه العربات الجوية غير المأهولة في مهمات تستهدف الولايات المتحدة". (الرئيس بوش، 7 أكتوبر/ تشرين الأول). الحقيقة: لا تستطيع الطائرات من دون طيار المزعومة، والتي تسمى (اليعسوب)، أن تطير أكثر من 300 ميل، ويبعد العراق عن السواحل الأمريكية نحو 6000 ميل. يضاف إلى ذلك، أن برنامج العراق لبناء طائرات اليعسوب، لم يكن أكثر تقدماً من الطراز الأمريكي المتوسط. ثم، أليس استعمال تعبير (عربات جوية مأهولة) مجرد طريقة مخيفة للحديث عن (طيارة)؟ الكذبة السابعة: "رأينا معلومات استخبارية على مدى شهور عديدة تقول: إنهم يملكون أسلحة كيماوية وبيولوجية، وأنهم قد نشروها، وأنهم مسلحون، وأن إجراءات

القيادة والسيطرة قد اتخذت في واحدة من الحالات على الأقل". (الرئيس بوش، 8 فبراير 2003 ضمن خطاب في الإذاعة الوطنية). الحقيقة: على الرغم من البحث الشامل على مستوى الدولة الذي أجرته القوات الأمريكية والبريطانية، لا توجد علامات، أو آثار أو أمثلة على نشر الأسلحة الكيماوية في الميدان، أو في أي مكان آخر خلال الحرب. الكذبة الثامنة: "إن تقديراتنا المتحفظة هي أن العراق اليوم يملك مخزوناً يتراوح بين 100 و 500 طن من مواد الأسلحة الكيماوية. وهذا يكفي ليملأ ألف صاروخ ميداني". (وزير الخارجية كولن بول، 5 فبراير 2003 م، ضمن ملاحظات مقدمة إلى مجلس الأمن). الحقيقة: بعيداً عن الحقيقة الساطعة التي تقول: إنه لم يعثر على نقطة واحدة من هذا المخزون الهائل، كما ذكر آنفاً، فإن معلوماتنا الاستخبارية الخاصة تبين أن هذه المخزونات إذا كانت موجودة في السابق قد تجاوزت مدة صلاحيتها، ومن ثم أصبحت لا تنفع في إعداد الأسلحة. الكذبة التاسعة: "نحن نعلم أين توجد أسلحة الدمار الشامل العراقية. إنها في المنطقة الواقعة حول تكريت وبغداد، وفي الشرق والغرب والجنوب والشمال بعض الشيء". (وزير الدفاع، دونالد رامسفيلد 30 مارس 2003 م). الحقيقة: غني عن القول، إنه لم يعثر على مثل هذه الأسلحة، لا في الشرق، ولا في الجنوب أو الشمال، بعض الشيء أو غيره. الكذبة العاشرة: "نعم، لقد عثرنا على مختبر بيولوجي في العراق محظور من قبل الأمم المتحدة". (الرئيس بوش ضمن تعليقات أدلى بها في بولندا، ونشرت على نطاق دولي في الأول من يونيو 2003 م). الحقيقة: كانت تلك إشارة إلى اكتشاف اثنين من العربات المقطورة التي ادعت المخابرات المركزية الأمريكية احتمال أن تكونا مختبرين للأسلحة البيولوجية متحركين. لكن الخبراء البريطانيين والأمريكيين بما فيهم جناح الاستخبارات في وزارة الخارجية أعلنوا منذئذ أن ذلك غير صحيح. وبناء على ما قاله الخبراء البريطانيون، وأثار الضيق والإحراج لدى رئيس الوزراء (توني بلير)، فإن المقطورتين

أكاذيب (باول) وتوني بلير وازنار

كانتا ما قاله العراق عنهما تماماً، وهو أنهما تستعملان لملء بالونات تحمل أدوات لقياس حالة الطقس، وأنه اشتراهما من البريطانيين أنفسهم. وبعد ان عرض (كريستوفر شير) للكذبات العشر يقول: هكذا، بعد انقضاء سنوات على الحرب، ها نحن الآن نعود إلى النقطة التي بدأنا منها بالكثير من الخطاب والبلاغة، ودون دليل على الإطلاق يثبت هذا الخطر الداهم، والذي قتل (اوجيه سميت) في سبيل درئه، ولكن إدارة بوش تندفع الآن لتلقى تبعة أكاذيبها على عاتق المعلومات الاستخبارية الخاطئة، في حين أن المعلومات الاستخبارية لم يكن بها أى بأس، بل يكمن الخطأ في سوء استخدامها. وبدلاً من الاعتذار عن قيادتنا نحو حرب استباقية قائمة على (معلومات استخبارية) مشوهة بشكل مستحيل، أو محرفة بطريقة لا تعرف الخجل، أقول ـ بدلاً من الاعتذار أو تقديم الاستقالة ـ ها هو مجنوننا الخبيث القابع في البيت الابيض- يلعب الجولف منشرحاً، بينما يعد بأن (يطارد القتلة الحقيقيين) ويقسم (بوش الابن) على البحث عن المدى الحقيقي لبرنامج أسلحة (صدام حسين)، مهما استغرق ذلك من وقت" (¬1). أكاذيب (باول) وتوني بلير وازنار حسب رواية (الهيرالدتريبيون) في 5 حزيران 2003 م، كانت شكوك لدى (باول) في مصداقية الخطاب الذي ألقاه أمام مجلس الأمن قبل أسابيع من الحرب. ولذا حرص على أن يجلس (جورج تنت) مدير سي آي إيه خلفه ليشاركه مسؤولية ما يقول. وربما حرص على ذلك مخططو حملة الترويج الأمريكية ليقولوا لأولئك المحدقين في شاشات العرض الضخمة والمنبهرين بتقنيات العرض المتفوقة، أن وراء كل ذلك إمكانيات الاستخبارات الأقوى في العالم غير المشكوك فيها. أيا كان الأمر. وبالاعتذار (لبيل جيتس)، فقد ثبت أن تقنياته استخدمت في ترويج أكاذيب إضافية. فالشاحنات التي قالوا أنها مختبرات بيولوجية متنقلة لم يعثر عليها أبداً الجنرال (دايتون) الذي ذهب إلى هناك على رأس فرقة من 1400 مفتشاً. والمواقع ¬

(¬1) الكذبات العشر - بقلم كريستوفر شير - مدير تحرير موقع "الترنيت دوت اورج"ـ جريدة الخليج ـ 6ـ7ـ2003 ـ عدد 8813

تاريخ الدولة الأمريكية العريق مع الأكاذيب والتضليل الإعلامي

التي قيل أنها مصدر للخطر (الكيماوي) على العالم أجمع اكتشفوا بعد الحرب أنها خاوية إلا من بعض الحطام والبراميل الفارغة. ولم تكن محاضرة (كولن باول) ذات الوسائط المتعددة أمام مجلس الأمن وأمام الملايين في العالم اجمع، متفردة في نوعها، فما أن بدأ عام 2003 م واقتربت ساعة الحقيقة حسب توقيت (بوش)، حتى كانت الآلة الإعلامية قد دارت بلا هوادة مستمدة وقودها من تصريحات رسمية صارخة لبوش وإدارته وحلفائه. وفي 24 سبتمبر 2002 م لم يتردد (توني بلير) أن يعلن أمام النواب في مجلس العموم البريطاني, أن العراق يملك أسلحة كيماوية وبيولوجية، وأن في إمكانه نشر صواريخه خلال 45 دقيقة. وفي 5 فبراير 2003 م كانت لهجة (ماريا ازنار) رئيس الوزراء الأسباني قاطعة, حين أكد أمام برلمانه: "نعلم جميعاً أن (صدام حسين) يملك أسلحة دمار شامل، كما نعلم جميعاً أن لديه أسلحة كيماوية". ولم يكن غريباً وسط طبول الحرب التي كانت دقاتها تعالت فعلاً أن تخرج أوروبا الجديدة مخدوعة بالضجيج الدعائي، أو متملقة باعتبارات السياسة، ببيان الثمانية الشهير في 30 يناير 2003م، الذي يختصر الحملة في الشعار الذي ردده الجميع: (أسلحة الدمار الشامل العراقية تشكل تهديداً للأمن العام). تاريخ الدولة الأمريكية العريق مع الأكاذيب والتضليل الإعلامي (انياسيور رامونا) محرر الـ (لوموند ديبلوماتيك) استعرض في دراسة موثقة ومطولة, تاريخ الدولة الأمريكية العريق مع الأكاذيب والتضليل الإعلامي، مصدراً دراسته مقولة (جورج واشنطن) "إني افضل الموت على أن أنطق بكلام غير دقيق". ولكن يبدو أن زعماء الدولة الأمريكية لم يأخذوا بهذه النصيحة، وفضلوا عليها نصيحة (لينين) مؤسس الاتحاد السوفيتي المعروفة: "اكذب واكذب حتى يصدقك الناس"، غافلين عن المثل العربي الذي يقول: "إن حبل الكذب قصير، وأن للحقائق قوة ذاتية تمنحها القدرة على اجتياز حاجز الأكاذيب والإعلان عن نفسها في نهاية الأمر" (¬1). ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص191

أمريكا تخفي خسائرها في العراق

ويحكي (رامونا) القصة المثيرة للتضليل الإعلامي، وكيفية نسج (الأكذوبة الكبرى) التي ارتبطت بحادث تدمير البارجة الأمريكية (ماين) في خليج هافانا عام 1898 م، وهو ما اتخذ ذريعة كي تدخل أمريكا الحرب ضد أسبانيا, ولضم كوبا, وبورتريكو, والفلبين, وجزيرة جوام. وما حدث، أنه في 15 فبراير من ذلك العام تعرضت (ماين) لانفجار عنيف فغرقت البارجة في مرفأ هافانا وعليها 260 رجلاً. وسرعان ما اتهمت الصحافة الأمريكية (المدعومة من رجال أعمال لهم استثمارات كبيرة في كوبا ويحلمون بطرد الأسبان منها) بأنهم دسوا لغماً تحت هيكل السفينة منددة ببربريتهم ومعسكرات الموت لديهم, وحتى بممارساتهم (كأكلة لحوم البشر) , وفي جو من الحماسة والهوس ومطالبة الصحافة بالثأر من الأسبان أعلن الرئيس (ويلم ماكمنلي) الحرب. وبعد ثلاثة عشر عاماً كاملة استنتجت لجنة تحقيق مستقلة أن وراء تدمير البارجة انفجاراً عرضياً وقع في حجرة المحركات. فالكذب الذي هو قديم ـ قدم البشرية ذاتها ـ يصبح خطيراً إذاً، عندما يكون معجوناً بأهواء الساسة الذين يملكون قرار الحرب. وبالأخص عندما يجلس هؤلاء على مقعد السيد الأوحد للعالم الجديد (¬1). أمريكا تخفي خسائرها في العراق لم يقف مسلسل أكاذيب الإدارة الأمريكية عند حد فبركة مسوغات الحرب على العراق، بل امتد إلى الحرب نفسها والمعلومات المضللة والكاذبة, التي كانت تذيعها على وسائل الإعلام، ولكن لما بدأت وسائل الإعلام تكشف هذه الأكاذيب والتضليل المتعمد، شنت الإدارة الأمريكية هجوماً كاسحاً على وسائل الإعلام والصحفيين وكل صوت حر سعى إلى قول الحقيقة، بل وصل الحد إلى اغتيال صحفيين وقصف مقراتهم. وهذا ليس غريباً من إدارة تتصرف كعصابة سطو مسلح، لا تتوانى عن استخدام أحط الوسائل وأحقرها للوصول إلى أهدافها الدنيئة. بل إن مسلسل الأكاذيب والتضليل والعنصرية وصل إلي أبعد حد من خلال إخفاء الحجم الحقيقي ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص191

المرتزقة - قوات (غرين كارد)

للخسائر الأمريكية في العراق، واستخدام المرتزقة وحاملي (الغرين كارت) والسود كوقود للحرب لتضليل الرأي العام. المرتزقة - قوات (غرين كارد) كشفت مصادر في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) النقاب عن أن نحو 40 ألف جندي من قواتها العاملة في العراق, إنما هم من المقيمين في الولايات المتحدة, ويحملون ألـ (غرين كارد) وليسوا من المواطنين الأميركيين. حيث يأمل هؤلاء الجنود ـ ومعظمهم من أصول لاتينيةـ عبر مشاركتهم في الحرب بتسريع إجراءات حصولهم على الجنسية. http://www.aljazeera.net/news/america/2003/9/ - TOP وقد دفعت هذه الأنباء النائب البريطاني (جورج غالاوي) المعروف بانتقاداته اللاذعة لغزو العراق واحتلاله لمهاجمة الولايات المتحدة, واتهامها باستخدام ما أسماها (قوات غرين كارد) , لتكون وقود حرب، حيث أشار (غالاوي) إلى أن استخدام الأقليات وغير المواطنين والطبقات السفلى بالمجتمع، جزء من تقاليد الولايات المتحدة ليكونوا في الخطوط الأمامية للجبهة بالحروب الأجنبية, التي تخوضها لضمان جزء من تقليد تستخدمه منذ فترة طويلة. وأوضح النائب البريطاني أنها سمة للحكومة, التي تستعمل (المهمشين) لخوض معركتها، حيث أن نسبة السود في الجيش كانت تشكل 40%, بينما هم يشكلون ربع هذا العدد طبقا لكشوفات عدد سكان أميركا. كما أن الطبقات السفلى أصبحت تزداد الآن، وأصبح اللاتينيون أكثر من السود، وربما هذا يفسر حقيقة أن معظم القتلى في العراق يحملون أسماء لاتينية. وقال: "إنه شارك في برنامج إذاعي أميركي حيث كرر المتصلون بالبرنامج أقوالا تشير إلى أن السود واللاتينيين وقود حرب يأتي من خلفهم المتطوعون". ويعتمد الجيش الأميركي على المتطوعين الذين يعود لهم الفضل في تحرير أبناء وبنات الذين يملكون الثروة, والمال, والنفوذ من الخدمة العسكرية. ويدافع البنتاغون عن هذا بقوله إنه لا يوجد قرار رسمي في الموضوع، لذا فإنه لا تمارس أي ضغوط على أي شخص للانضمام إلى الجيش. وحتى لو كان هناك قرار رسمي فإن صناع القرار يبقون بعيداً عن المشاكل، حسب (غالاوي) الذي قال: "إن أبناء البيض

دول مرتزقة

من حكام أميركا بمن فيهم (جورج بوش) دائماً يجدون الطرق للالتفاف على القرارات" (¬1). وهنا يرى الكاتب (اناتول لييفين) أن النقص في الحماس لدى الجماهير الأمريكية من فكرة القيام بتضحيات مهمة من أجل الإمبراطورية ليس جديداً، حيث كانت الإمبراطوريات السابقة تجد وسائل أخرى للتعويض: إلى حدود الحرب العالمية الأولى كانت الإمبراطورية البريطانية تعتمد في الحفاظ على هيبتها بكلفة بخسة (في قسم كبير بفضل السكان المحليين) وهو ما يذكِّرنا بحالة الأمريكيين في أفغانستان بعد 2001 م، وهي أيضا حالة العديد من الإمبراطوريات الأخرى، حيث أن "الحكومات الأوروبية الذكية كلما كان ذلك ممكناً كانت تلتجئ إلى متطوعين وإلى مرتزقة أجانب وليس إلى الجنود للقيام بحروب كولونيالية" (¬2). دول مرتزقة لم تكتفِ أمريكيا بتجنيد جنود مرتزقة في جيشها، بل إنها تسعى إلى تحويل جيوش الدول الأخرى إلى جيوش من المرتزقة تحت مسميات (الحلفاء والقوات متعددة الجنسيات). وإذا كانت أمريكا تستخدم الاغراءات لتجنيد الجنود المرتزقة، فهي تفعل نفس الشيء مع الدول المرتزقة من خلال عقدها صفقات مشبوهة مع زعماء هذه الدول وقادتها، سواء عن طريق الرشاوى المالية, أو الضغوط السياسية والاقتصادية والمساعدات المالية (¬3)، فأمريكا تريد خوض الحروب وكسبها بدون فقدان أي جندي من مواطنيها الأصليين (الانجلوسكسون) , ولهذا تستخدم الزنوج والمرتزقة في جيشها من ناحية، ومن ناحية أخرى تريد من الغير خوض الحروب عنها وتحت رايتها. ولهذا حاولت أمريكا جاهدة إقناع كثير من الدول للمشاركة في حربها على العراق كما حدث في حربها الأولى عام 1990م، ولكن أغلب دول العالم رفضت ذلك إلا بعض دول ما أسمتها أمريكا بـ (أوروبا الجديدة) وبعض الدول الكرتونية من هنا ¬

(¬1) الجزيرة نت ـ الاثنين 1/ 9/2003م (¬2) القومية الأمريكية الجديدة .. ـ اناتول لييفين ـ عرض بشير البكر ـ جريدة الخليج ـ 30ـ6ـ2005 ـ العدد 9538 (¬3) انظر الامبراطورية الاستباقية (الدليل إلى مملكة بوش) - سول لاند - تقديم جورجمككفرن- تعريب ليلى النابلسي-ص 204 - الحوار الثقافي- ط1 2005

البروباغاندا والتشويه الإعلامي في الحرب على العراق

وهناك، بالإضافة إلى بعض عملائها الدائمين الذين قدموا خدمات اكثر من إرسال القوات، والذين كانوا يتحركون ويصرحون وفق سيناريوهات الإدارة الأمريكية. ونتيجة لإحجام دول رئيسة محترمة عن المشاركة في هذه الحرب، أجرت الولايات المتحدة مشاورات في مجلس الأمن, لاستقدام قوات متعددة الجنسيات إلى العراق. وتعكس الخطوة الأميركية أزمة حقيقية تواجهها إدارة بوش في ضوء خسائرها البشرية المتصاعدة في العراق والتي ألجأتها إلى عرض جزء من الكعكة في العراق على من كانت تريد معاقبته على معارضته الحرب (¬1). البروباغاندا والتشويه الإعلامي في الحرب على العراق لا يزال السجال بشأن دور الإعلام الغربي قبل وخلال وبعد الحرب على العراق على أشده. وربما جاز القول إن النقد الراهن لهذا الإعلام, الصادر عن مؤسسات ومؤلفين ومختصين غربيين, هو من أشد ما تعرض له هذا الإعلام خلال نصف القرن الأخير. ويأتي هذا النقد بعد التطور الهائل في وسائل الإعلام الغربي واختراقها لأسقف عالية, تسنمها موقع السلطة الرابعة في الديمقراطيات الحديثة، حيث هي الراصد والمراقب اليومي عن كثب لأداء السلطات الثلاث الأخرى. لكن هذا كله في وقت السلم، أما في وقت الحرب فإن هذا الإعلام يتردى ـ كما يبدو لمعظم المساهمين في كتاب (اكذب علي) ـ ليصبح مجرد ماكينة من الكذب تعيد إنتاج الخطاب الرسمي وتحتفي به. فهذا الكتاب يشكل صفعة قوية لأداء الإعلام الأميركي والبريطاني في الحرب على العراق, وهو وثيقة إدانة حقيقية. ويبدو أنه كلما بدأت المؤسسة الرسمية في الولايات المتحدة وبريطانيا تأمل بإغلاق ملف مبررات الحرب على العراق, تفاجأ بضربة جديدة تعيد فتح الملف من الصفحة الأولى, وهذا الكتاب ليس سوى إحداها. الإعلام يؤيد التوسع الإمبريالي: وقف الكاتب البريطاني (جون بلجر) ضد الحرب دون هوادة, ويراها غطرسة إمبريالية أميركية تعكس عجرفة القوة, ولا علاقة لها بأي مسوغ من المسوغات التي سيقت لتبريرها. وهو يلحظ كيف انجرف الإعلام ¬

(¬1) الجزيرة نت ـ ماجد ابو دياك الأحد 18/ 7/1424هـ الموافق 14/ 9/2003م

وراء الشهوة الإمبريالية الإمبراطورية؟ , وعمل على جعل ما هو خارج عن نطاق التصور وكأنه أمر عادي، أمر عادي أن يدمر بلد وتنتهك سيادته, ويحتل دون قرار من مجلس الأمن, ويتم ذلك كله ضد رأي الغالبية الكاسحة من العالم. في خضم ذلك التمدد الإمبريالي يغدو تصنيع الرأي العام في البلدين, وفي العالم, وتهيئته للحرب, وتسويق مسوغاتها أمراً حيوياً. ولتحقيقه كانت المؤسسة الرسمية قد عمدت إلى ممارسة الكذب الصريح, وتشويه الحقائق عن طريق تضخيم صغيرها, وإغفال كبيرها, وأحياناً تخليق جديدها من الصفر. والتساؤل الذي يتوقف عنده (بلجر) وغيره كثيرون, هو إلى أي مدى يمكن للرأي العام في الغرب أن يمرر عمليات التسويغ تلك, ويقبل إغلاق ملف الحرب بالسرعة التي يأملها السياسيون (¬1). الإعلام وإستراتيجية الحرب: في معمعمة عملية الحرب, احتل الإعلام موقع القلب, وكان أن نظر له باعتباره رديفا إستراتيجياً لا يمكن التعامل معه بخفة. لم يتم الاعتراف بمركزيته فقط في دعم المجهود الحربي, بل اعتبر جزءاً لا يتجزأ وأساسياً من ذلك المجهود. لذلك فإن محاكمات أداء ذلك الإعلام التي أعقبت قيام الحرب وانتهاء مرحلتها العسكرية المباشرة, توازت ـ ولا تزال تتوازى ـ مع المحاكمات التي تقام لإعادة النظر والتشكيك في الحرب نفسها, وبناء على الاعتبارات والذرائع التي شنت بسببها. لكن الانطباعات العامة التي ترددت في معظم بقاع العالم كانت تحوم حول اتهام مركزي موجه إلى الإعلام الغربي, أو بدقة أكثر الإعلام الأميركي والبريطاني والمتلفز منه على وجه التحديد, مفاده أن هذا الإعلام انحاز بتياراته الرئيسة إلى منطق الحرب, ولم يسأل القائمين عليها كما هي أصل مهمته: (المساءلة والتشكيك). بل عوض ذلك ضحى بالمهنية والموضوعية, داس على كل المدارس الإعلامية التي كان ريادياً في تكريسها في حقل الإعلام, وتمترس في خندق الحكومات. كسر الاحتكار الإعلامي: في التغطية الإعلامية للحرب واستكمالا لفرادة تلك الحرب, اخترع البنتاغون فكرة (الصحفيين المرافقين) , الذي رافقوا وحدات الجيش, ¬

(¬1) اكذب عليّ: البروباغاندا والتشويه الإعلامي في الحرب على العراق تحرير: ديفد ميلر-الناشر: فيرسو, لندن-ط1 2004 - عرض/ كامبردج بوك ريفيوز 4/ 3/2004م الجزيرة نت

الإعلام والحرب النفسية

وكانوا محكومين بتغطية تمليها عليهم الضرورات العسكرية وإستراتيجيتها، وقد بلغ عددهم أكثر من 700 صحفي. ونتيجة لذلك فإن الرأي العام الأميركي والبريطاني رأى في البداية صورة زاهية عن الحرب وكأنها (ألعاب نارية). رأى حربا نظيفة ليس فيها قتلى, إذ كانت الصور الموحشة للحرب يتم التخلص منها من قبل الرقابة العسكرية, وهكذا لم ينقل الإعلام الأنغلوأميركي حقيقة الإصابات بين المدنيين والدمار الذي ألحق بالعراق. وفي المقابل كان المشاهدون في بقية دول العالم يرون صورة أخرى للحرب, فيها معاناة العراقيين وموتهم, والإهانات التي تعرضوا لها، وهي الصورة التي كانت الفضائيات العربية تنقلها إليهم. فقنوات الإعلام العربي ـ وخاصة قناة الجزيرة ـ تمكنت من كسر الاحتكار الغربي لتغطية الحرب, بخلاف ما حصل في حرب الخليج الأولى 1991م, عندما كانت CNN تنقل حصرياً صور القصف الجوي متوائمة مع الإستراتيجية الأميركية. فهنا, انتشرت تغطيات الجزيرة, وكانت تعتمد في تلفازات القارات جميعاً, من أميركا اللاتينية وأفريقيا إلى آسيا والصين. ولهذا فقد اعتبرت تلك التغطيات معادية وتصب ضد الحرب, وكانت النتيجة استهداف الجزيرة وضرب مكتبها في بغداد. لكن بالمجمل, فإنه ولأول مرة في تاريخ الحروب الحديثة, تمكن الناس العاديون في معظم بقاع العالم من متابعة وحشية الحرب على ما هي عليه من دون رتوش, وكما تحدث على الأرض. ولكن ذلك تم على حساب الصحفيين, حيث أن عدد الصحفيين الذين قتلوا في هذه الحرب فاق أي حرب أخرى, وهو عدد غير مسبوق, وهذا يدلل على أمر هام هو حجم الكذب الذي كان يراد له أن يمر دون انكشاف, حتى تظل أسطوانة (اكذب علي) هي السائدة (¬1). الإعلام والحرب النفسية في تحليل له تناول (مارك كيرتز) بشكل مركز مسألة تعزيز دور الإعلام الغربي في الحرب كآلة ضرورية لتطبيق الحرب النفسية, أي أنه تخلى تماماً عن دور المعلم الذي يكون همه اللحاق بالمعلومة والخبر والبحث عن الحقيقة. وهنا يرصد ¬

(¬1) أسرار وأكاذيب ... عملية "تحرير العراق" وما بعدها ـ ديليب هيروـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ المصدر: الجزيرة

(كيرتز) كيف كانت التلفازات الغربية تنقل أخبار انتصارات التحالف في الأيام الأولى, والانهيارات العراقية المتتالية رغم أنها لم تكن حقيقية, وكل ذلك بهدف تحطيم معنويات الخصم. وللإشارة إلى الأهمية الفائقة لدور الإعلام والدعاية, فإن نظرة واحدة إلى ميزانيات الدبلوماسية العامة لا تدع مجالا للشك, في أن مسألة الإعلام تقع في قلب الجهد الإستراتيجي الأميركي. فالميزانيات المرصودة من قبل البيت الأبيض لنشر وجهة النظر الأميركية, وتحسين صورة الولايات المتحدة في العالم, وخاصة الإسلامي منه, تزيد عن مليار دولار سنوياً. أما الميزانية المناظرة في بريطانيا فتبلغ نصف مليار دولار (¬1). الإعلام بين الوطنية والموضوعية المهنية: تعتبر مسألة الموضوعية ونقل الأخبار كما هي من دون رتوش, وتحري الحقيقة ما أمكن، من أهم القضايا الإعلامية. صحيح أن الحقيقة هي أولى ضحايا الحروب كما يقال دوما, لكن هذه المقولة المعروفة يجب أن تدفع بالإعلام إلى محاولة كسر القيود, التي تفرض عليه للحيلولة دون الحقيقة, وليس للاستسلام لما تتضمنه. والمعلومات المتوفرة تدلل بالمعلومة والرقم والتسجيل, كيف أن محطات كبرى مثل (سي إن إن) , و (بي بي سي) و (فوكس نيوز) , و (سي بي إس) لم تبذل جهداً كافياً لاختراق الحصار الرسمي, ولتمحيص المقولات الرسمية المسوغة للحرب. وليس أدل على ذلك تسويق ما أسماه (ديفيد ميلر) (الكذبة الكبرى) , وهي ـ برأيه ـ تلك التي كانت تقول: إن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل, وبإمكانه أن يضعها قيد التنفيد خلال 45 دقيقة. وهذا الزعم الذي ردده (توني بلير) و (جورج بوش) لم يخضع للمساءلة الحقيقية من قبل الإعلام, بل تم ترديده وكأنه مسلمة. ويذكر أن أسلحة الدمار الشامل العراقية المدعاة, وخطرها المزعوم على المدن الغربية, كان أهم عنصر من عناصر الدعاية للحرب والمؤثرة في الرأي العام البريطاني والأميركي. وهناك قضية أخرى مهمة على قدر كبير من الخلافية, هي مدى وطنية أو مهنية وسائل الإعلام خلال الحرب. فالجدل الذي احتدم قبيل الحرب في أوساط ¬

(¬1) اكذب عليّ: البروباغاندا والتشويه الإعلامي في الحرب على العراق تحرير: ديفد ميلر-الناشر: فيرسو, لندن-ط1 2004 - عرض/ كامبردج بوك ريفيوز 4/ 3/2004م الجزيرة نت

أميركية كثيرة, كان يدور حول هذه التقابلية. أي في ما إن كان مطلوباً من الإعلام أن يسير خلف الحكومة, ويدعم رأيها الأخير حتى وإن لم يكن ذلك الرأي هو الصواب, أم يلتزم بالمهنية والموضوعية, ويظل يخضع الرأي وما نتج عنه للنقاش والشك. ونشير هنا إلى أن الأمر حسم باكراً, وإلى أن توجيهات صدرت من أعلى مراكز صنع القرار في واشنطن, وأرسلت إلى أهم محطات التلفزة الأميركية, تطالبها بأن يكون موقفها وبثها الإعلامي خلال الحرب (وطنيا) ومنسجماً مع المصالح الإستراتيجية الأميركية. والغريب في الأمر أن تلك المحطات التزمت الأوامر بحذافيرها, وكأن الأمر يتم في دولة عالم ثالثة من طراز أول. طبعاً ليس في مقدور أي إدارة أميركية أن تصدر مثل هذه الأوامر من ناحية قانونية وتشريعية, لكنها رسمت حدوداً للوطنية والخيانة ما كان بإمكان أي شبكة إعلامية كبرى أن تتجرأ وتتخطاها حتى لا تتهم بأنها تضر بالمصلحة القومية العليا (¬1). ¬

(¬1) اكذب عليّ: البروباغاندا والتشويه الإعلامي في الحرب على العراق تحرير: ديفد ميلر-عرض/ كامبردج بوك ريفيوز 4/ 3/2004م الجزيرة نت

الفصل التاسع تدمير حضارة العراق

الفصل التاسع تدمير حضارة العراق غزو العراق بين هولاكو وبوش عندما حرق (هولاكو) عواصم وأباد شعوبًا جاءت (عين جالوت) لتصيب قلب الشر وتخلعه من صفحات الزمان ممجدةً (قطز) الذي أنقذها من وحوش متدثرةً بملامح البشر. واليوم يدور التاريخ ليبني (بوش الابن) من هجمات سبتمبر المزعومة منصةَ القفز نحو حلم السيطرة، ويعلن (سوف أعلنها حربًا صليبية)، ولما راعه انفلات لسانه راح يُطلق على أمانيه صفة (العدالة المطلقة)، ثم عدّل وبدل مستعيرًا اسم إحدى الحملات الصليبية القديمة ليكون عنوانًا لصليبيته الجديدة على الإسلام (حملة النسر النبيل) (¬1). وما بين هولاكو وبوش من فروقات في الزمن الا ان نظره متمعنه فيما جرى يكشف عن تشابه بل تطابق بين الحملتين الهمجيتين. فحينما دخل (هولاكو) بغداد في شهر صفر عام 655 للهجرة، 1258 للميلاد, قام جنوده باستباحة المدينة، فمارسوا القتل والسلب وارتكاب المنكرات، فقتلوا حوالي مليون مسلم من النساء والأطفال والشيوخ والبالغين، حتى كانت الميازيب تجري بدماء الناس ـ كما يقول ابن كثير في تاريخه ـ ثم ركزوا على تخريب القصور وإتلاف الكتب, التي كانت تعبر عن حضارة الأمة وثقافتها، حيث كانت بغداد آنذاك عاصمة الخلافة ومهد الحضارة ومدينة النور. وقد وصل حقد التتار إلى حد أنهم ملئوا نهر دجلة بالمخطوطات، ليجعلوا منها جسراً لعبور خيلهم إلى الضفة الأخرى من النهر، حتى أن مياه النهر تحولت إلى اللون الأسود بعد ما صبغها المداد الذي صيغت به المخطوطات. واستمروا على هذا الحال أربعين يوماً, وهذا ما جعل المؤرخ العريق (ابن الأثير) صاحب كتاب (الكامل في التاريخ) , يقول: "لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فكنت أقدم رِجْلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه ¬

(¬1) انها حرب على الإسلام- رسالة محمد مهدي عاكف المرشد العام لجماعة الاخوان المسلمين - موقع اخوان اون لاين - 23 - 9 - 2004

أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فياليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً" (¬1). "وما حدث على يد (هولاكو) قبل حوالي 745 عاماً في بغداد, يتكرر اليوم ولكن تحت رعاية (بوش) وجنوده، فقد استُبيحت ونُهبت ودُمرت متاحف بغداد, والموصل, وكركوك, والبصرة, وجامعاتها, ومكتباتها, وحضارة خمسة آلاف عام، وإذا كان (الطبري) و (ابن الأثير) و (ابن كثير) وعشرات آخرون من مؤرخي المسلمين قد أرخوا بألم وأسى لهجمة هولاكو، فلا ندري ما الذي سيسطره مؤرخو اليوم للأجيال القادمة عن حملة بوش، حيث تُستباح حضارة العراق وثقافته وتاريخه تحت سمع العالم وبصره؟ " (¬2). يقول المؤرخ المنغولي (بيرا) في إحدى المقابلات: "أن المغول اكتسحوا بغداد في أربعة أيام فقط وعاثوا فيها تدميراً وحرقاً, مما ترك المدينة دون ملامح, والسكان في غاية الرعب، ونهبوا الخزينة, وقتلوا ما بين 200 ألف و800 ألف. واستطاع الجنرالات المغول بث الرعب في الخليفة في بغداد بما أجبره على تسليم كنوزه, وتقديم 700 أميرة هدية إلى المغول في مقابل النجاة بحياته". أما قوات التحالف الأميركية ففشلت في إثارة الرعب في عراق القرن الواحد والعشرين، فبعد اكتساحهم بغداد، بقي مغول القرن الثالث عشر الميلادي ينهبون المدينة لمدة سبعة عشر يوماً، أما في عراق القرن الواحد والعشرين فإن النهب والسلب قام به مرتزقة بإشراف ومباركة القوات الأمريكية. ومن المفارقات الغريبة كما يقول الخبير التاريخي (ميكل كون) إلى أن العراق تعرض لحملتين من كل من المغول والأميركيين. والفترة الفاصلة بين الهجومين المغوليين استمرت 13 سنة عانت بغداد خلالها من الفيضانات التي أضعفتها، كما فصلت بين الهجومين الأميركيين 12سنة تخللتها عقوبات اقتصادية أنهكت العراق" (¬3). ¬

(¬1) الكامل في التاريخ - ابن الأثير ـ حوادث سنة 617 وما بعدها ج9 ص329ـ387 - - دار الكتاب العربي للطباعة والنشر والتوزيع (¬2) قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003 ـما وراء الأحداث/ تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور- شارك في الندوة (نداء كاظم: فنان تشكيلي عراقي ـ د. هاشم يحيى الملاح: أستاذ التاريخ بجامعة الموصل ـ د. طالب البغدادي: خبير دولي في الآثار والتراثمنير بوشناق: المدير العام المساعد لشؤون الثقافة باليونسكو. (¬3) أولان باتور (منغوليا) ـ خلدون الأزهري ـ الحياة ـ 2003/ 05/30

ويصل التشابه بين الحملتين ذروته بمقارنه أسباب سقوط بغداد في الحملتين، حيث يرجع كبار مؤرخي ذلك العصر هزيمة الخليفة (المستعصم) أمام المغول إلى عدم الإعداد، وإلى الصراعات الطائفية المريرة بين قادة الشيعة والسنة. فيزعم بعضهم أن حاكم الموصل، والوزير العلقمي (وزير البلاط الأكبر) , وكان شيعياً، قد خانا البلاد، حرفياً، وخدعا حاكمهم لصالح المغول. ويتهم ابن الأثير الوزير بأنه أشار على الخليفة بأن يقلل من حجم الجيش بحيث لم يتبق سوى عشرة آلاف جندي للدفاع عن المدينة في مواجهة مأتي ألف من فرسان المغول. ويشير آخرون بأصابع الاتهام إلى الأكراد الذين كانوا قد دعموا حملة مغولية سابقة (¬1). واعتقد أنه لا حاجه بنا إلى التأكيد إلى أن نفس الخيانة والتآمر من الشيعة والأكراد, حصل خلال حملة بوش الجديدة طمعاً في تحقيق أطماع طائفية ضيقه، وليذهب بقية العراقيين إلى الجحيم. بل إن قراءة المفردات المستعملة في خطب وتصريحات الرئيس (بوش) حول قوة أميركا العسكرية, وحول التهديدات الموجهة إلى الرئيس العراقي (صدام حسين) تشبه إلى حد بعيد المفردات التي استعملها (هولاكو) في القرن الثالث عشر الميلادي في رسالة الإنذار التي وجهها إلى الملك (قطز) ملك مصر في عهد المماليك, في تلك الرسالة, قال هولاكو: "إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، واسلموا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء وتندموا على الأخطاء، فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى، وقد سمعتم أننا فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد. فعليكم بالهرب, وعلينا بالطلب, فأي أرض تأويكم؟ وأي طريق ينجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ فما من سيوفنا خلاص، وما من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق, وسهامنا خوارق, وسيوفنا صواعق, وقلوبنا كالجبال، وأعدادنا كالرمال، فالحصون لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع .. " (¬2). ¬

(¬1) بوش في بابل (إعادة استعمار العراق) - طارق على ترجمة د. فاطمة نصر ص49 (¬2) الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - ص95

وقبل أن يصدر (رمزى كلارك) وزير العدل السابق كتابه عن جرائم أمريكا ضد الإنسانية في حربها على العراق، كانت الفرقة الجوية القتالية السابعة والسبعون, قد أنتجت ووزعت كتاب أناشيد تصف فيه ما ستفعله الفرقة في الخليج، وتنذر هذا (المتوحش القميء .. (خذن الأفاعي) بأن يستعد للإبادة فيما ينتهي أحد هذه الأناشيد بخاتمة تقول: "الله يخلق, أما نحن فنحرق الجثث". والكتاب كما يصفه (كريستوفر هيتشنس) في The Nation خليط من السادية والفحش، ومعظمه تشنيع وتشهير وشتائم بذيئة للعرب والمسلمين, باعتبار أنهم أعراق منحطة, و (حشرات) و (جرذان) و (أفاع)، وهي بذاءات مقتبسه بالتأكيد من كتاب (حياة محمد) (لجورج بوش) (الجد الأكبر 1796 - 1859) الذي يضم أشنع ما كتب عن العرب والمسلمين والنبي محمد في الولايات المتحدة، وقد اعترف (نورمن شوارزكوف) في عدة مقابلات تلفزيونية, بأنه كان يريدها معركة فناء وأشار إلى أنه كان يخطط لأن تكون على شكل معركة (كاناي) القرطاجية, التي يطلق على موقعها اليوم اسم (حقل الدم) , ومن يدري ما ستكشف عنه وثائق هذه الحرب وما تلاها من حصار, حين ترفع السرية الكاملة عنهما يوماً, يتطاير فيه الريش مع رؤوس من تبقى من هذا الجنس اللعين" (¬1). فهولاكو لم يترك سلاحاً إلاّ وأستخدمه في سبيل إركاع العراقيين الذين كانوا يتصدون له, فبقر البطون وقطع الرقاب وجزّ الرؤوس و أحرق الأجساد, كما قسمّ الجغرافيا العراقيّة إلى قسمين المنطقة الجنوبية و كانت تابعة لبغداد والمنطقة الشماليّة وكانت تابعة للموصل و عينّ على رأس المنطقتين حاكمين مغوليين بمساعدة تركمان من الدول المجاورة للعراق - وما أشبه الليلة بالبارحة. بقى ان نشير إلى ان القائد المغولي هولاكو هو حفيد الطاغيّة المعروف (جنكيزخان) - مع الإشارة إلى أنّ جنكيزخان كان له شأن مع العراق تماماً كما كان جورج بوش الأب الرئيس الأمريكي الأسبق قائد الحلفاء ضد العراق في أزمة الخليج الثانيّة. و ها هو إبنه جورج بوش الإبن يكمل مسيرة أبيه تماماً كما أكمل هولاكو مسيرة أبيه جنكيزخان - وقد زحف هولاكو غرباً بإتجاه بغداد وقتل عندما وصل إلى بغداد الخليفة العباسي المعتصم وأستولى على قصره وقتل كل رجاله و بعد أن ¬

(¬1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص96 - رياض الريس للكتب والنشر- ط1 2002

مقارنه بين غزو التتار والمغول لبغداد , والغزو الأمريكي البريطاني الحالي

أستتبّ له الأمر في العراق توجّه إلى سورية وغزا حلب وقتل رجال حلب الأشاوس الذين تصدوا له - مع الإشارة هنا إلى أنّ بوش الإبن وجه تهديده لسوريا في وقت سابق, ويهدف إلى إضعاف سورية بدولة عراقية متأمركة ودولة الكيان الصهيوني و عندما تصبح سوريا بين فكي الكماشة الأمريكية يسهل الإجهاز عليها حسب إستراتيجيي البنتاغون - ولولا ظهور السلطان قطز الذي لقنّ المغول درسا مؤلماً وألحق بهم هزيمة نكراء لوصل هولاكو إلى مصر, تماماً كما رددّ إستراتيجيو البنتاغون أنّ العراق تكتيك وإستراتيجيتنا السعودية ومصر، ولكن يبدو أنّ هولاكو المعاصر قرأ بدايات هولاكو القديم ولم يقرأ مصيره ونهايته, و على الباغي تدو الدوائر" (¬1). مقارنه بين غزو التتار والمغول لبغداد , والغزو الأمريكي البريطاني الحالي (¬2) المغول - التتار ... أمريكا سبق للمغول اجتياح مملكة خوارزم في طريقهم لبغداد. ... سبق للأمريكان اجتياح أفغانستان في طريقهم إلى العراق. تحالف المغول والتتار في حربهم على بغداد. ... تحالف أمريكا وبريطانيا في حربها على العراق. حصار بغداد من الشرق والغرب. ... حصار بغداد من الغرب والشرق. بدأ غزو بغداد - الخلافة 16 محرم سنة 656هـ. ... بدأ غزو العراق 16 محرم. دخول بغداد 7 صفر. ... دخول بغداد 7 صفر. انهيار المقاومة ودخول بغداد يوم الأربعاء. ... انهيار المقاومة ودخول بغداد يوم الأربعاء. ¬

(¬1) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm (¬2) المصدر www.arab7.com أو ساحة حوار المركز الفلسطيني للإعلام.

مدة الغزو 21 يوماً حتى سقوط بغداد - الخلافة. ... مدة الغزو 21 يوماً حتى سقوط بغداد - العراق. تفوق عسكري هائل. ... تفوق عسكري هائل. تنازع بين السنة والشيعة أدى إلى ضعف الخلافة. ... تنازع بين الطوائف أدي لضعف الدولة. استباح المغول والتتار بغداد مع قوم جاءوا من عدة أنحاء سلباً ونهباً, وحرق لمكتباتها وضياع العلوم وسفك الدماء وقتل الرجال والشيوخ والأطفال والنساء. ... استباح الأمريكان العراق مع عملاء لهم سلب ونهب, وحرق المكتبات, والمؤسسات, والعلوم, والمتاحف, وسفك الدماء, وقتل الرجال, والشيوخ, والأطفال, والنساء. تآمر ابن العلقمي والعقربيين وقومه مع المغول والتتار, وحرضوهم على غزو بغداد وزينوا لهم ذلك. ... وكذلك فعلت الشيعة العراقية مع الأمريكان من تحريض على غزو العراق وزينوا لهم ذلك. توقف الناس خوفاً من أداء صلاة الجمعة في أول جمعة. ... توقف الناس خوفاً من أداء صلاة الجمعة في أول جمعة. استولى المغول والتتار على أموال طائلة من الخلافة العباسية. ... استولت أمريكا على آبار النفط وثروات العراق الطائلة. واصل المغول والتتار زحفهم نحو الشام لغزوها. ... تهديد أمريكا لسوريا بالغزو. بعد سنتين في رمضان سنة 658هـ خسر المغول والتتار في الشام كل شيء من هيبة, وتفوقهم العسكري في معركة عين جالوت في معركة كاسحة على أيدي المسلمين من الجيش المصري وما تبقى من جيش الشام والمتطوعين. ... نحن واثقين في أن الله عز وجل سيضرب أمريكا ضربة قاضية ويسلط جنده لاكتساح تفوقها العسكري وهيبتها, وإفشال مخططاتها في حربها على الإسلام - فمتى تكون عين جالوت المعاصرة ... !؟

تدمير حضارة العراق

تدمير حضارة العراق تقول كاتبة غربية: "إنه ليس من الممكن أن ترمى قنبلة على العراق دون أن تصيب مكانا أثريا. ولئن صدقت في كلامها, فعلينا أن نمسح دموعنا دائما على الموروث الحضاري الكبير, خصوصاً إذا عرفنا أنه في بغداد ينتصب أقدم قوس حجري في العالم، ويعد العراق من أثرى مناطق العالم أثرياً، ففيه بدأت الحضارة قبل حوالي ستة آلاف عام, وفيه ظهرت الكتابة المسمارية, كما تطورت فيه الرياضيات, وعلم الفلك, وتم اختراع العجلة. وفي منطقة (أور) الجنوبية, ولد النبي إبراهيم ـ عليه السلام ـ وشيدت أولى الأحجار هناك, كما وضعت في بقايا عاصمة الإمبراطورية البابلية على يد ملوك مثل (نبوخذ نصر) و (حمورابي) أولى القوانين, بالإضافة إلى أن الآشوريين, والسومريين, والأكديين, تركوا بصماتهم في تلك المنطقة" (¬1). وبالرغم من هذه القيمة الكبيرة للآثار العراقية, وأهميتها للحضارة الإنسانية، فقد مثل ما حدث من نهب, وسلب, وتدمير لهذه الآثار مأساة عظمى ليس للعراق فقط، بل للحضارة الإنسانية. وهنا يصف الفنان التشكيلي العراقي (نداء كاظم) الذي كان شاهداً على ما حدث من تخريب وحرق وهدم وسرقة للمتحف الوطني في بغداد, ولكثير من المكتبات منها، المكتبة الوطنية التي نُهبت وحُرقت, فيقول: "بدأ النهب والسلب, وحرق كل مظاهر الحضارة والثقافة، وذلك بأيدي خفية ومنظمة ومدفوعة، الفوضويون يسرقون المواد والحلي وما شاكل ذلك، أما الذين يسرقون الفكر ويحرقوه ويدمروه فهذه مسألة أخرى. لقد سُرق المتحف الوطني والأعمال التي لم يستطيعوا سرقتها بدءوا يهشمونها، ثم سُرقت المكتبة الوطنية، وفي الليل حُرقت، ودخلها ناس متسترين وحرقوها، وسُرقت مكتبة الوثائق والمخطوطات وحُرقت، وسُرقت مكتبة الأوقاف، وهذه من أهم المكتبات النفيسة، وحُرقت ـ أيضاً ـ .. إن عملية حرق بغداد منظمة .. منظمة وورائها ناس من خارج البلد .. حُرق مركز صدام ¬

(¬1) الاثار في العراق بين ايدي لصوص الحضارات - محمد سيدي - الجزيرة نت

للفنون، وسُرقت كل الأعمال الفنية، أعمال (فايق, وجواد) والفنانين الآخرين، والأعمال التي لم يستطيعوا سرقتها هشموها وحرقوها". ويصف (د. هاشم يحيى الملاح) - أستاذ التاريخ في جامعة الموصل- ما حدث من نهب وسلب في الموصل, فيقول: "في الحقيقة, في الليل هجمت مجموعة على متحف الحضارة في الموصل، وكانت الآثار مخزنة في أماكن حصينة، فقام هؤلاء المخربون بتحطيم جدران هذه الغرف الحصينة، وقاموا بسرقة الآثار الموجودة فيها. أما جامعة الموصل, فقد دخلت مجموعة من المخربين جامعة الموصل, وسرقوا كل ما فيها من سيارات كخطوة أولى, ثم بدءوا بسرقة مباني الجامعة, فسرقوا المختبرات والمكتبات، ثم أخذوا يسرقون الأثاث، وقاموا بتشجيع الغوغاء على دخول الجامعة .. حيث لم يبقَ في الجامعة شيء .. الحقيقة هاجموا مكتبة الجامعة, وحطموا أجزاء كبيرة منها, وسرقوا منها الكتب, وكذلك دخلوا إلى مكتبات الكليات, وفعلوا مثل ذلك .. لقد أصبحت الجامعة خراباً" (¬1). أما السيدة (نبيهة الأمين) مديرة المتحف الوطني العراقي فقد ذكرت: "أن عدد التحف الأثرية والتاريخية, التي سرقت أو دُمرت في المتحف الوطني العراقي, تصل إلى 170 ألف قطعة أثرية تغطي تاريخ خمسة آلاف عام من تاريخ العراق". وحول ما تشكله هذه الآثار والتحف، من قيمة إنسانية قال (د. طالب البغدادي) الخبير في الآثار والتحف: "نعم، والله أرجو من الله أن يساعدني في أن أقدر أتكلم, بعد أن سمعت ـ خصوصاً ـ الأخ نداء، وتحية له كيف صبر؟ وكيف تجرأ على أن يذكر هذه الحقائق المؤلمة والمبكية والمحزنة، حاولت أن أبتعد عن العواطف، .. حينما ذكرت السيدة (نبيهة الأمين) - مديرة المتحف الوطني العراقي- أن عدد التحف الأثرية والتاريخية التي سرقت أو دُمرت في المتحف الوطني العراقي تصل إلى 170 ألف قطعة أثرية, تغطي تاريخ خمسة آلاف عام من تاريخ العراق، العدد لا يهمني، بقدر ما يهمني ما تحتويه هذه المؤسسات، وما يحتويه المتحف العراقي ... كل المحتويات فيها نفيسة، ولكن أنفس المحتويات في قناعتي أنك تجد في هذا المتحف كيف استطاع الإنسان ¬

(¬1) ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور- قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003

أن يخترع الكتابة ولأول مرة في الكون؟ ويقدم للبشرية كيف يُكتب الفكر وكيف تُنقل الفكرة على الطين وعلى الرُقم الطينية السومرية؟! ". "تجد في هذا المتحف أول قيثارة صنعها الإنسان في التاريخ برأس العجل الذهبي المثبت عليها، تجد في هذا المتحف ملحمة (جلجامش) , وهي مسطرة ومكتوبة ومحفورة على لوحات من الرخام، ملحمة جلجامش ماذا تعني؟ تعني فكر كامل يناقش إلى حد اليوم .. فكرة الموت والحياة، فكرة الخلود والفناء، فكرة صراع الإنسان مع الطبيعة, الذي يؤدي إلى التطور الحضاري، في الرُّقم الطينية في المتحف العراقي, تجد شرائع (أورنمو) و هي أقدم من شرائع (حمورابي) بحوالي ألفي سنة، وتجد ما تجد، هذه هي القيمة الإنسانية الموجودة في هذا المتحف، تجد في هذا المتحف أول مولِّد عرفه الإنسان على ما أتذكر 25 وات كهربائي تكتشفه الحضارة العراقية قبل آلاف السنين، تجد المعادلات الرياضية في الزمن البابلي, تجد مكتبة (آشور بانيبال) الملكية التي تحوي على آلاف مؤلفة من اللوحات المرمرية والمنحوتة، أنا لا أتكلم عن التماثيل، أتكلم عن ما تحتويه من فكر, عما تحتويه من أشياء ساهمت في تطور الإنسانية, وفي قناعتي في .. في تطور الكون بأكمله" (¬1). ثم لخص (د. هاشم يحيى) الملاح ما حدث بقوله: "في الحقيقة, إن ما حصل هو تعريض لجهود هيئات علمية كبيرة, بدأت نشاطها منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، هذه البعثات الأثرية, التي قامت بالتنقيب في كل جزء من أجزاء العراق، ساهم فيها آثاريون فرنسيون وإنجليز وأميركان وعراقيين وآخرون، لقد بُذلت جهود جبارة في جمع هذه الآثار, وساهمت هذه الآثار في التعرف على نقاط غامضة من تاريخ الإنسانية، وتاريخ العراق وتاريخ المنطقة العربية، إن ما حصل هو نكبة ليس للعراق وحده, وإنما هي نكبة للإنسانية كلها, ولكل الجهود الحضارية التي بذلت من أجل زيادة معرفتنا بتاريخ الإنسان على هذه الأرض" (¬2). ¬

(¬1) ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور- قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003 (¬2) ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور- قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003

تحذيرات قبل الحرب

تحذيرات قبل الحرب يقول خبراء الآثار: "إن المتاحف العراقية تعرضت لثلاثة أنواع مختلفة من السرقة، وهي أعمال التخريب والنهب الفردية، وسرقات لقطع أثرية محددة بتكليف من عصابات إجرامية، إضافة لما وصفوه بأعمال تخريب ثقافي متعمد بدوافع دينية أو سياسية. ولكن أهم عمليات السطو التي تعرضت لها المواقع الأثرية في العراق, تتمثل في هجوم قام به مائتي مسلح بمدافع رشاشة على مدينة نمرود الأثرية ومتحفها في نينوى شمال بغداد ونهب محتوياتها, وتقطيع تمثال ثور ذي جناحين في موقع شورباك بالمحافظة ذاتها. ورغم تحذيرات عدة جهات من نقابات ومؤسسات من أن وضع الآثار العراقية لا يسر في حالة الحرب, ومطالبتهم بحمايتها خاصة من قبل اليونسكو, التي أصدرت بياناً في بداية العمليات العسكرية طالب فيه أمينها العام بالمحافظة على المواقع الأثرية من التدمير والنهب, فإننا شاهدنا متحف بغداد الأثري تصله أيدي لصوص الحضارات والتاريخ. وهنا يقول (جيريمي بلاك) المتخصص في الآثار العراقية في جامعة أوكسفورد: "لقد تم تنبيههم -أي الأمريكيين ـ إلى ذلك وكان من الممكن تفادي ما حدث", مشيراً إلى استقبال مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية علماء آثار أميركيين, جاءوا لتنبيه المسؤولين العسكريين من احتمال تعرض المواقع الأثرية للنهب, وحددوا نحو خمسة آلاف موقع أثري تحتاج إلى الحماية. كما قام (جيسون ماكجير) ـ وهو عالم آثار من جامعة شيكاغو ـ بإطلاع القادة العسكريين الأميركيين على الأهمية التاريخية للعراق, حيث أبلغ العلماء أن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) ستعمل على تشكيل مجموعة عمل لدراسة مشكلة التعرض المحتمل لهذه الآثار للتدمير (¬1). كما شدد المجلس الأعلى للآثار بمصر على أهمية الحفاظ على التراث الحضاري العراقي في خضم الحرب الدائرة هناك, باعتباره تراثاً عالمياً، وحملت اللجنة الدائمة للآثار المصرية الولايات المتحدة وبريطانيا مسؤولية الحفاظ على الممتلكات الثقافية العراقية, تنفيذاً لاتفاقية لاهاي الصادرة عام 1954 م واتفاقية ¬

(¬1) الاثار في العراق بين ايدي لصوص الحضارات - محمد سيدي - الجزيرة نت

التراث العالمي الصادرة في باريس عام 1972م بشأن حماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة. ولكن خبراء الآثار أصيبوا بالقلق حينما وجدوا أن الولايات المتحدة وبريطانيا لم تصدقا على معاهدة لاهاي لعام 1953م, التي تلزم الأطراف الموقعة عدم مهاجمة المناطق الحضارية أثناء الحروب إلا إذا كان هناك وجود لمنشآت عسكرية. ولهذا طالبت اللجنة في بيان أصدرته قبل الحرب الولايات المتحدة وبريطانيا بالإمتناع عن قصف الأهداف العراقية المدنية, خاصة المنشآت والمواقع والمتاحف الأثرية والتاريخية, حيث نبه البيان إلى أن استخدام القنابل ذات القدرات التدميرية الهائلة, التي تخترق باطن الأرض, من شأنه تدمير الآثار المدفونة تحت سطح الأرض التي لم تكتشف بعد. وأشار البيان إلى المخاطر التي تهدد متحف بغداد الأثري الذي يضم حوالي 100 ألف قطعة أثرية من كنوز الحضارات العراقية المتعاقبة منذ ما قبل التاريخ, وحتى الألف الأول الميلادي. وأهابت اللجنة بالمنظمات الدولية كالأمم المتحدة واليونسكو والمنظمات غير الحكومية للتدخل الفوري, لوقف عمليات القصف واتخاذ الخطوات (¬1). كما بعث مدير عام اليونسكو إلى السيد (كوفي عنان) رسالة في شهر نوفمبر 2002 م أبلغه بأهمية التراث الثقافي العراقي, وضرورة المحافظة عليه، وعندما بات وقوع الحرب وشيكاً بعتت اليونيسكو رسالة إلى السلطات الأميركية بينت فيها خارطة المواقع الأثرية والتاريخية, وقائمة المتاحف العراقية المعروفة لدى المنظمة الدولية للمتاحف. حيث رد على الرسالة الميجور (فارولا) من الجيش الأميركي وقال: "إن السلطات الأميركية ستأخذ الإجراءات اللازمة، ولكن في أرض الواقع (¬2). وطبعاً أخذت الإجراءات اللازمة، كما رأى الناس كلهم على شاشات التلفزة الجنود الأميركيين يقفون, والناس تنهب وتسرق كل شيء، حيث علق وزير الدفاع الأميركي (رامسفيلد) على ذلك بقوله: "إن ما حدث في العراق يتحمل مسؤوليته النظام الديكتاتوري التسلطي الذي كان قائماً هناك". أما (بول وولفويتس) نائب وزير الدفاع الأميركي ¬

(¬1) موقع الإسلام أون لاين. (¬2) قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003 ـ ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور

الأمريكيون .. متفرجون أم متواطئون؟

فقد كان له وصف مميز لما حدث من عمليات سلب ونهب في بغداد، حيث قال: "إن عمليات النهب والسطو في بغداد وكركوك والموصل هي تعبير عن الحرية؟ " http://www.aljazeera.net/programs/backstage_events/2003/4/ - TOP. الأمريكيون .. متفرجون أم متواطئون؟ في الندوة التي نظمتها قناة الجزيرة حول الآثار العراقية سأل (أحمد منصور) أحد ضيوفه بقوله: "هل تعتقد أن تدمير هذه الحضارة بهذا التاريخ وبهذه العراقة وبهذه الموروثات كان تدميراً متعمداً؟ ". فرد (د. طالب البغدادي) قائلاً: "بالتأكيد .. بالتأكيد متعمد". وكرر أحمد منصور سؤاله للأستاذ (نداء كاظم) بقوله: "هل تعتقد حرق المكتبة الوطنية التي تحوي أهم الوثائق الرسمية في تاريخ العراق، نهب وحرق المتحف الوطني العراقي الذي يحوي حضارة الإنسانية لأكثر من خمسة آلاف عام، المكتبات التي ذكرتها، مكتبة الأوقاف بمخطوطاتها وبما تحتويه من آثار, ودار الوثائق, وغيرها من عشرات المكتبات, والمراكز الثقافية الأخرى؟ هل نهب هذه الأشياء وحرقها، تم من أناس فوضويين عاديين, أم أن هذا الشيء كان منظماً ومرتباً, ومن يقف وراءه؟ ". فأجاب (نداء كاظم) قائلاً: "منظم .. منظم أستاذ. هذا منظم تنظيم جيد، وهذا التنظيم مُسبق التنظيم". وحول ما إذا كان الأميركيون مسؤولين عما حدث قال (د. هاشم يحيى الملاح): "نعم .. نعم، هم المسؤولون بلا شك، كانوا يستطيعون أن يحموا كل هذه المراكز، مثلما حموا وزارة النفط، ومثلما حموا المراكز التي هم يقصدوها، ليش حموها؟ ليش المركز الثقافي ما يقدرون يحموه؟! المكتبة الوطنية ما يقدرون يحموها؟! ". كما اتهم مستشار وزير الثقافة العراقي السابق (مؤيد سعيد الدمرجي) القوات الأميركية بالسماح للصوص بنهب متحف بغداد, ودعا الولايات المتحدة والأمم المتحدة إلى إنقاذ الثروة الأثرية في البلاد. وقال (الدمرجي): "إن الدبابات الأميركية كانت تقف أمام الباب الرئيس للمتحف الوطني العراقي, عندما دخل اللصوص إلى المتحف من باب آخر على مسافة قصيرة منها, ولم يتحرك الأميركيون". وأضاف (الدمرجي) وهو أستاذ علم الآثار في جامعة بغداد: "توجهنا إلى الجنود وطلبنا منهم المساعدة, فقالوا لنا: إنهم لم يتلقوا الأمر بالتدخل"، موضحاً أن اللصوص دخلوا كل القاعات دون

إدانة عالمية لوقوع الآثار في العراق بين أيدي لصوص الحضارات!!

استثناء, وحتى إلى المستودعات تحت الأرض ودمروا كل ما كان حجمه كبيراً جداً ولا يمكن حمله. وأعلن رئيس قسم الآثار في العراق (جابر خليل إبراهيم) أن الضباط الأميركيين الذين زارهم في مقرهم العام بفندق فلسطين في وسط بغداد, وعدوه بحماية الآثار، وقال: "لقد مضى على ذلك ثلاثة أيام ولم يحصل شيء، وعدوا بإرسال دبابات وقوات ولا نزال ننتظر". كما أكد ذلك حارس المتحف (محسن كاظم) بقوله: "إنه طلب من القوات الأميركية قبل نهب المتحف بيوم ـولم يكن قد اقترب شخص واحد من المتحف ـ طلب منهم أن يحموا المتحف, ولو بجنديين فقط، ولكنهم رفضوا، وفي اليوم التالي تدفق اللصوص والفوضويون إلى المتحف, وقاموا ونهبوا محتوياته دون أن يفلح حارس واحد, طبعاً غير مسلح في أن يمنع الناس منه (¬1). http://www.aljazeera.net/programs/backstage_events/2003/4/ - TOP إدانة عالمية لوقوع الآثار في العراق بين أيدي لصوص الحضارات!! أثار تدمير ونهب المتحف الوطني استنكاراً دولياً وتعبئة واسعة من أجل منع تشتيت هذا التراث, الذي يمثل ذاكرة البشرية. وقال مدير بعثات الآثار الأميركية في العراق (ماكغاير غيبسون): "علمنا للتو أن متحف تاريخ العراق الذي يعتبر من (المواقع) الأكثر أمناً تعرض للنهب". حيث: "إن متحف الآثار في بغداد نهب على دفعتين, الأولى ليلاً من قبل عصابات منظمة استفادت من التسهيلات للوصول إلى المحفوظات، حيث تخزن أجمل القطع, والثانية: أكثر عفوية من قبل أناس غاضبين بسبب ظروفهم المعيشية التعيسة. وأضاف (غيبسون): "نعلم أن مجموعة الألواح المسمارية المصنوعة من الطين, والبالغ عددها 80 ألفا فقدت من متحف الآثار في بغداد, كما فقدت القطع الصغيرة من متحف الموصل والتي كانت وضعت في مأمن في بغداد". وتحدث ـ أيضاً ـ عن فقدان التماثيل الكبرى لموقع الحضر (في الشمال) , التي أدرجت على لائحة التراث العالمي لليونسكو. وتابع أنه تم إحراق مجموعات عديدة لمخطوطات الأرشيفات الوطنية, بينها جميع أحكام المحاكم الإسلامية منذ ¬

(¬1) ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور- قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003

القرن السادس عشر الميلادي، كما تحولت مكتبة القرآن في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية إلى رماد وكذلك المكتبة الوطنية". ومن الجدير بالذكر أن ثلاثين خبيراً دولياً من الأخصائيين في تراث الشرق الأوسط وآثاره, أعربوا عن صدمتهم الشديدة من الأضرار الخطيرة وعمليات النهب التي لحقت بالتراث العراقي الثقافي, عقب سقوط نظام صدام حسين. ونشر الخبراء في مؤتمر صحفي عقد بمقر اليونسكو في باريس, لائحة مطالب موجهة إلى كل المسؤولين عن الحفاظ على النظام لإعادة القطع الثقافية المسروقة, أو التي تم تصديرها بطريقة غير شرعية من العراق. كما اتهم علماء آثار بريطانيون القوات الأميركية والبريطانية بإهمال حماية المتاحف, والمواقع الأثرية, مقابل حرصها على تأمين حقول النفط, وأبدوا أسفهم الشديد لضياع آثار عراقية لا تقدر بثمن. ويقول (ألكس هنت) الباحث والأمين على الآثار في مجلس الآثار البريطانية في يورك ـ شمالي بريطانيا: "إن حماية وزارة النفط وإهمال حماية متحف الآثار في بغداد يعكس موقف التحالف من التراث الثقافي". كما نشر عدد من علماء الآثار المعروفين مقالاً في صحيفة غارديان البريطانية, شجبوا فيه موقف المتفرج الذي وقفته القوات الأميركية والبريطانية من أعمال النهب, التي استهدفت الآثار والأعمال الفنية لا سيما في مدينة الموصل والبصرة وبغداد. وعبر علماء الآثار عن استيائهم إزاء الضغوط التي مورست في الولايات المتحدة بهدف تخفيف القوانين الهادفة إلى حماية الإرث الثقافي العراقي, والتي تحظر بيع أعمال فنية في الخارج بحجة أن هذه القطع ستكون في مأمن في الولايات المتحدة, الأمر الذي قال عنه (ألكس هنت): "إنها الإمبريالية الثقافية بعينها". وإزاء هذا الموقف اللامسئول والهمجي للقوات الغازية إزاء ثروات العراق وحضارته، قدم ثلاثة من المستشارين الثقافيين للرئيس الأمريكي (جورج بوش)، استقالاتهم من مناصبهم احتجاجاً على فشل القوات الأمريكية في منع نهب متحف بغداد. وقال أحد المستشارين واسمه (ريتشارد لانيير): "إن الولايات المتحدة تعرف ثمن النفط ولكنها لا تعرف قيمة الآثار التاريخية". وأضاف "إن الجنود الأمريكيين أظهروا لامبالاة تامة حيال التراث الثقافي للعراق". أما رئيس اللجنة الاستشارية

أيد إسرائيلية

للبيت الأبيض للشؤون الثقافية (مارتن ساليفن) فقد استقال يوم 14 أبريل 2003، معتبراً أن نهب متحف بغداد كان مأساة يمكن توقعها ومنعها، وفي ذلك إشارة مباشرة على تواطؤ متعمد من قبل القوات الأمريكية لنهب وتدمير الآثار العراقية. أيد إسرائيلية هناك سؤال مهم طرحه (أحمد منصور) على ضيوفه في الندوة المشار إليها فقال: "ما هي مصلحة الولايات المتحدة وهي دولة كل حضارتها 300 سنة تقريباً، ما هي مصلحتها في أن تدمر حضارة العراق وثقافتها وتاريخها الذي يمتد إلى خمسة آلاف سنه؟ ما هي مصلحة الولايات المتحدة في ذلك؟ ". فاجاب على ذلك (د. طالب البغدادي) موضحاً أن ذلك في مصلحة إسرائيل وأمريكا حيث قال: "والله لمصلحة الطرفين مثل ما قلنا، لمصلحة أمريكا في أهداف معينة، ولمصلحة إسرائيل في أهداف أخرى ... لمصلحة أمريكا أنها حطمت ودمرت بغداد, التي يعتبرها كل العرب العاصمة الثقافية تاريخياً للأمة العربية, وكذلك للأمة الإسلامية بشكل عام، وهذا معروف وما أريد الإسهاب به". فرد عليه (أحمد منصور) قائلاً: "هناك اتهامات يا دكتور لأيدٍ خارجية في الموضوع، وهناك بعض التقارير ألمحت إلى وجود أيدٍ إسرائيلية من وراء هذا الأمر، على اعتبار وجود ثروة من التاريخ، كما تسعى إسرائيل إلى تغيير هوية وتاريخ فلسطين، يُقال ـ أيضاً ـ إن هناك أيدٍ صهيونية تحاول أن تلعب في تغيير تاريخ وهوية العراق, والدليل على ذلك أنه ليس هناك نهب وسرقة فقط، وإنما حرق وتدمير وإزالة، وبعض الأشياء تقول: أن هذا يعود إلى تصورات تلمودية وتوراتية قديمة، يعني أما يعتبر ذلك مبالغة إلى حد ما؟ ". (د. طالب البغدادي): "لا أعتقد أن هناك مبالغة، لاسيما إذا أخذنا التاريخ اليهودي .. تاريخ الديانة اليهودية، تاريخ إنشاء دولة إسرائيل، لماذا قامت دولة إسرائيل؟ يعني قيام دولة إسرائيل له علاقة كاملة وعلاقة تامة مع التعليمات التوراتية والتعليمات التلمودية، فـ (دانيال) أوصى بقيام مملكة إسرائيل، أوصى كل اليهود وبنى إسرائيل بالذات بإقامة دولة إسرائيل متى تسنى لهم ذلك، وأوصى أيضاً

العمق الحقيقي للحرب ـ مقصلة الكبرياء

بصب اللعنة على شعب بابل، نحن لا ننسى أن التوراة كتبت في العراق كتبت في مدينة (الدعة) على نهر الفرات في شمال وسط العراق, وأن التوراة جُمعت وكتبت هناك". أحمد منصور (مقاطعاً): "يعني هل هذه هي الفرصة التاريخية .. لتدمير كل ما يمكن أن يصيغه الآخرون من تاريخ عن العراق؟ ". د. طالب البغدادي: "بالتأكيد هذه الفرصة التاريخية اللي ما سنحت لهم، بالرغم من أن العراق شهد أحداث عنيفة كثيرة وشهد حروب كثيرة .. لكنه لم يشهد مثل هذا الدمار، هناك حملة منظمة لتدمير الهوية الثقافية للشعب العراقي، وتدمير الهوية الثقافية يعني وضع الوجود القومي للشعب العراقي موضع الشك، لأنه أنا في اعتقادي لو أسرد لك بعض .. بعض الشيء عن .. اللي ذكره في شارع حيفا يعني ماذا أحرقوا فيه؟ يعني يقشعر بدني أو تقشعر حواسي, إذا أقول لك أن هناك نسخ من القرآن الكريم قد حُرقت، أي نسخ؟ ابن البواب وابن مقلة، وياقوت المستعصمي وحمد الله الأماسي، و .. علي التبريزي هؤلاء الذين وضعوا أسس الخط العربي والحرف العربي، ناهيك عن .. عن القرآن الذي خطته أيادي الإمام علي بن أبي طالب بالخط الكوفي الجميل، ناهيك عن النسخ الأخرى من القرآن، لكن ابن البواب في بغداد, وابن مقلة في بغداد, وحمد الله الأماسي، كل هذه النسخ من القرآن الكريم موجودة ومحفوظة في مكتبة المخطوطات" (¬1). العمق الحقيقي للحرب ـ مقصلة الكبرياء بعد هذا التدمير المنظم للعراق ولحضارة العراق, وتعمد الإساءة لشعب العراق العريق، وإظهاره وكأنه حفنة من قطاع الطرق واللصوص, الذين انقضوا على نهب وسرقة كل ما وقعت عليه أيديهم، كتبت الكاتبة (حياة الحويك عطية) مقالاً في جريدة الخليج بينت فيه البعد الحقيقي, فقالت: "هذا هو العمق الحقيقي للحرب، أمر أبعد بكثير من نظام صدام حسين: كسر الكبرياء الوطنية، وتدمير وطنية الحضارة والثقافة، وإذلال الروح, وسحق كل شيء. حرام، وألف حرام! فلنوقف هذه المجزرة! ¬

(¬1) قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003 ـ ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور

إنها مجزرة أخطر من مجزرة الأرواح والأجساد والممتلكات والمؤسسات! إنها مجزرة رقبة الكبرياء العراقية، ومن ورائها العربية كلها، تحت مقصلة الحقد اليهودي الأمريكي، إنها تشويه وجه الشهيد وتمثيل بجثته، أوقفوا التمثيل بجثة العراقيين. حرام، حرام! هذه بلاد سومر التي اعترف لها (كرومر) بأن التاريخ بدأ بها، وكل شيء بدأ فيها .. كلنا مدينون لما بين النهريين، ايه (نا) .. (نا) العرب، ام (نا) الإنسانية كلها، بل كلتاهما معاً. حرام! حرام! هذه بلاد آشور بانيبال، وسرجون، واسرحدون، ونبوخذ نصر، والرشيد، والمأمون والمعتصم وصلاح الدين. ولكن ألا يعني كل اسم من هؤلاء ثأراً مراً حاقداً لدى هؤلاء الغزاة الصهاينة؟ أو ليس هذا التشويه انتقاماً حارقاً من السبي, وعمورية, وحطين، وفيما هو أعمق: انتقام من مكتبة نينوى, وألواح آشور ومسلة حمورابي, وقصيدة أبى تمام ... من تمثال جواد سليم, وارث السياب .. بل من شهداء الجيش العراقي على تخوم وأرض فلسطين؟. هذا هو العمق الحقيقي للحرب، أمر أبعد بكثير من نظام صدام حسين: كسر الكبرياء الوطنية، وتدمير وطنية الحضارة والثقافة، وإذلال الروح, وسحق كل شيء، لأجل بداية جديدة، لا مكان فيها إلا لما يرسمه (ريتشارد بيرل) و (بريمر) ولفيفه، من إسرائيل إلى الولايات المتحدة. إذلال لن تنعكس آثاره على العراقيين وحدهم، على مستقبلهم وحدهم، بل على هذه الأمة بكاملها، للقضاء على آخر بؤر الكرامة فيها, وتحويلها إلى جمع من الدلالين والسماسرة، من الباعة والمبيعين، أما البضاعة فكل شيء، ولا حرمة لشيء في غياب الكرامة (¬1). نعم هذا هو البعد الحقيقي للحرب .. الانتقام والثأر من السبي, وآشور, وسرجون, وصلاح الدين, وكل الذين وقفوا في وجهه الشعب المختار وأحقاده وأحلامه في تأسيس مملكة الرب من النيل إلى الفرات ... من نبوخذ نصر وبابل (أم العاهرات) التي توعدتها التوراة الحاقدة بأشد أنواع الدمار ... "يا بنت بابل المخربة، طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا. طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة ... سيبكي وينحب عليها ملوك الأرض الذين زنوا بها واترفوا معها، حين يرون دخان ¬

(¬1) مقصلة الكبرياء ـ حياة الحويك عطية ـ الخليج 18/ 4/2003

لهيبها, وعلى بعد يقفون خوفاً من عذابها ويقولون: يا ويلتاه يا ويلتاه أيتها المدينة العظيمة, بابل المدينة القوية، لأنه في ساعة واحدة أتي الحكم عليك" (¬1). هذا هو البعد الحقيقي للحرب, الذي على أساسه فعلت (الصهيونية المسيحية) فعلها وتأثيرها في كل من بريطانيا وأمريكا، ووصل بها الأمر إلى استخدام أكبر المحرمات الدولية ضد العراق على مختلف الصعد, ولتفرغ ضده كل سموم الأحقاد المزمنة والحديثة، حيث عجزت كل العصور والأزمان الماضية أن تقتص منه، كما يجب أن تقتص - يهودياً ـ ولم يجد يهود العالم وصهيونيوه ـ اليهود منهم وغير اليهود - مناسبة (لمحق العراق) - كما قال الجنرال الأميركي شوارزكوف- أفضل من الحقد الأخير في القرن العشرين، للولوج إلى القرن الحادي والعشرين يهودياً وصهيونياً, وبدعم أميركي دون أن تكون (عقدة بابل) حاضرة في هذا القرن، كما في القرون والعصور الماضية ... وليس أسلوب تدمير العراق، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ونفسياً، ثم خنقه وقطع أنفاسه، إلا الدليل الحي على ما وصل إليه الحقد اليهودي ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ... مجنداً كل طاقاته وإمكانياته وحلفائه في هذا الخصوص، عبر توكيل رسمي لأمريكا وبريطانيا .. من أجل محق العراق البابلي، ومحو عقدة بابل من قاموس يهود العالم وتوراتهم .. وإذا كانت (عقدة بابل) عقدة حية في نفوس اليهود, ويريدونها أن تبقى كذلك حتى (محوها) من الوجود, ألا يحق لعاصمة (الشريعة ألام) الحمورابيه أن تبقى حية في نفوس أبناءها، وفي تاريخ الإنسانية باعتبار أن الحضارة والاكتشافات ليست ملك شعب بمفرده, بل هي ملك للإنسانية جمعاء؟ أليست شريعة حمورابي وقوانينه ملكا للبشرية كلها وقد استفادت منها كلها؟ أليست بابل هي أهم وريثة شرعيه لأول وأهم حضارة وهي سومر؟؟ ... شاء اليهود أم أبوا ... وشاء الصهاينة - على اختلافهم - أم أبوا ... سيبقى العراق بتاريخه وحضارته، كما ببابله وسومره، صفحة مضيئة في سجل التاريخ، على امتداد عصوره وأزمانه، مهما حاول اليهود والصهاينة والأمريكان, وكل أعداء ¬

(¬1) على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيل ـ حمدان حمدان- ص214 - بيسان للنشر والتوزيع- ط1 2000

وماذا بعد

الحضارات الإنسانية محو هذه الصفحة من الوجود، ومهما كانت قوة (ممحاتهم) التكنولوجية المتطورة فعالة في تغيير المعالم الجغرافية إلا أنها ستعجز عن تغيير (التاريخ) , لأن حقائقه ووقائعه وآثاره ومكتشفاته الناطقة بالحق، ليست قابلة (للمحو) من التاريخ ذاته, ومن الحضارات نفسها .. وهي أكبر من أية قوة متغطرسة لا تستند لقوة الحق في ميزان المعادلات والمقاييس والقيم (¬1). وماذا بعد بعد أن احتلت أمريكا العراق, ودمرت بنيته التحتية والفوقية -المدمرة أصلاً ـ ودمرت, ونهبت تراثه وآثاره، فإنه من حقنا إعادة السؤال مرة تلو الأخرى، هل انتهت المشكلة التي افتعلتها أمريكيا مع العراق؟ وهل سيتخلص الشعب العراقي من الاحتلال الأمريكي الغاشم؟ وهل ستكف أمريكيا عن ملاحقة الدول العربية والإسلامية وفرض الحصار والعقوبات عليها؟! وهل سيتخلص الشعب الفلسطيني من إرهاب الدولة الصهيونية، وينعم بالسلام وبدولته المستقلة كباقي شعوب الأرض؟؟!. بالتأكيد لا, وسنرى جميعاً في الأيام القادمة مشكلة جديدة ستفتعلها أمريكا لتنفيذ ما تريد سواء مع إيران أو سوريا أو السودان .. الخ. فقائمة المطلوبين كبيره -ستون دولة - والقاسم المشترك في القائمة هو الإسلام والعروبة، والأهداف المعلنة التي رشحت من تصريحات المسئولين الأمريكيين مخيفة، وما خفي كان أعظم. يقول الأستاذ (شفيق مقار) في كتابه (المسيحية والتوراة): "في ضوء تعلق المسيحيين الغربيين المؤمنين، وبخاصة في أميركا، بكل ما يمليه الإيمان عليهم من خطوات عملية، هل قام هؤلاء بكل ما هو مطلوب منهم، أم أنه ما زال عليهم أن يضطلعوا، تحقيقاً للحلم الصهيوني، بما هو أكثر مما اضطلعوا به حتى الآن؟ ". ويجيب على ذلك بقوله: "ما لم نتخل عن الإيمان بحرفية كل كلمة في العهد القديم وسفر الرؤيا، يجب أن ندرك أنه ما زال على المؤمنين الثقاة, الذين جعلوا (الحلم الصهيوني) حقيقة واقعة أن يقوموا بالكثير مما دعاه قادة أميركا الزمنيون بـ ¬

(¬1) خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق - د. صالح زهر الدين - ص22 ـ 24 - المركز العربي للابحاث والثوثيق- ط1 1999

(عمل الله على الأرض) , وما يدعوه قادتها الروحيون بالخطوات اللازمة للتعجيل بمجيء المسيح. وما لم نتخل عن الواقعية، يجب أن نسلم بأن الشيء الوحيد الذي يقف في وجه التحقق المكتمل للخطوة الأولى اللازمة لخلق الظروف المطلوبة لمجيء المسيح , يتمثل في وجود كل تلك الملايين الضالة من الجوييم, التي يمثل (المحمديون) أغلبيتها، على الأرض (المملوكة لليهود) الممتدة من النيل إلى الفرات. وما لم نتناس الأمر الإلهي ببناء الهيكل الثالث, وإخلاء الأرض من كل ما هو ليس يهودياً، يجب أن نتوقع حتمية السير قدماً في مشروع إزالة مسجد عمر, وقبة الصخرة من القدس, وبناء الهيكل الثالث على الموقع بكل تلك الأموال, التي تجمع في أميركا تعجيلاً باستكمال تلك الخطوة الأخرى الضرورية للمجيء" (¬1). ويقودنا كل هذا، على ضوء ما هو متوافر من معطيات، إلى محاولة الاستبصار، عن طريق القياس، بما يمكن أن يفضي إليه فعل هذا العامل الديني بالنسبة للبشر في منطقة الشرق الأوسط، الساحة الراهنة لانطلاقة المشروع الصهيوني، وما سوف يلي تلك المنطقة من ساحات أوسع للمشروع الكوكبي. ففيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، شهدت المنطقة وستظل تشهد فيما هو مرجح: أولاً: التصميم الأميركي الذي لا يحيد على تأمين التفوق التقني والعسكري الإسرائيلي ابتداءً من المجال التقليدي, ووصولاً إلى مجال القدرة النووية, وقدرات الدمار الشامل. والذي ينبغي ألا يغيب عن الذهن ـ هنا ـ أن موقعة هرمجدون اتخذت في الوعي الأمريكي باستمرار منذ بدأ التبشير الأصولي بها بعد 1945 م صورة القصف النووي (¬2) المكثف, الذي ستباد فيه كل تلك الجيوش الشريرة (الصاعدة) من ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار -ص441 (¬2) في تقرير سري نقلته صحيفة لوس أنجلوس تايمز، أطلعت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) الكونغرس على خطة لاستخدام محتمل للأسلحة النووية ضد دول يعتقد أنها تهدد أمن الولايات المتحدة. ويشكل هذا تحولاً سياسياً في مجال الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل حيث أنه سيزيد من احتمالات قيام الإدارة الأميركية باستخدام هذه الأسلحة المحظورة. يشار إلى أن سياسة الولايات المتحدة كانت تنص في السابق على عدم استخدام الأسلحة النووية إلا عند الرد على هجوم نووي مماثل أو في ظروف الحرب الاستثنائية. http://www.aljazeera.net/news/america/2002/3/ - TOP وذكرت الصحيفة أن إدارة الرئيس الأميركي بوش طلبت إعداد خطة لاستخدام أسلحة نووية ضد سبع دول على الأقل عند الطوارئ, وأنها أصدرت توجيهات للجيش بإنتاج أسلحة نووية صغيرة لاستخدامها في ميادين قتال معينة. وقالت الصحيفة إن الدول التي وردت أسماؤها في التقرير السري الذي قدم للكونغرس في الثامن من يناير/ كانون الثاني هي الصين وروسيا والعراق وكوريا الشمالية وإيران وليبيا وسوريا. وقالت الصحيفة إن التقرير أبلغ الكونغرس بأن البنتاغون يجب أن يكون مستعدا لاستخدام أسلحة نووية في إطار الصراع العربي الإسرائيلي أو في حرب بين الصين وتايوان أو في هجوم من كوريا الشمالية على الجارة الجنوبية, وقد يكون ضروريا إذا هجم العراق على إسرائيل أو أي دولة مجاورة أخرى. 10/ 3/2002م الجزيرة نت ..

صفحات سفر حزقيال وسفر دانيال وسفر يوحنا اللاهوتي على (المدينة المحبوبة) يروشاليم، و (الأمة المقدسة)، إسرائيل. وإلى وقت قريب، كان الاتحاد السوفيتي المرشح الأول لدور (جوج) الشرير قائد كل تلك الجيوش المكونة, لزحف (أبناء الظلام) , على (أبناء النور) إسرائيل وأنصارها من الأصوليين المسيحيين. لكن الاتحاد السوفيتي انسحب الآن من الساحة، وبانسحابه سوف يتعين على (أبناء الظلام) ليكونوا هدفاً لما سوف يوجهه (أبناء النور) من ضربات وقائية بغية تأمين استمرار وضع إسرائيل كقوة عظمى بالمنطقة. ثانياً: في ظل هذا التصميم الأميركي على تأمين التفوق الإسرائيلي, يرجح أن تشهد منطقة الشرق الأوسط تكثيفاً متصاعداً للدعم التقني والتسليحي الأميركي لإسرائيل, التي يترنم الأميركيون كل صباح معلنين (أنهم يحبونها لأن الله يحبها) , وبالمقابل لذلك التصعيد في قدرات إسرائيل العسكرية والنووية تصعيد للتصدي الأميركي لكل ما يمكن الاشتباه في أنه قد يشكل تحدياً للتفوق الإسرائيلي, أو حتى مجرد (إخلالا بالتوازن) المفروض لصالح التفوق الإسرائيلي تحت رايات التوجه صوب تحديد الأسلحة ونزع السلاح" (¬1). وما نشهده الآن من حملة على إيران وسوريا وليبيا حول أسلحة الدمار الشامل ما هو إلا خطوة ستفضي إلى ما أفضت إليه في العراق. ثالثاً: هذا الحشد من العنصرية العمياء والخرافة والتأييد الأمريكي الأعمى, والإعلام الموجه, والدعايات المرسومة, والترسانات المجهزة للنسف والخسف, وأكداس السلاح, وأكوام المليارات, وتلال الأكاذيب, والتضليل المنسق للعالم كله, والاتهامات المسمومة لكل من يتعرض لفضح مخططها, هي ما ينتظرنا في الأعوام القليلة القادمة (¬2). فهي حرب صليبيه مجنونة يقودها رجال يؤمنون بأن إسرائيل مشروع إلهي لا بد أن يسيطر ويتحكم، وأن علوها محطة تاريخية لازمة لعودة المسيح, وأن هذه ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار -ص446 (¬2) إسرائيل .. البداية والنهاية - مصطفى محمود ص23

الحرب لا بد أن تجتاح العالم الإسلامي بأسره. بالأمس كانت أفغانستان واليوم العراق، وقبل ذلك فلسطين (¬1)، وغذاً ايران وسوريا وبعدها السودان والسعودية ومصر ... الخ. فهل سترضى دول العالم بهذا الأمر؟ وهل سيرضى المثقفون والمفكرون ومؤيدو حقوق الإنسان بهذا الواقع الجديد الذي يراد فرضه على الجميع ـ رغم أنوفهم ـ؟ وهل ستبقى الشعوب العربية والإسلامية خامدة مستكينة لتقودها زعاماتها إلى مصيرها المظلم؟. بالتأكيد لا .. فانهيار الطغيان الأمريكى لم يعد مجرد أضغاث أحلام بل له شواهد يراها العقلاء وأصحاب البصائر بجلاء ... فالتخبط والتناقض وانكشاف الأكاذيب الملفقة وفقدان المصداقية هى أدلة واضحة على ذلك الانهيار فضلاً عن المبالغة في القتل و الابادة الوحشية وانفلات الأعصاب وسوء السمعة. لقد بلغ اجرام الصليبيين الجدد مداه ولم تعد هناك حجج جديدة تبرره بل لقد فاضت سجلات جرائمهم وفاحت رائحتها الكريهة في كل أرجاء المعمورة ... وبدأت أصابع الاتهام توجه لأساطين الاجرام و شاهد العالم على شاشات التلفاز صحافية شابة وهى تصرخ في وجه رامسفيلد وتصفه بمجرم الحرب وتلك حادثة لها دلالات واضحة! .. لقد سقط عامل الرعب والصدمة والترويع وبدأ الناس يتجرأون على التعبير عما رأته عيونهم ووعته اذانهم من سفك للدماء وابادة للمدنيين الأبرياء وتعذيب للمعتقلين واهدار لكرامتهم الانسانية ولم يعد أحد يهتم بالتقارير الأمريكية عن انتهاك حقوق الانسان بعد أن رأوه واضحاً للعيان!!! لقد فقد الصليبيون الجدد الحجة في ميادين المنطق والبيان كما فقدوا المبادرة في ساحات القتال وأصبح استمرارهم في الاحتلال يمثل نزيفاً مستمرا لقواتهم وميزانياتهم كما أن اعلان الانسحاب سيكون بداية الحساب على اجرامهم ووتعرية فضائحهم بالقاء المسئولية على بعضهم البعض ولن تنفعهم معذرتهم كما لم تنفع كولن باول ... وما كان اجرامهم ليتكشف للعالم لولا المقاومة العنيدة ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - أحمد حجازي السقا ص124 - دار الكتاب العربي، دمشق، القاهرة - ط2 2003

التى فتحت عيون العالم على حقيقة زيف الديمقراطية والحرية التى كانوا يفتخرون بحقوق نشرها واحتكار توزيعه (¬1) ا!!! ¬

(¬1) الكابوس الأمريكي وحلم الخلاص - محب الصالحين - http://www.almotmaiz.net/vb/showthread.php?t=9872

الباب الرابع أمريكا ... تاريخ من الغزو والإرهاب

الباب الرابع أمريكا ... تاريخ من الغزو والإرهاب الفصل الأول الارهاب الأمريكي في ظل العهد القديم الإرهاب .. صناعة أمريكية اعتاد العالم كله على تلقي النصائح والتوجيهات من أمريكا، في القضايا التي تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، باعتبارها الدولة الرائدة في العالم في هذين المجالين. بل أن كثيراً من الأمريكيين يحلو لهم وصف بلادهم بـ (مهد الحريات والديمقراطية والحقوق الإنسانية) وهو وصف يصح بشكل نسبي، وفي بعض المواقف فقط، لكن لا يمكن أن ينسحب على أمريكا بشكل عام والدليل ما تبوح به وقائع التاريخ القريب التي يعرفها الأمريكان أكثر من غيرهم. فتاريخ هذه الأمة بنى على مآسي إنسانية يشيب لها الولدان، بداية من الاستيلاء على أراضى الهنود الحمر بالقوة، ثم دحرهم بدلاً من شكرهم أو حتى التعايش السلمي معهم، ثم بعد أن انتهوا منهم تحولوا إلى أفريقيا، للبحث عن عبيد يصلحون لهم أراضيهم، ويمهدون سبل الحياة المرفهة لهم، وهى فترة من التاريخ لا يكاد يوجد أحد في العالم لا يعرفها، ويعرف ما حدث فيها من ظلم، هو النموذج الذي يمكن لأي ظالم أن يستمده منه (¬1). وفي محاولتها تبرير حملتها الصليبية على العالم الإسلامي، لجأت أمريكا وطوال سنوات عديدة إلى استخدام مبررات مختلفة، مرة بدعوى محاربة المد الشيوعي، وأخرى بدعوى الحرص على تطبيق الديمقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان، وأخيراً جاء الشعار الجديد، وهو محاربة التطرف الإسلامي أو الأصولية الإسلامية التي وجدت، أفضل تعبير لها فيما تسميه أمريكا الآن بالحرب على الإرهاب. والمدقق في التاريخ الأمريكي يجد أن مثل هذه المبررات والدعاوى ليس الأولى من نوعها، بل تكررت على مدار التاريخ الأمريكي لتبرير النهب والسلب، وحق ¬

(¬1) أمريكا .. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية / إعداد وسام الأسدي جريدة الخليج 27ـ2ـ2003م عدد 8684

التدخل لفرض سيطرتها على العالم، على اعتبار أن ما تقوم به ما هو إلا تنفيذاً لمشيئة إلهية، لتنوير العالم، والأخذ بيده إلى التقدم والحرية. يقول (جون آدمز) أحد الرؤساء الآباء المؤسسين: "أن الله ما أوجد أمريكا إلا لتنفيذ مشيئته المتمثلة في القيام بعبء تنوير وقيادة الشعوب الرازحة تحت نير الجهل والتخلف والعبودية، والأخذ بأيديها صوب التنوير والتقدم والحرية" (¬1). ونفس المعنى كرره (هرمان ملفيل) بقوله: " إننا نحمل على كواهلنا حريات العالم" (¬2). وبناء على هذا الإيمان تصرفت أمريكا مع العالم، فعلى الصعيد الداخلي تم إبادة الهنود الحمر بدعوى أنهم متوحشون وغير حضاريين، وتم استعباد السود، بتلك الدعوة العنصرية، التي تزعم تفوق الجنس الأبيض. وعلى الصعيد الخارجي، تم نهب ثروات أمريكا اللاتينية ومحاربة دولها باسم الدفاع عن النفس مرة، وباسم الحرية مرة أخرى، مما دفع (سيمون بولفار) أحد أبطال تحرير أمريكا اللاتينية في منتصف القرن التاسع عشر إلى القول: "يبدو أن الولايات المتحدة تسعى لتعذيب وتقييد القارة باسم الحرية" (¬3)، هذا ناهيك عما يسميان بالحرب العالمية الأولى والثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، والحرب على أفغانستان والعراق .... الخ القائمة الطويلة. نعم هذا هو واقع الحال قديماً وحديثاً منذ أن استعمر الانجلوسكسون أمريكا، وأبادوا سكانها الأصليين، ومروراً بالحروب المختلفة التي خاضتها أمريكا خلال القرنين الماضيين، وانتهاءً بحربها الصليبية على العالم الإسلامي، حيث نجحت أمريكيا في السابق، في تضليل العالم ببعض الشعارات البراقه، وتمكنت من نهب ثرواته، وسلب إرادته تحت شعار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنها وفي الآونة الأخيرة بدأت تفقد مصداقيتها، وبدأت تتكشف أهدافها الحقيقية الخبيثة تجاه الإنسانية. ففي الأزمات تسقط دائماً أوراق التوت وتظهر الأمور على حقيقتها دون زيف، ويبدأ التاريخ يظهر من جديد ليشكل مرآة تعكس حقيقة أمة، يؤكدها الحاضر، ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص408 (¬2) الحلم والتاريخ - مائتا عام من تاريخ أمريكا _ كلود جوليان - ترجمة نخلة كلاس- ص 17 - دار طلاس, 1989 (¬3) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى ـ ص51

أمريكا .. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية

وتعززها الممارسات. فمنذ عقود طويلة والعالم ينظر للولايات المتحدة الأمريكية على أنها دولة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، ولكن الوجه الحقيقي للولايات المتحدة، بدأ يظهر في الأزمات ليذكر العالم بتاريخ الأمة الأمريكية، وتاريخ الدولة الأمريكية التي أنشئت أساساً على جثث السكان الأصليين للقارة، وبنت اقتصادها على حساب الشعوب المستضعفة. أمريكا .. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية إن المتتبع لتاريخ الولايات المتحدة لن يندهش بكل تأكيد من العربدة الأمريكية الحالية، ومن أسلوب القرصنة الذي تنتهجه لنهب مقدرات الشعوب الأخرى باسم محاربة الإرهاب. ففي دراسة لها، ذكرت (اليزابيت مارتينيه)، أستاذة الدراسات العرقية في جامعة كاليفورنيا، وناشطة في مجال حقوق الإنسان، إن الولايات المتحدة الأمريكية كأمة بنيت على ثلاث حقائق أساسية كلها، تؤكد أن فوقية الرجل الأبيض، كفكرة عنصرية هي الأساس الذي شكل الدولة الأمريكية وهذه الحقائق هي: الحقيقة الأولى وهي: إن الولايات المتحدة الأمريكية دولة وجدت بالاحتلال العسكري، الذي تم على مراحل عدة، المرحلة الأولى تمثلت بالاحتلال الأوروبي للأراضي، التي كان يقطنها سكانها الأصليين، حيث كان يقطن أمريكا قبل الغزو أكثر من 100مليون شخص، ومع نهاية حروب الهنود الحمر، كان هناك 250 ألف نسمه فقط من السكان الأصليين، ويطلق (أنيت جيمس) على هذه الحروب في كتابه (الدولة الأمريكية الأم) حروب الابادة الجماعية، حيث اعتبر أن هذه الحروب هي التي مهدت لبناء الولايات المتحدة الأمريكية، بمعنى أن الأمة الأمريكية بنيت أساساً على ابادة السكان المحليين واغتصاب أراضيهم. الحقيقة الثانية تقول: إن الأمة الأمريكية لم تكن لتتطور اقتصادياً دون استعباد العمالة الإفريقية، فعندما بدأت الزراعة والصناعة بالازدهار في العهد الاستعماري، ظهرت الحاجة لعدد كبير من العمال، فكان الحل هو استقدام أعداد

مصادر الهوية الوطنية الأمريكية

كبيرة من العمالة الإفريقية كعبيد لدعم القوة العاملة الضرورية، لإحداث النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية. أما العامل الثالث في بناء الأمة الأمريكية، وتبعاً (لإليزابيت مارتينيه) فيتمثل في قيام الولايات المتحدة بالاستيلاء على نصف المكسيك بالحرب، الأمر الذي مكن الولايات المتحدة من التوسع إلى المحيط الهادي، وبالتالي فتح باب التجارة على مصراعيه مع آسيا، وفتح الأسواق لتصدير بضائع واستيراد بضائع لبيعها في الولايات المتحدة الأمريكية، وأطلقت الولايات المتحدة على الجزء الذي أخذته من المكسيك اسم تكساس، عام 1836م، ومن ثم حولت هذا الجزء إلى ولاية عام 1845م. وفي العام الثالث، اجتاحت الولايات المتحدة المكسيك ثانية واغتصبت جزءاً من أراضيها بمعاهدة عقدت عام 1848م. وفي عام 1853، حصلت الولايات المتحدة على جزء ثالث هو اريزونا. وبذلك تكون قد استكملت الحدود الإقليمية لما يعرف الآن بالولايات المتحدة الأمريكية. هذه كانت الدعائم الأساسية التي بنيت عليها الأمة الأمريكية، وفي عام 1898م أخذت خطوة إضافية تمثلت في اغتصاب الفلبين، وبورتوريكو، وجوام، وكوبا، عبر الحروب الأسبانية الأمريكية، ومنذ ذلك الحين بقيت جميع هذه الدول، باستثناء كوبا مستعمرات أمريكية توفر للدولة الأمريكية موارد الثروة والقوة العسكرية. وبذلك تكون الولايات المتحدة قد استكملت مرحلة الاحتلال والاستعمار المباشرين اللذين ابتدأتها بالسرقة الدموية للأراضي الأمريكية الأصلية قبل خمسة قرون (¬1). مصادر الهوية الوطنية الأمريكية بالاضافة إلى الدعائم السابقة فإن (صموئيل هنتيجون)، يرى أن الهوية الأمريكية استفادت تاريخياً من ركيزتين أساسيتين، أولاهما الأعداء الذين حاربهم الأمريكيون على مدى التاريخ، بداية من الهنود الحمر والمستعمرين الفرنسيين، ثم ¬

(¬1) أمريكا .. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية / إعداد وسام الأسدي جريدة الخليج 27ـ2ـ2003 م عدد 8684

المستعمرين البريطانيين، مروراً بسعي الأمريكيين التاريخي المتواصل لتمييز أنفسهم، والحفاظ على استقلالهم عن القارة الأوروبية بشكل عام، وعن القوى الاستعمارية الأوروبية بشكل خاص، وانتهاءً بالحرب الباردة. وهنا يعبر هنتنغتون بصراحة عن اعتقاده، بأن العداء للآخر يلعب دوراً أساسيا في تشكل هوية أي جماعة، ويرى أن الحروب التي خاضها الأوروبيون في العصور الوسطى، وقبل بداية عصر الدولة القومية كانت ضرورية لتشكيل هوية الدول الأوروبية المختلفة. أما ثانية الركيزتين الإضافيتين، فهي عقيدة الأمريكيين السياسية. فلكي يميز الأمريكيون أنفسهم عن أجدادهم البريطانيين سعوا ـ كما يعتقد هنتنغتون ـ لنشر ثقافة سياسة مستقلة ومتميزة عن ثقافة الأوروبيين الإقطاعية والتمييزية، التي اضطرتهم إلى ترك أوروبا للأبد والفرار بمعتقداتهم إلى الولايات المتحدة. ومن أهم عناصر هذه العقيدة السياسية، مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية النيابية واحترام الحقوق والحريات الدينية والمدنية وسيادة حكم القانون، والتى استمدت جذورها من الإثنية البريطانية والعرق الأبيض والدين المسيحي والثقافة الإنجليزية - البروتستانتينية (¬1). وبكلمات قليلة يلخص الكاتب والصحفي المعروف (بيار سالينجر) في تقديمه لكتاب (أميركا التوتاليتارية) صورة الأمريكي المفعم بالعقيدة الكالفينية، فيقول عن هذه العقيدة: إنها تقرر ما يلي: "لئن كان الله قد سمح بأن يجتمع في أرض أميركا شعب من رجال ونساء مميزين، فذلك لأنه منح هذا الشعب رسالة حكم العالم ذات يوم" (¬2). فأمريكا التي خرجت من رحم الثورة على الحكم الإمبراطوري البريطاني، حملت في طياتها بذورها الإمبراطورية الخاصة من البداية، حيث أقدم نوعان من الناس على اقتحام العالم الجديد لبناء المستعمرات أوائل القرن السابع عشر الميلادي، كانا، كلاهما، يبحثان عن مصيريهما. إلى فرجينيا مع الكابتن (جون سميت) ذهب المغامرون والحرفيون سعياً وراء الثروة. وإلى ماساتشوستش مع حاكم الولاية ¬

(¬1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأمريكية: صموئيل هنتنغتون ـ عرض/ علاء بيومي ـ الجزيرة نت 2ـ8ـ2004م (¬2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل - ط.1. - بيروت، لبنان: دار الساقي، 2002 - المصدر: الجزيرة نت

أرض الميعاد والدولة الصليبية

(جون ونثروب) ذهب الحجاج والطهريون (البيوريتانيون) بحثاً عن الفردوس. هذان الدافعان ظلا يحركان عملية التوسع الأمريكية منذ ذلك التاريخ (¬1). أما كيف تم ذلك، فهذا ما وضحه (ميشال بوغنون) في كتابه (أميركا التوتاليتارية)، عندما تمسك بالتعريف البسيط للتوتاليتارية، والتي يرى أنها تتمثل في "قوة احتوائية بمعنى أنها تنوي امتلاك مجمل مكونات الكيان الذي تعيش فيه". ولما كانت أميركا مدفوعة بهاجس السيطرة على العالم وأمركته. فإن (بوغنون) ينبش لإثبات هذه الرؤية في التاريخ والضمير الأمريكي، ويرصد بنظرة عابرة، ولكن ثاقبة لحظات تكونهما التي أخرجت ما يعرف بالأمة الأمريكية إلى الوجود، الأمة المختارة باختيار القدر فحسب (¬2). أرض الميعاد والدولة الصليبية في كتابه (أرض الميعاد والدولة الصليبية) يتناول (والتر ماكدوجال) معضلة السياسة الخارجية الأمريكية بين المثالية والنفعية التجريبية، حيث يستعرض دور الولايات المتحدة في السياسة العالمية خلال القرنين الماضيين. وكما هو واضح من عنوان الكتاب (أرض الميعاد والدولة الصليبية) يلجأ المؤلف إلى الاستعارة الدينية، فتعبير أرض الميعاد مستعار من العهد القديم (اليهودي)، وتعبير الدولة الصليبية قصد به الإشارة إلى العهد الجديد، والى الصليب، كرمز للتبشير وللتضحية من اجل خلاص البشرية، ومن ثم فان أمريكا ارض الميعاد تعكس فكرة المهاجرين الأوائل، وكذلك الأمريكيين حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي عن أمريكا، إما فكرة الدولة الصليبية فتعكس تصور الأمريكيين عن أنفسهم، وسلوك أمريكا في الشؤون العالمية خلال القرن العشرين، من منطلق أن أمريكا لها رسالة لخلاص البشرية .. رسالة لنشر الحرية والتقدم. وبمعنى آخر فان أمريكا القرن التاسع عشر الميلادي وظفت سياستها الخارجية من اجل الحرية في أرض الميعاد، أما أمريكا ـ القرن ¬

(¬1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص43 (¬2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل - المصدر: الجزيرة نت

العهد القديم الأمريكي (الإرهاب ضد الهنود والزنوج)

للعشرين ـ فكانت سياستها الخارجية توسعية لنشر الحرية في العالم. ولجوء (ماكدوجال) إلى الاستعارة الدينية، لا يعني انه يقدم رؤية دينية لدور أمريكا في العالم، ولكنه يشي بدور العامل الديني في السياسة الخارجية الأمريكية، والذي استهدف الحرية في الداخل، والعهد الذي حاولت فيه أمريكا توسيع دورها في العالم، ثم قيادته. ففي العهد القديم الأمريكي، اعتبر مؤسسو أمريكا أنها (إسرائيل الجديدة التي هاجروا إليها من أجل الحرية ـ وأرسوا قواعد السلوك الأمريكي الخارجي من أجل أن ينعموا بالحرية في الداخل، وفي العهد الجديد الأمريكي بعد عام 1898م (عام اكتمال الاستيطان حتى الساحل الغربي) تحرك الأمريكيون من أجل تشكيل العالم وفق تصورهم، من خلال قواعد جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية، يأتي ضمنها تبرير التوسع واستخدام القوة في شكل أقرب إلى الحملة الصليبية، لتحضير العالم (على الطريقة الأمريكية) (¬1). فهذا الشعب الأمريكي المقدام يحمل على كتفيه رسالة كلفته بها العناية الإلهية، بمنح نعم الحرية والديمقراطية للشعوب الهمجية، التي مازالت محرومة بسبب همجيتها من تلك النعم. ونتيجة لتلك الرسالة الآلهية لم ينج شعب من شعوب العالم حتى الآن من نتائج اضطلاع أمريكا بحمل مشعل الحضارة والحرية والديمقراطية، إلى كل ركن من أركان كوكب الأرض (¬2). العهد القديم الأمريكي (الإرهاب ضد الهنود والزنوج) يحدد (والتر ماكدوجال) ثمانية تقاليد للسياسة الأمريكية منذ نشأتها وحتى الآن. فخلال العهد القديم الأمريكي أي حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حكمت السياسة الخارجية الأمريكية أربعة تقاليد هي: - الحرية في الداخل، أي أن توظف السياسة الخارجية للدفاع عن حرية أمريكا. ¬

(¬1) ارض الميعاد والدولة الصليبية ـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص7 (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص291

إبادة الهنود الحمر

- العزلة، أي أن يكون لأمريكا الحرية في صنع سياسة خارجية باستقلال عن مطامع القوى الأوروبية، وان تقف موقف الحياد من الحروب الأوروبية، إلا عندما تتعرض الحرية الأمريكية للخطر. - مبدأ (مونرو)، الذي نص على انه لا يجوز لأي دولة أوروبية أن تعد القارتين الأمريكيتين مكاناً صالحاً للاستعمار، أي عدم تدخل أوروبا في القارتين الأمريكيتين (¬1). - التوسعية، وهي تقليد قام على مقولة (المصير المبين) (لجون أو سوليفان) بمعنى أن القدر فرض على الأمريكيين، أن مصيرهم الاستكشاف والغزو باتجاه الساحل الغربي وصولاً إلى المحيط الهادي (¬2). وقد تميز العهد القديم لأمريكا الذي انتهى عام 1898 م باكتمال غزو (أرض الميعاد) في شمالي أمريكا، بين ساحل الأطلنطي شرقاً، وساحل الهادي غرباً، بعملين أساسيين، الأول: ذبح وإبادة الهنود الحمر للاستيلاء على أراضيهم، والثاني استعباد الزنوج لاستخدامهم في المزارع والمناجم (¬3). إبادة الهنود الحمر عندما وصل الأوروبيون إلى أمريكا، وجدوا فيها شعوباً ذات حضارات عريقة، كونوا فوق أرض القارة ممالك وإمارات منذ آلاف السنين، ولهم عاداتهم الخاصة بهم وأديانهم وأزيائهم، وكان هؤلاء السكان الذين سماهم الأوروبيون هنوداً حمراً يعيشون في رغد من العيش، ويمارسون الأنشطة الحضارية من زراعة وصناعة وتعدين، يرتادون البلاد شرقاً وغرباً، ويكتشفون المناجم ويستغلون ما بها من معادن مثل الحديد والنحاس والذهب والفضة، حتى أن بعض المدن الأمريكية القديمة كانت شوارعها مرصوفة بمعدن الفضة مثل بعض مدن الأرجنتين، لذلك ¬

(¬1) الحياة والمؤسسات الأمريكية - دوغلاس ك. ستيفنسون - ترجمة امل سعيد- ص 178 - الدار الاهلية للنشر والتوزيع، ط1 2001 (¬2) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص8 (¬3) أمريكا طليعة الانحطاط - جارودى ص112

اشتق الاسم الأوروبي الجديد لهذه البلاد من لفظ ARGENT اللاتيني، ومعناه الفضة. كما أقام حكام هذه البلاد من الهنود الحمر الهياكل والمعابد والقصور الشاهقة، ومنها أهرمات تشبه أهرمات الجيزة إلى حد ما، وان لم تكن في ضخامتها. وكان هؤلاء السكان يعرفون الفنون المتطورة من حفر ونقش وإقامة للنصب والتماثيل، كما كان لهم باع طويل في أساليب الزراعة، واستغلال الأرض، واستئناس وتربية المواشي، وكان من هذه الشعوب ـ أيضا بدو رحل وظيفتهم الصيد والترحال (¬1). وتشير المعطيات التاريخية إلى أن الهنود الحمر كانوا أول من سكن القارة الأمريكية منذ القدم، حيث كانت لهم ثقافة مزدهرة، عاشت في ظلها القبائل الهندية المختلفة بسلام ووئام، وظلوا بعيدين عن التأثر بالعالم الخارجي بسبب وجودهم على الطرف الآخر من المحيط. ولكن ذلك لا يعنى أنهم كانوا بمعزل كامل عن العالم كما يعتقد البعض، وكما يروج الغرب لذلك لأسباب استعمارية ليعطي نفسه الحق في نهب هذه البلاد لأنها من اكتشافه هو ـ أي الغرب. وهنا تجدر الإشارة إلى أن العرب المسلمين قد وصلوا إلى أميركا، قبل كولومبوس بخمسمائة سنة، حيث وصل الملاح (خشخاش بن سعيد القرطبي) إلى جزر البحر الكاريبي عام 889م، ثم وصل بعده الملاح (بن فروخ الأندلسي) إلى جزيرة جامايكا عام 999م. وعندما وصل كولومبوس إلى ميناء بالوس في كوبا عام 1492م لم يجرؤ على النزول في تلك المنطقة، عندما شاهد قبة مسجد بالقرب من الشاطئ فحول اتجاهه إلى جزيرة صغيرة، وقد كان يظن نفسه متجها إلى الهند في طريق التفافي لا يسيطر عليه العرب والمسلمون. وكولومبوس نفسه كان عام 1467م بحاراً مغموراً في سفينة عربية أبحرت على سواحل أفريقية، ثم وصلت البرازيل دون أن يعرف أنه وصل إلى قارة جديدة، وعندما أبحر بعد ذلك بربع قرن بتمويل وتشجيع من الملكة (إيزابيلا) ملكة أسبانيا، كان ثلث بحارته من العرب ويعتمد على خرائط وأدوات عربية. أما أول من وصل إلى القارة الأمريكية فهو الملاح الفينيقي (ماتو عشتروت) عام 508 ق. م، ثم الملاح ¬

(¬1) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 39

مفارقة التوماهوك

القرطاجي (روتان) عام 504 ق. م. وتدل الآثار المتبقية والدراسات على اندماج وتأثر واضح لسكان أميركا بالعرب دون أن تطمسهم الحضارة العربية أو تفنيهم (¬1). وفي كتابه عن الهنود الحمر، قام الكاتب التشيكي (فلاديمير هلباتش) بجمع حكايات الهنود الأميركيين وأساطيرهم متيحاً نافذة نادرة لمعرفة ثقافة أمة لم يعد لها وجود إلا في كتب التاريخ، ومراجع الأنثروبولوجيا، حيث كان للهنود الأمريكيين ثقافة مزدهرة، مفعمة بالمعاني الإنسانية الراسخة، وكان وصول الأوروبيين بداية لانحسارهم، بل وانقراضهم. فمن أبرز ما محاه تاريخ المنتصر إعجاب الغزاة بروعة ما شاهدوه لدى الهنود من أفكار وتقنيات وشرائع وعادات وفنون وفلسفه حياة وأساليب بلاغيه وفصاحة لسان. ولكن تاريخ المنتصر وحش لا يسمن ويقوى إلا بلحم الفرائس الآدمية. لقد محا الحسنات وأباد أهلها المحسنين، ولم يترك منهم إلا تلك الصورة الهوليووديه المشوهة لكائنات عراة متوحشين، ينبت في رؤوسهم الريش، ويعوون في البراري كما تعوي الضباع (¬2). مفارقة التوماهوك يلاحظ على قصص الهنود وحكاياتهم، أنها قريبة من قصص الشرق، وبعضها قد يكون يقترب كثيراً من قصص وردت في الكتب السماوية، مثل الحياة في السماء والنزول إلى الأرض، وهي أيضاً منسجمة كثيراً مع تراث الشرق المفعم بالدعوة إلى الخير، والرفق بالناس والحيوان، مثل قصة (توماهوك)، التي هي في الأصل فأس هندية كان الهنود الحمر يحملونها لقتل أعدائهم ونزع فراء رؤوسهم، ولكن زعيم هندي عظيم شعر بقسوة الحرب ووحشيتها فتقدم بمبادرة صلح وسلام بين القبائل، حيث أقيم احتفال كبير وحفر خندق دفنت فيه فؤوس التوماهوك ليعيش الناس في سلام أبدي (¬3) ... ولكن ذلك الزعيم الهندي الطيب لو كان يدرى إن التوماهوك (¬4) الذي ¬

(¬1) حكايات الهنود الأمريكيين (الحمر) أساطيرهم: حيل البقاء والمقاومة ـ المؤلف ـ فلاديمير هلباتش ترجمة: موسى الحالول - ومراجعة د. زبيدة أشكناني - الجزيرة نت (¬2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص174 (¬3) حكايات الهنود الأمريكيين (الحمر) أساطيرهم: حيل البقاء والمقاومة -المؤلف ـ فلاديمير هلباتش ترجمة: موسى الحالول (¬4) أصبح التوماهوك اسم لصاروخ أمريكي فتاك يمكنه حمل رؤوس نووية، ويمكنه إصابة الهدف بدقة على بعد آلاف الأمتار. وقد استخدمته أمريكا في حربها على أفغانستان والعراق بكثافة مما أدى إلى قتل الألوف من الأبرياء.

دفنه سيأتي من سيخرجه إلى الوجود ثانية وسيستخدمه في إبادة ألوف البشر، لما فعل ذلك، ولأبقاه على الأقل لمواجهه عنصرية المهاجرين الأوربيين إلى أمريكا. ولكن يبدو أن هؤلاء الهنود الحمر الطيبين الذين كانت ثقافتهم وحضارتهم تقوم على المثل العليا لم يدركوا طبيعة المغتصب الجديد الذي لا يكتفي بالسلب والنهب، بل أيضاً يعشق القتل ورائحة الدم، حيث كانت سياسة الإذلال والترويع التي انتهجها الحجاج، ومن قبلهم مستعمرو فرجينيا أفضل تعبير عن شكرهم للضيافة الهندية. فكثيراً ما كانوا يقتلون الهنود الذين يحملون إليهم الطعام والهدايا، بل كانوا يقدمون لهم المغريات الكثيرة لزيارتهم من أجل أن يكمنوا لهم ويقتلوهم، وكانت الوسيلة المحببة لاستدراجهم، واستخراج ذهبهم خطف أولادهم لما لاحظوه من تراحم الأسرة الهندية فيما بينها وتكافلها ورعايتها لأطفالها (¬1). كما عمد المحتلون البيض إلى تدمير حضارة الهنود العالمية وثقافتهم، التي كانت من حيث مستواها الأخلاقي ـ الروحي، أعلى بكثير من الثقافة التلمودية ـ اليهودية وتقترب من الأفكار المسيحية. فالوحشية المرضية والجشع، السمتان المميزتان للمحتلين البيض في أمريكا الشمالية، كانتا بعيدتين تماما عن الهنود الحمر الذين رأوا في الغزاة البيض أناساً شاذين ضارين، ولا يستحقون سوى الشفقة (¬2). وفي حديث لزعيم قبائل الهنود الحمر ويدعى (بوهاتن) مع (جون سميث) قائد مستوطنه جيمس تاون قال: لماذا تصرون على أن تأخذوا منا بالقوة ما يمكن أن تأخذوه بالمحبة؟ لماذا تصرون على تدميرنا، ونحن الذين قدمنا لكم الغذاء؟ ما الذي تستطيعون الحصول عليه بالحرب؟ إننا نستطيع أن نخفى تمويننا، ونفر إلى الغابات وعندها سوف تقاسون من الجوع بسبب سوء معاملتكم لأصدقائكم (من الهنود الحمر). ما هو سبب غيرتكم وحسدكم؟ ها أنتم تشاهدوننا فنحن غير مسلحين، ¬

(¬1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص40 (¬2) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص24

ولدينا الاستعداد لنمدكم بما تحتاجون إليه إذا جئتم بطريقة ودية، وليس بالسيوف والبنادق كما لو كنتم قادمين لغزو عدو (¬1). كما تكشف قصة احد الهنود الحمر ويدعى (سكوانتو) مع الحجاج الأوربيين، التفوق الأخلاقي والعقلي والحضاري للهنود، وتروي عشرات الكتب التي أرخت لهذا الفتى الأسطورة وعشرات الأفلام وقصص التبشير التي استلهمت سيرة حياته، وجنت منها الملايين، كيف انتشل سكوانتو أسطورة أمريكيا من الموت في شتائها الأول، حين احضر للحجاج الطعام، وعلمهم كيف يزرعون الذرة واليقطين وأنواع الحبوب والقرعيات؟ وأين يصطادون السمك ويسمدون الأرض ببعض أنواعه؟ بل وكيف يغتسلون ويتخلصون من قذارتهم وروائحهم الكريهة عبثاً (¬2). وثمة قصص أخرى كثيرة عن الأخلاق الحميدة والشجاعة والكرم التي تحلى بها الهنود الحمر، والتي تحذر من الظلم. وقد اعتبر (كولمبوس) الهنود أكثر شعوب العالم سخاء، مقدماً بذلك مساهمة في أسطورة المتوحش النبيل. "إنهم لا يعرفون اشتهاء ما لدى الغير من خيرات .. إنهم لا يعرفون المكر، ويجودون بما يملكون إلى درجة أن أحد لن يصدق ذلك إلا إذا كان قد رأى شيئاً كهذا" (¬3). ولكن وبالرغم من هذه الحضارة الراقية والاخلاق الحميدة التى تميز بها الهنود الحمر، فقد جاء شاحبو الوجوه (الأوروبيون)، وأطلقوا نيران بنادقهم عليهم بلا رحمة، وحاصرهم الموت والجوع والبرد، وطردوا من أراضيهم ودنست مقدساتهم، ولكن بقيت قصصهم تروى وتشهد.!! (¬4). حيث بدأت سياسة التدمير الشامل لكل أسباب الحياة الهندية في العالم الجديد، منذ اللحظة الأولى لشروق الشمس الانكليزية على جزيرة روانوك، التي استقبلهم أهلها عام 1580م بالترحاب فاقطعوهم ما شاءوا من الأرض وآووهم وكسوهم وأطعموهم الطعام على حبه، وعلموهم أسباب البقاء في هذه الطبيعة الغريبة عنهم. لكن ما إن اشتد ساعدهم قليلاً حتى راحوا يخترعون ¬

(¬1) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية - ص26 (¬2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص41 (¬3) فتح أمريكا (مسألة الآخر) -تزفيتان تودوروف - ترجمة بشير السباعي- تقديم فريال جبوري غزول- ص 55 - الناشر: دار العالم الثالث- ط2 2003 (¬4) حكايات الهنود الأميركيين (الحمر) أساطيرهم: حيل البقاء والمقاومة - المؤلف ـ فلاديمير هلباتش ترجمة: موسى الحالول

الأعذار للقتل العشوائي، ويتحينون الفرص لإتلاف المحاصيل، وإحراق القرى والحقول، وقطع أسباب الحياة عن الهنود عمداً وكان الهنود قد لاحظوا منذ الأيام الأولى أن المستعمرين ينبشون القبور لسرقة ما فيها، أو لآكل جثثها الطازجة أحيانا. ثم تصاعدت خطة التجويع والتدمير الاقتصادي، وازدادت تنظيماً وتركيزاً واستهدافاً على مدى القرنين التاليين (¬1). ففي بداية الهجرة وصل إلى شواطئ القارة الشمالية نزلاء السجون البريطانية والألمانية الذين أفرجت عنهم السلطات، ودفعت بهم إلى الأرض الجديدة ليبحثوا عن مكان جديد يعيشون فيه ويجربون حظهم في جمع الثروة، وكان هؤلاء مسلحين بأحدث الأسلحة، فكونوا فيما بينهم عصابات مسلحة راحت تداهم قرى الهنود الحمر وجماعاتهم، وتسلب ما بأيديهم من ذهب وجواهر، ثم تفتك بهم و تطردهم من ديارهم، وتستولي على أراضيهم لتقيم عليها مستوطنات أوروبية، ثم تتوسع كل مستوطنه شيئاً فشيئاً بقدوم مهاجرين جدد إليها، وتضم إليها أراض جديدة بعد طرد الهنود الحمر منها أو إبادتهم (¬2). وفي نهاية القرن السابع عشر الميلادي زاد الزحف نحو الغرب بعد الثورة (1783ـ1800) ولكن حرب 1812م مع بريطانيا، وكذلك غارات الهنود كانت قد أبطأت هذا التقدم بين عام 1800ـ1815م. وهذا الزحف نحو الغرب يمكن وصفه كالآتي: في المقدمة أصحاب الصيد وتجار الفراء والمستكشفين، ويتبع هؤلاء موجه الرواد المزارعين، وعندما تزداد كثافة هؤلاء المستوطنين، فإن موجة أصحاب الصيد وتجار الفراء تتقدم للأمام .. وهكذا تعاد الكرة. وقد تلا الصلح مع بريطانيا عام 1815م، موجه هجرة داخلية عارمة يطلق عليها في التاريخ الأمريكي اسم الهجرة الكبرى (¬3). لقد كان الاستيلاء على الأرض هو الهدف الأول والأخير للمستعمرين الأوربيين في أمريكا الشمالية. وكان إنجاز هذا الهدف مرتبط بشرط آخر، هو إبادة الهنود الحمر، والتخلص منهم بكل الوسائل الممكنة. لذلك أخذت هذه العملية صوراً ¬

(¬1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص33 (¬2) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 43 (¬3) إمبراطورية الحرية - انطونيو بلتران هرنانديزـ ترجمة احمد توفيق حيدرـ ص159 - دار الفارابي/ بيروت - ط1 2004

مختلفة منها الحروب الشاملة والمناوشات المحدودة والقتل الفردي، حتى أن إبادة الهنود بالسلاح الجرثومي كانت سياسة رسمية عبر تقديم بطانيات ملوثة بالجراثيم لهم (¬1). كما كانت الحكومة البريطانية في عصر الملك (جورج الثالث) تعطى مكافأة مالية لكل من يحضر فروة رأس هندي من الهنود الحمر، قرينة تدل على أنه قتله. وبعد استقلال الولايات المتحدة بعد ذلك بنحو خمسين عاماً، أي منذ 1830م استمر هذا التقليد، بل تصاعد حين اصدر (جاكسون) قانون ترحيل الهنود الذي تم بمقتضاه تجميع خمسين ألفاً من هنود (الشيروكى) من جورجيا، وترحيلهم سيراً على الأقدام في برد الشتاء القارس إلى معسكر خصص لهم في اوكلاهوما، فمات أكثرهم قبل أن يصلوا، وسمى الطريق الذي مشوا فيه: ممر الدموع!! كان ذلك عام 1835م، واستمرت حرب الإبادة ضد الهنود الحمر حتى تقلص عددهم من 6.5 مليون عام 1500م إلى نصف مليون عام 1890م!! (¬2). لقد كان المهاجرين الأوربيون من أفظع أنواع المجرمين، وأشدهم قسوة وإجراماً وميلاً إلى سفك الدماء، وفي سبيل المغامرة وجمع الذهب أو التنقيب عنه كانوا لا يبالون بشيء، وأصبح قتل الهنود الحمر وتعذيبهم من أعمالهم الروتينية، بل أن العصابات الأوروبية كثيرا ما كانت تهاجم بعضها بعضاً للسلب والنهب، ولا يتورعون في سبيل الحصول على الذهب أو الماشية من فعل أي شيء (¬3). وكان (اوليفر هولمز) وهو من اشهر أطباء عصره، "قد لاحظ في عام 1855م إن إبادة الهنود هو الحل الضروري للحيلولة دون تلوث العرق الأبيض، وان اصطياد الوحوش في الغابات مهمة أخلاقيه لازمه لكي يبقى الإنسان فعلاً على صورة الله". وهكذا بدأت دعوات الإبادة الشاملة تعلو عندما لم يكن في كل الشمال الأميركي سوى ألفى إنكليزي، ثم ازدادت هذه الدعوة حدة وجنوناً حين تأكد الإنكليز أن الهنود قد يرحبون بهم ضيوفاً، ويكرمونهم بما يكفيهم من الأرض والرزق، ويعيشون معهم بسلام، لكنهم لن يتنازلوا طوعاً عن أراضيهم، ولن يتقبلوا فكرة السخرة والاستعباد، وكانت ¬

(¬1) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية - ص25 (¬2) الإخطبوط الصهيوني وخيوط المؤامرة لابتلاع فلسطين - تأليف سيناتور جاك تنى - تعليق وترجمة هشام عوض- - دار الفضيلة للنشر والتوزيع (¬3) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 44

كل بادرة لمقاومة هذا الجشع والتعصب المقدس برهاناً إضافياً على صدق أسطورة أميركا، وعلى صدق الدعوى بأن الهنود متوحشون عدوانيين لا تنفع معهم إلا الإبادة، لأن التسامح مع الشرير ليس إلا تشجيعاً للشر، وليست هناك خطيئة أعظم من هذا. ومع تقدم الزمن صارت شيطانية الهندي الأحمر بديهية لا تحتاج إلى دليل مثلما إن إنكليزية الله وتفوق شعبه من البديهيات، التي لا تحتاج إلى دليل. لقد سكنت شيطانية الهنود أحلام الملائكة حتى إن (ميرسي شورت) التي زعمت أن الشيطان تلبسها وصفته على شكل هندي له أظلاف شيطانية (¬1). وبالرغم من ضخامة عدد الهنود الحمر، الذين تمت إبادتهم، إلا أن أحد الباحثين يرسم صورة أكثر مأساوية فيقول: "لقد بلغ عدد الهنود الحمر في الولايات المتحدة عام 1901م حوالي 269 ألف نسمة، بينما قدر عددهم قبل أربعة قرون من هذا التاريخ بما يتراوح بين عشرة ملايين وأثنى عشر مليون نسمة، ومن هنا يتبين لنا هول عمليات الإبادة التي تعرض لها الهنود الحمر بعد وصول الأوربيون إلى أمريكا. ففي المعدل فإن من بين كل عشرين شخصاً من الهنود الحمر بقى شخص واحد (¬2). مفارقه عجيبة وحزينة، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب، حيث إن المستوطنين المتوحشون استمروا في الاستيلاء على أراضي الهنود الحمر، الذين نفذ صبرهم فقاوموا المستوطنين، وهاجموا مستعمرة جيمس تاون. وعلى أثر ذلك وضع قادة شركة فرجينيا الإنجليزية ـ التي تشكل جيمس تاون أحد استثماراتهاـ تقريراً جاء فيه: "إن الخلاص من الهنود الحمر أرخص بكثير من أية محاولة لتمدينهم، فهم همج برابرة عراة متفرقون، جماعات في مواطن مختلفة، وهذا يجعل تمدينهم صعباً، لكن النصر عليهم سهل، وإذا كانت محاولة تمدينهم سوف تأخذ وقتاً طويلاً فإن إبادتهم تختصره، ووسائلنا إلى النصر عليهم كثيرة، بالقوة بالمفاجأة بالتجويع، بحرق المحاصيل، بتدمير القوارب والبيوت، بتمزيق شباك الصيد، وفي المرحلة الأخيرة المطاردة بالجياد السريعة، والكلاب المدربة، التي تخيفهم لأنها تنهش جسدهم العاري" (¬3). ¬

(¬1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص61 (¬2) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية ـ ص21 (¬3) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص47

الحرب الجرثومية

لقد قدم كثير من المؤرخين الأدلة والبراهين على المجازر التي ارتكبتها المستوطنات الأمريكية بحق الهنود الحمر، وكيف أبيدوا، وكيف كانوا يطاردون ويقتلون. ففي كتابه (سنة 501 الغزو مستمر) يعرض (نعوم تشومسكي) شهادات ذات دلالات إنسانية حول ما قام به الأمريكيون، حيث يقول: "سلك مستوطنو شمال أمريكا نفس الطريق، الذي سلكه سابقوهم في البلد الأم. فقد كانت فرجينيا منذ الأيام الأولى لاستيطانها مركزاً للنهب والقرصنة، وقاعدة للإغارة على التجارة الاسبانية وسلب المستوطنات الفرنسية على ساحل (مين)، ولابادة (عبدة الشياطين) و (البهائم الأجلاف)، الذين مكن كرمهم المستوطنين الأوائل من البقاء إحياء، صائدين إياهم باستخدام الكلاب المتوحشة، وذابحين النساء والأطفال ومتلفين المحاصيل، وناشرين مرض الجدري بينهم بواسطة توزيع بطانيات حاملة للعدوى، وكل الوسائل الأخرى الحاضرة في أذهان أولئك البرارة والآتية من تجربتهم التي مازالت طازجة في ايرلندا" (¬1). الحرب الجرثومية في أواخر ما يسمى بالحرب الهندية ـ الفرنسية ظهرت أول وثيقة دامغة تثبت استخدام الغزاة للسلاح الجرثومي عمداً، وتؤكد إن إبادة الهنود بالسلاح الجرثومي، كان سياسة رسميه، ففي سيناريو كلاسيكي منقح لقصة تسميم الزعيم (تشيسكياك) ومن معه بأنخاب (الصداقة الجماعية) على ضفاف نهر البوتوماك، كتب القائد الإنكليزي العام اللورد (جفري امهرست) في عام 1736م أمراً إلى مرؤوسه الكولونيل (هنري بوكيه) يطلب منه أن يجري مفاوضات سلام مع الهنود، ويقدم لهم بطانيات مسمومة بجراثيم الجدري (لاستئصال هذا الجنس اللعين). وقد اشتركت (قوى الحضارة) في حرب ضارية لإخفاء هذه الوثيقة وغيرها من الوثائق المشابهة عند اكتشافها في أواخر الثلاثينات (¬2). ¬

(¬1) الولايات المتحدة من الخيمة إلى الإمبراطورية - إعداد ديب على حسن ص17 (¬2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص47

ففجأة رأت ذاكرة الزنابير صورتها في المرآة: الإمبراطور عارياً تطارده أشباح 112 مليون آدم وحواء، ينتمون إلى أكثر من أربعمائة شعب كانوا يملأون (مجاهل) العالم الجديد بضحكة الحياة (لم يبق منهم في إحصاء 1900 سوى ربع مليون) وتلوح لعينيه مشاهد 93 حرباً جرثومية شاملة (¬1)، آتت على حياة الملايين من هذه الشعوب. هذه الإبادة الجماعية الأعظم والأطول في تاريخ الإنسانية والتي حاول التاريخ المنتصر محو ذكراها من وجه الأرض أيقظتها حالات (الجمرة الخبيثة) بكل أهوالها في مخيلة الزنابير، التي بدأت ترى مستقبلها في صورة ضحاياها، الذين أبيدوا بجراثيم الجدري في خليج مساشوستس أو بمبيد الأعشاب البرتقالي، وغاز الخردل، واليورانيوم المستنفد في كوريا وفيتنام، وما بين الرصافة والجسر (¬2). هكذا تأسست أمريكا بلد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهكذا كانت أخلاق روادها الأوائل ورعيلها الأول الذين لازال الأمريكيون وكثيرون في العالم، يتغنون بإنجازاتهم العظيمة .. !؟ وقد لاحظ (هوارد سيمبسون) في مقدمة كتابه الرائع عن دور الأمراض في التاريخ الأمريكي إن المستعمرين الإنكليز لم يجتاحوا أميركا "بفضل عبقريتهم العسكرية أو دافعهم الدينية، أو طموحاتهم، أو وحشيتهم، بل بسبب حربهم الجرثومية التي لم يعرف لها تاريخ الإنسانية مثيلاً (¬3). وحتى إعلان الاستقلال الأمريكي، الذي أقر مبادئ الحرية والمساواة، وصف الهنود بأنهم "متوحشون بغير رحمة وسيلتهم المعروفة هي شن الحرب وذبح الجميع". هكذا تكلموا عن السكان الأصليين حتى يبرروا مسبقاً المذابح ونهب الأراضي، واعتبار تلك الجرائم البشعة نوعاً من الدفاع الشرعي، كما لو كان الهنود غزوا أراضى المهاجرين، بينما هؤلاء الأوربيين كانوا ينهبون أراضى الهنود ويدمرون حياتهم بصفة مستمرة. ومنذ ذلك الحين، ومنذ تلك الخطيئة الأساسية وضع حجر الزاوية الأساسي للسياسة الأمريكية، حيث شهد (توكفيل) بربرية المستعمرين ضد الهنود الحمر، الذين يملكون أسلحة لا تتوازن مع أسلحة الغزاة، ووصف بسخرية ¬

(¬1) الامبراطورية الأمريكية البداية .. والنهاية - منصور عبد الحكيم - ص 30 - دار الكتاب العربي - ط1 2005 (¬2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص16 (¬3) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص23

استعباد الزنوج

لاذعة وإنسانيه، ذبيحة ذلك النصر، الذي حققته الحرية، وهذه المسيرة المنتصرة للحضارة عبر الصحراء، بينما في قلب الشتاء كان البرد قارصاً وكان ثلاثة أو أربعة آلاف جندي يطاردون السكان الأصليين الرحل، الذين يخطون آخر خطواتهم نحو الانقراض، وهم يحملون جرحاهم ومرضاهم وأطفالهم الرضع وعواجيزهم إلى حافة الموت ... مشهد مؤثر لا يمحى أبدا من الذاكرة (¬1). لقد كان المستوطنون الجدد الأمريكيون البيض بمنتهى الغدر والجحود تجاه مساعدة الهنود لهم، ولولا هذه المساعدة لما أمكنهم البقاء، ولما تم لهم ذلك ومع هذا لم يكونوا يشعرون بأي دين تجاههم أو أي واجب أخلاقي، بل أن هؤلاء الوافدين جاهروا بازدراء عقائد الهنود واحتقارهم، بل ذهب (كوتون ماذر) أحد أبرز المفكرين الأميركيين إلى اتهام الهنود بأنهم يعملون تحت إمرة (إبليس)، وإنهم قدموا إلى الولايات المتحدة لكي يمنعوا الأناجيل من فرض سلطانهم المطلق عليها (¬2). استعباد الزنوج لم يكن البيض الذين هاجروا من بريطانيا بمحض إرادتهم العنصر الوحيد في مجتمع المهاجرين الذي نما في المستعمرات، بل كانت هناك مصادر أخرى في مقدمتها تجارة الرقيق، وترحيل المستعمرين المساجين أصحاب السوابق إلى أمريكا وأستراليا، حيث كانت المشكلة الأساسية، التي واجهت المهاجرين الأوربيين في العالم الجديد، هي توفير الأيدي العاملة لهذه المساحات الشاسعة من الأرض، التي استولوا عليها بالقوة من السكان الأصليين. فقد كان هناك الهنود الحمر بالطبع، ولكن أنفتهم تأبى الاستعباد، ولذلك كان لابد من توفير العمال من بين فقراء الإنجليز، ومن أصحاب السوابق، ولكن ثبت أن العمال البيض أقل صلاحية للعمل في الولايات الجنوبية بسبب ارتفاع درجة الحرارة، وقسوة المناخ على عكس الرقيق السود الذين كانوا أكثر تحملاً وأسهل قياداً (¬3). ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص52 (¬2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص74ـ75 (¬3) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية -ص34

ولهذا بدأت الشركات التي تعمل في الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة ـ حيث نزلت أولى موجات الهجرة واستقرت، ومضت تزرع وتتاجر وتغتني وتراكم الثروة ـ تواجه مشكلة تحجم نشاطها بالرغم منها، بسبب مشكلة اليد العاملة. ذلك أنه حتى قرابة سنة 1700، لم يزد عدد المهاجرين من أوروبا عبر المحيط عن ربع مليون مهاجر، وكلهم يريد المال والأرض والعقار، وليس فيهم أحد يريد أن يكون أجيراً. والا فلماذا ركب جبال الموج وجاء إلى أرض الميعاد. إلى جانب ذلك فإن سكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر، وممن تتم عملية إبادتهم (لأنهم همج، لا يصلحون للتمدين ولا للتدين)، ليسوا على استعداد للعمل، ولا لخدمة هؤلاء الذين انقضوا عليهم من أمواج المحيط (¬1). والحل العملي الذي يطرح نفسه هو الإتيان عن أي طريق بيد عاملة تشتغل ولا تشارك، وتقبل بالقليل ولا تنتظر زيادة. والحل هو العبودية، أي عضلات تعمل بطعامها وليس أكثر، وطاعة تقبل الأمر لأنها لقنت تحت الأسر درس الطاعة بالسلاسل والسياط. وهذا الوضع أدى إلى قيام شركات في أمريكيا (شركات مساهمة أيضاً) نشاطها تجارة العبيد، حيث ازدادت ما بين ستينيات القرن السابع عشر الميلادي ونهاية القرن التاسع عشر الميلادي أعداد العبيد الذين تم استيرادهم من أفريقيا، وبيعهم في أميركا، من 50 ألفا في العقد الواحد إلى حوالي 450 ألفا، مع هلاك أعداد مخيفة منهم أثناء السفر (¬2). فقد كان المغامرون الأوروبيون المسلحون يجوبون أنحاء القارة الأفريقية خصوصاً غرب وشرق القارة، وتقوم العصابات الأوروبية بالهجوم على القرى الأفريقية والتجمعات السكنية. يقتلون الكبار ويسوقون أمامهم الشبان والفتيات والأطفال مكبلين في الأصفاد، ثم يسيرون بهم وهم حفاة عراة في طريق طويل بين الغابات والأحراش، يسمى طريق العبيد حتى يصلون إلى شاطئ المحيط الأطلسي في غرب إفريقيا. ومن هناك يحشرون في السفن التي تنقلهم إلى الأرض الجديدة، وفي أثناء هذه الرحلة البرية داخل إفريقيا، كان نصف العبيد يموتون من ¬

(¬1) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص48 (¬2) الإمبراطورية .. كيف صنعت بريطانيا العالم الحديث؟ ـنيل فيرغسون ـ كامبردج بوك ريفيوز ـ الجزبرة نت ـ 16/ 2/2004م

الجوع والإرهاق، وفتك الحشرات والأمراض بهم، ومن يمت منهم في أثناء الرحلة، كان يفك قيده وتترك جثته على جانب الطريق، لتنهشها الوحوش والطيور. لذلك كان طريق العبيد هذا الذي يمر من شرق القارة الأفريقية إلى وسطها حتى الشواطئ الغربية تتناثر على جانبيه العظام البشرية والجماجم في شكل مخيف، ويقدر عدد من يستطيعون الوصول إلى الشاطئ أحياء بنحو نصف المستجلبين (¬1). ويورد (جيمس هيدجر) الذي قام بكتابة بحث خاص (بالتجارة في الأرواح) كما سماها، مجموعة من أوراق إحدى الشركات المساهمة في هذا المجال، وقد ركز فيها على سجلات سفينة الشحن (سالي) وقبطانها (أيسيك هوبكنز). وفي سجلات السفينة (سالي) توجيه من الملاك (نيكولاس وبراد)، شركة مساهمة يقولا للقبطان: إننا نثق فيك وفي إخلاصك لنا وخدمتك لمصالحنا، ونحن نفوضك بأن تذهب إلى شواطئ أفريقيا (شاطئ غينيا) وتشحن سفينتك بمن تستطيع أن تجلبهم من العبيد بالوسائل التي تراها، وأنت مخول أن تبيع وتشتري منهم كما تشاء في طريق رحلتك إلى أمريكا عندما تتوقف في جزيرة باربادوس، ونذكرك طبقاً للعقد بأن حصتك هي 4 عبيد لك مقابل كل 100 عبد للشركة مضافاً إلى هذا نسبة 5% من ربح الحمولة عندما يتم بيعها، ونريد أن نذكرك بأن السرعة في هذه التجارة مطلوبة لأن الحاجة إلى اليد العاملة ماسة. وضمن سجلات السفينة (سالي) يوميات قبطانها (هوبكنز) وهو يكتبها بالتفصيل لتكون في علم المساهمين عندما يتحاسب معهم على حصيلة أرباح رحلته، حيث كتب القبطان الآتي: - قدمت لشيخ القبيلة (جالون) من مشروب الروم مقابل عبدة (فتاة). - دفعت سبع جنيهات لشراء صبي. - اشتريت خمسة عبيد صالحين للعمل هذا اليوم بعد الظهر، مقابل بصل وسكر وروم الجلاب. - حمولتنا الآن 196 عبداً. ¬

(¬1) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية - احمد لطفي عبد السلام ص 47 - مكتبة النافذة - ط1 2005

- واحدة من العبيد شنقت نفسها. - ثلاثة عبيد قفزوا إلى البحر، ولم نستطيع إنقاذهم من الغرق، وقررنا حبس الباقين في العنبر الأسفل للسفينة، وكنا نخصصه لبقرتين معنا وربطنا الأسرى بالحبال (¬1). هذه مشاهد يومية حيه لتجارة الرقيق، كما عبر عنها قبطان السفينة وصاحبها، تكشف إلى أية درجة بلغت عنصرية هؤلاء واحتقارهم للرقيق، ومعاملتهم معاملة الحيوانات والمواشي، مما دفع الكاتب الساخر (برناردشو) للقول: "إن هؤلاء يعتبرون قتل الآخرين شجاعة، وتجارة الرقيق فرعاً من فروع التجارة". فالمسألة عندهم لم تخرج عن كونها تجاره ونهب وسرقة أنفس، بعيده كل البعد عن أي معنى أخلاقي إنساني. وقد أوضح نفس هذا المعنى أستاذ جامعي من المؤيدين لنظام الرق اسمه (توماس ديو)، عندما قال: "إن القيمة المالية لرقيق فرجينيا تساوي مائة مليون دولار، أي ما يساوي ثلث ثروة الولاية، وقال ديو: "إن ولاية فرجينيا تصدر كل سنة ستة آلاف رقيق إلى الولايات المتحدة الأخرى، وإن فرجينيا في الواقع ولاية لتربية الرقيق مثل تربية الماشية للولايات الأخرى، وأنها تنتج ما يكفي حاجتها منهم، وتعرض ستة آلاف للبيع". وفي مكان آخر من حديثه قال: "إن الستة آلاف رقيق الذين ترسلهم فرجينيا إلى الجنوب كل عام، هم مصدر ثراء لفرجينيا". وقد حذر ديو من التوقف عن هذه العملية والقضاء على الرق، لأن فرجينيا ستفقد مصدر ثرائها. ويتحدث طبيب قبيل الحرب الأهلية الأمريكية عن زوجين من الرقيق، قد أنجبا لمالكهما رقيقاً باعهم بمبلغ خمسة وعشرين ألف دولار خلال أربعين سنه (¬2). هكذا سيق من سموا بالعبيد إلى مصيرهم التعس رغماً عنهم، ورحلوا إلى بلد لم يختاروه في ظروف لا إنسانية همجية، حيث كان الطريق الملاحي الممتد عبر المحيط الأطلسي، والذي يمتد من سواحل غرب إفريقيا إلى جزر الهند الغربية، هو طريق الآلام الذي تمخره السفن التي تقوم بنقل الرقيق الأسود، حيث كانت أيدي وأرجل الرقيق توثق ويشدون إلى بعضهم البعض بالسلاسل، ويحشرون في مخازن ¬

(¬1) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل49ـ50 (¬2) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية -ص53

السفن في ظروف صحية سيئة إلى جانب التعذيب وسوء المعاملة، مما أودى بحياة عشرات الملايين منهم كما يشير إلى ذلك المؤرخ (وليم دوبوا) في كتابه (القضاء على تجارة العبيد الأفريقيين) الذي نشر عام 1896م. ففي أثناء الرحلة البحرية كانت السفن تتكدس بهؤلاء البؤساء الذين لا ينالون من الطعام والشراب إلا ما يسد الرمق، لذلك كان يموت نصفهم في أثناء هذه الرحلة، ويلقى بجثث الموتى في مياه المحيط. فإذا ما وصل الناجون إلى الشواطئ الأمريكية كان التجار يشترونهم في مزادات للجملة ثم يبيعونهم بعد ذلك في الأسواق الأمريكية. وبعد وصول العبيد إلى المشتري، كان يقوم فوراً بإعداد حظيرة لاستقبالهم ليبدأ تسخيرهم في أعمال الزراعة وغيرها من الأعمال الشاقة، وذلك نظير إمدادهم بما يسد رمقهم من الغذاء والشراب. وكان هؤلاء المساكين محرومون من كل الحقوق، يعاملون من قبل السيد الأبيض كما تعامل الحيوانات ويتعرضون للجلد والتعذيب لأتفه الأسباب، ولا يستطيع أي منهم أن يغادر إقطاعية سيده إلى مكان آخر، وإذا ما بيعت الإقطاعية تبع ما بها من عبيد السيد الجديد. ويقدر بعض العلماء أن نصف سكان القارة الإفريقية قد تعرضوا للاختطاف ليستعبدهم الرجل الأبيض في القارة الجديدة (¬1). ولم تقف معاناة السود عند هذا الحد، بل عاملهم أسيادهم الجدد معاملة وحشية عنصرية كشف عن أجزاء منها (توماس دي موريس)، الذي تحدث عن عهد العبودية، الذي امتد في الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من مائتي عام، حين كان الأثرياء البيض يشترون عبيداً لهم من السود يسخرونهم لخدمتهم ولحرث أراضيهم، وعندما يموت صاحب العبيد، يتقاسمهم ورثته بالقرعة، كما يتقاسمون رؤوس قطيع الغنم دون أي اعتبار للعلاقات الأسرية. فحين كان يوزع العبيد علي الورثة لم يكن يفكر الرجل الأبيض بأن يبقي علي أفراد العائلة الواحدة معاً كأن يبقى الزوج والزوجة والأبناء في خدمة رجل واحد، بل كان يوزع أفراد العائلة على مجموعة من ¬

(¬1) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 47

الورثة فيفصل أفراد العائلة كل في منطقة، وقد لا يلتقي الأخ بأخيه والأم بأولادها لسنوات طويلة، وقد لا يلتقون أبداً (¬1). لقد كتب الكثير عن المعاناة التي قاساها السود في ظل حياة العبودية في الولايات المتحدة، كالإبادة والتعذيب والأعمال الشاقة وتشتيت العائلات، وبيع الأطفال، والاستغلال الجنسي، والعقاب الوحشي، فالجلد بالسوط، والوشم ـ أي إحداث علامة على جسم الرقيق باستخدام الحديد المحمى على النار لإثبات ملكية للشخص الذي يسميه ـ كلها من التجارب التي عاناها السود الإفريقيين في عهد العبودية، والتي يصل بعضها إلى حد القتل إذا حاول الرقيق تعلم القراءة والكتابة على سبيل المثال (¬2). ولكن برغم هذا الظلم والاستعباد، التي تعرض له الأمريكيون السود، فإنهم لم يستسلموا للعبودية، فقد ثبت من التجارب التاريخية انه حيثما وجدت العبودية كانت هناك محاولات للتحرر، وان حب الحرية ليست قاصرة على البيض وحدهم، وكان من الطبيعي أن يثور السود على من استعبدوهم وسرقوا حريتهم. ففي صيف عام 1831م قامت عصبة من الرقيق بقيادة (نات تيرنر) بذبح ستين شخصاً من البيض، قرب ساوثمبتون في فرجينيا (¬3). واستمرت عمليات مقاومة السود للظلم والعبودية على مدى التاريخ الأمريكي، من اجل نيل حقوقهم والظفر بالحرية والمساواة. وهنا يمكن ملاحظة كيف أن إعلان استقلال الولايات المتحدة الصادر في 4 يونيو عام 1776م الذي يعد إرهاصاً لـ (إعلان حقوق الإنسان والمواطن) في فرنسا عام 1789م، يعطى مثالاً صارخاً للنفاق عن الحرية بمعناها الأمريكي، حيث ينص الإعلان في سطوره الأولى على ما يلي: "لقد خلق الناس جميعا متساوين ومنحهم الله حقوقاً لا تقبل التنازل عنها، كالحياة والحرية والبحث عن السعادة"، ومع ذلك فقد استمرت عبودية الزنوج مع هذه الحرية قرناً من الزمان وكان لا بد من أن ¬

(¬1) العبودية الجنوبية والقانون 1619ـ1860"ـ أنيت جوردون ريد ـ جريدة الخليج 27ـ2ـ2003م عدد 8684 (¬2) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية -ص52 (¬3) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية -ص55

تنفجر حرب أهليه عام 1865م لإنهاء ما كان يسمى حتى ذلك الوقت بالمؤسسة الخاصة أو (نظام العبيد) (¬1). وحتى بعد تلك الحرب لم يكن للزنوج مكان في المجتمع الأمريكي، فقد نشأ بعد ذلك إرهاب المنظمات السرية مثل (كوكلوكس كلان) التي اثبتت، خلال ما يزيد على مائة عام من وجودها، فاعليتها كسلاح للارهاب الموجه ضد الزنوج بسبب محاولتهم الحصول على حقوقهم الطبيعية. "ففي عام1946 مارست (كلان) موجة عاصفة من الإرهاب لمنع الزنوج من الذهاب إلى صناديق الاقتراع. ففي عشية الانتخابات طافت الصلبان ارجاء الولاية. وعلقت على كنائس الزنوج تحذيرات من هذا القبيل: "ان أول زنجي في جورجيا يتجرأ على التصويت سوف يكون ميتاً. (ك ك ك). وارسلت مثل هذه التحذيرات بالبريد (مع طلقة مسدس في بعض الأحيان)، لا بل القيت من الطائرات فوق احياء الزنوج. وفي يوم الانتخابات استيقظ آلاف الزنوج ليجدوا لدى أبواب منازلهم دمى على شكل توابيت" (¬2). يضاف إلى ذلك ان القوانين السوداء استبعدت العبيد القدامى من الحياة السياسية، كما استبعدتهم من الحياة المدنية. واستمر التمييز العنصري حتى يومنا هذا، برغم تضحيات بذلها عظماء مثل (مارتن لوثر كنج)، وغيرهم من دعاة الحقوق المدنية، وظل السكان السود وغيرهم يعانون من نتائج التمييز العنصري الذي انعكس على حياتهم الصحية والاقتصادية، حيث أن أكثر الأجناس معاناة من العوز الاقتصادي هم السود وذوي الأصول الأسبانية، والمواطنون الأصليين (الهنود الحمر) بالذات، حيث يعانون من الفقر المدقع، ويقل متوسط أعمارهم عن متوسط أعمار البيض بمقدار عشرين عاماً، ومعدلات البطالة بينهم مرتفعة جداً، ونسبة الفقراء بينهم تتجاوز50%، ففي حين تبلغ نسبة الفقر بين البيض 11% (¬3). و قد يستغرب الناس خارج الولايات المتحدة أن يكون الفقر في هذه البلاد ظاهرة اجتماعية تفرخ كثيراً من المشاكل والمآسي التي يعاني منها ملايين ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص50 (¬2) تاريخ الإرهاب الأمريكي (الكوكلاكس كلان) - ر. ف. إيفانوف، أي. ف. ليسينفسكي- ترجمةغسان رسلان- اللاذقية: دار الحوار، 1983 (¬3) أمريكا وأزمة ضمير - محمد جلال عناية - ص100

التبرير الديني للنهب والسلب والإبادة

الأمريكيين، وإن المعاناة من الفقر مستمرة منذ أن وجدت أمريكا. فمع أن الدخل القومي بلغ سبعة آلاف وخمسمائة وثمانين مليار دولار 7580 مليار دولار في عام 1996م، إلا أن هناك ملايين الفقراء من الأمريكيين، الذين لا يتوقع أحد زوال الفقر عنهم في وقت قريب. ففي الفترة ما بين عامي 1970م و 1988م إزداد عدد الفقراء في الولايات المتحدة بنسبة 26% حيث وصل عددهم في عام 1996م 5، 36 مليون نسمة، وأن خمسي هذا العدد أي ما يصل إلي 4، 14 مليون نسمة يعانون من شدة الفقر حيث بلغ دخلهم أقل من نصف معدل الفقر. وهذا يعنى أن عهود العبودية السوداء لم تنته بعد في الولايات المتحدة، وإنما أصبحت تأخذ أشكالاً جديدة مع احتفاظها بالمعايير نفسها، وتقول الدراسات التي قام بها مركز (ابوليش) المناهض للرق أن هناك آلاف العبيد الذين يعيشون حالياً في (أرض الحرية)، ولكن بالطبع دون أن تجري مزادات لبيع الرقيق علي الملأ، فالعبودية المعاصرة في أمريكا أصبحت تتم في الخفاء وتعتمد أساليب الخداع والتهديد، ولكن ممارستها لا تقل قسوة عن ممارسات (مؤسسات الرق) التي انتشرت لعقود مضت (¬1). التبرير الديني للنهب والسلب والإبادة في كتابه عن نظريات الاستعمار الإنكليزية يعتقد (كلاوس كنور): "إن الإنكليز أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسة وتعمداً للإبادة وان هدفهم النهائي في العالم الجديد كما في استراليا ونيوزيلانده وكثير من المناطق التي يحتاجونها هو إفراغ الأرض من أهلها، وتملكها، ووضع اليد على ثرواتها. فخلال هذه المسيرة التي بدأت بايرلندا ولن تنته بعد، تحكمت عقدة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي بسلوكهم وبنادقهم، واستحوذت على أخلاقهم وعقولهم .. وهذا ما أوهمهم بأنهم يملكون حق تقرير الحياة والموت لكل من عداهم، وأنهم أيضا في حل من أي التزام إنساني قانوني تجاه الشعوب، التي يستعمرونها لا باعتبار أنها أعراق منحطة وحسب، بل لأنها في الغالب مخلوقات متوحشة لا تنتمي للنوع الإنساني. ولم ينج من هذا ¬

(¬1) أمريكا .. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية ـ إعداد وسام الاسدي جريدة الخليج 27ـ2ـ2003م عدد 8684

التصنيف البيولوجي أقرب الناس إليهم وجيرانهم في الجزيرة وشركاؤهم في البياض والنضارة. فلطالما لازمت الايرلنديين صفة التوحش wild Irish وقالوا عنهم إنهم يعبدون الشيطان، وأنهم أجلاف عراة أحلاس الغابات والمستنقعات، يعيشون على نوع من لحم البشر، أو من لحم أمهاتهم اللواتي كانت لهن أذناب طويلة، وكن متوحشات يأكلن أطفالهن (¬1). وعندما نزلت أول دفعة من المستوطنين الإنجليز من سفنهم الثلاث عام 1607م إلى اليابسة على شاطئ فرجينا في أمريكا الشمالية، فإنهم لم يقوموا فقط ببناء مستوطنة تقوى مركز إنجلترا في مواجهة جارتها الأوربيات، بل جلبوا معهم أفكاراً وعادات شكلت الأساس، الذي قامت عليه ممارساتهم العرقية في المجتمع الأمريكي. وأول ما جلبوه معهم إحساسهم كإنجليز بالتفوق العرقي والثقافي، واعتقادهم بأن البروتستانتية هي التعبير الحقيقي عن الإيمان المسيحي، وإيمانهم بأن التطهيريين (البيوريتان) هم خير من يمارسها في شكلها الصحيح. واعتبر الإنجليز كل من يختلف عنهم بأنه من مرتبة أدنى منهم. وقد ساد هذا الموقف وترك أثره على كل التفاعلات التي حدثت في المجتمع الأمريكي (¬2)، حيث أعطى الأميركيون البيض معركتهم من الهنود الطابع الديني وكأنهم يخوضونها بالنيابة عن الله والمسيح، ليبرروا اضطهادهم وسرقة أرضهم. فعندما زحف (أبناء الرب) من جزيرة روانوك في اتجاه الغرب لم تكن حروب الإبادة والتطهير العرقي وحرق المحاصيل، ومصادرة الأراضي، وإطعام الأطفال الهنود للكلاب إلا مظاهر (إرادة الله ـ يهوه) في العهد القديم (¬3). وهذه العقلية المتعالية - التي لم تر في الآخرين (وهم الهنود في هذه الحالة) سوى وثنيين مجردين من إنسانيتهم، ومن حقوقهم، ولا يستحقون المواطنيه، لأنهم بكل بساطة تحت (قبضة الشيطان)، ويتربصون بالولايات المتحدة شراً، ويريدون لها أن تصير أرضاً نظيرة للجحيم - هذه العقلية المتعالية، ليست بعيدة عن فكرة (شعب الله المختار)، وهي رؤيا كانت كافيه لاستعباد السود والدعوة إلى استحالة دمجهم في ¬

(¬1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص58 (¬2) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية - ص24 (¬3) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص152

الأمة الأميركية، لذلك تركوا على هامش الحياة وتم التعامل معهم كأدوات خادمه للآلة الاقتصادية الأميركية. ولقد استند التطهيريون الإنكليز لتبرير مطاردتهم للهنود وسرقة أراضيهم إلى سفر (يشوع) ومنطق الإبادة المقدسة في العهد القديم، وكتب أحدهم يقول: "بديهي أن الرب يدعو المستوطنين إلى الحرب، فالهنود اعتمدوا على عددهم وأسلحتهم كما فعلت قبائل النقب القديمة: العمالقة والفلسطينيون متحالفين مع غيرهم ضد شعب إسرائيل". هكذا وفي ظل هذه الذهنية مورست الإبادة الجماعية ضد الهنود، وكأن هؤلاء الهنود هم الذين غزوا أراضى المستوطنين، فيما كان المهاجرون ينهبون أراضيهم ويدمرون حياتهم (¬1). يقول (ميشال بوغنون) في كتابه (أميركا التوتاليتارية): "إن استيطان أميركا كان يجري في الأصل في سياق أيديولوجي ثنائي القطب، أولاً: الاغتناء المادي، وثانياً: تمجيد الإنجاز الإلهي. فالأمة الأميركية ورجال الكنيسة والمثقفون الأوائل هم شعب الله المميز، الذي جاء على قدر، فـ (وليام مستوغتون) (1631ـ1701م) "يرى أن الله اختار مواطني أميركا بعناية، فغربلهم كما تغربل الحبوب لفصل البذرة الصالحة عن غيرها". و (جون وينثروب) حاكم مستوطنة ماساشوستس عام 1629 م حتى وفاته في العام نفسه، "ذهب إلى وصف نفسه وأصحابه بأنهم في خدمة المسيح وأنهم يرتبطون معه بميثاق، وأنهم أعضاء جسم فريد موحد، وهم شعب الله المختار وإله إسرائيل بينهم" (¬2). وكان هؤلاء الغزاة الأوائل يسمون بالحجاج أو القديسين، وكانوا يعتبرون هذا العالم الجديد بديلاً عن (أورشليم)، والأراضي المقدسة، ولهذا فقد سموه بكل الأسماء التي أطلقها العبرانيون على بلاد كنعان، وما يزال التاريخ الأميركي إلى الآن يضفي على هؤلاء الحجاج قداسة طوباوية، ويعتبرهم أول نموذج للاستثناء الأميركي الذي فضله الله على العالمين، وأورثه ما أورث بني إسرائيل من قبل، وجعل العهد الذي عقدوه مع الله على متن سفينتهم الأسطورية Mayflower من اللحظات النادرة الخالدة في التاريخ الإنساني، كما يقول الرئيس الأميركي (جون ¬

(¬1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص74ـ75 (¬2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل

آدامس). فعهدهم مع الله جب عهد الإسرائيليين القدامى، وتأسيس مستعمرتهم على صخرة (بليموث) ضاهي تأسيس الكنيسة على صخرة بطرس. قضية هؤلاء (الحجاج) هي الأصل الأسطوري، لكل التاريخ الأميركي ومركزيته العنصرية وما يزال كل بيت أميركي يحتفل سنوياً في (عيد الشكر) بتلك النهاية السعيدة، التي ختمت قصة نجاتهم من ظلم فرعون البريطاني و (خروجهم) من أرضه و (تيههم) في البحر و (عهدهم) الذي أبرموه على ظهر سفينتهم مع يهوه ووصولهم في النهاية إلى (ارض الميعاد) " (¬1). ويعتبر هذا العيد الطقسي (عيد الشكر، الذي يبجله الأميركيون، وطنياً ودينياً أكثر من أي عيد آخرب ما في ذلك عيد الاستقلال)، من أكثر أعياد أميركا قدسية. ففي هذا العشاء الطقسي الذي يذبحون فيه سنوياً بين عشرين وثلاثين مليون (ذبيحة) قرباناً لله الذي وقف منذ اللحظات الأولى لاستعمار أميركا إلى جانب شعبه الإنكليزي المختار، يستعيد الأميركيون أسطورة تاريخهم بكل ما يعنيه طقسية الاحتفال بالاسطوره. فهو طقس يتضمن تقديس فتح الاستعمار الاستيطاني، والتأكيد على التفوق الطبيعي والأخلاقي للمستعمرين، وهو تأكيد على صدق الأسطورة وحياتها المتجددة، وهو احتفال برعاية الله لكل عناصر أسطورة الولادة المقدسة للتاريخ الأميركي، وهو من خلال هذا الطقس الاحتفالي ـ يؤكد على التسامي بالأسطورة ومعايشتها كدين (¬2). فأمريكا تعزو بشكل جزئي هويتها الوطنية إلى انتشار مثل هذه الأساطير القوية التي انبثقت في أوائل تاريخها، حيث يرتبط كثير من هذه الأساطير (بالآباء المؤسسين)، الذين أسسوا هذه البلاد، بينما يرتبط بعضها الآخر بخبرات بناء الأمة. وقد تكون أقوى هذه الأساطير، تلك التي تطورت من جراء خبرة الرياديين وانبثاق الأمة وأن بيان المصير ـ كما يسميه علماء التاريخ ـ هو الاعتقاد بأن الاستيطان في تلك الأراضي الشاسعة غير المسكونة وترويضها من قبل المستوطنين الأوروبيين، كان حدثاً تم بموجب مقاصد إلهيه. فالله اصطفى الأمة الأمريكية من بين الأمم ¬

(¬1) الامبراطورية الأمريكية البداية .. والنهاية - منصور عبد الحكيم - ص 37 - دار الكتاب العربي - ط1 2005 (¬2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص39.

والشعوب وفضلها عليهم، وجعلها شعبه المختار وذلك من أجل قيادة العالم وتخليصه من الشرور (¬1). وقصة هذا الاصطفاء يمكن روايتها كالآتي: "هرب أناس رياديون شجعان من الاضطهاد الديني والسياسي في أوروبا، وواجهوا عقبات كبيرة في تحقيق أحلامهم بوجود سكان أصليين (متوحشين) استخدموا وسائل إرهابيه لإحباط مقاصد الرياديين، ولكن بمعونة الله استطاع هؤلاء المستوطنين الشجعان أن يهزموا (المتوحشين)، ويطردوهم خارج تلك الأراضي، على الأقل تلك الأراضي الجيدة، هكذا مهدوا الطريق لهؤلاء الذين كانوا قادرين على استغلال المصادر، التي أعطاهم إياها الله في تلك الأراضي بشكل أفضل. ولكن هذه القصة غير المحبوكة فضحتها العلوم والمعارف الحديثة، عندما ركزت على وحشية هذا التطهير العرقي القديم وعواقبه السلبية. غير أن بعض العناصر الأساسية في هذه القصة والمتعلقة بالأسطورة ـ أي الرياديين الشجعان الذين هربوا من الاضطهاد وعملوا على إنشاء دولة حره ـ لا تزال تشكل الهوية الذاتية الأمريكية، ويبدو هذا واضحاً في الطريقة السهلة التي يستطيع بها السياسيون ومن بينهم الرئيس (جورج بوش) في هذه الأيام أن يبحثوا عن الدعم لمغامرات سياساتهم الخارجية باقتباسهم عناصر رئيسة من هذه الأسطورة (أن أي هجوم على أمريكا هو هجوم على الحرية) (¬2). ففي التعابير التي كانت تدور على السنة سكان المراحل الأولى من تاريخ فيرجينيا على سبيل المثال، أعلن أوائل المستوطنين عن أنفسهم بجرأة أنهم على حد قول (جون رولف) بأنهم "شعب له خصوصيته، أشار إليه واختاره إصبع الله لامتلاك تلك الأرض لأنه معنا دون شك". والواقع أن مستعمرة فرجينيا في أقدم سنواتها كانت أشبه شيء بمدينة أسستها شركة، وتشبه قاعدة أمامية أو مركزاً متقدماً في أقاصي حدود الاسكا. وقد حافظ المؤسسون بدقة على الشكليات الدينية المعروفة آنذاك بما فيها القوانين التي تتطلب التردد على الكنيسة (¬3). ¬

(¬1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص149 (¬2) عندما تختلط الأساطير بالنبوءات ـ جون هيوبرزـ منسق الإرساليات للشرق الأوسط وجنوب آسيا في الكنيسة المصلحة - جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3 م (¬3) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ص25

ولكن هذا الورع الزائد للمؤسسين الأوائل، باعتبارهم شعب له خصوصية، كان يعكس عنصرية بشعة، ونظره دونية للآخرين باعتبارهم أقل درجه منهم، حتى لا يجوز هدايتهم. وهنا يقول القس (كوتون ماذر) (1663ـ1728م) وهو أحد أهم الآباء المؤسسين لأمريكا: "من الكفر بالله والمسيح أن يحاول أحد هداية أهل البلاد الأصليين، الهنود الحمر، لأنه وجدهم مخلوقات بشعة لا يجوز أن تدخل في ديانته المقدسة" (¬1). وقال كوتون ماذر أيضاً: "إن أميركا كانت قبل مجيء الحجاج الأوائل أرض الشيطان، وإنه ـ أي الشيطان ـ سيستعمل كل حيله للحول دون استيطان المستوطنين". وبهذا تكونت صورة الهندي الشرير والبربري المسكون بالشيطان، في مقابل الرجل الأبيض المختار المسكون بالخير المتصف بالتحضر. وأيضا في مقابل الأسود الجاهل الذي لا يجيد التمتع بالحرية كما هي في الولايات المتحدة" (¬2). فهؤلاء المهاجرون المتدينون الهاربون من النظام الطبقي البغيض، ومن كل سلطة دنيوية أو دينيه بحثاً عن حياة جديدة اغفلوا ضمائرهم، أو استطاعوا أن يوفقوا بين معتقداتهم وبين إبادة الهنود الحمر مسترشدين في ذلك ببعض الأساطير التوراتية، التي أباحت لغزاة فلسطين الأول من اليهود إبادة سكان أرض الميعاد ليحلوا محلهم (¬3). فقد كانت قصص اجتياح كنعان في العهد القديم تمدهم بالأسس الأخلاقية اللازمة لتماسك هذه السيكولوجية الاستعلائية، ولتبرير عنصريتها وعنفها المميت، ولم يكونوا واثقين إلا من شيء واحد: إن الله فضلهم واصطفاهم على العالمين، وأعطاهم الأرض وحق تقرير الحياة والموت والرزق لكل من يعيش فوق هذه الأرض، هكذا حمل شعب الله سيف (الجلاد المقدس)، ولم يساوره الشك في إن الإبادات لم تكن إلا تدبيراً إلهياً مباركاً ورسالة في المجاهل عهدها الله إليهم (¬4). ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص314 (¬2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون، ترجمة: خليل أحمد خليل ـ المصدر الجزيرة نت (¬3) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 52 (¬4) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكشص59

وهنا يلاحظ الدكتور (عبد الوهاب المسيري) أن ثمة عناصر تسم التشكيل الحضاري الغربي الحديث جعلت الإبادة كامنا فيه وليست مسألة عرضية، وقد قام الإنسان الغربي بكثير من عمليات الإبادة لا على الرغم من حضارته الغربية وإنما بسببها!!. فقد طورت الرؤية الغربية الحديثة للكون رؤية للبشر بحسبانهم مادة بشرية يمكن توظيفها، أما من لا يمكن توظيفه فكان يشار إليه بحسبانه مادة بشرية فائضة وأحيانا غير نافعة، ولا بد من معالجتها, فهي إما تصدر وإما أن تعاد صياغتها وإما أن تباد إن فشلت معها كل الحلول السابقة (¬1). وهكذا فإن أي قراءة في العقل الأميركي ورؤيته المتعالية للأمة الأميركية، تبين بوضوح من خلال استعادة آراء منظري الكيان الأميركي، الذين يرون أن أحداث التاريخ وإنشاء الولايات المتحدة أمر صادر عن إرادة قوة، وعن قناعة بأن القدرة الربانية كلفت هذا الكيان الوليد والجديد برسالة تسيير شؤون العالم وإدارته، وان عليهم أداء هذه الرسالة والقيام بواجباتها. إنه إذاً عقل مسكون بيقين تجسيده لأمر الهي، إنها صورة يؤكدها العشرات من المفكرين والمؤرخين الأميركيين، ويرون من خلالها أنهم ملزمون في التبشير بها بل أن مؤرخاً أميركيا مثل (دانيال مورستين) وصل في مغالاته إلى القول: ًأن شعبا في العالم لم يكن أكثر يقيناً في سيره على الصراط المستقيم كالشعب الأمريكي". هذه الرؤية وهذا اليقين والوهم بأداء (رسالة ربانية) هما محرك السياسة الأميركية باتجاه فرض سيطرتها على العالم (¬2). وبناء على هذا الموقف العنصري المتعالي، المغلف بالمعاني الدينية المستمدة من التوراة اليهودية، لم يجد المؤسسون الأوائل لأمريكا أية حرج، في إبادة الهنود الحمر واستعباد الزنوج ماداموا أجناس اقل مرتبه ومتوحشون، وهو نفس الموقف الذي لجأ لاستخدامه اليهود قديماً وحديثاً مع الفلسطينيين والشعوب المجاورة. وقد صارت هذه الأخلاق الإبادية بنفاقها وبسماتها الانكليزية المسمومة عقيدة وأيديولوجيا، بل صارت النواة الصلبة للقومية الأميركية التي ما تزال تخصب الأدب والفن والسينما وصناعة الجريمة والموت وتعطي أوضح صوره لمفهوم الأميركي عن ¬

(¬1) دفاع عن الإنسان (دراسة نظرية و تطبيقية في النماذج المركبة) ـ د. عبد الوهاب المسيري - دار الشروق، القاهرة 2003 ـ عرض/ نشوة نشأت - الجزيرة نت (¬2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص72ـ73

نفسه وعن العالم. هذه الأخلاق التي ضربت جذورها في عقدة الاختيار وكراهية الكنعانيين، ورافقت بناء أميركا لحظة لحظه وجبهة بعد جبهة هي التي جعلت (الأميركيين يعتقدون اليوم، كما كان أجدادهم المستعمرين الأوائل يعتقدون قبلهم بأن لهم الحق المطلق في إن يقتحموا أي غرب) في أي مكان من الأرض (¬1). http://www.aljazeera.net/books/2004/2/2-9-1.htm - TOP#TOP وإذا كان قساوسة الإمبراطورية الرومانية قد وفروا الفتاوى ذات المسوح والمبررات الأخلاقية اللازمة لحكام نظام العبودية الروماني لشن حروبهم العدوانية واللاأخلاقية، فان أباطرة روما الجدد من ممثلي اللاهوت البروتستانتي الأمريكي المتهود وبعض ممثلي المشيخة الفكرية الأمريكية (من أمثال صموئيل هنتنجتون ومن هم على شاكلته) المندمجة المصالح مع رأس المال، ومراكز السطوة والنفوذ في المجتمع الأمريكي، قد وفروا فتاوى العصر الراهن لحكام بلادهم لتنهض مبررات ومسوغات أخلاقية وحضارية ودينيه لشن حروبهم التوسعية العدوانية ضد البلدان والشعوب الآمنة المغلوبة على أمرها (¬2). وهكذا فقد كان التبرير الديني للسلب والنهب والقتل، حاضراً على الدوام في التاريخ الأمريكي، حيث استهل الأمريكيون وجودهم كأمه بعملية إبادة جماعية لشعب بأكمله، كان شعب الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، باعتبار أن تلك الإبادة كانت من (اجل المسيح) وقياماً بعمل الله على الأرض (¬3). وهنا يجب أن نشير إلى أن ما أمرت به القصص الكتابية وفقاً للمعايير العصرية للقانون الدولي وحقوق الإنسان هو (جرائم حرب)، و (جرائم ضد الإنسانية). وهنا على المرء أن يعترف بأن أجزاء كثيرة من التوراة، ومن سفر التثنية بشكل خاص، تحتوى على عقائد مخيفة وميولاً عنصرية وكراهية للغرباء ودعماً للقوة العسكرية (¬4). ¬

(¬1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص138ـ139 (¬2) حول علاقة الدين بالدولة الأمريكية الحديثة - محمد الصياد - جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3 عدد 8672 (¬3) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص409 (¬4) الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني - الأب مايكل برير - ترجمة احمد الجمل و زياد منى ص 22

أمريكيا ولاهوت الاستعمار العبراني

أمريكيا ولاهوت الاستعمار العبراني ألقى القس (ونثروب)، موعظة في الحجاج على متن السفينة الاسطوريه (اربيلا)، أكد فيها على العهد الجديد بين الإسرائيليين الجدد وبين يهوه، وعلى الرسالة التي يحملونها إلى مجاهل ارض كنعان الجديدة قائلاً: "إننا سنجد رب إسرائيل بيننا عندما سيتمكن العشرة منا من منازلة ألف من أعدائنا، وعندما سيعطينا مجده وأبهته، وعندها يتوجب علينا أن نجعل من (نيوانغلاند) مدينة على تل ( city upon a hill) . وهذا التعبير رمز لأورشليم (ولصهيون أيضاً)، وما يزال يستخدم إلى الآن للدلالة على المعنى الإسرائيلي لأميركا، وقد (استخدم) آخر أربعة رؤساء أميركيين هذا الرمز في مناسبات مختلفة: ريغان، بوش الأب، كلينتون، بوش الابن (¬1). ولو عدنا إلى الوراء قليلاً وتوغلنا في التاريخ الأمريكي، لوجدنا كثيراً من وجوه التشابه في إنشاء الوطن الأمريكي، وإنشاء دولة إسرائيل، وخير ما يوضح هذا التشابه هو كتاب (مورتن) المسمى (كنعان الجديدة الإنجليزية)، فإنه يعبر أصدق التعبير عن روح فكرة أمريكا، التي هي الفهم الإنجليزي التطبيقي لفكرة إسرائيل التاريخية، حتى أن قصة هؤلاء الحجاج الإنجليز، الذين أسسوا أول مستعمرة فيما سمي بعد ذلك الولايات المتحدة، إن هي ألا تجسيد لإنجلترا الجديدة الأصل الأسطوري للتاريخ الأمريكي ومركزيته الانجلوسكسونية. وفي كل عام يحتفل كل بيت أمريكي بعيد الشكر، وهو تعبير عن النهاية السعيدة الناجحة (لمن هرب) من ظلم الفرعون البريطاني ونجاتهم وخروجهم من أرضه والتيه في البحر، ولذلك صنعوا (العهد) الذي أبرموه على ظهر السفينة، التي حملتهم إلى أمريكا الجديدة مع (يهوه)، حتى وصولهم إلى أمريكاـ التي في نظرهم أرض كنعان الجديدة. ويمكن ملاحظة أن كل تصورات (العبرانيين القدامى) وأفكارهم عن الحياة والتاريخ والأرض والسماء قد زرعها هؤلاء الإنجليز، الذين هاجروا إلى أمريكا، حتى الأسماء التي سموا بها المدن في أمريكا هي أسماء عبرانيه قديمة كالتي أطلقها اليهود على ارض فلسطين أبان السيطرة اليهودية عليها، ومنها: ارض الميعاد ـ ¬

(¬1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص127

صهيون ـ إسرائيل ـ واستعاروا كثيراً من سلوك اليهود عند إبادتهم سكان كنعان فشبهوا إبادة الأمريكان للهنود بإبادة اليهود لسكان كنعان. كما أن هناك كثير من التشابه القصصي والتقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين أرض كنعان (ارض فلسطين). لقد كانوا يبيدون الهنود وهم على قناعة بأنهم عبرانيون قد اختارهم الله لهذه المهمة وفضلهم على العالمين. وأكثر من ذلك أعطاهم تفويضا بقتلهم (¬1). يقول (منير العكش) في كتابه (حق التضحية بالآخر .. أمريكيا والإبادات الجماعية): "إن فكرة إنشاء أمريكا قامت على فكرة إسرائيل التاريخية، وإن ما يعانيه الفلسطينيون هو ما عانى منه الهنود الحمر. فالرواد الأمريكيين الأوائل وصفوا أنفسهم بأنهم الإسرائيليون، وأطلقوا على السكان الأصليين الكنعانيين. واتهم المستوطنين الأوائل بإبادة 112 مليون هندي أمريكي بالسلاح والتجويع وحتى بالأوبئة". وتحت عنوان المعنى الإسرائيلي لأمريكا يقول (العكش): "أن فكرة أمريكا .. فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة عبر الاجتياح المسلح وبمبررات غير طبيعية، هي محور فكرة إسرائيل التاريخية. فعملية الإبادة التي تقتضيها مثل هذه الفكرة مقتبسة بالضرورة بشخصيات أبطالها .. الإسرائيليون .. الشعب المختار .. والعرق المتفوق وضحاياها الكنعانيون .. الملعونون .. المتوحشون .. البرابرة. ومسرحها ارض كنعان وإسرائيل. ومبرراتها الحق السماوي، أو الحضاري. وأهدافها الاستيلاء على أرض الغير، واقتلاعه جسدياً وثقافياً" (¬2). ولما كان المجتمع الأمريكي، مثل المجتمع العبراني، مؤسساً على اجتياح أرض الغير (الأمريكيون اجتاحوا أرض الهنود الحمر، والعبرانيون أرض كنعان)، كان لابد من تشريع هذا الاجتياح واقتلاع الشعب من أرضه بزعم الحق الإلهي، عن طريق استبطان أسطورة ارض الميعاد، بالزعم أن ما يبدو اغتصاباً، إنما هو تنفيذ لإرادة إلهية. وقد تشابهت في هذه العقدة النفسية، التي احتاجت إلى نظرية ارض الميعاد، مجتمعات عديدة يجمعها اجتياح أرض الآخرين، ومحاولة إبادتهم عنها، وهى أمريكا وإسرائيل والنظام العنصري البائد في جنوب إفريقيا (¬3). ولهذا يرى (منير العكش) أن ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ احمد حجازي السقا ص 9 (¬2) حق التضحية بالآخر .. أمريكيا والإبادات الجماعية - منير العكش ـ الدستور الأردنية - 18ـ8ـ2002م (¬3) تاريخ تطور علاقة المسيحية باليهودية / د. فكتور سحاب - جريدة الخليج عدد 8674

النازية والصهيونية والعبرانية الانجلوسكسونية استعانت في صناعة فرائسها بمنطق واحد، يتجدر ويستمد كل أخلاقه من لاهوت الاستعمار العبراني. ولما كانت فكرة قيام أمريكا وهي (استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة) عبر السطو المسلح وبمبررات غير طبيعية، هي نفسها فكرة (إسرائيل التاريخية)، التي أوحت إلى أمريكا بأن هناك قدراً خاصاً بها. فإنه يمكن ملاحظة مثل تلك المبررات من خلال تصريحات (بوش) والمسئولين الأمريكيين إبان غزو العراق، وإلغاء دور الأمم المتحدة وإعطاء الصبغة الشرعية لأمريكا من وجهة نظر مسئوليها كمبررات (السلام العالمي ـ الأمن الوقائي ـ الإرهاب الدولي أسلحة الدمار الشامل- رخاء شعب العراق أو شعوب المنطقة وديمقراطيتها). فكل هذه المبررات بحسب الظاهر لاحتلال وغزو منطقة بتاريخها، والسيطرة عليها وعلى ثرواتها، حسب الاعتقاد الأمريكي هو قدر خاص بأمريكا، وبمشيئة الرب، (ولها) جذور تاريخية واعتقاد راسخ يضرب جذورا عميقة في الذاكرة الأمريكية. وهو واضح أيضا في معظم المناسبات الدينية والوطنية، وكل خطابات التدشين التي يلقيها الرؤساء الأمريكيون، الذين يصرحون بعبارات منها: أن إرادة الله ـ القدر ـ حتمية التاريخ .. الخ، قد اختارت الأمة الأمريكية (ألانجلوسكسونية المتفوقة) وأعطاها التاريخ دور المخلص في حق تقرير الحياة والموت والسعادة والشقاء لسكان العالم، ومن هذه العبارة القدرية أجريت الجراحة التجميلية المزيفة للمعنى الإسرائيلي لأمريكا وفكرة الاختيار والتفضل الإلهي (¬1). وبناء على ما تقدم فإننا لا يجب أن نندهش حين يرحب الأمريكيون بالمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال حالياً على أرض فلسطين، فهذا النعل من ذاك الحذاء. يجب أن لا نندهش وان نعلم أن الأمريكيين يربطون ربطاً لازماً بين مصير الهنود الحمر ومصير الفلسطينيين. يقول (وليم فوكسويل) في كتابه (التوحيد وتطوره، من العصر الحجرى إلى المسيحية): "ان فيلسوف التاريخ وهو القاضي النزيه، يرى على الاغلب ان من الضروري زوال شعب متخلف، ليخلى مكانه لشعب آخر ذي ملكات متفوقة ... فقد يؤدى الاختلاط بين العروق البشرية إلى نتائج مدمرة". وهذا ما اتاح لصاحبنا ان يخلص فيما يخص الكنعانيين إلى ما يلى: "كان من حسن حظ التوحيد ¬

(¬1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 12ـ13

ومستقبله ان الاسرائيليين المجتاحين، كانوا شعباً متوحشاً يملك تلك القوة البدائية مع ارادة للحياة لا نظير لها، فابادة الكنعانيين قد حالت دون الانصهار التام للشعبين المنحدرين من اصل واحد، ولو قدر لهذا الانصهار ان يقع لعمل دون شك على اضعاف ديانة (يهوه) إلى حد بعيد" (¬1). وفي كتابه (فلسطين الجانب الإنساني) أورد (ويكفيلد) عبارة للبروفيسور (راينهولد نيبر)، يقول فيها: "إن الزعم بأنه من غير الأخلاقي دولياً أن تؤخذ فلسطين من العرب وتعطى لليهود، زعم عار من الصحة، اللهم إلا إذا صح الزعم بأن المستوطنين الأوربيين لم يكن من حقهم أخذ الأرض من الهنود الحمر ليستوطنوها، ويجعلوا منها القارة الأمريكية العظيمة" (¬2). ويقول الحاخام المؤرخ (لي ليفنجر): "أن مؤسسي أمريكا كانوا أكثر يهودية من اليهود أنفسهم، وهم على حسب ما يزعمون (يهود الروح) الذين عهد الله إليهم كما عهد إلى يهود (اللحم والدم)، قبل أن يفسدوا ويتخلوا عن أحلام المملكة الموعودة". ويضيف مخاطباً المهاجرون الأوائل قائلاً: "أن يهوديتكم أيها المهاجرون إلى العالم الجديد هي التي أرست الثوابت الخمسة التي رافقت التاريخ الأمريكي في كل محطاته: 1 - المعنى الإسرائيلي لأمريكا. 2 - عقيدة الاختيار والتفضيل الإلهي والتفوق العرقي والثقافي والفكري. 3 - الدور الخلاصي للعالم. 4 - قدرية التوسع اللامحدود. 5 - حق التضحية بمن سواهم وإبادتهم واعتبارهم، كما تقول التوراة والتلمود جنساً محتقراً لا لزوم له ما دام ليس يهوديا (¬3). وهكذا فقد اقتدى الأمريكان في المبادئ الخمسة بعلماء اليهود وبحرفية كل ما جاء من في التوراة. فالتفسير النزيه للتقاليد الكتابية التي تأمر بالأعمال الفظيعة، وجرائم الحرب، قد قدمت العزاء والسلوى لأولئك المصممين على استغلال الأراضي ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - طبعة 1991 - ص38 (¬2) حق التضحية بالآخر .. أمريكيا والابادات الجماعية - منير العكش ـ الدستور الأردنية - 18ـ8ـ2002م (¬3) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 10

ثقافة أهل الحدود

الجديدة على حساب الشعوب المحلية. وهناك دليل وافر بأن الكتاب المقدس كان ولا يزال إلى حد ما، المثل الأعلى الذي يسعى إلى استلاب الأرض بالفتوحات (¬1). من هنا يتضح أن سياسة أمريكا تجاه شعب أمريكا الأصلي هي نسخة طبق الأصل عن الموديل التلمودي اليهودي لعلاقة اليهود بالغرباء، حيث يطالعنا الموقف عينه من الناس كأنهم دواب، والوحشية الفظيعة نفسها، والشعور بأن كل شيء مباح ـ السمات المميزة لليهود المتعصبين ـ كما أن أراضى الهنود وأملاكهم لا تخص أحداً مشاعاً يعيد إلى الأذهان أحد معايير التلمود الرئيسة، الذي يعتبر ملكية غير اليهود (بحيرة شاغرة). وانطلاقاً من هذا المبدأ اتخذت الحكومة الأمريكية في عام 1899 م إجراء جديدا لنهب أراضى الهنود، التي كانت قد سجلت ملكاً لهم (إلى الأبد) منذ عهد ليس بالبعيد، لقد قررت الحكومة الأمريكية، مصادرة أراضى الهنود من جديد وهكذا بدأ تنفيذ حملة (السباق) لعموم أمريكا. وقد جاء في نداء حكومة الولايات المتحدة الأمريكيه: "أن على كل مواطن أمريكي أبيض يرغب في الحصول على أرض مجانية الحضور في الثاني والعشرين من نيسان 1899م إلى خط محدد مسبقاً. ففي الثامنة من صباح ذلك اليوم ستعطى إشارة الانطلاق. ولسوف يحصل كل متسابق على تلك القطعة من الأرض التي يستولي عليها قبل غيره، دون أي مقابل وسوف يربح ـ أكثر من يجري (أسرع). لقد شارك في هذا (السباق) الآلاف من البيض الراغبين في الإثراء على حساب الهنود. كان كل متسابق يحمل قطعة من القماش الأبيض، وكانت قطعة من الأرض الهندية نصيب أول من يصل إليها، ويركز قطعة القماش عليها. وعلى هذا النحو حققت الروح التلموديه النصر على الأرض الأمريكية (¬2). ثقافة أهل الحدود في ظل اعتقاد الأمريكيون أن ما يقومون به من احتلال ونهب لأراضي الغير، ما هو إلا تنفيذاً لإرادة إلهية، وان الله منحهم هذا الحق، فإنه كان طبيعياً أن تنشأ ¬

(¬1) الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني - الأب مايكل برير - ترجمة احمد الجمل و زياد منى ص 24 (¬2) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 23

لديهم ثقافة جديدة سماها بعضهم بثقافة أهل الحدود، والتي لا تضع حداً لأطماع الأمريكيين في أراضى الغير. ويصف هذه الحالة (جارودى) بقوله: "فبالنسبة للعلاقة مع الطبيعة لم تكن لـ (الحدود) طوال أكثر من قرن نفس المعنى، الذي كانت تعنيه في أوروبا. كانت الحدود الأمريكية دائماً مساحة مفتوحة حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، ولم تغلق تلك الحدود رسمياً إلا بالوصول إلى المحيط الهادي" (¬1). "فقدر أميركا الأبدي هو الغزو والتوسع، إنها مثل عصا هارون (موسى)، التي صارت أفعى وابتلعت كل الحبال، هكذا ستغزو أميركا الأراضي وتضمها إليها أرضاً بعد ـ أرض، ذلك هو قدرها المتجلي، أعطها الوقت، وستجدها تبتلع في كل بضع سنوات مفازات بوسع معظم ممالك أوروبا، ذلك هو معدل توسعها" (¬2). فمنذ العهد الاستعماري، تعود الأمريكيون على الاستيطان واستمرارية الزحف من الساحل الشرقي إلى الغربي في اتجاه الأرض البكر ـ غير المستغلة ـ ممارسين التجارة والزراعة. وباستمرار هذه الظاهرة أصبحوا يفكرون بأن ضم أراض جديدة إنما هو عمل طبيعي عودتهم الأحداث عليه (¬3). يقول (اى. ا. بيلينكتون) أستاذ التاريخ في جامعة نورث ويسترن ومؤلف (تاريخ الحدود الأمريكية) و (الحدود الغربية القصوى): "إن الأساس الذي قامت عليه حياة أهل الحدود هو الذي يميز، حتى يومنا هذا، اتجاهاتنا وميولنا نحو المجتمع والعالم الذي يحيط بنا. نحن شعب متنقل، نسير إلى الأمام قدماً، ولا تربطنا بالموطن والمجتمع إلا رابطة هينة. وهذا عكس ما هو عليه الإنجليز أو الفرنسيون أو الإيطاليون. إن أسلافنا من أهل الحدود كانوا متنقلين، وأننا دوماً على استعداد للتبدل والتغيير بنحو ما هو أحسن وأفضل لحياتنا" (¬4). والاستعداد للسير إلى الأمام والتبدل نحو الأفضل، لا يعنى للأمريكان سوى أن تظل تلك المساحة الشاسعة داخل أمريكا ـ وبعد ذلك في العالم ـ مسرحاً للنهب والسلب وتدمير الغابات الكثيفة بحثاً عن مناجم الذهب والفضة، وكانت العلاقة مع ¬

(¬1) أمريكا طليعة الانحطاط ـ جارودى ـ ص49 (¬2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص105 (¬3) المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية - ج1ـ د. محمد النيرب - ص190 (¬4) حضارة العالم الجديد من عصر الاستكشاف إلى عصر الذرة- ارل شينك ـ ترجمة فؤاد جميل- ص290 - مطبعة شفيق / بغذاد - ط1 1958

الآخرين ـ أيضا ـ ذات طبيعة خاصة بدأت أولاً بطرد الهنود للاستيلاء على أراضيهم ووضعهم بين خيارين: أما الإبادة، وإما النفي والانسحاب إلى المعزل، وبعد ذلك كانت العلاقة بين البيض أنفسهم خاضعة لأحكام قانون الغاب، لنهب الثروات المسروقة من الهنود أرضاً كانت أم ذهباً. فقد كان النيوانجلانديون ميالين لاعتبار كل ما هو محيط بهم على أنه برية تنتظر حضارة منظمة تستنقذها (¬1). وبالطبع فإن تلك الحضارة، هي الحضارة الأمريكية صاحبة الرسالة الخالدة، التي بشر بها قادة الفكر الأمريكي، وأكدوا بأن أمتهم قادرة بإمكانياتها أن تحقق رسالتها الخالدة وحلمها الأعظم، الذي تعبر عنه أسطورة حكاها (جون فايسك) فيلسوف التاريخ، عضو النادي الميتافيزيقي مهد البراجماتية، إذ رسم (فايسك)، أو رسمت الأسطورة على لسانه، حدود الولايات المتحدة الأمريكية. تروى الأسطورة، التي استهل بها (فايسك) إحدى محاضراته، قصة حفل غذاء في باريس ضم أربعة من المغتربين الأمريكيين. تحدث كل منهم عن مستقبل الولايات المتحدة وحدودها وأمجادها. إلى أن جاء دور المتحدث الرابع الذي لم يقنع بما رسمه سابقوه من حدود تسع الكرة الأرضية وشعوبها وبلدانها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، وانبرى وقال: "لماذا نترك أنفسنا أسرى هذه الحدود الضيقة. أن الولايات المتحدة هي تلك التي يحدها الشفق القطبي شمالاً، والاعتدالين جنوباً، والعماء البدائي شرقاً، ويوم القيامة غرباً" (¬2). ومن الجدير بالذكر أن (جون فسك) كان من فلاسفة الدارونية، الذين استعملوها لتبرير الاستعمار حيث كتب يقول: "إن العنصر الانجلوـ سكسوني هو أصلح الأجناس البشرية، وانه في المستقبل سوف ينتشر هو ولغته وثقافته في أربعة أخماس الكرة الأرضية، وسوف يحيل إفريقيا إلى بلد متقدم ملئ بالمدن والمزارع ومظاهر التكنولوجيا". وقد كرر هذه الآراء في عدد من المؤلفات، حيث كانت الآراء المقابلة في القارة الأوروبية في أمثال: بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، تسير ¬

(¬1) تاريخ الحياة الثقافية في أميركا يرويه لويس بيري ـ ترجمة أحمد العنانيـ ص 58 (¬2) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص227

في نفس الاتجاه وتبرر حركة الاستعمار والتوسع إلى أن أفرزت حركات عنصريه متطرفة من أمثال: النازية والفاشستية، وأشعلت حربين عالميتين في فترة لا تتجاوز نصف القرن" (¬1). ولم يكن (جون فايسك) هو أول من عبر عن طموح الولايات المتحدة مجسداً في رسالتها الخالدة التوسعية، وإنما عبر عنها آخرون من رجال الدولة والزعماء السياسيين، مما يؤكد أنها جزء من ثقافة اجتماعية سائدة، وإن صيغت الرؤية في عبارات متباينة. ذلك أن فكرة: "الأمريكيون هم شعب الله المختار"، عبر عنها صراحة (توماس جفرسون) في خطابه الرئاسي الأول عام 1801م. وسبقه أيضاً (جورج واشنطون) أول رئيس للولايات المتحدة، إذ قال في خطاب رئاسته: "أنه موكل بمهمة عهدها الله إلى الشعب الأمريكي"، وذلك في عام 1789م، ومن بعده قال (جون آدمز) الرئيس الأمريكي الثاني: "إن استيطان أمريكيا الشمالية تحقيق لمشيئة إلهية". وقال (تيودور روزفلت): "أمركة العالم هي مصير وقدر أمتنا" (¬2). وقد لاحظ المؤرخ الأمريكي (فريدريك جاكسون تورنر) أن: "أمريكا كانت، منذ أيام إبحار كولمبوس إلى عمق مياه العالم الجديد، اسماً آخر للفرصة، وما لبث شعب الولايات المتحدة ان استمد مزاجه من التوسع المتواصل، الذي لم يكن مفتوحاً وحسب، بل بقى مفروضاً عليهم عنوة .. وستظل الطاقة الأمريكية دائمة التطلب لميدان أوسع تتجلى ممارستها في إطاره" (¬3). فالشعب الأمريكي كما وصفته وكالة الإعلام الأمريكية، "دائم النزوح والتنقل من جزء من البلاد إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، ومن المزرعة إلى المدينة، ومن المدينة إلى الضواحي" (¬4). فكما يقول الكاتب الأمريكي (والف وايتمان)::إننا لم نعش أهوال الماضي، ونعبر المحيط ونأتي هنا لنتوقف". فالزحف نحو الغرب وعدم الالتزام بأي حدود هي السمة المميزة للشخصية الأمريكية، فقد اندفع المهاجرون غربا على ¬

(¬1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص13 (¬2) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص227 (¬3) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص52 (¬4) هذه هي أمريكا - وكالة الإعلام الأمريكية ـ ص11 - الولايات المتحدة الأمريكية

ظهور العربات التي تجرها الجياد نحو حدود جديدة حتى وصلوا إلى شواطئ المحيط الآخر، ثم نزلوا جنوباً حتى اصطدموا بأول عائق بشرى قوى في دولة المكسيك، فحاربوها واخذوا مساحة كبيرة من أراضيها. والترجمة الحقيقية للتعبير الأمريكي THERE IS NO FRONTIERS ( لا توجد حدود)، هي البحث عن مناطق جديدة للغزو وضمها وهو نفس منطق إسرائيل. ولما اكتملت الحدود، اندفع الأمريكي نحو ارتياد حدود وآفاق جديدة تشمل السيطرة الجغرافية على مناطق من العالم القديم، وكذلك الريادة العلمية، والسياسية والاقتصادية؟ أن هذه المنطق يذكر الأمريكيين بآبائهم المؤسسين باندفاعهم وديناميكيتهم في مضمار التنافس للاستفادة من كل الفرص المتاحة للكسب المادي (¬1). فقد كان شعار (انطلق نحو الغرب أيها الرجل الشاب)! هو الحل المقدم خلال الأزمة الاقتصادية 1840م من هوراس غريلي صاحب جريدة نيويورك تريبيون (¬2). ان ميتافيزياء (اقتحام الغرب) التي نسفت نظام البوصلة واعدت العصر الذهبي لنظرية الإنكليزي (مالثوس) جعلت الغرب الأميركي في كل الجهات وفي كل الأرحام، إنه (الغرب) اللانهائي اللامكان وأنه كل مكان. انه فضاء الزنابير، الثقب الأسود الذي يمتص كل شيء، الأرض التالية، وراء الجبهة التالية، وراء الغرب التالي، وراء المجاهيل التالية، وراء الإبادة الجماعية التالية. إن عالمنا كله يعيش اليوم تحت رحمة (مافيا كولومبس) (¬3). http://www.aljazeera.net/books/2004/2/2-9-1.htm - TOP#TOP لقد حلم (جيفرسون) ببلد قارة ترث الأطلسي والباسيفيكي، أرض مبذولة "كبيرة جدا كافية لآلاف الأجيال". وفي سنة 1803م قام الرئيس الأمريكي بشراء لويزيانا الشاسعة (تغطي ثلث مساحة الولايات المتحدة حاليا، من خليج المكسيك وحتى الغابات الكندية. من ضفاف الميسيسيبي وحتى صخور المونتانا) من نابليون، وفي السنة الثانية أرسل المستكشفون لفتح طريق الشمال ـ غرب. كانت تلك روحية الحدود: ادفعوا الحدود، اذهبوا دائما نحو البعيد، وبذلك تكونون الثروة. هناك المزيد من الغنى، متوافر للجميع. إن الذي يخاطر ¬

(¬1) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 55 (¬2) إمبراطورية الحرية - انطونيو بلتران هرنانديزـ ترجمة احمد توفيق حيدرـ ص146 (¬3) حق التضحية بالآخر (أمريكا والابادات الجماعية ـ تأليف منير العكش- ص138ـ139 - رياض الريس للكتب والنشر- ط1 2002

ويعمل يجد مخرجاً على الدوام .. كان يريد من ذلك دفعهم نحو الغرب، وتغذية العقلية الطموحة والفردية إلى حد كبير. لذا فإن ما ينتظر من الحكومة هو الحد الأدنى من القواعد، والحد الأقصى هو الحرية. أما بالنسبة إلى الفقراء فليس من المستغرب اعتبارهم مسئولين عن أسباب شقائهم (¬1). وهذه الرغبة المستمرة في التوسع والسيطرة وجدت لها مبررات في نظرية (الجغرافيا الحيوية) التي تزعم بأن: "المكان الجغرافي للدولة المتفوقة كائن حي ينمو باستمرار (ولا يموت طبعاً)، ونظرية (القضاء والقدر الجغرافي)، أو الزعم بان يد القضاء هي التي ترسم الحدود الجغرافية للأمم (لا تعترف الولايات المتحدة كإسرائيل إلى الآن بحدود جغرافية، لها وليس في دستورها إشارة إلى ذلك). ومنذ أن أطلق (جون اوسوليفان) هذا الاصطلاح في مقاله له بعنوان (التملك الحق) تحول (القدر المتجلي) إلى عقيدة سياسية مفادها، إن هذا العالم كله (مجاهل)، وأن قدر أميركا (الانكلوسكسونيه) الذي لا ينازعها فيه أحد، إن تتملك منه ما تشاء من أرض لأن ذلك حقها الطبيعي، ولأن إله الطبيعة والأمم هو الذي أورثها هذه الأرضة، وجعلها ـ مثلما جعل ألمانيا النازية بعدها ـ كائناً حياً لا يتوقف عن النمو (¬2). ولكن النتيجة الطبيعية لهذا النمو الطفيلي لهذا الكائن المتوحش، كانت كارثية، حيث تقلص معنى الحياة إلى هذا التوسع الكمي للملكية والأرض وكنوزها، وكان (الوست) أو (أقصى الغرب البعيد)، يعني ـ باستثناءات قليلة ـ تقديس هذه الملحمة العنصرية، وقانون الأقوى في حرب الجميع ضد الجميع، ولم تلعب التطهيرية المسيحية أو الييوريتانيه أي دور سوى دور المبرر لتلك الأفعال والعلاقات الاجتماعية بل والمحرك لها. وأصبح العنف الأكثر دموية والتحريض عليه بنفاق المتدينين ملمحاً دائماً في تاريخ الولايات المتحدة منذ نشأتها. فلقد قدم المتطهرون من الإنجليز الأوائل إلى الولايات المتحدة حاملين معهم العقيدة الأكثر دموية في تاريخ البشرية، ومسلحين بفكرة (الشعب المختار)، مقننين فكرة الإباده وكأنها حسب روايتهم أوامر إلهيه. كانوا يسرقون أراضى الأهالي الأصليين طبقاً لتعاليم يهوا (إله ¬

(¬1) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكرـ جريدة الخليج الإماراتية - 15ـ12ـ2005م (¬2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص133

السير على هدى وصايا يهوه

الحرب) في العهد القديم، هذا الإله الذي أمر شعبه المختار، بإبادة وذبح السكان القدامى في أرض كنعان واغتصاب أرضهم (¬1). وبعد أربعة قرون من مواكبة (العناية الإلهية) لحركة التوسع الاستيطاني نحو الغرب، أعلن (فردرسيك تيرنر) أحد أبرز فلاسفة (الثغور) أن الجبهة القارية الداخلية انتهت ووضعت أوزارها، وبانتهائها ختمت أمريكا حقبتها التأسيسية اللازمة للتوسع وراء المحيط ولبناء إمبراطوريتها الكونية. وعندما نشر كتابه (مشكلة الغرب) أكد على أن التوسع، والحرب كانا أساس النماء الاقتصادي الأمريكي، ولابد لاستمرار هذا النماء من استمرار التوسع، وعدم إطفاء نار الحرب. ودعا (تيرنر) إلى شق قناة لهذا التوسع عبر المحيط والاستفتاح بضم الجزر والبلدان القريبة. إنها حتمية الولادة الأبدية للثغور التي تتقدم باستمرار، وحتمية الولادة الأبدية للحياة الأمريكية على هذه الثغور والجبهات التي ستصل الغرب بالشرق، لتكمل شمس الحضارة الانكلوسكسونية دورتها حول الأرض. "فقد نجا شعب الله الجديد من ظلم فرعون لندن، وخرج إلى كنعان الجديدة فقهر قديسوه مجاهلها. وظل الغرب يفر أمام زحوفهم ويتراجع إلى أن لم يبق أمامهم من غرب، والى أن صار عليهم أن يخترعوا لزحفهم غرباً ولو في أول الشرق" (¬2). السير على هدى وصايا يهوه قرنت نصوص التوراة والعهد القديم باستمرار وبإلحاح لافت للنظر، بين الثراء والوفرة المادية لدى الفرد ولدى الجماعة، وبين (السير على هدى وصايا يهوه)، باعتبار الثراء والوفرة نعمة، ينعم بها يهوه على من يطع أوامره ويلتزم بنواهيه، وباعتبار الفقر والجوع والشقاء الدنيوي عقاباً، يعاقب به يهوه ممن يعصِ أوامره ولا يلتزم بنواهيه، وهذا ما يوضحه بجلاء بالغ هذا النص: "فإذا سمعتم لوصاياي أعطي مطركم في حينه المبكر والمتأخر. فتجمع حنطتك وخمرك وزيتك .. فتأكل وتشبع. فاحترزوا لئلا يحمى غضب يهوه عليكم ويغلق السماء فلا يكون مطر ولا تعطى ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص49 (¬2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص137

الأرض غلتها. فتبيدون سريعاً .. انظر .. أنا واضع أمامك اليوم بركه ولعنه. فالبركة إذا سمعتم لوصايا يهوه إلهكم .. واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب يهوه (¬1) " (التثنية11:11ـ15 و 26ـ28). ولما كان المتطهرون هم ورثة الصلاح البروتستانتي، لذلك كانوا يعلمون أنها كانت غلطة رومانية كاثوليكية، أن يظن بأن الأعمال الطيبة والصدقات يمكنها أن تمحوا وشم الخطيئة، لان هدف الدين هو تمجيد الرب ذي الجلال والإكرام. وحيث أن أوامره ـ جل جلاله ـ ليست سهلة التنفيذ لذلك فإن رحمته لا تحل إلا بالمؤمن (¬2). وعندما أخذت البروتستانتية ذلك الكلام من عجزه، فقالت: إن كل من لم يتصف بالمبادأة، ولم يجد لديه القدرة على أن يقوم بأمر نفسه اقتصادياً، مثلما تعين عليه القيام بأمر نفسه دينياً، فابتلى بالفقر والجهل والمرض وداسته الأقدام، لا حق له في أن يلوم أحداً إلا نفسه، لأنه شرير وسيئ وخاطيء ورديء وإلا لما كان جلب على نفسه فراغ خزانته، والخيبة في كل ما يفعل، وما تمتد إليه يده، كانت البروتستانتية بذلك مستنده بظهرها الورع بقوة وتمكن إلى أخلاقيات العهد القديم، الذي زودها بكل ما افتقدته من سند إلهي في التعاليم المتسامحة للسيد المسيح، الذي لم يكتف بأن دعا إلى الرحمة والتراحم وصنع السلام، بل تمادى في نقضه للناموس، الذي ادعى أنه جاء ليكمله وقال: "ما أعسر دخول ذوى الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب إبره أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله" (¬3) (لوقا 18:24). هكذا قدمت البروتستانتية الكثير من الأفكار، التي حملها الأوروبيون إلى العالم الجديد، حتى أن بعض المؤرخين اعتبروها المكون الرئيس في حوافز المستوطنين الجدد في أميركا، حيث كانت حملات الدعاية لمعظم المشروعات الإنجليزية الاستعمارية، عبارة عن فقرات تناشد أوائل المستعمرين بتقديم العون السياسي أو المالي، أو مواعظ كنسية تدعو للمسافرين بالتوفيق من الله، أو قصص تفاؤل عن مغامرات البحار ـ كانت تؤكد عظمة العناية الإلهية أكثر من أمجاد البشر. كذلك تعكس تلك المقتطفات أن رجال الإنجليز في القرن السابع عشر الميلادي ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص78 (¬2) تاريخ الحياة الثقافية في أميركا يرويه لويس بيري ـ ترجمة أحمد العناني ـ ص 71 (¬3) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص 79

التباين في الثروات

كانوا يحبون تبرير أعمالهم بعبارات فضفاضة من علم الكونيات الديني. كما كان واضحاً بأن هناك توجها للعناية الإلهية يسري في سائر كتابات أصحاب ذلك المشروع الاستعماري. فهم يتكلمون عن أنه رغم كون الجميع من الناس مشاركين في خطيئة آدم، إلا أنهم يحتفظون بموهبة العقل، التي تمكنهم من استغلال الحيوان والنبات وممالك المعادن. وهم بأعمالهم الأنانية كانوا ينفذون خطة مقدسة تفضي إلى الوفاق النهائي، وهكذا فإن الله تعالى ـ على حسب ما يراه الكتاب الإنجليز ـ قد أخر استعمار العالم الجديد إلى ما بعد الإصلاح الديني البروتستانتي لكيلا تقع أميركا بغير منازع في حضن الظلام البابوي (¬1). هذه الخلفية الدينية المستمدة من العهد القديم، والتي تمسك بها المسيحيون البروتستانت، باعتبارهم رسل العناية الإلهية، التي يجب أن يلتزموا بحرفية تعاليمها، لكي يحصلوا على البركة والرخاء، ولكي لا تحل عليهم النقمة، هي التي يمكن أن توضح لنا سبب الجشع والطمع وحب المال الذي يتمتع به الأمريكان، باعتبار أن ذلك هو إطاعة لأوامر الله. وقد اكتشف (توكفيل) هذه الحقيقة، وكان أول محلل ومراقب ثاقب البصيرة للولايات المتحدة منذ عام 1840م في كتابه الأساسي عن هذه الدول، وكانت ـ لا تزال ـ وليدة حين قال: "لم أعرف شعباً مثل هذا الشعب استولى فيه حب المال على قلوب البشر، انه شعب من شراذم المغامرين والمضاربين". واليوم ـ أيضا نستطيع أن نتعرف في تاريخ هذا الشعب على أسس انحطاط ثقافته (¬2). التباين في الثروات لم يكن غريباً أن (مارتن لوثر) مؤسس المذهب البروتستانتي، اعتبر الملكية معياراً للتفريق بين الإنسان والحيوان، ولهذا اتهم القديس الاسيزي بأنه مختل العقل، طائش أحمق شرير لمجرد أنه كان يطلب من أتباعه إن يتخلوا عما لديهم للفقراء. ومنذ نزولهم في جيمستاون عام 1607م، لم يستطع القديسون أن يميزوا ¬

(¬1) تاريخ الحياة الثقافية في أميركا يرويه لويس بيري ـ ترجمة أحمد العناني ـ ص 12 (¬2) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص48

بين السماء وعجل الذهب "لقد وجدنا أرضاً واعدة أكثر من أرض الميعاد، فبدلاً من اللبن وجدنا اللؤلؤ، وبدلاً من العسل وجدنا الذهب" (¬1). فمنذ وطأت أقدام المستعمرين الأوربيين أمريكا، ودخلوا في صراع دموي مرير مع الهنود الحمر سكان ـ القارة الأصليين ـ وجد رجال الدين أنفسهم في خدمة الحرب الجديدة. وعندما انطلقت دعوة الدارونية الاجتماعية ـ وجدت الكنيسة فيها مبرراً لهذه الخدمة العسكرية. وكان من بين رجال الدين الأمريكيين الذين اعتنقوا الدارونية الاجتماعية عدد غير قليل، منهم الكاهن (جوسيان سترونج)، الذي قال: "إنه طبقا لصراع وتفوق النوع الانجلو ـ سكسوني، يظهر في أمريكا نوع من الناس كبار الأجسام أقوياء فارعو الطول". وقال: "أن العنصر الأمريكي سوف يملأ القارة ويزحف نحو الأقطار الأخرى في أمريكا الجنوبية وإفريقيا، وما ورائها وستكون نتيجة هذا الزحف تفوقه والقضاء على الأجناس الأخرى لان البقاء للأصلح" (¬2). ولما كانت الحيوانات ـ في نظرية دارون ـ غير متساوية وأن أفضلها هو أقواها واقدرها على التكيف مع متطلبات البيئة، فكذلك أفراد الجنس البشري، هم مختلفو القدرات، وأفضلهم هم أقدرهم على التكيف خلال عملية (الصراع من أجل البقاء)، ولذلك فإن المساواة فكرة خاطئة تكرس التخلف والمرض في المجتمع. أما (حرية الصراع) فإنها تولد الشجاعة والتدريب والذكاء والعمل. وهكذا لعبت القيم الدينية المستمدة من التوراة دوراً رئيساً في تبرير الطبقية والغنى والفقر، والذي انعكس بدوره على القيم التى يقوم عليها النظام الرأسمالي برمته، ومن أبرز الناطقين بلسان هذا الاتجاه (وليم جراها صومنر) الذي كانت آراؤه الاقتصادية تطبيقات لنظرية الانتقاء والبقاء للأصلح، وخلاصة آرائه في هذا المجال ما يلي: 1ـ التنافس المطلق الذي لا تقيده قيود، أساس الحياة الاقتصادية، والذين ينجحون في جمع الثروة هم أفضل العناصر في المجتمع، والذين يفشلون هم العناصر السيئة، ولذلك لا تجوز الصدقة على الفقراء لان معناه تكريس الضعف في المجتمع. ¬

(¬1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص117 (¬2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص19

2ـ إن تنافس بني البشر في ميادين الثروة، كتنافس الحيوان في جمع الغذاء، ولذلك لا داعي للفقراء أن يلوموا الأغنياء، وإنما هم مسئولون عن عجزهم عن التكيف والنجاح في ميدان الصراع، لأن الحقيقة الأولى في الحياة هي الصراع من أجل البقاء، وأعظم مظاهر هذا الصراع هو توفير رأس المال والثروة. 3ـ إن أصحاب الملايين هم حصيلة الانتقاء الطبيعي، الذي يعمل في المجموعة البشرية كلها لانتقاء أولئك الذين لديهم قدرات الإنجاز (¬1). وبالرغم من ما أحدثه الإيمان بهذه الأفكار، من تفاوت متزايد في الثروات وبالتالي في السلطات، داخل أمريكا، والذي كان أحد أسباب ظهور الطبقية، وتجمع الثروة في أيدي حفنة قليلة من الأفراد، أفقرت الآخرين ثقافياً ومادياً، الا ان الأمريكيون الأصوليين يعتقدون أن ما تتمتع به أمريكا من رخاء وثراء وتفوق دليلاً لا يدحض على أن الله ذاته يوافق الأمريكيين على إيمانهم بأنهم هم العالم، وأنهم المكلفون بتنفيذ مشيئته والقيام بعمله على الأرض، ويكافئهم على ذلك بالرخاء والثراء والقوة (¬2). فالرئيس المؤمن (رونالد ريجان) أعلن، أن ثراء ورخاء الولايات المتحدة يرجع إلى كونها (أمة مباركة من الله)، ولكن أحد رجال الدين الأسبان تجرأ على استهجان ما قاله (ريجان) واصفاً إياه بأنه (تجديف وهرطقة)، لأن ثروة وقوة الولايات المتحدة لا تأتي من مباركة الله، ولكنها ترجع إلى استغلال العالم وبخاصة العالم الثالث، عبر التبادلات غير المتوازنة وغير المتعادلة، وفرض استيراد المنتجات الأمريكية بالقوة وغزو رؤوس الأموال الأمريكية للدول التي تنخفض بها المرتبات، وعبر الفوائد الاستغلالية للقروض (¬3). وهكذا أوجد الإيمان بهذه الأفكار تبايناً صارخاً في الثروات، جعلت واحداً في المئة فقط من الشعب الأمريكي يهيمنون علي ثروات تزيد أضعاف المرات علي ما يمتلكه ثمانون في المئة من الشعب مجتمعين. ويمتلك (بيل غيتس) من الثروة ما يعادل ثروة مدينة أمريكية تعداد سكانها نصف مليون نسمة. ومع ذلك، فقد صنّف المكتب الأمريكي العام للإحصاء في مطلع القرن الواحد والعشرين حوالي 40 مليون ¬

(¬1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص7ـ8 (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص414 (¬3) أمريكا طليعة الانحطاط - جارودى - ص109

أمريكا تقف في صف الله وتنفذ إرادته

أمريكي كفقراء كثير منهم مشردون دون مأوي. وفي كل مدينة أمريكية كبيرة توجد أحياء فيها فقر مدقع، وبذلك توجد عوالم ثالثة في أمريكا نفسها. وقد وصف (روبرت إي دافولي) المدير التنفيذي لإحدى الشركات الأمريكية العملاقة، النظام الأمريكي بقوله: إن الرأسمالية هي انحراف وتضليل. لدينا أعلي معدلات الجريمة في العالم، ولدينا أناس يعيشون علي قارعة الطريق دون أن يلقي أحد لهم بالاً. فقد أفرز نظام الرأسمالية الاستعمارية المستمد من القيم الدينية البروتستانتية، تفاوتاً وعدم مساواة بين الأمم علي صعيد العالم كله، وهو أمر آخذ في التزايد. وهناك 358 مليارديرا يتربعون علي ثروة مجمعة تعادل إجمالي ما يملكه أفقر 2.5 مليار إنسان علي ظهر الأرض (¬1). أمريكا تقف في صف الله وتنفذ إرادته لم يقف أثر الأفكار الدينية عند هذا الحد، بل ساعدت التقاليد البيوريتانية في تشكيل فهم الأمريكيين لأنفسهم فهماً جماعياً، إذ لدى الأمريكيين استعداد ـ على سبيل المثال ـ للاعتقاد بأن الازدهار الوطني الدائم الذي ينعمون به يعود إلى ما يتحلون به من فضيلة. ويشكل يوم عيد الشكر الوطني بقية من هذا التقليد الميثاقي. أما النظير المقابل لذلك، وهو أيام الصيام والتوبة التي تمارس على الصعيد الوطني، فكان أقل شعبية لديهم رغم أن الرؤساء احتفوا بهذه الأيام بين الحين والآخر حتى في القرن العشرين. وعندما تبدو الأمور وكأنها تسير نحو الأسوأ درج القوم على تقليد وطني قديم يزعم أن الأمة تواجه المصائب لان الناس فقدوا الفضائل المفترضة التي تحلى بها أجدادهم. وقد أطلق على هذا النوع من التفجع الوطني اسم (الارميادة) نسبة إلى النبي أرميا، الذي ورد في العهد القديم من الكتاب المقدس، وما يحمل السفر المسمى باسمه من نذر وتشاؤم بسبب ابتعاد إسرائيل عن الله، وعن قواعد الأخلاق القويمة. وظهرت الارميادة في المواعظ البيوريتانية ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم - المؤسسة العربية للتوزيع والنشر- ط1 2003 القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م

لأول مرة قبل نهاية عقد السبعينات من القرن السابع عشر الميلادي وذلك حال ظهور الجيل الثالث من المستعمرين (¬1). ففي منتصف القرن السابع عشر الميلادي ساد اعتقاد بان الله عاتب على شعبه الجديد، وان هناك بوادر خصومه عبر عنها (ميخائيل ويغل وورث) أحد أكبر شعراء عصره في قصيدة ملحمية بعنوان (خصومة الله مع نيو انغلند) ندب فيها فشل المستعمرين في أداء واجبهم الرسالي، وتبدأ الملحمة بمقدمة طويلة تصف شيطانية الهنود وظلاميتهم ووحشيتهم، وكيف أن هؤلاء العماليق والكنعانيين الملعونين تنطحوا لمحاربة رب إسرائيل ثم انهزموا مذعورين أمام جنوده؟! وهناك عشرات المحاولات لتقليد هذه القصيدة الملحمية من قبل شعراء ثانويين، كلهم ردوا غضب الله إلى خيانة العهد معه، ودعوا إلى تجديده كما فعل العبرانيون القدامى (¬2). وهكذا منذ ظهرت أمريكا، كان التبرير الديني حاضراً، ليبرر كل ما تقوم به، من خلال الاعتقاد بأنها، في كل ما تفعل ـ حتى وان كان ما تفعله جريمة إبادة جماعية لشعب بأكلمه ـ تقف في صف الله وتنفذ رغباته. فالهنود الحمر، مثلاً، كانوا أشباه بشر، وأبالسة من أعماق الجحيم، وأعداء للمسيح، ولذا، فإن أبادتهم كانت عملاً خيراً من اجل المسيح وضد الشيطان إبليس عليه لعنة الله. ودائماً بشكل لحوح مستمر ومتواصل كان كل من استهدفته أمريكا شيطاناً (إبليس) أو من زبانية الشيطان (إبليس). وبالتالي كان قتال أمريكا له عملاً مقدساً من أعمال الله على الأرض. فالإمبراطورية الأسبانية، مثلاً، عندما اندفعت أمريكا إلى ما وراء حدودها الوطنية لتأخذ من تلك الإمبراطورية مستعمراتها في أمريكا الجنوبية، والبحر الكاريبي، والمحيط الهادي، كانت (إبليس)، وكانت أمريكا بمحاربتها أسبانيا لأخذ مستعمراتها منها قائمة بعمل الله على الأرض، وقائمة بدور الملاك جبرائيل في قتاله مع إبليس ... وعندما اعتبرت الولايات المتحدة الاتحاد السوفيتي، بعد الحرب العالمية الثانية، منافساً خطراً لها .. بات الاتحاد السوفيتي هو إبليس وقامت أمريكا بدور جبرائيل، دفاعاً عن المسيح (¬3). ¬

(¬1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ص27 (¬2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص127 (¬3) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص415

وبالضبط فانه كما سمي الأسبان حربهم لإبادة الهنود في جنوب القارة الأمريكية تبشيرية، استند المتطهرون الإنجليز على أوامر يهوا بالإبادة المقدسة للهنود، لتبرير طردهم وسرقة أرضهم أحياءً للعهد القديم، ولهذا كتب أحدهم يقول: "واضح أن الله يدفع المستوطنين للحرب، بينما يعتمد الهنود بعدتهم وعددهم على ارتكاب الخطأ مثل القبائل القديمة، يتحينون الفرصة لفعل الشر تماماً مثل قبائل (الاماليسيت) القديمة والفلسطينيين الذين كانوا يتحدون مع آخرين لقتال إسرائيل" (¬1). ولما كان تاريخ الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر هو في الأساس تاريخ القضاء على الهنود، واستغلال العبيد الزنوج، فقد ظهر خلال هذه الفترة أبشع أنواع النفاق فيما يخص الهنود، كما ظهر لأول مرة ما أصبح المبدأ المحرك لكل الاعتداءات المستقبلية التي ستقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية عبر العالم اجمع، ويتمثل هذا المبدأ في اعتبار كل عدوان أو إباده تقوم بها الولايات المتحدة نوعاً من (الدفاع الشرعي)، وحق مقدس للرجل الأبيض، لتنفيذ الرسالة الإلهية الملقاة على عاتقه. فالرسالة التي ألقيت على عاتق الأمة الأمريكية التقية، هي رسالة إلهية .... فهذه الأمة التي وصفها ايزنهاور بأنها، "تحب الله كثيراً ويبادلها الله حباً بحب"، مكلفه تبعاً لذلك بتنفيذ مخطط الله للخليقة، ذلك المخطط الوارد بحرفيته في التوراة، وسائر أسفار العهد القديم (¬2). فتعابير مثل (شعب أخص) و (شعوب مختارة)، هي تعابير مهمة وحاسمة، لا توجد فقط في الأدبيّات السياسية لليمين الأمريكي، ولكنها توجد ـ أيضاً ـ في الثقافة الأمريكية عموماً، وهو الإيمان بأمريكا مختارة بشكل خاصّ، وهو ما يصبح عند السيدة (مادلين أولبرايت)، هو الإيمان بـ (أمّة ضرورية)،سواء كانت منتخَبَة من الربّ أم من (القَدَر) أم من (التاريخ)، أو بكل بساطة أمريكا مدعوَّة إلى العظمة وإلى القوة، لأنه مفروضٌ أنها تمتلك أكبر وأقدم ديمقراطية وأكثرها تطوّراً. هكذا سيقول (ويلسون) إن أمريكا لَهَا الامتياز اللامتناهي لأداء قدَرِهَا وإنقاذ العالَم. والأمثلة كثيرة ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص50 (¬2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص409

أرض الحرية مسكونة بـ كوابيس العنصرية

على هذه المكانة التي يمنحها الأمريكيون لبلدهم، وهي مكانة تتجاوز المنطق، وتذهب بعيداً في مسار نبوئي وتبشيري. وهناك مقطعا لـ (هرمان ميلفيل): "نحن الأمريكيين شعب مختار مميز ـ إسرائيل هذا الزمان، إننا حاملون لتابوت عهد حريات العالم" (¬1). لقد صوَّرَ الربّ أشياء كثيرة لِعِرْقِنَا، والبشرية تنتظر هذه الأشياء. إننا في قلوبنا نحسّ بهذه الأشياء. أمّا باقي الأمم فسَتَسير، قريباً، خلفنا. إننا روَّاد العالَم، الطليعة التي تم إرسالهَا من خلال غابة الأشياء التي لم تتحقق، لِشّقّ طريق في هذا العالَم الجديد الذي هو عالَمنَا" (¬2). أرض الحرية مسكونة بـ كوابيس العنصرية في دراسة حديثة لإحدى ناشطات حقوق الإنسان في أمريكا هي (اليزابيت مارتنيه)، التي تعمل في نفس الوقت أستاذة الدراسات العرقية في جامعة كاليفورنيا تؤكد (مارتينية) على أن فكرة (فوقية الرجل الأبيض) و (العنصرية) هي الأساس الذي شكل الدولة الأمريكية. وتسوق أمثلة متعددة على أن مجد أمريكيا الاقتصادي الذي يتباهى به حكامها الآن لم تصنعه إلا بسرقة الموارد الاقتصادية للدول الأخرى واستعباد العمالة اللازمة ثم ـ وهذا هو الأكثر أهمية ـ تبرر جرائمها بدونية ضحاياها!! ثم ترصد الباحثة قناعة أمريكية أخرى، وهي أنها أمة قدر الله لها أخذ أراضي الغير والسيطرة على شعوبها من أجل تحقيق الحرية والحكم الفدرالي! وأخيراً تصل الباحثة إلى اخطر ما في الأمر، وهو أن الرق والعبودية لم ينتهيا في أمريكا، وإنما مازال هناك عبيد يباعون ويشترون داخل حدود الدولة الأمريكية دون أن تذكر (صحافة الحريات) شيئاً عن الموضوع. تقول (اليزابيت): أن جذور العنصرية الأمريكية أو ما يعرف بـ (الفوقية البيضاء)، تكمن في الاستغلال الاقتصادي عن طريق "سرقة الموارد الاقتصادية واستعباد العمالة"، وتبرر هذا الاستغلال فيما بعد (بدونية، ضحاياها). وكان أول تطبيق ¬

(¬1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص28 (¬2) القومية الأمريكية الجديدة ... ـ تأليف: اناتول لييفين ـ عرض: بشير البكرـ جريدة الخليج 23ـ6ـ2005م - الحلقة الرابعة.

للفوقية البيضاء أو العنصرية قد تمثل في الاحتلال الأوروبي الأمريكي للأراضي الأمريكية بإبادة سكانها الأصليين، ثم جاء عهد (العبودية السوداء)، ثم عهد (العمالة المستعبدة). وباختصار فإن الفوقية البيضاء والقوة الاقتصادية، ولدتا جنباً لجنب. فالولايات المتحدة الأمريكية هي أول أمة في العالم تولد عنصرية، وأول أمة ـ أيضاً ـ تولد رأسمالية، وهذه ليست مصادفة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، يظهر التاريخ أن الرأسمالية والعنصرية يسيران جنباً لجنب. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، عززت الحملات الاستعمارية الأوربية الشعور بـ (فوقية الرجل الأبيض) وظهر في الولايات المتحدة مبدأ (القدر الواضح)، الذي يقول إن "الولايات المتحدة قدر لها الله أن تأخذ أراضي الغير وتسيطر على شعوبهم". واستخدم هذا المصطلح للمرة الأولى عام 1845م في إحدى المجلات الأمريكية التي ذكرت "لقد منحنا الله حق التوسع وامتلاك القارة بأكملها من أجل تحقيق التجربة العظمى من أجل الحرية وتطبيق الحكم الفيدرالي". ويمثل مبدأ (القدر الواضح) سياسة عنصرية واضحة انتهجتها الولايات المتحدة منذ زمن بعيد، حيث سهلت عليها التوسع الجغرافي والتطور الاقتصادي على مبدأ أحقيتها في ذلك بسبب تفوقها العنصري الأبيض، وكانت نظرتها للشعوب الأخرى وراء نجاحها في الوصول إلى ما تريد. فقد نادى البيض منذ زمن بضرورة إخراج السود من أمريكا لتجنب التلوث، الذي تسببه تلك الشعوب السوداء. وكان قبل ذلك السكان الأصليين قد عانوا من معتقدات الفوقية البيضاء، التي لم تكتف باعتبارهم قذرين، وهمجيين، ولكنها اعتبرتهم دونيين في معتقداتهم وقيمهم. وتؤكد (اليزابيت) إن عنصرية (الفوقية البيضاء) وما تمثله من عنجهية مازالت تسيطر علي المجتمع الأمريكي، ومازالت تحتفظ بعدوانيتها العنصرية، وما يحدث للمسلمين الآن خير مثال على ذلك. ولكن هل توقف الأمر في الولايات المتحدة عند العوامل التي تحدثت عنها (اليزابيت) من عنصرية وفوقية بيضاء، ورغبة جامحة منذ البداية بإقامة مجتمع رأسمالي يمثل شركة كبيرة همها الأوحد الربح والخسارة دون اعتبار لأي قيم؟ شركة تقوم فقط على الانقضاض علي موارد الشعوب أينما وجدت علي اعتبار أن هذه

النازية في ثوب جديد

الشعوب غير قادرة علي حماية مواردها والاستفادة منها؟ (¬1). هذا ما حاول المفكر (روجيه جارودى) الإجابة عليه في كتابه (أمريكا طليعة الانحطاط) بقوله: "أصبحت الولايات المتحدة هي منظومة الإنتاج التي يقودها المنطق التكنولوجي والتجاري، والتي يشارك فيها كل فرد منتجاً أو مستهلكاً، في غاية وحيده هي تنمية مستوى المعيشة كمياً. وهكذا كانت كل هوية ثقافية أو روحيه أو دينيه تعتبر مسألة شخصيه فرديه تماماً لا تتدخل مع مسيرة النظام ... واتسع المجال بذلك أمام تفشي الخرافات وانتشار الطوائف والهروب إلى المخدرات أو الشاشة الصغيرة، بينما غطى كل ذلك صبغة تدعى الدينية، وهي (الببوريتانيه) الرسمية أو التطهيريه الرسمية، التي تتعايش مع كل أنواع انعدام المساواة وكل المذابح والجرائم، بل وتمدها بالتبرير والغطاء الديني" (¬2). النازية في ثوب جديد في كتابه (الفردوس والقوة .. أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديد)، يشير الكاتب الأمريكي (روبرت كيغان) إلى وجود ما يدعوه بـ (سيكولوجيات القوة والضعف)، دون أن يقر بأن بعض تلك السيكولوجيات يمكن أن تتعارض مع مباديء السلوك الحميد، حيث يرى أن الاحترام والتأثير الذي يجب أن تحظى به الأمم في العالم يجب أن تكون متوازية بالضبط مع قدرتها العسكرية وقوتها، من دون أن تكون تلك القوة مقادة ببوصلة أخلاقية. وهذه المعالجة التي تذكرنا بفجاجة الفكر الواقعي السياسي الذي كان الأميركيون رواداً في تعميمه على العالم، وهو الفكر الذي يحيد المعايير الأخلاقية في السياسة الدولية, ويعلي من شأن القوة وما تفرضه (¬3). وبالتالي فإن الكاتب يمجد القوة والتسلط مثلما ذهب مفكرون أمريكيون سابقون إلى القول: "أن القانون الطبيعي ليس هو المساواة! بل عدم المساواة، ¬

(¬1) أمريكا .. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية ـ إعداد وسام الأسدي جريدة الخليج 27ـ2ـ2003م عدد 8684 (¬2) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص48. (¬3) الفردوس والقوة .. أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديدـ روبرت كيغان ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوز

وحرية المشروعات الفردية، وأن البقاء للأقوى، والقوة صانعة الحق وسنده ومبرره. وان هناك من جاء إلى الحياة ليعانوا الظلم عدلاً وحقاً لان هذا قدرهم ومكانهم، وأن ثورتهم أو تمردهم ثورة وتمرد على الطبيعة ونكران للحق وتحد له". وهنا يرى (بويل) إن (الهوبزيه) نسبة إلى (توماس هوبز) كان لها أثر كبير في الفكر القانوني الدولي الغربي عموماً، والأمريكي على وجه الخصوص، و (هوبز) هو مؤلف كتاب (لويا تان) والعنوان مأخوذ من الكتاب المقدس ويعني وحشا بحريا يرمز إلى الشر، ثم استعير إلى اللغة السياسية ليعني الدولة ذات القبضة الرهيبة القاهرة والقادرة على تأكيد سلطتها في كل الأوقات والظروف. ويعد (هوبز) مؤسس الواقعية القانونية الحديثة، وملهم النظريات السائدة في الغرب، وتتلخص نظريته في إن "الطبيعة البشرية في أساسها نزاعه إلى الغلبة والتسلط والجشع، ولذا فانه لا معنى لوجود قوانين لا تقف وراءها لفرضها قوة غالبه قاهره لان طاعة القانون لا يمكن إن تتحقق إلا قسراً" (¬1). ويزيد الأمر إيضاحاً "فريدريك سكينر" (¬2) رائد الفكر الفلسفي التربوي في أمريكا بقوله: "إن الأقوى هو الغالب، وصاحب الحق والحرية .. ؟؟ ويؤكد أن الحرية قرين السلطة أو القوة، فإن من يملك القوة أو السلطة لابد له، وحقه ـ أيضاً ـ في مجال الممارسة الاجتماعية أن يمارس هذه السلطة، وطبيعي أن يمارسها. ومعنى هذا أن الأقوى له البقاء، وهو الأحق بالسلطة، وقوته تصنع حقه وتبرره .. إذن لتكن شريعة الغاب هي دائماً وأبداً الحكم بعد سقوط كل المعايير الأخلاقية وغلبة اللاعقلانية، وتمجيد القوة. وهنا لابد لنا أن نتساءل، هل نجد بعد ذلك أي فارق بين فكر نيتشه، الذي كان ركيزة وتبريراً للعنصرية النازية، ونزعة التفوق العرقي وبين (سكينر) الذي يبرر هيمنة ثقافة الأقوى سلاحاً أو ظلفاً وناباً؟ (¬3). ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص61 (¬2) بورهوس فريدريك سكينر (1904م) الأستاذ بجامعة هارفارد، ومؤلف العديد من الكتب في علم النفس والتربية والفكر الفلسفي، ويقال عنه انه أول عالم بز نجوم السينما شهرة. واقترن اسمه بمنهج تربية وتعليم الأطفال، وهو مؤلف رواية اجتماعية فلسفية حازت شهره عالمية تحمل اسم "فالدن 2"، ومن أكثر كتبه رواجاً في مجال الفكر الفلسفي كتابه "ما وراء الحرية والكرامة"، وهو كتاب شبيه بكتاب فريدريك نيتشه فيلسوف النازية (1844ـ1940م) "ما وراء الخير والشر"، حيث يتفق سكينر مع نيتشه في نقده للحرية من منطلق عدمي (¬3) العقل الأمريكي يفكر ـ من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص160

بالطبع لا، ولهذا كان (سكينر) لا يطيق الحرية، ويراها من الموروثات الثقافية البالية، والتشبت بوهم الحرية ركض بالإنسانية إلى هاوية الجحيم. كذلك كان رأى نيتشه فيلسوف النازية قبله، حين قرر أن إرادة القوة لها الأولوية الأخلاقية. وأعرب عن حبه للقسوة والحرب والكبرياء الأرستقراطي. وأكد نيتشه، مثلما أكد من بعده فلاسفة أمريكا ولسان حال رسالتها إلى العالم، أن الأخلاق في خدمة الأقلية الأرستقراطية وهي أداة لتمييز الأقلية، ولها حق الادعاء المستقل في الاستمتاع بالسعادة والرفاهية .. أما العامة فإنهم سقط متاع، عليهم أن يعانوا من أجل إنتاج إنسان عظيم (¬1). وقد وصف (جوزيا سترونج) في كتابه الأكثر مبيعاً (بلدنا) في عام 1885م أن الأمريكيين باعتبارهم: "عنصر ذو طاقة ليس لها مثيل، بكل ضخامة الأعداد وعظمة الثروة ورائهاـ الممثلين ـ للحرية الأوسع، والمسيحية الأنقى، والحضارة الأعلى ـ ينمون بتميز شمائل فذة، تجذب أعرافها كل البشر، لتنشر في كل أرجاء الأرض. وهل يستطيع احد أن يشك في أن هذا العنصرـ إذا لم يضعف حيويته بالكحول والتبغ ـ فإنه مقدر له أن يتملك عدة أعراق اضعف، ويذيب آخرين، ويعيد تشكيل الباقين، حتى ـ في معنى حقيقي ومهم جداً ـ يجعل البشرية انجلوساكسونية؟ ". وفيما بعد هز (سترونج) فرضية (تيرنر) مصراً على أن قساوات الحدود كانت طريق الرب، لتدريب العرق على قيادة العالم، وبعد إغلاق الحدود جاء الدور على (المنافسة النهائية بين الأعراق). ولم يأتِ مثل هذا الخطاب، فقط من القوميين المخادعين، مثل (روزفلت) الذي قال: "إذا لم نحتفظ بفضائل البربرية، فإن اكتساب الفضائل الحضارية سيكون قليل الجدوى"، ولكن أيضاً من المتحدثين الدينيين، الذين اقترحوا على المؤرخين مقولة أن اندفاع أمريكا وراء الإمبريالية، كان نتيجة لفكر الدارونية الاجتماعية. وآخرون فتشوا في أحداث 1889م لاسترداد تفكير "المصير المبين" مترجماً على المسرح العالمي (¬2). ¬

(¬1) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص157ـ158 (¬2) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال - ص 156

الفصل الثاني الإرهاب الأمريكي في ظل العهد الجديد

الفصل الثاني الإرهاب الأمريكي في ظل العهد الجديد منذ البداية، كان الأمريكيون يرون أنفسهم استثناء من المسار الطبيعي للأمم، لنجاحهم في إقامة الجمهورية الأولى منذ العصور الكلاسيكية، حيث اعتبروا أنفسهم واضعي اللبنات الأولى لتاريخ إنساني جديد كلياً. وبوصفة كذلك كان لا بد من حمايته من التلوث بالتعويل على ـ أساليب شعوب التاريخ القديم أو تبنيها. وفي الوقت ذاته كان الأمريكيون مقتنعين أنهم طليعة البشرية، وما لبثوا أن أصبحوا يرون أنفسهم، حسب كلام (ملفيل)، "الشعب المختار المميزـ إسرائيل هذا الزمان". وإذا كان الأمريكيون هم الشعب المختار، فإن أمريكا هي الأرض الموعودة. وكانت عبارة (القدر المكتوب)، هي عنوان العقيدة القائلة بوجوب قيام الأمريكيين بإيجاد دولة ممتدة من البحر إلى البحر. ومع حلول سنة 1885م أصبح ذلك واقعاً. كان بالطبع واقعاً تحقق على حساب المكسيك، التي خسرت نصف أراضيها في حرب أشعلتها أمريكا، وعلى حساب الهنود الحمر من السكان الأصليين الذين تمت إبادتهم إبادة شبه كاملة. غير أن ذلك الواقع مر دون إثارة اهتمام ذي شأن في ذلك الوقت، مغلفاً بالخطاب الذي أطلق عليه الرئيس (اندرو جاكسون) اسم (توسيع مساحة الحرية) (¬1). فقد ضمنت الولايات المتحدة بواسطة الإبادة الخالصة للهنود الحمر، وبالاستعباد الاجتماعي والسياسي للسود، دائرة أولى تمكنها من الانطلاق نحو غزو أوسع، حيث كانت أهم تواريخ التوسع في هذه الدائرة، تعاظم "الأمة حين ابتيعت لويزيانا من نابليون، عام 1808م". وفي العام 1823م حدد الرئيس (مونرو) المبدأ الذي يحمل اسمه، مبدأ الحياد ذو الطابع الدفاعي الموجه ضد أي تدخل أجنبي في شؤون القارة الأميركية، واستعملت هذه العقيدة لاحقاً لتعميم التوسع الإقليمي، وأن للولايات المتحدة وحدها حق حراسة الأمريكيين، والتي كانت تعني بكلمات واضحة ¬

(¬1) لدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص44

"خضوع أميركا اللاتينية لمصالح الولايات المتحدة ثم لقراراتها" (¬1). فالمبدأ الأساسي لهذه السياسة التي تبيد الهنود، وتستعبد السود، وتطرد الدول الأوروبية، حدده الرئيس (مونرو) في رسالة إلى الكونجرس جاء فيها: "فللأوروبيين القارة القديمة وللأمريكيين القارة الجديدة". وهذا يوضح أن فكرة الأرض الموعودة ليست سوى ارض محتله بالقوة، من قبل شعب مسكون بحقيقة مفادها أنه يجسد أمراً إلهياً قاده إلى الاستيطان، وإبادة الشعب الأمريكي الأصلي، واستعباد الشعب الأسود، ثم دفعه لبدء السيطرة والهيمنة على العالم (¬2). وهكذا وخلال العهد الجديد لأمريكا، الذي بدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، أي بعد الانتهاء من فرض السيطرة على أرض الميعاد كما أسلفنا، "وجد الأمريكيون أنفسهم أمام سؤال مهم كما يقول (والتر مكدوجال) وهو كيفية التصرف خارج حدودنا .. هل يتطلب منا تراثنا المبارك كأرض للحرية أن نشن حملة صليبيه في الخارج من اجل الآخرين وفقا لما يطلبه عهدنا الجديد للسياسة الخارجية؟ أم أن الخضوع لإغراء أن نفرض إرادتنا في الخارج ينتهك مبادئ العهد القديم، التي جعلت من أمريكا أمة عظيمة؟ باختصار، هل بإمكان الولايات المتحدة أن تكون دولة صليبية وتظل ارض الميعاد؟ " (¬3). ويبدو أن إجابة الأمريكيين على ذلك كانت، لخيار شن حمله صليبية في الخارج، من اجل السيطرة على ثروات ومقدرات الشعوب الأخرى، وفرض نمط التفكير الأمريكي عليها. ففي 10 مايو 1867م، تحركت عاطفة وزير خارجية الولايات المتحدة (وليام سيوارد) ليكتب قصيدة شعرية، تنبأ فيها بمستقل آمته، قائلاً: "امتنا ذات المصالح المتحدة المباركة، غير راضية الآن عن السكون، سوف تحكم الباقين، وإمبراطوريتنا في الخارج لن تعرف حدوداً، وإنما هي مثل البحر سوف تتدفق في ¬

(¬1) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل (¬2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل ـ الجزيرة نت. (¬3) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776م ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص24

دوائر لا نهائية" (¬1). والقصيدة لم تكن تبالغ في عرض آمال سيوارد في التوسع اللامحدود للنفوذ الأمريكي، بل إنها كانت تعبر عما كان يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية الأمريكية والتي حكمتها أربعة تقاليد كما يقول (مكدوجال) وهي: - الامبريالية التقدمية، بمعنى أن الأمريكيين مختارون لتحضير البشرية ونقل التقدم إلى الشعوب الأخرى. - مبدأ ويلسون أو الليبرالية العالمية، وهو التقليد الذي اتبعه الرئيس (ودرو ويلسون) من اجل أن يكون العالم أكثر سلماً وديمقراطية بعد الحرب الأولى، وتمثل في النقاط الأربع عشرة الشهيرة لويلسون. - الاحتواء، وهو التقليد الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية لمواجهة التهديد الشيوعي دون قيام حرب عالميه. - تحسين العالم، أي التعبير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في رسالة أمريكا لجعل العالم أحسن، وقد تجسد في مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا، ثم التدخل الأمريكي في فيتنام الذي كان مثالاً لمحاولة أمريكا وإخفاقها في أن تكون لها رسالة عالميه، وان تكون شرطي العالم (¬2). وبالرغم من الصياغة الجميلة لبعض هذه التقاليد كما عبر عنها مكدوجال، إلا أننا يجب لن ننخدع بكلامه حول الرسالة العالمية للشعب الأمريكي لتحضير العالم، ونشر الحرية والديمقراطية والتقدم وغيرها من المصطلحات البراقة، التي تمكنت أمريكا من خلالها ممارسة إرهابها المنظم على العالم، حيث تقول الحقائق المتوفرة عن تاريخ (الإرهاب الأمريكي) تجاه العالم، انه بزغ مع بدايات القرن التاسع عشر، وتحديداً منذ العام 1833م، حيث كانت ملامحه الأساسية هي التحايل بإبعاد القارة الأمريكية عن أسبانيا والبرتغال لفرض سيطرة الولايات المتحدة وتغلغلها الاقتصادي والسياسي على القارة، وكذلك إقصاء إنجلترا وفرنسا لاستغلال البترول بدلاً منهما (¬3)، ¬

(¬1) من الثروة إلى القوة - الجذور الفريدة لدور أمريكا العالمي - فريد زكريا - ترجمة رضا خليفة ص 57 - مركز الاهرام للترجمة والنشر ط1 1999 (¬2) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776م ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص8ـ9 (¬3) أمريكا طليعة الانحطاط - جارودى ص52

وذلك تطبيقاً لرأى بعض الساسة الأمريكيون خلال عهدهم القديم الذين كانوا يرون أنه، من الخير أن تبقى القارة في قبضة العرش الإسباني حتى تكتمل لشعبنا القوة ليأخذها منه قطعة بعد قطعه، حيث إن الإمبراطورية الاسبانية كانت غنية بكثير من الثروات وذات موانئ ممتازة، مما فتح شهية الأمريكان لشن حملة صليبية في الخارج. فقد برزت عدة اتجاهات على الساحة الأمريكية في تلك الفترة حول ماهية السياسة الخارجية الأمريكية التي يجب أن تتبعها أمريكا تجاه العالم الخارجي، حيث رأى البعض انه آن أوان خروج أمريكا من إطارها القاري المعزولة فيه كعزلة الناسك والوصول إلى القواعد البحرية البعيدة والاستيلاء على المستعمرات، مبارية في ذلك الدول العظمى الأخرى. وقد عزز هذه الرؤية أنصار مذهب داروين، الذين يرون أن التقدم لا يتم إلا بالكفاح في سبيل الوجود، وبقاء الأصلح، فانتقال المزايا التي تمكن الإنسان من النصر تنحدر إلى أخلاقه. فعلى الولايات المتحدة أن تنغمر في الصراع العالمي، فلشعبها من المزايا ما يضمن له النصر والبقاء ... وهذا هو التقدم بعينه. وهناك الاتجاه الرسمي الذي كان يدعى أن التفوق مقصور على الشعب النورديكى، ولاسيما الألمان والانجلوسكسون منه. فلقد كان هؤلاء اقدر الناس على الحكم، فدعهم إذن يأتون بأفضل أنواعه إلى أكثر الأصقاع العالمية المتأخرة في هذا المضمار. وهناك اتجاه آخر أكد على أهمية القوة البحرية في جعل الأمة عظيمة قوية. ولم يكن يقصد بذلك الأسطول والسفن التجارية فحسب، ولكنه كان يدخل فيها المستعمرات والقواعد البحرية في الأقسام النائية من العالم. وقد تبلورت كل هذه الآراء السابقة عند اندلاع الحرب ضد اسبانيا، حيث اعتبرها البعض، إنها الفرصة الذهبية للانغماس في الصراع العالمي للحصول على السطوة ثم نشر الحكم الأمريكي المبارك في المستعمرات التي أساءت اسبانيا حكمها لمدة طويلة. بالإضافة إلى الحصول على مستعمرة غنية في الفلبين وقواعد بحرية أخرى في جزائر الكريبيان والأطلسي من اسبانيا. وشاع بين الناس استعمال مصطلح قديم انحدر من الحرب المكسيكية (المصير المحتوم) ويراد به التوسع في الجهتين المذكورتين (¬1). ¬

(¬1) حضارة العالم الجديد - ارل شينك ميرزـ ترجمة فؤاد جميل ص298ـ299

ففي الخمسينات من القرن التاسع عشر، في أعقاب الحرب المكسيكية، تعلق قادة أمريكا في حماس شديد بفضائل التوسع وضرورته، وأعلن الرئيس (فرانكلين بيرس) في خطاب بدء ولايته عام 1853م إن إدارته، لن تتحكم فيها أية هواجس شريرة رعديدة تحول دون التوسع. وأعلن جيمس بوكانان، الذي خلفه، إن التوسع هو سياسة المستقبل لبلادنا (¬1). ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر حيث كان الخطاب الرسالي التبشيري لا يزال قوياً ومسلحاً بحجة حماية القارة الأميركية ومساعدتها على إنهاء الاستعمار الأوروبي، خاضت أميركا حوالي 14 حرباً باسم الدور الرسالي والأخلاقي، لعبت دوراً رئيسياً في انحسار الدور الأوروبي في تسيير شؤون العالم واستبداله بدور أميركي صاعد (¬2). وهكذا بدأت أمريكا بالتخلى عن سياسة العزله، وبدأت التدخل في شؤون القارة والعالم، وبدأ غزو الولايات المتحدة لأميركا اللاتينية في منتصف القرن الثامن عشر، ضمن مشروع تحرير أميركا اللاتينية، وهو المشروع الذي لقي تجاوباً من بعض دول أميركا اللاتينية نفسها، وهو من أفدح أخطاء تلك الدول كما يقول (سالينغر)، لأنه أعطى الأميركيين الفرصة للتدخل في شؤونهم. بدءاً من احتلال هاواي وضمها للولايات المتحدة، ومروراً بكوبا والهيمنة على بورتوريكو وهندوراس وغواتيمالا، ثم الأنموذج الأنصع للإمبريالية الأميركية في بنما (¬3). ففي عام1833م قامت القوات الأمريكية بغزو نيكاراجوا، وفي عام 1835م دخلت هذه القوات إلى بيرو، وفي عام 1846م احتلت القوات الأمريكية أرضاً طالبت بها المكسيك ـ وهي ما تعرف الآن بولاية تكساس ـ وبهذا أثيرت الحرب المكسيكية، وفي أعقاب انتصار سنة 1848م ضمت الولايات المتحدة تلك الأرض بالإضافة إلى كاليفورنيا ونيومكسيكو. وفي سنة 1854م دمر المارينز الأمريكي ميناء جراى تاون في نيكارجوا انتقاماً من أبعاد الوزير الأمريكي الذي كان في زيارة لتلك البلاد، وبعد ذلك بعام غزت القوات الأمريكية اورغواى، ثم قامت بغزو قناة بنما، وفي عام ¬

(¬1) من الثروة إلى القوة - الجذور الفريدة لدور أمريكا العالمي - فريد زكريا - ترجمة رضا خليفة ص 70 (¬2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص77 (¬3) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل

1857م تدخلت القوات الأمريكية في نيكاراجوا لإفشال محاولات (وليم روكز) وهو مغامر من تنيسي، حاول تولي السلطة في نيكاراجوا. ثم قامت القوات الأمريكية بغزو كولومبيا عام 1873م بعدة انزالات عسكريه تتابعت في الأعوام 1885م و 1893م و 1899م. وفي عام 1888م تدخلت القوات الأمريكية في هايتي، وفي عام 1891م في تشيلي وفي عام 1894م تدخلت القوات الأمريكية مرة أخرى في نيكاراجوا (¬1). وهكذا فإنه في حين أن أمريكا ارض الميعاد تمسكت بان محاولة تغيير العالم كانت غبية (وغير أخلاقية)، فإن أمريكا الدولة الصليبية تمسكت بأن الأحجام عن محاولة تغيير العالم كان غير أخلاقي وغبيا" (¬2). ولهذا ازدادت حدة التدخلات الأمريكية في شؤون القارة الأمريكية، وانطلق الإرهاب الأمريكي تجاه العالم الخارجي انطلاقاً سريعاً، وكان استخدام القوة العسكرية استخداماً عدوانياً ولا يزال هو الوسيلة الرئيسية التي تعتمدها الولايات المتحدة في توسعها الاستعماري، أو ما سمته زيادة مساحة الحرية، حيث كانت هذه المساحة موشكة على تحقيق قفزة ملموسة مع حلول نهاية القرن التاسع عشر. ومع تحقيق قدرها المكتوب تحولت روح أمريكا التوسعية نحو الشواطئ الأجنبية، حيث لم تكن الولايات المتحدة في حقيقة الأمر، غريبة في الخارج، إذ كانت قد خاضت حروباً فيما وراء البحار في أكثر من مئة مناسبة (¬3). واعتباراً من 1898م شنت الولايات المتحدة حرباً استعمارية لإعادة تقسيم العالم (¬4) وبدأ منذ ذلك الحين النوع الأول من الأخلاق في إفساح الطريق للنوع الثاني، فعندئذ قدس أنبياء الدولة الصليبية عهداً جديداً للسياسة الخارجية، وقام الامبرياليون التقدميون بدور يوحنا المعمدان الذي بشر بالمسيح ومملكة الرب، ولعب ¬

(¬1) قرآن وسيف (من الأفغان .. إلى بن لادن) (من ملفات الإسلام السياسي) - رفعت سيد أحمد ـ ص184 - مكتبة مدبولي. (¬2) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ـ ص288 (¬3) لدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص45 (¬4) أعمدة الاستعمار الأمريكي / مصرع الديمقراطية في العالم الجديد - فيكتور بيرلو و البرت ا. كان - تعريب منير البعلبكى ص14 - الطبعة رقم: 1، الناشر: دار العلم للملايين.

(ويليام ماكنلى) أول رئيس امبريالي

ويلسون دور المخلص، الذي صلب في التو، كما كتب مهندسو الاحتواء وتحسين العالم، الرسائل المقدسة التي علمت الأمريكيين كيف يعيشون إيمانهم الجديد. واعتقدوا كذلك إن سياستهم كانت استجابات أخلاقية وبرجماتية للعالم الذي خبروه في زمنهم (¬1). (ويليام ماكنلى) أول رئيس امبريالي في عام 1896م نجح (وليام ماكنلي 1896ـ 1901م) المنتمي للحزب الجمهوري، في أن يصبح الرئيس الخامس والعشرين للولايات المتحدة الأمريكية، حيث سيطر الجمهوريون على الكونجرس بأغلبية 197 مقعداً مقابل 151 للديمقراطيين، مما أعطى الرئيس حرية واسعة نحو اتخاذ القرارات. وماكنلي هو المؤسس الحقيقي للإمبراطورية (الإمبريالية) الأمريكية، ففي عهده احتلت الولايات المتحدة الأمريكية أول مستعمرات لها خارج حدودها، وذلك تأثراً بالدعوة التي أطلقها المؤرخ (فريدريك تيرنر) في معرض شيكاغو 1893م حيث قال: "سيكون القرن القادم هو أول قرن تشهده أمريكا بلا حدود للفتوحات الأمريكية"، كما أرسى العميد بحري (ألفريد ثايرماهان) مذهب التوسعية الأمريكية في 20 كتاباً وعدة مقالات، حفلت باقتباسات توراتية طويلة، وأكد فيها أنه لا توجد أمة عظيمة دون مياه (تحميها كحاجز طبيعي)، وأسطول تجاري متفوق، ومستعمرات فيما وراء البحار. ولهذا فقد جاءت سياسة ماكنلي تطبيقاً أميناً لهذه النصائح والوصايا الإمبريالية، وخاض حروباً في كوبا، الفلبين، والصين، حروباً احتاجت إلى نفقات مولها من الجمارك والضرائب التي تميز عهده بفرض الكثير منها (¬2). أمريكا ترمي إسبانيا في البحر لنخرج بتصور واضح عما فعله (وليام ماكنلي) علينا أن نعود إلى خريطة العالم عام 1898م، وسنرى بريطانيا العظمى (المحكومة بروتستانتياً) تسيطر على العالم ¬

(¬1) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ـ ص 289 (¬2) إمبراطورية الحرية - انطونيو بلتران هرنانديزـ ترجمة احمد توفيق حيدرـ ص120

القديم فيما قنعت فرنسا بالنصيب الأقل من الكعكة، وهناك: إيطاليا والبرتغال وهولندا المشاركة من بعيد، أما ألمانيا فكانت تلعب دور: القوة الاقتصادية والعسكرية الآخذة في الصعود. أما في العالم الجديد (الأمريكتين) فكانت الولايات المتحدة الأمريكية (المحكومة بروتستانتياً .. كذلك) هي الدولة الأكثر قوة، مع مناوشة ـ لا منافسة ـ من جانب (إسبانيا)، القوة الاستعمارية الكاثوليكية العجوز، التى سبق لبريطنيا ان دمرت اسطولها (الارمادا) كخطوه مهمه لافساح المجال اما التوسع الانجلوسكسوني الاستعماري في العالم، حيث يمكن القول ان التنافس البحري بين الاسبان والانجليز، كان تناقساً كاثوليكياً بروتستانتياً، وكان انتصار انجلترا وتدميرها للاسطول الاسباني البحري ارمادا عام 1855، تعبيراً عن ذلك. اذ كان الامر بالنسبة للانجليز حملة صليبية بروتستانتية. ... وحتى قبل تدمير اسطول الارمادا الاسباني بعقد، فإن السير (همفوت جلبرت)، كان قد اقترح على الملكة البروتستانتية اليزابت الأولى، ان على الانجليز البروتستنانت، استغلال كل فرصة تجعل من اعدائهم الاسبان الكاثوليك فقراء وضعفاء، ومن انفسهم اغنياء واقوياء، في اشارة إلى استعمار أمريكا (¬1). فقد كان الأسبان مازالوا يحتفظون بمستعمراتهم في أمريكا الوسطى والجنوبية، وفي الفلبين، وكان الأمريكيون (الولايات المتحدة) لم ينسوا ثأرهم مع إسبانيا التي طاردت البروتستانت واليهود، منذ أربعة قرون تقريباً، والتي رأوا أن وقت الثأر منها قد حان، هكذا .. وبدعم يهودي سياسي ومالي قوي .. تعمد الرئيس الأمريكي أن يتحرش بإسبانيا ويجرها إلى حرب قضت على قوتها وأخرجتها من معادلة (العالم الجديد) .. حتى اليوم، حرب نجحت فيها الولايات المتحدة الأمريكية في أن ترمي إسبانيا في البحر (¬2). وفي 1895م، دعمت أمريكا الثوار الكوبيين الذين قادوا تمرداً دامياً ضد إسبانيا، ومارست ضغوطاً سياسية واسعة لإجبار إسبانيا على التخلي عن كوبا. وإذ بدا واضحاً أن هذا التخلي لن يتم دون حرب، أعلن الرئيس الأمريكي حالة الحرب متذرعاً ¬

(¬1) المسيح اليهودي - رضا هلال - مكتبة الشروق الدولية- ص171 (¬2) رؤساء أمريكا .. قادة صهاينة في البيت الأبيض - محمد القدوسي ـ دراسة منشوره على الانترنت

بالمساندة الإنسانية و"المسؤولية التي وضعها الرب على عاتق أمريكا"، وهو ما علق عليه (دي لومي) السفير الإسباني لدى أمريكا في رسالة قال فيها: "إن ماكنلي "ضعيف ومزايد لاستقطاب الإعجاب الجماهيري"، وقد وقعت الرسالة في يد (راندولف هيرست) محرر وناشر مجلة شعب نيويورك، فنشرها في مجلته مما أغضب القراء. وبعدها بأسبوع واحد، وفي 15 من فبراير (شباط) 1898م نجح الأسبان في تفجير السفينة الأمريكية (مين) التي كانت تقف في ميناء هافانا ـ العاصمة الكوبية حالياً ـ وقتلوا 266 من طاقمها، فطلب ماكنلى تفويضاً لاستخدام القوة لحماية مصالح أمريكا ضد اسبانيا، فوافق الكونغرس على إعلان الحرب بأغلبية ساحقة في 11 من ابريل نيسان، بشرط أن تكون الحرب من اجل الإنسانية، وتبرأ من أية نية لضم الجزيرة: "نحن نتدخل ليس من اجل الغزو". وقال السناتور (شلبي كولوم): "انه سيساند الحرب فقط إذا كانت تخاض باسم الحرية، التي ـ في هذه الحالة ـ سوف تكسب الولايات المتحدة ثناء كل محب للحرية والإنسانية عبر العالم" (¬1). وفي كتابه (إمبراطورية الحرية) يعلق انطونيو (بلتران هرنانديز)، على هذه الحرب تحت عنوان الحملة الصليبية الجديدة الأولى باناما (1989م) بقوله: "قبل ست ساعات من تلقى الأمر بمهاجمة مدينة باناما، مساء الاثنين من 16 ديسمبر عام 1989، كان الملازم أول (دوغ روبن) يصلى مع رجاله: كانت هذه الحرب في نظره، الصراع التقليدي بين الخير والشر، في الطريق القويم، مما كان قد قرأه في العهد القديم. كان يعتبر مركبته المصفحة كجزء من خزانة الأسلحة الإلهية ممتدة ضد مبعوث الشيطان الجديد. ما زال رجاله لا يعرفون النار أبداً، ويريد أن يقنعهم بأن الله معهم. إنني أجهل ماذا تفكرون بالفكرة التي بموجبها يختار الله معسكره، قال لهم، ولكن ما هو مؤكد، انه يرغب في اقتلاع الشر من على سطح الأرض" (¬2). وفي أول مايو نجح العميد بحري (جورج ديوي) في تحطيم الأسطول الاسباني في المحيط الهادي بخليج مانيلا. قضى على الأسطول كاملاً دون أن يخسر واحداً من رجاله، وهكذا سقطت كوبا في يد الأمريكيين، الذين نجحوا ـ بسرعة ـ في اجتياح ¬

(¬1) أرض الميعاد والدولة الصليبية ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال - ص163 (¬2) إمبراطورية الحرية - انطونيو بلتران هرنانديزـ ترجمة احمد توفيق حيدرـ ص270

(مانيلا) واحتلال الفلبين، ـ وضم جزر هاواي. وبقيادة العقيد (تيودور روزفلت) ـ الذي سنراه فيما بعد نائباً للرئيس ثم رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية ـ ثم احتلال سانتياغو، وقام عميد الأسطول الأمريكي في المحيط الهادي (وليام سايمسن) بتحطيم أسطول إسبانيا الأطلسي في المياه بين كوبا وجامايكا واحتلال بورتريكو. ولم يعد أمام إسبانيا بعد تحطم كامل قواتها وانتزاع أهم مستعمراتها إلا طلب الهدنة بعد ثلاثة أشهر دامية، وفي 12 من أغسطس تم إعلان وقف إطلاق النار بعد حرب خسرت فيها إسبانيا أسطولها الحربي كاملاً، ومئات الآلاف من رجالها، ولم يخسر الأمريكيون أكثر من 400 رجلاً مات كثير منهم بسبب الملاريا أو الغذاء المسمم، حسب المزاعم الأمريكية! (¬1). وفي 10 من ديسمبر 1898م تم توقيع معاهدة باريس التي سلمت فيها إسبانيا دون قيد ولا شرط، وأكدت الولايات المتحدة وجودها بين القوى الاستعمارية حيث حصلت على بورتريكو، وكوبا (التي ظلت محمية أمريكية حتى 1934) والفلبين ـ التي تمردت في 1902م، لكن الأمريكيين قمعوا التمرد وقتلوا 200 ألف فلبيني ـ وهذا ينسف ما قاله (ماكنل) بعد ليلة صلاة: "لم يبق لنا شيء لعمله إلا أن نأخذهم جميعاً، ونعلم الفلبينيين، نرقيهم ونحولهم إلى المسيحية. وبعون الرب نفعل أفضل شيء نستطيعه لهم كرجال أصحاب لنا، فمن اجلهم أيضاً مات المسيح" (¬2). وبعد (تحريم) ـ أي (إبادة) بالمصطلح التوراتي ـ الوجود الاسباني في القارة الأمريكية، أصبح الطريق مفتوحاً إلى الصين، وهو الطريق الذي حرص ماكنلي على ريادته سعياً وراء فتح الطريق التجاري، وخوفاً من الحلف (الياباني الألماني) الذي كان يهدد الطموحات الأمريكية، وبحثاً عن (موطئ قدم) مع بريطانيا العظمى في جنوب شرق آسيا. وفي هذا الخصوص، فإن سياسة (الباب المفتوح) التي أوعز وليام ماكنلي إلى وزير خارجيته بإعلانها، تشكل الأساس النظري لتعامل الولايات المتحدة مع هذه ¬

(¬1) في إطار النظرة الدونية للآخر، فإن الأمريكان يحاولون قدر استطاعتهم التقليل من شأن أعدائهم وتحقيرهم، حيث لا يعترفون لهم بأية قدرة على إلحاق الأذى بالجيش الأمريكي، وهذا ما حدث قديماً وحديثاً، حيث لاحظنا في حرب الخليج الثالثة كيف كانت أمريكا تنسب كافة الإصابات والقتلى في صفوفها إلى أخطاء داخلية ونيران صديقة، وليس إلى الطرف الآخر. (¬2) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال - ص 165

روزفلت وسياسة العصا الغليظة

المنطقة من العالم حتى اليوم، ولا يمكن فهم تحركات ومناورات كلينتون وجورج بوش شداً وجذباً مع الصين إلا بمراجعة سياسة الباب المفتوح" (¬1). روزفلت وسياسة العصا الغليظة "لا أعرف ما الذي يؤمن به الناس، أعرف ما يجب أن يؤمنوا به". بهذه الصرامة كان تيودور روزفلت (1901 ـ1909م) يفكر ويتحدث ويتصرف". وبهذه الصرامة دخل (روزفلت) ـ المصنف بين أقوى 6 رؤساء في تاريخ أمريكا، والملقب بالرئيس الذي لا يقهرـ البيت الأبيض- بوصفه حاكم نيويورك القوي، تسانده سمعته كقائد حربي فذ ومنتصر في الحرب ضد الأسبان. كان روزفلت أول من أطلق تعبير (النظام العالمي الجديد)، وأول من رسم صورة أمريكا باعتبارها (شرطي العالم) في نصف الكرة الغربي مطبقاً مبدأ (مونرو)، الذي أعطت به أمريكا نفسها حق التدخل في شؤون الآخرين بمنتهى الفجاجة. وفي عهده تمددت الإمبراطورية الأمريكية لتشمل كوبا وهايتي والدومينيكان وبورتريكو، وسيطرت على قناة بنما، مما جعل التجارة الأمريكية تتقدم على نحو واضح. وجاء في تفسيره للسياسة الخارجية الأمريكية قوله: "إن تاريخنا هو تاريخ التوسع .. وهذا التوسع ليس أمراً يستدعي الاعتذار عنه، ولكنه يدعو للفخار" (¬2). وقد امتاز أداء روزفلت بحزم واضح، عبرت عنه كلماته التي ما فتئ يرددها مثل: "لا أحد فوق القانون ولا أحد تحته، ولا نطلب تصريحا من أحد عندما نطلب منه الطاعة". وقوله: "تكلم بهدوء وأحمل عصا غليظة .. وستنجح إلى أبعد مدى". وانطلاقاً من هذه المقولة حرص روزفلت على دعم أسطوله، وتبنى ـ في نفس الوقت ـ سياسة (التحكيم الدولي في النزاعات)، وهي نفس السياسة التي تتبعها أمريكا حتى اليوم وتكسب بها كل معاركها دون أن تطلق رصاصة واحدة، حيث تعتمد على (الرهبة) من قوتها الكبيرة في فرض رأيها. وقد حصل روزفلت على جائزة نوبل بعد مساعيه لفرض مفاوضات مباشرة بين روسيا واليابان لإنهاء الحرب بينهما. تلك ¬

(¬1) رؤساء أمريكا .. قادة صهاينة في البيت الأبيض - محمد القدوسى - دراسة منشوره على الانترنت (¬2) من الثروة إلى القوة - الجذور الفريدة لدور أمريكا العالمي - فريد زكريا - ترجمة رضا خليفة ص 216

حرب كل عام

الحرب التي قضت على الأسطول الروسي، ووضعت حكم القيصر على طريق النهاية، والتي كان إيقافها عند هذه النقطة مطلباً صهيونياً، درءاً لاحتمال أن تنهض روسيا القيصرية مرة أخرى أو تستعيد توازنها. ويجمع المؤرخون على أن هزيمة قيصر روسيا (الذي أذل اليهود ولم يرضخ للتهديدات الأمريكية) أمام الأسطول الياباني كانت أهم عوامل ضعف دولته، وسقوطها بعد ذلك لقمة سائغة في يد الثورة البلشفية، وهي الهزيمة التي عمد روزفلت إلى تكريسها، مستعينا بتعبيرات توراتية وهو يتحدث عن (مسؤولية الرجل الأبيض) و (دوره كمسيحي). حرب كل عام كما أسلفنا كانت في عام 1898م الحرب الأمريكية الأسبانية، حيث افتعلت الولايات الأمريكية حادثة كوبا، وقد حاصر على أثرها الأسطول الأمريكي الموانئ الكوبية بينما قام الجيش والمتطوعون بما فيهم رجال تيودور روزفلت بسحق القوات الأسبانية على الشواطئ، وبعد ثلاثة أعوام جعلت الولايات المتحدة من كوبا وكراً أمريكياً للقمار، كما ضمنت الحق في قاعدة بحريه في خليج (جوانتا نامو) (¬1)، ومازالت تحتفظ بها حتى الوقت الحاضر. وفي عام 1901م و 1902م تدخلت القوات الأمريكية في كولومبيا، وفي عام 1902م تدخلت في هندوراس، وفي عام 1906م خلال الحرب الأهلية في كوبا انتظمت القوات الأمريكية في جيش التهدئة الكوبية لاستعادة النظام وإقامة حكومة مستقلة خلال ثلاث سنوات. وفي عام 1907م تدخلت القوات الأمريكية واستولت على ست مدن في هندوراس، وفي عام 1914 م دخل الماينز الأمريكيون إلى هايتي في عملية إنزال، حيث سرقوا البنك المركزي استرداداً لبعض الديون، وبعد سنة واحده ـ أي في عام 1915م دخلت القوات الأمريكية إلى هايتي واحتلت البلاد عام 1934. وفي عام 1914م أمر الرئيس ولسون بحريته بقصف واحتلال فيركروز، وفي عام 1916م وبعد غارات مكسيكيه على الأراضي الأمريكية أرسل قوة بقيادة بيرشينغ دخلت المكسيك لمطاردة زعيم ¬

(¬1) جزيرة جوانتانامو هي القاعدة العسكرية التي تحتجز فيها أمريكا مئات المسلمين الذين تزعم بارتباطهم بالإرهاب، حيث مضى أكثر من ثلاثة سنوات ونصف على اعتقالهم بدون أن توجه لهم أية تهمة، وهذا هو إرهاب الدولة بعينه الذي يكشف زيف دعاوى حقوق الإنسان الأمريكية.

ويلسون والخضوع لحقنا باستغلالهم ونهبهم

الثوار بانكوفيلا، وفي عام 1916م تدفقت القوات الأمريكية إلى (الدومينكان) لتهزم الثوار وتسيطر على البلاد بحكومة عسكريه حتى عام 1924م. ويلسون والخضوع لحقنا باستغلالهم ونهبهم في بداية القرن الماضي، في عام 1908 م، تطرق (أناتول فرانس) في كتابة (جزيرة البطاريق) إلى هذا العالم الخالي من الروح، عالم الحسابات السياسية والأمريكية. وذلك عندما حضر البروفيسور اوبنوبيل إحدى جلسات الكونجرس الأمريكي وسجل ما حدث. "لقد انتهت الحرب لفتح أسواق (زيلندة الثالثة) بإرضاء الولايات، واقترح عليكم إرسال الحساب إلى اللجنة المالية .... لا توجد معارضة ... لقد أخذنا بالاقتراح. "أحقا ما سمعت؟ (يتساءل البروفيسور أوبنوبيل) ماذا أنتم؟ إنكم بلا شك شعب صناعي، إنكم تتورطون في كل هذه الحروب". بلا شك، (رد المترجم): "إنها حروب صناعية. إن الشعوب غير الصناعية التي لا تملك تجارة ولا صناعة ليست مرغمة على التورط في حروب، ولكن مصير شعب يقوم على الأعمال هو الاعتماد على الغزو. إن عدد حروبنا يتزايد بالضرورة بحجم تزايد أنشطتنا الإنتاجية. وعندما تعجز صناعة عن تصريف منتجاتها لابد من حرب، لفتح آفاق جديدة لها، وهكذا كانت لنا في هذا العام حرب الفحم، وحرب القطن. لقد قتلنا في زيلنده الثالثة ثلثي السكان لنرغم الباقين على شراء الشماسي والحمالات منا! ". في هذه اللحظة صعد رجل ضخم كان جالساً في وسط المجلس إلى المنصة، وقال: "أنا أطالب بحرب ضد جمهورية (الزمرد) التي تنافس ـ بوقاحةـ هيمنة لحم خنازيرنا ومنتجاتنا من السجق في كل أسواق العالم". من هذا النائب (تساءل البروفسور أوبنوبيل) ... إنه تاجر خنازير. لا توجد معارضة؟ (سأل رئيس المجلس). سأعرض الاقتراح للتصويت. لقد قبل المجلس اقتراح الحرب ضد جمهورية "الزمرد" بأغلبية ساحقة.

الحرب العالمية الأولى والسيطرة على أوروبا

كيف (سأل البروفسيور أوبنوبيل) تصوتون على حرب بهذه السرعة وبعدم اكتراث؟! ... أوه! أنها حرب بلا أهمية، لن تكلفنا سوى ثمانية ملايين دولار بالكاد. ... والرجال؟! .... إن المبلغ يشمل ـ أيضاً ـ الرجال)!! (¬1). بهذه الطريقة شنت أمريكا حروبها المختلفة، لتحدد مهمتها الخاصة بأنها تلقين كل شعب مستعمر النظام وضبط النفس والتدريب على القانون والطاعة. ومعنى ذلك من الناحية الواقعية على حد تعبير (ودرو ويلسون): "الخضوع لحقنا في استغلالهم ونهبهم". ويشرح ودرو ويلسون في مذكراته السرية الدور الذي تقوم به سلطة الدولة في هذا المشروع فيقول: "بما أن التجارة لا تعرف حدوداً قوميه .. وبما أن المنتج يحتاج إلى العالم ليصبح بأجمعه سوقه التجاري، فلا بد إذن من أن يسبقه علم بلاده، حتى يوفر له فرصة اختراق كل الأبواب المغلقة، ولا بد أن يحمى رجال الدولة الامتيازات التي يحصل عليها رجال المال حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير سيادة الأمم التي تحاول التصدي. لذلك يجب إقامة المستعمرات أو ضمها حتى لا نترك أي ركن في العالم". وهذه المذكرات السرية توضح المعنى الحقيقي لمثل ويلسون العليا في الحرية والحكم الذاتي، وهي المثل العليا التي يثرثر بها كثيراً مثقفو العرب. وقد طبق ويلسون عقيدته في الحكم الذاتي عندما أصبح رئيساً، فغزا المكسيك وهايتي والدومينكان واعمل جنوده الذبح والقتل والدمار، ليضعوا البلاد في قبضة رجال الأعمال الأمريكيين (¬2). الحرب العالمية الأولى والسيطرة على أوروبا بنفس الطريقة ولنفس الأسباب حصل إعلان الرئيس (ويلسون) بدخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى في 1917م على تأييد شبه كامل من الجماعات الدينية، حتى تلك الملتزمة عادة بالسلامية. ومما سهل تقبل الأمر، وصف (ويلسون) دخول الولايات المتحدة النزاع بأنه لم يكن إلا لدعم حقوق الإنسان. وحتى من أيد ألمانيا مسبقاً في النزاع الأوروبي تحول عن ذلك. ونظر للحرب على أنها شر لا ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الانحطاط - روجيه جارودى - ص229 (¬2) أمريكا طليعة الانحطاط - جارودى ص53ـ54

بد منه وأنها الطريق الوحيد للسلام. وانشغلت المنظمات الدينية وزعماؤها بتأييد محموم لجهود الحرب، مما جعلها تبدو كحملة صليبية. "فقد دعا الرب الأمة لدخول المعركة لإحراز النصر النهائي (للحضارة المسيحية) ومجد المحاربين كأبطال الحق ضد أتباع الشيطان" (¬1). مره أخرى يتم تمويه الأهداف الحقيقية للحروب الأمريكية بعبارات رنانة، مع إغفال متعمد للأهداف التوسعية والرغبة في السيطرة ونهب ثروات الشعوب المغلوبة. فأمريكا عملت على الاستفادة من الحرب إلى أقصى درجة، حيث كانت الحرب العالمية الأولى من عام 1914م إلى عام 1918م والتدمير المتبادل بين الدول الأوروبية، بمثابة منجم من الذهب للولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تسرع إلى النجدة والانتصار إلا في نهاية الحرب عام 1917م. حيث خرجت الولايات المتحدة من الحرب في وضع هيمنة كليه، وضع لا مثيل له في التاريخ. فمنافسوها الصناعيين قد دمروا أو اضعفوا إلى حد كبير، بينما تضاعف إنتاج أمريكيا الصناعي أربع مرات تقريباً خلال سنين الحرب. وإذا كان الصراع الأوروبي ـ الأوروبي كلف أوروبا خسارتها لكثير من مستعمراتها ومواقع نفوذها، فإن هذا الصراع كان سبباً في تعاظم النفوذ الأميركي وتغلغله إلى داخل القارة نفسها. ففي الحرب ما بين (1914ـ1916م) لم يتورع الأميركيون عن تزويد المتحاربين بالأغذية والأسلحة والمنتجات مقابل المال، مما زاد من حصتها التجارية في التعامل مع عدد من الدول الأوروبية، ولم تتدخل أمريكيا في الحرب إلا للمحافظة على التوازن العالمي وللدفاع عن التجارة البحرية التي هددتها الغواصات الألمانية. وقد جنت أميركا الكثير من الأرباح والفوائد من الحرب، بينما كانت مذبحة لأوروبا فدفعت الثمن من دمائها واقتصادها. ولكن هذا الحال لم يستمر طويلاً حيث بدأت الدول الأوربية وعلى رأسها ألمانيا تنهض من كبوتها، وبدأت تشهد ازدهاراً اقتصادياً، في الوقت الذي بدأ الاقتصاد الأمريكي يعاني من وضع انهيار اقتصادي وانكماش وجمود، وصل معه عدد العاطلين عن العمل عام 1931م إلى سبعة ملايين ليرتفع عام 1932م إلى 11 مليون عاطل ¬

(¬1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة - ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص127

زعامة العالم

عن العمل، عدا عن إفلاس مئات البنوك والمؤسسات والشركات (¬1). ونتيجة لهذا الوضع الاقتصادي الصعب كان الحل هو مزيد من التدخل والحروب. ففي عام 1932م تدخلت القوات الأمريكية في السلفادور بمساعدة السفن الكندية، وبعدها بسنوات تكررت مأساة الحرب العالمية الأولى، وتكرر المشهد الانتحاري الأوروبي مرة ثانية في الحرب العالمية الثانية (¬2)، التي كانت فرصة ذهبية أخرى للاقتصاد الأمريكي، الذي أنتج في الفترة ما بين عامي 1939م و 1945م: 86330 دبابة، و 296400 طائرة و 6500 سفينة بحرية (¬3)، هذا بالإضافة إلى تزويد المتحاربين باحتياجاتهم من الأغذية وباقي المنتجات. زعامة العالم من خلال متابعة إنجازات الرؤساء الأمريكيين خلال القرن التاسع عشر ثم إنهاء الاستعمار وتطويره وفي هذه النقطة برز بشكل خاص تصميم الرئيسين ويلسون وروزفلت، فالشعوب لها الحق بتقرير مصيرها فكان من الطبيعي أن تتوصل شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى اختيار مصيرها بأنفسها. ولكن يبدو واضحاً هنا خبث المقولة، إن مقولة إزالة الاستعمار بالنسبة للولايات المتحدة تعني دائماً الآخرين ولا تعنيها هي أبداً. وهكذا ومن عام 1945 حتى عام 1962 منحت فرنسا الاستقلال لكل أراضيها القديمة ما عدا جيبوتي ومن عام 1945 حتى عام 1957 كانت إنكلترا مرغمة على فعل الشيء ذاته وفي عام 1949 تحررت إندونيسيا من وصاية هولندا وتحررت المستعمرات الأفريقية من الانتداب الإسباني والبرتغالي والبلجيكي ونالت استقلالها. أليس من الصدفة إذاً أن تتحرك الولايات المتحدة في نفس الوقت ببيادقها في كل مكان من آسيا وأفريقيا وتعزز سيطرتها على أمريكا اللاتينية «دائرتها الثانية»؟!! أليس من الصدفة أيضاً أن يحل الدولار مكان الفرنك والجنيه والبيزتا في المستعمرات الأوروبية القديمة المحررة وأن تتخذ سياسات ¬

(¬1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص78 (¬2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل. (¬3) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي ـ 1/ 2/2003م

اقتصادية وعسكرية مقتبسة عن النموذج الأمريكي وأن تحل اللغة الإنكليزية مكان اللغات الأجنبية الأخرى؟ (¬1) وهكذا وفي منتصف القرن العشرين بعد انهيار ودمار أوروبا بأسرها من الأطلنطي إلى جبال الاورال في أعقاب حربين أوروبيتين (سميتا بالعالميتين لان الأوربيين استخدموا أبناء الشعوب المستعمرة في القارات الثلاث كطعام للمدافع)، انقلب محور العالم: الولايات المتحدة الأميركية ـ التي اغتنت بفضل احتضار كل الشعوب، ولم تهب لنجدة المنتصرين إلا في اللحظة الأخيرة (عام 1917م بعد معركة فردان وعام 1944م بعد معركة ستالينجراد)، وجدت نفسها على رأس نصف الثروة العالمية، هذه الثروة سمحت لها بأن تجعل من الدولار معياراً للنقد العالمي على قدم المساواة مع الذهب، كما سمحت لها بأن تدعم (بشرط خضوعها السياسي) أوروبا عبر مشروع مارشال كي تجعلها من جديد سوقا رائجة، بعد دمارها (¬2). وعلي النقيض مما حصل بعد الحرب العالمية الأولي، فإن الاقتصاد الأمريكي الضخم تمكن من المضي قدماً لقيادة النظام الاقتصادي العالمي الجديد ليكون هو الرائد له، وليعكس صوره لأمريكا ليس فقط كأرض ميعاد، ولكن كدولة صليبية، رسالتها إنقاذ العالم (¬3)، كما جاء ذلك على لسان الرئيس الأمريكي (هارى ترومان) الذي أعلن في 1952م: "إن الولايات المتحدة استجابت لإلحاح العناية الإلهية فقبلت أن تأخذ عبء زعامة العالم على عاتقها". وهذا الإعلان الذي جاء على لسان الرئيس الذي ألقيت بأمره أول قنبلة من قنابل الدمار الشامل في التاريخ على هدف مدني، كان استمراراً لسلسة من تصريحات الساسة ورجال الدولة الأمريكيين، أفصحت عن اتجاه الولايات المتحدة الذي لا رجعة فيه صوب وضع الدولة الحاكمة لكوكب الأرض، وهذا ما أوضحه أيضاً الرئيس الأمريكي، بطل الحرب العالمية الثانية، (دوايت ايزنهاور) بقوله: "إن الشعب الأمريكي شعب يحب الله محبة عميقة، وانه لما كان الله ¬

(¬1) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 213 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001 (¬2) كيف نصنع المستقبل- روجيه جارودي ـ د. منى طلبه ـ ص59 (¬3) ارض الميعاد والدولة الصليبية - أمريكا في مواجهة العالم منذ 1776 - والتر أ. مكدوجان ترجمة رضا هلال ص24

الحرب البارة

يبادله حباً بحب، فإن الله انعم على ذلك الشعب التقى بنعمة الحرية وكلفه ـ في الوقت نفسه ـ بتوصيل تلك النعمة لغيره من الشعوب، وتنفيذ مشيئته على أرضه" (¬1). الحرب البارة تركز تاريخ القرن العشرين في نظر أمريكا على ثلاث حملات صليبية (ثلاثة حروب مقدسة) خاضتها أمريكا لإنقاذ العالم من النزعة العسكرية أولاً، ومن فاشية إبادة الجنس البشري ثانياً، ومن النظام الشيوعي الشمولي أخيراً (¬2). فنتيجة للحرب العالمية الثانية، والدمار الذي أحدثته، شملت الفوضى كثير من الدول، مثل، اليابان والصين والاتحاد السوفيتي وأوروبا، حيث أصابها الانهيار في جميع المجالات وعانت من العجز والبطالة والتضخم، وأصبحت على حافة الإفلاس، بينما كان لها أثر معاكس في أميركا. فقد أنهت الأزمة الاقتصادية وامتصت البطالة وكشفت طاقات إنتاجية غير متوقعة، وكان لابد من الاستمرار في استغلال هذا الوضع، وتكريسه من خلال رؤية رسم أهدافها (بول نيتز)، احد الصقور في الإدارة الأمريكية، بقوله: "تمتلك الولايات المتحدة قوة عالميه ومن الضروري أن نحدد لها عدواً إجمالياً ـ وهو في ذلك الحين الاتحاد السوفيتي ـ وتجسيد أخطاره وتجسيمها بحيث يبرر ذلك كل تدخل من الولايات المتحدة أو هجوم منها كرد فعل على تهديد شامل تتعرض له كطليعة للعالم الحر". هكذا حددت أهداف الحرب الباردة بوضوح، إمبراطورية الشر هي الاتحاد السوفيتي والنزاع "بين قوى النور وقوى الظلام لا يهدد فقط جمهوريتنا، وإنما الحضارة نفسها والهجمة على مؤسسات العالم الحر شاملة، وتفرض علينا من اجل مصلحتنا الذاتية مسؤولية ممارسة الزعامة العالمية" (¬3). وهكذا فقد استطاعت أميركا أن تستثمر تفوقها في الحرب وازدهارها نتيجة لها، واستفادت من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي لاقتياد الدول الأوروبية إلى ¬

(¬1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص403 (¬2) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص226 (¬3) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص8

توقيع معاهدات ستؤدي كما يقول (ميشال بوغنون): "تدريجيا إلى نسج شبكة عنكبوتيه سياسية اقتصادية مالية إستراتيجية ودبلوماسية، ستوقع فيها واشنطن العالم الحر الأوروبي على مراحل" (¬1). فعلى الصعيد الاقتصادي كانت بنية صندوق النقد الدولي تؤسس لهيمنة أميركية لا رجوع عنها، فأميركا تمتلك فيه حق النقض وأكثرية فعلية يسمحان لها بألا يجري التصويت إلا على ما تريد تمريره. وكذلك في المصرف الدولي الذي يتلخص دوره بتأمين الانتقال من الاقتصاديات الوطنية إلى الاقتصاد المعولم، وأميركا تهيمن عليه وتملك الأغلبية فيه. وقد شن (جوزيف سيلتزر)، الحائز علي جائزة نوبل، هجوماً عنيفاً علي صندوق النقد الدولي وبرامجه التي تحمي المجتمع الرأسمالي لبارونات المال، تلك البرامج التي جلبت الخراب والدمار لتلك الدول التي كان الصندوق يفرض عليها القبول بشروط الاقتراض والتداوي بوصفاته العلاجية المميتة. حين أجبر كلينتون إندونيسيا علي القبول بالوصفة القاتلة لصندوق النقد الدولي وكأنها منزلة من عند الله؟. وهنا يجب على (سيلتزر) أن يعلم جيداً أن المأساة لا تكمن فقط في صندوق النقد الدولي، بل في النظام الذي أوجده وأخرجه للعالم، حيث تحول الحلم الأمريكي إلي كابوس أمريكي وأوهام أمريكية. وفي نظام كهذا، فإن رأس المال أو الاقتصاد يتحكم بأرواح الأفراد والجماعات ويطغي علي أية قضايا سياسية، واجتماعية وأخلاقية أكثر أهمية لهم (¬2). وعلى الصعيد العسكري، فإن الحلف الأطلسي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية يقوم برقابة عسكرية على أوروبا، وكان قد بدأ في العام 1949م كأي حلف كلاسيكي يتساوى فيه الأعضاء، غير أن الولايات المتحدة فرضت نفسها كقائد وحيد للحلف بما كانت تقدمه من مساعدات ولاحتكارها السلاح النووي، حيث اتخذت أمريكا العديد من الإجراءات والوسائل للهيمنة المطلقة على الحلف، رغم الممانعة الفرنسية ولا سيما الديغولية لهذه السياسة، حيث إن أميركا كانت تتبع سياسة (فرق تسد) بين الدول الأوروبية لتنال بغيتها، وقد استعملت هذه السياسة في مواضع عدة. ¬

(¬1) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل (¬2) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي ـ 1/ 2/2003م

أما الشق الدبلوماسي من الشبكة الأميركية فتجسده منظمة الأمم المتحدة، التي وصفها السيناتور جوزيف بال في مؤتمر بكاتدرائية سان جون، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بقوله: "إن التوجه الراهن لقيام منظمة عالمية يمثل أضخم حملة صليبية منذ أن بعث السيد المسيح بحوارييه الإثنى عشر لتعليم الأخوة الإنسانية" (¬1). فميثاقها المعمول به الآن، هو ثمرة إستراتيجية أنجلوسكسونية، حيث أن جميع مهمات الأمم المتحدة ذات الصلة بالأمن الجماعي قد فشلت، لأنه لا يتم التوصل إلى قرار سياسي حقيقي بين الأعضاء الخمسة الدائمين، "بل يسود إجماع رخو قلما تترتب عليه نتائج. لكن، عندما تمس مصالح الولايات المتحدة كما هو الحال في حرب الخليج، لا يواجه الأميركيون أي صعوبة لإقناع شركائهم حتى يعرجوا أمامهم" (¬2). ونتيجة لهذه القوه الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي حصلت عليها أمريكا بعد الحرب العالمية الثالثة، فقد استمرت أمريكيا في إرهابها العالمي. وقياماً بمهمة فرض الحرية على شعوب العالم، أطاحت الولايات المتحدة بحكومة (غواتيمالا) في عام 1954م، وفي عام 1961م غزت أمريكا خليج الخنازير في كوبا بواسطة جيش من المبعدين الذين تبنتهم وانتهى هذا الغزو إلى الفشل، وفي عام 1962م فرض الرئيس كنيدي حصاراً جوياً وبحرياً على كوبا لإجبار السوفيت على إبعاد صواريخهم الذرية من الجزيرة، وفي عام 1967م ساعدت المخابرات المركزية الأمريكية (سي اى ايه) في قتل (جيفار) في بوليفيا، وفي هذه الأثناء اشتدت التدخلات الأمريكية في فيتنام وكوريا، والتي كانت نتائجها مرعبه، حيث تكلفت حرب فيتنام لوحدها220 مليار دولار، وفقدت 5 آلاف طائرة هليكوبتر، وتم قصف فيتنام ب 6.5 مليون طن من القنابل، وأدت لمقتل 58 ألف جندي أمريكي، وما يزيد علي 2 مليون فيتنامي وآسيوي!!! ¬

(¬1) ارض الميعاد والدولة الصليبية - أمريكا في مواجهة العالم منذ 1776م - والتر أ. مكدوجان ترجمة رضا هلال ص218 (¬2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل

الصراع العربي الإسرائيلي

الصراع العربي الإسرائيلي في عام 1967م أمدت الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل بالمال والعتاد والأسلحة، ونتج عن ذلك هزيمتها للعرب في نكسة 1967م، واستيلائها على مساحات واسعة من الأراضي العربية. وعندما حاولت الدول العربية استعادة حقوقها وقفت لها أمريكا بالمرصاد من خلال دعمها اللامحدود لإسرائيل عسكرياً واقتصادياً وسياسياً. وفي عام 1973م تدخلت الولايات المتحدة عن طريق وزير خارجيتها (هنري كيسنجر) وأوقفت مد النصر العربي على إسرائيل في حرب 10 رمضان المجيدة، حيث كان هذا التدخل بداية دخول مصر تحت المظلة الأمريكية وتوقيع أول معاهدة سلام مع إسرائيل. وبالرغم من أن انتصار أكتوبر وما تبعه من حظر تصدير النفط للدول الغربية حقق للعرب فائض مالي كبير، إلا أن هذا الأمر كانت له نتائج خطيرة على المستويين العربي والدولي. فعلى المستوى العربي احدث النفط فساداً في الواقع العربي وفي المجتمع العربي، وتحولت هذه النعمة التي أنعم الله بها على العرب إلى نقمة عليهم بسبب أنانية بعض الدول النفطية وضعفها وخضوعها لمصالح الغرب، بدلاً من استخدام هذه النعمة كوسيلة ضغط للحصول على حقوق الأمة أو لتنمية اقتصاديات إخوانهم العرب على الأقل. أما على المستوى الدولي فقد استغلت أمريكا هذا الأمر لإيقاع دول العالم الثالث في شرك الدين، حيث تمخضت الزيادة المفاجئة في أسعار النفط أوائل السبعينيات عن زيادة هائلة في الفائض من العملات الأجنبية المتحصلة للدول المصدرة للنفط من خلال مبيعاتها في الخارج والتي أودعت في البنوك الغربية الكبرى الرئيسية، التي توظف تلك الأموال من خلال منح القروض للدول النامية بأسعار فائدة مرتفعة. وعادة ما تكون معدلات النمو في الدول المدينة أدني من معدلات الفائدة التي يتعين علي هذه الدولة دفعها، فتبدأ العناصر الإنتاجية ومقومات الاقتصاد في ذلك البلد بالعمل فقط لتوفير خدمات الديون والقروض. ولما

ريجان والأمة المباركة

كان متعذراً في هذه الحالة تسديد الدين الأساسي فإن الدولة ستستمر في دفع فوائد الديون إلي الأبد (¬1). ريجان والأمة المباركة تبين دراسة لحالات التدخل الأمريكية الكثيرة التي عرضنا لكثير منها، بوضوح أن الإخلاص لأي نوع من الأخلاق ليس هو وقود محرك للسياسة الخارجية الأمريكية، وإنما الوقود هو ضرورة خدمة سادة آخرين (¬2). فبالرغم مما أحدثته الحروب وعمليات النهب من إفقار للدول النامية، واغتناء لبارونات أمريكا، إلا أن الرئيس المؤمن (رونالد ريجان) أعلن أن ثراء ورخاء الولايات المتحدة يرجع إلى كونها (أمة مباركة من الله). ففي عهد (ريجان) وصلت نقطة الامتزاج الروحي بين إيديولوجيا اليمين المتطرف الذي يمثل مصالح كبريات شركات السلاح والنفط في أمريكا وبين المرجعيات الدينية المسيحية البروتستانية المتهودة، إلى ذروتها، حيث أفسح هذا الحلف المقدس المجال إلى تنامي الشعور بالفوقية، وتبلور فكرة ونزعة السيطرة على العالم، باعتبار أن الأمة الأمريكية هي الأمة الأنقى والأميز والأرقى قيماً وحضارة، والأجدر بقيادة العالم على الطريقة الأمريكية الرائدة في إشاعة الخير ومحاربة الشر. وحيث أن الرئيس الأسبق ريجان وضع معركة (تل مجدو) نصب عينيه فقد وجد من واجبه الديني العمل على زيادة الجبروت العسكري الأمريكي استعدادا للمعركة الرهيبة، وليس من شك في أن عقيدة ريجان بقرب انتهاء التاريخ في تل مجدو كان لها الأثر الأكبر في توجيه سياسته الاقتصادية، وسياسة التسلح العسكري الأمريكي، وقد انبثقت سياسة (ريجان) الاقتصادية المبنية على الإنفاق التضخمي من اعتقاده بعدم وجود مبرر للقلق من تفاقم الدين العام ما دامت (الخطة الإلهية) اقتضت نهاية التاريخ العاجل، ثم أن الإنفاق تركز على التسلح باعتباره الوسيلة المثلى لضمان المستقبل. ولهذا فإن أمريكا ومنذ تولي الرئيس ريجان للسلطة عام 1980م وهي ترسل المساعدات والمستشارين عملاء (السي اى ايه) إلى مختلف بلاد العالم. وفي ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي ـ 29/ 2/2003م (¬2) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد ـ ص 43.

جذور الحرب

عام 1981م و1982م بدأت أمريكا بتعزيز أساطيلها العسكرية في الخليج العربي ونشر الصواريخ في أوروبا، وفي عام 1983م دخلت القوات الأمريكية في لبنان بدعوى حفظ السلام، وغزت جرينادا، وهي احدى دول أمريكا اللاتينية. وفي عام 1986م شنت القوات الأمريكية غارة على ليبيا لقتل الرئيس (معمر القذافي)، وضربت الأسطول الليبي في خليج سرت. وفي عام 1986م قامت باختطاف الطائرة المصرية، وفي عام 1988م ضربت القوات الأمريكية في الخليج طائرة الركاب الإيرانية، وفي عام 1990م كانت جريمة أمريكا في الخليج وتدمير العراق والكويت معاً (¬1). جذور الحرب من سوء الحظ أن الرأسمالية الانكلوسكسونية لا تزدهر إلاّ في ظل الحروب، التي تمثل بدورها فرصاً سانحةً للبارونات اللصوص الأثرياء، بينما تمثل بالنسبة لبقية شعوب العالم الموت والدمار. فقد أفرزت الحضارة الغربية وقيمها أكثر الحروب ضراوة في التاريخ، حيث أودت الحرب العالمية الثانية لوحدها بحياة 50 مليون شخص، وسمحت أخلاقيات هذه الحضارة الغربية العنصرية بإلقاء قنبلتين نوويتين علي المواطنين في مدينتين يابانيتين في وقت كان واضحاً فيه أن الاستسلام الياباني وشيك (¬2). وهنا يتساءل (جورج. ف. كنان) في (كتابه الدبلوماسية الأمريكية) عن جدوى هذه الحروب فيقول: "لئن أجريتم الحساب في ما أدت إليه الحربان (الأولى والثانية) قياساً على الهدف المقصود منهما لرأيتم الكسب منهما أن وجد، أضأل من أن تبينه عين العقل" (¬3). ولكن ربما يكون هذا الكلام صحيحاً من وجهة نظر الكثيرين حول العالم، ولكن ذلك ليس صحيحاً من وجهة النظر الأمريكية، التي طبعت على الحرب والتدمير والإبادة، التي تعلمتها من يهوه (رب الجنود). يقول (كلايد برستوفنر) في كتابه (الدولة المارقة): "إن الشعب الأمريكي، لم يكن مؤسساً على قاعدة الحرب فقط، بل ظل على نحو شبه متواصل منخرطاً في ¬

(¬1) قرآن وسيف -د. رفعت سيد أحمد ـ ص185 (¬2) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م (¬3) الدبلوماسية الأمريكية - تأليف: جورج. ف. كنان - ترجمة عبد اللاله الملاح ص 80 - دار دمشق- ط2 1989

الحرب أو الإعداد لها منذ ولادته. وحسب ما أعلم لم تكد سنه تمر، منذ توقيع الدستور في 1789م وحتى اليوم، لم تكن الولايات المتحدة فيها متورطة في عملية عسكرية ما فيما وراء البحار ... حتى قبل حرب الاستقلال كان الأمريكيون منخرطين في قتال السكان الأصليين. فمنذ تأسيس البلد وحتى إغلاق الحدود بعد مائة سنه، لم تكد سنه واحدة تمر دون نشوب صراع بين الولايات المتحدة والقبائل المختلفة. ومهما يكن الأمر فقد كان الهنود الحمر قد باتوا جميعاً، لدى حلول سنة 1890م في القبور أو في معسكرات الاحتجاز" (¬1). وبعد تطهير أرض الميعاد من الهنود، توجهت آلة الحرب الأمريكية إلى الخارج فكانت حروبها الصليبية في أمريكا اللاتينية والمكسيك والفلبين وأوروبا والعالم الثالث. وهنا يلاحظ (ريتشارد بارنت) في كتابه (جذور الحرب)، أن تدخلاً عسكرياً أمريكياً في العالم الثالث كان قد حدث كل سنه بين 1945م و1967م. ومنذ ذلك الوقت، ما تزال الولايات المتحدة ناشطة نشاطاً مؤثراً بلغ أوجه أثناء حرب الخليج عام 1991م ... كما يلاحظ (بارنت) أن مثل هذه التدخلات تملك جميع مقومات مذهب امبريالى قوى يقوم على: "إحساس بالرسالة، والضرورة التاريخية، والحميا التبشيرية"، التي حذر رجال الكنيسة من التخلي عنها: "ويل لأي أمة تدعو لهداية شعب ضعيف لمستقبله، وتتردد خوفاً على مصالحها ومستقبلها من ذلك الواجب الإنساني الذي لا يخطئه العقل" (¬2). فالولايات المتحدة وقد حبتها الطبيعة بما لم تحب به غيرها من ثروات تفوق الوصف، ومن تاريخ استثنائي، لتقف فوق النظام العالمي، لا ضمنه. وإذ تشمخ سيدة فائقة بين الأمم، فإنها تقف مستعدة أيضاً لتكون رافعة لواء حكم القانون (¬3). وفي كتابه (الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية) يوضح (د. مايكل كوربت) الموقف الأمريكي الديني من الحروب، فيشير إلي الحرب الصليبية، وهي الحرب التي تستحضر الحروب الصليبية في العصور الوسطي، وتستند إلي نصوص ¬

(¬1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص224 - شركة الحوار الثقافي- ط1 2003 (¬2) أرض الميعاد والدولة الصليبية ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال - ص 165 (¬3) الثقافة والإمبريالية - ادوارد سعيد - تعريب كمال أبو ديب ص 342 - دار الآداب/ بيروت - ط1 1997

دينية من التوراة أو الإنجيل. ومن ثم وصف الرئيس الأمريكي للحرب علي أفغانستان بأنها حرب صليبية لم تكن زلة لسان، وإنما هي تعبير عن الثقافة الأمريكية في الموقف من الحرب، كما أن ما يسمى بالحرب العادلة، هي أيضاً تستند إلي مبررات أخلاقية ذات جذور دينية. ولذا فكلمات الشر والخير التي نسمعها من الرئيس الأمريكي وصناع القرار لتبرير الحرب الراهنة ضد العالم الإسلامي وبعض دول العالم هي جزء من الثقافة الدينية الأمريكية حيث الخير هو الحق المسيحي، والشر هو الباطل الذي تحاربه أمريكا، وهو هنا الإسلام (¬1). "فإذا كانت إرادة الرب الأعظم، انه بالحرب ينزاح الأثر الأخير لوحشية الرجل تجاه الرجل في نصف الكرة الغربي، فلندعها تأتى". و"إذا توجب علينا أن نذهب إلى الحرب، فان دافعنا سيكون صائباً. كل واعظ ميتودى سيكون داعياً للتجنيد" (¬2). هكذا تستمر أمريكا في محاولة فرض آراءها بالقوة والسلاح عبر العالم بأسره مستخدمة كافة الأساليب. والمدهش في هذا الأمر لا يتمثل في محاولة تحقيقه، بل في أنها تتم بهذه الدرجة العالية من الإقرار وبإجماع شبه تام، حيث تؤدى أجهزة الإعلام دوراً خارقاً في (صناعة الموافقة والتسليم)، كما اسماها (تشومسكى)، وفي جعل الأمريكي العادي يشعر بأنه يقع على عاتقنا نحن (الأمريكيين) أن نصحح ما يقترفه العالم من أخطاء وآثام، وإلى الجحيم بكل ما ينشأ من تناقضات وعدم اتساق واطراد. لقد سبقت التدخل في حرب الخليج سلسلة من التدخلات (بنما، غرينادا، ليبيا) تمت مناقشتها كلها، وإقرار معظمها، أو على الأقل عدم ردعها، بوصفها من اختصاصنا (نحن) بحكم الحق، وبعبارة (كينان): "لقد أولعت أمريكا بالاعتقاد بأن كل ما ترومه، هو بالضبط يرومه الجنس البشرى برمته" (¬3). فإذا لم تكن المنظمة الدولية تعمل على خدمة مصالح الولايات المتحدة فلا مبرر لاستمرارها، لان الرئيس بوش وبطانته من المحافظين يؤمنون بأن ما يصلح لأميركا يجب أن يصلح للعالم أجمع، بغض النظر عن كل الكلام عن (الحريات) الذي ¬

(¬1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ تأليف مايكل كوربت وجوليا كوربت، ـ ترجمته د. عصام فايز، ود. ناهد وصفي ص121 (¬2) أرض الميعاد والدولة الصليبيةـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال - ص 165 (¬3) الثقافة والامبريالية - ادوارد سعيد - تعريب كمال أبو ديب ص 343

يغلفون به هذه القناعة. وهنا يتعرى مأزق الليبرالية العالمية الممزقة بين الدعوة العالمية لنشر الحريات والديمقراطية, والحيرة إزاء الاختطاف الراهن للشعار الليبرالي من قبل المحافظين الجدد، الذين يزعمون أنهم يريدون نشر الليبرالية بالقوة العسكرية والإمبريالية إن لزم الأمر (¬1). وقد سبق أن فندت إدارة الرئيس (ريجان) أسباب إقصاء المعايير الدولية عندما كانت محكمة العدل الدولية تنظر بالتهم التي وجهتها نيكاراجوا ضد الولايات المتحدة، وسخر وزير الخارجية الأمريكي (جورج شولتز) من أولئك الذين يؤيدون الوسائل اليوتيبية، مثل تسوية الخلافات من قبل الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، بينما يتجاهلون عنصر القوة الفاعلة في المعادلة. كما ابلغ الرئيس (كلينتون) الأمم المتحدة في عام 1993م بان الولايات المتحدة ستتصرف (جماعياً عندما يكون ذلك ممكناً) وستتصرف (أحادياً عندما يكون ذلك ضرورياً) (¬2). وبالرغم من المعارضة العالمية لهذه العربدة الأمريكية، حتى من حلفائها الأوربيين، الذين يحاولون حل المشاكل الدولية سياسياً، إلا أن أمريكيا تصر على تنفيذ ما تريد، تحت شعار (إما معنا أو ضدنا)، معتبرة أن السعي الأوروبي لحل المشاكل سياسياً ناجم عن ضعفهم عسكرياً، وأن استخدام أميركا القوة يعكس قوتها. وهنا تتساءل (صوفي جندرو) في كتابها (المجتمع الأميركي بعد 11 سبتمبر) فتقول: "هل القوة وحدها هي الحل؟ ألا يتعين تسوية المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية كأولوية؟ أليست أميركا مقيدة من الداخل من قبل اللوبيات القوية؟ ". وتضيف موضحة جذور هذه العربدة الأمريكية فتقول: "أن ما يقوله اليوم الأميركيون عن قوة الولايات المتحدة وضرورة الحفاظ على الهيمنة الأميركية ليس بجديد، فالمسألة تعود إلى مبدأ (مونرو) عام 1823م ثم سياسة (العصا الغليظة) التي تبناها (ثيودور روزفلت) عام 1901م، الذي كان يقول: "في هذا العالم، أن الأمة التي تدرب نفسها على حياة لا تتسم بالطابع الحربي هي أمة محكوم عليها بالزوال، قبل ¬

(¬1) الإرهاب والليبراليةـ بول بيرمان ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ الطبعة: الأولى 2003 ـ الناشر: نورتون، نيويورك ولندن (¬2) الدولة المارقة - حكم القوة في الشؤون الدولية ـ نعوم تشومسكي - ترجمة محمود على عيسى ص9 - دار الكتاب العربي - نينوى للدراسات والنشر - ط1 2003

الأمم التي لم تفقد مزايا الرجولة والمغامرة" (¬1). وترى (جندور) أن الإشارة في خطاب بوش عن حال الاتحاد في يناير/ كانون الثاني 2002 للخير والشر، تندرج ضمن هذه الاستمرارية الفكرية (¬2). وفي الوقت الحاضر ابتدع (صامويل هنتنغتون) إلي جانب كثيرين آخرين من شاكلته، معظمهم جاءوا من رحم قوي الظل العالمية، رسالة يشرح فيها التبرير الأخلاقي للحرب التي من أجلها أوصلوا (جورج دبليو بوش) إلي البيت الأبيض. وتروج الرسالة إلي وجوب اعتناق القيم الأمريكية والغربية واعتبارها قيما عالمية، حيث زعم الموقعون علي تلك الرسالة، أن من قاموا بهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) إنما كانوا يهاجمون تلك القيم، وأعلنوا أن العالم أصبح قرية واحدة، وأن عملية العولمة المستمرة لا بد وأن تحمل في ثناياها مجموعة واحدة من المبادئ العالمية، وقرروا نيابة عن العالم بأن هذه المفاهيم والقيم يجب أن تكون المبادئ الغربية (¬3). وقد تناسى هؤلاء الجرائم وحروب الإبادة التي افرزها الإيمان بهذه القيم، عندما حاول رؤساء أمريكا الحديثة التوسع في غرب (الغرب الأميركي)، وحيثما شاء (القدر المتجلي). حيث أنهم في كل خطوة من هذا التوسع (لم يتخلوا قيد أنملة عن السياق التاريخي العنصري والدموي) حيث تحكمت عقدة الاختيار والتفوق بسلوكهم وبنادقهم فأوهمتهم بأنهم يملكون حق تقرير الحياة والموت لكل من عداهم، وأنهم في حل من أي التزام إنساني أو قانوني تجاه الشعوب التي يستعمرونها، لا باعتبار أنها أعراق منحطة وحسب، بل لأنها في الغالب مخلوقات متوحشة لا تنتمي للنوع الإنساني. إن ميتافيزياء كراهية الهنود (لدى الزنابير) ـ كما يقول (هرمان ملفيل) استحكمت بطقس (التضحية بالآخر)، وهذا ما جعل أميركا تعيش بضحاياها. ولا يمكن فهم حروبها وعلاقاتها الدولية إلا بالبحث عن ينابيع طقوسها الخاصة بالتضحية بالآخر (¬4). ¬

(¬1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص13 (¬2) المجتمع الأمريكي بعد 11 سبتمبر ـالمؤلف: صوفي بودي جندروـ كامبردج بوك ريفيوز (¬3) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م (¬4) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص90

لقد أنتج مؤرخو الثقافة الأمريكيون ما يكفى من الدراسات لكي يفهم منابع الدافع إلى السيطرة على نطاق عالمي، والطريقة التي بها يتم تمثيل هذا الدافع وجعله موضع قبول. وهنا يطرح (ريتشارد سلوتكين)، مثلاً، في كتابه (التجدد عن طريق العنف)، منظومة أن التجربة المكونة للتاريخ الأمريكي هي الحروب المديدة ضد الهنود الأمريكيين الأصلانيين، وقد أنتج هذا بدوره صورة للأمريكيين لا كمجرد قتله (كما وصفهم دى. اتش لورانس)، بل كعرق جديد من البشر، مستقلين عن الميراث الإنساني الذي لطخه الإثم بالسواد. يرومون علاقة جديدة وأصيلة تماماً مع الطبيعة النقية كصيادين، ومستكشفين، ورواد، وباحثين. وتتكرر مثل هذه الصور مراراً في أدب القرن التاسع عشر الميلادي، وهى تبزغ بزوغها، الأشد التصاقاً بالذاكرة في رواية (هرمان ملفيل)، (موبى دك)، حيث يجسد القبطان آهاب، تمثيلاً ترميزياً للبحث الأمريكي الكوني. فآهاب مهووس، يفرض نفسه بقوة، لا يصد، ملفع بتبريراته النظرية الشخصية وبإحساسه برمزيته الكونية" (¬1). فمنذ البداية كما رأينا أنها حتى قبل أن تصبح ولايات متحدة كانت أمريكا تطمح إلى عولمة نمط أنظمتها، ولم يفتش مفكروها الأوائل من أساتذة وكتاب وقساوسة ورجال دولة عن لحظة لاخفاء هدفهم النهائي ألا وهو: فرض نموذجهم للمجتمع على العالم أجمع. وقبل كل شيء ومن أجل تقديم المثال عرضت للآخرين لدرجة التفاخر الصورة الرائعة لأمة جديدة مختارة من الله لهدف واحد هو توزيع رسالة وحيدة لمستقبل تراه مشرقاً لكل الشعوب. إلا أنه وفي وقت مبكر جداً زالت إرادة إثارة الرغبات أمام اليقين بخضوع الآخرين بالإكراه لأنه بدا أمام هذه المقاومة أو تلك أمراً لا مفر منه. لقد اعتقدت أمريكا وأرادت لنفسها أن تكون كياناً كلياً لا شبيه له. ولذلك رأت نفسها أعلى من كل المناطق التي يعيش فيها الأفراد والأمم، المناطق التي تعتبر أن من واجبها ضمها، فهي العالم بأسره لأن الإرادة السماوية أرادت ذلك ولأنها تجسد نموذج العالم الأتي حسب المخططات الإلهية، فالقدر حملها مهمة الإملاء على الأمم والشعوب لقانون واحد ما هو إلا قانونها. ¬

(¬1) الثقافة والإمبريالية - ادوارد سعيد - تعريب كمال أبو ديب ص 345

إرهاب التسعينيات وحرب العراق الأولى

وإذا كانت بعض الشعوب والأمم خلال التاريخ اعتقدت أيضاً بأنها مكلفة بمهمة حضارية وهذا لا نقاش فيه ولكن ما يميز أمريكا التي أصبحت فيما بعد الولايات المتحدة هو التأكيد الشرعي بالثقة بالذات وبشخصية غير مألوفة أخذت عندها شكلاً مرضياً. وإن كان من الطبيعي كما يحدث في أي جهاز حي بأن تعبر أي أمة دون مراوغة عن إرادتها بالسيطرة أما فيما يخص أمريكا فهي تشعر بهذه الإرادة لها جذور إلهية. لقد ظهرت ثقتها بنفسها منذ البداية بشكل تأكيد مضخم لاستعلاء مطلق وفي الوقت نفسه بشكل شخصية قومية مصابة بمرض العظمة (¬1). إرهاب التسعينيات وحرب العراق الأولى منذ (ترومان) وحتى (بوش)، حاول رؤساء أمريكا الحديثة التوسع في غرب (الغرب الأميركي) وحيثما شاء (القدر المتجلي). لقد حاولوا التصدي للشيوعية والتوسع الصيني وبسط سيطرتهم على منابع النفط العربية. وخلال حقبة التسعينيات، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وولادة نظام أحادى القطبية، عملت أمريكا على عولمة إرهابها وسيطرتها على العالم في ظل ما سمى بالنظام العالمي الجديد، الذي هو تسمية بديله للهيمنة على العالم، حيث صاغت أمريكيا إستراتيجيتها الانفرادية التي تحوي ثلاثة عناصر أساسية: 1. عدم تسوية أي مشكلة نهائياً لتبرير عمل عسكري في أي زمان ومكان تختاره أمريكيا. 2. تطوير أسلحة جديدة يفترض أن تضع أميركا في تسابق نحو التسلح يجب ألا يتوقف أبداً. 3. التركيز على ميكروـ قوى (العراق، كوريا الشمالية ... ). لأنها "الطريقة الوحيدة لإبقاء السيطرة الأمريكية على العالم من خلال (مواجهة) فاعلين من الدرجة الدنيا للرفع من شأن القوة الأميركية، "وهذا مفيد لمنع أو على الأقل لتأخير وعي ¬

(¬1) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 216 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001

القوى الأساسية التي ستتقاسم مع أميركا التحكم في العالم: أوروبا، اليابان وروسيا على المدى القصير، والصين على المدى البعيد" (¬1). فأميركا لم تعد الأمة الكبرى كما كانت في السابق، لان نظامها الديمقراطي في أزمة، ولذا فهي تحاول أن تحافظ وتبرر هيمنتها وشرعيتها باستهدافها بلداناً قليلة الأهمية اقتصادياً وعسكرياً. ولهذا فقد مارست الولايات المتحدة إرهابها على منطقة البلقان وتحديداً (يوغوسلافيا سابقاً)، وفي السودان وليبيا، ومارست ضغوطاً شديدة على العرب في حربهم وانتفاضتهم ضد الاحتلال الصهيوني، سواء في الجنوب اللبناني أو في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (87 ـ93م) أو الثانية. أما الحرب على أفغانستان والعراق فحدث ولا حرج .... فالملاحظ أن الإمبريالية الأمريكية الأصولية بلغت، في إعادة تنظيم الشرق المتوسطي، مستوى جديداً من العدوانية لم تبلغه من قبل، تمثل في السياسة الجديدة التي تعود بالعالم إلى أساليب الاستعمار الكولونى القديم، والاحتلال الفج الصريح، والتهديد بالمدافع والأساطيل الحربية، التي كشفت عن تفاقم سياسات العنف والعدوان، مقنعاً أو صريحاً، من جانب الامبريالية، وخاصة الامبريالية الأمريكية في السنوات الأخيرة. والواقع أن حرباً لم تكشف من قبل، بهذا الوضوح والعراء، حقيقة التناقضات والصراعات التي تهز عالم اليوم من الأعماق، كما كشفتها حرب الخليج بخاصة. فقد فضحت محاولات الإمبريالية، وفي مقدمتها الأمريكية، استغلال الظروف الجديدة، لمزيد من النهب للعالم الثالث الغنى بثرواته، والمنهوب سلفاً حتى القاع. فلم يكن تحرير الكويت سوى ذريعة، لم تكن تستدعى كل هذا الحشد الهائل من القوة العسكرية التي لم يسبق لها مثيل. كما لم تكن لتبرر التدمير الشامل للعراق، شعباً وبنية أساسية وصناعية، فضلاً عن كافة المرافق الحيوية والحياتية. لقد كان الهدف الأمريكي الصهيوني المدبر، بعيداً عن تحرير الكويت، انتهاز الفرصة المواتية لتدمير العراق نفسه، كقوة عربية اقتصادية وعسكرية نامية، من بلدان العالم الثالث المتخلف، التي تتطلع إلى الخروج من طوق التخلف، والى امتلاك أسباب ¬

(¬1) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأمريكي ـ المؤلف: إمانيول طود - ط1 2002 - الناشر: غاليمار - باريسـ كامبردج بوك ريفيوز

التكنولوجيا، مما يهدد بخلل في ميزان القوى في المنطقة المشمولة بالحماية والرعاية الأمريكيتين، بين الدول العربية وبين إسرائيل. لقد كان المقصود في الدرجة الأولى من حرب عاصفة الصحراء أن تكون درساً لا ينسى للدكتاتوريات الصغيرة لكي تفهم أن ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية يتم برضي الله، ولتذهب العدالة والحقيقة والأخلاق إلى الجحيم. درساً لبلدان العالم الثالث ولكل من تحدثه نفسه بالتمرد على النظام العالمي الجديد، الذي رسمته الولايات المتحدة. درساً لكل من يراوده الأمل أو يتطلع إلى اللحاق بركب الحضارة، واكتساب التكنولوجيا الحديثة المتطورة، والتنمية المستقلة والتقدم. فبعد تضخيم الإمكانيات العراقية وبعد تحرير الكويت حدد خيار أميركي جديد، الانخراط في أكبر عدد من الصراعات مع قوى عسكرية مثيرة للسخرية والتي تنعت بـ (الدول المارقة). وقد أثبتت أحداث حرب الخليج بأجلى بيان أن النظام العالمي الجديد يعنى الزعامة المنفردة لأمريكا في العالم. بعبارة أخرى فرض الهيمنة الأمريكية المطلقة على مصائر العالم، وقد عبرت عن ذلك بصدق (الوموند ديبلوماتيك) بقولها: "أن انهيار الاتحاد السوفيتي حرم العالم من الحماية ضد نزعة المغامرة الأمريكية (¬1)، التي كانت تبحث عن حرب جديدة. فقد انتهت الحرب الباردة وحربا الخليج و حرب (كوسوفا) بعد حرب البوسنة والهرسك، فالحروب يجب أن تستمر، ومصانع الأسلحة يجب ألا تتوقف طالما أن كل ذلك يتم علي حساب الآخرين، سواء كانوا الأوربيين أو اليابان، أو حتى الدول العربية النفطية!! ولهذا كانت حربها الجديدة ضد ما يسمى بالإرهاب، والتي بدأتها بأفغانستان والعراق، ووضعت على قائمتها أكثر من ستون دولة، حيث لم تكن أحداث 11 سبتمبر سوى ذريعة لها، ولم تكن تستدعى كل هذا الحشد الهائل من القوة العسكرية التي لم يسبق لها مثيل لضرب أفغانستان ذلك البلد الفقير والممزق، والذي عانى اشد المعاناة من الحروب، التي كانت تحركها أمريكا. ¬

(¬1) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجى كنعان ـ ص181ـ183

الألفية الثالثة والدولة المارقة

الألفية الثالثة والدولة المارقة ما إن انتصر قادة الولايات المتحدة في الحرب حتى بدأوا يسيئون إدارة السلام. وواصلوا التصرف كما لو أن الحرب الباردة والقرن العشرين لم يكونا قد انتهيا (¬1). فقد أكد كثير من المراقبين علي أن حكومة بوش قامت في خلال ثمانية أشهر فقط منذ تسلمها السلطة، بمعاداة معظم الدول، بل ومنظمات العالم بصورة غير مسبوقة، حيث اصطدمت بروسيا فيما يتعلق بحرب طرد الجواسيس، ثم بمظلة الصواريخ الدفاعية، واصطدمت بالصين في موضوع الطائرة الصينية، ومع معظم دول العالم ومنظماته في تصرفات استفزازية، بدأت بإعلان الانسحاب من اتفاقية الحد من الصواريخ الباليستية، والإصرار علي مشروع مظلة الصواريخ الدفاعية، والانسحاب من اتفاقية كيوتو لحماية المناخ، والانسحاب من اتفاقية وقف إنتاج الأسلحة البيولوجية، ورفض اتفاقية الحد من إنتاج الأسلحة الصغيرة وغيرها من القرارات التي أدت لتذمر عالمي حتى بين أقرب حلفائها الأوروبيين، الذين ساعدوا علي طردها من لجنتي حقوق الإنسان ومكافحة المخدرات في حرب دبلوماسية واضحة، عبر عنها المحلل الألماني الشهير (جوزيف جوفه) بعبارة (أمريكا التي لا شريك لها)، مؤكداً أنها تتعامل حتى مع دول أوربا والناتو بغطرسة، تعتمد علي إصدار القرارات، ثم إجبار هذه الدول بإتباعها بلا مناقشة، وهذا ما يؤكد أن أعداء أمريكا ليسوا فقط العرب والمسلمين، أو في شرق ووسط أسيا بل إن العداء أصبح عالمياً بصورة واضحة! فالأوروبيين كما يقول (جوفه) يريدون دعم الولايات المتحدة ومنعها في نفس الوقت من أن تتحول (آخر قوة عظمي) إلى قوة أكثر تجبراً وغطرسة، بعد أن صارت تتعامل حتى مع حلفائها الأوروبيين بطريقة الآمر النهائي، وعلي الجميع إطاعته. وربما هذا ما يجعلنا نفهم السبب في تمرد السياسة الأمريكية على النظام العالمي بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث يذكر (فرانسو هايزبور) في كتابه (فرط الإرهاب) ببعض المعطيات العالمية وتطوراتها عشية هجمات 11 سبتمبر، والتي يمكن من خلالها فهم مغزى انعكاسات أحداث 11 سبتمبر، حيث يرصد على سبيل المثال ¬

(¬1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص295

الانحراف الأحادي الجانب في السياسة الأميركية في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، والذي تأكد مع تسلم الرئيس الحالي جورج بوش الابن السلطة. ويسوق سلسلة من المواقف الأميركية حول هذا الانحراف الأحادي الجانب مثل المواقف الأميركية في البوسنة بين 1992م و1995م عندما رفضت واشنطن التدخل والاستجابة لمطالب حلفائها الأوروبيين، والقوانين الأميركية التي تعاقب الشركات الأجنبية ـ بما فيها الأوروبية ـ التي تستثمر في (الدول المارقة)، كوبا، إيران، ليبيا ... ، وأعلنت نيتها عدم المصادقة على اتفاقية إنشاء محكمة الجزاء الدولية، وعزمها الانسحاب من معاهدة الصواريخ الباليستية لعام 1972م (انسحبت منها فعلاً) (¬1). وقد أشار (د. برهان غليوم) في لقاء مع قناة الجزيرة إلى تقرير اسمه (المبادئ الأساسية للردع بعد الحرب الباردة) قدم لـ (قيادة القوة النووية)، يوضح إلى أي مدى تحترم أمريكيا القوانين الدولية حيث يقول التقرير: "إن من الخطر الشديد أن نظهر أنفسنا، أننا نحترم أموراً صبيانية سخيفة، مثل: القانون والمعاهدات الدولية، ولابد أن تكون في حكومتنا عناصر تظهر مستعدة للتصرف بجنون وغير قادرة على ضبط أعصابها، فذلك هو الذي يساعد على بث الخوف وتعميقه في قلب خصومنا". ويضيف التقرير: "على أميركا أن تستفيد من قوتها النووية حتى تعطي عن نفسها في المواجهات صورة لا عقلانية وإتهامية عندما تتعرض مصالحها للتهديد". وفي تصريح آخر يقول (جورج شولتز) وزير الخارجية السابق: "إن كلمة مفاوضات لا تعني شيئاً آخر سوى الاستسلام إذا لم يسبقها عرض للقوة". هذه هي شريعة الغاب التي تحكم أمريكا، والتي حولتها إلى اكبر دوله إرهابية سفاك للدماء على مر التاريخ، ابتداء من مذابحها ضد الهنود الحمر، ومروراً بجرائمها في أمريكيا اللاتينية وأوروبا وآسيا والمنطقة العربية. ¬

(¬1) َفرْطُ الإرهاب: الحرب الجديدة تأليف/ فرانسوا هايزبور ومؤسسة البحث الإستراتيجي- ط1 2001 وديل جاكوب-باريس كامبردج بوك ريفيوز

أمريكا .. ذلك الوجه الآخر!

أمريكا .. ذلك الوجه الآخر! في إحدى الغزوات اكتشف أحد صيادي الأرواح إمكانية استخدام الأعضاء الذكرية أكياساً للتبغ، ثم تطورت الفكرة المثيرة من هواية فرديه للصيادين إلى صناعة رائجة, بعد إن صار (كيس التبغ) هذا مثل الشاربين، من أبرز علامات الرجولة والفروسية والأرستقراطية الاستعمارية، وصار الناس يتهادونه في أعيادهم وأفراحهم، لكن هذه الصناعة لم تعمر طويلاً في داخل أميركا, بعد أن انخفض عدد الهنود في عام 1900م إلى ربع مليون، وضاق وجه الأرض الأمريكية بالسلخ وقطع الرؤوس, ولم يعد أمام الحضارة إلا أن تبحث وراء المحيط عن مجاهل جديدة ووحوش طازجة في باناما, والفيليبين, واليابان و وهاييتي, وكوريا, وفيتنام, وبلاد العرب (¬1). فكانت النتيجة أن القرن العشرين كان هو القرن الأكثر دموية في تاريخ الجنس البشري، حيث قتل في هذا القرن 120 مليون شخص في 130 حرباً، وهذا العدد يفوق عدد من قتلوا في كل الحروب فيما قبل سنة 1900 م (¬2)، وقد كان لأمريكا نصيب الأسد في ذلك. وهناك إحصائية موثقة في سجلات هيئة الأمم المتحدة تشير بوضوح بأن عدد الناس الذين قتلوا من قبل أميركا فقط ـ بشكل مباشر ـ بحروبها منذ الحرب العالمية الأولى, وحتى نهاية حرب أفغانستان بلغوا أكثر من 60 مليون إنسان، وهنا علينا أن نتخيل ما هي الديمقراطية التي تطالب بها الولايات المتحدة؟!. وهنا يحاول كل من (جيف سيمون) و (نعوم تشومسكى) بيان الوجه الآخر للديمقراطية الأمريكية عبر مسح الجرائم, التي قام بها الأمريكيون في التاريخ القريب وفيما يلي أبرز محطاته: في إفريقيا: " ... في ليبيريا قتل في أوائل عقد التسعينيات أكثر من 150 ألف شخص، وقتل الآلاف في زائير (أرغم نصف مليون شخص على هجر منازلهم بسبب التطهير العرقي)، وشرد مليون نسمة في سيراليون، ومات زهاء60 ألفا في الحرب والمجاعة عام 1990م وحده، وفي أنغولا مات عشرون ألفا أثناء حصار منظمة يونيتا لمدينة كويتو, الذي استمر ثمانية أشهر، وهو حدث بين أحداث مماثلة عدة ¬

(¬1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص79 (¬2) 1999م نصر بلا حرب - ريتشارد نيكسون - تقديم المشير/ محمد عبد الحليم أبو غزالة ص23. مركز الاهرام, 1989

ضرب المدنيين

للسياسات الاستراتيجية الأمريكية في إفريقيا التي لا يكشف عنها ... حيث طورت الولايات المتحدة (التي نشأت عبر التطهير العرقي والإبادة الجماعية)، قدرتها على التطهير العرقي والإبادة الجماعية باستعمال تقنية لم يسبق لها مثيل. وقد تطورت معظم براعة واشنطن في ارتكاب الإبادة الجماعية أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها (¬1). ضرب المدنيين لقد أثار القصف الألماني مدينة غويرنيكا قبل الحرب، وهو حدث مهم في الحرب الأهلية الإسبانية، احتجاجاً شديداً في الولايات المتحدة, ومن الرئيس (فرانكلين روزفيلت) نفسه. وعندما نشبت الحرب الأوروبية عام 1939م أعلن (روزفيلت): "أن القصف الوحشي من الجو للمدنيين في مراكز سكانية غير محصنة أثناء العمليات الحربية التي دارت في أنحاء مختلفة من العالم في السنوات القليلة الماضية، وأدى إلى تشويه وموت آلاف الرجال والنساء والأطفال العزل، قد أدمى قلوب كل الرجال والنساء المتمدينين, وهز ضمير الإنسانية هزاً عميقاً". وفي عام 1940م حث (روزفيلت) الأطراف جميعاً على الإحجام عن قصف المدنيين، وفي الوقت نفسه ذكر بفخر "أن الولايات المتحدة قد أخذت زمام المبادرة في الدعوة إلى حظر هذه الممارسة اللاإنسانية". هوريشيما وناغازاكي وقبل مضي زمن طويل استدارت واشنطن دورة كاملة، وأصبحت القوة الجوية الملكية والقوة الجوية للجيش الأمريكي راعيتي القصف الاستراتيجي, ومضيتا في إتقان أسلوب التدمير الواسع للمدن باستعمال القنابل الحارقة. كان الجنرال (جورج مارشال)، رئيس الأركان، قد أمر مساعديه في الواقع بتخطيط هجمات حارقة "تحرق الهياكل الخشبية والورقية للمدن اليابانية الكثيفة السكان". وفي إحدى الليالي دمرت ¬

(¬1) أمريكا .. ذلك الوجه الآخر! جيف سيمون ونعوم تشومسكى - الشبكة الإسلامية- http://www.islamweb.net/pls/iweb/misc1.Article?vArticle=13700

حرب فيتنام

334 طائرة أمريكية ما مساحته 16 ميلاً مربعا من طوكيو بإسقاط القنابل الحارقة، وقتلت 100 ألف شخص وشردت مليون نسمة. "ولاحظ الجنرال (كيرتس لوماي) بارتياح أن الرجال والنساء والأطفال اليابانيين قد أحرقوا، وتم غليهم وخبزهم حتى الموت". كانت الحرارة شديدة جداً, حتى أن الماء قد وصل في القنوات درجة الغليان, وذابت الهياكل المعدنية, وتفجر الناس في ألسنة من اللهب. وتعرضت أثناء الحرب حوالي 64 مدينة يابانية، فضلاً عن هيروشيما وناغازاكي، إلى مثل هذا النوع من الهجوم. ويشير أحد التقديرات إلى مقتل زهاء 400 ألف شخص بهذه الطريقة. وكان هذا تمهيداً لعمليات الإبادة التي ارتكبتها الولايات المتحدة ضد أقطار أخرى لم تهدد واشنطن. أما ما حدث في هيروشيما وناغازاكي فقد فاق كل تصور. ففي توان أحترق الآلاف الذين كانوا يسيرون في الشوارع والحدائق من جراء الحرارة الهائلة, التي ولدها الانفجار، بينما وقع الكثيرون على الأرض صارخين من الألم الناتج من الحروق الشديدة, وتهدم كل شيء من منازل ومصانع, وانتزعت القطارات من خطوطها الحديدية, وارتفعت في الهواء كأنها لعب أطفال, واختفت الأشجار في اللهيب وكان انهيار المباني شبيهه بانهيار بيوت الكرتون (¬1). حرب فيتنام بين عامي 1952م و 1973م ذبحت الولايات المتحدة في تقدير معتدل زهاء عشرة ملايين صيني وكوري وفيتنامى ولاوسي وكمبودي. وذكر الراهب البوذي الفيتنامي (ثيتش ثين هاو) أنه بحلول منتصف عام 1963م سببت حرب فيتنام مقتل 160 ألف شخص، وتعذيب وتشويه 700 ألف شخص، واغتصاب 31 ألف امرأة، ونزعت أحشاء 3000 شخص وهم أحياء، وأحرق 4000 حتى الموت، ودمر ألف معبد، وهوجمت 46 قرية بالمواد الكيماوية السامة. . الخ. وأدى القصف الأمريكي لهانوي وهايفونغ في فترة أعياد الميلاد وعام 1972م إلى إصابة أكثر من 30 ألف طفل بالصمم الدائم. وبعد الحرب بينما عانى الأمريكيون الكرب بسبب 2497 جندياً مفقوداً (بحسب أحد التقديرات) , كافحت العوائل الفيتنامية للتكيف مع 300 ألف ¬

(¬1) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص 69

عولمة الإرهاب الأمريكي

مفقود. وربما بلغ عدد القتلى في فيتنام 4 ملايين فضلاً عن ملايين كثيرين آخرين من المعوقين والمصابين بالعمى والصدمات والتشويه. وتقلصت فيتنام إلى بلد للقبور, ومبتوري الأعضاء, والأرض المسممة, واليتامى, والأطفال المشوهين. ولعل مجموع الموتى والمشوهين، ضحايا الأيديولوجيا الأمريكية، يصل إلى 22 مليوناً، إلا أن الكآبة الأمريكية بسبب (مرض فيتنام) لا علاقة لها بذلك (¬1). عولمة الإرهاب الأمريكي إن دماء الكوريين والفيتناميين واللاوسيين والكمبوديين ليست وحدها التي لوثت الأيدي الأمريكية, التي لا يمكن محو الدماء عنها، فقد شاركت الولايات المتحدة على نحو مباشر وغير مباشر في عمليات التعذيب والتشويه والقتل في أقطار كثيرة أخرى في أنحاء العالم. وثمة تواطؤ أمريكي واضح في المجازر الإندونيسية والحروب ضد الناس المكابدين في أمريكا الوسطى, (نيكاراغوا والسلفادور وغواتيمالا وهندوراس): قتل مئات الآلاف الآخرين عن طريق الأسلحة الأمريكية, والتدريب, والمشورة الأمريكيين. ونيابة عن أمريكا في الاضطرابات المدنية الأمريكية (الصراع الدامي في أنغولا, وموزمبيق, و ناميبيا وغيرها)، وفي أعمال القمع التي ارتكبها الطغاة الذين دعمتهم أمريكا عبر العقود (سوموزا, وبينوشيه, وماركوس, وموبوتو, وباتيستا, ودييم وكي, وري, ودوفاليه, وسوهارتو, وسافيمبي وغيرهم). ثمة مثال واحد من أمثلة كثيرة: ذبح الجنود الذين دربتهم الولايات المتحدة في الوزوتي عام 1981م حوالي ألف فلاح أعزل منهم 139 طفلا، وقتل الجيش الأمريكي المدرب في غواتيمالا أكثر من 150 ألف فلاح بين عامي 1966م و 1986م. وبالرغم من أن هذه الجرائم الوحشية هي جرائم ضد الإنسانية وإرهاب دوله منظم، إلا أن أمريكا تضعها تحت مسميات نشر الديمقراطية وتوسيع مساحة الحرية، ولا تعتبرها إرهابية لان الذين فعلوها أمريكيون. وأيضاً قُصفت مدينة دريسدن في فبراير 1945م، وهذا عمل وحشي ارتكبه البريطانيون. فمدينة دريسدن لم تكن ذات أهمية صناعية أو عسكرية. وقد لقي أكثر من 100,000 ألماني من غير ¬

(¬1) أمريكا .. ذلك الوجه الآخر! جيف سيمون ونعوم تشومسكى - الشبكة الإسلامية

العسكريين مصرعهم خلال الغارة، وكانت تلك الجريمة انتهاكاً صريحاً لمعاهدات جنيف، ولكن الذين ارتكبوها هم البريطانيون, وهم ليسوا بإرهابيين!. وهناك أيضاً القصف العشوائي في فيتنام، واستخدام المواد الكيماوية المحظورة، وهذا عمل وحشي وانتهاك فاضح لمعاهدات جنيف، ولكن، ومن جديد فالأمريكيون ليسوا بإرهابيين! وهناك قصف بلجراد وتدمير الجسور والإنشاءات المدنية، وكلها أعمال تعارضت مع معاهدات جنيف، ولكن دول حلف شمال الأطلنطي (ناتو) ليست إرهابية!! ولا ننسى قصف العراق، والتدمير التام لمحطات المياه والكهرباء, وموت أكثر من مليون ومائتي ألف طفل عراقي, وآلاف من العراقيين قضوا نحبهم نتيجة للحصار الاقتصادي, الذي فرضه الأمريكان على بلادهم .. الخ (العدد الإجمالي أكثر من الذين قتلوا في هيروشيما ونكازاكي) .. ثم القتل الذي يمارسه اليهود ضد الفلسطينيين, الذي تستخدم فيها السكينة الأمريكية من سلاح ومال .. والدعم السياسي والاقتصادي والعسكري واستخدام الفيتو خصوصاً ضد الإسلام والمسلمين, وهي جرائم تتنافى ومعاهدات جنيف، ولكن إسرائيل والتحالف المناوئ للعراق لم يكن إرهابياً!! وأخيراً وليس آخراً .. غزو أفغانستان ذلك البلد الفقير، واحتلالها وقتل الآلاف من شعبها باستخدام أبشع أنواع الأسلحة المحرمة دولياً التي لا تقتل البشر والناس فقط، بل تدمر كافة مناحي الحياة في البقعة المنكوبة (¬1). هذه بعض الجرائم الأمريكية بحق البشرية, والتي تكشف إلى أي حد وصلت بربرية وهمجية هذه الدولة المارقة والتي تدعى الفضيلة والحرص على حقوق الإنسان وتطبيق القانون الدولي ... إنها فضيحة في القانون الدولي المعاصر، إنه في حين يعتبر (التدمير المتعمد للبلدان والمدن والقرى) جريمة حرب قديمة العهد، فان قصف المدن بالقنابل والطائرات لا يمضى فقط دون عقاب، بل ودون توجيه اتهام أيضاً. إن القصف بالقنابل من الجو هو إرهاب دولة، إرهاب الأغنياء. لقد أحرق وفرق أشلاء أبرياء في العقود الماضية أكثر مما فعله الإرهابيون المناوئون للدولة على مر ¬

(¬1) بلا حدود ـ أحمد منصورـ ضيف الحلقة - د. عاصف دراكوفيتش: مدير المركز الطبي لأبحاث اليورانيوم - واشنطن ـ 21ـ5ـ2003م

الحرب على الإرهاب

الزمن (¬1). ولكنه حكم القوى على الضعيف قديماً وحديثاً ... وهنا يحكى أن أحد القراصنة وقع في أسر الإسكندر الكبير، الذي سأله: "كيف تجرؤ على إزعاج البحر، كيف تجرؤ على إزعاج العالم بأسره أيها اللص؟ فأجاب القرصان: لأنني أفعل ذلك بسفينة صغيره فحسب ادعى لصاً، وأنت الذي يفعل ذلك بأسطول ضخم تدعى إمبراطوراً .. !! (¬2). إنها ازدواجية المعايير وشريعة الغاب قديماً وحديثاً. الحرب على الإرهاب هذه محطات مختلفة للإرهاب الأمريكي حول العالم، تكشف بجلاء ذلك الوجه القبيح لهذا البلد, ولتلك العصابة العنصرية التي تقوده وتقود العالم نحو الهاوية، بدعوات وشعارات مخادعة وكاذبة، مرة باسم نشر الديمقراطية والحرية والدفاع عن حقوق الإنسان .. وأخرى بدعوى مكافحة الإرهاب، حيث يبقى ما يجري منذ بدء الحرب على الإرهاب ماثلاً في الذاكرة. فالحرب الحالية على ما يسمى بالإرهاب هي في حد ذاتها إرهاب .. إرهاب دوله منظم نشأ مع نشأة أمريكيا ذاتها، واستمر في حصد الأرواح والدمار في كل مكان حل به، وهذا ليس جديداً على أمريكا كما سبق وأكدنا ـ إذا علمنا أن أمريكيا قد خصصت ميزانية لممارسة الإرهاب قدرها 2 مليار دولار، منذ العام 1969م وازدادت الآن إلى 10 مليار، لتنفقها مبكراً جداً على فريق خاص (20 ألف مجند) للعمليات الخاصة بالاغتيال السياسي والتصفية الجسدية, لمن تسميهم بأعداء الولايات المتحدة خارج الحدود ـ حتى لو كانوا حركات تحرر وطني ـ وهم في الغالب كذلك ـ تصفيتهم دون انتظار قرار دولي أو إذن من مجلس الأمن تماماً, كما حدث في حرب الخليج الثانية، وكما يحدث في الحرب الراهنة ضد أفغانستان والعراق. وإذا علمنا أيضا أن لدى الولايات المتحدة فرقاً خاصة للإرهاب (¬3) المنظم تتلخص ¬

(¬1) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد ـ ص 139 (¬2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص35 (¬3) راجع مقال للكاتب البريطاني (جورج مونبيوت) منشور بصحيفة الجارديان بعنوان (الحكومة الأمريكية تصنع الإرهابيين منذ 55 عاما) - عرض / إيمان محمد ـ إسلام أون لاين. نت/30ـ10ـ2001م

لاهوت الهيمنة الأمريكية

مهمتها في تمشيط أرض من يسمونهم بأعداء أمريكا تمهيداً للاقتحام كما حدث في أنجولا (¬1). لاهوت الهيمنة الأمريكية (¬2) صرح الرئيس (تافت) في عام 1912م: "يجب أن نحمي شعبنا وأملاكه في المكسيك، إلى أن تفهم حكومة المكسيك بأن هناك إلهاً في إسرائيل، وأن الواجب يحتم طاعته". هذه العبارة شائعة الانتشار: "إسرائيل مملكة الله الجديدة على الأرض"، ظهرت برواج في التاريخ الأمريكي منذ مايفلاور وإقامة مستعمرة بلايموث (1620م). تاريخ جميل وقوي. شعب في المنفى، شعب صغير، هارب من السيطرة القمعية وباحث عن بداية جديدة. تستدعي للذاكرة علاقة يهوه مع شعبه المختار على جبل سيناء: لقد أعطى يهوه لليهود في المنفى مكانة خاصة (الأمة المفضلة)، اليهود هم (الشعب المختار) بأرض موعودة. كما وعدهم - إذن بأن لهم دوراً مهماً لقيادة شعوب أخرى. كذلك اعتبر الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية البيوريتانيون (المتطهرون) أنفسهم شعباً مختاراً منذ قرون بقراءة الكتاب المقدس، ليس فقط من قبل يهوه، ولكن أيضا ًمن خليفته الرب المسيحي. فلماذا لا تكون هذه الأرض إذن الأرض الموعودة؟ ويكونون هم بذلك النور والإرشاد للشعوب الأخرى، لأنهم الشعب المختار من الله؟ ... لكن الأرض الموعودة لم تكن قفراً. الفكرة الرئيسة هي أن الله يساعد المختار، أما نجاحه فلا يبدو لنا مبرراً في عيون الرب فحسب، بل والطرق المستخدمة لتحقيق هذا النجاح يجب ـ أيضاً ـ أن تكون مبررة. وكما أعطى العهد القديم تشبيهاً يتماشى مع البيوريتانيين الأوائل في تنكيلهم بالهنود، عاد هؤلاء البيوريتانيون بدورهم، إسقاط التشبيه الذي ينسجم وتنكيل الإسرائيليين بالفلسطينيين. ¬

(¬1) قرآن وسيف ـ د. رفعت سيد أحمد ـ ص186 (¬2) هذا المقال كتبه يوهان جالتون، وعرض في كتاب" أمريكا طليعة الانحطاط - روجيه جارودي - ص241ـ244

هكذا اتفقنا على تكوين جبهة ضد الإسلام. إن الاقتناع بكونهم الشعب المختار، قد سبقه الاقتناع بأن الولايات المتحدة هي الأمة الأقرب إلى الله من أي أمة أخرى، وذلك موضح على شعارهم المدون على كل دولار (إننا نثق بالله) ... من ثم، فإن الدولة الأقرب إلى الله هي ـ أيضاً ـ ممثلة الله على الأرض طبقا لثلاث خصائص رئيسية، من صفات الله: امتلاك كل العلوم، والقوة الشاملة، والإحسان. بالتالي، يعني هذا رقابة اليكترونية على العالم، وعلى الذين يشك في كونهم ممثلي الشر وحملته. وتستأثر الولايات المتحدة لنفسها بمعرفة من يدخلون تحت هذا التصنيف فلا توجد محاكمة لهم، بما أن الولايات المتحدة تحتكر مسألتي الثواب والعقاب، بالإضافة لحق الإدعاء. هكذا تمارس هيمنة ثقافية, وتمتلك قوة اقتصادية وعسكرية تحت إدارة البنتاجون, وجهاز الاستخبارات لتنفيذ أحكامها. تستحق) إمبراطورية الشر) أن تسحق حتى تعود إلى العصر الحجري، إنه الواجب. أي ديانة يمكنها التفوق على الإيمان اليهودي المسيحي؟ أي أيديولوجية يمكنها التفوق على الليبرالية المحافظة على طبعتها الرأسمالية؟ لا يمكن حتى لمنظمة سوبر عالمية أن تكون فوق الولايات المتحدة. وهذا يعني بالنسبة إلى الأمم المتحدة ألا تكون سوى وسيلة للولايات المتحدة لتنفيذ هيمنتها على العالم بأسره. وتحتل الولايات المتحدة القمة في تسلسل الأمم، وهي محاطة بمن يمثلون مركز العالم: الحلفاء الذين تنطبق عليهم سمتان أو السمات الثلاث الخاصة: اقتصاد سوق حرة، إيمان بالله يهودي ـ مسيحي، انتخاب حر. على الكفة الأخرى لهذا العالم الموزع بين الخير والشر، إمبراطورية الشر تتمثل في البلدان التي لا تتبع اقتصاد سوق حرة، ولا إيماناً يهودياً مسيحياً، ولا ديموقراطية على الطريقة الأمريكية. فللولايات المتحدة اتحاد مع الله، وتتحالف الأمم الأخرى معها من موقع التبعية لها والخضوع، كالعلاقة بين الأطراف والمركز. فالأمم الغربية ملك الولايات المتحدة، والولايات المتحدة في حلف مع الله. هذا هو اللاهوت المستتر للسياسة الخارجية لأمريكا.

الفصل الثالث الارهاب الأمريكي الداخلي

الفصل الثالث الارهاب الأمريكي الداخلي دأبت الحكومات الأمريكية المختلفة على إتباع أسلوب فريد في إخفاء وتبرير عدوانيتها وعنصريتها وإرهابها على العالم، بإسقاط مثل هذه الصفات على دول وشعوب أخرى. والمتأمل للتاريخ الأمريكي سيلاحظ هذا الأمر بسهولة. فقد بررت أمريكا ذبح الهنود الحمر واستعباد الزنوج بالقول بهمجيتهم ووحشيتهم، وبررت حروبها في أمريكا اللاتينية بدعوى نشر الحرية والديمقراطية ... وفي العصر الحديث بررت حروبها المختلفة مره بدعوى محاربة الشيوعية والأصولية وأخيراً بدعوى محاربة الإرهاب. وبالرغم من هذه الشعارات البراقة التي استخدمتها أمريكا لتبرير جرائمها بحق الإنسانية، إلا أن الحقيقة والواقع يقول أن أمريكا نفسها هي التي بحاجه إلى من يعلمها معاني حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، وحتى التطرف الأصولي التي تدعي أمريكا أنها تسعى لمحاربته، لم يظهر وينمو إلا في أمريكا حتى تمكن هذا التيار من حكم أمريكا والعالم، وما عرضناه وما سنعرضه خير دليل على ذلك. أما الإرهاب الذي اتخذت منه أمريكا هدفاً وعدواً جديداً، تشن بسببه الحروب هنا وهناك وتقتل وتعتقل وتمنع وتحاصر وتعاقب .. هذا الإرهاب ليس إلا صناعة أمريكية من ألفه إلى يائه. ولكن لأن أمريكا تدرك أن خير وسيله للدفاع هي الهجوم، لهذا بادرت باتهام الغير بالإرهاب، حتى لا تدع لهم مجالاً للتفكير في الإرهاب الأمريكي قديماً وحديثاً داخلياً وخارجياً، والذي لم يشهد له التاريخ مثيلاً. النشاط الإرهاب الداخلي بدأت أجهزة الإعلام الأمريكية في منتصف الثمانينات تسلط الضوء على الحركات اليمينية المتطرفة، والتي تحمل أسماء غريبة، مثل الأمم الآرية وحليقي الرؤوس وغيرها ممن ترتبط أسماؤها بحوادث إرهابية، مثل قتل رجال الشرطة، واغتيال أصحاب الرأي المخالف، والقيام بعمليات السطو، والسرقات الكبيرة. وكان كل

ما تقوم به أجهزة الإعلام هو الربط بين هذه الحوادث والجماعات المتطرفة، التي تقوم بها دون التعمق في البحث في معتقدات هذه الجماعات التي تجيز وتدفع إلى ارتكاب مثل هذه الحوادث الفظيعة. وفي كتابه التضليل الشيطاني يعلق (تيرى ميسان) على هذه الظاهرة بقوله: "إن تاريخ الولايات المتحدة المعاصر يبين لنا أن الإرهاب الداخلي هو من الممارسات التي تشهد نمواً متزايداً. فمنذ العام 1996م ينشر الـ اف. بي. آي تقريراً سنوياً عن النشاط الإرهابي الداخلي كانت حصيلته: أربع عمليات في 1995م، ثمانية في 1996م، خمسة وعشرون في 1997م، سبعة عشر في 1998م وتسعة عشر في 1999م، نفذ معظم هذه العمليات مجموعات عسكرية وشبه عسكرية، تنتمي إلى اليمين المتطرف (¬1). وبالطبع فإن هذا العدد لا يشمل العمليات اليومية التي تشهدها كافة المدن الأمريكية من سرقة واغتصاب وقتل، وجرائم أخرى لا تحصى، والتي جعلت أمريكيا من أكثر دول العالم في نسبة انتشار الجريمة المنظمة وغير المنظمة. وبعد أحداث 11 سبتمبر التي سارعت أمريكا لإلصاقها بالعرب، نشرت في ذلك الوقت كثير من التقارير الصحفية التي توجه إصبع الاتهام للجماعات الإرهابية الأمريكية المتطرفة، وهنا يذكر تقرير للمركز العربي للمعلومات بثته الصحف اللبنانية الأربعاء 12 - 9 - 2001م أن على أمريكا إذا أرادت أن تبحث عن مرتكب إنفجارات 11 سبتمبر، أن تفتش داخل أمريكا نفسها عن المنظمات الإرهابية، فهناك منظمات متطرفة يمكن أن تقوم بهذه الانفجارات، مثل: (فريمان)، (الأمم الآرية)، (الباتريوت) (مليشيا ميتشيغان)، (أريزونا باتريوتس)، (جيش تحرير ميامي). وهذه التنظيمات أنتجتها الأرض الأمريكية الخصبة، وبعضها قديم قدم الجمهورية الأمريكية ذاتها، وإن تغير معناها ومغزاها خلال التاريخ الأمريكي القصير، فقد كان للميليشيات في البداية معنى إيجابي، إذ كانت تشمل القوات الشعبية التي شاركت في حرب الاستقلال. وفي وقت لاحق، استمر وجود هذه الجماعات الصغيرة التي كانت تحاول قدر المستطاع أن تحكم نفسها محلياً، وخاصة في ولايات الغرب، أو في ¬

(¬1) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان ص 142

أفراد الميليشيات وأفكارها

الجنوب (كلوكلاس كلان) (¬1)، إلا أنها كانت معزولة وبقيت على هامش الحياة السياسية، لكن الوضع تغير اليوم بفعل التطورات التقنية، التي تسهّل صنع القنابل وتهريب الأسلحة، وكذلك تطور وسائل الاتصال التي تسمح لهذه التنظيمات بالاتصال الفوري بعضها ببعض، إما عبر البرامج الإذاعية أو الفاكس، وأخيرا عبر الإنترنت (¬2). وحسب تقرير مركز المعلومات العربي، ففي منتصف التسعينيات، اتسع انتشار هذه التنظيمات في ولايات الوسط والغرب. وتظهر الأرقام الرسمية الأمريكية أنه في عام 1994م وحده، تم تسجيل 2438 محاولة تفجير، أو تفجير لم يتبعه حريق، معظم المسئولين عنها من الشبان الذين يعتمدون على كتب مثل: (دليل الفوضوي)، و (جيمس بوند للرجل الفقير) أو (يوميات تونر)، الذي يعتبر الكتاب المقدّس للميليشيات. ويعتبر مكتب التحقيقات الاتحادي (إف بي آي) أن كتاب (يوميات تونر)، الذي صدر في عام 1987م استند إليه (ماكفاي) مفجّر أوكلاهوما، ومؤلفه هو (أندرو ماكدونالد)، ويعمل أستاذا جامعياً. والكتاب عبارة عن رواية سيطرت على خيال هواة اقتناء الأسلحة والشبان البيض المتعصبين عرقياً، وصار واسع الانتشار. وهناك من يقول: إن اسم المؤلف الحقيقي لهذا الكتاب هو (وليم بيرس). وقد تنبهت وزارة العدل الأمريكية لهذا الكتاب عام 1989م، عندما قامت مجموعة إرهابية أمريكية معادية للحكومة الاتحادية، أطلقت على نفسها اسم (النظام) بعمليات اغتيال وسطو على مصارف، أملاً منها في إطلاق ثورة عنيفة. أفراد الميليشيات وأفكارها تجذب هذه الميليشيات أساساً عناصر أمريكية يعيش معظمها على هامش المجتمع، وينتمي أعضاؤها إلى العرق الأبيض، وهم في غالبيتهم من الطبقة العاملة، ومن العاطلين عن العمل، ومن الذين يعتبرون أنفسهم متدينين. وتعكس قيم هذه التنظيمات مزيجاً غريباً من الدين المسيحي، وتقديس الحرية الفردية ¬

(¬1) لمزيد من التفاصيل حول هذه المنظمة العنصرية راجع كتاب "تاريخ الإرهاب الأمريكي (الكوكلاكس كلان) " - ر. ف. إيفانوف ـ أي. ف. ليسينفسكي- ترجمة غسان رسلان.- اللاذقية: دار الحوار، 1983 (¬2) إسلام أون لاين. نت/12 - 9 - 2001

للمواطن، والقيم العسكرية، وخاصة حرية اقتناء وحيازة الأسلحة النارية، والخوف من السلطة المركزية، والرغبة في مقاومة تدخّلها في حياة المواطن. ولذلك فإن الطابع العقائدي الغالب على هذه التنظيمات هو الطابع اليميني، الذي يصل في أحيان كثيرة إلى الشوفينية والعنصرية والحقد على كل ما هو غير أبيض أو مسيحي. ويقوم أعضاء هذه التنظيمات خلال العطلات بارتداء الزي العسكري، والتدرب على إطلاق النار بالأسلحة النارية والمتفجرات الحية في معسكرات أو مزارع خاصة، (لضمان عدم تدخل رجال الأمن) أو في الغابات. وهناك نسبة كبيرة من الأعضاء من الجنود السابقين. فعلى سبيل المثال، فإن المتهم الرئيس بتفجير أوكلاهوما (تيموثي ماكفاي) خدم في حرب الخليج، ونال ميدالية النجمة البرونزية. لكن من بين أعضاء الميليشيات ـ أيضاً ـ مجموعة من المحامين والمثقفين البارزين والأساتذة الجامعيين، بالإضافة إلى ضباط متقاعدين من ذوي السجل العسكري المثالي. ويعتبر بعض أعضاء هذه الميليشيات أنفسهم في حالة حرب مع السلطة الاتحادية، التي يرون أنها تحاول حرمانهم من حقوقهم الدستورية (الفردية)، وهم يرفضون دفع الضرائب. أما المتطرفون منهم فيؤمنون بوجود مؤامرة تشارك فيها الحكومة الاتحادية، والمصارف العالمية والأمم المتحدة، وعناصر يهودية عالمية وغيرها من القوى المعادية للمسيحية، تهدف إلى إقامة حكومة عالمية، أو كما هو شائع الآن (النظام العالمي الجديد). ويدّعي هؤلاء أنهم يملكون معلومات، أو وثائق تثبت صحة ما يقولون، منها ظاهرة تحليق طائرات مروحية سوداء في ولايات الغرب، يعتقدون أنها لرصد تحركاتهم، ويقولون: إن أمريكا ستستعين بقوات روسية أو صينية لنزع أسلحتهم. وهذه الميليشيات مختلفة عن الميليشيات المتنازعة في الدول التي تشهد الحروب الأهلية. فهي تنتمي عقائدياً إلى المدرسة ذاتها، وليس بينها تنافس أو عداء، وما يحدد توجهها وبرامجها هو خوفها وعلاقتها المتوترة بالسلطة الاتحادية .. أي إن لهذه الميليشيات عدواً أساسياً هو السلطة الاتحادية (¬1). ¬

(¬1) إسلام أون لاين. نت/12ـ9ـ2001م

الميليشيات المسيحية الأمريكية .. هواية القتل اللذيذ

الميليشيات المسيحية الأمريكية .. هواية القتل اللذيذ "ماذا نفعل؟ نعلم أن الضحايا مجرد رهائن لدى الإدارة الأمريكية وأنهم لم يتبنوا الفلسفة المريضة والأهداف المدمرة التي يتبناها النظام .. ولكن ما من طريقة تتفادى سقوط الأبرياء في سبيل تدمير هذا النظام .. ما من طريقة فلا بد أن يسقط ضحايا"!! ليست هذه تصريحات لأعداء تقليديين لأمريكا .. ليست لأحد ـ الصرب أو الشيوعيين أو الكوبيين أو الكوريين الجنوبيين ولا حتى لأحد أتباع بن لادن، لكنها لأمريكي أبيض من ميليشيا ولاية ميتشجان، فهو لا يهتم بالدماء مهما كانت درجة تدفقها في سبيل القضاء على الإدارة الأمريكية، مهما كان حجم الضحايا والأبرياء!! قد تتعجب إذا علمت أن هذا كان تعليقه للنيويورك تايمز إثر حادثة أوكلاهوما، التي نفذتها الميليشيا وراح ضحيتها 166 قتيلا .. ولكن عجبك قد يزول إذا قرأت لأحد هؤلاء المهووسين في أحد مواقع الميليشيات يعرفنا بنفسه أن هوايته إطلاق الرصاص على الحيوانات، والأمريكان الوافدين (يقصد الأفارقة والآسيويين والأسبان)، وأن الحكمة التي تنير دربه في الحياة: "بمجرد أن أملك بندقية فحتماً سوف تقع جريمة". وسينتهي تعجبك تماماً إذا علمت أن ثمة إعلانات تُنشر في جرائد أمريكا الكبرى والمحلية على حد سواء يرد فيها عبارات من قبيل "يجب ألا نسمح للحكومة بإدارة شئوننا وحياتنا .. يجب أن نعود إلى أيام الثورة الأمريكية الأولى .. نحن ثوريون أمريكيون" .. ثم يردف الإعلان بالطريقة الأمريكية النمطية "تعالوا مع أسلحتكم وأصدقائكم ... ". وهذه الإعلانات المتنوعة والكثيرة تقف وراءها مجموعة ضخمة من الميليشيات الأمريكية المسلحة. فهذا الإعلان مثلاً نشرته ميليشيا ولاية أريزونا، التي تهدف إلى فصل الولاية عن أمريكا الأم وإعلانها دولة مستقلة. وهذه الميليشيا يقودها (ديفيد إبسي) الذي يُسمي نفسه (الكابتن الثوري)، ويدعو إلى إعلان ثورة جديدة كالتي أعلنها الأمريكان الأوائل ضد الاستعمار البريطاني. وهذه الميليشيات تنتشر في شتى الولايات الأمريكية، ولها أنصارها الذين يشكلون فكرهم الغريب والمختلف، ولكل ميليشيا منطقة نفوذ، وتحترم الميليشيات فيما بينها مناطق نفوذها. ورغم أنه لا توجد مؤشرات تدل على نوع من الوحدة في الهدف أو الرؤية، فإنه من المؤكد أن ثمة خلفيات مشتركة أدت إلى تكوُّن مثل هذه

قائمة بأهم الميليشيات الإرهابية الأمريكية

البؤر الفكرية المسماة بـ (الميليشيات)، سواء أكانت هذه الخلفيات اجتماعية أم سياسية أم دينية أم عسكرية، كما أن تشابهًا في الوسائل يلحظه المتابع لهذه الميليشيات. فالعدد المعلن لهذه الميليشيات 41 منظمة، و22 ميليشيا، غير تلك التي تفضل العمل السري ولا تعلن عن نفسها، بل تغلق العضوية على من يصطفيهم القائد (¬1). قائمة بأهم الميليشيات الإرهابية الأمريكية ميليشيا ولاية ميتشجان: تعتبر هذه المليشيا من أقوى الميليشيات وأكثرها عدداً، حيث يقدر عدد جنودها بـ50 ألف جندي. وقد اشتهرت هذه المليشيا بعد الانفجار في مدينة أوكلاهوما، لأن الاثنين اللذين اعتقلا عضوان فيها. ورغم أن قائد الميليشيا ادعى أنه طردهما، لأنهما متطرفان أكثر مما يجب، الا إن القس (نورمان أولسون) قائد (الجيش الأول) أحد قطاعات الميليشيا، أيَّد فكرة أن يذهب الآلاف من الجنود بالملابس العسكرية وكامل الأسلحة لإنذار كلينتون أن هذه ستكون بداية الثورة الأمريكية الثانية. والميليشيات تملك دبابات وعربات مصفحة ومدافع مضادة للدبابات، وتتدرب على حرب العصابات وبعض تدريباتها تتم في الليل، وتُستعمل فيها نظارات تسمح بالرؤية في الظلام. وفي جنوب الولاية فرع للميليشيا، يتدرب عسكريًا بأقنعة واقية من الغازات السامة، لاعتقاده بأن الجيش الأمريكي سيستعملها ضدهم. ميليشيا ولاية كولورادو: اسمها الرسمي هو حراس الحريات الأمريكية، العضو فيها يطلق على نفسه لقب حارس وطن، وأسلحة أعضائها كثيرة ولا يكتفي الواحد بأسلحة لنفسه، إنما يخزن مجموعة أخرى للمتطوعين الذين ربما لن تتوفر لهم أسلحة كافية عند قيام الحرب. كما يخزن أعضاء هذه المليشيا ـ أيضاً ـ كميات كبيرة من الطعام وضروريات الحياة، ليعيشوا أسابيع بل شهوراً إذا فرضت عليهم الحكومة ¬

(¬1) الميليشيات المسيحية الأمريكية .. هواية القتل اللذيذ - أحمد زين- موقع إسلام أون لاين- 13 - 9 - 2001 - http://www.islamonline.net/arabic/famous/2001/09/article3.shtml

الحصار. وميليشيا كولورادو عندها جريدة ودار نشر. ومن مطبوعاتها: النظام العالمي الجديد. وبداخل هذه المليشيا لجنة تشرف على التمارين العسكرية وتخزين الأسلحة، كما ترسل مستشارين عسكريين لمساعدة الميليشيات في الولايات الأخرى، وعلى رأس قائمة أعدائهم ـبالإضافة إلى الحكومة الفدراليةـ البنوك العالمية التي يسيطر عليها اليهود. وهذه الميليشيا تحمل اليهود مسئولية فساد النظام البنكي العالمي بما في ذلك سقوط بنك الاعتماد. ميليشيا ولاية فلوريدا: تتكون هذه الميليشيا من 6 ميليشيات فرعية، ولها جنود في كل مقاطعة ومدينة في ولاية فلوريدا. ففي مدينة تاميا يوجد فرع للمتطوعين المسلحين، وفي مقاطعة هيلزبورو المجاورة جيش وجهاز حكومي وجهاز قضائي، وعلى رأس الجهاز القضائي المحكمة الدستورية التي أرسلت أخيراً أوامر إلى المسئولين في المقاطعة لإطاعة قوانينها. وفي مقاطعة سانت لوشي يحمل الجنود مسدسات وبنادق ومدافع رشاشة إلى اجتماعات التدريب. ميليشيا ولاية إيداهو: تستفيد هذه الميليشيا من المناطق الجبلية الوعرة، في ولاية إيداهو. ومن الذين يقودون هذه الميليشيا الكابتن (صمويل شيرود)، الذي يقول: ستشهد أمريكا الحرب الأهلية مرة أخرى، ونحن هنا في ولاية إيداهو سنبدأ بالهجوم على مبني برلمان الولاية ونقتل كل النواب رمياً بالرصاص. أما (جيمس جرينز) ـ وهو كولونيل متقاعد من فرقة القبعات الخضراء التي اشتركت في حرب فيتنام ـ فهو يظهر وجهاً آخر من وجوه الميليشيات التي لا تنظر إلى أمريكا بالكراهية فحسب، وإنما توجه عنصريتها للعالم كله من حولها، فيقول: "الجنس الأبيض هو سيد الأجناس، والأفارقة ـوالآسيويون مثلهم ـ أقذر الناس وفي أسفل قائمة الأجناس ... " (¬1). ميليشيا ولاية إنديانا: ترأس ميليشيا ولاية إنديانا امرأة هي جنرالة سابقة بالجيش الأمريكى وتدعى (ليندا طومسون)، وعندها مكتب محاماة في إنديانا بولس ¬

(¬1) جعل بعض النقاد من الخوف من الأجنبي وازدرائه عجله قيادة التاريخ الأمريكي كله

عاصمة الولاية، وهي تقول: إن يوماً ما ستهجم فيه على الكونجرس وتعتقل كل أعضائه وتدمرهم. ميلشيا ولاية ميسوري: هذه الميليشيا أقل حجمًا ونشاطًا من ميليشيا ولاية ميتشجان، لكن لها فروعاً في خمس مقاطعات. وهذه تجمع بين العملين العسكري والسياسي. فبالإضافة إلى تسليح أعضائها فإنها ترشحهم في الانتخابات المحلية لعُمُد المدن الصغيرة واللجان التعليمية. والبرامج السياسية لهؤلاء تدعو إلى الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة "خوفًا من سيطرتها على الحكومة الأمريكية"، وإلى إنهاء النظام الدولي الجديد. وشنت هذه الميليشيا هجومًا شخصيًا على الرئيس كلينتون، وخاصة على زوجته هيلاري، التي وصفت بأنها تقود شبكة شيوعية للسيطرة على أمريكا. وهذه الميليشيا تتحدث عن طائرات تجسس تابعة لشرطة التحقيق الفدرالي (إف بي آي)، تحلق فوق معسكراتها للهجوم عليها، وعن صواريخ جو ـ أرض، وقنابل عنقودية رغم أن الشرطة الفدرالية لا تملك مثل هذه الأسلحة. ميليشيا ولاية مونتانا: لأن ولاية مونتانا في أقصى شمال الولايات المتحدة (تجاور كندا)، فأن الميليشيا تريد فصلها لتكون دولة بيضاء، حيث ان عدد كبير من قادة هذه الميليشيا مشهورون بآرائهم العنصرية والإرهابية. وهذه الميليشيا تطبع مجلات وجرائد تتحدث عن عظمة الجنس الآري ... إلخ. ومن أشرطة الفيديو التى تنتجها شريط عنوانه: (إرهاب كلينتون ورينو)، في إشارة إلى وزيرة العدل الأمريكية ودورها في القضاء على الجماعة الدينية المتطرفة، في ولاية تكساس خلال عهد كلينتون. ميليشيا ولاية أريزونا: حديثة وصغيرة الحجم بالمقارنة مع غيرها، ومن قادتها (ديفيد أبسي) الكابتن الثوري، و (جارى هانت) الثوري الأول، وهما يريان أن على الأمريكيين إعلان ثورة جديدة مثل التي أعلنوها ضد الاستعمار البريطاني قبل أكثر من مائتي سنة، ثم إعادة تأسيس الولايات المتحدة. ولأن هذه الميليشيا جديدة فإن أسلحتها فردية وهي عبارة عن أسلحة أعضائها (الواحد منهم يملك مجموعة من المسدسات والقنابل). تقوم هذه المليشيا عادة بنشر إعلانات في الصحف الأمريكية، تدعو المواطنين للانضمام إليها، واسمها الرسمي هو (منظمة أبناء الحرية)، وأحد

منظمات إرهابية أمريكية

إعلاناتها يقول: "يجب ألا نسمح للحكومة بإدارة شئوننا وحياتنا، يجب أن نعود إلى أيام الثورة الأمريكية الأولى، نحن ثوريون أمريكيون". ومن أهدافها فصل ولاية أريزونا عن الولايات المتحدة. وفي إعلانات اجتماعاتها تدعو الميليشيا المواطنين حسب الطريقة التالية: (تعالوا مع أسلحتكم وأصدقائكم). ميليشيا ولاية نيو هامبشير: تستفيد هذه الميليشيا من قانون في الولاية، يسمح بتشكيل فرق عسكرية تطوعية لكل من يزيد عمره عن 18 سنة. وهدف القانون هو الاستفادة من هؤلاء في حالات الطوارئ وتحت إشراف حاكم الولاية، لكن الميليشيا تسلح نفسها بضمان أنها ستطيع أوامر الحكومة. وولاية نيو هامبشير من الولايات التي بدأت فيها الثورة الأمريكية ضد الاستعمار البريطاني، لهذا ترى الميليشيا نفسها استمرار لهذا التقليد، لكن عكس ميليشيات الولايات في الغرب والوسط، فإن هذه الميليشيا تعتمد على أسلحة فردية، وإستراتيجيتها العسكرية تقوم على حرب العصابات أكثر من مواجهة مباشرة مع القوات الحكومية. ميليشيا ولاية أوهايو: هذه الميليشيا صغيرة الحجم، لكن لها فروعاً في عدد مقاطعات الولاية، مثل مقاطعة بايك الريفية في جنوب الولاية. لكن حتى في مدينة كبيرة في الولاية، مثل سنسناتي يوجد فرع للميليشيا، ويجتمع أعضاؤها تحت اسم أبطال أوهايو، وأحيانًا يجتمعون في ولاية كليرمونت الريفية المجاورة لإجراء تمارينهم. كما يوجد في مقاطعة بايك الريفية عدد من المنظمات العنصرية مثل كوكلكس كلان والنازيين، وأصحاب الرؤوس المحلوقة، والمنظمات الدينية المتطرفة، حيث أن الانضمام إلى الميليشيا يسهل على هؤلاء الحصول على التدريب العسكري. منظمات إرهابية أمريكية بالاضافه إلى هذه المليشيات توجد في أمريكيا كثير من المنظمات الارهابية التى لها فروع في كثير من المدن والولايات نذكر منها: كوكاكس كلان (98 فرعا) ـ اللجنة الأمريكية الأولى (فرع واحد) ـ الحزب النازي الأمريكي (فرع واحد) ـ الشعب الآرى (18 فرعا) ـ الحزب الثورى الآري (فرع واحد) ـ المشروع الآرى (فرع واحد) ـ

من تكساس ظهرت منظمة الكوكلاكس كلان وجورج بوش

الأخوان (فرع واحد) ـ التحالف الأمريكي الأوربي (فرعان) ـ المنظمة الأمريكية الأوروبية (فرع واحد) ـ التحالف الوطني (10 فروع) ـ الحزب الألماني الوطني الاشتراكي (3 فروع) ـ الحزب الاشتراكي الوطني (فرعان) ـ حزب العمل الأبيض (فرعان) ـ الحزب الاشتراكي الأبيض (فرعان) ـ المجموعة النازية الألمانية (5 فروع) ـ النازيون الأمريكيون (فرع واحد) ـ محاربو الحرية البيضاء (فرع واحد) ـ المقاومة الآرية البيضاء (5 فروع) ـ المقاومة البيضاء (فرع واحد) ـ الجيش الثورى الأبيض (فرع واحد) ـ حزب أمريكا الأول (فرعان) ـ زمالة مسيحيي المستقبل (فرع واحد) ـ الجناح الآري (فرعان) ـ الإخوان الأمريكيون المتمردون (فرعان) ـ مؤيدو الإنجيل المسيحيون (فرعان) ـ عصبة الدفاع المسيحي (فرع واحد) ـ طلائع الوطنيين الاشتراكيين (3 فروع) ـ جيش المسيح في إسرائيل (فرع واحد) ـ كنيسة إسرائيل (فرعان) ـ جمعية عيسي المسيح (3 فروع) ـ جمعية للخالق (4 فروع) ـ الجمعية الدولية الانفصالية (3 فروع) ـ الميليشيا البيضاء (5 فروع) ـ الاتحاد القومي لتقدم البيض (9 فروع) ـ اتحاد حقوق البيض (فرع واحد) ـ اتحاد النساء البيضاوات (فرع واحد) ـ الجبهة العالمية للخطر الملون (فرعان) ـ تحالف الطلاب البيض (فرع واحد) ـ التحالف ضد الأجانب (فرعان) ـ جمعيات أصحاب الرؤوس المحلوقة (35 فرعا). من تكساس ظهرت منظمة الكوكلاكس كلان وجورج بوش (¬1) لا يسمع المرء اسم "تكساس" إلا ويقفز إلى ذهنه صورة راعي البقر المتوحش، الذي يضرب بقدميه الأبواب مقتحماً حقوق الآخرين، ومنتهكا القوانين بالبندقية والرشاش. فمنذ قيامها وهذه الولاية تعتبر المرادف الرئيس للقتل والعنف والإرهاب بأنواعه، وبالتالي كانت الجماعات الخارجة منها هي الأشهر، والأشد فعالية في هذا المجال. ولم تختلف الشخصيات التي أفرزتها كثيراًً عن جماعات الإرهاب من أبنائها، فهذه الولاية التي كانت الرحم الطبيعي لمنظمة " كوكلاكس كلان" الإرهابية، هي ذاتها الولاية التي قدمت جورج بوش على طبق من الموت للعالم. ¬

(¬1) من تكساس ظهرت منظمة الكوكلاكس كلان وجورج بوش- مجلة البديل- http://www.albadel.com/tariag/7/m2.html

تعتبر مشكلة الزنوج أكثر المشكلات حدة في المجتمع الأمريكي الذي يتفشى فيه داء العنصرية العضال، وباتت حالة الزنوج الاميركيين مغالطة كبرى يعتبر القضاء عليها ضرورة تاريخية، اقتصادية، سياسية واخلاقية ملحة. وعليه، فإن العنصرية هي المفهوم الأكثر ثباتاً وقدرة على الاستمرار من بين جميع المفاهيم الايديولوجية للامبريالية، والاعظم تغلغلاً في شتى مجالات الحياة في الولايات المتحدة الأميركية. ويعتبر الإرهاب الجماعي من أهم الوسائل لبلوغ هذه الغاية حيث يمكن أن تتبدل اشكاله تبعاً للموقف السياسي في البلاد، وتبعاً لتناسب القوى الطبقية والسياسية. ولابد لممارسة هذا الإرهاب من منظمة متخفية لا يلقي نشاطها ظلاً على المؤسسات الحكومية والسياسية الرئيسية في البلاد، كما لا تسيء إلى الأسس الاقتصادية ـ الاجتماعية للديمقراطية البورجوازية. ولعل كو ـ كلوكس ـ كلان أو (ك ك ك) هي المنظمة التي توافرت فيها هذه الشروط خلال ما يزيد على مائة عام من وجودها، وربما كانت فاعليتها كسلاح للارهاب الموجه ضد الزنوج هو السبب في أن هذه المنظمة المشؤومة قد تجاوزت الحقبة التي ظهرت فيها، واستمرت في البقاء حتى ايامنا الحاضرة؛ على أمل أن تتحول إلى نموذج لنمط الحياة الأمريكي. ولهذا تلعب كو ـ كلوكس ـ كلان الدور الأكثر نشاطاً وتأثيراً بين جماعات اليمين المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية التأسيس: و"كو ـ كلوكس ـ كلان هي المنظمة البروتستانتية المسيحية البيضاء والأمريكية الخالصة الوحيدة التي يرفع أعضاؤها شعاراً مفاده: " الكلانيون ـ انقى واكمل الناس على الأرض وقسمها هو منع تحقيق المساواة لذوي البشرة السوداء". وأول ظهور أو تشكل للكلان كان في عام 1866. حيث تأسست من قبل المحاربين القدامي في الجيش الكونفدرالي و كانت مهمة هذه المنظمة مقاومة إعاد التأسيس و معارضة تحرير العبيد التي حدثت عقب الحرب الأهلية الأمريكية. وسرعان ما طورت هذه المنظمة أساليب عمل عنيفة. عندئذ كانت ممارسات الكلان عذرا لحلفاء الجنوبيين لمتابعة القوات الفيدرالية فعالياتها في الجنوب. انحسرت منظمة الكلان

ويليام جوزيف سيمون مؤسس جماعة الكلان الثانية عام 1915

بين عامي 1868 و 1870 و تم تدميرها بالكامل في بدايات السبعينات من القرن التاسع عشر على يد الرئيس أوليسيس غرانت في عملية الحقوق المدنية لعام 1871 (تعرف أيضا بعملية كو كلوكس كلان) (¬1). ويليام جوزيف سيمون مؤسس جماعة الكلان الثانية عام 1915 الظهور الثاني لكلان كان في عام 1915 عن طريق جماعة تبنت نفس الاسم، حيث أعلن عن تأسيس هذه الجماعة في ولاية جورجيا الأميركية بوصفها "جمعية أخوية اجتماعية خيرية وطنية في 28 أكتوبر (تشرين الأول) من العام 1915. وقد جاء أول ظهور علني للمنظمة يوم عرض فيلم "ميلاد أمة" The Birth of a Nation في اطلنطا، وتتركز الفكرة الرئيسية للفيلم على إظهار "الطبيعية الحيوانية للزنجي"، و"النبل" الذي تتحلى به عناصر كو ـ كلوكس ـ كلان، والبرهان على ان تحرير الزنوج كان مأساة، وذلك ان حرمانهم من حق الانتخاب واستعبادهم ومعاملتهم بالعنف ـ هي أمور نابعة من "طبيعة الافريقي". كانت الجماعة الثانية من (ك. ك. ك) منظمة رسمية تتألف من عضوية رسمية ذات بنية قومية، مما دفع الكثير من الرجال لتأسيس فروع محلية في كافة أرجاء الولايات المتحدة. فبعد وقت قصير ظهرت كو ـ كلوكس ـ كلان في الولايات المجاورة لجورجيا مثل الآباما وفلوريدا. وتشير إلى ان عدد أعضاء "الإمبراطورية الخفية" قد بلغ في عام 1916. 100ألف عضوا تم تجنيدهم من الضباط والجنود السابقين في جيش المتمردين. كانت "الإمبراطورية الخفية" تؤكد باستمرار ولاءها "للقانون والنظام" مما أدى إلى اقتناع قسم كبير من الأمريكيين بأن ك ك ك هي فعلاً منظمة أمريكية سياسية دينية اخلاقية رفيعة المستوى، وأن الانتساب إليها شرف لكل إنسان ما دام "الهدف الوحيد لكلان هو خدمة الوطن وإنقاذه" (¬2). ¬

(¬1) l تاريخ الإرهاب الأمريكي- ر. ف. إيفانوف ـ أي. ف. ليسينفسكي- الكوكلاكس كلان - ترجمة غسان رسلان- دار الحوار ـ سورية ـ اللاذقية ـ الطبعة الأولى 1983 (¬2) l تاريخ الإرهاب الأمريكي- ر. ف. إيفانوف ـ أي. ف. ليسينفسكي- الكوكلاكس كلان - ترجمة غسان رسلان- دار الحوار ـ سورية ـ اللاذقية ـ الطبعة الأولى 1983

لذلك دخل في صفوفها الكثيرون طمعاً في رفع اعتبارهم الاجتماعي بالنظر إلى أن "العضوية فيها أصبحت رمزاً اجتماعياً من نوع خاص. . ولهذه الغاية وسعت ك ك ك نشاطها الخيري مما اضفى عليها، وهي المنظمة الرجعية "مسحة الوقار" ولكنها كانت في الحقيقة تمثل مبادىء عنصرية بيضاء ضد الزنوج وتنفذ أهدافها بطرق سرية. فقد صرح غوفارد مدير "مكتب المحررين" في إحدى وسائل الإعلام الأمريكية الشهيرة انه تم تسجيل 100 ألف عملية إرهابية في كارولينا الشمالية وحدها خلال عام واحد. وكانت تتم بالدرجة الأولى تصفية أبناء الزنوج الأكثر تطوراً ووعياً واستقلالية، وأضاف: "كانوا يكرهون الزنوج، ويخشون وعيهم ومواهبهم". واستهدفت ك ك ك في ارهابها ضباط وجنود القوات الفدرالية المرابطة في الجنوب، والزنوج منهم بشكل خاص لأنها رأت فيهم حملة أفكار وتطلعات ثورية تهدد الأوليغارشية الزراعية عدوة الثورة. ولم توفر الشماليين المؤيدين للافكار الراديكالية. ولذلك كان نشطاء هذه المنظمة يهاجمون بلا رحمة كل من رأت فيه مواهب وقدرات غير عادية، من مختلف القطاعات وقد بلغ عدد ضحايا رجال كلان الملايين. وقد أعلنها صراحة ر. هـ. سوير، أحد محاضري كلان، بعد ذلك حين قال: "الزنجي مريض بجرثومة الجنون التي تتجلى في مطالبته بالمساواة الاجتماعية والعرقية .. ان عليه، وسوف يكون، ان يوضع تحت المراقبة .. " وفي عام 1918 وحده أعدم 70 زنجيا حيث استغل الكلانيون موجة العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الأولى بنجاح. وفي العام الذي يليه اشتدت حدة المشكلة العنصرية حيث شهدت البلاد 26 عصياناً جماعياً قام بها العنصريون (حوكم خلالها 77 من السود امام محكمة لينتش). بلغت هذه المنظمة الذروة في العشرينات من القرن العشرين حيث ضمت حوالي 15% من التعداد الرسمي للسكان في الولايات المتحدة. [1] ففي عام 1919 أيضاً نظم الكلانيون حملة قمع جماهيري ضد الزنوج والفلاحين الفقراء منهم في فيليبس (مقاطعة آركانساس) وخلال 1919 ـ 1922 اعدم دون محاكمة 239 زنجياً. كان الكلانيون في بيولاسكي يلبسون الاقنعة البيضاء ذات الثقوب للعينين والانف،

وقبعات عالية خيطت بحيث تطيل قامة الذين يرتدونها، ورداءاً يخفي اشكالهم. وتُوجت هذه التجهيزات بصفارة يحملها الكلانيون لتبادل الاشارات، وقد أعد لذلك قواعد خاصة ليصبح تخويف السكان السود الذين يؤمنون بالخرافات الشغل الشاغل لدى "مهرجي" مدينة بيولاسكي؛ نظراً لأن الزنوج الذين اعتقوا قد اعتقدوا في البداية أن هؤلاء هم أرواح الكونفدراليين الذين قتلوا. وقد روى حاكم فلوريدا فلمنغ ان الكلانيين قتلوا أحد الزنوج ورموا جثته في مرجل خاص لتحضير السكر؛ وبعد ذلك جمع الجراح هيكله العظمي حيث علق على مفترق الشوارع لتخويف السكان. إلى أن أصبح العنف في الجنوب امراً مألوفاً جداً حتى أنه لم يعد يثير الاهتمام إلاّ في بعض مظاهره الأكثر فظاعة، ووحشية. لقد كانت سادية اعداء الثورة نتيجة حتمية لبربرية ملاك العبيد. ورغم كل شيء تملك الذعر الجنوب أمام هذه القوة الغاشمة. وفي كثير من الحالات كان يكفي تهديد أولئك الذين لا ترضى عنهم "الإمبراطورية الخفية" كي يهاجروا من المنطقة التي يعيشون فيها. إلا أنه وبعد مضي وقت أخذت شرطة الزنوج تطلق النار على رجال كلان وتقتلهم مثل البشر العاديين، وتلاشي الخوف من أولئك الذين كانوا يمثلون "قوى خارقة". لقد كانت المنظمة الثانية للكلان تعتنق أفكارا عنصرية و معادية للسامية و معادية للكاثوليكية إضافة للشعور القومي و معظم هذه الجماعات قامت باعمال تندرج ضمن العقاب اللينشي lynching و غيرها من العمال العنيفة وشعبية هذه الحركة انخفظت بشكل كبير خلال فترة الكساد الكبير Great Depression ثم انخفضت أعداد العضاء أكثر خلال الحرب العالمية الثانية نتيجة فضائح نتجت عن جرائم الأقادة البارزين و دعمهم للنازيين. النشاط السياسي أدى الإرهاب الشامل إلى اعطاء كلان قوة هائلة لا حدود لها في الجنوب، الأمر الذي ترك أثره داخل الحزب الديمقراطي، مما جعل علاقته مع كو ـ كلوكس ـ كلان شديدة الترابط وأكثر من وثيقة، ولم تقتصر هذه العلاقة على التطابق التام في

الجذور الفكرية للجماعات المتطرفة

الأفكار؛ بل تعدته إلى وحدة تنظيمية وثيقة بينهما .. فكان الحزب الديمقراطي يبادر في الحال إلى حل الشرطة الزنجية فور استلامه السلطة في أي من الولايات التي يعاد بناؤها. "من ناحية أخرى انتشر عدد الكلانيين في صفوف الجيش الأمريكي وكان هؤلاء الضباط يمثلون في اغلبيتهم الساحقة الاوساط الأكثر عدوانية ورجعية في الصفوة التي تحكم البلاد وقد طرحت "كلان" الجنرال ج. براون المعروف بعنصريته، مرشحاً لها لمنصب الرئاسة في عام 1976. وعلى صعيد النشاط الإعلامي فإن كلان فرضت فاعليتها في هذا المجال فهي تُصدر صحفها ومجلاتها الخاصة، وتشارك في برامج الإذاعة والتلفزيون، والمناقشات والندوات في الكليات والجامعات، وتنظم معارضة خاصة بها، وتدعو الكلانيين إلى اجتماعات يرافقها احياناً مراسم احراق الصليب التي يدعى إليها الغرباء أيضاً. كذلك شاركت كلان بنشاط كبير في فترة الانتخابات الفدرالية. وقد قدمت إليها الاحتكارات النفطية دعماً مالياً كبيراً في عام 1922، ففي إحدى الدورات رصد أحدهم مبلغ 100 ألف دولار لدعم مرشحي كلان لمنصب السناتور في الحملة الانتخابية في تكساس. وفي عام 1924 خصصت ك ك ك 500 ألف دولار من أجل إعادة انتخاب صنيعتها هاريس نائباً عن جورجيا. "كلان" مازالت تتغلغل في أوصال المجتمع الأمريكي، وهي فاعلة ومتنفذة، وفي موقع القرار من الحكم، وقد باءت حتى الآن كل الجهود الرامية إلى تحجيمها، فلقد بيّن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية ان العنصرية أكثر المفاهيم الايديولوجية الامبريالية ثباتاً واستمرارية وهي تدمغ كل أزمنة المجتمع الأمريكي (¬1). الجذور الفكرية للجماعات المتطرفة رغم أن معظم أدبيات الميليشيات المتطرفة تُعد من قبيل الهلوسة المرضية المحضة والأفكار الشاذة، فإن المتابع عن قرب يستطيع تلمس عدد من الجذور لهذه الاتجاهات المتطرفة، والتي يمكن حصرها بالآتي: ¬

(¬1) من تكساس ظهرت منظمة الكوكلاكس كلان وجورج بوش- مجلة البديل- http://www.albadel.com/tariag/7/m2.html

الجذور الدينية يجب أن نلاحظ أن المعتقدات الدينية البروتستانتية المستمدة من العقيدة اليهودية هي المصدر الأساسي لكل الدعوات العنصرية والتفوق العرقي في الغرب، ويعود ذلك إلى أثر التوراة على الفكر البروتستانتي، الذي استقى فكرة شعب الله المختار اليهودية، وتقمصها منذ البدايات الأولى لانتشار البروتستانتية في أوروبا، ومن تم انتقالها مع البوريتانيون إلى أمريكيا. وقد ساعد على ترسيخ هذه النظرة العنصرية لدى البروتستانت تشابه تجاربهم أثناء غزوهم للعالم الجديد بما ورد بالتوراة عند خروج بنى إسرائيل من مصر ومحاولة غزوهم لفلسطين في العصور القديمة. ولهذا تقمس البروتستانت القيم اليهودية العنصرية بحذافيرها، وحاولوا إعادة إخراج المشهد التوراتي بحذافيره، ويكفى أن نتأمل مشاهد القتل والحقد الواردة في التوراة بما قام به الانجلوسكسون في أمريكا من إبادة جماعية للهنود الحمر. وحتى النازية تسمتد فكرها من التوراة، ولكنها استبدلت الألمان بدل اليهود باعتبارهم الشعب المختار أو العرق النقي، فعندما "سئل هتلر عن سبب معاداته لليهود، كانت إجابته قصيرة بقدر ما كانت قاسية: لا يمكن أن يكون هناك شعبان مختاران. ونحن وحدنا شعب الإله المختار" (¬1). يضاف إلى ذلك ان بعض الكتاب والمحللين اتجه إلى الربط بين اليمين الثوري الجديد، وبين إحدى الحركات الدينية البروتستانتية التي تعتقد أن البريطانيين هم سلالة القبائل الإسرائيلية العشر المفقودة، وإنه بالإضافة إلى تعاطف اليمين الأمريكي المتطرف مع النازية وإيمانه العميق بتفوق العنصر الأبيض أو الآري، فإن أفراده ملتزمون بموقف ديني متميز يدخل في إطار عام يسمى الهوية المسيحية، لكن هؤلاء الأفراد غير منظمين في طائفة دينية محددة، وليس لديهم كتب يمكن الرجوع إليها للتعرف على تعاليمهم، ولكن الاتجاه العام لهذه الجماعة يتمثل في ¬

(¬1) الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ - عبد الوهاب المسرى ص132 - دار الشروق - ط1 1997. راجع في هذا المجال أيضا كتاب (الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني) - تأليف الأب مايكل بزير ـ ترجمة احمد الجمل و زياد منى

كراهية الأجانب والعمل على التخلص من المؤسسات السياسية الأمريكية القائمة (¬1). كما أن المتابع لأدبيات الحركة الأصولية المسيحية التي انبثقت عنها مثل هذه المليشيات، يلاحظ مدى تقديسها للمادة والعنف وتأليه القوة وفصل الروح عن الطبيعة والشخصية عن الأنا الإنسانية الحقه، حيث أفرزت هذه الاتجاهات المتهودة ثقافة شعبيه تعتبر (العنف فضيلة)، حتى بات الدين المسيحي يفسر لديها ويقدم وكأنه يعظم العنف ويقدسه، وتحولت المسيحية على أيدي هؤلاء إلى تاريخ للحروب تحت شعار (لاهوت العنف الشرعي)، وقد أتاح هذا اللاهوت لهؤلاء أن يعلنوا، أن الله يقف إلى جانبهم، وان الحروب التي خاضتها أمريكا داخلياً وخارجياً هي حرب عادلة وتلبية للإرادة الإلهية، هذا في الوقت الذي يتمحور فيه الإنجيل بكليته حول اللاعنف والمسامحة والمسالمة، فمسخوا حلم المسيحية ألحقه بمصالحة الإنسان مع نفسه ومع الآخرين ومع الطبيعة والنفس مع العقل. وهكذا تدهورت في ظل هذه الاتجاهات المتهوده القيم الأخلاقية الدينية إلى درجة القول انك تقتل عدوك بمحبة. أنها اتجاهات مشوهة ومغشوشة وخطره وقد آن أوان كشفها وإحباطها (¬2). وفي دراسة قام بها كريستوفر اليسون و (مارك ميوزيك) (من علماء الاجتماع) نشرت سنة 1993م، لخصا المبادئ الأساسية للعقيدة الأصولية في أربعة مبادئ: 1ـ الكتاب المقدس وحده هاد ومرشد كاف، وبه حلول جميع مشكلات الحياة، ويجب أن يؤخذ بحرفيته لا بتأويلاته. 2ـ الإله شخص هرمي التنزل .. فعال في حياة الناس .. إليه المآب وهو القاضي يوم الحساب. 3ـ الخطيئة البشرية كلية الوجود. 4ـ الخلاص الشخصي هو المخرج الوحيد من اللعنة الأبدية، على يدي الرب العادل المنتقم. ¬

(¬1) أمريكيا - أزمة ضميرـ محمد جلال عناية ص105 - ط1 2002 (¬2) الصهيونية المسيحية .. أصولها ونشأتها د. يوسف الحسن - جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3 م عدد 8672

ويلف هذه المبادئ اعتقاد جازم، بأن نهاية الكون قد أزفت، وان هذه النهاية سيسبقها تجمع اليهود في الأرض المقدسة، وأن معركة كبرى ستقع في موضع بهذه الأرض يسمى (هرمجيدون) بين قوى الخير وقوى الشر، سينتصر فيها المسيحيون الأتقياء وتتم إبادة الكفار الأشرار، ثم ينزل المسيح ليحكم العالم من القدس عصراً ذهبياً، قوامه العدل والسلام يستمر ألف عام. وهناك ما يشبه الإجماع بين كثرة من علماء النفس الاجتماعي والسياسي، أن الأصولية الدينية وامتداداتها في السياسة الأمريكية متمثلة في اليمين المتطرف ترجع في جذورها العميقة إلي أسلوب التنشئة القائم على العقوبات البدنية القاسية، والى العنف وسوء المعاملة التي يتلقاها الأطفال في سنوات العمر الأولى في حياتهم. في هذا المجال يلعب الآباء غير الأسوياء أخطر دور في تشكيل شخصية هؤلاء الأطفال، ولكن التوجيه الديني الأصولي يوفر خلفية ثقافية تستند إليها قيم التنشئة، ونماذج السلوك السائد في تنشئة الأطفال. فالأصوليين البروتستانت عموماً يعتقدون أن ضرب الأطفال ضرورة لازمة لإنقاذ أرواحهم من عذاب جهنم (¬1). ومما يؤكد الجذور الدينية لهذه المليشيات، هو أن كثيراً من قادتها هم من رجال الدين المتعصبين، مثل القس (نورمان أولسون)، الذي يترأس أحد جيوش مليشيا ولاية ميتشيجان، كما أننا إذا استعرضتا أسماء هذه المنظمات لطالعنا: (مؤيدو الإنجيل)، (جيش المسيح في إسرائيل)، (كنيسة إسرائيل)، (جمعية عيسى المسيح)، (جمعية الخالق)، (عصبة الدفاع المسيحي)، (زمالة مسيحيي المستقبل) .. الخ. وهذه الأبعاد الدينية في منتهى الخطورة على من يحمل هذه الأفكار المريضة، لأنها تدفعه إلى عمل أي شيء، ظنًا منه أنه على صواب، وأنه ذاهب إلى الخلد. وأهم الميليشيات التي تعتمد على العنصر الديني ميليشيا فرجينيا، التي ينتمي أغلب أعضائها إلى منظمات مسيحية متطرفة، وبعض الوجوه المشهورة دينيًا أعضاء أساسيين في هذه الميليشيا. ¬

(¬1) جماعة أصولية تسيطر على السياسة الأمريكية / محمد يوسف عدس جريدة الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695

الجذور الاجتماعية ثمة بعداً اجتماعياً لا بد أن يُشار إليه في هذا السياق، وهو يتجلى في ملامح كثيرة أبرزها النظرة إلى (الآخر) بازدراء واحتقار، والرغبة في إبادته (¬1)؛ فالفكرة الأساسية التي تدعمها هذه الميليشيات بهدف اجتذاب أعضاء لها، هي أن الحكومة ستشن حرباً على الأمريكيين البيض، خصوصاً (الأنجلوساكسون)، الذين يسمون أنفسهم (المسيحيين الحقيقيين)، ويدّعون أن هذه الحرب ستكون لصالح الزنوج والأقليات والمهاجرين والروس والصينيين ... بل ويتمادون في تخيل أن "الحكومة تبيع البلاد لسلطة عالمية تنفذ مؤامرة، هدفها تدمير الرجل الأبيض". ولهذا أخذت هذه المليشيات على عاتقها مهمة الدفاع عن أمريكيا، لأنها تزعم أنها أكثر حرصاً على أمريكا من الحكومة نفسها، التي يرون أنها عميلة خائنة حتى النخاع .. تستحق ما يحدث لها، لأنها تصل في خيانتها إلى حد (إعلان الحرب على الأمريكيين). كما أن وجهاً آخر من وجوه الدور الاجتماعي لنشأة هذه التيارات، أنها تلجأ ـ أو هكذا تستشعر حقيقةـ إلى تخويف الأمريكان على مستقبلهم وأولادهم ... "إنكم أيها الأمريكيون لا تسيطرون على حياتكم وأطفالكم وبيوتكم، فالحكومة تسحقكم، وتُحكِم سيطرتها على كل شيء ... استعدوا للدفاع عن حريتكم، فيوم قريب سيأتي سيكون الرصاص في نفاسة الذهب والفضة" (¬2). وفي سبيل تكريس هذا التصور يعمد كثير من أعضاء هذه الميليشيات إلى الانعزال عن المجتمع، وتكوين مجتمعات صغيرة منعزلة في الضواحي والقرى، وداخل أماكن مغلقة يتناوبون الحراسة عليها، وتضم زوجاتهم وأولادهم، الذين تصدر لهم أوامر واضحة بمقاطعة برامج التليفزيون، لأنه يمثل رمزاً للمجتمع الأمريكي البغيض ... فجيمس جريتز يعيش وسط ولاية إيداهو مع مجموعة من ¬

(¬1) هذه النظرة إلى الآخر ليست قاصرة على هذه المنظمات الإرهابية، بل إنها جزء أساسي من الثقافة الأمريكية، التي تقوم على القتل والإرهاب واحتقار الآخر وعدم احترام القانون مادام لا يحقق المصالح الأمريكية. (¬2) تستخدم الإدارة الأمريكية الحالية نفس الخطاب الغوغائي لإقناع الأمريكيين بالخطر الذي يهددهم من دول مثل العراق وإيران وكوريا وسوريا .. الخ أو ما أطلق عليه الرئيس بوش "محور الشر" وأيضاً من بعض المنظمات الإسلامية، وذلك لتبرير رغبتهم في الحرب والابادة.

المسلحين، ويحكمون هذه المدينة ويحرسونها، وهو يقول: "إننا مستعدون تماماً للشرطة الفيدرالية إذا احتكَّت بنا". وفي هذا الصدد نشير إلى الجماعة المتطرفة التابعة (لتكساس) التي صدرت أوامر وزيرة العدل الأمريكية (رينو) عام 1993م بنزع أسلحتها، ورفضت الجماعة الإذعان، وقرروا الانتحار الجماعي بدلاً من الإذعان للفيدراليين، ولم يُضِع جنود الميليشيات هذه الفرصة هباءً، لكنهم نشروا شريط الانتحار بعنوان (إرهاب كلينتون ورينو)، بل وشنوا عليها حملة إعلامية واسعة النطاق، ادعوا فيها أن (رينو) شاذة جنسية، ولها علاقات مشينة متعددة مما أثر على مستقبلها السياسي. الجذور الاقتصادية يرى البعض أن تطبيق (ريجان) لسياسات (مالتون فريدمان) الاقتصادية كان أحد أسباب انتشار هذه الأفكار نظرًا لأن أفكار (مالتون) كانت تركز على إطلاق العنان لقوى السوق وتخفيض الضرائب على الأغنياء، وهو ما أدى لتركز الثورة في أيدي القلة، ففي نهاية الثمانينيات أصبح دخل 5% من الأمريكان يفوق دخل 40% من الشعب، وأصبحت ثروة 1% تفوق ثروة 90% من الأمريكان، وهو ما أدى لثورة هذه القطاعات، وتولد أحقادها على الحكومة الفيدرالية، فهذه الميليشيات ترى أن على الحكومة أن تكف عن فرض الضرائب؛ لأنها (سرقة للمواطن)، وأن الفيدراليين يحاولون حرمانه من الأمن بوضع قيود على السلاح، تمهيداً لإذلاله ونهبه وتجريده من قوته. ولا يسفر هذا النموذج من الرأسمالية ذات القيم المادية عن شيء إلاّ الجريمة، والجريمة المنظمة، وما شاكلهما. وقد أوردت شركة الإذاعة الوطنية NBC عام 1997م في تقرير لها عن مدينة لوس أنجيلوس، ما يفيد أن أغلبية ال 150 ألفا من أعضاء العصابات المسلحة من المراهقين. ويلقي حوالي 9000 شخصاً سنويا حتفهم علي أيدي تلك العصابات، منهم 25 في المئة من المارّة الأبرياء. وفي ثقافة المادة والنمو الاقتصادي والرغبات المباحة، يغذي هؤلاء المراهقين بالثقافة، التي تشجعهم على العنف وتحرضهم علي الجريمة لأنها تجارة مربحة، فالمال في النظام الانكلوـ ساكسوني الرأسمالي هو المقياس النهائي للنجاح. وقد باعت شركة إنتر ـ سكوب

ريكوردز)، التي تتخذ من لوس أنجيلوس مقراً لها والمملوكة جزئياً لشركة سيغرام أكثر من مليون نسخة من ألبوم لفرقة الروك أند رول الشيطانية، الذي يحمل عنوان "نجم المسيح المزيف". وتستمد (مارلين مانسون) صاحبة الألبوم اسمها من المغني الرئيس فيها الذي يتكون اسمه من مقطعين هما (مارلين) و (مانسون)، حيث المقطع الأول يشير إلي (مارلين مونرو) التي أنهت حياتها بالانتحار، بينما يشير الثاني إلى (تشارلز مانسون) السفاح الذي عرف بارتكاب جرائم جماعية. وتقوم كلمات الأغاني في الألبوم علي الجريمة والانتحار واليأس، كما أن كثيراً منها لا يمكن طباعته (¬1). أما الجانب السياسي والعسكري، فيأتي هو الآخر في قائمة الأسباب التي أدت لتكون هذه الميليشيات، إذا أخذنا في الاعتبار أن نسبة لا بأس بها من قادتها، ممن لهم مواقف معينة من سياسات أمريكا، خاصة فيما يخص تدخل جيشها في العالم الخارجي، سواء في فيتنام أم العراق وكوسوفا، ومن أشهر هؤلاء كولونيل جيمس جريتز، وهو من فرقة (القبعات الخضراء)، التي اشتركت في فيتنام، وأعمق من ذلك أنهم يجدون لأنفسهم عمقاً تاريخياً؛ فهم يرون أنهم امتداد للمنظمات المسلحة، التي حاربت الاستعمار البريطاني منذ 200 عام تقريبًا، وقاتلت الهنود الحمر حتى توسعت أمريكا إلى المحيط الهادي. والأخطر من هذه وتلك أن يجدوا سياسيين يلتقون معهم في أفكارهم المتطرفة؛ (فنيوت جينجرتش)، الذي يوصف بـ (الجمهوري المتطرف) يقول في أحد برامجه الانتخابية - وذلك في تصريح للتايم: إن واشنطن مكان بشع ويجب أن يُنسف بالديناميت، وإننا نملك الثقاب ومستعدون لإشعال الفتيل ونسف الكونجرس!!!. ولا يتصور أن تنبت هذه الأفكار المهووسة من فراغ، لكنها تحتاج إلى تربة خصبة ـربما يكون (جينجرتش) أحد النبت الزاهر فيهاـ، لكن الأكيد أنه ليس إلا نبتاً خبيثاً. ولكن من هذه التربة نستطيع قياس مدى اشتعال قلبها بالأفكار المجنونة إذا علمنا أن الـ (سي إن إن) والتايم قد نظمتا استطلاع رأي بعد 9 أيام من انفجار أوكلاهوما 1995م فكانت النتائج تعبر عن (البارانويا)، التي تنتشر بين نسبة كبيرة من الأمريكيين المشاركين في الاستطلاع، ففي حين أيَّد 36% فقط تفكيك ¬

(¬1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م

الميليشيات، فإن 21% وصفها بأنها وطنية تماماً، و30% بأنها حسنة النية، ودافع 27% عن حق الميليشيات في اقتناء السلاح وتخزينه. وقد تكتمل الصورة إذا علمنا أن كلينتون في حديث له مع التليفزيون الأمريكي في خضم الغضب، الذي ساد الشارع الأمريكي عقيب تفجيرات أوكلاهوما لم يجرؤ على إدانة هذه الميليشيات، وإنما أثبت حقهم في ارتداء أزياء عسكرية وتكوين ميليشيات وحمل السلاح، لكنه فقط طالب باستعطاف هذه الميليشيات ألا تتصدى للسلطات حين تطبق القانون!!. ورغم أن كلينتون نفسه كان قد أحس خطر هذه الأفكار حين كان حاكماً لولاية (أركنسو)، وحاول حظر تكوينها، إلا أنه وُوجه بمقاومة شديدة من المجلس التشريعي للولاية والأهالي فأعلن تراجعه. إذن الأمر ليس ميليشيات بعينها ولا فئات أو شراذم، لكنه يقترب من أن يكون تياراً أصيلاً داخل المجتمع الأمريكي يستشعر خطراً غامضاً، ويبحث عن عدو، ويحاول أن ينطح الصخور، فيُدمي قرنه الوعل!. وقد عرض (روجيه جارودى) في كتابه (أمريكيا طليعة الانحطاط) لموعظة ساخرة اقترحها كتاب (مليفان) حول (تكلفة التنمية) سماها (موعظة طاحونة الشيطان) حاول خلالها توضيح العلاقة بين تطور الاقتصاد، وتطور الإنسان في ظل النظام الأمريكي، والذي افرز ما يمكن أن نسميه ثقافة العنف. فالعنف في المجتمع الأمريكي يفوق مثيله في المجتمعات الأخرى, فوفقا للإحصائيات الأخيرة فقد كان هناك أكثر من مئتي مليون قطعة سلاح موزعة بين أيدي المدنيين في الولايات المتحدة أي ما يوازي قطعة سلاح لكل مواطن أمريكي وقد فاق عدد متاجر بيع الأسلحة المئة ألف, كل هذا وغيره من الأدلة التي ساقها الكاتب تدل من وجهة نظره على مدى النزعة العنفية لدى الأميركيين (¬1). وفي سياق تناوله بدأ الكاتب استعراض الموضوع منذ نشأة الولايات المتحدة الأمريكية وأول أبناء العم سام "كريستوفر كولومبس" والذي بمجرد أن وطأت قدماه أرض الهنود الحمر - والتي عرفت بأمريكا فيما بعد - أخذ يكتب في مذكراته عن مدى تخلف هؤلاء القوم وعدم معرفتهم بأي نوع للأسلحة سوى العصي والحراب, ثم ¬

(¬1) حضارة الدم وحصادها .. فصول من تاريخ الإرهاب الأمريكي- د. نزار بشير - الزهراء للإعلام العربي - القاهرة - طبعة أولى - 2003 - العرب اليوم 2005 - 11 - 19

موعظة طاحونة الشيطان

كتب كولومبس"أستطيع أن استولي على كل هذه الأراضي بخمسين فقط من رجالي وأن أحكمها كيفما أشاء". ولم يفت كولومبس أيضا أن يصف مدى الكرم الذي لاقاه من جانب هؤلاء القوم الذين لم يضنوا عليه وعلى من معه بأي شيء من المتاع الذي كانوا يملكونه. ولكن كيف يرد كولومبس لهم المعروف? أخذ يقتل ويعذب فيهم هو ومن معه بغية إبادتهم والاستيلاء على أرضهم (¬1). موعظة طاحونة الشيطان في أحد البلاد "المتقدمة جداً" سارت الحكومة في اتجاه اليمين، وتمشياً مع الحرية الشخصية، سمح للأفراد بحق حمل السلاح، وشهدت صناعة الأسلحة الخاصة رخاء غير مسبوق، وتنافس المنتجون في السوق الحرة بخيال وإعلانات هائلة تنشر وتوزع عدد غير معروف ولا نهاية له من المسدسات والمتروليوزات والبندقيات الآلي منها واليدوي، من الطراز الفاخر، حتى الطراز الشعبي، الذي يمكن أن يكون في متناول الجميع. ومن الأسلحة كاتمة الصوت، حتى الأسلحة المسماة بـ "الرادعة"، والتي يفضي الانفجار الذي تسببه إلى سحق المعتدي المحتمل دون تعيين هدف خاص. إن حرية الاختيار أمام المستهلك مؤمنة. وأصبحت السوق فعلياً غير محدودة، لأن العصبية التي تسببها ضغوط العمل، والزحام في المدينة ومعارضة " القيم المقدسة " عبر الإثارة الإباحية أو المادية، جعلت الرجال حتى المسالمين منهم ـ بل النساء ـ حتى الأقل جمالاً وغير المرغوب فيهن - جعلتهم كلهم يحملون على الأقل سلاحاً أو سلاحين ناريين، والعديد من الذخائر وفضلاً عن ذلك، وصل ارتفاع "مستوى المعيشة" إلى أعلى معدلاته بفضل التوسع الملازم لهذه الإثارة الاقتصادية. وسمحت لكل فرد بشراء العديد من الأسلحة. لقد مضى عصر الندرة والبؤس الآدمي. ¬

(¬1) حضارة الدم وحصادها .. فصول من تاريخ الإرهاب الأمريكي- د. نزار بشير - الزهراء للإعلام العربي - القاهرة - طبعة أولى - 2003 - العرب اليوم 2005 - 11 - 19

لقد ولدت صناعات جديدة، وهي تؤكد هذه الديناميكية الحيوية الرائدة، ومنها: صناعة السترات الواقية من الرصاص، الخوذ، أحذية ذات شبك معدني، أقنعة واقية من الغاز، هياكل سيارات مصفحة، زجاج مضاد للرصاص، وشراعات من الصلب للمنازل. "الطفرة" في صناعة الحديد، هي مؤشر صحة الاقتصاد القومي. لقد انفجرت روح المبادرة عند المعلنين عن الصناعات، وظهرت قيم الشركات الخاصة، دليلاً للفكر الثاقب للحكام. تلك الغبطة وهذا السرور اللذان أحدثهما هذا الرخاء أنهيا كل الأحزان. كما استقبلت كل فروع النشاط القومي نبضات منعشة: إنه العصر الذهبي لشركات التأمين وللعيادات الخاصة، والمعامل الدوائية التي تلبي ـ بالكاد ـ طلبات المهدئات التي لا تنتهي. إنها سوق مضمونة، فالعروض لا تنتهي للشباب حتى للخاملين فيهم، إذ لهم فرصة عظيمة بل مضمونة لإيجاد أعمال مربحة وبنزاهة، ولا تتطلب سوى معرفة سطحية لبعض الأشياء، ككيفية نقل الموتى أو جمع المصابين. يتم نقاش الميزانية، لهذا الاقتصاد المتنامي، حسب منطق "رد الفعل" الذي أخرج العلوم المستفيدة من "نتائج" التسليح الخاص غير المباشرة: فالاستهلاك العالي للحديد وما تنتجه المناجم، وجه الاقتصاد إلى البحث والاستكشاف في المواد المركبة الأشد صلابة والأكثر مقاومة، من أجل صناعة الدروع، مما أنتج تقدماً هائلاً في صناعة المقذوفات. وكما قال أحد أبرز خطبائنا البرلمانيين في هذه المناسبة: إن بوابة التقدم انفتحت إلى ما لا نهاية. كما استشرف الطب والطب النفسي والجراحة، آفاقاً عظيمة واستعراضية عبر شفائهم لأمراض مجهولة وجديدة: لقد عبروا بر الأمان بالدروع المحكمة، التي غيرت مفهوم التغيرات الفسيولوجية والسيكولوجية، وذلك التغيير الخاص بالسلاح، شجع على استكشافات في مناخ الاضطراب والعدوانية، مما سيؤثر في مستقبل علم النفس. يا له من تغيير في الثقافة، وبخاصة في العلوم الإنسانية، لقد انفتح علم الاجتماع الإيجابي أمام ذلك، لاستخدام وسائل وقواعد جديدة بلا نهاية، لأنها تلعب دوراً محركاً ورائداً في وصل العلوم المتعددة، ووسائل البحث المتباينة "المسدسية"، وعلماء الإحصاء أتقنوا تكنيك الحساب العاقل الرزين، كما استطاعوا أن يحسبوا تاريخ اليوم، الذي سيصل فيه حجم ووزن الأسلحة إلى التساوي مع حجم الأرض. لقد حسب أحد العلماء البارزين السابقين أنه في عام حدده بعد بضع سنين. لن تترك

زيادة السكان لأي فرد أكثر من متر مربع واحد في الكون. أما اليوم فقد اختلف الأمر تماماً، وانقلبت الآية، وظهر "قانون اللوغاريتمات" للإبادة، والذي سمح بالتنبؤ باليوم الذي سيكون في مجال النظر للرجل الأخير في العالم، قلب جاره، وسيتمكن من إطلاق الرصاص القاتل عليه. من هذا المنظور العلمي أصبحت "المستقبلية" الإيجابية للمسدساتية ملكة العلوم، وتمتاز بالشدة والصرامة والدقة، كالفيزياء أو علم الصوتيات اللغوية. "مؤسسة راند" ومنافسوها، ممن يمتازون بخبرة كبيرة في "نظريية الألعاب" الإستراتيجية، يلعبون دورهم الرائد كمستشارين وأنبياء لدى كبار مديري صناعة الموت. لقد توصل أحد باحثينا ـ وربما يكون أحد أعظم عباقرة قرننا هذا، لما يمتاز به من بعد نظر ـ إلى اقتراح جديد يغير أسلوب العمارة والإنماء، والفن بصفة عامة، لكي يتناغم مع عصر "المسدساتية": شوارع منحنية لتخفيض مرمى التراشق بالرصاص. ومن هنا قامت "الثورة" في عالم الأشكال، والتي نهضت على تلك الضرورة الأساسية. هكذا، بفضل الالتصاق الداخلي للنظام، الذي ميز كل الحضارات الكبرى في ذروتها، بزغت ثقافة مبدعة جديدة، كلاسيكية جديدة ستزدهر وذكرت الحكومة بزهو شرعي وبافتخار بالآفاق، كل مرة يتم فيها تقييم للتوسع، الذي شجعت عليه: معدل نمو أعلى من أي دولة أو بلد آخر، مصحوب بكل نتائجه: عملة قوية، والعمل للجميع، وميزان المدفوعات رائع بكل المقاييس ورابح، والغزو للأسواق الأخرى لا ينتهي من أجل تصدير السلاح، لأن الإشباع الداخلي لمنتجاتنا "المسدساتية" النارية جعلت أسعارنا منافسة للغاية. قد تضاعف الناتج القومي الصافي للفرد، في عشر سنوات. وتبرز كل المؤشرات صحة وقوة الاقتصاد وتوحده. لقد تم استكمال كل أحلام الاقتصاد والتنمية، ويمكننا بكل عدالة أن نطالب بحقنا في الهيمنة العالمية ليس فقط بفضل ثرائنا وقوتنا، ولكن بفضل حكمتنا (¬1). ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى - تقديم كامل زهيري- تعريب عمرو زهيري - ص 245ـ 249 - دار الشروق- ط3 2002

تيموتى مكفاي نموذجا!

تيموتى مكفاي نموذجاً! (¬1) "لا أخاف الموت فإن كانت هناك حياة بعد الموت فسأجد ما أقوله وأتأقلم وأتغلب على الأمر .. تماما كما علمتني العسكرية، وإن ذهبت إلى الجحيم فسيكون برفقتي الكثيرون" .. (تيموثي جيمس مكفاي). في 19 إبريل 1995م، وصباح يوم مشمس في مدينة أوكلاهوما بالولايات المتحدة الأمريكية، دخلت شاحنة صفراء إلى جراج المبنى الفيدرالي (ألفريد بي موراه). وفي تمام الساعة التاسعة صباحا غادر السائق الشاحنة، وفي التاسعة ودقيقتين انفجرت الشاحنة مفجّرة المبنى الفيدرالي معها. بعد الحادث توجهت الاتهامات المعلّنة للإرهابيين من المسلمين والعرب، واتجهت جهات البحث والتحقيق كلها في هذا الاتجاه، حيث كانت الهتافات من قبل السياسيين والمحللين والإعلام تعلو مطالبة بإخراج (السرطان) الإسلامي من أمريكا. وبينما كل ذلك يحدث كان هناك خط آخر من الحقيقة يتكون دون أن يدركه أحد، فبعد مضي حوالي ساعة ونصف من الانفجار، كان تيموثي مكفاي البالغ من العمر 27 عاماً يقود سيارته على بعد 75 ميلاً من الحادث، حين أوقفه شرطي لاحظ أن السيارة التي يستقلها ليس عليها لوحة أرقام معدنية، وعند سؤاله عن ذلك قال مكفاي: إن السيارة جديدة ولم ترخص، وسلّم رخصته الشخصية. عندها لاحظ الشرطي انتفاخاً بسترة مكفاي ففتشه ليجد معه مسدساً، فاقتاده إلى قسم الشرطة، وبعد التحري وجد أن ملف مكفاي نظيف تماماً، إلا أنهم أعلموه أن رخصة السلاح في نيويورك لا يعتد بها في أوكلاهوما. كان من المفترض أن ينتهي الأمر عند هذا الحد، إلا أن القاضي الذي كان من شأنه النظر في القضية كان مشغولاً في قضية طلاق شائكة لن ينتهي منها قبل 21 مايو، وهكذا دخل مكفاي السجن لأول مرة في حياته. كانت الأحداث تتوالى خارج سجن مكفاي؛ حيث تمكنت الشرطة من التعرف علي شركة التأجير صاحبة السيارة، وتوجه المسئولون من مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى شركة تأجير السيارات المذكورة، وبعد أخذ المواصفات وتمريرها على الفنادق الصغيرة تمكنوا من الوصول لمرتكب الحادث، وحين وصلت صورته وبياناته ¬

(¬1) لبنى سعيد: 27/ 9/2001 م موقع إسلام أون لاين

من هو مكفاي

إلى قسم الشرطة، تعرف عليه المسئولون، مفيدين أنه مسجون عندهم بالفعل لكن في تهم مختلفة!! من هو مكفاي ولد مكفاي في 23 إبريل 1968م، وكان الابن الأوسط بين ابنتين لأسرة مسيحية في بلدة بندلتون الريفية، في ولاية نيويورك. عمل والده (بيل) في معمل لأجهزة تبريد المحركات تابع لشركة (جنرال موتورز)، إلا أن (إيدي) الجد كان صاحب التأثير الأقوى على الطفل (تيموثي)، فهو من علّمه الصيد وعرّفه على البنادق، واشترى له أول بندقية عيار 0.22 عندما كان تيموثي في الثالثة عشرة من عمره. أما والدته (ميكي) فبعد تمزق بين العائلة ومتعتها الشخصية تركت البيت وهو في أوائل سن المراهقة، آخذة معها ابنتيها، بينما فضّل تيموثي البقاء مع أبيه وجده. وفي عام 1986م، تم الطلاق رسمياً بين أمه وأبيه، وكان هذا هو نفس عام تخرجه في المدرسة الثانوية بمرتبة الشرف، حيث أثبت مكفاي جدارة كبيرة في الدراسة، كما اكتسب تقدير المحيطين في الحي والمدرسة، حتى أن مُدرسة اللغة الأسبانية بمدرسته تقول: (لن تجد أحداً قط يذكره بسوء). بعد تخرجه في المدرسة عمل مكفاي بـ (برجر كينج)، وزاد اهتمامه بالبنادق والرشاشات والقوانين الخاصة بالتجارة فيها، إلا أنه تحت ضغط والده التحق بالجامعة، وما لبث أن تركها وعاد لعمله بعد أن أجبروه على دراسة الفنون الليبرالية (سينماـ مسرح ... )، وهو يدرس علوم الكمبيوتر. استمر مكفاي في التدريب على أسلحته الخاصة، واشترى قطعة أرض ليسكن بها ليتمكن من التدريب بحرية، وكان قد بدأ في قراءة المجلات، التي تصدرها الميليشيات اليمينية حين انضم إلى الجيش الأمريكي لتحسين قدراته على استخدام السلاح، ويقول زملاؤه في الجيش: إنه كان جنديا مثالياً، فبالإضافة إلى التهذيب العالي والفعالية تميز مكفاي بالاهتمام بتنظيف مسدساته وبنادقه كما تميز بالطاعة والشجاعة. وجاءت حرب الخليج عام 1991م وشارك فيها مكفاي، وكانت نقطة فاصلة بالنسبة له .. حيث تبادر إلى ذهنه العديد من التساؤلات، ففكر مكفاي في القوة التي

تتمتع بها الولايات المتحدة مقارنة بعامة الناس في بغداد وقتلها لهم بلا مبالاة، وجاءه الرد بأن حكومة بغداد ـ رغم أن الولايات المتحدة هي التي دعمتها في حربها ضد إيران ـ تمثل الآن (تهديداً للأمن)، وأن الضحايا من البشر هم (خسائر لا بد منها). وتحول حب مكفاي للرصاص إلى رغبة عارمة في القتال حتى جاءت عاصفة الصحراء عام 1992م، ونال مكفاي ميدالية المشاة والنجمة البرونزية لقتله قائد دبابة عراقية على بعد أكثر من 1.6 كيلومتر، ولبراعته في القتال. وبعد رجوعه إلى أمريكا حاول مكفاي أن يلتحق بما يعرف في الجيش الأمريكي بـ (القبعات الخضر)، وهي قوات خاصة داخل الجيش، إلا أنه لم يتمكن من اجتياز الاختبار الخاص بها بعدما أرهقته حرب الخليج. على أثر ذلك ترك مكفاي الجيش وداخله سخط ما عليه، وعمل بتجارة السلاح، وزاد اهتمامه بالميليشيات وكتبها، وكان كتابه المفضل رواية (يوميات تورنر) للكاتب النازي (ويليام بيرسن)، وهي تتحدث عن رجل أشعل ثورة في الولايات المتحدة وفجّر مبنى الـ (إف بي آي) في واشنطن، أما فيلمه المفضل فكان (الفجر الأحمر) الذي لعب بطولته (باتريك سوايزي) في عام 1984م، ويدور حول مجموعة شباب تحولوا إلى محاربين عندما غزا جيش أجنبي أمريكا. وفي عام 1993م حاصرت الشرطة الفيدرالية مركزاً لأتباع المذهب الداودي المسيحي الأصولي المتعاطف مع الميليشيات في بلدة (واكو) في تكساس، واشتعلت النار بعدما حاولت الشرطة تفريق المجتمعين من خلال إلقاء عدد كبير من قنابل الغاز المسيل للدموع، وهو ما أدى إلى موت 82 شخصاً، بينهم 21 ولداً، وكان مكفاي بين الناس الذين شاهدوا العملية من خارج الطوق الذي نصبته الشرطة، وشعر فيها بأنه يجب إشعار الحكومة بأن هناك حدوداً لاستغلال السلطة، وفي الذكرى الثانية للحادث في تكساس نفذ مكفاي عملية التفجير في أوكلاهوما، حيث أعرب (بروس هوفمان) ـ الخبير في قضايا الإرهاب ـ في الشهر ذاته أن انفجار أوكلاهوما كان من المفترض له أن يكون شرارة للثورة المرتقبة، لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث، لذلك يعمد المعادون للحكومة المركزية اليوم إلى الاكتفاء بعدم دفع الضرائب أو تسجيل المركبات ... بدل اللجوء إلى حمل السلاح.

التفجيرات

التفجيرات تفجرت شاحنة مكفاي داخل المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما، وكانت تحتوي على 2.2 طن من المتفجرات المصنوعة يدوياً، حيث استدعى خبراء الإرهاب ليحللوا أسباب ذلك الحادث المروع، وانطلقت الأسئلة في طول الولايات المتحدة وعرضها: من فعلها؟ وأخذت أصابع الاتهام تتجه بالإشارة إلى العرب والمسلمين في غيبة العقل والضمير، ودون دليل، وعاش الأمريكيون من أصول عربية ظروفاً عصيبة، ولكن سرعان ما أخرست الحقائق الاتهامات الباطلة والانفعالات الهوجاء التي حركها الحقد والتعصب الأعمى عندما ألقى القبض على جنديين سابقين شاركا في حرب الخليج. لقد أصيب الأمريكيون بصدمة شديدة عندما عرفوا أن الذي فعلها كان من الأمريكيين أنفسهم، وانطلقت أسئلتهم في ذهول: هل يعقل أن يستهدف الأمريكيون مواطنيهم الأمريكيين؟ ما الذي يدفع شخصاً ما لقتل العزل من الرجال والنساء والأطفال؟ لماذا يرتكبان هذه الجريمة النكراء بحق الإنسانية؟ وكانت الإجابات على هذه الأسئلة تخرج مضطربة فلقد كان أسهل على الأمريكيين استيعاب هذه الحادثة، والتعامل مع نتائجها لو أن الآخرين هم الذين فعلوها (¬1). أما ماذا فجرت الشاحنة فالكثير .. ونذكر منه: 1. المبنى الفيدرالي، وهو ما أسفر عن مقتل 168 شخصاً، بينهم 19 طفلاً كانوا في روضة أطفال داخل المبنى، إضافة إلى ما يزيد عن 500 جريح، هذا إلى جانب تفجير أحلام المئات من الأقارب والأصدقاء وآمالهم وتوليد حزن داخل قلوب الملايين. 2. براءة أمريكا، كما أشار الكاتب الأمريكي (تيد آوتلي)، موضحاً أن الجميع كان يبحث عن مجرم من خارج الحي ليكتشف أن المسئول عن الحادث ابن الجيران الذي يسكن في الجوار، وأنه بينما كان ينظر الجميع بريبه لذوي البشرة الملونة والشعر الداكن .. ظهر مكفاي ليجدوا أنه ليس سوى شخص يحمل ملامحهم، وهكذا فقدت أمريكا براءتها مع تفجيرات الشاحنة الصفراء، واكتشف الأمريكيون أن المتهم ـ الذي كانوا يبحثون عنه في الخارج، مرجّحين أن تكون ملامحه عربية ـ من بني ¬

(¬1) أمريكيا - أزمة ضميرـ محمد جلال عناية ص103

جلدتهم، وموجود، بينهم ويتحدث لغتهم، وله ملامحهم نفسها، ويلف نفسه بالعلم الأمريكي ويقدّس الدستور ذاته. 3. قضية الميليشيات الأمريكية، حيث أظهر الحادث خطر الميليشيات المعادية للحكومة المركزية، والذي بلغ عددها قبل الحادث 858 ميليشيا علنية، أما جذورها فتوجد في الكنائس المسيحية الأصولية واليمينية المتطرفة التي بدأت بالظهور في الولايات المتحدة في أربعينيات القرن العشرين. إلا أن الحكومة الأمريكية لما لم يلحق حادث أوكلاهوما حوادث أخرى مماثلة، أعلنت في إبريل 2001م أن الميليشيات ـ بإعدام مكفاي ـ لفظت أنفاسها الأخيرة. 4. قضية العرب والمسلمين داخل أمريكا .. أرض الحريات والمساواة، ونذكر هنا ما كتبته (راي حنانيا) في إبريل 2001م وهي أمريكية عربية ـ من أن الجميع بإعدام مكفاي نالوا حظهم من العدالة كل بطريقته الخاصة: الأمة التي صُدمت بأسوأ حادث إرهابي في تاريخها، شعب أوكلاهما، أقارب وأصدقاء الضحايا، الحكومة الأمريكية التي كانت هدف مكفاي، وحتى مكفاي الذي تمكن من توضيح دوافعه لارتكاب الحادث على الصفحات الأولى من كل وسائل الإعلام الأمريكي .. أما الفئة الوحيدة التي تُركت بعيدا عن عملية تضميد الجروح هذه فهم الأمريكان العرب، الذين كانوا الأهداف الأولى للغضب الأمريكي بعد الحادث. وأضافت أن المصادفة وحدها هي التي قادتهم إلى مكفاي، بل إنه وحتى بعد القبض عليه استمروا في البحث عن تورطه مع ما سموه الجهات العربية المتطرفة .. وختمت حنانيا كلامها بأنه يتعين على أحد الاعتذار للعرب الأمريكان كذلك! ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وهنا يتساءل (بول فندلي) في كتابه "لا سكوت بعد اليوم" عن مغزى الحادث بالنسبة للمسلمين فيقول: لو لم يعتقل ماكفاى لاستمر "امرسون" وغيره، ممن ينتحلون لقب خبراء الإرهاب، بتوزيع مقولاتهم المعادية للمسلمين، على محرري نشرات الأخبار لاستمرت الأمة تستجيب للشائعات الكاذبة، ولبقيت "بنية الإرهابيين التحتية العاملة في البلاد والتي سبق لامرسون منذ البداية إلصاق نشاطها بالمسلمين، تحتل الصدارة بين عناوين الأخبار، ولكان الأمريكيون الخائفين ابقوا المسلمين في دائرة الشك، باعتبارهم الأنذال الذين ارتكبوا مجزرة اوكلاهوما سيتى المروعة. وكان يمكن للآلاف المؤلفة من المواطنين الأبرياء أن

اللحظات الأخيرة

يجدوا أنفسهم في موقف المرتعد اليائس، الذي يحاول دفاعاً، فلا يستطيع. وأمام هذا الواقع، ونزولاً عند إلحاح الجماهير المرتاعة، كان يمكن للكونغرس، أن يسن قانوناً أوسع واخطر من قانون مكافحة الإرهاب (¬1). اللحظات الأخيرة كان من المقرر أن يُعدم مكفاي في مايو 2001م، إلا أن مكتب التحقيقات الفيدرالية اعترف أن هناك وثائق تخص القضية لم يطلع عليها محامو مكفاي وقت المحكمة عام 1997م، وهكذا، تقرر تأجيل حكم الإعدام شهراً آخر ليطّلع المحامون على 4000 وثيقة خاصة بالقضية، وإن أكد وزير الدفاع الأمريكي (أشكورفت) أن الوثائق المكتشفة ليس بها ما يفيد مكفاي، الذي اعترف بمسئوليته عن الحادث. وبالفعل لم يتغير الحكم بعد انقضاء الشهر، وتم إعداد العدة لإعدام مكفاي. وتواجد حوالي 300 شخص، منهم 232 من الناجين وأسر الضحايا، لمشاهدة مكفاي عبر شاشات الفيديو، وهو مقيد في كرسي الإعدام، وتمّ حقنه إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. وبعد الحادثة بأكثر من ثلاث سنوات، ذكرت إحدى الصحف اليومية أن القاضي (ريتشارد ماتش) الذي نظر في قضية التفجير قد أصدر يوم الخميس 28 مايو 1998م حكماً بالسجن مدى الحياة على تيري نيولز المتهم الثاني في حادثة التفجير، ووصف (نيكولز) بأنه عدو للدستور، وقال القاضي (ماتش): إن المؤامرة كانت أكبر من عمل عنف مدبر ضد العاملين في مبنى (الفريد موراة الحكومي الفيدرالي)، إنها لم تكن جريمة موجهة ضدهم بقدر ما كانت جريمة ضد دستور الولايات المتحدة، الدستور هو الضحية. لقد ذاع بين الناس إثر انفجار أوكلاهما أن (ماكفي) و (نيكولز) ناشطان في الحركة القومية، وهي حركة شبه سرية تضم أشخاصاً ينتمون إلى قطاعات عريضة من المجتمع. ويضم الجانب المعتدل من الحركة مسيحيين محافظين، يشعرون بالاستياء من الطريقة التي تسير بها السياسة الأمريكية، ويركز هؤلاء المعتدلون ¬

(¬1) لا سكوت بعد ـ اليوم ـ بول فيندلى ـ ص98

جهودهم على تغيير الحكومة بالأساليب السياسية، أما الجماعات الأمريكية الأكثر تطرفاً والتي تضم مسيحيين وغير مسيحيين، فهم ممن يرفضون جنسيتهم الأمريكية ويقودون سياراتهم دون رخصة قيادة، لأنهم يستنكفون عن استخراج هذه الرخص من دوائر الحكومة ويرفضون دفع الضرائب ليؤكدوا أنهم يعيشون خارج النظام القائم (¬1). وعن اللحظات الأخيرة نذكر أقوال من رأى ومن سمع: الرئيس الأمريكي جورج بوش: "ضحايا التفجير لم يأخذوا الثأر فقط بل العدل. لقد قابل هذا الشاب اليوم المصير، الذي اختاره لنفسه منذ ست سنوات ... على مكفاي أن يكون شاكراً، لأنه في بلد نزيه مثل هذا. لقد تأجل إعدامه شهراً لظهور وثائق جديدة رغم أنها لن تغير من الأمر شيئاً .. لكنه العدل". مشاهدو الإعدام من أقارب الضحايا: "لقد تُوفي مفتوح العينين ... لقد رفع رقبته للنظر إلى الشهود واحدا تلو الآخر ... لقد حدق إلينا بنفس الطريقة التي تجعلني أشعر بأنه حصل على ما يريد. كنت أعتقد أنه خائف فعلاً، وأنه شرير حقاً ... أعتقد أنني رأيت وجه الشر اليوم". تيموثي مكفاي: "كنت أتمنى لو أنني قمت بسلسلة من الاغتيالات لعدد من رجال الشرطة ومسئولين في الحكومة الأمريكية بدلاً من قيامي بعملية التفجير ... عندما تُدمي أنف زميلك ويعلم أنه سيُلْكم مرة أخرى فلن يعاود مضايقتك .... إنني أشعر بالأسف الشديد لموت هؤلاء الأشخاص، إلا أنه كان على الحكومة الأمريكية أن تعرف تماماً مغبة العبث بالأرواح البشرية .. ما فعلته كان أمراً ضرورياً للدفاع عن حرية المواطن الأمريكي، وفي نفس الوقت انتقاماً للكارثة، التي تسببت بها السلطات الفيدرالية .... أنا لا أخشى الموت وآمل أن يتم تذكري كمقاتل للحرية مثل (جون براون) ... أريد إخفاء بقايا جثتي في مكان سري؛ وذلك بعد إحراقها في مراسم مقصورة على عدد من أفراد عائلتي ... موت الأطفال كان خسارة لا بد منها ... كنت أدرك قبل تنفيذ العملية حجم الخسائر البشرية ... لو لم يكن ما حدث في (واكو) قد ¬

(¬1) أمريكيا - أزمة ضميرـ محمد جلال عناية ص104

حدث لكنت قد استقررت في مكان، أو لما كنت قد تزعزعت بهذه الصورة؛ بسبب حقيقة أن حكومتي .. هي تهديد لي". وصية مكفاي لم تكن سوى قصيدة للشاعر النازي (ويليام أرنست هنلي) كُتبت عام 1875م بعنوان: (الذي لا يُقهر) تقول أبياتها: من الظلام الذي يغطيني أسود كالحفر العميقة بين عمودين ... أشكر أية آلهة كانت لروحي التي لا تُقهر ... تحت وطأة الواقع القابضة لم أجفل أو أصرخ ... تحت مطرقة الأقدار رأسي ينزف، لكن غير محني ... بعد عالم الغضب والأحزان هذا ... هناك أطياف ليس بينها طيف الخوف، وتهديد السنوات يجدني وسيجدني غير خائف ... لا يهم مدى ضيق الباب ... مدى حفّة الدرج بالعقوبات ... أنا سيد مصيري .. أنا مالك روحي.

الفصل الرابع الكابوس الأمريكي

الفصل الرابع الكابوس الأمريكي بعد هذا التحديد والإيضاح لتاريخ الولايات المتحدة منذ افتراس وذبح سكان شبه القارة الأصليين, وإلى أيامنا هذه، يجب تقييم ما يسمى بـ (الديمقراطية الأمريكية) والعمل على إزالة الأوهام, واكتشاف أوهام وأكاذيب الحرية التي تزعم أمريكا أنها الحامية الأولى لها في كل مكان في العالم، بل يجب تقييم التجربة الأمريكية برمتها، أو ما يحلو لقادة أمريكا بتسميتها بالحلم الأمريكي. فهذا الحلم تحول إلى كابوس مرعب ليس للعالم, بل لبعض الأمريكيين أنفسهم، الذين لم يحتملوا جنوح بلادهم إلى حافة الهاوية والانحطاط. "فمادية المجتمع الأمريكي وعسكريتاريته, كما يقول (رو برت دول) في كتابه (الكابوس الأمريكي)، تدعوان إلى القرف اليوم أكثر من الأمس". ولهذا فقد قرر أن يكتب كتابه الجديد بلغة (مولبير) الفرنسية, وليس بلغة شكسبير، ليكشف عن انتمائه الطوعي الجديد، هذا بالرغم من أنه يجيد سبع لغات ويكتب بها جميعاً. وهو لن يجرؤ على ترجمة كتابه إلى الإنجليزية لأنه يخاف من ردة فعل اليمين الأمريكي المتطرف، ويعرب عن سروره لان تعلم اللغات الأجنبية لا يشكل جزءاً من عادات وتقاليد هؤلاء الفاشيين الأمريكيين. يقول (روبرت دول): "إن العقلية الأمريكية هي انعكاس لبيوريتارية القرن السابع عشر الميلادي، حيث يرى أن هناك أربع آثار للبيوريتارية تبدو واضحة اليوم في السلوك الأمريكي المعاصر, وهى: الفردانية المتوحشة - الاعتقاد بأنهم شعب الله المختار على الأرض - الفظاظة المتأسسة, وتقليد الاعتراف العلني". وبالرغم من أن دول هو كاتب أمريكي بيوريتانى من حركة المتطهرين الأمريكية، إلا أنه مع ذلك لم يستطع العيش في ظل القيم المادية التي تحكم المجتمع الأمريكي، ولهذا اختار كندا منفى نهائياً له منذ عام 1977م. حيث يقول: "إن هربه إلى الخارج ليس خيانة لبلده وأسرته، بل كان بحثاً عن السلام الداخلي لانه لم يستطع إيجاد أرضية مشتركة بين قيمه الشخصية، وقيم المجتمع الأمريكي في نهاية القرن العشرين. ولأنه يحب وطنه كثيراً فإنه يأبى مشاهدته وهو يسير مسرعاً في طريق الانحطاط".

الداروينية الأميركية الحاكمة

ولهذا يدعو (روبرت دول) إلى عدم تكرار التجربة الأمريكية أو الاقتداء بها في أي مكان في العالم (¬1). وإذا كان هذا هو رأي كاتب أمريكي عاش في صميم المجتمع الأمريكي، ولاحظ عوامل انحطاطه وتحوله إلى كابوس رهيب يهدد الشعب الأمريكي نفسه، بنفس الدرجة التي يهدد بها العالم، فإننا سنستغرب ما يقوله (جورج سورس) الملياردير الأميركي ذو الأصول الأوروبية الشرقية الذي يفاجئنا في كل مرة يكتب فيها، فهو وإن كان مديناً بامتياز للعولمة التي جمع من خلالها ثروته الهائلة، فقد كتب بشراسة ضدها وضد إنفلاتاتها وآثارها على الدول النامية في كتابه عن العولمة. وإن كانت أمواله قد طافت الأسواق المالية في العالم أجمع فتضاعفت عبر الطواف ذاك, وخاصة في أسواق شرق آسيا، واتهم بأنه كان وراء انهيار بعضها، فقد كتب بضراوة ضد هشاشة النظام المالي العالمي, ودعا إلى ضبطه ومراقبته في كتابه عن إصلاح النظام المالي المعولم. والآن وهو الذي كان قد هاجر إلى الولايات المتحدة بلد الفرص والأحلام، وحقق فيها ربما ما لم يحلم به أصلاً، فإنه يكتب بلا هوادة ضد نظامها الداخلي وسياستها الخارجية، ويحمل حملة شعواء على يمينها المحافظ الحاكم اليوم، ويشرح أوجه الخراب التي ألحقتها إدارة بوش الجمهورية بالولايات المتحدة داخلياً وخارجياً. http://www.aljazeera.net/books/2004/3/ - TOP الداروينية الأميركية الحاكمة في السطر الأول من كتابه يقول (سورس): "إنني أعتبر سياسة بوش التي تتبنى الضربة العسكرية الوقائية مدمرة، وكذا يعتبرها كثيرون حول العالم". وقاعدة انطلاق سورس في نقده لأميركا بوش وإدارته, هي ما يراه من أن حكومة أقوى دولة على وجه الأرض وقعت في يد من يراهم "مجموعة من المتطرفين, الذين تقودهم الصيغة الفجة من الداروينية الاجتماعية". وهو يفضل استخدام وصف (الداروينية الاجتماعية) للإشارة إلى اليمين الأميركي الحاكم, عوضاً عن وصف (المحافظين ¬

(¬1) الكابوس الأمريكي ـ روبرت دول - عرض غسان العزى- الناشر ف-ال-بي، كيبك -جريدة الخليج 13 يونيو1997

الجدد). فالداروينية تعني (البقاء للأصلح)، وهي متوحشة وتعبر عن توحشها في الاقتصاد عن طريق حصر التنافس, بين الشركات الكبرى, وقتل الصغرى. وفي السياسة تحصر التنافس بين الدول فتطيح الكبرى بالصغرى ـ أيضاً. ويرصد (سورس) جذور الداروينية الأميركية الحاكمة في (مشروع القرن الأميركي الجديد) , الذي صاغته عام 1997 م مجموعة من المحافظين الجدد دعوا فيه إلى انتقال أميركا إلى مرحلة الهجوم والسيطرة العالمية من دون تحفظ، من أجل الحفاظ على الموقع القيادي لها في القرن الحادي والعشرين. أميركا ـ بحسب المشروع ذاك ـ يجب أن تنطلق لتحقيق أهدافها غير آبهة باعتراض الأمم الأخرى، وهي لن تتوقف كثيراً عند مسألة التعاون مع الدول أو الأمم المتحدة, إن هي رأت أن مصالحها يمكن أن يتم تحقيقها من دون ذلك. وعلى أميركا أن تواجه بالقوة العسكرية والحزم أي دولة تتحداها، وعليها أن تثبت أن بمقدورها القيام بذلك من دون تردد. وتوج المشروع بوثيقة يوردها (سورس) في كتابه عنوانها (بيان المبادئ). ولا تتمثل خطورتها في نبرتها الهجومية والشبق نحو السيطرة فحسب، بل في مجموعة الأسماء الموقعة عليها. فهي تحتوي على شخصيات أصبحوا فيما بعد هم الحكام المباشرين للولايات المتحدة في إدارة بوش، ومن ضمنهم: نائب الرئيس (ديك تشيني)، ووزير الدفاع (دونالد رمسفيلد)، ونائبه (بول ولفويتز)، وغيرهم ممن أصبحوا مستشارين ومقربين، إضافة إلى عدد من مفكري اليمين المشهورين مثل (فرانسيس فوكوياما) (¬1) و (دونالد كيغان) (¬2). ولكن بيان (المبادئ) والمشروع الذي يحمله، كان بحاجة ماسة إلى ظرف تاريخي كي تقتنصه, فتنقل من أفكار على الورق إلى تطبيق على الأرض، وهذا ما وفرته تفجيرات 11 سبتمبر على طبق من ذهب (¬3). فالذي حدث كما يقول (سورس) أن (داروينيي) إدارة بوش لم يضيعوا دقيقة واحدة وهم يفركون أيديهم غبطة على ¬

(¬1) في كتابه الاخير "أميركا على مفترق الطرق"-ينقلب فرانسيس فوكوياما على المحافظون الجدد ويوجه نقداً لاذعاً لسياسات بوش - الناشر: يال ينيفرسيتي برس/نيويورك- الطبعة: الأولى/2006 (¬2) فقاعة التفوق الأميركي ـ جورج سورس- ط1 2004 - الناشر: ويدندفيلد ونيكولسن، لندن- عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت ـ 22/ 3/2004م (¬3) هذا يؤكد افتراضنا السابق من أن أحداث 11 سبتمبر هي من فعل قوى متطرفة من داخل الحكومة الأمريكية، بل إن هذه القوى هي مجموعة الموقعين على "بيان المبادئ" المشار إليه.

توفر الفرصة السانحة، لذلك كانت ردة الفعل الأميركي على تلك التفجيرات مفاجئة للجميع، لأنها في الواقع لم تكن خاصة بالتعامل مع حدث ظرفي بقدر ما كانت معنية بتطبيق إستراتيجية جاهزة, كانت تنتظر لحظة نضوج ظرفها الموضوعي. ويلحظ (سورس) كيف أن (مبادئ) وشعارات (المشروع الأميركي للقرن الجديد) سيطرت وطغت على الخطاب الرسمي السياسي والإعلامي في حقبة ما بعد 11 سبتمبر. فقد كرر (بوش) بلا ملل أن قيم الحرية هي القيم الأميركية, وهي التي يجب أن تنتشر، وساوى بين مصالح أميركا الخاصة ومصالح العالم بأسره، بما يعني أن السير نحو تحقيق المصلحة الأميركية يخدم بالتوازي المصلحة العالمية. وهذا الفكر الإمبريالي قيمياً والمطبق عسكرياً في أفغانستان والعراق, هو الإطار العام (لفقاعة التفوق الأميركي) كما يراها (سورس)، الذي يرى ايضاً أن نهاية تفوق أميركا وفقدانها لموقعها القيادي في العالم سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذا الفكر. ولهذا السبب فإنه يستشعر "ضرورة أن يهب هو والمخلصون من الأميركيين، لوقف هذا الانحطاط السياسي, وإنقاذ أميركا من العصبة اليمينية الحاكمة". ففي عهد (بوش) وحروبه (الإلهية والتبشيرية والوطنية) تحول نقاد السياسة الخارجية والمعارضون لها إلى خونة ولا وطنيين يُشك في ولائهم للوطن. وصار التقييم يعتمد مبدأ (معنا أو ضدنا) من دون تفاصيل أو لكن. يقول (سورس): "إن أحداث 11 سبتمبر كان يجب أن تُعامل على أنها جريمة ضد الإنسانية, وليس عملاً يستدعي إعلان الحرب في كل مكان. فتلك الجريمة تم التنديد بها من قبل كل دول ومجتمعات العالم، وحظيت الولايات المتحدة والأميركيون على أوسع قدر متخيل من التعاطف العالمي, وبدت الولايات المتحدة بلا أعداء. فالرئيس مرحب فيه في كل مكان (¬1). وكان بالإمكان استثمار ذلك التعاطف لتقوية العلاقات الأميركية بكل دول ومجتمعات العالم وتجييشها برغبتها للعمل ضد الإرهاب، على قاعدة التعاون المتكافئ وليس الفرض الفوقي القسري. لكن ما حدث هو أن أميركا أرادت أن تتحرك بانفرادية معتمدة سياسة فرض لا نقاش فيها، مما ¬

(¬1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص294

أزمة أمريكا الأخلاقية

أفقدها لحظة التعاطف التاريخية, تلك التي كان بالإمكان جعلها نقطة مفصلية للحد من العداء المتبادل بين أميركا والعالم. والخلاصة لذلك كله هي ـ كما يجملها (سورس) ـ أنه لم يمر وقت على الولايات المتحدة تدهور فيه وضعها في العالم في وقت قياسي وقصير جداً كما هو في عهد (جورج بوش الابن) (¬1). http://www.aljazeera.net/books/2004/3/ - TOP أزمة أمريكا الأخلاقية في كتابه الجديد (القيم الأمريكية تتعرض للخطر)، يحذر (جيمي كارتر) بشدة من الاتجاه الذي تسير به الولايات المتحدة حالياً، حيث اختلطت معالم السياسة والأصولية الدينية الجامدة. ومنذ السطور الأولى في الكتاب، يعترف الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر)، بأن هنالك تغيرات واسعة جارية على قدم وساق، داخل الولايات المتحدة، على صعيد القيم الأخلاقية الأساسية للأمة الأمريكية، وخطابها العام، وفلسفتها السياسية. ويقول: "إن الشعب الأمريكي، كان يفخر بأن يرى قوة أمريكا ونفوذها، يستخدمان لحفظ سلام الأمريكيين وسلام الآخرين، وتعزيز العدالة الاقتصادية والاجتماعية، ورفع شعار الحرية وحقوق الإنسان عالياً، وحماية نوعية البيئة في الولايات المتحدة، وتخفيف المعاناة البشرية، وتدعيم حكم القانون، والتعاون مع الشعوب الأخرى". ويقول (كارتر)، إن الأمريكيين، الذين يملكون مجتمعاً هو الأكثر تنوعاً وابتكاراً على وجه البسيطة، أدركوا قيمة تزويد المواطن الأمريكي بالمعلومات الصحيحة الدقيقة، والتعامل مع الأصوات المعارضة والمعتقدات المخالفة باحترام، وتوفير الحوار الحر والمفتوح في القضايا الخلافية. وقد ظل معظم قادة أمريكا السياسيين، يمجدون استقلالية الولايات المتحدة والمقاطعات الأمريكية، ويحاولون السيطرة على عجز الإنفاق، ويتجنبون نزعات المغامرة الخارجية، ويحافظون على الفصل بين الكنيسة والدولة، ويحمون الحريات المدنية والخصوصية الشخصية". ولكن (كارتر) يرى أن "جميع هذه الالتزامات يجري تحديها الآن". ¬

(¬1) فقاعة التفوق الأميركي ـ جورج سورس ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت ـ 22/ 3/2004م

ويضيف قائلا: "إن معظم القضايا الحساسة والمثيرة للجدل التي يواجهها الأمريكيون اليوم، قد جرت مناقشتها قبل أن يصبح رئيساً بوقت طويل، حيث أن هذه الخلافات طبيعية، ولا يمكن تجنب معظمها. ويرى (كارتر) أن هذه القضايا الخلافية، كانت تناقش بحرية وانفتاح ودون إثارة للمشاكل، ولكن نقاشها الآن بات يثير انقسامات داخل المجتمع الأمريكي لا سابق لها، حيث يعتمد الحزبان الديمقراطي والجمهوري على الإعلانات التجارية التشهيرية لكسب الانتخابات، وحيث تتسم مداولات الكونجرس بعداء متحيز، وحيث أصبح سكان أمريكا جميعاً يتبنون كلمات مثل (أحمر و أزرق) في وصف العلاقات بين الولايات الأمريكية، بل داخل الولاية الواحدة (¬1). ويتساءل كارتر: ما الذي أثار هذه الخلافات الحادة، وولد في الوقت ذاته ذلك الابتعاد السحيق عن قيم أمريكا التقليدية؟ ويجيب عن هذا التساؤل، قائلاً: "إن أحد العوامل لذلك هو رد فعل الأمة الأمريكية على هجوم 11 سبتمبر 2001 م الإرهابي، حيث أدركت شدة الإرهاب، وديمومته، وطبيعته الكونية. ولكن هذا العامل ليس الوحيد في نظر (كارتر)، بل هناك عوامل أخرى منها: حقن الأموال الطائلة في شريان العملية السياسية، والنفوذ غير المسبوق للشركات والمصالح الخاصة في مداولات الحكومة, التي باتت تتجه إلى السرية بصورة متزايدة. ولكن العامل الأهم، كما يقول (كارتر)، هو أن الأصوليين أصبحوا بصورة متزايدة متنفذين في شؤون الدين والحكومة، كما أفلحوا في تغيير الفوارق الدقيقة في النقاش التاريخي، ليصبح جامداً متصلباً يختزل الأمور إلى أبيض أو أسود، حيث يلقى كل من يجرؤ على المخالفة الازدراء والاحتقار الشخصي. وفي الوقت ذاته يقول (كارتر): "وحّد هؤلاء المحافظون الدينيون والسياسيون جهودهم، وأزالوا المسافة التي كانت تحترم في السابق، بين الكنيسة والدولة. وقد عزز ذلك قوة نفر من (المحافظين الجدد) المتنفذين، الذين تمكنوا من تطبيق فلسفتهم التي طال احتباسها، على صعيدي السياسة المحلية والسياسة الخارجية. حيث جرى تبني تفسير ضيق للمعتقدات ¬

(¬1) القيم الأمريكية تتعرض للخطر ـ تأليف: جيمي كارتر عرض: عمر عدس ـ جريدة الخليج الإماراتية - عدد 9709 بتاريخ 18ـ12ـ2005

الدينية، واعتماد هذا التفسير باعتباره الأجندة الصارمة لحزب سياسي. وقامت الجماعات الضاغطة القوية، سواء داخل الحكومة أو خارجها، بتحريف الإيمان الأمريكي المثير للإعجاب بمشروع حر، أصبح حقاً للمواطنين الأثرياء ثراء فاحشاً، يخولهم تكديس المزيد من الثروة وتمريرها جميعها إلى أحفادهم. حيث يجري منح الفوائد من تجارة الأسهم والدخل المتأتي من حصص الأرباح وضعاً ضرائبياً مميزاً، بالمقارنة مع الأجور التي يتقاضاها معلمو المدارس ورجال الإطفاء". ويقتطف كارتر وصف أحد أصدقائه للفلسفة الاقتصادية الجديدة لواشنطن، الذي يقول فيه إنها فلسفة تقوم على أن المد المتصاعد يرفع على سطحه جميع اليخوت. ويصف المؤلف ما فعلته الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة، فيقول: "إنها أعلنت الاستقلال عن القيود التي تفرضها المنظمات الدولية، وتنكرت للعديد من الاتفاقيات الدولية القائمة منذ زمن طويل، بما في ذلك قرارات قضائية، واتفاقيات أسلحة نووية، وقيود على الأسلحة البيولوجية، وحماية البيئة، ونظام العدل الدولي، ومعاملة السجناء الإنسانية". ويتابع قائلاً: "وحتى مع انخراط قواتنا في القتال، ومواجهة أمريكا خطر المزيد من الهجمات الإرهابية، أهملت الولايات المتحدة التحالفات مع الدول التي تحتاج إلى الانضمام إليها في الحرب الطويلة الأمد مع الإرهاب. وكانت جميع هذه الأعمال السياسية بتنسيق من أولئك الذين يعتقدون أن الاستخدام الأمثل للقوة والنفوذ الأمريكيين الهائلين، يجب ألا يخضع لقيود يمارسها الأجانب. وبصرف النظر عن التكاليف والنفقات، يتحرق بعض الزعماء شوقاً، وبصورة علنية، إلى خلق إمبراطورية أمريكية مهيمنة على العالم برمته. حيث لم يعد يعتبر ضرورياً مراعاة قيود تحد من مهاجمة دول أخرى عسكرياً، شريطة أن تدْعي مصادر استخبارية غالباً ما تكون غير مؤكدة، إن السياسات العسكرية أو السياسية لهذه الدول يمكن أن تكون خطرة على الولايات المتحدة في نهاية الأمر. فما أن يتم وصم هذه الدول بأنها (محور شر)، حتى تصبح منبوذة، ولا يعود ممكناً القبول بها شريكة في التفاوض، وتصبح حياة أفراد شعوبها غير مهمة من ثم" (¬1). ¬

(¬1) القيم الأمريكية تتعرض للخطر- جيمي كارتر- عرض عمر عدس ـ جريدة الخليج - عدد 9709 - 18ـ12ـ2005

قناع أبيض للعالم كله

قناع أبيض للعالم كله لكي نفهم أكثر مظاهر الرعونة والعنجهية التي تحكم سلوك الولايات المتحدة الأمريكية, التي وقعت في قبضة أصولية المحافظين الجدد تجدر بنا العودة إلى (فرانز فانون) الذي حين كتب (بشرة سوداء .. أقنعة بيضاء) , كان يدرك أن الانفجار لن يحدث لحظتها، لعل الوقت كان متقدماً جداً أو متأخراً جداً, كما أومأ هو بنفسه إلى ذلك. ولم يكن الرجل يدعي التواضع أو يتظاهر به، وإنما كان يتصرف كأي عالم حقيقي لا يركن إلى اليقين أبداً: "أنا لا أصل البتة مسلحاً بحقائق حاسمة .. وعيي لا تخترقه ومضات جوهرية". لكنه يرى، وبكل صفاء، أنه من المفيد أن تقال بعض الأمور, وهو يحلل كيف يتصرف الرجل الأبيض، الذي خلق لنفسه دوماً صورة المنتصر والفاتح والمنقذ، إزاء البشر الآخرين من الملونين والسود؟ ثم يحلل كيف يتصرف هؤلاء الملونون والسود تحت وقع ذلك الشعور بالانسحاق الذي جلبه لهم الأبيض السكران بنشوة التفوق؟. إن الأمريكيين هم الشعب الوحيد الحديث، تبعاً لأقصى ما تتيحه ذاكرة إنسان، الذي (كنس) عن الأرض, التي استوطنها السكان الأصليون. يمكن لنا العودة إلى النص المدهش (لمحمود درويش) (الخطبة الأخيرة للهندي الأحمر) لندرك هول الكارثة. و (فانون) يرى أن أمريكا وحدها كانت تستطيع أن تكون ذات إحساس قومي بالخطأ وتسعى للاعتذار عنه، لكنها لم تختر هذا السبيل، إنما سعت لتهدئته من خلال اختراع صورة الهندي الأحمر السيئ، لكي تتمكن لاحقاً من إعادة إدراج للصورة التاريخية لصاحب البشرة الحمراء, الذي يدافع بلا نجاح عن ترابه الذي خلق من عجينته بمواجهة الغزاة المسلحين بكتب مقدسة وبناءة. بعد ذلك بقرون سيأتي الفتيان السود يرددون في المدارس نشيد: (آباؤنا الغاليون) وهو نشيد يتماهى مع المستكشف، مع الرجل الذي يزعم أنه جلب الحضارة، جلب الحقيقة (البيضاء) تماماً، صافية. يراد من هؤلاء الفتيان نسيان أن تلك الحضارة البيضاء إنما شيدت بعرق ودماء أجدادهم. فالآباء الغاليون في النشيد ليس هم أولئك الأجداد, ولا أولئك الهنود الحمر الذين أبيدوا عن بكرة أبيهم تقريباً لحظة أتى المغامرون البيض بحثاً عن الذهب في العالم الجديد.

الأصوات المغيبة والمصلحة القومية الكاذبة

لم تكن أمريكا قد بلغت ما بلغته اليوم من جبروت وطغيان, حين حلل فانون سلوك الرجل الأبيض، لكنه كان يضع قاعدة فيها نبوءة رجل العلم, الذي يهجس بأن هذا السلوك سيغدو كونياً. إن ذات الذهنية التي حكمت سلوك المغامرين الأول, الذين استباحوا براءة القارة الأمريكية مترامية الأطراف، ستؤسس لنهج أكثر شمولاً حين يتصل الأمر بالعالم كله. الهدف من حيث الجوهر واحد لم يتبدل، ولكن نسبة القوى تغيرت جوهرياً لتجعل من هذا السلوك سلوكاً يستهدف العالم كله، على غير الأمريكي، أبيض كان أم أسود، أن يغدو أمريكياً لا بالنسبة وإنما بالخضوع، بالتماهي مع (ثقافة) تعلن نفسها ثقافة منتصرة على العالم كله، بحيث يغدو من واجب الفتيان الصغار في مدارس العالم كله أن يرددوا النشيد الأمريكي بالمفردات, التي تحمل معاني قهرهم وإخضاعهم، بالطريقة التي يبدو فيها الهندي الأحمر المباد مجازاً للفلسطيني, ولكل شعب شاء أن يقاوم إبادته. وفي نص (محمود درويش) المشار إليه الكثير مما يشي بهذا المعنى (¬1). الأصوات المغيبة والمصلحة القومية الكاذبة إذا كان جورج سورس وجيمى كارتر و فرانز فانون، وغيرهم من الكتاب الأمريكيين قد حاولوا رسم صوره للكابوس الأمريكي الذي يهدد العالم، فإن (هوارد زن) وهو كاتب امريكي اسود، حاول رسم صورة هذا الكابوس من خلال قراءة التاريخ الأمريكي بطريقه اخرى، حيث يقول: "عندما قررت في أواخر سبعينات القرن الماضي إن أولف كتاباً يتناول تاريخ الشعب الأمريكي. كان قد مضى علي عشرون عاماً وأنا ادرس التاريخ. ولكن تجربتي الشخصية جعلتني اعرف إن التاريخ الذي درسته في الجامعة قد حذف عناصر بالغة الأهمية من تاريخ البلاد، ولم تكن عاقبة عمليات الحذف هذه تقتصر على إعطاء صورة محرفه عن الماضي، بل أنها تضللنا جميعاً في ما يتعلق بالحاضر. وعلى سبيل المثال هنالك قضية الطبقات، فالثقافة السائدة في الولايات المتحدة في أوساط التعليم وبين الساسة وفي وسائل الإعلام - تتظاهر بأننا نعيش في مجتمع خال من الطبقات له مصلحة عامة واحده. وفي ديباجة دستور ¬

(¬1) قناع أبيض للعالم كله د. حسن مدن - جريدة الخليج - عدد 9506 ـ بتاريخ 29ـ5ـ 2005 م

الولايات المتحدة، التي تعلن أننا (نحن الشعب) قد وضعنا هذه الوثيقة، تضليل عظيم. فالدستور كان قد كتبه سنة 1787 خمسة وخمسون رجلاً من البيض- ملاك العبيد، وملاك السندات والتجار- الذين أسسوا حكومة مركزيه قوية ستخدم في ما بعد مصالحهم الطبقيه. إن استخدام الحكومة على ذلك النحو للأغراض الطبقية ولخدمة احتياجات الأثرياء والأقوياء قد استمر عبر التاريخ الأمريكي وصولاً إلى يومنا الحاضر، ويتجسد ذلك في اللغة التي توحي بأننا جميعا أغنياء وفقراء وأبناء طبقة متوسطة لنا مصلحة مشتركه" (¬1). هكذا توصف حالة الأمة بتعبيرات شمولية عامه. وعندما يعلن الرئيس مسرورا (إن اقتصادنا سليم)، لا يعترف بأنه غير سليم بالنسبة إلى أربعين أو خمسين مليوناً من الناس يكافحون من اجل البقاء، رغم انه قد يكون سليماً باعتدال لكثيرين في الطبقة المتوسطة، وسليم بإفراط لأغنى 1% من الأمة وهم الذين يملكون 40% من ثروتها القومية. كان يجري دوماً تغييب مصلحة الطبقات خلف حجاب سميك يدعى المصلحة القومية، "وقد جعلتني تجربتي الخاصة مع الحرب وتاريخ تلك التدخلات العسكرية التي تورطت فيها الولايات المتحدة ارتاب عندما اسمع الناس في الأوساط السياسية العليا يتوسلون (المصلحة القومية) أو الأمن القومي لتبرير سياساتهم. انه بمثل هذه المبررات بدأ هاري ترومان (عملا بوليسيا في كوريا) أسفر عن قتل ملايين عديدة من الناس، ونفذ ليندون جونسون وريتشارد نيكسون حرباً في جنوب شرق آسيا مات خلالها نحو ثلاثة ملايين شخص، وغزا رونالد ريجان جرينادا، وهاجم بوش الكبير بنما ومن بعدها العراق، وقصف بيل كلينتون العراق المرة تلو المرة. والادعاء الذي اتخذه بوش الجديد في ربيع سنة 2003 وزعم فيه إن غزو العراق وقصفه بالقنابل في مصلحة أمريكا القومية، كان منافياً للعقل على نحو خاص، ولم يكن الشعب في الولايات المتحدة ليتقبله لولا غطاء من الأكاذيب نشرته فوق البلاد الحكومة وأبواق الإعلام الرئيسية- أكاذيب عن علاقات العراق بحركة القاعدة". ويتابع (هوارد زن) كلامه: "وعندما قررت إن أؤلف كتاب (تاريخ شعبي للولايات المتحدة)، صممت على إن اروي قصة حروب الأمة لا من خلال عيون الجنرالات ¬

(¬1) الأصوات المغيبة والمصلحة القومية الكاذبة- بقلم هوارد زن - جريدة الخليج عدد 9326 تاريخ 30 - 11 - 2004

الكلمة المحكية كعمل سياسي

والزعماء السياسيين، بل من وجهة نظر صغار أفراد الطبقة العاملة، الذين اصبحوا أفرادا في الجيش، أو الآباء أو الأمهات والزوجات، الذين تلقوا برقيات النعي. أردت إن اروي قصة حروب الأمة من وجهة نظر العدو: وجهة نظر المكسيكيين الذين جرى غزوهم في الحرب المكسيكيه، والكوبيين الذين تم الاستيلاء على بلادهم سنة 1898، والفليبنيين الذين عانوا حرباً عدوانية مدمرة في مستهل القرن العشرين قتل فيها نحو 600 ألف شخص نتيجة لتصميم حكومة الولايات المتحدة على الاستيلاء على الفليبين". والذي أذهلني حين بدأت دراسة التاريخ، والذي أردت إن انقله عبر كتابتي للتاريخ، هو كيف إن حماس القوميين الذي يجري غرسه في الأذهان منذ الطفولة من خلال قسم الولاء والسلام الوطني والتلويح بالأعلام والخطاب العسكري - يخترق الأنظمة التعليمية والتربوية ويتخللها في جميع الدول بما فيها دولتنا. كنت أتسائل كيف كانت ستبدو سياسات الولايات المتحدة الخارجية لو أزيلت الحدود الوطنية في العالم، في أذهاننا على الأقل، واعتبرنا الأطفال في كل مكان مثل اطفالنا. لو فعلما ذلك لما كان بوسعنا إن نلقي قنبلة ذرية على هيروشيما، أو قنابل النابالم على فيتنام أو القنابل العنقودية على أفغانستان أو العراق، لان الحروب وبخاصة في وقتنا الحاضر هي حروب ضد الأطفال دوما" (¬1). الكلمة المحكية كعمل سياسي عندما بدأت كتابة (تاريخ شعبي) كنت متأثرا بتجربتي الخاصة، حيث أعيش ضمن مجتمع السود في الجنوب مع عائلتي، وأمارس التدريس في كلية البنات السوداوات، وانخرط في الحركة المناوئة للفصل العنصري، وقد أصبحت مطلعاً على الكيفية التي يجري بها تحريف تدريس وكتابة التاريخ على نحو سيئ، وذلك بطمس الناس غير البيض. نعم كان الأمريكيون الاصليون هناك في التاريخ ولكنهم اختفوا بسرعة. وكان السود ظاهرين عبيداً ثم احتسبوا أحراراً، ولكنهم لا يظهرون. كان التاريخ تاريخ الناس البيض. ومنذ المرحلة الابتدائية وحتى التخرج من المدرسة لم ¬

(¬1) الأصوات المغيبة والمصلحة القومية الكاذبة- بقلم هوارد زن - جريدة الخليج عدد 9326 تاريخ 30 - 11 - 2004

أجد ما يوحي بأن هبوط كريستوفر كولومبوس في العالم الجديد قد افتتح إبادة جماعية تم خلالها القضاء على السكان الأصليين في جزر الانديز الغربيه قضاءاً مبرماً. أو إن هذه كانت المرحلة الأولى في ما طرح باعتباره توسعاً حميداً للدولة الجديدة، ولكنه اشتمل على الطرد العنيف للأمريكيين الأصليين مصحوباً بفظائع لا يمكن السكوت عنها من كل ميل مربع من القارة، حتى لم يعد هنالك ما يمكن فعله سوى حشرهم في معازل. إن كل تلميذ مدرسة أمريكي يتعلم عن مذبحة بوسطن التي سبقت الحرب الثورية ضد انجلترا. وقد قتل فيها خمسة مستعمرين على أيدي الجنود البريطانيين سنة 1770، ولكن كم تلميذ من هؤلاء التلاميذ تعلم عن المذبحة التي راح فيها ستمائة رجل وامرأة وطفل من قبيلة ريكوت في نيو انجلاند سنة 1637، أو المذبحة التي ارتكبها الجنود الأمريكيون في منتصف الحرب الاهليه، وسقط فيها المئات من العائلات الأمريكيه الاصليه في ساند كريك (كولورادو) ولم اطلع في أي مكان خلال دراستي التاريخ على مذابح الناس السود التي وقعت مراراً وتكراراً في ظل حكومة وطنية تعهدت من خلال الدستور بحماية الحقوق المتساوية للجميع. وعلى سبيل المثال في سنة 1917 وقع في سانت لويس الشرقيه واحد من أعمال الشغب العرقية العديدة الني كانت تحدث ضمن ما تدعوه كتب التاريخ عندنا التي يوجهها البيض (الحقبة التقدميه)، حيث قتل العمال البيض الذين أغضبهم تدفق العمال السود، نحو مائتي شخص، مما حفز الكاتب الأمريكي من اصل إفريقي (دبليو أي دي بويز) على كتابة مقالة بعنوان (مذبحة سانت لويس الشرقيه) وحمل الفنانة المسرحية جوزفين بيكر على القول إن فكرة الموضوعية بحد ذاتها تجعلني ارتعد وارتجف وتسبب لي الكوابيس. لقد أردت من خلال كتابتي للتاريخ الشعبي إن أوقظ وعياً عظيماً بالصراع الطبقي والظلم العرقي، واللامساواة الجنسية والعجرفة القومية، ولكني أردت إلى جانب ذلك إن أسلط الضوء على مقاومة الشعب الخفية لسلطة المؤسسة ورفض الأمريكيين الأصليين إن يموتوا ويختفوا ببساطة وتمرد الناس السود في الحركة المناوئة للرق والحركة الأحدث منها عهداً وهي الحركة المناوئة للفصل العنصري والإضرابات التي كان ينفذها الناس العاملون في سبيل تحسين مستوى عيشهم.

أصوات أمريكا الغائبة

عندما بدأت العمل قبل خمس سنوات في تأليف ما سيصبح مجلدا مصاحبا لكتابي (تاريخ الشعب) ويحمل عنوان (أصوات تاريخ شعبي للولايات المتحدة)، كنت أريد لأصوات الكفاح الغائبة على الأغلب في كتب تاريخنا، إن تأخذ المكان الذي تستحق. كنت أريد لتاريخ العمال الذي ظل ميدان القتال عقداً بعد آخر وقرناً بعد آخر للكفاح المستمر في سبيل الكرامة الانسانيه، إن يتصدر المقدمة كما كنت أريد لقرائي إن يخبروا كيف كان بعض أشجع الأعمال السياسية وأكثرها فاعلية معبراً عن الصوت الإنساني ذاته في اللحظات الحاسمة في تاريخنا، عندما أعلن (جون راون) - نصير إلغاء الرق الذي اعدم شنقا، وكان قد عاش بين 1800 و 1858 - أثناء محاكمته إن تمرده ليس خاطئا بل هو صحيح، وعندما أدلى (فاني لوهامر) - مزارع أمريكي وناشط في مجال حقوق الإنسان 1917 - 76 م- بشهادته سنة 1964 عن المخاطر التي تعرض لها السود الذين حاولوا التسجيل للاقتراع في الانتخابات، وعندما تحدى (اليكس مولنار) - أستاذ جامعي أمريكي- الرئيس الأمريكي نيابة عن ابنه وعنا جميعاً .. ، عندما فعل هؤلاء ذلك، أثرت كلماتهم في كثير من الناس وكانت مصدر الهام لهم ولم تكن تلك مجرد كلمات بل كانت أفعالا (¬1). أصوات أمريكا الغائبة ويتابع (هوارد زن) كتابه فيقول: "يشير قراء كتابي (تاريخ شعبي للولايات المتحدة) دائماً إلى غناه بالمادة المقتبسه - أقوال العبيد الآبقين، والأمريكيين الأصليين، والمزارعين وعمال المصانع والمعارضين والمنشقين من جميع الأصناف. وعلي إن اعترف كارهاً بأن ما يذهل قرائي هؤلاء هو كلمات الناس الذين استشهد بهم اكثر مما يدهشهم تعليقي المصاحب على تاريخ الأمة، ولا أستطيع القول أنني ألومهم على ذلك، فكل مؤرخ سيواجه صعوبة في مضاهاة بلاغة زعيم الأمريكيين الأصليين (بوهاتان) الذي كان يقول للمستوطنين البيض راجيا سنة 1607: "لماذا تأخذون بالقوة ما قد تنالونه بهدوء بالرفق والمحبة؟ ". ¬

(¬1) الأصوات المغيبة والمصلحة القومية الكاذبة- بقلم هوارد زن - جريدة الخليج عدد 9326 تاريخ 30 - 11 - 2004

أو العالم الأسود (بنيامين بانيكر) حين كتب للرئيس الأمريكي توماس جفرسون: "إني أدرك انك سوف تتبنى كل فرصة لاستئصال تلك السلسله من الأفكار والآراء الخاطئة والمنافية للعقل والسائدة بوجه عام فيما يتعلق بنا. وان مشاعرك تتفق ومشاعري والتي هي إن الله قد خلقنا جميعاً وانه لم يقتصر على انه خلقنا من لحم واحد، بل انه منحنا جميعاً ومن دون تمييز المشاعر ذاتها ووهبنا جميعاً القدرات ذاتها". أو (سارة جريمكي) وهي امرأة من جنوب الولايات المتحدة، كانت مؤيده لإلغاء الرق كتبت: "إني لا اطلب أي جمائل لبنات جنسي، وكل ما اطلبه من إخواننا إن يرفعوا أقدامهم عن رقابنا ويسمحوا لنا بالوقوف معتدلين على الأرض التي كتب لنا الله إن نعيش عليها". أو (هنري ديفيد ثورو) وهو يحتج على الحرب المكسيكيه، حين كتب عن العصيان المدني، "من النتائج العامة والطبيعية لاحترام القانون الذي ليس في محله، إن ترى ارتالاً من الجنود من مختلف الرتب تسير إلى الحروب زاحفة فوق التلال والوهاد، في نظام يدعو إلى الإعجاب خلافاً لإرادتها. نعم خلافاً لفطرتها السليمة وضمائر أفرادها، مما يجعل ذلك الزحف انحداراً شعبياً في حقيقة الأمر يحمل القلوب على الخفقان". أو (جرمين ويزلي لوجين) وهو عبد آبق يتحدث في سيراكوز (مدينة في وسط ولاية نيويورك) عن قانون العبيد الهاربين الذي صدر سنة 1850: "لقد تلقيت حريتي من السماء ومعها جاء الأمر بالدفاع عن حقي فيها .. إني لا احترم هذا القانون - ولا أخشاه - ولن أطيعه، انه يجرمني وأنا أجرمه". أو الخطيبة المناصرة للنظرية الشعبية (ماري اليزابيث ليز) من كنساس التي قالت: "أن وول ستريت (المركز العالمي في مانهاتن) يملك البلاد أنها لم تعد حكومة الشعب، بالشعب وللشعب بل هي حكومة وول ستريت وتعمل لمصلحة وول ستريت". أو (ايما جولدمان) وهي تتحدث إلى هيئة المحلفين أثناء محاكمتها لمعارضتها الحرب العالمية الأولى: "نحن المفتقرين حقاً إلى الديمقراطية، كيف نستطيع إن نعطيها للعالم؟ إن الديمقراطية التي تشكلت في رحم الاستعباد العسكري للجماهير

واسترقاقهم اقتصادياً، وترعرعت على دموع هذه الجماهير ودمائها، ليست ديمقراطيه أبداً". أو المزارع المستأجر في منطقة المسيسبي (فاني لوهامر) في شهادته سنة 1964 عن الأخطار على السود الذين حاولوا التسجيل للاقتراع: "جاء ملك المزرعة، وقال: فاني لو .. إذا لم تذهب وتسحب تسجيلك فان عليك إن ترحل لأننا غير مستعدين لذلك في المسيسبي. التفت إليه وقلت: إني لا أحاول التسجيل لك بل لنفسي". أو الفتيان السود في ماككومب في منطقة المسيسبي، الذين حين علموا بخبر مصرع احد زملائهم ايام الدراسة، في فيتنام وزعوا منشوراً جاء فيه: "لا ينبغي لأي اسود في منطقة المسيسبي إن يقاتل في فيتنام من اجل حرية البيض، قبل إن يتحرر جميع السود في هذه المنطقة". أو الشاعرة (اوريان ريتش) حين كتبت في سبعينات القرن الماضي: "لا اعرف امرأة عذراء أو أماً عزباء أو متزوجه - سواء كانت تكسب قوتها، ربة منزل أو نادله في مقهى أو مصوره بالأشعة- ليس الجسد لديها مشكلة أساسيه، معانيه الغائمة، خصوبته، رغباته، ما يدعى هشاشته، ولغته الدامية، وحالات صمته، وتغيراته، وتشوهاته، اغتصاباته وحالات نضجه". أو (اليكس مولنار) الذي كان ابنه البالغ من العمر واحداً وعشرين عاماً جندياً من مشاة البحرية في الخليج العربي، حين كتب رسالة غاضبة إلى الرئيس بوش الأول قال فيها: "أين كنت أيها الرئيس عندما كان العراق يقتل شعبه بالغاز السام. انوي إن أساند ابني ورفاقه الجنود بفعل كل ما أستطيع لمعارضة أي عمل عسكري أمريكي عدواني في الخليج العربي". أو (اورلاندو وفيليس رودريجز) اللذين قالا في معرض معارضتهما لفكرة الانتقام بعد مقتل ابنهما في برجي مركز التجارة العالمي: "إن ابننا جريج واحد من الكثيرين الذين غيبهم الهجوم على مركز التجارة العالمي. ومنذ إن سمعنا الأخبار للمرة الأولى، تقاسمنا لحظات الأسى والراحة والأمل والقنوط وذكريات الحنان، مع زوجته والعائلتين وأصدقائنا وجيراننا وزملائه الذين كانوا يحبونه في كانتور متزجرالد، وكل العائلات المكلومة التي تلتقي يومياً في فندق بيير. ونحن نرى الأذى

الفيروس الأميركي .. فضح الإمبرطورية الأميركية

والغضب الذين ألما بنا في وجوه كل من نقابله، ولا نستطيع الانتباه إلى فيض الأخبار اليومية عن هذه الكارثة، ولكننا نقرأ من الأخبار ما يكفي للإحساس بأن حكومتنا تسير باتجاه الانتقام العنيف، مع احتمال مقتل أبناء وبنات وأباء وأمهات وأصدقاء في بلاد بعيده، أو معاناتهم وإحساسهم بالمزيد من الظلم الذي ألحقناه بهم، وليست تلك هي الطريق التي ينبغي إن نسلكها، وهي لن تشفي غليلنا لمقتل ابننا وليس باسم ابننا". إن ما يجمع كل هذه الأصوات هو أنها على الأغلب قد أبعدت عن تواريخنا التقليدية وعن وسائل الإعلام الرئيسية والكتب الدراسية المقررة المعيارية والثقافة الخاضعة للسيطرة. والنتيجة التي تنجم عن خضوع تاريخنا لهيمنة الرؤساء والجنرالات والناس (المهمين) الآخرين، هي خلق مواطنين سلبيين لا يدركون مكمن طاقاتهم وينتظرون دوماً مخلصاً يأتي من السماء على هيئة رئيس أو غيره ليجلب السلام والعدالة. إن التاريخ المنظور إليه تحت السطح في الشوارع وفي المزارع وفي ثكنات الجنود والمعسكرات المتنقلة وفي المصانع والمكاتب، يخبرنا بقصة جورجيا، وفي كل وقت تم رفع مظالم أو وقف حروب أو منح النساء والسود والأمريكيين الأصليين حقوقهم المشروعة، كان ذلك لان أناساً غير مهمين رفعوا أصواتهم بالحديث ونظموا واحتجوا ومارسوا الديمقراطية" (¬1). الفيروس الأميركي .. فضح الإمبرطورية الأميركية اشتهر في علم السياسة والإستراتيجيات مصطلح (باكس بريتانيكا) ( Pax Britanica) ، وكان وما زال يشير إلى عصر الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس. يتضمن ذلك المصطلح مغزى مهماً (من تصنيع منظري الإمبراطورية)، هو أن الإمبراطورية تنشر السلم والأمان وأنها عبر الانتشار العسكري والكولونيالي في طول وعرض الكرة الأرضية، توحد البلدان المتنازعة تحت رايتها، وتنزع فتيل الصراع ويعيش الجميع في كنفها بسلام. وطبعاً لم تكن الأمور بهذه البساطة والليونة, فقد كان عصر الـ (باكس بريتانيكا) عصراً استعمارياً بامتياز، فيه ¬

(¬1) الأصوات المغيبة والمصلحة القومية الكاذبة- بقلم هوارد زن - جريدة الخليج عدد 9326 تاريخ 30 - 11 - 2004

نهب لثروات البلدان المستعمرة, وفيه حروب، وفيه قمع، وفيه حالات إبادة عنصرية أيضاً. وفي أعقاب انهيار إمبراطورية لندن أصبحت الولايات المتحدة القوة الخليفة, لكنها رفعت شعار أنها لا تبدأ بأي حرب, بل تدافع عن نفسها, وأن ليس لديها أي مشروع إمبريالي توسعي تحت أي مسمى, ولو كان لفرض السلم العالمي تحت مظلة "باكس أميركانا" ( Pax Americana) (¬1) . وكتاب الفيروس الأمريكي سخر من ذلك التعبير ويعيد إنتاجه بطريقة تهكمية, إذ يحوره إلى ( Pox Americana) , وهنا فإن كلمة Pox تعني الوباء الفيروسي أو شيئاً قريباً من ذلك. ومن وراء هذا يريد محررا الكتاب أن يقولا للقارئ إن الإمبراطورية الأميركية الراهنة هي كالفيروس المنتشر في العالم, وليس لها علاقة بإحلال السلم العالمي. وينقضان المزاعم الأميركية بعدم وجود نيات إمبريالية وراء الحروب التي تشنها الولايات المتحدة في العالم اليوم، إذ سرعان ما وقع العالم بأكمله أسير الصراع مع الاتحاد السوفياتي وانخرط الطرفان في صراع إمبريالي للسيطرة وشراء الولاءات في مناطق العالم المختلفة. وبدأ منظرون أميركا يكتبون في ضرورة أن يكون لدى الولايات المتحدة مشروعاً إمبريالياً ذا صفات حميدة، منها نشر السلام ولو اقتضى الأمر استخدام القوة في بعض الأحيان كما كان الأمر في فيتنام. وكتب بعض أولئك المنظرين, من أمثال رونالد ستيل, أن الإمبراطورية الأميركية تختلف عن الإمبراطوريات التي سبقتها بأن أهدافها نبيلة وأنها لا تستهدف الربح والاستيلاء على الثروات كما كان ماضي الإمبراطوريات المنقضية. ولكن حتى قبل ذلك التاريخ, كان للإمبريالية الأميركية سجل طويل في التدخل المباشر أو غير المباشر ونقرأ عن حالات الغزو التالية في ذلك السجل: الصين 1945, اليونان 1947 إلى 1949, كوريا 195. إلى 1953, إيران 1953, غواتيمالا 1954, لبنان 1958, الكونغو 196. إلى 1964, كوبا 1961, أندونيسيا 1965, جمهورية الدومينكان 1966, تشيلي 1973. أما بعد حرب فيتنام فإن القائمة طالت ¬

(¬1) الفيروس الأميركي .. فضح الإمبرطورية الأميركية- تحرير: جون بيلامي فوستر وروبرت دبليو ماكشنسي-ط1 2004 - الناشر: بلوتو برس, لندن- عرض/ كامبردج بوك ريفيوز

وشملت: لبنان 1982 إلى 1984, أنغولا 1976 إلى 1992, غرينادا 1983 و1984, أفغانستان 1979 إلى 1989, السلفادور 1981 إلى 1992, نيكاراغوا 1981 إلى 199., بنما 1989 و1990, العراق 1991, الصومال 1992 إلى 1994, هايتي 1994, البوسنة 1995, يوغسلافيا 1999, انتهاء بأفغانستان والعراق في سنوات 2001 وما تلاها. وهنا يبدو ضرورياً فهم واستيعاب التاريخ الإمبريالي للولايات المتحدة لتفادي الوقوع فريسة الشعارات البراقة التي تسبق وتحيط بكل حملة إمبريالية أميركية. فجذور الإمبريالية الأميركية تعود إلى هزيمة المسلمين على يد الأسبان في القرن الخامس عشر, واكتشاف العالم الجديد من قبل كولومبس، الذي أتبعه حرب الإبادة ضد الهنود الحمر. وهذا يؤكد ان الجانب الإمبريالي في الولايات المتحدة هو جزء عضوي لا يتجزأ من الرأسمالية نفسها, ولا يمكن أن تنمحي الإمبريالية إلا بإمحاء الرأسمالية نفسها (¬1). فالاعتقاد بأن الولايات المتحدة ليست قوة إمبريالية, ولا هي قوة استعمارية رغم امتلاكها قدرات هائلة تمكنها من أن تكون كذلك، وهي لم تمارس الاحتلال والاستعمار كما مارسته القوى الإمبراطورية المشابهة السابقة مثل بريطانيا العظمى وفرنسا والبرتغال وإسبانيا. هذا الاعتقاد هو ما ترسخ في الذهنية الأميركية الجماعية, عبر عقود طويلة من السنين. وبناءً عليه, فإن كل التدخلات الأميركية العسكرية الخارجية والاعتداءات والاحتلالات سواء في أميركا اللاتينية, أم في الهند الصينية أو في فضاء المحيط الباسيفيكي لم يكن هدفها سوى نشر الحرية, أو وقف تقدم الشيوعية, أو دعم الديمقراطية. ولكن هذا الاعتقاد يتعرض لنقد لا يرحم في كتاب (الصرح: صعود وسقوط الإمبراطورية الأميركية) , من تأليف نايل فيرغسون المؤرخ البريطاني وأستاذ التاريخ العالمي في كلية ستيرن بجامعة نيويورك. فبالنسبة لفيرغسون لم تكن الولايات المتحدة ومنذ نشأتها سوى إمبراطورية إمبريالية بالمعنى الحرفي للكلمة (¬2). ¬

(¬1) الفيروس الأميركي .. فضح الإمبرطورية الأميركية- تحرير: جون بيلامي فوستر وروبرت دبليو ماكشنسي- عرض/ كامبردج بوك ريفيوز - الجزيرة نت (¬2) الصرح: ارتقاء وسقوط الإمبراطورية الأميركية: نايل فيرغسون - ط1 2004 - الناشر: ألن لين، بريطانيا- عرض/ كامبردج بوك ريفيوز- الجزيرة نت.

التنظير الجديد لـ (باكس أميركانا)

التنظير الجديد لـ (باكس أميركانا) كما كان (روديارد كبلينغ) , الكاتب والروائي والشاعر البريطاني المشهور في ذروة قوة الإمبراطورية البريطانية, يكتب مدافعاً عن الاستعمار البريطاني من منطلق (مسؤولية الرجل الأبيض) إزاء (تحضير وعصرنة) بقية العالم, تطور في السنوات الأخيرة منظرون أميركيون يسوغون للإمبريالية الأميركية الجديدة إستراتيجيتها وأهدافها في العالم. ففي حربي أفغانستان والعراق كان كثير من التنظير الأكاديمي الذي يُساق مدافعاً عن مسوغات الحرب، يقوم على قاعدة شعور أميركا بالمسؤولية التاريخية بكونها قائدة العالم للتدخل من أجل جلب الحرية والتحضر والسلام للشعب الأفغاني والعراقي. وفي قلب التنظير الجديد لـ (باكس أميركانا) المعاصرة تقع الدعوة إلى الديمقراطية, بكونها الهبة الأميركية التي تحملها الدبابات الأميركية إلى البلدان التي تعاني من الاستبداد. وعلى كل حال الأهم من التنظير هو الفعل, فشبكة القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة على أرض المعمورة مخيفة ولا تترك زاوية من زوايا الأرض إلا وعليها وجود للجيش الأميركي. لكن الأمر المدهش للغاية أنه رغم هذا التواجد الإمبريالي الهائل في طول وعرض الكرة الأرضية، ما زال المواطن الأميركي العادي مقتنعاً بأن بلاده بلاد مسالمة ولا تعتدي على أحد, وإنما تتعرض للاعتداءات من قبل الآخرين. فالحكومات الأميركية المتعاقبة كانت ذكية بما فيه الكفاية، بحيث لم تجعل أمر هذه القواعد العسكرية علنياً ومطروقاً, بل أحيل دائما إلى قائمة الأسرار العسكرية, وبهذا تحالف الجهل العادي مع التجهيل المقصود. ومن هنا فإن ردة الفعل الأميركية الشعبية على تفجيرات11 سبتمبر2001 كانت في الكثير من جوانبها مفاجئة للعديدين حين تبدت سذاجة الرأي العام الأميركي إزاء الشؤون الخارجية والقناعة شبه العامة لدى الأميركيين بأن بلدهم وحكوماتهم ليست سوى أحمال وديعة في عالم من الأشرار (¬1). ¬

(¬1) الفيروس الأميركي .. فضح الإمبرطورية الأميركية- تحرير: جون بيلامي فوستر وروبرت دبليو ماكشنسي.

أمريكيا البريئة

أمريكيا البريئة هناك قضية هامة على المستوى الاخلاقي، تروج لها الثقافة الأمريكية منذ عدة عقود، ومفادها أن أمريكا لا صلة لها بآثام القارة الاوروبية، فالمهاجرون الذين قدموا من هناك بدؤوا تاريخاً جديداً من نقطة الصفر. وتقول الكاتبة: "إن وراء دينامية الحلم الأمريكي، وقوة الاكاذيب تظهر اسطورة اخرى مؤسسة، هي ان أمريكا فقدت براءتها. انهم يعلنون ذلك مع كل ازمة تحدث، وتجد هذه السذاجة الامكانية لتعيد انتاج نفسها من جديد. ان الأمر تكرر في (بيل هاربر) وفيتنام و11سبتمبر". وتتساءل: "كيف يحصل ذلك؟. ان اسطورة الأصل يمكن ان تتلخص هكذا: انسان جديد (الأمريكي) يتخلص من تاريخه ومن مآسي اوروبا العجوز، ويبدأ تاريخاً جديداً من الصفر، على ارض عذراء. لقد كون امة جديدة ويبحث عن السعادة، واجه المأساة (في كل مرة يقال إن هذا يحصل للمرة الأولى). هذه الامة الاخلاقية والمتفائلة تفقد براءتها، كأي حواء تقضم التفاحة". ان النظر إلى التاريخ يكشف انه لا توجد أمة بريئة. وإذا اعتبرنا ان أمريكا غير مسؤولة عن الشمولية والنازية والستالينية والماوية، الايديولوجيات التي خلفت من الموتى في القرن العشرين، اكثر مما عرفه تاريخ البشرية، فهي مع ذلك ليست عذراء ولا طاهرة. انها على الاقل لا تتوقف عن مغالطة ضميرها، والدعوة إلى نظافة نواياها، الأمر الذي يبدو باعثا على السخط. لنلاحظ، انها ليست وحدها، بل معها اوروبا، لا تكف عن ان تعطي لنفسها حق مقاضاة العالم بأكمله، في حين ان ماضيها يجب ان يحرضها على الخشوع" (¬1). لماذا يكرهوننا ربما كانت عبارة كرمويل شديدة الدلالة حين قال: "تسعة يكرهونني؟ وما هم إذا كنت العاشر الوحيد المسلح"، وهي عبارة تستوحي ما قاله فيلسوف روما قديماً: "دعهم يكرهونك ما داموا يخشونك" وهو قول استرشد به الأباطرة الرومان واستخدموه في المحافظة على هيبة الامبراطوريه وفي البطش والإرهاب وإبادة ¬

(¬1) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكر- جريدة الخليح الاماراتية - 15 - 12 - 2005

الشعوب، وهو ما حرك ضدهم جميع أنواع المقاومة التي أدت في النهاية إلى تفكك امبراطوريتهم وسقوطها (¬1). وربما ينطبق هذا القول على الأمبراطورية الأمريكية، ولكن مع الفارق في ان الأمريكان لا يعرفون أو لا يريدون ان يعرفوا سبب كره العالم لهم. ففي مؤتمر صحفي عقده بعيد هجمات 11 سبتمبر، سئل الرئيس جورج بوش لماذا يكرهوننا؟ و (واو) الجماعة كان عائداً على الارهابيين ومؤيديهم، بمن فيهم اولئك الذين كانوا يعرفون باسم الدولة المارقة، والتي ما لبث بوش ان وصمها بمحور الشر (¬2). وقد جاء الجواب مضللاً حينها على لسان بوش الابن وصناع القرار: "أن الذين يهاجمون أميركا يدفعهم الحسد والغيرة من الرفاهية والديمقراطية التي تنعم فيها الولايات المتحدة، وهو الجواب الأكبر شعبية وتعميما اليوم" (¬3). وقد علق على ذلك (وليام بلوم) بقوله: "هناك بعض الابتدال والتفاهات التي يغدينا قادتنا ونقادنا بها عقب كل هجوم ارهابي ضد منشآت امريكية، هي: ان صورة أمريكا، الجميلة الواقفة على التل يحسدها عليها الجميع، مما يجعلها هدفاً لهجمات الارهابيين الذين لا يستطيعون تحمل ان تنتصر مثل هذه الطيبة المطلقة في عالم ينتمى إلى سيدهم ابن الصباح نفسه الشيطان" (¬4). اما لماذا لا ينتبه الأمريكيون لكره العالم لهم، فيعود إلى انشغالهم بأنفسهم، أو كما قال أحد مسؤولي محطات التلفزيون الأميركية العملاقة: "إن الشباب الأميركيين يهتمون بنظام التغذية والريجيم أكثر من اهتمامهم بالخفايا المعقدة لدبلوماسية الشرق الأوسط". وبتفسير أكثر رصانة لرئيس شبكة MSNBC يقول فيه: "إن اللوم يقع على غشاوة وطنية من ضباب المادية، وعدم الاهتمام، والميل إلى الانطواء". وقد أظهر الأميركيون المشاركون فعلياً في السياسة الخارجية الأميركية أنهم ضيقي الافق ومصابون بغطرسة القوة، وراحوا يجادلون بعدم الحاجة إلى ¬

(¬1) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص87 (¬2) الدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص16 (¬3) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص100 (¬4) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد- ص 62 - المجلس الاعلى للثقافة - ط1 2002

الاهتمام بالأمم الأخرى (¬1). ولكن ثورة المعلومات والاتصالات أتاحت الفرصة للاعبين جدد غير الحكومات للعمل والتدخل والتأثير، وحدث ما يمكن تسميته بـ (خصخصة الحرب)، فقد استطاعت منظمات أهلية صغيرة ومحدودة في مناطق فقيرة وهامشية ومعزولة من العالم أن تشغل الولايات المتحدة وتهددها (¬2). فبعد ان شعر الآخرون أن أميركا قد أعلنت الحرب على العالم - وهو امر يصعب على كثير من الأميركيين فهمه وإدراك أن هذا هو رأي العالم بما يقوم به بلدهم في الخارج- بدأ الأمريكيون يشعرون بكره العالم لهم، حيث ان ضيق أفق الكثير من الأميركيين هو المسؤول عن إطلاق هذه الكراهية. ويحاول (كلايد برستوفتز) ان يفسر سبب ضيق افق الأمريكيين وكره العالم لهم فيقول: "هذا ويرجع ضيق الأفق ذاك، إلى حقيقة كون أميركا لا تعنى بالكثير من الأخبار الخارجية ولا تنفتح على الثقافات الشعبية الأجنبية, ويحكمها نواب منتخبون لم يسبق لهم أن غادروا أميركا". فأميركا بالنسبة للغالبية القصوى من الأميركيين هي (أم العالم) أو هي العالم، وكل ما يجري خلف البحار والمحيطات التي تحيط بها لا يعنيهم في شيء. وهكذا فإن عدداً من اصدقائنا وحلفائنا يبادرون إلى تبني وجهة نظر بعد وجهة نظر اخرى، مناقضة لوجهة نظرنا نحن. فهل هم بلهاء؟ تافهون؟ فاسدون؟ قد يكون عدهم كذلك مريحاً، غير ان الحقيقة هي اننا نحن انفسنا، من يجسد حالة الشذوذ والخروج على المألوف. لقد اصبحنا غرباء كدولة وكأمة. كثيراً ما لا ندرك الحقيقة بسبب ضخامة حجمنا بالذات، هذه الضخامة التى تعرقل رؤيتنا للآخرين، وبسبب قوتنا التي تمكننا من ان نفترض ان معيارنا أو رأينا هو المعيار أو الرأى السائد، أو الذى ينبغي ان يكون سائداً في العالم. "وهكذا فاننا ما زلنا، على مستوى شبه طائفي، متمسكين بالاميال والبوصات ودرجات الفهرنهايت، مع ان باقى العالم انتقل منذ زمن بعيد إلى اعتماد النظام المترى الابسط بكثير". يكمن الجانب الغريب حقاً لهذه الظاهرة في حقيقة هي ان باقي العالم يحرص، بسبب قوتنا على مسايرتنا، وعلى (اخذنا على قدر عقولنا) مما يتيح لنا فرصة الغرق في نشوة الانبهار ¬

(¬1) لماذا يكره الناس أميركا?- ضياء الدين سردار وميريل واين ديفز- الناشر: آيكون بوكس ط1 2002 - كامبردج بوك ريفيو (¬2) مفارقة القوة الأميركية جوزف ناي -تعريب: محمد توفيق البجيرمي الناشر: مكتبة العبيكان، الرياض

وعدم رؤية الواقع. ففيما يظل باقي العالم عاكفاً على مراقبة أمريكا باهتمام وعلى اخذ آرائها في الحسبان، يبقى الأمريكيون غالباً غافلين عن وجود آراء اخرى- أو هم لا يبالون بها إذا انتبهوا إلى وجودها. وليس الامر الذى يثير حفيظة الاجانب من النزعة الاحادية الأمريكية متمثلاً بقراراتها السياسية الواعية، بل متجسداً بحالة النسيان والغفلة الكامنة وراء تلك السياسات والخطط (¬1). وهناك أيضاً تأكيد كبير على جوانب ضعف الثقافة الأميركية وفشل المخيلة الأميركية في إدراك مدى المعارضة التي تثيرها السياسات الأميركية. فالأميركي المعزول طوعاً بسبب انشغاله في تفصيلات حياته اليومية, أو قسراً بسبب إغراق وسائل الإعلام في القضايا المحلية والتافهة وملاحقة أخبار الفنانين, لا يستوعب ولا يعرف أساساً ما الذي تقترفه السياسة الخارجية الأميركية في بقية مناطق العالم, وكيف يُنتج توحش تلك السياسة عداوات متراكمة ضد الولايات المتحدة وسياستها وشعبها أيضاً. وعندما تنفجر تلك العداوات بشكل عنيف يتفاجأ الأميركيون ولا يدركون ما الذي حدث ولماذا. فقد شهدت الولايات المتحدة بعد عام 1989 موجة مراجعة شاملة للسياسات والمواقف الأميركية قائمة على الانكفاء للداخل، وتقليص الإنفاق العسكري، حتى إن محطات الإعلام الأميركي خفضت مكاتبها الخارجية بنسبة الثلثين، ولكن أحداث 11 سبتمبر أعادت السياسة الخارجية مرة أخرى إلى الواجهة وجعلتها مركز الإستراتيجية الأميركية، حيث كشفت الأحداث عن الحاجة إلى إستراتيجية أميركية جديدة قائمة على القوة العسكرية والقوة الناعمة التي لا تقل أهمية عن السلاح والتقنية، ويقصد بها الثقافة والإعلام، إذ تبين للأميركيين أن العالم يكرههم، فتنبهوا إلى ضرورة تنفيذ حملة إعلامية وفكرية تحت عنوان (لماذا يكرهوننا؟). http://www.aljazeera.net/books/2003/3/3-5-1.htm - TOP ¬

(¬1) الدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص24 - 25

كراهية السياسة الأميركية

كراهية السياسة الأميركية حدد السيناتور الأميركي الليبرالي (وليم فولبرايت) في كتابه (غطرسة القوة) عام 1966، موطن الداء في السياسة الخارجية الاميركيه التي تهيمن عليها بحسب وصفه "روح توسعيه تسعى إلى هداية الدول الأخرى ودعوتها أو إجبارها على الاقتداء بالنموذج الأميركي، باعتباره افضل ما أنجزته البشرية"، حيث كانت هذه الكلمات صرخة قويه تعبر عن الاحتجاج على اعتبار القوة والفضيلة صنوان يتماهيان إلى حد التطابق، وهذه هي الآفة الكبرى للغرب والتي ستقوده إلى الأفول، وربما ستقود البشرية إلى دفع الثمن الذي لا يحتمل. ليس الغرب إذن مجرد هدف للعنف أو الإرهاب، بل هو كان ولا يزال نموذجاً ومثالاً أعلى لصناعة العنف والقوة والارهاب (¬1). فهذه الحضارة الغربية قد ولّدت أبشع الحروب وأكثرها مأساوية في التاريخ، وأن ضراوة ووحشية تلك الحروب كانت دوماً من حرب إلي أخري، تصبح أكثر تدميراً، وذلك في تناسب مباشر مع الحضارة الغربية وحداثتها. فكلما زادت الحداثة الغربية، زادت إمكاناتها وزادت تبعاً لذلك لا إنسانيتها ووحشيتها (¬2). وبدلاً من ان يعترف الغرب وأمريكا بالذات بمسئوليتهم عن صناعة الارهاب، فإن كثير من التحليلات الأميركية تحوم في مجملها حول القول بأن: "الإرهابيين يستهدفون الولايات المتحدة لأنهم يحسدونها, أو لأنهم يكرهون نمط الحياة فيها, أو لأنهم يحبون الموت الأعمى والمجاني". ولكن البعض يقول إن هؤلاء (الإرهابيين) هم نتيجة لظاهرة, وليس ظاهرة بحد ذاتها معزولة عن جذور مؤسسة لها. إنهم, نتاج السياسة الخارجية الأميركية الفاشلة التي حشدت العداء والأعداء في كل العالم وتحصد الآن ما زرعت ليس إلا. فالعالم لا يكره الولايات المتحدة كشعب, أو طريقة حياة, أو نمط تسييس داخلي. لكن ما تكرهه الشعوب هو سياسة أميركا الخارجية لا ¬

(¬1) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص149 (¬2) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم -القدس العربي- 28/ 2/2003

حياتها الداخلية (¬1). بحيث يصير المعادون لأمريكا ظاهرة عالمية بقدر عالمية الهيمنة الأمريكية (¬2). وهنا يقول مؤلف كتاب (ترهات امبريالية): "كيف يمكن أن نتوقع أن يبلع العرب والمسلمون دعمنا الأعمى واللامحدود لإسرائيل ولسياستها المتجاوزة كل قانون؟. كيف نريد من تلك الشعوب أن لا تكرهنا ونحن ندعم الأنظمة الفاسدة التي تتحكم في رقابها, على عكس كل شعاراتنا الديموقراطية وكل تغنينا بحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية؟ كيف يمكن أن نتوقع استمرار سكوت هذه الشعوب على السياسات العقيمة التي لا تنتج إلا التطرف بعد أن نكون قد سددنا عليهم كل نوافذ التحرك السلمي والاعتراض غير العنيف؟ ". وهنا يقف المؤلف أكثر من مرة ليكرر أنه بكلامه هذا لا يبرر ما فعله بن لادن ولا يقبل أياً من مسوغاته, لكنه في الوقت ذاته فإنه لا يتردد في توجيه النقد الذاتي إلى السياسين والمفكرين الأميركيين الذين إما كانوا على درجة رفيعة من السذاجة السياسية والثقافية في تجاهلهم للنار التي تمور تحت الرماد, وإما كانوا على درجة كبيرة من الخبث أو اللامبالاة حتى بمصالح بلدهم عندما أوغلوا في سياسة الازدراء والعنجهية الخارجية. لكن سواء أكانت السذاجة أم اللامبالاة فإن الجذر الذي يرصده المؤلف يعود إلى ما يسميه (الترهات أو العجرفة الإمبرطورية) التي تفاقم تحكمها في العقلية الأميركية خلال العقود الأخيرة. فهذه العقلية تؤمن بأن أميركا, سيدة العالم الحر, بإمكانها أن تفعل ما تشاء لأنها تريد تحقيق الخير والمصلحة للعالم ونشر الحرية والديمقراطية. وتعتقد أنها تظل تفعل ذلك حتى تحالفت مع نظم مستبدة أو قلبت أنظمة حكم ديمقراطية أو ضربت حركات تحرر تتأسس لتقاوم الظلم والدكتاتورية في بلدانها. فثمة التباس كبير في الإدراك الأميركي العام, إن على مستوى القيادة السياسية العليا, أو الرأي الشعبي العريض, في اعتبار مصالح الولايات المتحدة هي مصالح البشرية. وأن ما يستعصي على الفهم خارج إطار هذا الالتباس الفاضح مرده إلى تخلف الآخرين وراء ¬

(¬1) لماذا يكره الناس أميركا? تأليف- ضياء الدين سردار وميريل واين ديفز- كامبردج بوك ريفيو (¬2) العدو الأمريكي (اصول النزعة الفرنسية المعادية لأمريكا - فليب روجيه - ترجمة بدر الدين عردوكي - المشروع القومي للترجمة عدد816 - ط1 2005

الكيان السياسي العنيف

الحدود أو حسدهم أو إرهابهم غير المفهوم أو محدودية ثقافتهم التي لم تنقلهم النقلة المطلوبة لاستيعاب فكرة تماهي المصلحة الأميركية بالمصلحة البشرية العامة. إذ لم يكن مفهوماً بالعمق المطلوب أن هناك مظالم متراكمة وتاريخية ومعاصرة وصلت بشعوب بأكملها إلى انسدادات مطبقة (حيث الأنظمة المستبدة داخلياً, والقوى الضاغطة خارجياً) مما دفع بشرائح من الشبان إلى حواف الجنون والتطرف الذي لا يُرى إلا بأنه أعمى، عندما يرى من الخارج (¬1). الكيان السياسي العنيف ان تحليل الأسباب السياسية التي تجعل أميركا مكروهة توضح ان: "ما يكرهه الناس في أميركا هو ذلك الكيان السياسي المستند إلى العنف وازدواجية المواقف, والخيلاء, والأنانية, والسذاجة التاريخية التي لا تفرق بين الذات وبقية العالم". فالولايات المتحدة في تعاملها مع بقية العالم تتصرف مثل مراهق نزق هائل الحجم, فإن لم تعجبها السياسة الاقتصادية لبلد ما، فإنها تسحقه بواسطة منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي. فإذا لم يأت لها ذلك بالنتيجة المطلوبة فإنها تفرض عليه العقوبات أو تسعى إلى الإطاحة بزعمائه في انقلاب مدبر كما حدث في إيران وتشيلي وغواتيمالا. أو عن طريق الغزو العسكري كما حدث في أمريكيا اللاتينية واوروبا واسيا". وهنا يقول ايمانويل فالترشتاين: "تبالغ الولايات المتحدة في التعويل على ورقة واحدة في لعبة (البوكر) الدولية، هي الورقة العسكرية. صحيح انه لا يطيب لنا ان نرى انفسنا شعباً مولعاً بالحرب، ولكن هل نستطيع ان نتوقع من الآخرين ان يعانقونا على اننا (محبو سلام) وهم يرون بأعينهم اننا لا نثق في الحقيقة الا بالسلاح (¬2). فمن اجل ترسيخ وتثبيت حقها في استغلال الشعوب الأخرى، تلجأ أمريكا بانتظام إلى استخدام أشكال العنف المتطرفة، وفي طليعتها الحرب. فعلى مدى ¬

(¬1) ترهات إمبريالية-المؤلف: مجهول-الناشر: واشنطن بريسيز إنك ط1 2004 - عرض/ كامبردج بوك ريفيوز- الجزيرة نت 5 - 10 - 2004 (¬2) لدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص222

نهب ثروات الأمم

العقود القليلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ارتكبت الولايات المتحدة من الجرائم الحربية ضد البشرية، ما يكفي لجعل النظام العالمي الأمريكي جديراً بمحاكمة نيورنبرغ، والإدارة الأمريكيه جديرة بالمصير الذي احاق بالمجرمين الهتلريين. وتلكم هي قائمة العدوان السافر فقط هذا عداك عن الحرب غير المعلنة التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكيه وعلى مدى عشرات السنين ضد السلفادور غواتيمالا، كوبا، نيكاراغوا أفغانستان وإيران واتفقت الأموال الطائلة لدعم الأنظمة العميلة لأمريكا أو المتمردين الذين يتلقون دعم أمريكا، والذين يعارضون الحكومات الشرعية، التي لا تعترف بالسيطرة الأمريكيه في هذه المنطقة. أما هندوراس فقد حولتها الولايات المتحدة إلى رأس جسر للعدوان على السلفادور ونيكاراغوا. وبلغ إجمالي ضحايا الحروب والإرهاب الأمريكيه خلال اقل من نصف قرن تقريبا 1948 - 1996اكثر من 10مليون شخص، هذا عداك عن الجرحى والمشردين (¬1). وربما هذا هو ما دفع (مارتن لوثر كينج) للتحدث باسم قارات بأكملها حينما صرح قائلاً: "إن متعهد العنف الوحيد في العالم هو بلدى" (¬2). نهب ثروات الأمم بالاضافة إلى ان العالم يكره السياسة الأمريكية العنيفة والمتطرفة، فإن هناك اسباب مهمة أخرى لكراهية العالم لأمريكيا. فالاسباب الاقتصادية لكراهية أمريكا تعود الي، إن أميركا "قد جعلت العيش أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة للشعوب الأخرى", بسبب ما تعمد إليه من تلبيس اهتمامها الوحيد بالتجارة الحرة بلبوس المظهر الإنساني الذي تتخذ منه ذريعة للمزيد من التدخلات الخارجية حول العالم (¬3). وإذا كانت التجارة الحرة قد تحولت إلي كلمة مألوفة بعد ان تم إيجاد منظمة التجارة العالمية مؤخراً لمراقبتها، فقد ظلت سياسة التجارة الحرة علي الدوام محوراً للرأسمالية الأنجلو-سكسونية. وكان البرلمان البريطاني قد أصدر بيان مبادئ منذ ¬

(¬1) لهذا كله ستنقرض أمريكا، الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى- ايرينا بونتشينسكايا - ص 81 - دار الحصاد للطباعة والنشر والتوزيع / دمشق- ط1 2002 (¬2) بوش في بابل (اعادة استعمار العراق) - طارق على ترجمة د. فاطمه نصر ص230 (¬3) لماذا يكره الناس أميركا? تأليف- ضياء الدين سردار وميريل واين ديفز- كامبردج بوك ريفيو

عهد سحيق يعود إلي عام 1820 دعماً للتجارة الحرة المطلقة. وقد تمت إعادة صياغة هذا البيان بموجب قوانين كورن عام 1846. وهكذا فإن أيديولوجية الرأسمالية الحاليّة القائمة علي المبادئ الداروينية الأنكلوسكسونية لم تتغير وما زال هدفها النهائي هو المال الذي يجر مالاً، ويجب أن يكون كذلك وبأية وسيلة بالحرب أو السلام. فقط هي الوسائل التي تغيرت، فقد كانت في الماضي عبارة عن الاحتلال المباشر للدول، أما اليوم فتتم من خلال مصائد الديون وإخضاع الإرادة والاستقلالية الاقتصادية. فبعد ان انتهى عصر الاستعمار المباشر وتحرر معظم دول العالم وحصولها على استقلالها، لجأت الدول الاستعمارية إلى اسلوب جديد من الاستعمار من خلال التركيز على نخب معينه في مختلف المجالات لضمان تبعيتها للاستعمار وتنفيد مطالبه واهدافه مقابل منافع خاصه لهذه النخب. فقد تم إيجاد نخبة مختارة في كل بلد ودربت هذه النخبة لخدمة المستعمرين مقابل منافع خاصة بهم. وهكذا وجدت طبقة الواحد بالمئة في هذه المستعمرات وباتت مصالحها ومصالح المستعمر وقوانينه واحدة لا تتجزأ. وفي الوقت نفسه، كانت هذه المصالح، بطبيعة الحال، مختلفة عن مصالح الشعوب. فقد كانت المواد الخام تنتج في المستعمرات وتشحن إلي الدول الغربية حيث تصنع ويعاد شحنها من جديد إلي المستعمرات كمنتجات لتصريفها في أسواقها. أما في النظام الاستعماري الجديد، عندما أصبح النمط القديم من الاستعمار باهظ التكلفة، فقد اعتنق الغرب مبدأ الاستعمار غير المنظور، حيث منحت المستعمرات استقلالها وقام الغرب بتنصيب تلك النخبة التي قاموا بإعدادها وتعيين أفرادها قادة وحكاماً للبلدان المستقلة الجديدة. ومن خلال حرية تحرك رؤوس الأموال والسلع استحوذ المستعمرون الجدد علي القطاعات الصناعية والمالية والشركات الأخري في المستعمرات السابقة، عن طريق الشركات متعددة الجنسيات التابعة لهم (¬1). وقد سبق لانجلز ان اعرب في احد كتبه عن اعتقاده أن الليبرالية الداعية إلى التجارة الحرة تعاني من خلل ضمني يتعلق بصميم تكوينها لأنها تقوم على استغلال ¬

(¬1) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم- القدس العربي- 3/ 2/2003

الطبقات العاملة: وهو وضع بات يعبر عن نفسه بالجريمة وسوف يقود سريعاً إلى الثورة (¬1). فالولايات المتحدة تشكل اليوم النموذج الأبرز للطفيلية الاقتصادية في التاريخ العالمي: فهي تستهلك 40.% من إجمالي موارد العالم الاستهلاكية، في الوقت الذي لا تزيد نسبة سكانها عن 5 % من سكان العالم. وهي إذ تستولي من البشرية على القسم الأكبر من الموارد، لا تدفع إلا النذر اليسير مقابل ذلك، والأكثر من هذا أنها تخلف وراءها الطبيعة الميتة والأنهار والأجواء المسمومة، فثلث التلوث للبيئة يحدث بسبب الولايات المتحدة. ومن حيث المعايير الاقتصادية فان ما ينتج في الولايات المتحدة ليس أمريكيا في الواقع بل يخص البشرية، التي قامت بتصديره إليها. إن كل أمريكي يستهلك اليوم ثمانية امثال ما يستهلك نظيره في العالم. فهل يعقل إن يصدق أحد إن الفضل في تأمين هذا المستوى الخارق من الاستهلاك يعود فقط إلى الاجتهاد المميز في العمل أو إلى الإنتاجية العالية؟ (¬2). لقد خلص الكثير من المفكرين إلي أن الرأسمالية التي ترتكز علي ثقافة الرغبة، قد فشلت في الوفاء بوعودها، وبدلاً من ذلك فهي لم تجلب لمعتنقيها سوي التعاسة. وكتب (لي آتووتر)، وهو أحد الرموز البارزة في إدارة الرئيس ريغان، في عدد فبراير 1991 من مجلة (لايف): "لقد ساعدني مرضي علي أن أدرك أن ما كان مفقوداً في المجتمع كان مفقوداً في داخلي أنا أيضاً: قليل من الحب والمودة وقليل من الأخوة. كانت الثمانينيات عقد الاكتساب- اكتساب الثروة والقوة والهيبة، وأعلم أنني اكتسبت من هذه كلها أكثر مما اكتسبه غيري بكثير. ولكن بإمكان المرء أن يكتسب من الثروة والسلطة والهيبة قدر ما يريد، ولكنه سيظل فارغاً خاوياً من الداخل ... لقد تكلفني الأمر هذا المرض العضال القاتل حتي أصل إلي الحقيقة وجهاً لوجه، حقيقة أن هذا البلد، الذي يرزح تحت الطموحات التي لا ترحم والانحلال الأخلاقي، يمكنه أن يتعلم علي حساب تجربتي. لا أعلم من سيقودنا في عقد التسعينيات، ولكن ينبغي عليه أن يتحدث صراحة عن هذا الخواء الروحي في قلب المجتمع الأميركي، إنه ورم ¬

(¬1) إنجلز .. مقدمة قصيرة جداً- تيريل كارفر- مراجعة/ كامبردج بوك ريفيوز- الجزيرة نت (¬2) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 64

الأسباب الحقيقية لكره العالم لأمريكا

خبيث ينتشر في أرواحنا". لقد اتفق الكثيرون في أميركا مع هذا التحليل: أن هناك ورماً خبيثاً يسري في أعماق الرأسمالية وماديتها ويتغلغل في روحها. ولو قلنا إن أولئك العاملين في قلب الرأسمالية ومركزها والذين يحولون مصادر العالم وثرواته لتصب في جيوبهم ليسوا سعداء ضمن هذا النظام الرأسمالي، فما من شك في أن أولئك الذين عانوا أيضاً من استغلالية هذا النظام في دول الأطراف ليسوا سعداء أيضاً، إن لم نقل أكثر تعاسة. لقد بدأ الطرفان، أباطرة الرأسمالية والشعوب في دول الأطراف، بالبحث عن الحل. يخبرنا التاريخ أن الإنسان منذ بدء الخليقة كان محتاجاً إلي روابط روحية وكان له إلهه الذي يعبده. لقد عاد الناس في كل دول العالم إلي أديانهم وكتبهم المقدسة. وحتي أولئك الذين لم يجدوا إجابات في كتبهم استمروا في البحث عنها في أديان أخري. وظهر العديد من المنظمات الرئيسية الدينية، إلي جانب التنظيمات المتطرفة التي تسمي في أميركا بالجماعات المتعصبة، في كل الديانات مثل المسيحية والإسلام واليهودية وحتي في ديانات أخري مثل الهندوسية. وكلما أصبح تعصب الأسواق أكثر وحشية ازدادت التوترات وارتفعت وتيرة كل أشكال التعصب الأخري (¬1). الأسباب الحقيقية لكره العالم لأمريكا اذ كانت الاسباب السابقه هى مؤشرات لاسباب كره العالم لأمريكا، الا ان السبب الحقيقي يكمن في ان العقلية الأمريكية المبنية على القواعد التلموذية هى التى تجعل العالم يكره أمريكا، بسبب كون الثقافة الأمريكية في جزء كبير منها ذات جذور يهودية. فكما كره العالم اليهود واليهودية بسبب تكوينهما الفكري والديني العنصري والوحشي والاستغلالى، فان العالم اليوم يكره أمريكا لنفس السبب السابق، حيث تعتبر أمريكا نفسها اسرائيل الجديدة وشعبها شعب الله المختار الذي ميزه الله عن غيره وحمله رسالة الهية لتمدين العالم بكل الوسائل. "وتساند هذه الرسالة رؤية فلسفية حددتها البراجماتية، منها الإيمان بأن الحياة، ثقافة واقتصاداً وسياسة، صراع دموي، وأن البقاء للأقوى. إن مبدأ التطور، حسب التأويل البراجماتي، ¬

(¬1) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم- القدس العربي- 3/ 2/2003

يبرر التنافس بين الثقافات. وإن الحروب بين الحكومات والأديان والنظم الإجتماعية والأجناس البشرية والطبقات تقوم على أساس أن بقاء للأصلح، بمعنى الأقوى في نظرهم، هو قانون الطبيعة، وهي طبيعة (حمراء الظلف والناب). وإذا كان الإنسان قد خرج من الصراع وهو سيد الأنواع، فلماذا لا نتطلع إلى سلالة بشرية تكون سيدة السلالات؟ وإذا كانت الثقافة قد تطورت من خلال عملية مماثلة، فلماذا لا نتطلع إلى تقافة هي سيدة الثقافات؟ وبقاء الثقافة وانتصارها على سواها رهن بعمل وجهد أصحابها" (¬1). هذه الثقافة الأمريكية التي استمدت جذورها من ثقافة العهد القديم، ثقافة النهب والسلب والابادة والقتل والدمار، هى ما يكرهه العالم في أمريكا. ولهذا فقد أمضى (توماس باين) كل حياته في التفنيذ والنقد والتحذير من كتابه المقدس الذي "يفسد البشر ويصنع منهم وحوشاً". انه في عصر العقل يعري أخلاق (العهد القديم) التي تبرر الإبادة والمذابح الطقسيه والتضحية المقدسة بذلك (الآخر) الكنعاني المهدور الدم ... في هذه التعرية يرينا توماس باين كيف يمكن للخطاب المقدس إن يصنع من الإنسان وحشاً يوحد بين طبيعته الوحشية وما يعتقد انه إرادة الله" (¬2). وباختصار يمكن القول ان إمبراطورة الشر في العالم تتجسد الآن في أمريكا وقد تمادت في غيها إلى أقصى الحدود مستخدمة كل أنواع الفجور المشفوعة بكل أنواع القوة، بدءاً من أول تاريخها الذي قام على إبادة شعب قارة بأقذر الطرق وأفظعها بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، وحتى هتلر ودعواه العرقية التي يحتمل انه استمدها من غزاة القارة الأمريكيه، لم تستطيع أن تصل إلى سوية ممارستهم، وانتهاء بالواقع الراهن الذي تباح فيه كل أنواع المحظورات الأخلاقية والأدبية وتحت شعارات واهية (الحرية). وأما حرية الشعوب والحقوق التي يتحدثون عنها بشكل يصم الآذان فلا تتعدى قول بوش الأول: "ما نقوله يمشي". فالحق ما تقوله أمريكا وكلام أهل الأرض قاطبة ضلال. وهنا يبين المفكر واللغوي المشهور (نعوم تشومسكي) كيف أوصلت الولايات المتحدة العالم إلى لحظة الحدود النهائية ¬

(¬1) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص228 (¬2) حق التضحية بالآخر- تأليف منير العكش-ص154

معنا أم ضدنا: دراسات في ظاهرة معاداة أميركا عالميا

بين امتيازات القوة وإمكانية العيش على الأرض، وما هي المخاطر المحدقة بالعالم بسبب هذه السياسة، ولماذا يرغب القادة الأميركيون في تعريض مستقبل البشر للخطر من خلال السعي للسيطرة على العالم مهما كانت التضحيات والخسائر، مثل إرهاب الدولة، وعسكرة الفضاء، وتعطيل الاتفاقات الدولية (¬1). معنا أم ضدنا: دراسات في ظاهرة معاداة أميركا عالمياً تكمن أهمية كتاب (معنا أم ضدنا: دراسات في ظاهرة معاداة أميركا عالمياً) في أن محرريه, قد عالجا مسألة انتشار ظاهرة العداء للولايات المتحدة الأميركية على المستوى العالمي وفي مناطق مختلفة ومتباعدة ومن زوايا عدة, ولم يختصرا أو يربطا ظاهرة العداء لأميركا بالشرق الأوسط أو العالم العربي والإسلامي كما حاول غيرهما فعل ذلك (لغاية في نفس يعقوب)، حيث يشير المحرران في مقدمة الكتاب إلى أن ظاهرة العداء المتزايد للولايات المتحدة الأميركية في العالم إنما تعود إلى التناقض الكامن في سياسات الولايات المتحدة نفسها, فهي تدعو إلى احترام القانون وفي نفس الوقت تقوم بانتهاكه, وتدعو إلى احترام الديمقراطية ثم تقوم بانتهاكها. ومن هنا, فإن انتشار المشاعر المعادية للولايات المتحدة لا يعد إلا رد فعل على سياساتها المتضاربة التي تعتمد على التحدي الفردي والقوة العسكرية بشكل مبالغ فيه, وهو الأمر الذي من شأنه أن يولد شعوراً لدى الجماعات الوطنية والدينية المختلفة بخطورة الولايات المتحدة وبكونها عدواً تشكل (رسالته العالمية) تهديداً لها. ويضيف المحرران أن سياسات جورج بوش كانت سبباً أساسياً في انتشار مظاهر العداء للولايات المتحدة الأميركية، وإن هذا العداء هو عداء لسياسات بوش بالدرجة الأولى وإدارته، التي عكست للآخرين مدى الانفراد الأميركي بإدارة شؤون العالم، الأمر الذي قاد العديدين للقول بعجرفة وغطرسة الولايات المتحدة الأميركية خاصة اثر تصرفاتها الأحادية. ¬

(¬1) الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم - نعوم تشومسكي -ترجمة سامي الكعكي -تقديم/ إبراهيم غرايبة الجزيرة نت -29/ 7/2004م

مؤشرات سلبية عن صورة أميركا في أوروبا

مؤشرات سلبية عن صورة أميركا في أوروبا لم يحدث في تاريخ أوروبا أن تشكلّ إجماع شبه مطلق ضدّ أمريكا مثلما هو الحاصل الآن بعد شروع أمريكا في إحتلال العراق. وإذا كان الإعتراض على أمريكا في أوروبا في وقت سابق مقصور على التيارات والنخب الثقافية اليسارية, فقد بات الغضب على أمريكا سمة الشارع الأوروبي في الظرف الراهن. ولأوّل مرة تتوافق القوى السياسية اليمينية واليسارية والتي تقف في الوسط, والكنائس والتيارات الدينية بمختلف مذاهبها، على الإعتراض الشامل على أمريكا سياسة وتوجهات عدوانية. كما أنّه ولأول مرّة وفي معظم الدول الأوروبية تتقاطع فيه التوجهات الرسمية مع التوجهات الجماهيرية، حيث أصبحت أمريكا دولة عدوانية بدائية، بعد أن نجحت في تسويق نفسها أوروبياً في وقت سابق كدولة ديموقراطية أولى في العالم (¬1). وتؤكّد إستطلاعات الرأي العام في معظم العواصم الأوروبية كألمانيا والسويد والنرويج وفنلندا والدانمارك وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا واليونان وغيرها، أنّ أغلبية شعوب هذه الدول هيّ ضدّ أمريكا وسياستها العدوانية في العراق. ففي فرنسا تضامن الشعب الفرنسي والحكومة مع خسائر الولايات المتحدة في أحداث 11 سبتمبر, لكن الولايات المتحدة خسرت هذا التعاطف تجاهها، عندما قررت غزو العراق دون الاكتراث لموقف (أوروبا العجوز) -على حد تعبير وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد- وقتئذ. وفي ألمانيا تولدت ظاهرة العداء لأميركا نتيجة عوامل عديدة، أبرزها العوامل التاريخية مثل الماضي النازي وذكريات الحرب الباردة. وقد عززت الحرب الأميركية على العراق وإمطاره بالقنابل والقذائف والصواريخ المخاوف الشعبية الألمانية، وأحيت ذاكرته المرتبطة بذكريات مشابهة عن قصف مماثل تعرضت له المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وطرد الألمان من شرق أوروبا. ولا يقتصر العداء على الجانب السياسي, إذ تعارض قطاعات واسعة في ألمانيا نموذج حرية السوق الأميركية. ويندرج في هذا اهتمام الأجيال الشابة في ألمانيا، كما هي ¬

(¬1) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm

هل يجب الخوف من أمريكا؟

الحال في أوروبا عموماً، بقضايا مثل العولمة وتدهور البيئة، والدور السلبي للولايات المتحدة تجاهها. أما في روسيا فإن المشاعر القومية والدينية (الأرثوذكسية) تلعب دوراً في تغذية العداء للولايات المتحدة، وإن انهيار الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى خلق لدى البعض امتعاضاً ومشاعر كبيرة من العداء لأميركا، خاصة عندما يقيم القوميون الروس مقارنة بين التدخلات الانتهازية والاستعمارية للولايات المتحدة في العالم من جهة، ومساندة الاتحاد السوفياتي لشعوب العالم المقهورة ودعم حركات الاستقلال سابقاً, بهدف المساعدة وليس المصلحة من جهة ثانية, كما يقول هؤلاء. وهم كما الألمان والفرنسيين عارضوا بشدة الحرب الأميركية على العراق عام 2003 (¬1). هل يجب الخوف من أمريكا؟ تعتبر (نيكول باشاران) (¬2) الاختصاصية الأولى على المستوى الفرنسي في شؤون الولايات المتحدة، ويكاد أن يصح العكس ايضاً. هي امريكية لدى الفرنسيين، وفرنسية لدى الأمريكان. لقد بلغت أرجاء العالم قاطبة اصداء الصرخة التي اطلقتها بعد ساعات من احداث 11 سبتمبر عبر القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي: (كلنا امريكيون)، وصارت شعاراً، قبل أن تتحول لاحقاً إلى مبرر لنقد انسياقها وراء العاطفة الأمريكية الجياشة، بدلاً من ان تعمل ميراثها (الديكارتي) من أجل قراءة متأنية للموقف. وتقدم في كتابها الجديد الذي صدر بالفرنسية: (هل يجب الخوف من أمريكا؟)، صورة هي كناية عن مزيج بين تجربة شخصية حياتية قائمة على المعايشة والمعاينة المباشرة، وقراءة سياسية مبنية على محاكمة منهجية يلعب التاريخ دوراً أساسياً في توجيهها، حيث تبدأ الكتاب باعتراف شخصي على قدر كبير ¬

(¬1) معنا أم ضدنا: دراسات في ظاهرة معاداة أميركا عالمياً- المحرران: توني جدت ودنيس لاكورن- عرض علي حسين باكير- الجزيرة نت (¬2) مؤرخة وخبيرة سياسية في شؤون المؤسسة الأمريكية. درست وتخصصت في شؤون الاقلية السوداء، وعاشت قسطاً طويلاً من حياتها في أمريكا، لكنها عادت إلى وطنها الأم فرنسا منذ عقد من الزمن، وهي متفرغة الآن للبحث بالتعاون مع "معهد العلوم السياسية"، ومستشارة اعلامية في نفس الوقت للعديد من وسائل الإعلام، في الشأنين الأمريكي والفرنسي.

تجربة شخصية

من الأهمية: "لطالما تساءلت أنا شخصياً، في ما إذا كانت أمريكا مصدر ألم العالم. وفي ما إذا كان واقع الحال، يطابق الصورة التي ترسم لها من هذه الضفة الثانية من الاطلسي: مغرورة، عنيفة، عديمة المساواة، مبتذلة، أمريكا امبريالية. ان أمريكا مثلما تسحر، هي موضوع كل حوار، وهدف كل نقد، لقد تم الحكم عليها بوصفها المسؤولة عن كل صداع الأرض. بل انها تحولت في السنوات الأخيرة إلى مادة للتندر، وصارت عبارة: على الطريقة الأمريكية، مثار شتيمة. (تحرير على الطريقة الأمريكية) و (نظام صحي على الطريقة الأمريكية) و (طائفية على الطريقة الأمريكية) ". تجربة شخصية تقول الكاتبة: أمريكا جزء من تاريخي وعائلتي وثقافتي. امضيت طفولتي في فرنسا في وسط فرنسي امريكي، وجزءاً من حياتي بعد ذلك في الضفة الأخرى من الاطلسي. تابعت دراساتي وعملت وربيت بناتي الثلاث في الولايات المتحدة، لقد كنت أراهن وهن يكبرن هناك، وفي كل صباح يقفن في ساحة المدرسة لتحية العلم الأمريكي، وهن ينشدن، والأيادي على القلوب، النشيد الوطني الأمريكي في المناسبات. شقيقتي عاشت هي الأخرى هناك واختطفها الموت قبل الأوان. حماتي لاتزال تعيش هناك في وسط امريكي محض. داخل هذه القبيلة الغريبة، الانجليزية هي لغة البيت: الضحك والمشاحنات والمسامرات. لقد عدت للاستقرار في فرنسا منذ حوالي عشر سنوات، لكن ما ازال موزعة بين البلدين. أمريكا الخاصة بي، كما يقول المغني الراحل (جاك بريل): "ليست حلما ولا وسواسا. انها ببساطة، حياتي وعملي". في كل يوم من اجل ناشري ومستمعي ومشاهدي على التلفزيونات، وجمهوري في الندوات، احاول ان اقيم مسافة: اشرح أمريكا للفرنسيين، وفرنسا للامريكيين. اشعر بالاغتناء من هاتين النظرتين للعالم، وأنا كالجسر بين هاتين الحقيقتين. وتضيف: ابحر دائماً بين هذين القطبين والقارتين، وحين هبت ريح مجنونة بينها خلال عدة اشهر، في فرنسا رأيت هوة تحفر، سوء تفاهم يقوم ... فجأة تحولت أمريكا إلى طفلة

نعم، الحلم الأمريكي لا يزال له معنى ... ولكن!

الغرب الشقية، بشعة ومرعبة، وحش مغرم بالغزو. هل حقاً أمريكا التي تخصني تتصرف بهذه الطريقة الفظة؟. نعم، الحلم الأمريكي لا يزال له معنى ... ولكن! تحت هذا العنوان تبدأ المؤلفة بالاستشهاد بجملة لمهاجر ايطالي في نهاية القرن التاسع عشر مخطوطة على باب متحف نيويورك تقول: "قالوا ان شوارع أمريكا مبلطة بالذهب، لكني حينما وصلت اكتشفت ثلاثة أشياء: الأول، انها غير مبلطة بالذهب. الثاني، انها ليست مبلطة على الاطلاق. الثالث، انهم ينتظروني لأقوم بتبليطها". ومن هنا تطرح السؤال: كم عدد الناس الذين رغبوا بالذهاب إلى أمريكا؟. عشرات ملايين النساء والرجال والاطفال، راودهم هذ الامل. هناك ارض بوسعنا ان نبدأ فوقها حياة جديدة، هناك بلد حيث بوسعنا الوصول إلى ما هو غير متاح: الحرية، الرخاء المادي، بل ان الثروة ممكنة كذلك. هذا هو (الحلم الأمريكي). فالحلم الأمريكي ليس طموح المحظوظين والأحرار والذين يعيشون الرفاه المادي، انه حلم الفقراء والمهاجرين الذين يحاولون منذ عدة قرون، بشتى الوسائل، الوصول إلى أمريكا (¬1). ولكن هذا الحلم له وجه آخر .. فنحن نعرف منذ البداية ان هناك وجهاً مخفياً لهذا التاريخ الجميل، كذبة خلف المثاليات الكبرى، نوعاً من الخطيئة العامة. فالقارة التي تم اكتشافها من طرف المستكشفين الاوائل لم تكن خالية تماماً، مثلما كان الامر بالنسبة إلى سكانها الاصليين، اذ لم تكن هناك حرية ولا سعادة، ولا حتى حياة. كانت البداية بين المستوطنين والهنود الحمر عبارة عن صدامات ومجازر، ولكن تحالفات ايضاً، وحتى زيجات. لكن لم يطل الوقت حتى بدأت الصدامات بين الطرفين وكان البادئ بها هم المستوطنين الذين جاؤوا من اوروبا، بهدف توسيع مزارعهم وزيادة ملكياتهم من الاراضي، لذا كان طرد الهنود لا رجعة فيه، ومهما بلغ الثمن. فكانت المجازر وعمليات الترحيل الجماعي نحو جزر الانتيل، ومن ثم موجات الموت ¬

(¬1) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكر- جريدة الخليح الاماراتية - 15 - 12 - 2005

أمريكيا طليعة الانحطاط

الجماعي عن طريق الانفلونزا والسل وأمراض اخرى، لم تكن معروفة حتى هذا الوقت في هذا الجزء من العالم. لقد قاد ذلك إلى حلم مشوه ومنحرف. في سنة 1820 كانت يتوجب عليهم ترك كل المناطق لعبور نهر اوهايو شمالاً، وفي سنة 1830 طردوا جميعاً إلى غرب الميسيسيبي. شيئاً فشيئاً بدا ان هناك عملية مسح مدروس للهنود من الأرض التي عاش عليها اجدادهم آلاف السنوات. مكان فارغ من اجل الحلم الأمريكي! كانت المواجهات الاخيرة مع القوات الفيدرالية سنة 1890، ولم يبق من الهنود في مناطق المحميات المخصصة لهم سوى 300 ألف نسمة. وقد اتبعت الحكومة سياسة الحفاظ على هذا القدر، وأعطتهم حق ادارة القطعة الصغيرة الواقعة تحت تصرفهم مع منحهم الجنسية الأمريكية، بعضهم اندمج في المجتمع الأمريكي، والبعض الآخر لايزال يعيش على طريقة الأجداد. وتتساءل الكاتبة: هل تصفية الهنود كانت مزروعة في جذر الحلم الأمريكي، هل كانت المقابل الذي لم يكن من الممكن تلافيه لديمقراطية جيفرسون؟ وتجيب: لا اعتقد. ان بناء عالم جديد لا يحتم تصفية السكان القدامى. كان هناك الفضاء الكافي، والمتسع من الارض، بل ان بعض القيم الهندية كان يمكن ان يجد مكانه داخل الحلم الأمريكي، وكان بوسع هذه البصمات والانسجام ان يخلقا عالماً جديداً عن حق (¬1). أمريكيا طليعة الانحطاط هكذا تحول الوهم الذي دام اكثر من مائة عام، والذي سمى بالحلم الأمريكي إلى كابوس أمريكي، بسبب رغبة قادة أمريكا في السيطرة على العالم وبسبب جموحها البربري في التسلح، وبسبب نفاق تلك (الليبرالية) الإقتصادية المفروضة على الشعوب لامتلاك أسواقها بإنشاء عدة امبراطوريات للشر متعاقبة، تبرر إرهابها الخاص باسم محاربة الإرهاب، وتبرر جرائمها ضد الإنسانية: ضد الهنود والسود والفيتناميين، والحصار المفروض على كوبا وليبيا وإيران، والعراق الذي يشهد الصليب الأحمر الآن بأن أكثر من مائتين وخمسين ألف من أطفاله قد ماتو، في الوقت ¬

(¬1) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكر- جريدة الخليح الاماراتية - 15 - 12 - 2005

الذي تشهد فيه أيضا منظمة (اليونيسيف) بأن طفلاً من بين ثمانية أطفال في أمريكا نفسها لا يجدون ما يسد رمقهم. إن هؤلاء المدافعين عن (حقوق الإنسان)، إلى جانب جرائمهم ضد الإنسانية، يسجلون الأرقام القياسية العالمية في تعاطي المخدرات، وانتحار المراهقين، وعدد الجرائم والفساد والمسجونين والموضوعين تحت المراقبة. وتغطي السينما الأمريكية، بالديكورات الحالمة، شراهة حيتان مسلسل (دالاس)، كما تخفي حقيقة عنف ديناصوراتهم، ومدمريهم من أفلام (شوازينجر) الذي اصبح حاكم ولاية كاليفورنيا. إن إعلامهم وجميع وسائله هي شعاع الموت الذي يحطم على المستوى العالمي روح النقد، بل الروح ذاتها، في الثقافة، والأمل، والحب، عند خمسة مليارات من البشر" (¬1). لقد اصبحت قيادة المجتمع الغربى والعالم بقبضة دوله بلا خلفية حضارية وبلا تاريخ .. وبلا اهداف سامية. فقط جمع المال والسيطرة على الآخر. فأمريكا تلك التى اصبحت قائدة الغرب الرأسمالى، تشكلت من مجتمع هجين، اناس مغامرون يبحثون عن الماال والربح السريع، ومستعدون للتنازل عن كل شئ مقابل الحصول عليهما. حيث اقاموا مجتمعاً جديداً، خليطاً من عدة اجناس وقوميات لا رابط بين افراده .. الا الربح على حساب تدمير وسحق اصحاب البلاد الاصليين (الهنود الحمر) " (¬2). وهذه الدولة استطاعت عبر رؤوس الاموال المكدسة لديها، وعبر تغلغلها في اوروبا عبر الدعم الاقتصادى ومشروع مارشال .. ان تبدأ ما يمكن تسميته امركة اقتصاديات العالم من خلال الشركات المتعددة الجنسيات وفرض الدولار كوحدة نقد عالمية. وبعد الاقتصاد جاء دور الثقافة - الحصن الاخير للمجتمعات - قبل السقوط النهائى امام وحش المال الامريكى الصهيونى. وبدأت محاولات نشر ثقافة ذلك المجتمع الهجين المركب، مترادفة مع امركة الاقتصاد والسياسة. وبدأت المفاهيم الهجينة المسطحة التى افرزها ذلك المجتمع تغزو دول العالم، عبر السينما والقصه والاغنية والموسيقى والكوكا كولا والجينز والمأكولات السريعة .. ولم تكن اوروبا ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص 222 (¬2) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص221 - دار التضامن / بيروت - ط1 1999

بمعزل عن هذا الغزو الشامل. وتعمل الولايات المتحدة على استكمال هجومها، فنجد العالم وكأنه امام عدوان لاحضارى امريكى على كل من الشرق واوروبا. يحاول اجتثات كل جذور الحضارات، بفرض هيمنة النموذج الامريكى المتوحش على الحياة البشرية برمتها. ولا يقتصر هذا الخطر على شعوب الجنوب .. بل يطال شعوب اوروبا واليابان ايضاً. وبهدف التعميه على هذه الحقيقة، حقيقة استهداف اوروبا من قبل الخطر الامريكى الصهيونى المتوحش، كانت نظرية هامنتغون (صدام الحضارات) وغيرها من النظريات الأمريكية الصهيونية، التى تتحدث عن حضارة مسيحية يهودية في مواجهة حضارة الإسلام وحضارات الشرق والتصادم معها (¬1). وفي تلك الهجمة الدونية المسماه (حضارة امريكية) حلت حرية السوق مكان حرية الانسان، فاصبحت تلك الحرية تعطى لمن يملك كل شئ دون حدود الا حدود ما يملك من القوة والامكانيات المالية. وتسحق من لا يملك إلى اقصى درجة .. تهدف إلى بناء عالم ابعد ما يكون عن القيم والاخلاق الانسانية، عالم متصادم ومتصارع في كل شئ .. لا مكان فيه للعدل والتوازن .. أو التكامل لمواجهة التحديات والاخطار التى تواجه البشرية باستمرار. يتحول فيها الانسان إلى وحدة اقتصادية رشيدة، انتاجية استهلاكية، بعيداً عن اى مضمون اخلاقى أو قيمى انسانى .. لا تشغل نفسها بغير الانتاج والاستهلاك، وتسقط كل المبادئ والقيم الانسانية، فلا قداسه ولا احترام لشئ الا المال والذهب ومن يملكهما (¬2) واصبح القتل من أجل المال يقع ضمن قِيَم النظام الذي تطالب الولايات المتحدة العالم بتبنيه. ففي نظام الرأسمالية المعلوماتية يعتبر المال المقياس النهائي للنجاح (¬3). بهذه الخلفية تقتحم الولايات المتحدة الساحة، وهي صاحبة (رسالة خالدة)، وهذا نهجها: الصراع بكل الوسائل، دعاية واعلاماً وحرباً باردة أو ساخنة في سبيل فرض ثقافة، هي الأقوى سلاحاً لا مضموناً، ومن ثم تصبح بحكم الأمر الواقع سيدة الثقافات. وإذا كان الحق هو ما ينفع، والخير هو المصلحة، إذن ما الخطأ في اتباع كل ¬

(¬1) يؤكد حقيقة استهداف كافة الحضارات من قبل الهجوم الأمريكي الانجلوسكسوني الهمجي على العالم، هو ما كشف عنه هنيجتون في كتابه الجديد الذي عرضنا له سابقاً. (¬2) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص225 (¬3) إمبراطورية الشرالجديدة-عبد الحي زلوم- القدس العربي 27/ 1 - 3/ 2/2003

وسيلة ممكنة وصولاً إلى هذا الغرض؟ لنصوغ ثقافة هادفة نضع تصميمها ونفرضها بكل الوسائل على البشر. إنها معركة مقدسة من أجل رسالة خالدة هدفها تدجين الإنسان وتحقيق المصلحة (¬1). فأميركا مدعوة إلى تمثيل الجمهورية الإلهية الوحيدة، ورأى (بنيامين فرانكلين) أن الولايات المتحدة ستكون مولدة لمجتمع عالمي، حيث المؤسسات والعادات والمبادئ الأميركية جاهزة للتطبيق في كل مكان. ومع هذه الوظيفة الفريدة تلازمت ضرورة التوسع في الأراضي، فأميركا في رأيها أنه ليس لأرضها القومية سوى حدود غامضة متحركة قابلة للتوسع باستمرار اعتماداً على ثنائيتها الأيديولوجية: أنموذجية شبه صوفية غازية من جهة، ومحو البنى السياسية والاجتماعية والثقافية لكل كيان غير أميركي من جهة ثانية (¬2). والمجتمع العالمي الذي يقصده فرانكلين هو المجتمع الذي يتبنى قيم ومباديء النظام العالمي الجديد التي هي ذاتها قيم الرأسمالية الانكلوسكسونية التي دمجت بين قوة المال وقوة الإعلام لخلق اقتصاد طفيلي جديد. ولكن هذا الاقتصاد الجديد أصبح عبئاً علي الاقتصاد المنتج. وفي هذا الاقتصاد المنتج القديم يعتبر المال إحدي وسائل الإنتاج لا أكثر، أما في هذا الاقتصاد الطفيلي المعلومالي الجديد فقد بات الغرض الأوحد للمال هو جني المزيد من المال دون دخول حلبة الإنتاج. ولقد حوّل بارونات المال اللصوص في كل أرجاء الدنيا، العالم إلي كازينو وقاموا عبر أموالهم ووسائل إعلامهم بتعيين القوي الحاكمة في الولايات المتحدة لإدارة شؤون هذا الكازينو نيابة عنهم مستخدمين ذراع الولايات المتحدة الطولي لهذا الغرض. وقد ساهم الانفجار المعاصر في تكنولوجيا الاتصالات الحديثة في تسارع نمو ووحشية الرأسمالية الأنكلوسكسونية، والتي وظفت تقنيات أكثر بشاعة وشيطانية لتحقيق المبادئ القديمة نفسها، التي تتبناها والتي لم تمسها يد التغيير في يوم من الأيام. وقد استخدم بارونات الربا علي الدوام أسرع وسائل الاتصالات التي كانت موجودة في وقتها، من الحمام الزاجل الذي وصلت عائلة روتشيلد من خلاله إلي ¬

(¬1) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص228 (¬2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل

معرفة أخبار معركة واترلو قبل الآخرين، إلي وسائل الكمبيوتر الحديثة. وكان احتكار الإعلام والمعلومات المالية علي الدوام من المتطلبات الضرورية وأحد الأعمدة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع المالي. وقد تمخض هذا المزيج المخيف من قوة المال وقوة الإعلام وقوة التسويق سواء للأشخاص أم للأفكار، عن قدرة هائلة علي غسل الأدمغة لا تقدم للعالم سوي رؤية واحدة فقط لا غير، وهي رؤية قوي الظل التي تسيطر علي العالم عبر واشنطن. لقد قامت قوي الظل هذه بفرض إعادة تشكيل الاقتصادات الإنتاجية للدول ليتوافق مع مخططاتها للهيمنة الاقتصادية وتمت تسمية هذه التغيرات، ظلماً، بأنها إصلاح، وما هي في حقيقتها سوي إعادة تشكيل للاقتصادات بطريقة تمكنهم من السيطرة عليها. ولقد اعتمدوا لذلك وسائل الصدق والكذب سويّاً للوصول إلي هذه الأهداف (¬1). إن معنى الكلمات نفسه قد تشوه: فنستمر في إن نطلق كلمة (تقدم) على انحراف أعمى يؤدي إلى تدني الإنسان والطبيعه .. ونطلق كلمة (ديمقراطية) على أشنع قطيعة عرفها التاريخ بين من يملكون ومن لا يملكون .. ونطلق كلمة (حرية) على نظام يسمح - بذريعة التبادل وحرية السوق -لأولئك الأكثر قوة إن يفرضوا الديكتاتورية، عديمة الانسانيه، تلك التي تسمح لهم بابتلاع الضعفاء .. ونطلق كلمة (عولمه) لا على حركة تؤدي إلى وحدة متآلفة الأنغام للعالم، عن طريق اشتراك كل الثقافات، ولكن بالعكس على انقسام يتنامى بين الشمال والجنوب نابع من وحدة امبرياليه وطبقيه .. انقسام يدمر تنوع هذه الحضارات ومنتجاتها لفرض لا ثقافة الراغبين في التحكم في الكوكب (¬2). ولم تكتف أميركا باحتكارها للقوة المسلحة من خلال الحلف الأطلسي وقبعات الأمم المتحدة الزرقاء، وباحتكارها للاقتصاد من خلال المؤسسات الدولية الخاضعة لتقلبات السوق التي تتحكم بها أميركا، إنما احتكرت أيضا وسائل الاتصال الجماهيري. فأميركا تسيطر على هذا القطاع وشهدت ولادة كبرى الوسائل. كما ان الوكالات الأميركية للأنباء قادرة على مراقبة 90% من الإعلام المبثوث. ويسيطر ¬

(¬1) إمبراطورية الشرالجديدة-عبد الحي زلوم- القدس العربي 29/ 1 - 3/ 2/2003 (¬2) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص20

الاعلام الأمريكي والموسيقى الأمريكية وبرامج الكميوتر والكتب وافلام السينما والاصدارات المطبوعة على مستوى العالم اجمع، حيث تنتج أمريكا ما يزيد عن 75% من الانتاج العالمي لبرامج الكمبيوتر سنوياً، و60% من الانتاج الموسيقي، و32% من اصدارات الكتب (¬1). وبالتأكيد فإن هذه السيطرة ليست عيباً أو امراً محرماً، ولكنها تصبح كذلك عندما تتحول إلى احتكارات لمص دماء الشعوب المقهورة، ولسلاح فتاك للسيطرة على عقول الجماهير والتلاعب بها. يقول ميشال بوغنون: "ان الإعلان يدين لأميركا بأنها جعلت منه سلاحاً فعالاً، للتلاعب بعقول الجماهير وللغزو السياسي والثقافي والاقتصادي، ومعظم أجهزة التلفزة تحاكي البرامج الأميركية. أما في مجال السينما فإنه لا طاقة لأوروبا في الصمود في مواجهة مدفعية هوليود، فقد تلاشى معظم إنتاجاتها الوطنية، في هاوية الصناعة السينمائية الأميركية. فضلاً عن ذلك فإن الولايات المتحدة أجادت استخدام التكنولوجيا وتسيطر على معظم محركات الاتصال في العالم، وتخضع الإنترنت لشركاتها العملاقة، وذلك في الوقت الذي أساءت فيه أوروبا، استعمال التنمية التكنولوجية. ويبلغ التبرم بالكاتب من أميركا ذروته، ويحاكم اللباس الأميركي، ذلك (الرداء البقري) كما يسميه، ويحاكم الذوق الأميركي الذي جعل من الأطعمة غير المتناهية من الطعم والكثيرة الروائح، جميعها أكلة واحدة ناشفة تسمى (الأكلة السريعة). حتى إنه توقف عند اللسان الأميركي وكيف فعل فعله في تشويه اللغة الإنجليزية وإخضاعها للأمركة" (¬2). فامركيا تسعى إلى أمركة الكون وهذا ما يعترف به المفكر الامريكى دانيال بورستين في كتابه "تاريخ الأمريكيين"رغم دفاعه عنها حيث يقول: «عملياً فيما يرسله لنا الأمريكيون يوجد الكثير من السوقية والكثير من الأدوات المريبة إن كان ذلك يتعلق بالهمبرغر الذي لا طعم له والذي يرافقه البصل والكاتشب، أو بالأفلام التلفزيونية التافهة أو بالشيوخ الروحيين الفاشلين لكاليفورنيا أو بالصخب الصارخ ¬

(¬1) الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين - اناتولي اوتكين - ترجمة انور ابراهيم و محمد الجبلي- ص252 (¬2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل

تشويه العولمه على يد الانجلوسكسون

بشكل موسيقى، أو باستهلاك المخدرات المختلفة». وإذا كان كل هذا موجوداً بمقدورنا بعد أن ننكر بأن أمركة الكون قائمة على قدم وساق. وفي كل مكان تنتشر أنماط الاستهلاك والنماذج والمخططات الأيديولوجية التي أعدتها الولايات المتحدة وهذا يحدث حتى في الدول الاشتراكية، وتتمتع الولايات المتحدة بطاقة دعائية لا مثيل لها. والاختلافات الثقافية التي شكلت ثروة البشرية هي في طريقها للاندثار تسحقها مطابع الشكل الواحد. واستفادة الثقافة الأمريكية من تفوقها المادي فراحت بذكاء تفسد الأرض. فحيث حلت فككت البنى الاجتماعية التقليدية وأفقرت العادات والفلكلور المحلي. إن الامتثالية تجتاح بمكر الكون، امتثالية ذات صناعة أمريكية Made in America تهدف إلى تحويل كل أفراد البشرية إلى «أقزام أمريكيين ضحلين». ألا يحق لنا أن نرى في ذلك أن «الأمريكيين قد صنعوا سلاحاً حاذقاً لتسخير العالم لمصالحهم ولنمط تفكيرهم؟» (¬1). تشويه العولمه على يد الانجلوسكسون إن مفهوم العولمة قديم قدم التاريخ، إذ لم يكن للعالم أية حدود إلاّ منذ فترة وجيزة فقط، فقد كان العالم يشرع أبوابه للجميع. لذا، فإن الكثير من الحضارات والاختراعات المعاصرة هي نتاج متراكم للتفاعل السلمي وغير السلمي علي حد سواء بين الحضارات السابقة. ولم تعرف كل من الحضارة الرومانية والإغريقية والإسلامية أية حدود علي الإطلاق. وكانت الحضارة الإسلامية، رغم انطلاقها من شبه الجزيرة العربية، عالمية بكل ما في الكلمة من معني. وقد أشارت آيات القرآن الكريم في أكثر من موضع إلي أن الإسلام يحمل رسالة عالمية شاملة تخاطب كافة الأجناس والأعراق بل الإنسانية جمعاء، فقد قال رسول الله محمد (صلي الله عليه وسلم): "لا فضل لعربي علي أعجمي إلاّ بالتقوى" فخير الناس هو أتقي الناس سواء أكان عربياً، فارسياً، حبشياً، أسود أو غير ذلك من الأجناس. كما أن المجلس الذي أقامه النبي عليه الصلاة والسلام، للشورى كان يتكون من سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، ¬

(¬1) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 230 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001 - موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة ا الإنترنت- http://www.awu-dam.org

وبلال الحبشي وصحابة من العرب أنفسهم، وبذلك يكون المجلس عالمياً ومتعدد الجنسيات. كما شكلت الحضارة العربية والإسلامية قوة عالمية عظمي ودولة امتد نفوذها ليصل من إسبانيا حتى الصين. وضمت الحضارة الإسلامية تحت لواء سيطرتها، مختلف العقائد والأعراق الذين وصل تعدادهم إلي مئات الملايين. وكما قالت (كارلي فيورين)، الرئيسة التنفيذية لشركة هيوليت باكارد، في خطاب ألقته عام 2001، فإن الإسلام كان الجسر الذي ربط بين شعوب أكثر من 100 دولة، وكانت جيوشه تتكون من جنود من مختلف الجنسيات، وأفضت الحماية العسكرية التي وفّرها إلي درجة لم يشهدها التاريخ من قبل من السلام والازدهار. ولكن ما أدي إلي تشويه عولمة اليوم ووصمها بالعار، هو ارتباطها الوثيق بالرأسمالية الأنكلوسكسونية الداروينية المتسمة بالمغالاة والتطرف، واستخدامها لتكنولوجيا الاتصالات الحديثة وتقنيات الإدارة، لبسط وفرض ثقافتها المنفرة، وحروبها وماديتها البحتة المنحرفة عن الأخلاق والمثل. لقد تمكنت العولمة الأنكلوسكسونية المعاصرة من إدخال ونشر برامجها الداروينية، كما أنها أفرزت نظاماً اقتصادياً طفيلياً جديداً، تحفّه المخاطر من كل جانب، علاوة علي عزمها فرض مفاهيمها ورؤاها أحادية الجانب، في الوقت نفسه الذي تتشدق فيه بالتعددية. أما أجندتها فهي محشوة بأعمال الإبادة الجماعية الوحشية، بينما هي تنادي بحقوق الإنسان. وتدّعي الديمقراطية وتوغل في الديكتاتورية. إنها تؤمن بالله، فقط إذا علمنا أن المال هو إلهها الوحيد (¬1). ففي الولايات المتحدة الأمريكيه بنيت الحياة على المادة، حيث أرسيت سيكولوجيا سكان هذه البلاد على المبادئ التلمودية القائمة على عبادة المال و (الحق) في نهب وقتل جميع الغرباء بهدف الاستيلاء على أراضيهم واملاكهم. وهكذا اصبح القراصنة وقطاع الطرق وغيرهم من المجرمين المحظوظين، الأبطال بالنسبة للأغلبية الأمريكيه الساحقة. يقول (الغ بلاتونوف) في كتابه (لهذا كله ستنقرض أمريكا): "حين قمت لأغراض دراسية بزيارة إحدى أهم مدن سادوم وعمره - لاس فيغاس - المركز العالمي لصناعة القمار والفسق والعهر، رأيت بأم عيني إن جدران ¬

(¬1) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي-29/ 2/2003

أهذه هي نهاية التاريخ؟

بعض دور القمار مزدانة بصور القراصنة وقطاع الطرق، أمثال آل كابوني، ضمن إطارات ذهبيه. وفي دور القمار هذه بالذات تدرك الهوس الرئيسي للأمريكيين وتفهم طبيعة الآمال التي تراودهم - الرغبة في كسب النقود والإثراء بأي ثمن. وحين ترى آلاف الوجوه التي شوهتها الحماسة والجشع، والعيون المتوهجة من فرط الاثاره، تفهم الطبيعة الإجرامية لأمريكا ومدى خطرها على العالم" (¬1). فالعلاقة التي تقيمها الفلسفات الأمريكيه المعاصرة بين الإنسان والحياة هي علاقة المتعة والاستهلاك، والأمريكي يسر بلذة الاستهلاك إلى درجة العمى عن الإثم والفحشاء، ولذلك يتجاوز البحث عن اللذة ميادين المباح إلى اقتراف الحرام والسخرية من الحلال (¬2). أهذه هي نهاية التاريخ؟ الشذوذ الجنسي .. اللواط .. وفضائح كندي وكلنتون .. وشراء الأصوات .. وتوظيف المال والجنس في اللعبة الانتخابية .. وتحكم اللوبي اليهودي .. وهيمنة المافيات العملاقة والشركات الكبرى واختراق المسيحية بالعفن والأساطير اليهودية .. واستجذاء البيت الأبيض للسياسات والمصالح الإسرائيلية .. والإبحار المحموم ضد المصالح القومية العليا للامة الأمريكيه، وتحويل القدرات المالية والعسكرية إلى ضرع يدر في أفواه شذاذ الآفاق .. والغطرسة التي تستفز الخصوم والحلفاء على السواء، والتفرد في اتخاذ القرار بعيداً عن الأقطاب الاخرى التي تطمح لان يكون لها مكان على خارطة العالم، القنابل الذرية والهيدروجينية والنيتروجينيه وأسلحة الدمار الشامل .. وعنقوديات امتصاص الأوكسجين من المغاور والكهوف لقتل الإنسان واستئصال الحياة .. آليات الإبادة الجرثومية والكيماوية والقدرات الاسطوريه على تغيير معادلات الطبيعة وتحويل البيئات إلى معتقلات كبيره تصعب فيها استمرارية الحياة، وتصاعد معدلات الجريمة في وتائرها الاعتيادية والمنظمة، والإحصائيات المخيفة لحالات القتل والاغتصاب والسرقة والانتحار، والهروب المتزايد إلى المخدرات ¬

(¬1) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص49 - 50 (¬2) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص18

والحشيش والافيون، وتصاعد نسبة الادمان وامتداد سرطانه المخيف إلى مستويات الاعمار الدنيا في مراحل الدراسة الاعداديه والمتوسطه حتى الابتدائيه، وضياع اجيال الأمريكيين الناشئة فيما سبق إن حذر من نتائجه المفجعة الرئيس الأمريكي كنيدي 1963 (¬1). الخيانة الزوجية والمعاشرة غير المشروعة للأزواج والزوجات، وحالات الطلاق المتزايدة والدمار المتصاعد للحياة الاسريه، ورفض الأبناء لآبائهم وتزايد دور العجزة لاستقبال هؤلاء وإيوائهم، وتقطع الروابط العائلية وغياب الاستقرار والسكن في بيئاتها المخترقة بالريبه والشك والكراهية وشد الأعصاب .. عمليات الاغتيال والتصفية الجسدية (للكبار) على يد المافيات اليهودية والمالية المتحكمة بمصائر الولايات المتحدة بدءا بأصحاب الأصوات الحرة، وانتهاء بالرؤساء أنفسهم لحظة خروجهم عن الخط المرسوم. التكاثر المحموم بالأشياء والعبادة المهووسة لصنميات المال والتنمية، بعيداً عن أية قيمة أو ضابط ديني أو خلقي أو إنساني. تصعيد وتأثر القوة والأسلحة والجيوش وتقنيات الردع والهجوم فيما يجعل من أمريكا (ترسانة) مخيفة قد تلحق الخراب بهذا الجزء أو ذال من العالم في أية لحظة تفور فيها دوامة الغضب ويستشري سعار التفوق والاستعلاء، وتحول أمريكا إلى قوة استعمارية كبرى تسعى لان تضع العالم كله في جيبها، وترغم أممه وشعوبه على إن تكدح لكي يدر ضرعها في الفم الأمريكي، بغض النظر عن حالات الفقر والتخلف والدمار التي يعاني منها العالم الثالث، الذي يراد له للمرة الثالثة إن يسخر لسعادة الرجل الأبيض وانتمائه الذاتي، وأخيرا وليس آخر تآكل ودمار القيم الديمقراطية الأمريكيه نفسها واختراقها المرة تلو المرة بحجة مقاومة الإرهاب بعد إن سهر الأمريكيون القدامى على حراستها القرون الطوال. أهذه هي الحضارة الملائمة لإنسانية الإنسان ومطامح الأمم والشعوب؟ أهذه هي الحالة الحضارية النموذجية أو السقف الأعلى لسعي البشرية عبر تاريخها الطويل؟ أهذا هو (النموذج) الذي سينتهي إليه التاريخ ويلقي عنده عصا الترحال؟ ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل - ص153

صورة "درويش"" ... ولا عجب

أهذا هو (المثل الأعلى) الذي يتحتم على شعوب العالم إن تلهث وراءه؟ أهذه هي بتعبير (فرنسيس فوكوياما): (نهاية التاريخ) حيث لا تبذل بعدها ولا تحول ما دام الإنسان قد بلغ الحالة القصوى من التقدم والتحرر؟. تقدم باتجاه ماذا؟ وتحرر من ماذا؟ أليست هي بدء التحليل ومنتهاه وفي ضوء التأشيرات أنفة الذكر، نكسة كبرى في تاريخ البشرية حيث يتحكم القطب الأحادي بمصائر العالم، وحيث يتحول السعي البشري إلى لهاث محموم للتكاثر بالأشياء .. وحيث تتسطح الحياة وتفقد عمقها وعذوبتها وغناها ومغزاها .. وحيث تخترق منظومة القيم الانسانيه والخلقية والدينية بحلقات السوء التي تنتشر كالبثور السود .. كالطفح المتقيح .. كالسرطان المخيف في نسيج المجتمعات (¬1). صورة "درويش"" ... ولا عجب (¬2) http://alarabnews.com/ مختارات/الساخر%20 - %20العالم%20بين%20شفتيّ%20أمريكا%20كرشفة%20''الكوكاكولا''%20وقضمة%20''الهمبرجر''%20 (!) _ files/pixel.gif الصورة المعنية، تكاد تستعصي على جهابذة الفكر الإنساني العالمي. إلاّ أن بعض ملامحها، قد قرأها بدقّة وشفافيّة، واستشرافيّة، الشاعر العربي الفلسطيني محمود درويش، من خلال قصيدة: (خُطبة الهندي الأحمر - ما قبل الأخيرة - أمام الرجل الأبيض)، التي نشرها في العام 1992 (أيّ بعد نهاية الحرب الباردة بعامين فقط)، ضمن ديوان: (أحد عشر كوكباً). وكان الأجمل من تفاصيل القصيدة الطويلة، تلك الكلمة التي قالها أحد زعماء الهنود الحُمر (اسمه سياتل، وهو زعيم قبيلة دواميش)، ليضعها درويش كمدخل للقصيدة (¬3)، حيث قال فيها ذلك الزعيم: "هل قُلت موتى؟ ... لا موت هناك، هناك فقط تبديل عوالم (!) " ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل - ص153 (¬2) بين شفتيّ أمريكا .. كرشفة ''الكوكاكولا'' وقضمة ''الهمبرجر'' (!) - بقلم: أمين الإمام - http://alarabnews.com/alshaab/GIF/20-09-2002/a14.htm (¬3) أشاد الجنرال شارون بالشاعر محمود درويش وعبر عن إعجابه بشعره، وبأنه يحسده وشعبه الفلسطيني على تلك العلاقة الوجدانية بالأرض والتي يجسدها درويش في قصائده، على الرغم من حملة الإبادة والاعتقال والتهجير التي يمارسها الجنرال ضد الشعب الفلسطيني، وهو موقف يذكرنا بموقف الجنرال جورج واشنطن مع الزعيم الهندي الأحمر "ستايل"، الذي كشف في خطبته الشهيرة ب "خطبة الهندي الأحمر الأخيرة"، قسوة ووحشية حملات الإبادة التي مارسها الجيش الأمريكي ضد الإنسان الهندي الأحمر والأرض والحيوان، ومما قاله "ستايل" في خطبته "زعيم واشنطن الكبير (يقصد جورج واشنطن) يقول لي أنه صديقي، ومعجب بي، وأنه يكن لي مودة عميقة، ولكنه يخبرني أيضاً بأنه إذا لم نعطيه بلادنا سوف يجيئنا مدججاً بسلاحه وينتزعها". ورغم التشابه التام بين موقف وأسلوب شارون وواشنطن في التعامل مع الشعبين أصحاب الأرض، الفلسطيني والهندي الأحمر، إلا ان واشنطن كان واضحاً وصريحاً مع الزعيم الهندي الأحمر أكثر مما يفعله ويقوله الجنرال شارون تحت شعارات وإدعاءات تكون مواربة ومستترة، لخداع المجتمع الإنساني والرأي العالمي. كما ان الخلاف بين زعيم الهنود الحمر ومحمود درويش يبدو كبيراً أيضاً، رغم تشابه موقفيهما من المعتدي المحتل، إذ ان الزعيم وقع على استسلام تاريخي وهو لا يزال يملك العدة والعتاد، بينما يرفض الشاعر التوقيع بإصرار تاريخي، مع انه يعلم ان سلاحه الوحيد الذي يحمله غصن زيتون يابس. أيها الواقفون على العتبات ادخلوا واشربوا معنا القهوة العربية قد تشعرون بأنكم بشر مثلنا أيها الواقفون على عتبات البيوت اخرجوا من صباحاتنا حتى نطمئن انكم بشر مثلنا" جميعنا يعلم ان محمود درويش ليس زعيماً ولا سياسياً وسبق وأن رفض الوزارة وجميعنا يعلم أيضاً انه ظل يمتطي صهوة القصيدة العربية، وانه يتجاوز نفسه في كل مرحلة، لتصبح قصيدته الشهادة والوثيقة على زمن عنصري ظالم يتغاضى عن كل الحقوق والشرائع والدساتير، لقد أصبح محمود درويش وطناً في قصيدة تجسد كل الخريطة الفلسطينية، التي تعبر عن حب الشعب الفلسطيني للحياة المحروم منها كبشر، بعد أن غرس في كل عربي قلباً فلسطينياً هذا القلب يؤمن أن الحياة لن تخذله، وأن الأرض لا تعود إلى الإنسان، بل هو الإنسان الذي يعود إليها، مشياً على الأقدام أو زحفاً على الأيدي. (أفق بغصن زيتون يابس / شارون معجب بشعر درويش - نواف يونس- جريدة الخليج الإماراتية1 - أيار / 2005)

بعض من أمريكا

والآن ارتبط اسم ذلك الزعيم، الذي استلهمه درويش، بإحدى المدن الأمريكية البارزة (سياتل، في ولاية واشنطن)، ولعلّها أيضاً نفس المدينة، التي شهدت صراع الأمريكيين أنفسهم (وكأن التاريخ يعيد نفسه)، حول البحث عن تأصيل سطوة (العولمة)، حينما انقسم الشعب (المُنقسِم)، ما بين مؤيِّد لتلك الفعاليات، وفقاً للغة المصالح، التي تنسج خيوط (الحلم الأمريكي) الشهير، وما بين معارض لها، وبشدّة (!). بعضٌ من أمريكا درويش في قصيدته، لم يكن بعيداً عن استقراء، الوضع الراهن من طغيان (العولمة)، بكلّ هوامشه الخطرة. أضف إلى ذلك، الحفر بكلمات "الاستقصاء الشعري"، بحثاً عن استمرار تفاصيل "حرب الإبادة"، ولو بصيغة جديدة. وهذا ما يحدث الآن بالضبط (دون الاستعانة بأرقام الفجيعة، في فلسطين وأفغانستان

"مثلاً"!). لهذا لا تستنكروا الاستشهاد، ببعض أبيات القصيدة الدرويشية، في الجزء الأبرز من هذه الكتابة، في إطار قراءة "الطغيان الأمريكي". وفي مدخل القراءة، لم يكن مناسباً، غير الإغراق في التمعُّن، في تلك الحالة الاستشرافيّة، التي نطقها الشعر العربي المعاصر، وكأنّه ينوب عن صوت العرب القديم والأصيل (عبر الشعر أيضاًَ)، حينما كان ممثِّل دبلوماسياتها بين الحضارات والأمم ... آنذاك. إذن، هذه المرّة فقط، ستثبت مقاطع درويش، عبر الخطبة "الهندية الحمراء"، أن الشعر العربي، قد عاد وهجه - مؤقّتاً - وإن كان زمن الكتابة الراهن "روائياً" بحتاً، حينما استنطق الواقع السياسي المُعاش حالياً، أكثر من دُهاة السياسة، وكبار المراقبين والمعلِّقين، في هذه الساحة الساخنة، التي تستعصي حتّى على خبراء الاستخبارات (!). الأرض الأمريكية الراهنة، كانت ملكاً لـ"مجموعات الإسكيمو"، في الشمال النائي المتجمِّد، والمنفصل من الولايات (آلاسكا)، ولـ"قبائل الهنود الحمر"، في بقيّة الأراضي، امتداداً إلى دول أمريكا الجنوبيّة. منذ وطأت قدم البحّار كريستوفر كولومبوس (1451 - 1605)، تلك الأرض في عام 1492، بدأ العهد "الأمريكي"، الذي يعرفه العالم الآن، بعد أن تلظّى منه أصحابها (أيّ الأرض!). ولعلّ المؤرِّخون في العالم أجمع، يضمّون حدث اكتشاف أمريكا، ضمن وقائع تُعدّ دليلاً، على بداية الأزمنة الحديثة، إلى جانب اكتشاف المطبعة من قبل جوتنبرج (1434)، واكتشافات كوبرنيكوس الفلكية (1543). وهنا تأتي الإشارة الأخرى، التي يتّخذها بعض النقّاد، وهي أنّ تلك الوقائع، قد مهّدت إلى انطلاقة اصطلاح "الحداثة" ( Modernity) ، فيما بعد، وذلك في العام 1849، في أيام بودلير، ليتأكّد انضمام عصر الحداثة، إلى الأحقاب الثلاثة التي تقسِّم التاريخ الإنساني، إلى جانب العصور اليونانية الرومانيّة القديمة، والعصور الوسطى. إنّها "الحداثة" التي يربطها الغالب فينا، بالاصطلاح الأدبي فقط - خصوصاً نحن العرب (!) - وإن كان أوضح تعريف لها: تموضُع العلم في مركز الحياة الاجتماعيّة، بدلاً من العقليّة الغيبيّة أو الميتافيزيقيّة. ويراها عالم الاجتماع الفرنسي "ألان تورين"، بأنّها ليست عبارة عن مجرّد تتابع للحظات الزمن،

وإنّما هي نشر المنتوجات الفعاليّة العقلانيّة للبشر، وكذلك الفعاليّة العلميّة، والتكنولوجيّة، والإداريّة. هل فهمتهم بعضاً من "أمريكا"، استناداً إلى ارتباطات اكتشافها العظيم (؟!) ... (*) هلّ يفهم "السيِّد الأبيض"؟ ومع ذلك، لنا أن نتوغّل، مع ما كتبه محمود درويش، لنفهم ما لم يفهمه "السيِّد الأبيض" (سيِّد أمريكا الجديدة والمتسِّيدة)، من تلك الخطبة التاريخية، للهندي الأحمر، بعد أن "شعرنها" بطريقته الخاصّة، وقال: لن يفهم السيِّد الأبيض الكلمات العتيقة هُنا، في النفوس الطليقة بين السماء وبين الشجر ... فمن حقِّ كولومبوس الحُرِّ أن يجد الهند في أيِّ بحر، ومن حقِّه أن يُسمِّي أشباحنا فُلفُلاً وهنوداً، وفي وسعه أن يُكسِّر بوصلة البحر كي يستقيم وأخطاء ريح الشمال، ولكنّه لا يصدِّق أنّ البشر سواسيّة كالهواء وكالماء خارج مملكة الخارطة! وأنّهم يولدون كما تُولد الناس في برشلونة، لكنّهم يعبدون إله الطبيعة في كلِّ شيءٍ ... ولا يعبدون الذهب ... وكولومبوس الحُرُّ يبحثُ عن لغةٍ

لم يجدها هُنا، وعن ذهبٍ في جماجم أجدادنا الطيِّبين وكان له ما يريد من الحيِّ الميِّتِ فينا (*) ولا يزال التساؤل مستمرّاً وفي منحنى آخر للاستقراء "الدرويشي"، للحالة المرضيّة "الأمريكيّة"، بدأ بطرح السؤال الساخن، على لسان ذلك الهندي الأحمر، حينما وضع الرمز الأمريكي "الأبيض"، بين قوسي الاستنكار، وهو يقول له: إذن لماذا يواصل حرب الإبادة، من قبره، للنهاية؟ ولم يبقَ منّا سوى زينةٍ للخراب، وريشٍ خفيفٍ على ثياب البحيرات. سبعون مليون قلبٍ فَقَأْتَ ... سيكفي ويكفي، لترجع من موتنا ملكاً فوق عرش الزمان الجديد ... (*) سلطة الأرض ... و"الشمس" كلّ الصراعات في كوكب الأرض، تدور حول "الأرض"، إنّها السلطة التي يبحث عنها ماضي البشر بكافّة "عوالمه"، وحاضرهم باختلالات "عولمته". إلاّ أن درويش لم يكتفِ، بإيضاح نشوة "سلطة الأرض"، لدى صاحب القرار في أمريكا، وإنّما إضاف إليها "سلطة الشمس"، حيث البحث الدؤوب عن تملُّك كلّ شيء: في باطن الأرض، وعلى سطحها، وفوق فضائها ... حتّى ضوء الشمس، الذي يغطِّيها من مشرقها إلى مغربها، ودليل ذلك هُنا: لنا ما لنا ... ولنا ما لكم من سماء لكم ما لكم ... ولكم ما لنا من هواءٍ وماء لنا ما لنا من حصىً ... ولكم ما لكم من حديد

تعالَ لنقتسم الضوءَ في قوّةِ الظلِّ، خُذْ ما تريد من الليل، واترك لنا نجمتين لندفن أمواتنا في الفَلَكْ وخُذْ ما تريد من البحرِ، واترُكْ لنا موجتين لصيد السمك وخُذْ ذَهَبَ الأرض والشمس، واترُكْ لنا أرض أسمائنا (*) صراع أم حوار حضارات؟ وفي منعرج مهم، من تلك القصيدة الطويلة، قرأ محمود درويش مبكِّراً، ما يشاع حالياً من "صراع الحضارات" (كتاب صموئيل هنتنجتون)، أو حتّى "حوار الحضارات"، بعد اشتداد الأزمة، على الأصعدة الدينيّة والإنسانيّة، بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب. لهذا كان الشاعر الفلسطيني واضحاً، في هذه الأسطر: لكُم ربُّكُم ولنا ربُّنا، ولكم دينُكُم ولنا دينُنا فلا تدفنوا الله في كتبٍ وعدتكم بأرضٍ على أرضنا كما تدّعون، خُذوا وردَ أحلامِنا كيْ تروا ما نرى من فرحْ! وناموا على ظلِّ صفصافِنا كيْ تطيروا يماماً يماما كما طار أسلافُنا الطيِّبون وعادوا سلاماً سلاما (*) "إسبارطة" الآيديولوجيّة والتكنولوجيّة

أمّا الوضوح الذي بحث عنه درويش، تجلّى في الجزئية أدناه من القصيدة، حينما فتح كلّ الإشكالات "العولميّة" الراهنة على مصراعيها، وأبرز "الثمن" المدفوع لتلك الإشكالات: موتى، بلدوزرات، مستوطنات، رادارات، وغيرها من الرموز "الصارخة"، حتّى أوصلنا إلى تخوم "روما الجديدة"، وثوابت "إسبارطة" الآيديولوجيّة، بكلّ حوافها التكنولوجيّة (!) ... عمّا قليل تُقيمون عالمكم فوق عالمنا: من مقابرنا تفتحون الطريق إلى القمر الاصطناعي. هذا زمانُ الصناعات. هذا زمان المعادن، من قطعة الفحم، تبزُغُ شمْبانيا الأقوياء ... هنالك موْتى ومُستوطناتٌ، وموْتى وبلدوزراتٌ، وموْتى ومستشفياتٌ، وموْتى وشاشاتُ رادارٍ ترصُدُ موْتى يموتون أكثر من مرّةٍ في الحياةِ، وترصُدُ موْتى يعيشون بعد الممات، وموْتى يُرَبُّون وحش الحضارات موْتا، وموْتى يموتون كي يحملوا الأرض فوق الرُّفات ... إلى أين يا سيِّد البيض، تأخُذُ شعبي، ... وشعبك؟ إلى أيِّ هاويةٍ يأخُذُ الأرض هذا الروبوت المُدجّج بالطائرات وحاملة الطائرات، إلىِّ هاوية رَحْبَةٍ تصعدون؟

خدعة الافتتان بأمريكا

لكم ما تشاؤون: روما الجديدة، إسبارطة التكنولوجيا وآيديولوجيا الجنون ... هل تحتاج قصيدة "درويش"، إلى المزيد من التوضيح (؟) ... أعتقد أن الإجابة لا تحتاج إيضاحات أكثر (!!). خدعة الافتتان بأمريكا بالرغم من كل ما تقدم وبالرغم مما هو ماثل على الارض من كذب وتضليل وخذاع وقتل وتدمير وابادة وعربدة ... الا انه لازالت شرائح كبيره من سكان العالم مخدوعه بالنموذج الأمريكي والحياه الأمريكية والقيم الخادعة التى تمثلها. وهنا يكون السؤال المطروح امامنا بصورة لا تقاوم ... كيف يفلتون بذلك؟ كيف تقود الولايات المتحدة الاقتصاديات وتخرب الديمقراطية، وتطيح بالدول ذات السيادة، وتعذبها، وتستخدم معها العناصر الكيمائية والبيولوجية والاشعاعية؟ كيف تفعل كل الاشياء غير اللائقة عادة في وسط الوهج الكامل لوسائل الاعلام الدولية، باكثر التناقضات مدعاة للذهول بين الاقوال والافعال، دون ان تدينها بلا رحمة جماهير العالم الحاشدة، واى إنسان لدية ضمير اجتماعى، وبدون ان تنبذ كالابرص؟، وبدون ان يقدم قادة أمريكا إلى المحاكم الدولية، متهمين بارتكاب جرائم ضد الانسانية؟. والاجابة على ذلك هو ما عرضنا له سابقاً وهو غسل الدماغ من خلال سيطرة أمريكا شبه الكاملة على الاعلام بكافة انواعه، بالاضافة إلى شراء الذمم وغيرها من الوسائل الغير مشروعه. فلم يعد سراً صمت وتواطؤ- ان لم يكن اعجاب- الحكومات الاخرى وقادتها بأمريكا. فالامر لا يقتضى سوى شراء بضع رجال مقابل طائرات نفاثة ملساء أو اطنان من القمح، أو الغاء الديون، أو الاستعانة بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. لقد تم ترويعهم، وتهديدهم، وابتزازهم، ورشوتهم واذكاء غرورهم، ومناصرة نزعاتهم الوطنية المتطرفة واعطائهم العضوية في نوادي حلف الاطلنطي الخاصة المقصورة على اعضائها، وفي منظمة التجارة العالمية والاتحاد الاوروبي. ان الافتتان بالولايات المتحدة قد بلغ ذراً جديدة مع الانتصار على الفاشية في الحرب

العالمية الثانية، ثم ارتقى مره اخرى مع السحر التقني للخيال العلمي، الذي تجسد في السير على سطح القمر. ونادراً ما نالت من ذلك دعاية الحرب الباردة من قبل السوفييت. فطوال عقود منذ نهاية الحرب الباردة، كان المواطنون يرفضون ان يصدقوا ان هناك مشرديين في أمريكا، أو انه ليس هناك تأمين صحي وطنى، كانوا مقتنعين ان ذلك مجرد دعاية شيوعية، كانوا يؤمنون ان القرارات في المملكة المتحدة وأمريكيا لا تتخذ ابداً بصورة سرية، وانه إذا كذب رجل السياسة مره واحدة فيتم ابعاده من منصبه. وعنما سقطت القنابل الأمريكية على صربيا عام 1999، اعرب كثيرون من الصرب عن صدمتهم ودهشهتهم من ان أمريكا - أمريكا المحبوبة محط الاعجاب - يمكن ان تفعل شيئاً كهذا ... وفي روسيا عارض الناس القصف بقوة واصيبوا بالصدمة، وقد بدى الامر كما لو ان الروس يكتشفون للمرة الأولى ان للولايات المتحدة جانباً عنيفاً. وعندما مزقت القذائف الأمريكية اشلاء السفارة الصينية في بلجراد، كان رد الفعل بين الصينيين هو عدم التصديق. وقال مسئول صيني كبير: لقد كنتم المثل الاعلى للكثيرين منا، والآن فإن قنابلكم الغبية قتلت أهلنا. ان هذه السذاجة، وقصة العشق هذه مع روح أمريكا، في حين تمس القلوب بالتأكيد في هذا العالم المتعب، ليسا هما (الحبل بلا دنس). ان الولايات المتحدة هي مخترع ومطور الاعلان الحديث والعلاقات العامة الحديثة، والمنتج والموزع الرئيسي في العالم للافلام وبرامج التلفزيون والكتب والمجلات والموسيقى، بمكتبات ادارة الاعلام الأمريكية الموجودة في اكثر من 100 بلد، وصوت أمريكا التي يقرب مستمعوها من 60 مليون مستمع. لقد اغرقت الولايات المتحدة - دولة المعلومات العظمى الوحيدة في العالم - وسائل الاعلام وغزت قلوب وعقول العامة في كل انحاء الارض بهذا السحر، وهى تقوم بكل هذا لانه جدير بالعناء، على امتداد الاجيال (¬1). ¬

(¬1) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد- ص315 - 318

الباب الخامس سبل المواجهة .. والخروج من المأزق

الباب الخامس سبل المواجهة .. والخروج من المأزق بالرغم من ان عنوان الكتاب سيبدو للبعض، استفزازياً وتحريضى، الا ان اختيارى لهذا العنوان لم يكن يهدف إلى ذلك بقدر ما يهدف إلى لفت الانظار إلى حقيقة الصراع الدائر في المنطقة والعوامل المؤثرة فيه، لوضع العلاج الناجع له والخطط طويلة الاجل وقصيرة الاجل لمعالجته. فالخطأ في فهم طبيعة العلاقة بين اسرائيل والقوى الداعمة لها كلف العالم العربى والإسلامى الكثير من الجهد والمال والرجال، واصاب الامة بحالة احباط كبيرة لعدم تمكنها من مواجهة هذه الهجمة الصهيونية وهذه الدولة الكرتونية اسرائيل. وكانت حالة الاحباط هذه ناتجة عن اعتقاد الكثير بانهم يواجهون اسرائيل لوحدها أو في احسن الاحوال المدعومة من الدول الاستعمارية أمريكيا وبريطانيا بسبب مصالح هذه الدول أو نفوذ اللوبى الصهيونى والصوت الانتخابى اليهودى. ولذا توجهت الجهود كلها من اجل فصل الظاهرة الاسرائيلية عن مصادر تمويلها وحمايتها من خلال اعتقاد البعض ان الارتماء في الاحضان الأمريكية سيخلق بديلاً لاسرائيل، وبالتالى تفقد اسرائيل اهميتها الاستراتيجية للقوى الاستعمارية فتتخلى عنها. ولكن هذا الامر لم يحدث ولن يحدث، لان الاساس الفكرى الذى انطلق منه هذا التحليل خاطئ ولم يعى حقيقة العلاقة القائمة بين اسرائيل من جهة، وأمريكيا وبريطانيا من جهة اخرى، أو بالاحرى لم يعى البعد الدينى لهذه العلاقة، بل ان كثير من مفكرينا ومحللينا السياسيين وصناع القرار يسخرون ممن يطرح مثل هذه الاقوال باعتبار ان الدين لا يمثل اى شئ لهذا الدول. واعتقد اننا من خلال عرضنا السابق اوضحنا بما لا يدع مجالا للشك الدور الرئيس الذى لعبه الدين في رسم توجهات أمريكيا وبريطانيا تجاه اسرائيل والمنطقة العربية، بل نستطيع ان نقول ان هذا العامل هو العامل الوحيد المؤثر الذى يمكن ان يفسر لنا هذه العلاقة. وحتى لا نعيد ما عرضناه سابقاً ولكى نبتعد عن الجدل العقيم، فان المهم هنا ليس هو البرهنه على العدوانية الأمريكية تجاه المنطقة، أو تحديد اى العومل اسبق

واهم في رسمها وتوجيهها، بل المهم هو كيفية مواجهة هذه السياسة والتصدى لها ولخططها المرعبة والعدمية التي تهدد المنطقة والعالم. فمن السهل على أي باحث أن يقدم ألف دليل ودليل على هذه العدوانية التي تستهدف الإسلام واهله، قديماً وحديثاً، ولكن لا اعتقد أن اجترار ذلك هو المطلوب اليوم من ثقافتنا الشعبية، انه كلما المت مصيبة بمنطقة إسلامية أو حلت بها كارثة، يتوجه اصبع الاتهام تلقائياً نحو الغرب الغير مسلم، ونادراً ما يخطيء. ليس الهدف من هذا البحث أن يكون مجرد حركة إصبع في هذا الاتجاه أو جزاءً من هذه الثقافة الشعبية الصحيحة بعفوية. إنما الهدف منه هو إضاءة شمعة وسط نفق مظلم يبدو في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانعكاساتها وكأن لا مخرج منه، الا بمواجهه شامله تحشد لها كافة القوى والامكانيات للتصدى لها، من خلال وضع خطة عمل متكامله على المستوى المحلى والدولى، وتستخدم كافة الامكانيات المتاحه، بطريقه حضارية انسانية، توفر لها عوامل النجاح، محلياً ودولياً. والخطة التى نقترحها تقوم على اسس ومبادئ ومسلمات، وتنطلق من الفرضية الاساسية التى اثبتناها في هذا الكتاب، وهى الدور الاساسى الذى يلعبه الدين في توجيه السياسة الأمريكية البريطانية العدوانية تجاه العالم العربى والإسلامى، وبناء على ذلك سيكون العلاج مبنياً على هذا الاساس وانطلاقاً من هذا الفهم، وهذا لا يعنى اهمال دور العوامل الاخرى. ويجب ان نشير هنا ان تركيزنا على دور الدين يجب ان لا يفهم اننا ندعو إلى مواجه هذا التطرف الدينى في أمريكا بتطرف مثله ... أو ان نواجه الارهاب الامريكى بارهاب مثله ... الخ. ليس هذا هو المقصود وليس هذا هدفنا ... ان المواجهة التى نريدها هى مواجه شاملة .. مواجهة حضارية تستوعب كل الامكانيات الخيرة والقيم الجميلة ليس فقط التى افرزتها حضارتنا العريقة ... بل وتستوعب كافة القيم الانسانية النبيلة والخيرة التى افرزتها الحضارات الاخرى .. لان المواجهة الحاليه بين قوى الظلام الامريكى واعوانها، وامتنا سبقتها مواجهات وظلم كبير وقع على شعوب اخرى، وستستمر أمريكا بهذا النهج إذا لم يتحد العالم لايقافها عند حدها وتحريرها من هذا الهوس الدينى، الذى جعلها ترتكب ابشع الجرائم بحق الانسانية.

خطة العمل المقترحة وأسسها

وخطة العمل المقترحة تقوم على عدة اسس: - مواجهة أمريكا على المستوى الدولي. - مواجهة الصهيونية المسيحية، من الداخل ومن الخارج. - تفعيل حوارالأديان الحضارات. - بناء مشروع نهضوى عربى اسلامى.

الفصل الأول مواجهة أمريكا على المستوى الدولي

الفصل الأول مواجهة أمريكا على المستوى الدولي أمريكيا .. عوامل القوة والضعف بعد كل الذي عرضناه لجرائم أمريكيا الفظيعة عبر التاريخ، هل يعني هذا أن أميركا قضاء وقدر، وهل الامركه هي مستقبل العالم المحتوم وماذا يمكن أن نفعل؟ وما هو المطلوب؟. بالتأكيد ان أمريكا لم ولن تكون قضاءاً وقدراً ولا قوة مطلقة يصعب وقف جبروتها وعنجهيتها, إنّها بسهولة تتغذى من خلافاتنا التي كرسهاّ الحكام العرب في واقعنا, إنّها تتغذى من خيانات الحكام العرب الذين داسوا على تطلعّات شعوبهم وأرتضوا أن يكونوا دائماً في الصف الأمريكي, في صف أعداء الأمة وثوابتها لأنّهم وبكل بساطة يستلهمون شرعيتهم من واشنطن وليس من شعوبهم، ولذلك وضعوا كل المقدرات وكل الجغرافيا وكل الأراضي في خدمة واشنطن. ولهذا فمن التعسف القول أن باب المستقبل مفتوح للامركه فقط. فالتاريخ شاهد على صعود دول وإمبراطوريات كما هو شاهد على وقوع الانهيار السريع للمنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي وهي تملك من قوى عسكرية مرعبه، وعالم اليوم الذي يعيش أحادية قطبيه لم يسلم الرايات لأميركا بعد، فالممانعة تطل برأسها هنا وهناك والتناقضات في داخل المعسكر الغربي متعددة وآخذة في التبلور بل آخذة في الظهور إلى العلن في كل من أوروبا والصين وحتى روسيا، ناهيك عن دول العالم الثالث والعالم الإسلامي الأكثر تضرراً من هذه العولمة المتوحشة والسياسة المنحازة للعدو الإسرائيلي. المطلوب تعديل تركيبة مجلس الأمن وتشكيل مرجعية شرعيه دوليه تقطع الطريق على هذا (التفرد) وتذهب باتجاه صياغة أسس النظام الدولي الجديد، وهو مطلب كفيل بالحد من الاستفراد والهيمنة وهو لا شك سيكون عنوان نضال الشعوب في هذا القرن الجديد (¬1). ¬

(¬1) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص105 - 106

فمن خلال ظهور محاولات لإعادة الاستقطاب في العلاقات الدولية باسم العولمه الامبرياليه للاقتصاد، في مواجهة الهويات الثقافية أو الدينيه والتاريخية للحضارات الأخرى كافة، تنبع الضرورة بوحدة أوروبا واسيا وأمريكا المسماة باللاتينية لإفشال محاولة أمريكا للقضاء على مراكز المقاومة، سواء على الصعيد العسكري أو الاقتصادي أو الديني أو الثقافي، الذي يتعدد في كل القارات. أن مناورات أمريكا لتفتيت المراكز الصلبة في كل بقاع الكوكب تظهر في تشجيع الصراع بين الكوريتين، وتايوان ضد الصين، والهند ضد باكستان، وذلك بهدف إيجاد مبرر لتدخل القوات الأمريكيه (¬1). إن تهديداً واحداً للتوازن يحدق اليوم بالكوكب: أميركا نفسها التي تحولت من حامية إلى نهابة. فالعسكريتارية الاستعراضية الأمريكية قادت في نهاية الأمر إلى انشغال القوى الحقيقية التي هي أوروبا، اليابان وروسيا ودفعها من الآن فصاعداً إلى أن تتقارب فيما بينها. فقد بدأت أوروبا تعي أن روسيا ليست تهديداً إستراتيجياً لها بل أصبحت مساهمة في أمنها العسكري. ولما كانت القوى الحقيقية اليوم كما في الأمس هي سكانية، تربوية وأن السلطة الحقيقية اقتصادية. فلا داعي للانسياق وراء تسابق نحو التسلح مع أميركا يقود إلى التدخل ... في بلدان دون أهمية إستراتيجية حقيقية. فالتدخل العسكري إلى جانب الأميركيين ضد العراق لم يكن مقبولاً، حيث أنه لم تنجح أية دولة في القرن 20 في تنمية قوتها عبر الحرب أو عبر زيادة قواتها المسلحة. فأوروبا، اليابان وروسيا ستخسر كثيراً إن هي انخرطت في هذه اللعبة، فالولايات المتحدة خرجت منتصرة في القرن 20 لأنها وخلال حقبة طويلة من الزمن رفضت الدخول في الصراعات العسكرية في أوروبا. اذاً لنترك أميركا تنهك ما تبقى من طاقتها في (مكافحة الإرهاب)، كبديل للكفاح من أجل الحفاظ على هيمنة لم تعد موجودة. لان أمريكا إذا استمرت في تعنتها لإظهار قوتها الخارقة للعالم، فإنها تظهر في نهاية الأمر عجزها للعالم (¬2). ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص31 (¬2) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز

العملاق الأميركي

العملاق الأميركي وفقاً لمقاييس القوة يقدم (جوزف ناي) في كتابه (مفارقة القوة الأميركية)، خريطة طريق أو إستراتيجية جريئة لإعادة تعريف المصالح الوطنية الأميركية في عالم جديد متغير، كشفت أحداث 11 سبتمبر أنه يتضمن فرصة انكشاف الولايات المتحدة وتعرض مؤسساتها ومصالحها للعطب، رغم تفوقها دون منافسة والقوة الهائلة التي تتمتع بها. فالولايات المتحدة تهيمن على العالم على نحو لم يسبق أن حققته إمبراطورية أو قوة من قبل في التاريخ، فهي تسيطر على التجارة والاتصالات والاقتصاد، بالإضافة إلى قوتها العسكرية الحاسمة، ويمتد تأثيرهاـ كما يقول وزير الخارجية الفرنسي السابق (هوبير فيدرين) ـ إلى اللغة وأساليب الحياة والثقافة والفكر. وبالرغم من ضخام القوة الأمريكية، إلا أن ثمة جدال كبير إزاء مدى إمكانية استمرار هذه الهيمنة وخطورتها أو ضرورتها من وجهة نظر الأميركيين، إذ إن تاريخ السياسة الدولية يقضي باستحالة استمرار القوة والهيمنة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو, إلى متى ستبقى الولايات المتحدة القوة العظمى المتفردة في العالم؟ لقد انحسرت قوى ودول عظمى هائلة كثيرة، وقد تنبأ الكثيرون بانحسار وتراجع الولايات المتحدة من قبل، ولكنها في التسعينيات عادت من جديد قوة عظمى، وربما أعظم من أية فترة سابقة، فقد كانت قائدة ثورة المعلومات والعالمية والاتصالات. وكما أتاحت الثورة الصناعية لبريطانيا أن تظل القوة المهيمنة الأولى لأكثر من مائة عام, فقد تتيح المعلوماتية للولايات المتحدة عقوداً من الهيمنة والتفوق. وفي المقابل تبدو فرص لقوى ودول أخرى منافسة لا تقل أهمية وتأثيراً عن الولايات المتحدة مثل الصين وروسيا وأوروبا، أو لتحالفات ممكنة بين اليابان وشرق آسيا، والصين والهند وروسيا (¬1). ¬

(¬1) مفارقة القوة الأمريكية: لماذا لا تستطيع القوة العظمى ... / تأليف جوزيف س. ناي، تعريب محمد توفيق البجيرمي- الرياض، السعودية: مكتبة العبيكان، ط.1 2003.

مصادر القوة

مصادر القوة المقصود بالقوة هو القدرة على التأثير في الأهداف المطلوبة، وتغيير سلوك الآخرين عند الضرورة. وعلى سبيل المثال فقد ردعت القوة العسكرية لحلف الناتو رئيس صربيا (سلوبودان ميلوسووفتش)، ودفعت الوعود بالمساعدات الاقتصادية حكومة صربيا إلى تسليم (ميلوسوفتش) إلى محكمة لاهاي. فالقدرة على الحصول على الأهداف المطلوبة تتحقق بالقوة الصلبة العسكرية, أو الناعمة الثقافية والاقتصادية. وترتبط القوة بالموارد، ولذلك فإن فهم القوة يقتضي فهم الموارد، فتكون المحصلة التطبيقية لفهم القوة ومصادرها بالنسبة للدولة هي امتلاك عناصر معينة امتلاكاً متفوقاً أو مؤثراً, مثل السكان, والإقليم الجغرافي, والموارد الاقتصادية الطبيعية, والتجارية, والقوة العسكرية, والاستقرار السياسي. وتكون في أحيان كثيرة موارد أو مصادر قوة معينة, هي سر القوة والتأثير, مثل: الصناعة القائمة على الطاقة البخارية, والسيطرة البحرية البريطانية في القرن التاسع عشر الميلادي، وسكة الحديد الألمانية في النصف الأول من القرن العشرين، والقوة النووية للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في النصف الثاني من القرن العشرين. وفي القرن السادس عشر الميلادي كانت الهيمنة والتأثير لإسبانيا عبر السيطرة على الذهب والتجارة الاستعمارية وعلاقات الأسر الحاكمة، كما كانت لهولندا في القرن السابع عشر الميلادي عبر التجارة ورأس المال، ولفرنسا في القرن الثامن عشر الميلادي عبر الثقافة والصناعات الريفية والسكان والإدارة العامة. وتبدو الولايات المتحدة قوة متفوقة بفارق كبير, إذا ما قورنت بالدول المهمة الأخرى مثل: ألمانيا, وروسيا, وبريطانيا, والصين, والهند, واليابان, على أساس مجموعة من مصادر القوة كالمساحة الجغرافية, وعدد السكان, ونسبة التعليم, والقوة النووية, والميزانية, والجيش, والناتج المحلي, والقوة الشرائية, والصناعة, والصادرات التكنولوجية, واستخدام الكمبيوتر، وتتفوق عليها روسيا بالمساحة،

قدرات الإمبراطورية

والصين والهند بالسكان، وربما يكون القرن الحادي والعشرين وفق هذه المعطيات قرنا أمريكيا (¬1). قدرات الإمبراطورية يشير (فيرغسون) إلى القدرات الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة. فقد كان للولايات المتحدة، قبل قيامها بإرسال القوات لغزو العراق، 732 منشأة عسكرية في أكثر من 130 دولة. وتعادل ميزانية وزارة الدفاع الأميركية مجموع ميزانيات الدفاع في الدول الـ12 أو الـ15 التي تليها، ويشكل الإنفاق العسكري في الولايات المتحدة 40 إلى 45% من مجموع الإنفاق العسكري لكل دول العالم الـ189. ولدى الولايات المتحدة من الدبابات ما يفوق ما لدى أي دولة أخرى، إضافة إلى كونها الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك (الحاملات الفائقة) , التي يبلغ عددها تسع حاملات, وطائرات (الشبح) غير المرئية, التي تمتلك ثلاثاً منها. ويقول لنا (فيرغسون) إن "مجموع الناتج الإجمالي المحلي الأميركي عام 2002 م، محسوباً بالسعر الدولي للدولار ومعدلاً تبعاً للقوة الشرائية المتناظرة، قد قارب ضعفي الناتج الإجمالي المحلي للصين، وتجاوز نسبة الخمس (21.4%) من مجموع الناتج العالمي، وزاد على الناتج الياباني والألماني والبريطاني مجتمعين. وهذا يتجاوز بما يزيد على الضعفين النسب العليا التي حققتها حصة بريطانيا العظمى من الإنتاج العالمي، عندما كانت إمبراطورية تهيمن على الأسواق العالمية, وبقدر تعلق الأمر بكل من الإنتاج والاستهلاك، فإن الولايات المتحدة تعتبر إمبراطورية أغنى بكثير مما كانت عليه الإمبراطورية البريطانية في أي يوم من أيامها". أما سيادة الثقافة الأميركية فأمر لا يكاد يوجد من يشكك فيه. وكفى بـ (استعمار الكوكا كولا) شاهداً عليه. أما إذا أردت الاستشهاد بمطاعم (ماكدونالدز) , فإن (فيرغسون) يخبرك بأن عددها قد فاق الثلاثين ألف مطعم, تعمل في سبع ¬

(¬1) مفارقة القوة الأميركية المؤلف: جوزف ناي ـ تعريب: محمد توفيق البجيرمي الناشر: مكتبة العبيكان، الرياض

وأربعين دولة وموقعاً على امتداد العالم، وأن أقل من نصف هذا العدد فقط موجود داخل الولايات المتحدة (¬1). ومن الصعب إعادة تقييم إمكانات القوة لدى الولايات المتحدة الأمريكية، فأمريكا في الوقت الراهن تؤثر تأثيراً بالغاً في السياسة الدولية، أكثر من أي دولة أخرى في التاريخ، وبعد سبع سنوات من الازدهار الاقتصادي المتواصل، اقترب إجمالي الناتج القومي لها من 9 تريليون دولار. وحتى أكثر المتشائمين تحفظاً يعترف بان الظروف المواتية على نحو لا يوصف تضمن لأمريكا عشرين عاماً من الزعامة دون جدال. ولا يظهر حتى الآن أي خصم في الأفق ... ويرى (رونالد ستيل) أن الولايات المتحدة الأمريكية ـ من جميع الجوانب العلمية ـ لا تخضع تحت أي تهديد بالتدخل، وليس هناك ثمة أعداء يرغبون في انهيارها، كما أنها غير خاضعة لأحد في تجارتها الخارجية .. لها حلفائها، ولكنها مستقلة بدونهم، ولم تكن تابعة لأحدهم في يوم من الأيام حتى سنوات الحرب الباردة. أن الولايات المتحدة الأمريكية هي شبكة واسعة من القواعد العسكرية، وهى قواعد لم يكن بناؤها لمجرد الدفاع عن النفس. ويكتب (تشارلز ماينز) قائلاً: "لم يحدث مطلقاً، منذ روما القديمة إن سادت دولة بمفردها النظام العالمي متفوقة على هذا النحو الهائل من التفوق" (¬2). وبالرغم من كل ما تقدم فإن حقائق القوة هذه لا تلغي وجود بؤر ضعف بنيوية في النظام والمجتمع الأميركي , الذي يهيمن 1% من سكانه على 70% من ثروة البلاد , بينما لا يتبقى لغالبية السكان سوى 30% من ثروة البلاد الصافية، علما أن التفاوت يشمل حتى الفئة الغنية , إذ يملك 1% من السكان الأغنى 38.9% من ثروة البلاد , هذا التفاوت أظهر وجود 31.14 مليون فقير، حسب التعريف الرسمي للفقر عام 2000 م والذي يتركز في الأقليات السوداء والمنحدرة من أصل أميركي لاتيني وآسيوي، هذا التفاوت الرهيب في الثروة والدخل يؤدي داخل أي مجتمع إلى تناقضات , تنتج عالمين يصارع بعضهما البعض , تعمل فيه الطبقات المتوسطة ¬

(¬1) الصرح: ارتقاء وسقوط الإمبراطورية الأميركية: نايل فيرغسون عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت (¬2) الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين- اناتولي اوتكين- ترجمة أنور إبراهيم و محمد الجبلي ـ ص20ـ21 - المجلس الاعلى للثقافة - ط1 - 2003

مؤشرات لكسر القوة الأمريكية

والفقيرة , التي تبني سياسات اجتماعيه أكثر عدلا مقابل الطبقة الغنية التي ستدافع عن مصالحها بل وتعمل على تحسينها وهو ما سيولد تناقضات داخليه خطيرة في المستقبل، تتهرب من مواجهتها الإدارة الأمريكية من خلال طرح تحديات خارجية ووجودية , هذا بالإضافة إلى حقيقة يجري إغفالها وتتمثل بهيمنة الواسب الانكلو ساكسون البيض على أبرز مصادر ومفاصل القوة والاقتصاد والسياسة (¬1). وأما نقاط الضعف في القوة الأميركية فهي أن الولايات المتحدة بحاجة إلى ائتلاف وتشارك مع العالم، فهي لا تستطيع التصرف منفردة رغم قوتها وتفوقها. فقوتها لا تكفي لحل مشاكل مثل الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية، وستقع في متاعب كثيرة إن لم تتفهم ذلك, وتتعلم كيف تعمل مع الآخرين وتقودهم (¬2). ولكي تحافظ أمريكا في القرن الحادي والعشرين على موقع الزعامة في المنظومة العالمية يجب عليها التضحية بمواطنيها, والاستعداد لدفع الضرائب, وإرسال أبنائها فيما وراء المحيطات، فهل أمريكا مستعدة لتقديم مثل هذه التضحيات التي لا مفر منها؟. مع نهاية الحرب الباردة بدأ هذا الاستعداد يفتر أكثر فأكثر، وقد أجرت مجلة تايم الأمريكية دراسة عام 1991م أثبتت أن 76% من الشعب الأمريكي يعارض قيام أمريكا بدور شرطي الأمن. فيما اثبت استطلاع رأى آخر وجود رغبة شديدة عند غالبية الشعب الأمريكي في تقليص الوجود العسكري خارج الولايات المتحدة (¬3). مؤشرات لكسر القوة الأمريكية لا أريد بالطبع، الإساءة إلى الكثير من الأمريكيين البسطاء - الذين ذاقوا مرارة الحرمان والظلم. لا اقل من أولئك الذين عاشوا في عهد هتلر أو جنكيز خان. بل ما ارمي إليه هو تعرية النظام اللاإنساني، والتوليتاري إلى ابعد الحدود، الذي يمثله النظام الأمريكي غير جدير بالوجود إجمالاً، مثله مثل إمبراطورية الشر. أن نظام ¬

(¬1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص1،1 (¬2) مفارقة القوة الأمريكية ـ جوزف ناي ـ تعريب: محمد توفيق البجيرمي ـ الناشر: مكتبة العبيكان، الرياض (¬3) الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين - اناتولي اوتكين - ترجمة أنور إبراهيم و محمد الجبلي ـ ص241

الامركة أي الوجود الطفيلي على حساب موارد الآخرين والعنف والخداع واستغلال ونهب الدول الأخرى يجب أن يدمر بجهود البشرية المشتركة وآلا فان العاقبة ستكون وخيمة على العالم بأسره. فخلافاً للقوة المسيطرة السابقة تعمل الولايات المتحدة الأميركية في عالم يشتد فيه الجوار وتقوى أواصر الألفة، فالقوى الامبراطورية السابقة مثل بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر أو الصين في مراحل مختلفة من تاريخها الممتد آلافاً من السنين أو روما خلال 500 عام لم تكن تتأثر نسبياً بالتهديدات الخارجية، فقد كان العالم الذي تسيطر عليه مقسماً إلى أجزاء منفصلة لا يتفاعل بعضها مع بعض، وكانت المسافة والزمن يوفران متنفساً ويعززان أمن الوطن. وبالمقابل ربما تكون الولايات المتحدة الأميركية فريدة في قوتها في المنظور العالمي، ولكن أمنها الداخلي مهدد على نحو فريد أيضاً، وقد يكون اضطرارها إلى العيش في مثل هذا الجو من انعدام الأمن حالة مزمنة على الأرجح (¬1). فخلال العقود القادمة ستفقد الولايات المتحدة الأمريكيه وجودها كرقعة واحده وكسكان متضامنين وإذا ترك الحبل على الغارب فان انهيار أمريكا سيكون مأساويا بالنسبة للكرة الأرضية برمتها. فأمريكا المحشيه بالسلاح النووي وبالحقد الشيطاني على كل ما هو إنساني، يمكن إن تجر العالم كله إلى الهاوية، ولذا فان على المجتمع الإنساني إن يتخذ الإجراءات الوقائية ويقوم بضبط هذه العملية الكارثيه على شتى محاور الانهيار الأمريكي القادم: المحور القومي العرقي، المالي الاقتصادي البيئي والدولي. وكأية ظاهرة سياسية - اجتماعيه شاذة فان عملية تداعي الولايات المتحدة، تحمل طابعاً متعدد الاحتمالات، وبالتالي يمكن التنبوء بها وضبطها من خلال عدة سيناريوهات، إنما المسألة تكمن في طبيعة وتكوين وفعالية أدوات الضبط التي سنختارها، وسوف يتم الضبط عبر التأثير على نقاط الضعف في إمبراطورية الشر. إن على دول العالم وشعوبه إن تقيم بكل الطرق الممكنة، مرافق مقاومة الولايات المتحدة بالدرجة الأولى عن طريق إنشاء مراكز خاصة تعمل على تهديديها، وترسم الاستراتيجية الطويلة المدى لذلك وشن حملة دعائية مكثفة ¬

(¬1) الاختيار السيطرة على العالم أم قيادة العالم- زبيغنيو بريجنسكي - الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت- ط1 2004 - عرض/ إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت- 14 - 8 - 2004

ومستمرة عبر وسائل الإعلام الجماهيري، ومن الضروري القيام باستمرار بعرض الأمثلة الحية على الطابع الكافر الإجرامي الطفيلي والتوليتاري لأمريكا وبؤس قيمها الحياتية والفقر الروحي - الأخلاقي المدقع لأغلب الأمريكيين. ويمكن العمل على تعميق الصعوبات التى تواجهها أمريكا من خلال التركيز على نقاط الضعف في النظام الأمريكي واحداث الكسور والشروخ في هذا النظام من خلال عدة محاور: الكسر القومي: من خلال رسم خط الكسر القومي، لا بد قبل كل شيء من تقديم كل دعم ممكن لقوى المقاومة القومية والدينية في بعض مناطق الولايات المتحدة الأمريكيه، وبخاصة في مستوطنات الهنود الحمر وفي ألاسكا وغويان، وكذلك في مناطق أخرى مثل تكساس نيوميكسيكو فلوريدا وغيرها من الولايات الجنوبية، وتوجيه هذه القوى نحو إقامة الكيانات المستقلة ذات السيادة. ويجب إن يتم العمل التنفيذي عن طريق إنشاء وتدريب وتمويل مجموعات المقاومة من بين السكان المحليين وتربية قادة حركات التحرر في الأراضي الوطنية المحتلة من قبل أمريكا. ففي ألاسكا لا بد من تشكيل حركة سياسية للتحرر من الاحتلال الأمريكي ومنحها صفة الدولة المستقلة الصديقة لروسيا. كما آن الأوان لإقامة عدد من الجمهوريات القومية الهندية، التي تتمتع بحقوق السيادة على الأراضي التي اغتصبها البيض دون وجه حق. فمن المعروف أنّ الهنود الحمر وإلى يومنا هذا يطالبون بحقوقهم السياسية والإجتماعية, وإذا كان الصراع سابقاً بين السكان الأصليين لأمريكا والدخلاء عليها يتم على شكل حرب عصابات وقتل بالجملة، من قبل الدخلاء للهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا, إلاّ أنّه اليوم إنتظم في شكل تكتلات سياسية وتنظيمات هندية أمريكية أحرجت أمريكا في الداخل والخارج. والولايات المتحدة الأمريكية التي تدّعي حماية الأقليات ونصرة حقوق الإنسان - الوجه الأخر للتدخّل الأمريكي في الدول الآمنة - إلاّ أنّها لم تأبه لمطالب الهنود الحمر الذين مازالوا يحتجون على السياسة الأمريكية تجاههم، وما زالت تجمعاتهم في أمريكا وتحديداً في الغرب الأمريكي، تتناقل حكايات إجرام العصابات الدخيلة في حق أجدادهم. والصراع بين السكان

الأصليين والدخلاء على أمريكا مرشّح للبروز في أي لحظة لأنّ عوامله مازالت قائمة, وقد يؤدّي هذا إلى خلق فجوة كبيرة في التركيبة الاجتماعية الأمريكية (¬1). كما إن من العدل والأنصاف إنشاء ودعم حركات العصيان المكسيكية للنضال من اجل استعادة المكسيك أراضيها الشمالية التي احتلتها الولايات المتحدة بشكل غير شرعي. ويجب إن يصبح الوضع المادي والمعنوي للاقليات القومية الأمريكيه المضطهدة موضع اهتمام دائم من جانب المجتمع الدولي إلى درجة إصدار مذكرة خاصة حول شعوب الولايات المتحدة المضطهدة، واستخدام العقوبات الاقتصادية والسياسية وغيرها ضد الولايات المتحده لاجبارها على الاعتراف بجرائمها ضد الهنود الحمر اصحاب البلاد الاصليين. ولكن احد احفاد الهنود الحمر وهو رافن سلفا وهو معد أحد البرامج الإذاعية للكلام عن شعبه واسمه «دائرة الأمم الحمراء «يؤكد بأن الأمريكيين لم يحاسبوا ضمائرهم ولن يفعلوا هذا أبداً. لقد قال: «أمريكا هي آخر مكان في العالم يعترف بأخطائه. هذا البلد مصاب بفقدان ذاكرة جغرافية وتاريخية، فأمريكا تخترع تاريخاً لها خلال حقبٍ منتظمة وهوليود تستخدم كسحر نفسي أمريكي ودولي». لقد منح الكونغرس الأمريكي الهنود حرية ممارسة معتقدهم الديني عام 1976 وهم الآن عام 1997 لديهم شكوك حقيقية حول إمكانية متابعة العيش (¬2). الكسر العرقي: يكمن الكسر العرقى في التنازع المستمر بين البيض وأحفاد العبيد السود، الذين لا يزالون يعانون من التمييز العنصري الذي يتجلى في شتى مجالات الحياة وفي الثقافة والأجور بالدرجة الأولى. فما زال السود في القارة المغتصبة ممنوعين من العديد من الحقوق السياسية, ولا يمكن، ورغم الديموقراطية الأمريكية التي تحولتّ إلى معزوفة، ان تقبل بوجود شخص أسود في البيت الأبيض الذي إحتكره البيض فقط من رجالات القرار في أمريكا. وما زالت القوة السوداء تتعرض إلى إعتداءات من قبل المنظمات العنصرية التي تطالب بضرورة ¬

(¬1) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm (¬2) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص31 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001

إخراج هؤلاء من أمريكا وإرجاعهم إلى إفريقيا. وتسجّل الدوائر الرسمية بحذر شديد الإعتداءات على السود من قبل البيض والعكس صحيح. وقد أصبح رجال أمن متورطين في قتل شباب سود، الأمر الذي فجرّ عشرات التظاهرات السوداء الغاضبة على الإدارة الأمريكية, وهذا التمزق والصراع العرقي واللوني مرشح لمزيد من الإتساع كما يقول علماء إجتماع أمريكيون (¬1). بسبب الأيديولوجية التي كانت العامل الرئيسي في تأسيس أمريكيا، ففتح الباب للسود وقبلهم الهنود بالدخول إلى المواطنية هذا يعني إدخال مفهوم التعددية إلى حد قد يبدل بشكل عميق صلب النظام (¬2). ومن الجدير بالذكر ان نسبة المواطنين السود في أمريكا هي 12% و 8% من أصول اسبانية. يقول اندرو هيكر في كتابه "نهاية العهد الأمريكي": يمكننا النظر إلى أمريكا على أنها دولة تتكون من شعبين: البيض وهو الاغلبية المسيطرة والسود وهو الاقلية المضطهدة. ومن غريب الأمور كما يقول المؤلف في موضوع العنصرية السياسية أن أحد الحزبين الرئيسيين في أمريكا وهو الحزب الجمهوري الذي ينتمي اليه رونالد ريجان وجورج بوش، قد صرح علانية بأنه حزب سياسي للمواطنين الأمريكيين البيض. وأنه يهدف إلى تحقيق مصالح البيض في أمريكا (¬3). ومن هنا فإنه من الضروري مؤازرة الحركات الزنجية من اجل العدالة ومن اجل إقامة إدارات الحكم الذاتي الزنجية في المناطق التي يشكل الزنوج أغلبية سكانها، كنيويورك، على إن يتم فيما بعد منحها السيادة على مراحل في حدود الولايات المتحدة ذات الصله (¬4). كما ان التنازع العرقي سيصيب السعى والتطلع الأمريكي للقيام بدور الامبراطورية العالمية بالشلل، وهذا ما يعترف به كثير من الأمريكيين. يكتب (لييفين): "إن العنصرية العميقة، من النمط الجنوبي، لشخص مثل (وودرو ¬

(¬1) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي- يحي أبوزكريا- http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm (¬2) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 32 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001 (¬3) مؤسسة الحوار الانساني http://www.dialogue-yemen.org/ar/modules.php?name=Sections&op=viewarticle&artid=21 (¬4) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 158 - 160

أمريكا دولة الجرائم

ويلسون) مثلا، ترْهِق كثيراً ولا تزال تنخر العالمية الليبرالية التي كان زعيمَها في نظر اليابانيين وفي نظر العديد من الشعوب غير البيضاء في العالَم". وكما كتب الثيولوجي (رينهولد نيبوهر) سنة 1943: "إن كبرياءنا العِرْقِيّ غير متلائِم مع مسؤولياتنا في الجماعة البشرية. فإذا لَمْ نَنْجح في تصحيحها فإننا سنفشل في مهمتنا"، لأن مصير السود يسيء إلى القوة الأمريكية في صراعها ضد اعدائها. فقد اضطرت النّخَب القومية إلى اتخاذ قرار، في الخمسينات والستينات، بوضع حد لهذه الأشكال الصارخة من العبودية. أَلَمْ يفهمْ (أبراهام لنكولن) في زمنه بأن العبودية تضعِف أمريكا في مهمتها الديمقراطية وتعرِّضها للاتهام بالنفاق؟ " (¬1). أمريكا دولة الجرائم إنّ إنتشار الجريمة بشكل مذهل في الولايات المتحدة الأمريكية يدلّ على الإنكسار الرهيب في المجتمع الأمريكي, وعلى الطبقية في هذا المجتمع المخملي. وبرغم الإجراءات المتخذة للحدّ من ظاهرة الجرائم إلاّ أنّ كل الإجراءات باءت بالفشل, وقد تتفاقم هذه الطبقية لتتّحول إلى ثورة إجتماعية كما حدث في فرنسا أيام الثورة الفرنسية, وقد تمكنّ (كارل ماركس) من تشخيص منتهى الرأسمالية عندما أشار إلى أنّ المجتمعات الرأسمالية ستثور على الوضع القائم, إلاّ أنّه أخطأ النتيجة عندما قال إنّ هذه المجتمعات الرأسمالية وعندما تثور على الرأسمالية ستنتهي إلى الماركسية، والتي ماتت شأنها شأن الرأسمالية الآيلة إلى الموت. وتفاقم الطبقيّة لا يميّز الوضع العام في أمريكا فقط، بل بات الهاجس اليومي في أوروبا أيضا, فهناك 60% -14% من الشعب الأمريكي كانوا ضحية للجريمة مرة واحدة في حياتهم على الأقل.، 58% من الأمريكيين الراشدين سبق لهم تعاطي المخدرات. و20% منهم ما يزالون يتعاطونها. يشير اندرو شابيرو (نحن القوة الأولى: أين تقف أمريكا وأين تسقط في النظام العالمي الجديد؟ إلى ان 46% من المواطنين السود، و 15% من الهسبانية لا يجدون لهم سكناً، و 34% من المشردين هم من المواطنين الأمريكيين البيض، 4% ¬

(¬1) القومية الأمريكية الجديدة - تأليف: اناتول لييفين -عرض: بشير البكر - جريدة الخليج - 30 - 6 - 2005 - العدد 9538

من أصول عرقية أخرى (¬1). ومثل هذه النتيجة حتمية في مجتمع يفتقد إلى أدنى موازين العدالة, ولا يعترف بالفقراء والمنبوذين, بل إنّ الحياة للأقوى كما قال نيتشه ذات يوم. وقد تتلاقى صيحات المستضعفين في أمريكا وأوروبا والعالم الثالث أيضاً، وهو مؤشّر على الفصام النكد بين القيادة السياسية في أمريكا والمدعومة من قبل رجال الأعمال وبين الطبقات المسحوقة. وإذا غالطت أمريكا الرأي العام لديها بتوجيه أنظارهم إلى الساحة السياسية الدولية، فسوف يأتي اليوم الذي يلتفت فيه المسحوقون في أمريكا إلى واقعهم ويحتجون عليه بقوة (¬2). الكسر المالي: تحولت الولايات المتحدة الأمريكيه من اكبر دولة دائنه في العالم إلى اكبر دولة مدينه في العالم: ومعدل الاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكيه يعد الأقل بين الدول الصناعية الكبرى. إن أهم ما يعاني منه الاقتصاد الأمريكي في الوقت الحاضر هو الديون الكثيرة التي فاقت كل تصورات السياسيين والاقتصاديين؛ ففي: سنة 1940 كان مجموع ديون الولايات المتحدة 43 مليار دولار. وفي سنة 1950 وبسبب الانفاق الهائل على الحرب العالمية الثانية أصبح 256 مليار دولار وسنة 1980 بلغ مجموع الديون (حرب كوريا/فيتنام) 908 مليار دولار، وفي سنة 1988وصلت وأثناء رئاسة ريجان (بسبب بناء الترسانة العسكرية) 2,6 ألف مليار دولار، وسنة 1992م قاربت ديون الولايات المتحدة 4000 مليار دولار. وهكذا ما بين (1980 - 1992) ازدادت نسبة ديون الولايات المتحدة إلى أكثر من 65% وهو ما يجعل الشعب الأمريكي يتساءل عن الطرق التي أنفقت فيها الحكومة هذه المبالغ الطائلة، ويطرح من القضايا أمام الرأي العام حول الفساد السياسي والاقتصاد. و إذا استمرت هذه الزيادة بمعدلاتها الحالية فان ديون الولايات المتحدة ستصل إلى ما مجموعه10,2 ألف مليار دولار قبل حلول 2020م (¬3). ¬

(¬1) مؤسسة الحوار الانساني http://www.dialogue-yemen.org/ar/modules.php?name=Sections&op (¬2) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm (¬3) مؤسسة الحوار الانساني http://www.dialogue-yemen.org/ar/modules.php?name=Sections&op=viewarticle&artid=21

فبرغم قوتها العسكرية التي لا تعتمد على قوة المقاتلين والتي لا تتمنى - كما تشير تقارير البنتاجون- إلا دخول حروب (لا تخسر فيها قتيلاً واحداً) وذلك بإمكاناتها التقنيه العالية الخاصة بإدارة المعارك، وباستخدام المرتزقه وقوات قرين كارد ودول ما تسمى بالتحاف، بهدف أن يصبح قادتها بذلك أسياد العالم. برغم كل ذلك تحولت الولايات المتحدة شيئاً فشيئاً إلى عملاق بطبع (أخيل)، وذلك بسبب الهشاشة الاقتصادية المختفية وراء القناع إلى حين انكشافها عبر سيولة المضاربات الماليه التي حولت البنوك الأمريكيه إلى صالات للقمار. لهذا الضعف الواضح والقصور تقامر الولايات المتحدة حتى إشعار آخر على سياسة التسليح لمواجهة صعود أي عمالقة آخرين إلى قمة العالم التي تعتليها، ومن ثم فهي لا تسلح فقط مرتزقها الرئيسي في الشرق الأوسط: إسرائيل تسليحاً كثيفاً بل تسعى أيضاً لعرقلة صعود الصين (¬1). إن الكسر المالي حتمي وآت لا ريب فيه بسبب السمات آنفة الذكر للسياسة امريكيه في مجال النقود والاسعار. ولسوف يحدث على الأرجح بشكل عفوي لكنه قد يكون قابلاً للتوجيه. مما يتطلب: أولا: الإسهام في تحطيم القيمة الوهمية للدولار بوساطة (الهروب) منه عن طريق طرح كميات كبيره من الدولارات في السوق في اللحظة (الحرجة) ومن ثم رفض التعامل به مما يؤدي إلى ذعر حقيقي في البورصة مع كل العواقب المترتبة على ذلك. ثانيا -العمل على اصلاح الاسعار العالمية للمواد الأولية والوقود عن طريق تضمينها ضرائب الأرباح المفترضة في السلعة النهائية وضرائب ترصد لإصلاح البيئة في البلدان المصدرة. ثالثا- فرض رقابة مالية شاملة على عمليات الشركات متعددة الجنسيات واجبارها قانونياً على استخدام الأسعار المالية في الحسابات الداخلية. بما في ذلك أجرة اليد العاملة مع اخذ نوعيتها بعين الاعتبار (¬2). ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص 35 - 36 (¬2) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 160

الكسر الاقتصادي: تعاني أمريكا من تبعية اقتصادية متنامية حيال العالم الخارجي. والارقام توضح أن أميركا تسجل عجزاً في ميزانها التجاري مع كل البلدان المهمة في العالم. أما الفائض في الميزان التجاري التكنولوجي (سلع التكنولوجيا المتقدمة) فهو في تراجع، ليسجل عجزاً في 2001. فالاقتصاد الأميركي نمت فيه الخدمات المالية، التأمينات والعقارات بوتيرة أسرع بمرتين من وتيرة نمو الصناعة، وذلك بين 1999 و2000. أما أرقام الناتج القومي الأميركي الخام فضخمت بسبب المخالفات كما ظهر مع فضيحة إنرون، إفلاسها نجم عنه تبخر 100 مليار دولار. وهذا الرقم يمثل حوالي 1% من الناتج القومي الخام الأميركي. ومع تزييف حسابات الشركات الأميركية بدأ هذا الناتج يشبه من حيث المصداقية الإحصائية الناتج القومي الخام السوفياتي. ولهذا فان أميركا هي قيد التحول إلى فضاء متخصص في الاستهلاك وتابع للعالم الخارجي، فهي ليست مهمة للعالم من حيث إنتاجها وإنما من حيث استهلاكها (¬1). فالاقتصاد الأمريكي شبيه بالسيارة المندفعة من عل بدون مكابح، فهي غير قادرة على التوقف. لقد نضبت إمكانيات التطور المكثف. حتى إن احدث أنواع التكنولوجيا غير قادرة إجمالاً على مواكبة عملية تقلص الموارد نتيجة سباق الاستهلاك المحموم. لذا فان الولايات المتحدة ستضطر من اجل إطعام غول اقتصادها الاستهلاكي إلى زيادة نهب الآخرين، وهذا ليس بالأمر السهل في الظروف الحاليه. ولقد فقدت الولايات المتحدة الأمريكيه مراكز الصدارة في التكنولوجيا العالية بسبب اعتمادها على مدى عشرات السنين على النهب الاقتصادي للدول الأخرى، من خلال التحكم بالأسعار العالمية والقيمة الشكلية للدولار. ففي بداية السبعينات كان نصيب الولايات المتحدة من الصادرات العالمية من التكنولوجيا المتطورة يصل إلى 30% وفي الثمانينات انخفضت هذه النسبة إلى 21% ولن تزيد مع نهاية التسعينات على 5 - 1. % حيث انتقل مركز القيادة في التكنولوجي المتطورة إلى اليابان وعدد من البلدان الاسيويه الاخرى. ومنذ النصف الثاني من التسعينات ومطلع القرن الحالي دخلت الولايات المتحدة منطقة الأزمة الاقتصادية الطويلة ¬

(¬1) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز

نتيجة البون الشاسع بين إمكانياتها الاقتصادية وبين مطالبها الاستهلاكية المتفاقمه (¬1). وفي كتابه "ليست للبيع بأي ثمن: كيف نُحفظ أمريكا لأطفالنا؟ " يقول روس بيرو: لقد علمنا التاريخ أن التنوع يبني القوة، وقد كنا أغنياء وأقوياء لفترة طويلة من الزمن حتى خلنا أننا قد ضمنا البقاء على ذلك الحال. أما اليوم فإننا نجد أن بلادنا العظيمة تعيش منعطفاً خطيراً في تاريخها. إننا نواجه مشكلات اقتصادية خطيرة جداً. إن الخدم المنتخبين قد أساءوا استخدام أموال الدولة (¬2). وقد خصص المؤلف الفصل الثاني وهو أطول فصول الكتاب للحديث عن الأوضاع المتردية التي تشهدها الولايات المتحدة في جميع المجالات مع اهتمام واضح بالميدان الاقتصادي. ومن الموضوعات الاقتصادية التي ناقشها؛ مشكلة إرتفاع الديون الفيدرالية، وخطة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لتحسين الأوضاع الاقتصادية وقد ناقشها المؤلف، وأبرزعيوبها وما يمكن أن تحدثه من ديون إضافية على الحكومة الفيدرالية، وكذلك مشكلات العجز في الميزانية، وتقلص حجم الشركات الأمريكية والخسائر التي تعاني منها، وإرتفاع معدلات البطالة الناتجة عن إغلاق بعض الشركات الكبرى لفروعها في بعض المدن الأمريكية، وأسعار البترول، والإنفاق غير المتوازن على التسلح العسكري. وبالنسبة للديون يشير المؤلف إلى إن المؤشرات الاقتصادية تؤكد إن الديون الفيدرالية قد بلغت أكثر من أربعة تريليونات دولار، وحتى نعرض معدلات نمو الديون الفيدرالية السريعة؛ يجب أن نعود إلى العام 1975م حيث بلغ مجموع الديون أقل من نصف تريليون دولار، مع العلم أن هذا المبلغ يشمل ديون الدولة منذ عام 1776م إلى 1976م. أي أن هذا الرقم (نصف تريليون دولار) تقريباً هو مجموع ديون الحكومة الأمريكية خلال مائتي سنة، بما في ذلك تغطية تكاليف الحربين ¬

(¬1) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 161 (¬2) ليست للبيع بأي ثمن: كيف نُحفظ أمريكا لأطفالنا؟ تأليف: روس بيرو 1993م

صراع الكبار

العالميتين، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، والمقاطعة النفطية التي تعرضت لها الولايات المتحدة في عام 1973م (¬1). وهذه الديون لم تأتى نتيجة تأسيس البنية التحية للمجتمع أو الانفاق على الخدمات الاساسية، بل جاءت نتيجة الانفاق العسكرى الهائل وفساد النخب الحاكمة، حيث إن الولايات المتحدة تعاني من ارتفاع مذهل في معدلات الجريمة. وتوجد بها فئة كبيرة من الناس الذين لا يجدون لهم مسكناً، وهناك غلاٌء فاحش في الخدمات الصحية، كما أن الطرق السريعة والجسور والأنفاق قد بدأت تظهر عليها علامات التصدع والانهيار. صراع الكبار قلّ من يعرف عن الصراع الشديد والمستتر بين الشركات الجبّارة التي تتحكّم في الإقتصاد الأمريكي وإقتصاديات العالم الثالث, ومصاديق هذا الصراع تكمن في الإنشطار السياسي بين الأمبراطوريات الماليّة, فبعضها يدعم الحزب الجمهوري والبعض الآخر يدعم الحزب الديموقراطي وأخرى تدعم اللوبي الصهيوني وبينهما علاقة تحالف وثيقة, وأمتد هذا الصراع إلى خارج الخارطة الأمريكية وكل أمبراطورية مالية تملك رؤية إستراتيجية في كيفية إدارة السياسات والإقتصادات ولا سيّما في العالم العربي والإسلامي حيث الثروات الهائلة, والمفارقة أنّ كل شركة متعددة الجنسيات تملك مركزاً إستراتيجياً يعمل فيه خبراء في الإستراتيجيا والجيوبوليتيكا. وقد تتضارب مصالح الكبار لينعكس ذلك على اللعبة السياسية الرسمية المتداخلة كثيراً مع البترودولار والمال ومصادره بشكل عام (¬2). الكسر البيئي: وهو قريب من الكسر الاقتصادي وهو ناجم عن الإخلال الحاد بالتوازن بين الإمكانيات الطبيعية وبين ضغط اقتصاد الاستهلاك على هذه الموارد. ولهذا يجب على المجتمع الدولي ان يفرض على الولايات المتحدة ضريبة خاصة ¬

(¬1) ليست للبيع بأي ثمن: كيف نُحفظ أمريكا لأطفالنا؟ تأليف: روس بيرو 1993م (¬2) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm

تعادل الضرر الذي تلحقه بطبيعة الكرة الارضية، وقد وضحنا سابقاً كيف ان الاصولية المسيحية وعلى رأسها الرئيس بوش ترفض الالتزام بالاتفاقيات البيئية الموقعه بين الدول باعتبار ان ذلك يخالف النبوءات التوراتية الخاصة بآخر الزمان. ولهذا فقد استبق الرئيس الأمريكي حضوره إلى قمة الدول الثمانية الكبرى في اسكتلندا (2005) باستبعاد تدعيم بلاده لأي اتفاقية متعلقة بالمناخ شبيهة باتفاقية كيوتو مشيراً إلى أنه سيعترض على أي مشروع اتفاقية يهدف إلى التقليل من انبعاث الكربون. مضيفاً إنه سيناقش مع زملائه ابتكار تقنيات جديدة كوسيلة للتعامل مع مسألة الاحتباس الحراري. فما السبب إذن الذي يجعل بوش يماطل وهل هو مجرد حماية اقتصادية فقط لصناعات بلاده؟ وأية فائدة تعود عليه إذا فسد مناخ البلاد وتعرضت لموجات من غضب الطبيعة بسبب الاحتباس الحراري وثقب الأوزون إلى آخر الظواهر الطبيعية الكارثية التي تعصف بكوكب الأرض عصفا؟ الإجابة المرتبطة بالفكر الأصولي والتي تعكس خطورة حقيقية تتمحور حول فكرة أن العمل على إنقاذ كوكب الأرض هو أمر يخالف التدبير الإلهي لنهاية العالم. فاليمين الجديد والاتجاهات الإنجيلية والمتطرفة والطوائف البروتستانتية المخترقة وعلى رأسها الميثوديست التي ينتمي إليها بوش تستعجل قيام الساعة وعودة السيد المسيح لتنطلق إمبراطورية الملك الألفي ويملكون معه ألف سنة على الأرض. والمعروف أنها طوائف تؤمن وتعتقد بأنه (ليس هنا مدينة وإنما نبغي العتيدة) أي لا نريد وطنا على الأرض وإنما نتطلع إلى أورشليم السمائية. وحسب التفسير الحرفي المغلوط لبعض ما جاء في الإنجيل أنه في نهاية الزمان "تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة وتحدث زلازل وأوبئة ومجاعات وحروب كثيرة إضافة إلى الكوارث الطبيعية ومنها أن الشمس تظلم والقمر لا يعطي ضوءه" وهذه كلها أول المخاض، لذا فإن أي تغيير من خلال تدخل الإنسان لإصلاح تلك الأعطاب هو وقوف أمام النهاية السعيدة للإمبراطورية السمائية الألفية التي تكون فيها أمريكا طليعة الأرضيين. وإجمالي المشهد هو أن الإمبراطورية الأمريكية اليمينية يخيل إليها أنها

المؤتمنة على إتمام الإرادة الإلهية في الكون في ظل يقين ثابت لديها بأن سيادتها وريادتها علامة دينية على قرب قيام الساعة ونصرة الحق على الظلم (¬1). وهكذا فإن الامبراطورية الأمريكية اليمينية المتطرفة تخطط بشكل مرعب لهندسة العالم وفق رغباتها، ويكفي أن نقرأ قول أحدهم حول مشكلة تلوث البيئة كي تتصور المدى المخيف لهذه الهندسة: ينبغي إزالة 90% من سكان الأرض وعندها لن يكون ما يسبب ضررا للبيئة. وقد صفق له الحضور طويلا. وأما إزالة 10 % من مصانع هؤلاء التي تسد منبعثاتها الفضاء ومزقت ستار الأوزون فلا. انهم يخططون كي تعم الفوضى والتفسخ، يخططون كي يعم اللواط وتنتشر عبادة الشيطان حتى تقتل في كل نفس قدرة المقاومة. تحت دعاوى الحرية والانفلاش يدمرون كل تاريخ الإنسان وجانبه الإيجابي تحديداً (¬2). الكسر الدولي: وهو ناجم عن سياسة الولايات المتحدة الاستهلاكية - العدوانية تجاه البلدان الاخرى، التى يدرك كثير من سكانها الطابع الطفيلي لأمريكا. فبين الولايات المتحدة والاغلبية الساحقة للبلدان الاخرى تتفاقم التناقضات، التي تعجز الولايات المتحدة عن التخلص منها بسبب تكوينها الداخلى. وكما تدل الاستفتاءات التي جرت في عديد من البلدان، فإن اغلب سكان المعمورة يكن الكراهية لأمريكا والأمريكيين، ويرى ان من الانصاف ان يحيق بها ما احاق بالمانيا الفاشية. وهنا يعرض (إمانيول طود) في كتاب (ما بعد الإمبراطورية) لانكشاف القوة الأميركية والتحول التدريجي لأميركا من قوة عظمى إلى قوة كبرى، وإلى تفكك النظام الأميركي حيث أصبحت أميركا بحاجة إلى العالم أكثر من حاجة العالم إليها. ويفتتح المؤلف كتابه بجملة قوية: "إن الولايات المتحدة في طريقها لأن تصبح مشكلة بالنسبة للعالم". فبينما "اعتدنا أن نرى فيها حلاً" وضامنة للحرية السياسية والنظام الاقتصادي خلال نضف قرن، فهي تظهر اليوم أكثر فأكثر عامل فوضى دولية، حيث تبقي ... على اللايقين والصراع". إن أميركا تحتم على العالم أن يعترف بأن دولاً تشكل (محور الشر) يجب محاربتها، كما تستفز قوى أخرى مثل روسيا والصين، ¬

(¬1) امبراطورية بوش بين قمة الثماني وتفجيرات لندن - بقلم /إميل أمين- جريدة الخليج 14 - 7 - 2005 عدد 9552 (¬2) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 6

العجز العسكرى واستهداف دول ضعيفة

وتضع حلفاءها في موقف حرج باستهدافها مناطق متاخمة لهؤلاء الحلفاء" (¬1). بهذا http://www.aljazeera.net/books/2003/5/ - TOP يمكن تفسير السلوك الدولي" لأميركا على اساس أنها لا تعاني فرط القوة وإنما انخفاضاً في قوتها، حيث أن القوة الأميركية في تراجع ومراكز القوة في العالم تتعدد والتكتلات الإقليمية الكبرى ستفقد جدوى وجود مركز أميركي عالمي. فمع الغياب المفاجئ لكل تهديد لامن الولايات المتحدة، ومع اندفاع الجزء الاكبر من العالم نحو تبني السياسة الديمقراطية ورأسمالية السوق جنباً إلى جنب مع التجارة الحرة، كما لو لم يبق شئ جدير يمكن ان يكون موضوع جدل. في نهاية التاريخ بشر فرانسيس فوكوياما بحقبة جديدة سيمهد فيها احتضان وتبني حملة القيم والانظمة الأمريكية الكونية أو الغربية بشكل اوسع طريق ترسيخ الازدهار والسلم العالميين (¬2). ولكن أطروحات فوكوياما عن صراع الحضارات تقود في نهاية الأمر إلى (لا حاجة العالم إلى أميركا). حيث إنه إذا قبلنا بفرضية مايكل دويل - والتي تبناها فوكوياما- والقائلة بأن الديمقراطية لا تدخل في حروب فيما بينها، فهذا يعني أنه حين تعم الديمقراطية في العالم فإن أميركا كقوة عسكرية تصبح عديمة الجدوى بالنسبة للعالم مما يحتم عليها أن تكون ديمقراطية بين ديمقراطيات أخرى (¬3). العجز العسكرى واستهداف دول ضعيفة ان أفول القوة الأميركية لا رجعة فيه، وأن إشكالية أميركا العسكرية هي أنها لم تواجه أبداً خصماً في مستواها العسكري، كما أنها لم تربح حرباً بمعنى الكلمة، فحتى الحرب العالمية الثانية لم تكن لتنجح فيها لولا التضحيات الروسية على الجبهة الشرقية. وبحكم تبعية أميركا للعالم، فإنه لم يعد بوسعها انتهاج الانعزالية. وهي ليست حقاً قوية، بسبب افتقارها إلى قوات برية، وهي بحاجة ماسة لقواعدها العسكرية في الخارج أكثر من حاجتها لحاملات طائراتها. ولهذا فان تركيزها على ¬

(¬1) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز (¬2) الدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص47 (¬3) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز

خرافة الديمقراطية

نفط الشرق الأوسط يعبر عن تخوفها من أن يقذف بها خارج أوراسيا. واذا حدث تحالفاً أوروبيا روسيا قد يعني نهاية السيطرة الأميركية على العالم. ولهذا وبعد تضخيم الإمكانيات العراقية وبعد تحرير الكويت، حدد خيار أميركي جديد، الانخراط في أكبر عدد من الصراعات مع قوى عسكرية مثيرة للسخرية والتي تنعت بـ (الدول المارقة). فمن خلال نشاطها العسكري الموجه ضد الدول الضعيفة تسعى أميركا لحجب انحسار قوتها. فهي تستخدم مكافحة الإرهاب ومحور الشر كمبررات. وبما أنه ليس بوسعها التحكم في كبار الفاعلين الاقتصاديين والإستراتيجيين أي أوروبا، روسيا، اليابان والصين، فإنها ستفقد التحكم في العالم، وتصبح قوة كبرى بين قوى كبرى أخرى. ولهذا تريد بالسعي للتحكم في مصادر الطاقة إخفاء بؤسها الثقافي والاقتصادي المتنامي. وتبعث بإشارات عسكرية لإعطاء الانطباع بأنها لازالت الأمة القوية كما في الماضي (¬1). خرافة الديمقراطية لقد ظل البعض يشنف أذاننا بسيمفونية الديمقراطية والحرية الأمريكية والأحلام الوردية التى ستحل كل مشاكلنا وتغرقنا في أنهار السمن والعسل، إلى أن تكشفت الحقائق شيئاً فشيئاً واذ بنا نرى الأنياب الحادة للديمقراطية تقطر من دماء الأبرياء الذين نهشت أجسادهم وتنشب أظفارها في رقابنا، تحاول خنقنا واخماد أنفاسنا وتستهزئ بمقدساتنا وتحتل أرضنا وتدمر قرانا ومدننا وتنتهك أعراض الحرائر في بلادنا! لقد خرست ألسنة أدعياء الديمقراطية ومبشريها بعد أن ثبت أن الديمقراطية هى الاسم الحركى للحملة الصليبية الجديدة بقيادة الأحمق المطاع ... ان نشر الديمقراطية في بلادنا يعنى في حقيقة الأمر احتلالها عسكريا وتدمير البنى التحتية واذلال شعوبنا ونهب خيرات بلادنا والقضاء على ديننا وقيمنا ونشر الأناجيل ¬

(¬1) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز

والصلبان في ربوعنا ... وهذا هو ما حدث في العراق إلى أن أسلموه إلى حافة الحرب الأهلية ثم أعلنوا أنهم لن يتدخلوا في هذه الحالة (¬1) لقد كانت السنوات الاخيرة حافلة بالاحداث التى تدل على زيف الديمقراطية الأمريكية: الرئيس (كلينتون) لم يكن ينقصه سوى ان يطرد من البيت الابيض سنة 1999 بسبب الخيانة الزوجية، انتخابات مشكوك فيها سنة 2000 تكشف عن التصدعات والتجاوزات في النظام الانتخابي (¬2). فالمنظومة الاجتماعية- السياسية للولايات المتحدة الأمريكية ليست إلا شكلاً متطرفاً من التوليتاريزم/ النظام الشمولي المطلق والخطير بما يفوق توليتاريزم ألمانيا الفاشية. وعلى سبيل المثال فعلى مدى مائتي عام يختار الأمريكيون رؤساءهم من بين مرشحين اثنين، تم إعدادهما مسبقاً خلف الكواليس الماسونية- اليهودية. وبسبب روح الجشع السائدة فان تاريخ أمريكا كله لا يعرف رئيساً نزيهاً واحداً، لم يسرق خزينة الدوله. وهذا شيء عادي في الولايات المتحدة حيث يتفهم الناخبون نقاط ضعف رؤسائهم ويتعاطفون معها (¬3). وقد كان البروفيسور (كارول كويجلي) - الذي درّس بيل كلينتون في جامعة جورج تاون، ويعمل مستشاراً في البنتاغون- يخبر طلابه، بمن فيهم كلينتون، أن الأحزاب السياسية هي مجرد تنظيمات جاهزة ومعدة للاستخدام، وأن كلاً من الحزبين الرئيسيين تسيطر عليها الأنشطة التجارية الكبري منذ عام 1900. كما أنه أخبر طلابه وعلّمهم أن ما يسمي بالتعددية الحزبية أي أن يكون للحزبين أفكار وسياسات وقيم متضاربة ... هو مجرد فكرة حمقاء. فالمجتمع كما يقول (ليبمان) - أحد أبرز أقطاب الإعلام الأميركيين في النصف الأول من القرن العشرين- ينبغي أن: يدار من قبل نخبة أو طبقة خاصّة، يدعوهم ليبمان الرجال المسؤولين. ووظيفة هذه النخبة أن يحدّدوا ما سيصطلح علي تسميته المصلحة الوطنية. هذه النخبة هي التي ستصبح البيروقراطية المتفانية في خدمة ¬

(¬1) الكابوس الأمريكي وحلم الخلاص - محب الصالحين - http://www.almotmaiz.net/vb/showthread.php?t=9872 (¬2) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكر- جريدة الخليح الاماراتية - 15 - 12 - 2005 (¬3) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 47

مصالح القوة الخاصّة والثروة الخاصّة. ولكن ينبغي عدم الكشف عن حقيقة روابطهم تلك للعامة الجهلاء، حيث تم إنشاء المجلس النخبوي للعلاقات الخارجية، وتم تجميع النخب من علي جانبي الأطلسي لصياغة السياسات الوطنية لكل دولة، وأُتقنت الديمقراطية الميكانيكية على زرع هذه السياسات والمؤسّسات والأفراد في مواقع حكومية منتقاة. أما القضايا المهمّة فيجري تقريرها خلف الأبواب المغلقة، في حين تترك مسرحيات الانتخابات للمرشحين المتنافسين الذين عليهم جميعاً القبول بوضع النخبة. وهكذا، إذن، أصبحت طريقة الحكم تكنوقراطية لا ديمقراطية (¬1). فأمريكا كما يقول جورج وولد استاذ بجامعة هارفارد الأمريكية، لا يحكمها نظام يقوم على حزبين كما يدعى البعض بل على حزب واحد يدعى صفة التعدد لتضليل الرأى العام (¬2). فمنذ القدم وضعت الية دقيقة يمكنها حرمان جزء هام من قاعدة الناخبين الأمريكيين من حق التصويت الديمقراطي عند اللزوم. وقد ظهرت فاعلية هذه الآليات حين اصبحت فلوريدا ساحة قتال لانتخابات الرئاسة الأمريكية (جور ضد بوش (¬3) (. فبعد الحرب العالمية الثانية، غير جهاز التلفزيون من طبيعة وشكل الحملات الانتخابية وجوهر الأحزاب والسياسة، من خلال قدرته على التلاعب بالرأي العام بواسطة الحملات المتلفزة المكلفة، مما جعل السياسيون عاجزين عن تحدي مموّليهم وسادتهم من أرباب المال، وهذا يعني ان النظام اصبح اقل ديمقراطيه. إن ظهور التلفزيون وسيطرة القلة عليه، بل وامتلاكه، قد ادي إلي تعاظم قوة وسيطرة القلة علي الأحزاب السياسية والانتخابات ومختلف العمليات. واستخدمت القلة مصاردها المالية الهائلة للتلاعب في الرأي العام والتأثير علي المرشحين. ولكن الناخبين توقفوا عن المشاركة في الانتخابات لانها باتت مجرد مضيعة للوقت، لا سيما أن لعبة السيطرة من قبل المصالح الخاصة للقلة باتت مكشوفة أمام أعينهم وإدراكهم (¬4). وهكذا اصبحت أمريكا اليوم هي المجتمع الأكثر توليتاريه في العالم، ¬

(¬1) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي-29/ 2/2003 (¬2) زعماء ودماء-ايمن ابو الروس ص 96 (¬3) احداث 11 سبتمبر - الاكذوبة الكبرى - محمد صفي ص130 - دار الاحمدى للنشر - الطبعة الأولى 2003 (¬4) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي- 1/ 2/2003 هو

فالاغلبيه الساحقة من الأمريكيين تتبنى وجهة نظر واحده - وحيده تجاه العديد من المواضيع ذات الأهمية الاجتماعية الكبيرة. فأين يمكن إن تعثر على دولة حيث يدلي سكانها بأصواتهم لصالح أحد الحزبين لا ثالث لهما. أنها انتخابات بدون خيار لتنصيب كوبوي أو بليبوي جديد في سدة الرئاسة له شكل وسلوك المانيكان، الذي يعد الأمريكيين بنقود وسلع اكثر على حساب الاخرين (¬1). وهنا تقف (نيكول باشان) في كتابها (هل يجب الخوف من أمريكا؟) عند عبارة (نحن الشعب)، وتقول: "هي صيغة جميلة جداً. وهي شهيرة، تفتتح سنة 1787 التمرين الاكثر قدماً في العالم، الذي يجعل من أمريكا الديمقراطية الاقدم في العالم". ولكنها تتسائل بعد ذلك فتقول: "هل كان بوسعنا التحدث مرة اخرى عن الديمقراطية بعيداً عن المبادئ الجميلة الواردة في التصريحات الكبيرة؟؟ وما حقيقة هذه الديمقراطية، وهل تمثل حقاً المواطنين، جميع المواطنين، وهل تبقى هناك سبباً للادعاء، وتقديم النفس كموديل؟ (¬2)، يجب على الآخرين الاقتداء به. بالتأكيد لا يمكن الحديث عن ذلك، بل لابد من كشف زيف تلك المزاعم عن الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان والحرية التى لا تكف أمريكا عن استخدامها كسوط مسلط على الشعوب لاستعبادها. فلقد كانت الديمقراطية دائما ستاراً للأقلية من ملاك العبيد حتى أساطين المال، وما يسمى ب (ديمقراطية أثينا) في وقت بيركليس والتي كان يضرب بها المثل كأم الديمقراطيات، لم تكن في الحقيقة سوى سيادة عشرين ألف مواطن حر على مائة ألف عبد محروم من أي حق. أننا أمام حكم الأقلية المستعبدة ويسمى (ديمقراطية)، ديمقراطية للسادة وليست للآخرين (¬3). وبالرغم من ان إعلان استقلال الولايات المتحدة ينص على المساواة في الحقوق بين المواطنين جميعاً، الا انه وعقب هذا الإعلان الحاسم تم الحفاظ على العبودية - بالقانون - لمدة زادت على قرن وما زالت التفرقة العنصرية ضد السود ¬

(¬1) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 82 (¬2) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكر- جريدة الخليح الاماراتية - 15 - 12 - 2005 (¬3) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص127

الكسر الحضاري

باقيه حتى الآن ... الديمقراطية للبيض وليست للسود ولا للهنود (¬1). الديمقراطية للبروتستانت الانجلوسكسون وليست للكاثوليك والارثوذكس أو المسلمين، الديمقراطية للانجلوسكسون وليست للاسبان أو الايطاليين أو العرب. الكسر الحضاري إنّ الذي يمعن النظر في حركة التاريخ، يتجلّى له بوضوح أنّ أقصى ما تعمرّه أيّ قوة حضاريّة هو خمس قرون, لتنتقل الدورة الحضاريّة إلى بقعة أخرى تكون قد إستجمعت شروط الإنطلاق النهضوي والحضاري. وهذا ما تجسدّ بالفعل في التاريخ البشري. وقد تمكنّ العديد من المفكرين الغربيين من الوصول إلى هذه النتيجة كروبنسون وبرتراند رسل وروني دوبو و روجيه غارودي وروني جينه وغيرهم. وكل المؤشرات تشير إلى ان أمريكا مقبله على سقوط حضاري كبير، حيث إنّ أعظم ما أنتابها هو إنعدام التوازن في مشروعها النهضوي, فبدل أن تهتم بالإنسان كجوهر إهتمّت به كعرض, مما جعل التقنية المتطورة التي بلغتها تسير في غير هدى حضاري, وهذا من شأنه أن يعرّض ليس أمريكا فحسب بل الإنسانية بكاملها لعملية الإنقراض الشاملة. وهذا الإنعدام في التوازن ولدّ التخطيط المشوّه, إذ أنّ أمريكا سخرّت آلاف الملايير من الدولارات لدعم التسلّح والترسانة العسكريّة على حساب المجالات الإجتماعيّة الأخرى. وهذا ما أنتج طبقة فقيرة في المجتمع الأمريكي قد تتحوّل مع مرور الأيّام إلى قنبلة موقوتة في وجه الشركات الأمريكية الكبرى ذات النفوذ الواسع في السياسة الأمريكية (¬2). لقد دخلت الولايات المتحدة مرحلة السقوط التاريخي بالانهيار التدريجي للخط البياني لحضارتها أي التفكك التدريجي الداخلي (بؤس متزايد) ثلاثة وثلاثون مليون نسمه يعيشون تحت خط الفقر، تحلل في المجتمع يرجع إلى تفرقة عنصريه عريقة الأصول بالأخص للزنوج، وتعتبر اضطرابات لوس أنجلوس ومسيرة المليون اسود بقيادة لويس فاراخان في واشنطن أهم الشواهد على ذلك، وذلك فضلاً عن تفتت ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص 147 (¬2) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm

اجتماعي بالمخدرات والفساد والمضاربات الطفيليه (¬1). ان ما يزيد على خمسة عشر الفاً من البشر يقتلون سنوياً في الولايات المتحدة - نسبة متفوقة كثيراً على نظيراتها في البلدان الصناعية الاخرى، وهو معدل قد لا يكون مرتبطاً بواقع كون المدنيين في الولايات المتحدة مدججين بالسلاح. وكذلك فان السجون الأمريكية اكثر امتلاء من نظيرتها في اى بلد رئيسي. واحد من كل ثمانية رجال امريكيين قد اقترف جريمة، وواحد من كل عشرين دخل السجن (والنسبة عند السود هى واحد من كل خمسة). ويشكل عدد سجناء الولايات المتحدة ذات الكتلة السكانية البالغة 5 بالمائة من سكان العالم ربع سجناء العالم (¬2). ان أمريكا تسير نحو نهايتها الحتمية، وهذا ما يتجلى بالدرجة الأولى في تداعى القيم الأمريكية التقليدية ... لقد دل الاستتفتاء السيوسولوجى الذى اجراه معهد هارييس في الولايات المتحدة على ان غالبية الأمريكيين يفضلون قيام نمط للحياه اكثر انسانية على الانماط الاخرى. وهذا يؤكد ان اكثر الانظمة معاداة للانسانية عاجزة عن القضاء التام على كل ما هو انساني في الانسان. كانت عاقبة جنكيز خان وهتلر ونظامهما المعادي للانسانية وخيمة، بسبب تناقض هذا النظام مع الطبيعة الالهية للانسان، ولهذا السبب فإن نهاية أمريكا حتمية، ولهذا بالذات سوف تنقرض (¬3). يقول الكاتب الأمريكي ارثر كروك:" يساورني خوف شديد من أن فترة سيادة الولايات المتحدة وبروزها كقوة عظمى ووحيدة في العالم ستكون من أقصر الفترات في التاريخ. ويقول الكاتب الأمريكي لورانس جولد: أنا لا أعتقد أن الخطر الأكبر الذي يهدد مستقبلنا يتمثل في القنابل النووية أو الصواريخ الموجهة آليا. ولا أعتقد أن نهاية حضارتنا ستكون بهذه الطريقة. إن الحضارة الأمريكية ستزول وتنهار عندما نصبح عديمي الاهتمام وغير مباليين بما يجري في مجتمعنا، وعندما تموت العزيمة على إبقاء الشرف والأخلاق في قلوب المواطنين. و يقول آرنولد توينبي: إن معظم ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص 36 - 37 (¬2) الدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص54 (¬3) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 162

كتاب موت الغرب

الحضارات التي عرفها الإنسان قد سقطت من الداخل فقط ولم تسقط لأن قوى خارجية استولت عليها (¬1). . كتاب موت الغرب يرى "بات بوكانان" كبير المستشاريين لثلاثة رؤساء أمريكان وهومرشح رئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة سنوات 1992 و 1996.، في كتابه "موت الغرب- مؤشرات هامة لبداية موت الغرب: منها انخفاض معدلات المواليد وذوبان العائلة واندثارها كوحدة اجتماعية، وعزوف النساء عن الحياة الطبيعية التقليدية مثل الزواج وانجاب الاطفال ورعايتهم، وعزوف الشباب عن مؤسسة الزواج وشيوع الجنس واللواط والحماية القانونية لهذه النزعات غير السوية، يقابل هذا نمو المجتمعات في العالم الثالث وخاصة الإسلامي حجماً وكياناً، وهجرة العرب والمسلمين إلى ديار الغرب وتشكيلهم كينونة ثقافية مغايرة للكينونة الغربية ومتحديه لها، وغشيان العرب والمسلمين في ديار الغرب لمجالات الاعلام والسياسة والنقابات وممارسة دورهم بروح رسالية خاصة بعد سبتمبر 2000. وينطلق بوكانان في كتابه من قناعة راسخة لديه، بأن الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، يتجهان نحو الموت والفناء والذوبان ما لم تتم مراجعة سريعة لكثير من سياساته واوضاعه واتجاهاته، وما لم ـ على ضوء المراجعة ـ يتم اتخاذ اجراءات فورية تصحيحية. اكبر خطرين يهددان الغرب عموماً يتلخصان في نقطتين: انخفاض معدلات المواليد وموجات الهجرة التي يقوم بها شعوب العالم الثالث (وبالخصوص العرب والمسلمون) إلى ديار الغرب. فانخفاض معدلات المواليد في الغرب تكمن وراءه رؤية اجتماعية شائعة هناك، بأن هدف الحياة هو اللذة بكل اشكالها وان مؤسسة الزواج والعائلة باتت عبئا لا داع له، طالما الشيوعية الجنسية هناك تلبي حاجة اللذة. ¬

(¬1) مؤسسة الحوار الانساني http://www.dialogue-yemen.org/ar/modules.php?name=Sections&op-

تحديات الهوية الوطنية الأميركية

كما إن انهيار النظام القيمي في الولايات المتحدة، جعل الكثير من الانحرافات الخلقية والسلوكية امراً مقبولاً بين عموم الناس هناك. فالمثلية الجنسية والسحاقية بين النساء والزنى صارت اموراً مألوفة وعادية وجزءاً من اليوميات الأمريكية. وصارت لهذه الفئات (المخنثين والنساء السحاقيات) مقرات وجمعيات ونشرات وكراسات تدعو الجمهور الأمريكي ـ تحت مظلة حرية الرأي والتعبير عنه ـ إلى ممارسة المثلية الجنسية (اللواط) والسحاقية بين النساء. وصارت هذه الفئات تطبع كتباً ومجلات واشرطة وكشاكيل عضوية بالعناوين والهواتف. يقول بوكانان ـ بحيث باتت هذه الفئات تعتبر عملها شبيها بالعمل الحزبي اذ لها مرشحوها في الانتخابات المحلية والفدرالية ليس هذا فحسب، بل ان البيت الابيض نفسه اصبح منشغلاً في هذا الامر، اذ عيّن ملحقاً خاصاً وجهازاً وظيفياً خاصاً لاسترضاء هذه الفئات التي تتنامى مع الوقت في الولايات المتحدة وتكثر. كما ان الأمريكي - حاليا - في رأي بوكانان منقسم على نفسه في شكل صارخ لا يشكل الشعب الأمريكي (امة واحدة) بل امتين: امة فقيرة وامة ثرية ولماذا نذهب بعيدا - يقول بوكانان - فبوش رئيس الجمهورية يقول في خطاب له في 20 يناير 2001 ان الخلافات بين الأمريكان انفسهم عميقة إلى درجة تدفعه إلى الاقتناع بانهم يتشاركون العيش في قارة وليس في وطن؟ (¬1). تحديات الهوية الوطنية الأميركية لا يمكن للشعوب الهجينة أن يستمر تجانسها خصوصا في ظلّ غيّاب عقيدة واحدة تنصهر فيها كل الفروقات العرقيّة, والولايات المتحدة الأمريكية يسود فيها شعب متباعد الأطراف، هذا الشعب الذي تشكل من هجرات متباينة من مختلف المناطق الأوروبية والإفريقية والآسيوية, وهذا التباعد العرقي يصحبه تباعد ديني وعقائدي, إذ أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تكاد تشبه الهند في عدد الديانات والمذاهب والتيارات الفكرية والفلسفية السائدة فيها. والشيئ الوحيد الذي ما زال ¬

(¬1) موت الغرب - بات بوكانان - عرض د. عبد الله فهد النفيسي- الوطن الكويتية- 25 - 9 - 2002 http://www.wataonline.net

يحافظ على التماسك بين أعراق الشعب الأمريكي هو المصلحة الإقتصادية, وأي ضعف إقتصادي حقيقي في أمريكا قد ينعكس سلباً على تماسك الأعراق فيها (¬1). فأمريكا ليست دولة ولا قومية. بل هي مجرد مساحات واسعة يقطنها مؤقتا أناس ينحدرون من بلدان مختلفة، والمهم هو أن أمريكا تفتقر إلى النواة القومية، إلى شعب الدولة - الأساس الأصيل لكيان الدولة المتين. أن ما يسمى بالشعب الأمريكي هو تعريف غير أصيل وغير متجانس. بل هو خليط مصطنع من الأشخاص، الذين لا يمتون لبعضهم البعض بصلة، باستثناء الرغبة المشتركة في الاستهلاك والكسب والخوف الغريزي من المسؤولية عن الجرائم التي اقترفوها بحق البشرية. أن خليطاً كهذا لا يمكن أن يبقى متراصاً إلا لفترة زمنية قصيرة نسبياً، والتاريخ غني بالأمثلة على انه يتداعى لدى أول صعوبات جديه لم تعان منها أمريكا بشكل حقيقي بعد. لكنها تقف الآن على أعتابها (¬2). وربما هذا ما دفع هنتجتون إلى دق ناقوس الخطر محذراً من التحديات التى تواجهها الهوية الأمريكية، حيث يرى أن الهوية الأميركية واجهت خلال العقود الأخيرة -خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين- عدداً من التحديات الضخمة التي أضعفت من التفاف الأميركيين حول هويتهم بشكل يمثل تهديداً لبقاء الهوية الأميركية واستمرارها، ومن أهم التحديات التي رصدها هنتنغتون ما يلي: أولا: التقدم في وسائل الاتصالات والمواصلات، والذي أدى -كما يرى هنتنغتون- إلى ربط المهاجرين الجدد إلى الولايات المتحدة بمجتمعاتهم القديمة بشكل قوي وغير مسبوق، مما أضعف من اندماجهم بالمجتمع الأميركي وسهل عملية تواصلهم مع مجتمعاتهم الأصلية، وشجع المهاجرين الجدد على الحفاظ على ثقافاتهم الأصلية وهوياتهم الأجنبية، ومحاولة نشر هذه الهويات بين أبناء بلدانهم في أميركا. كما أن تقدم أدوات الاتصال والمواصلات وقوى العولمة أدى إلى انفتاح النخب الأميركية الاقتصادية الكبرى بشكل غير مسبوق على العالم، حيث بدأت هذه النخب في تكوين هويات فوق-قومية تتخطى الهوية الأميركية، إذ تنظر هذه النخب ¬

(¬1) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm (¬2) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 8

والهيئات لهوياتها -بشكل متزايد- نظرة عالمية ترتبط بمصالحها الاقتصادية المنتشرة عبر بقاع العالم. ثانيا: نفوذ الليبراليين الأميركيين وثقافتهم التعددية، إذ ينتقد هنتنغتون اليسار الليبرالي الأميركي ودعواته المستمرة للتعددية ومراجعة الذات الأميركية والغربية، التي ساعدت على نمو هويات فرعية أميركية عديدة وانتشارها وعلى رأسها هويات الأفارقة الأميركيين واللاتينيين الأميركيين. كما وقف اليسار الأميركي موقفاً ناقداً للثقافة الأنغلو-بروتستانتينية خاصة تجاه الجانب الديني منها، ونادى الليبراليون بشكل متكرر بسيادة قيم العلمانية وفصل الدين عن الدولة وعن الحياة العامة الأميركية، ما أضعف المكون الديني المسيحي للهوية الأميركية. ثالثا: ينتقد هنتنغتون سياسات الهجرة الأميركية الحديثة التي ساعدت على تدفق ملايين المهاجرين على أميركا منذ الستينيات، دون وضع ضمانات كافية لدمج وصهر موجات الهجرة الجديدة في ظل ثقافة التعددية التي سعى اليسار الليبرالي الأميركي بقوة لنشرها منذ النصف الثاني للقرن العشرين. كما يقدم هنتجتون نقداً مباشراً للهجرات اللاتينية الأميركية والسماح بتدريس اللغة الإسبانية واستخدامها كلغة ثانية رسمية في العديد من المدن والولايات الأميركية. وهنا يظهر قلق هنتنغتون الخاص من المهاجرين اللاتينيين الأميركيين على الهوية الأميركية بعد أن أصبحوا يمثلون 12% من تعداد الشعب الأميركي، ونظراً لارتباطهم الوثيق بأوطانهم الأصلية القريبة من الولايات المتحدة. كما يبدي هنتنغتون قلقاً خاصاً تجاه من ينادون بإقرار اللغة الإسبانية لغة ثانية رسمية، ويرى أن ذلك يعد أحد أخطر التهديدات الموجهة للهوية الأميركية، لأنه ينذر بتحول أميركا لبلد ذي هوية لغوية ثنائية إنجليزية-إسبانية. رابعا: يرى أن سقوط الاتحاد السوفياتي وعدم تبلور عدو جديد للولايات المتحدة أسهم في ضعف التفاف الأميركيين حول هويتهم خاصة في أواخر القرن العشرين. ويرى هنتنغتون أن التغيرات الكبرى السابقة والتحولات العديدة التي شهدها المجتمع الأميركي أدت إلى تراجع مصادر الهوية الأميركية الرئيسية، وهي الإثنية البريطانية والعرق الأبيض والدين المسيحي والثقافة الإنجليزية - البروتستانتينية. إذ ساعدت الهجرات الأوروبية العديدة غير الإنجليزية كالألمان

العالم وأمريكا .. معنا .. أم ضدنا

والإيطاليين وغيرهم إلى الولايات المتحدة على إضعاف أهمية الإثنية البريطانية في الهوية الأميركية، وأضعفت دعاوى التعددية والعلمانية دور الثقافة المسيحية، كما أضعفت ثورات الحقوق المدنية دور العرق أو العنصر الأبيض كمصدر للهوية، وإن كان هنتنغتون يرى أن العنصرية مازالت قوية وحية وتمثل عامل تمييز أساسياً داخل المجتمع الأميركي خاصة على المستوى الاقتصادي والسياسي حيث يبرز نفوذ الأميركيين البيض. ويرى هنتنغتون أن التحديات السابقة يمكن أن تؤدي إلى واحد من التبعات الأربع التالية على الهوية الأميركية في المستقبل: أولا: فقدان الهوية الأميركية وتحول أميركا إلى مجتمع متعدد الثقافات والأديان مع الحفاظ على القيم السياسية الأساسية. ويرى هنتنغتون أن هذا السيناريو يفضله كثير من الليبراليين الأميركيين ولكنه سيناريو مثالي يصعب تحققه. ثانيا: تحول أميركا إلى بلد ثنائي الهوية (إنجليزي-إسباني) بفعل زيادة أعداد ونفوذ الهجرات اللاتينية الأميركية. ثالثا: ثورة الأميركيين البيض لقمع الهويات الأخرى، ويرى هنتنغتون أن هذا السيناريو هو احتمال قائم ويدرس إمكانات وقوعه ودوافعه بالتفصيل خلال الفصل قبل الأخير من كتابه. رابعا: إعادة تأكيد الهوية الأميركية من قبل الجميع والنظر لأميركا كبلد مسيحي تعيش به أقليات أخرى تتبع القيم الأنغلو-بروتستانتينية والتراث الأوروبي والعقيدة السياسية الأميركية كأساس لوحدة كافة الأميركيين (¬1). العالم وأمريكا .. معنا .. أم ضدنا إذا كان العالم العربي والإسلامي يعاني في الوقت الحاضر من التجبر والعربدة الأمريكية، فإنه ليس الوحيد في هذا المجال، حيث سبق التسلط الأمريكي على المنطقة العربية والإسلامية تسلط وتجبر في كافة مناطق العالم، وقد عرضنا لذلك ¬

(¬1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية: صموئيل هنتنغتون- عرض/ علاء بيومي- الجزيرة نت 2 - 8 - 2004

في هذا الكتاب بدءاً من ابادتة الهنود الحمر واستعباد الزنوج، مروراً بتمير القوة الاسبانية واستباحة أمريكيا اللاتينية والفلبين، وتدمير اوروبا واليابان والتحكم بمقدراتها من خلال حربيين عالميتين، وصولاً إلى الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي وما صحبها من مجازر وابادة بحق الفيتناميين والكوريين، وانتهاءاً بالنظام العالمي الجديد الذى ارادت أمريكا من خلاله الانفراد بالعالم وتحويل شعوبه إلى عبيد تسخرهم لخدمة اطماعها القذرة، ضاربه عرض الحائط بكل المبادئ والقيم الانسانية، وما يحدث في افغانستان والعراق خير مثال على ذلك. فهذا التاريخ الطويل من الاجرام والابادة الأمريكية التى شملت الكرة الارضية بكاملها، وما صاحبه من تضليل وتزوير للتاريخ بدأ يتكشف الآن وبدأت شعوب العالم تتعرف على الحقائق المؤلمة للجرائم الأمريكية بحقها وبحق الانسانية، وهذا هو العامل الرئيسي الذي يمكن ان يفسر لنا سبب كره شعوب العالم لأمريكا، والذي بدأ يظهر بصورة جليه على الساحة حتى بدأ الأمريكيون انفسهم يشعرون بهذا الكره، فكان سؤالهم الدائم والساذج: "لماذا يكرهوننا"، متناسيين ما جلبته سياسة بلادهم من دمار وخراب على كافة شعوب العالم، التي بدأت تعبر عن كرهها للسياسة الأمريكية، حتى وصل الامر إلى بدايات تمرد من بعض حلفاء أمريكا، وكان اظهر ما يكون في الموقف الاوروبي بشكل عام والفرنسي بشكل خاص. وقد خاضت كل من فرنسا وألمانيا معركة جادة للتخلص من الهيمنة الأمريكية على القرار الأوروبي، وجعل السياسة الأوروبية نابعة من المصالح الأوروبية ذاتها، كما تجلى ذلك في مواقف الزعيمين الأوروبيين شرودر وشيراك في معارضتهما الحرب الأمريكية على العراق (¬1). فلأوّل مرّة في تاريخ الصحافة الأوروبيّة تصبح أمريكا موضوعاً يتناوله المحللون والكتّاب بكثير من النقد اللاذع أحياناً والجرئ أحياناً أخرى. وإذا كان نقد أمريكا في السابق حكراً على الكتّاب والمثقفين اليساريين والقوميين .. فإنّ الكتّاب الليبيراليين الذين كانوا إلى وقت قريب معجبين بالحضارة الأمريكية وبالنمط ¬

(¬1) وجه الرأسمالية الجديد- توفيق المديني- ص 337 من منشورات اتحاد الكتاب العرب- دمشق - 2004

الأمريكي في الحياة سخروا أقلامهم لفضح هذا النموذج الذي بات يستهدف الإنسان في كل أبعاده. وفي نظر هؤلاء فإنّ الأمركة هي مشروع إستعماري جديد لا يختلف عن الإستعمار الأوروبي القديم لكن بأساليب جديدة, والعجيب أنّ هذه الآراء تصدر من لدن مفكرين غربيين في الوقت الذي بذلت فيه أمريكا مجهودات جبّارة عقب الحادي عشر من سبتمبر لإستمالة الرأي الغربي إليها حتى شبّه البعض التجيير الأمريكي الإعلامي والسياسي لأحداث الحادي عشر من سبتمبر لصالحها بالهلوكست اليهودي وأسموه الهلوكست الأمريكي. وقد إستطاعت تظاهرات 15 فبراير 2003 المنددة بالغارة العسكرية الأمريكية المرتقبة على العراق أن ترخي بظلالها ليس على الخطّ الإعلامي والسياسي لمعظم الصحف الغربية بل أرخت بظلالها على صنّاع القرار في أوروبا الذين أضطرّوا إلى عقد قمّة طارئة الإثنين 17 فبراير 2003 في العاصمة البلجيكية بروكسل والتي تناولت موضوع العراق والغارة الأمريكية المرتقبة عليه في ضوء يقظة الشارع الأوروبي المعادي للحرب الأمريكية، وقد أجمع القادة الأوروبيون على ضرورة أن تكون جمعية الأمم المتحدة هي مركز النظام العالمي وليس أمريكا (¬1). فبعد تأسيس الاتحاد الاوروبي وظهور تحالف قوى بين فرنسا والمانيا، فإننا نجد أن أوروبا لم تعد الحليف المؤكد والدائم للولايات المتحدة الأمريكيه (¬2). وهنا يجب ان نوضح ان مناوأة أميركا في أوروبا وفي فرنسا لا سيما منذ الحرب العالمية الثانية، تأتي بسبب بعض سلوكيات سياسة أميركا وبعض جوانب نظامها التي تلقي بثقلها في الإدراك الأوروبي للولايات المتحدة (¬3). والحال هذه، وفي ظل تباعد وجهتي النظر بين أوروبا وأمريكا فيما يتعلق بالفلسفة لكل واحدة منها إلى العالم، والقيم، والمصالح في آن واحد، نجدهما الآن تنتهجان سلوكا اجتماعيا وسياسيا مغايرا ومتعارضا إلى حد كبير (¬4). وقد لاحظ المعلق الفرنسي (دومينك مويزى): ان نزعة ¬

(¬1) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm (¬2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص35 (¬3) الكل أميركيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 - جون ماري كولمباني- كامبردج بوك ريفيوز (¬4) وجه الرأسمالية الجديد- دراسة - توفيق المديني- ص 339 من منشورات اتحاد الكتاب العرب- دمشق - 2004

معاداة أمريكا كانت في سبعينات القرن العشرين رد فعل على ما كانت الولايات المتحدة تفعله، اما اليوم فان النزعة -معاداة أمريكا- رد على واقع أمريكا. كما ان هناك معلقون امريكيون مثل (جون اوسليفان) من مجلة (ناشيونال رفيو) حذروا من ان الاتحاد الاوروبي بدأ ينزلق إلى مواقع معادية للولايات المتحدة. ويرد مارتن وولف على هذا التحذير مؤكداً ان كلاً من الاتحاد الاوروبي، والصين، والهند قد تتحالف لموازنة الولايات المتحدة (¬1). فالليبرالية المتطرفة على الطريقة الأمريكية والتي قُدمت كأمر يصعب التغلب عليه تعمل على صدم وتشنج المشاعر الوطنية للدول الآسيوية التي لها قواعد تاريخية متينة وعريقة. وتبدو الصين في طليعة هذا الرفض بالاستسلام ولا ينقصها من أجل ذلك العوامل المتينة من جاهزية اقتصادية واضحة وفخر وطني شرعي قادر على الإنقاذ وإرادة قوية باستعادة الأراضي التي ترى أنها بالواقع قد سلخت منها. لا تخاف الصين أن تسمع صوتها المخالف مزعجة به الأمريكيين وخاصة عندما أدانت الحلف بين اليابان والولايات المتحدة. إن الصين تمثل لأوروبا التي تنازلت منذ زمن بعيد عن حب نفسها مثالاً مشجعاً (¬2). وباعتباره واحد من منظري الفكر المحافظ الأميركي الجديد, يقدم (روبرت كيغان) في كتابه (الفردوس والقوة .. أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديد) تنظيراً لأسباب الإنفصال الأميركي-الأوروبي, ويأمل أن تحتل أطروحته في هذا الكتاب الأهمية التي احتلتها أطروحات سابقة شهيرة في مقدمتها صدام الحضارات لهينتغتون ونهاية التاريخ لفوكوياما. وهذا الطموح عند كيغان لا يتأتى من فراغ, فقد تنبأت صحيفة "نيويورك تايمز" بأن تكون أطروحاته "الحدث" البارز الجديد في عالم الفكر والسياسة. في هذه الأطروحة، يسعى كيغان المتخرج من أروقة وزارة الخارجية الأميركية إلى تحطيم أسطورة الغرب الموحد، وإلى دراسة مواقف الولايات المتحدة وأوروبا الحالية من بعضهما البعض. ويضمن كيغان في هذه الصفحات رأيين ¬

(¬1) الدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص299 (¬2) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 205 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001

أساسيين يعتبر أولهما أن اختلاف أميركا وأوروبا (القديمة) في مواقفهما من القضايا الجيوبوليتيكية لا ينبثق من صدام حضارات جوهري بينهما، إنما هو نتيجة التفاوت في قدراتهما العسكرية. فقد كانت أوروبا تتمتع بالقوة (في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) لكنها اليوم ضعيفة. وكانت أميركا في نشأتها ضعيفة لكنها اليوم فائقة القوة. لهذا فالطريقة التي تتصرف بها أوروبا اليوم, من تمسك بالمؤسسات الدولية، والتلويح بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، والإصرار على الإجماع الدولي ودور الدبلوماسية، هي بالضبط الطريقة التي انتهجتها الدول الضعيفة على الدوام ومن ضمنها الولايات المتحدة في أيام فتوتها. يقابل ذلك أن دبلوماسية المدافع، والتصرف كما لو كان المرء شرطياً للعالم، وعدم الركون إلى التقييدات التي يفرضها القانون الدولي، وكل التوجهات التي أظهرتها الولايات المتحدة مؤخراً، كانت وما تزال سبيل الدول القوية، وينطبق ذلك على دول أوروبا أيام مجدها تماماً كما ينطبق الآن على أميركا. فأوروبا الراهنة، التي تملك القدرة على أن تكون قوية لكنها لا ترغب بذلك، ليس لها أن تتذمر عندما يمارس الآخرون الدور الطبيعي الذي تهبهم إياه القوة. ويتابع كيغان فيقول: فتجربة أوروبا الفريدة في التعاون في فترة ما بعد الحرب، قد أكسبت أوروبا سذاجة أيديولوجية وحملتها إلى حالة من الرضى المطلق عن الذات. فالأوروبيون الذين يعيشون في جنة (ما بعد التاريخ) تحت الحماية الأميركية، لم يعودوا على استعداد للاعتراف بأن القوة الغاشمة ما تزال نافذة في العالم الذي يمتد خارج حدودهم. وقد استراحوا للعيش الهانىء، منصرفين إلى تجميع الثروات، ومهملين قدراتهم العسكرية، ومقتنعين بأن بوسع بقية العالم أن يحصل، عن طريق الإجماع وحكم القانون، على ما تسنى لهم الحصول عليه من خلال تلك الطريق. فأوروبا تحصد، وهي مستريحة، المكاسب الاقتصادية التي تتحقق من خلال تصدي أميركا للقيام بالأعمال (القذرة) وتخليص العالم من (الأشرار) الذين يهددونه. لذلك فان على أوروبا أن تصبح واقعية، وأن تتدرع بالقوة العسكرية، حيث يتوجب عليها إما أن تتكيف مع الظرف الجديد أو أن تغلق فمها.

لكنها، وفي جميع الأحوال، يجب أن لا تتوهم بأن قوانين قريتها الناعمة يمكن أن تنطبق على بقية العالم (¬1). وبغض النظر عن الاسباب الحقيقية لبداية الانفصال الاوروبي عن أمريكا، سواء كان ذلك بسبب سياساتها ام كان نتيجة تفاوت في القدرات كما حاول كيغان تفسيره، فإن النتيجه هي ان هذا الانفصال موجود وبدأ يظهر على السطح بقوة. فحلفاء أمريكيا (أوروبا واليابان) مترددون ومحرجون أكثر فأكثر. ففرنسا تنتهج موقفاً استقلالياً، أما ألمانيا المستاءة فجاء موقفها مفاجئاً، أما بريطانيا فهي على عادتها وفية للخط الأميركي. بينما يعبر الصمت الياباني عن انزعاج أكثر مما يعبر عن انخراط في سياسة أميركا (¬2). ولهذا فإن وضع سياسة مشتركة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً هي الوحيدة الكفيلة بأن تسمح لأوروبا بالوجود, وبالتالي الدفاع عن مصالحها وقيمها (¬3). كما أن وعي أوروبا واليابان بقوة إمكانياتهما وعودة روسيا إلى التوازن العالمي سيقود في المدى المتوسط إلى انهيار الزعامة الأميركية (¬4). وربما كان هذا هو الذي دفع المفوضية الاوربية للشؤون الاجتماعية آنا ديامانتوبولو للقول: ان اوروبا هى الامل الوحيد للوصول إلى نظام عالمى يتسم بالانسانية ولمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية "المتمسكة بنهج اصولية بروتستانتية وبمبدأ وحيد يتمثل بالحرص على مصالحها من دون سواها" (¬5). ففرنسا وكل أوروبا لهما ما يمكنهما من تولي مثل هذه المهمات شريطة أن تعتبر ذلك (استراتيجية مستقبل) بدل تقهقر نحو أوطان إمبراطوريات القرن الـ 19. فهناك تناقضات مهمة جداً. بين قيم وأهداف ووسائل الإمبراطورية العالمية وقيم وأهداف ووسائل الجمهوريات الأوروبية. أن المواطنين الأوروبيين يصبون لمبتغى يختلف عن مبتغى الإمبراطورية الليبرالية-الجديدة الأمريكية. فالنظرة الأوروبية لـ (الأخر) بنيت على أساس معارضة سياسية، وبالتي فهي تختلف أساساً عن النظرة ¬

(¬1) الفردوس والقوة .. أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديد- روبرت كيغان- عرض/ كامبردج بوك ريفيوز (¬2) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز (¬3) الكل أميركيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 - جون ماري كولمباني- كامبردج بوك ريفيوز (¬4) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز (¬5) جريدة الخليج عدد 8674 - 17/ 2/2003

الأمريكية لـ (الأخر) المبنية على أساس "الإقصاء". ومع بوش تم إعادة بناء صورة العالم الخارجي بطريقة لا تكون فيها هذه الصورة إلا في شكل حرب عالمية تضع العالم تحت تهديد الموت، إمبراطورية الفوضى تعني مذبحة الضعفاء، العنصرية ثقافة الإمبراطورية، غياب مشروع سياسي-اقتصادي للولايات المتحدة يأتي من إستراتيجيتها الإمبراطورية، الشوق إلى الحرب الباردة، نهاية الأمم المتحدة، لا حق للأضعف (¬1). وقد أبدع الأمريكيون تعبيرات وأوصافا يسلطونها على الأوروبيين، توضح التباين بين القيم والاهداف الأمريكية والاوربية حيث كتب المؤرخ البريطاني (تيموتي غارتون آش) يَصِف فيه هذه الكلمات والتعبيرات التي نحتها الأمريكيون للسخرية من الأوروبيين بقوله: "إذا كان المعادون لأمريكا، في أوروبا، يرون الأمريكيين كرعاة البقر أو كوحوش غليظة، فإن المعادين لأوروبا في أمريكا يرون الأوروبيين مثل مخنثات أو خالات. الأمريكي ذكَرٌ فحلٌ ومشْتَهٍ للغير، والأوروبي أنثى عاجزة جنسياً". صحيح أن هذه التعبيرات تظل حماقات لا معنى كبير لها، لولا أن لها نتائج جدية على العالم الواقعي، كما بيّن ذلك موقف ولغة دونالد رامسفيلد" (¬2). وكثير من اتباع اليمين المحافظ المتطرف. ولئن كانت الحرب الكونية الثانيّة عونا لأمريكا في ضمّ أوروبا إليها, فإنّ الظروف الآن تغيرت بشكل قد يؤدّي إلى حدوث طلاق كامل بين أوروبا وأمريكا حيث بدأت أوروبا ترفع صوتها عاليا منددة بمحاولات السيطرة الأمريكية في المجالات السياسية والإقتصادية والثقافية, و مشروع أوروبا الموحدة يحمل في طياته إرادة الإنفصال عن أمريكا التي تفردت بصناعة كافة القرارات العالمية, وإذا إستطاعت أوروبا أن تؤطّر نفسها فسوف تفقد أمريكا الكثير من حيويتها في أوروبا, كما أن التنافس الإقتصادي بين اليابان وأمريكا مرشّح أن يتحوّل إلى صراع سياسي لأنّ القوة الإقتصادية اليابانية المتدفقة تملي عليها إستغلال العامل الإقتصادي للتأثير على السياسة العالمية, وللتذكير فقط فإنّ العلاقة بين أمريكا وأوروبا كانت في بداية المطاف إقتصادية ثمّ تحولّت إلى نفوذ سياسي وعسكري. ¬

(¬1) إمبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة -ألان جوكس- ط1 2002 - الناشر: لا ديكوفارت - باريس كامبردج بوك ريفيوز - الجزيرة نت (¬2) القومية الأمريكية الجديدة - تأليف: اناتول لييفين - عرض: بشير البكر-جريدة الخليج 23 - 6 - 2005

على أن مواجهة وحش الأمركة يحتم علينا ايضاً التبصر بإحتمال قيام قطب مواجه لأميركا وتبين ملامح هذا القطب المستقبلي. حيث يجد الدكتور محمد احمد النابلسي أن الصين هي المرشح الوحيد لهذا الدور .. ويتوقف أمام إحتمالات بروز الصين وعلاقته بالأزمات الأميركية المعلنة والمتسربة. حيث خطورة هذه الأزمات تبلغ حدود حديث النابلسي عن قدوم زمن الفوضى الأميركي. وملامحه أزمة إقتصادية عارمة (فضائح إفلاس الشركات) وميليشيات نازية (أوكلاهوما 1995) وشغب عنصري (سينسيناتي 2001) وأقليات مضطهدة وحريات مقلصة ومنتهكة (وزارة بوش للمخابرات) ومخالفات اجرامية بحق القانون الدولي (رفض توقيع اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية) ومؤسساته (مخالفة مجلس الأمن في قرار حرب العراق) كما بحق الإنسان (¬1). فالولايات المتحدة لم تتمكن لحدّ الآن التغلغل إلى العمق الصيني ومازالت الصين حذرة من النشاط السياسي والإقتصادي والعسكري الأمريكي في القارة الآسيوية. والعالم الإسلامي من جهته تجلى له بوضوح أنّ أمريكا تستهدف إمتصاص خيراته و صياغته من جديد. وما زال هذا العالم يتكبّد الآثار السلبية للتوجهات الأمريكية البراغماتية القائمة على إفراغ العالم الإسلامي من المقومات النهضوية الفكرية والمادية (¬2). واذا اضفنا إلى هذه الموقف مواقف روسيا وبعض دول أمريكيا اللاتينية وافريقيا واسيا، وحركات التحرر العالمية في العالم، فاننا على يقين بأن كل ذلك سيكون كفيلاً في محاصرة السياسة الأمريكية المتمرده على الجميع. وفي صحيفة الفايننشيال تايمز كتب (جيريمي جرانت) يقول: "إن تقريرا صدر مؤخرا في الولايات المتحدة انتهى إلى أن الظروف الحالية في هذا البلد تماثل إلى حد كبير ما كان عليه الحال في روما القديمة قبل انهيارها". وقالت الصحيفة إن التقرير الذي وضعه المراجع العام (دفيد وولكر) وجد أن التشابه يتضمن "تراجع القيم الأخلاقية والنشاط السياسي داخل الوطن، والثقة المفرطة في النفس، والمبالغة في إرسال القوات العسكرية إلى الخارج، وعدم شعور الحكومة المركزية بالمسؤولية في ¬

(¬1) في مواجهة الأمركة - محمد احمد النابلسي - دار الفكر - دمشق 2004 (¬2) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm

وغرق النسر العظيم

إنفاق الأموال". يقول وولكر: "علينا أن نتعلم من دروس التاريخ ونتخذ كل الخطوات اللازمة لصمود الجمهورية الأمريكية أمام هذه الظروف .. أردت أن أدق جرس الانذار عالياً، فالكثير من المشاكل التي تواجهنا حالياً لا نأخذها بالجدية اللازمة .. فهناك مصاعب مالية ناجمة عن ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية وزيادة الدين الداخلي وتزايد الاعتماد على المقرضين الأجانب، فضلاً عن تعثر السياسات الحالية في التعليم والطاقة والبيئة والهجرة والعراق وغيرها". ونسبت الصحيفة إلى وولكر القول: "إن أمريكا بحاجة إلى مليارات الدولارات لتحديث كل شيئ من طرق وكباري ومطارات ومياه وصرف صحي وغيرها، وما انهيار جسر في مينيابوليس مؤخرا إلا جرس إنذار" (¬1) وغرق النسر العظيم يقول (امانويل والرستون) في كتابه (الهبوط الاضراري للصقر): "ان التحديات التي واجهتها الولايات المتحدة منذ حرب فيتنام والتدخل العسكري في البلقان والشرق الأوسط وحتى أحداث 11 سبتمبر 2001، قد كشفت هشاشة الهيمنة الأميركية. فهل تتعلم الولايات المتحدة أن تتوارى بهدوء أم سوف يظل الجناح المحافظ يقاوم لكي يهبط تدريجياً حتى يتفادى السقوط السريع والمدمر في نفس الوقت؟ " (¬2) والجواب على سؤال والرستون يكمن في قصة (وغرق النسر العظيم ... !!) التي تقول: في أحد ايام الشتاء الباردة، كانت تسبح في نهر نياجرا قطعة هائلة من الثلج، عليها جثة حيوان، وإذا بنسر عظيم يرى الجثة فيحط عليها، وبدا يأكلها في هدوء ولذة عظيمين .. تحمله قطعة الثلج الضخمة، التى كان التيار يدفعها شيئاً فشيئاً نحو شلالات نياجر الشهيرة ... وماذا يهم النسر من الشلالات العظيمة؟! ألا يستطيع في اللحظة التى يريد ان يحلق فيها ان يفعل ذلك بكل هدوء وبأمان وسلام أيضاً؟. هذا لا شك فيه. لذلك مضى يأكل شغوفاً بلذته، منهمك في أكلته، هانئاً في متعته ومضى يقترب بسرعة ¬

(¬1) bbcarabic.com.- الثلاثاء 14 أغسطس 2007 (¬2) الهبوط الإضطراري للصقر/امانويل والرستون/ كتاب معروض في مجلة السياسة الخارجية عدد تموز-آب 2002 Foreign Policy.

من الشلالات المخيفة الهائلة، وإذا صار على حافتها، ضرب الجو بجناحيه كى ينجو .. ولكن للآسف صار كل هذا دون فائدة؟ ماذا حدث؟؟؟ لقد انغرست مخالبه العظيمة في قطعة الثلج وتجمدت دون ان يشعر أو يدرى أو حتى ينتبه إلى ذلك .. !!! فلم يستطع الافلات رغم انه اراد ذلك ... وانحدرت قطعة الثلج وسقط معها الطائر العظيم ومات غرقاً!!! نهاية مؤلمة، لم تكن منتظرة، لنسر عظيم! ويبدو ان مصير أمريكا المتجبره التى تتلذذ بنهب الثروات وقتل الابرياء غير عابئه باحد سيكون شبيهاً بهذا النسر العظيم. اى ان سقوطها سيكون مدوياً .. ولكن يجب العمل لكي لا يكون قاتلاً ومدمراً للجميع .. !!

الفصل الثاني مواجهة الصهيونية المسيحية

الفصل الثاني مواجهة الصهيونية المسيحية قبل ان نعرض لخطة لكيفية مواجهة الصهيونية المسيحية، سنعرض بداية لتجربة الحروب الصليبية القديمة وما وصلت اليه هذه التجربة، حيث ان هذه التجربة خضعت لدراسات مستفيضة من قبل الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية لاستخلاص العبر منها والعمل على عدم تكرار الفشل التى تعرضت له الحملات الصليبية في السابق. وأحسب أن قصة الحملات الصليبية والاستجابة الإسلامية لتحدياتها، يمكن أن توفر لنا بعض الدروس والعبر القيمة، ليس لأن التاريخ يكرر نفسه، بل لأن اليهود والمسلمين الذين يتحاربون اليوم تتملكهم العديد من نفس الهواجس والأهواء التي كنا نجدها لدى جنود الرب المحاربين في سبيل دينه حين زحف الصليبيون على القدس لتحرير قبر المسيح (¬1). الحروب الصليبية بين الماضي والحاضر (الصليبيون) ترجمة لكلمة (كروسيدرز Crusaders المشتقة من كلمة كروس cross) ، ومعناها صليب. وهي عبارة تُستخدَم في الخطاب السياسي والتاريخي في الغرب للإشارة إلى الصليبيون الذين شنوا عدة حملات على العالم العربي والإسلامي في القرن الثاني عشر، وقد تَبنَّى كثير من العرب المحدثين هذا المصطلح. وتُسمَّى (حروب الصليبيون) (¬2) في الخطاب الغربي (الحروب الصليبية) نسبة إلى الصليب. وهو مصطلح يُطلَق على الحروب التي شنها حكام أوربا المسيحية الإقطاعية لاحتلال فلسطين إبان العصور الوسطى. وهي حروب كانت تساندها حركة سياسية ¬

(¬1) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-ط1 2004 - دار الكتاب العربي- بيروت- الجزيرة نت -عرض/ إبراهيم غرايبة (¬2) يستخدم د. المسيرى موسوعتة عبارة «حروب الفرنجة» بدلاً من عبارة "الحروب الصليبية" للإشارة إلى الحملات الغربية التي جُرِّدت ضد الشرق الإسلامي لنهبه، ولم تكن المسيحية سوى ديباجة سطحية استخدمها الغزاة ولا علاقة لها برؤيتهم للكون.

واجتماعية ضخمة قادتها النخبة الحاكمة (الكنيسة والنبلاء) ووجدت صدى عميقاً لدى الجماهير الشعبية التي انضمت إليها بأعداد ضخمة لم تضعها النخبة الحاكمة نفسها في الحسبان. ويرى د. سعيد عاشور أن الصليبيون هم من جموع المسيحيين الغربيين الكاثوليك الذين خرجوا من بلادهم في شتى أنحاء الغرب الأوربي، واتخذوا الصليب شعاراً لهم لغزو ديار الإسلام، وبخاصة منطقة الشرق الأدنى وبلاد الشام حيث الأراضي المقدَّسة. ومعنى هذا أن المسيحيين الشرقيين من روم وأرمن وسريان وأقباط ونحوهم لا يدخلون في دائرة مصطلح (الصليبيين) لأن هؤلاء من أهل البلاد، وليسوا وافدين عليها من الخارج. ربطتهم بالأرض التي ينتمون إليها روابط أصيلة جذرية ترجع إلى ما قبل الإسلام. وعاش معظمهم قبل الحركة الصليبية تحت مظلة الإسلام يتمتعون بما كفلته لهم هذه الديانة من حقوق ويؤدون ما فرضته عليهم من واجبات. وحروب الصليبيون جزء من المواجهة التاريخية العامة بين الحضارة الغربية وحضارة الشرق الأدنى، والتي تعود بجذورها إلى بداية ظهور الحضارة الغربية نفسها حين وصلت شعوب البحر (الفلستيون) من كريت وبحر إيجة إلى ساحل مصر، ثم استقروا في ساحل أرض كنعان بعد أن صدهم المصريون. وحينما هيمن الفرس على الشرق الأدنى، أخذت المواجهة شكل اشتباك عسكري بينهم وبين الدول (المدن) اليونانية التي صدت الغزو الفارسي. ثم قام الإسكندر الأكبر بغزو الشرق وأسس الإمبراطورية اليونانية التي انقسمت إلى ثلاث امبراطوريات بعد موته. كما هيمن الرومان بعد ذلك على معظم الشرق الأدنى القديم. وقد انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين: الإمبراطورية الشرقية (البيزنطية)، والامبراطورية الغربية. ومع وصول الإسلام وقيامه بفتح المنطقة وتوحيدها، وتحويله البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة عربية إسلامية، انحسر نفوذ العالم الغربي وأصبح محصوراً داخل القارة الأوربية (¬1). ان العالم المسيحي بعد حوالى ألف سنة من انتشار المسيحية قد تعرض لنوع من اختبار العقيدة لدى المؤمنين بها، حيث وقعت الارض التي كانت مهداً للمسيحية ¬

(¬1) الموسوعة الصهيونية - المجلد الثاني د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 101

في قبضة المسلمين، وغذت روما بقداستها- والتي كانت ذات يوم حاضرة العالم- مدينة تنعي اطلالها. وعلى ما يقرب من مائتين وخمسين ميلاً كانت جزيرة صقلية تحت الحكم الإسلامي (¬1). بل إن الجيب البيزنطي المتبقي على أرض الشرق في آسيا الصغرى كان قد بدأ يقع تحت هجمات السلاجقة وهي الهجمات التي أدَّت في نهاية الأمر لسقوط الدولة البيزنطية، وكذلك القسطنطينية، على يد العثمانيين. وقد هُزم جيش بيزنطي بقيادة الإمبراطور رومانوس ديجينيس هزيمة ساحقة على يد السلاجقة بقيادة ألب أرسلان في مانزيكريت في أرمينيا. ثم استمر التوسع السلجوقي، فتم الاستيلاء على أنطاكية عام1085، الأمر الذي اضطر الإمبراطور أليكسيوس كومنينوس إلى أن يطلب العون من الغرب حيث لم يجد آذاناً صاغية وحسب بل شهية مفتوحة (¬2). وهكذا بدأت أوروبا تشهد في القرن الحادي عشر الميلادي حالة من النهضة، ومحاولات للتخلص من الشعور بالدونية تجاه المسلمين الأشد منهم بأساً والأرقى ثقافة، وبدؤوا يحاولون بناء ذات جديدة ويشعرون بثقة جديدة. وهكذا كانت الحملات الصليبية جزءا أساسياً من هذه العملية، وعبرت تماماً عن الروح الغربية الجديدة. إن اختلاق عدو إجراء بالغ الأهمية كوسيلة لتطوير هوية جديدة، وقد وفر المسلمون ذلك العدو الكامل، وإن كان من الواضح أن الفرنجة لم تكن لهم حتى ذلك الحين أية مآخذ على المسلمين، ولم يكونوا يعرفون شيئاً عن الديانة الإسلامية سوى أن المسلمين غير مسيحيين وأنهم مقاتلون أشداء، ومن شأن التغلب عليهم أن يعلي كثيراً من شأن الفرنجة (¬3). ويرى الاستاذ عبد الوهاب المسيرى وغيره من الباحثين ان هناك مركب من الاسباب المادية والمعنوية والدينية ادت إلى قيام الحروب الصليبية مثل انهيار الاقتصاد الغربي بعد سقوط الامبراطورية البيزنطية، وزيادة نفوذ المدن الايطالية، ¬

(¬1) تاريخ اوروبا في العصور الوسطى - تأليف: موريس بيشوب - ترجمة على السيد على - ص 47 - المجلس الاعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة- الطبعة الأولى 2005 (¬2) الموسوعة الصهيونية - المجلد الثاني د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 101 (¬3) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-عرض/ إبراهيم غرايبة

وزيادة عدد السكان (¬1)، وظهور نوع من الاستقرار السياسى في اوروبا الذى سهل من امكانيات تجريد حملات عسكرية، هذا بالاضافة إلى اسباب اخرى، ولكننا هنا سنركز على الاسباب الدينية لهذه الحملات والتي يمكن اجماله فيما يلى: 1. حدث بَعْث ديني حقيقي في بداية القرن العاشر الميلادي. ويمكن القول بأن حروب الصليبيون تعود إلى ما يُسمَّى (الإصلاح الكلوني) وهي حركة إحياء دينية بدأت عام 910 في مدينة كلوني بفرنسا، وأكدت تَفوُّق سلطة الكنيسة على السلطة الدنيوية. وقد تزامنت حروب الصليبيون مع المجامع اللاترانية الأربعة في أعوام 1123، 1139، 1179، 1215 على التوالي. وهي المجامع التي بلورت موقف الكنيسة من عدة قضايا، منها تحريم الربا وتحديد وضع اليهود وكثير من علاقات الكنيسة بالسلطة الدنيوية. ولعبت الكنيسة دوراً أكثر نشاطاً في الحياة الدنيوية، وأخذت تؤكد نفسها بشكل أكثر جرأة. وقد أُعيدت صياغة البنية الكهنوتية وهو ما سمح للبابوات بأن يلعبوا دوراً أكثر فعالية. ووجدت الكنيسة في حروب الصليبيون فرصة مواتية لزيادة نفوذها وتسريب طاقة الأمراء والملوك القتالية إلى الشرق، ولتحقيق السلام والاستقرار في الغرب المسيحي. ومما له دلالته أن مجلس كليرمون (عام 1095)، الذي اتخذ القرارات التي بدأت حملات الصليبيون على الشرق، جدد ما يُسمَّى (هدنة الرب) في الغرب! وقد وجدت الكنيسة الرومانية أن تجريد حملة تحت سلطتها، لمساعدة الدولة البيزنطية، قد يسرع بتحقيق حلم روما القديم بإخضاع الكنيسة البيزنطية. 2. شهدت الفترة التي سبقت حروب الصليبيون تزايد حركة الحج. وكانت أهم المزارات روما حيث يُوجد ضريح لكلٍّ من بطرس وبولس، وكذلك ضريح سنتياجو دي كومبوستلا في شمال غربي إسبانيا. ولكن أهم المزارات جميعاً كانت هي القدس حيث تضم كنيسة القيامة. ولم يكن الحج عملاً من أعمال التقوى وحسب، وإنما أصبح وسيلة للتكفير عن الذنوب. بل كان القساوسة يوصون في بعض الأحيان، بالحج لمن يرون أنه اقترف إثماً فاحشاً. وكان الحجاج يرجعون بقصص عن مدى ثراء ¬

(¬1) تاريخ اوروبا في العصور الوسطى - تأليف: موريس بيشوب - ترجمة على السيد على - ص 48 - المجلس الاعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة- الطبعة الأولى 2005

الشرق، كما أنهم كانوا يتحدثون أيضاً عن المتاعب التي تجشموها والأهوال التي لاقوها. ولا شك في أن حديثهم هذا كان له أساس من الصحة حيث إن المنطقة لم تكن تنعم بالهدوء أو الاستقرار، وخصوصاً أن السلاجقة كانوا قد بدأوا في شن هجومهم على الدولة البيزنطية. ولكن مما لا شك فيه أنه كان هناك عنصر مبالغة، فالعائدون كانوا يريدون إبراز بطولتهم، وكان الوجدان الشعبي يتلقف هذه القصص ويضخمها، وخصوصاً أن المستوى الثقافي لجماهير أوربا آنذاك كان متدنياً إلى أقصى حد (¬1). 3. يبدو أن حركة استرداد إسبانيا من المسلمين، وتَفاعُل المسيحيين مع المسلمين إبان حرب الاسترداد، قد تركا أثرهما في الرؤية المسيحية للحرب، إذ تأثر العالم المسيحي بفكرة الجهاد الإسلامي، فبدا أن الحرب للدفاع عن المجتمع المسيحي، ولاسترداد القدس، ليست حرباً عادلة وحسب وإنما حرب مقدَّسة أيضاً. ويبدو أن نشوء جماعات من الرهبان المحاربين مثل فرسان الهيكل وفرسان الإسعاف (الداوية والإسبتارية) هو صدى لفكرة المرابطين الإسلامية (¬2). 4. من الأفكار المسيحية الشعبية الراسخة، ما يُطلَق عليه العقائد أو الأحلام الألفية، وتتمثل هذه الأفكار في الإيمان بأن الدورة الكونية أو التاريخية تستغرق ألف عام في العادة، وأن عام ألف أي بداية القرن الحادي عشر الميلادي سيشهد نهاية العالم والتاريخ، كما سيشهد عودة المسيح. وقد سادت هاتان الفكرتان أوربا في العصور الوسطى، وهما من الأفكار التي ازدادت شيوعاً إبان تفاقم الأزمات الاجتماعية وازدياد البؤس بين الجماهير. ويقول العلماء إن تاريخ نهاية العالم لم يكن محدداً بهذه الدقة، وأن الأحلام الألفية استمرت خلال القرن الحادي عشر الميلادي كله وحتى بعد ذلك التاريخ. ومن الأساطير الألفية التي شاعت أن الإمبراطور الأخير سيكون هو ملك الصليبيون خليفة شارلمان، وأنه هو الذي سيقود المؤمنين إلى القدس لينتظر العودة الثانية للمسيح ليؤسس مملكة السلام والعدل ¬

(¬1) راجع تراث الإسلام - تصنيف شاخت وبوزورت- ترجمة د. محمد زهير السمهوري، د. حسين مؤنس، د. احسان العمد- ج1 ط2 1988 - سلسلة عالم المعرفة 8 - ص 27 وما بعدها (¬2) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 102

الحملة الصليبية الأولى

ويحكم العالم من صهيون، أي القدس، وما القدس الدنيوية سوى رمز للقدس الأخروية! 5. واجهت الكنيسة، ابتداءً من القرن الحادي عشر الميلادي، ظهور هرطقات في جنوب فرنسا، فظهرت جماعات ثنوية تؤمن بوجود إلهين: إله الخير وإله الشر. وكان بعضهم يذهب، شأنه شأن الغنوصيين، إلى أن هذا العالم من خلق الإله الصانع (الشرير)، كما كانوا ينزعون منزعاً واحدياً روحياً ينكر أية حقيقة للمادة. وقد جردت الكنيسة أول حملة صليبية ضدهم عام 1208، وتبع ذلك تأسيس محاكم التفتيش الرومانية (مقابل محاكم التفتيش الإسبانية) عام 1233. ولا شك في أن أحساس الكنيسة بأنها مهددة ساهم في تصعيد حمى الحرب. (¬1) الحملة الصليبية الأولى بدأت هذه الحملة حين دعي البابا إربان الثاني (1088 ـ 1118)، وكان فرنسياً، لمجلس في كليرمون في 18 نوفمبر 1059، حضره أساقفة من جنوب فرنسا، كما حضره آخرون من شمالها ومن أماكن أخرى. وألقى البابا خطاباً أشار فيه إلى بؤس الكنيسة البيزنطية، وتهديد الحجاج المسيحيين، وتدنيس الأماكن المقدَّسة. وحث هؤلاء الذين يعكرون السلام في الغرب على أن يوجهوا قواهم القتالية لخدمة غرض مقدَّس. كما أشار إلى إمكانات الحصول على الثروة من أرض تفيض باللبن والعسل، فصاح الجميع باللاتينية (ديوس وولت) deus volt، أي) الله يريد ذلك). ثم تتالت الأحداث وجاء المتطوِّعون من كل أنحاء أوربا، ولكنهم جاءوا أساساً من الأراضي الفرنسية وشبه الفرنسية مثل اللورين وجنوب إيطاليا وصقلية. وقد جُرِّدت الحملة الأولي (1096 ـ 1099) التي دعا إليها إربان الثاني في مؤتمر كليرمون (¬2)، وهي الحملة الوحيدة التي حققت بعض النجاح لأنها أخذت المسلمين على حين غرة. وقد بدأت الحملة بما يُسمَّى (حملة الفلاحين الشعبية) التي قادها بطرس الراهب والفارس ولتر المفلس، وقد ضمت في صفوفها حشداً كبيراً من الفلاحين وصغار ¬

(¬1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 103 (¬2) ما الحروب الصليبية - جوناثان ريلي سميث- ترجمة د. محمد الشاعر-ص28 - دار الامين للنشر والتوزيع- ط1 1999

الحملة الصليبية الثانية

الفرسان بلغ ما بين 15 و 20 ألفاً اتجهوا إلى القسطنطينية ومنها إلى الأراضي المقدَّسة. ولكن جيشاً تركياً تصدى لهم في آسيا الصغرى وسحقهم عام 1096 وقتل أعداداً كبيرة منهم وأسر أعداداً أخرى بيعت رقيقاً. وقد جُرِّدت بعد ذلك حملة الأمراء التي استفادت من حملة الفلاحين حيث تَوهَّم الأتراك، بناءً على تجربتهم مع جيش الفلاحين، أن قدرات أوربا القتالية متدنية. وقد نجحت الحملة الأولى في تأسيس أربع ممالك للفرنجة على النمط الإقطاعي الغربي (¬1). الحملة الصليبية الثانية حشد برنار رئيس دير الرهبان في كليرفو منطلقاً من فرنسا لحملة صليبية ثانية عام 1146 بعد 50 سنة من الحملة الأولى، بهدف إعادة الرها إلى الحظيرة الصليبية بعدما استولى عليها عماد الدين زنكي. والواقع أن الحشود الصليبية القادمة من الشرق لم تتوقف منذ بدأت عام 1099، ولكن هذه الحملة المشار إليها بالثانية لدى المؤرخين ينظر إليها باعتبارها واحدة من الحملات الثماني الكبرى التي كان ينفر لحشدها البابوات والأساقفة والقادة والنبلاء. ولكن حدثت تفاعلات سياسية وخصومات ومنافسات جعلت الإعلان عن حرب صليبية جديدة مخرجاً من الأزمة ووسيلة للتخلص من المنافسين، كما في التنافس بين برنار راعي الحملة الصليبية وبين منافسه الفيلسوف ورجل الدين بيير إبيلار. ووجد ملك فرنسا الشاب لويس في الحملة مخرجا لأزمته الشخصية والنفسية بعد المذبحة الهائلة التي نفذها بحق أبناء مدينة فييتري التابعة لمملكتها (¬2). وتحركت الحملة من ألمانيا وهي تواصل أعمال النهب والسلب وذبح اليهود والمسلمين في كل النواحي التي تمر بها، وفي جبال طوروس أجهز الأتراك السلاجقة على تسعة أعشار الحملة. وأما الجانب الفرنسي من الحملة بقيادة لويس فهي وإن كانت أكثر انضباطاً فإنها اضطهدت جميع السكان الذين مرت بهم بمن فيهم المسيحيون الأوروبيون. ¬

(¬1) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-عرض/ إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت (¬2) تاريخ الحروب الصليبية 1095 - 1291 - د. محمود سعيد عمران- ص 73 - دار النهضة العربية للطباعة والنشر /بيروت- ط2 1999

انتهاء وفشل الحروب الصليية

وصدم الصليبيون القادمون حين وجدوا أسلافهم الصليبيين قد استقروا في الشرق وتزوجوا من مسلمات وبدؤوا يندمجون في حياة الشرق ومجتمعاته، ولكنهم استنفروا مرة أخرى على يد الصليبيين الأكثر حماسة وتديناً، ولكن جيوش المسلمين كانت هذه المرة أكثر حماسة وتنظيماً بقيادة نور الدين زنكي .. وفشلت الحملة فشلاً قاسياً. وخلف صلاح الدين الأيوبي نور الدين زنكي مدشناً حرباً شاملة على الصليبيين، وأصبح الوجود الصليبي في الشرق ضعيفاً وهامشياً، فقد أوقع صلاح الدين جيوش الصليبيين في فخ بالغ الإحكام والذكاء وأباده تقريباً عن بكرة أبيه، وسقطت القدس تلقائياً بعد معركة حطين عام 1186 بيد صلاح الدين الأيوبي، وجرت بعد ذلك عمليات واسعة لإطلاق سراح بقايا الصليبيين من الأسرى وجمع شملهم بعائلاتهم، ونقلهم إلى بلادهم أو بقايا مدنهم على البحر المتوسط مثل عكا وصور. حيث إنه لم يقتل مسيحي واحد من المدنيين بعد معركة حطين، ومازال صلاح الدين موضع تقدير العالم المسيحي، ونسجت حوله الأساطير الضخمة إلى حد اعتباره أحد القديسين المسيحيين (¬1). انتهاء وفشل الحروب الصليية تم تجريد الحملة الثالثة (1189ـ1192) وكان على رأسها فريدريك الأول (بارباروسا) إمبراطور ألمانيا، وفيليب الثاني ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا. وكان الحماس لها كبيراً في إنجلترا، ولكن هذه الحملة فشلت كغيرها من الحملات، حتى جاء عام 1250 الذي شهد اخر الحملات الصليبية بعد ان حلت الهزيمة بجيش لويس التاسع قرب المنصورة ووقع لويس التاسع نفسه اسيراً في أيدي المسلمين ولم يطلق سراحه الا بعد ان دفع فدية ضخمة (¬2). وإذا نظر دارس التاريخ إلى الحروب الصليبية من حيث أهدافها يلاحظ أنها فشلت فشلاً ذريعاً بعد أن دامت هذه الحروب حوالي قرنين من الزمان، فقد تمكنت القيادة الإسلامية من استرداد الأراضي - التي ملكها الصليبيون - شبراً شبراً، وتمكن المماليك في النهاية من ¬

(¬1) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-عرض/ إبراهيم غرايبة (¬2) تاريخ اوروبا في العصور الوسطى - د. سعيد عبد الفتاح عاشور- ص 230 - دار النهضة العربية - بيروت

نتائج الحروب الصليبية

تطهير بلاد الشام من الصليبيين. يضاف إلى ذلك أن الحكومات الإسلامية التي امتازت من قبل الحروب الصليبية بالتسامح مع أصحاب الأديان الأخرى أخذت تتحفظ في تسامحها مع الأوروبييين بسبب هجماتهم المتكررة على الديار الإسلامية، لذلك نلاحظ قلة عدد الحجاج الأوروبيين عقب الحروب الصليبية (¬1). نتائج الحروب الصليبية إذا نظرنا إلى نتائج الحروب الصليبية على أوروبا، نجد أن الإقطاع الذي كان عصب النظام الإجتماعي والعسكري في أوروبا، قد أصيب بضربة قاسمة لم يفق منها إلا بصعوبة بعد أن خسر كل مكاسبه، مما جعل الفرصة مواتية للملوك لزيادة سلطتهم وتقوية المركزية في دولهم، اي انها زادت قوة السلطة الدنيوية، وخصوصاًَ قوة الملوك (¬2). ومن النتائج السياسية أيضا تأخر سقوط القسطنطينية في يد الأتراك العثمانيين، لان الحروب الصليبية قد أنهكت القوى الإسلامية، مما جعلها أقل مقاومة لتيار المغول القادم من الشرق، ومع مقاومة وحروب الصليبييين من جانب، وقوى المغول من جانب، نجد أن القوى الإسلامية قد انشغلت لوقت طويل بهذا الصراع، ولم تتفرغ إلا بعد وقت طويل لمهاجمة العاصمة البيزنطية وهي القسطنطينية وإسقاطها عام 1453 م. أما عن النتائج الحضارية للحروب الصليبية فهي كثيرة يخطئها الحصر، فقد دخلت كلمات عربية كثيرة إلى اللغة الأوروبية، وانتشرت القصص الشرقية في أوروبا وظهرت في صورة جديدة في اللغات الأوروبية الناشئة التي بدأت تحل محل اللغة اللاتينية. كما تأثر الصليبيون بروعة الزجاج المصنوع في بلاد الشام ونقلوا هذا التأثير وأسرار هذه المهنة فأدى ذلك إلى ظهور الزجاج الملون الذي نشاهده في الكنائس القوطية. وشاهد الصليبيون البوصلة والبارود وأوراق الطباعة في بلاد الإسلام، ونقلوا كل هذه الأدوات والمعرفة إلى بلادهم. كما تأثر الغرب بالشعر والعلوم والفلسفة العربية التي وصلت إليهم عن طريق أسبانيا وصقلية بالإضافة إلى ¬

(¬1) راجع الحروب الصليبية الثالثة (صلاح الدين وريتشارد- ج2 ترجمة وتعليق حسن حبشي - الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000 (¬2) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 105

الحروب الصليبية. وقد شجع هذا كله بعض العقول على التفكير وأدى هذا إلى ضعف العقيدة الكاثوليكية التي فرضتها البابوية بمعرفتها وبأساليبها المتمثلة في صكوك الغفران (¬1). ومن النتائج المهمة الأخرى أن حملات الصليبيون فتحت ابواب الاسواق التجارية في الشرق ومهدت لقيام العلاقات التجارية بين الشرق والغرب، وسعت المدن الايطالية وخاصة البندقية إلى احتكار تلك التجارة وعادت عليها بالارباح والثروات (¬2). كما عملت الحروب الصليبية على بث النشاط في الحياة المدنية باستخدام أساليب المسلمين التجارية والصناعية، فقد عرف الصليبيون كيف يرسمون الخرائط للبحر المتوسط، وتعرف الصليبيون كذلك على آراء جديدة عن بلاد الشرق واختلاف أصقاعها، ومن هنا جاءت الرغبة في كشف المزيد من أراضي العالم وظهرت الكتب التي تصنف البلاد وترشد المسيحييين القادمين لزيارة الأراضي المقدسة. ولا شك أن الحركة الصليبية قد أعلت من شأن البابوية في روما إلى حد كبير خاصة بعد نجاح الحملة الصليبية الأولى، فقد كان منظر الامم الأوروبية المختلفة والنبلاء والفرسان والأباطرة والملوك وهم متحدين في صفوف حملة صليبية دعا إليها البابا للدفاع عن قضية دينية، أمرا يدعو للتساؤل عن مدى عظمة الكنيسة الكاثوليكية في روما. ومع علو شأن البابوية كان مندوبو البابا يجوبون البلاد يحثون الأفراد عى التطوع للحروب الصليبية ويجمعون الأموال لها. وقد ارتاح الناس جميعاً لمثل هذا العمل الذي يخدم القضية الصليبية، ولكن عندما استخدمت هذه الأموال في أغراض أخرى غير الحملات الصليبية، وأصبح من حق البابا أن يفرض الضرائب، فقد أثار هذا التحول غضب الملوك ومقاومتهم لمثل هذا العمل. فقد كانت صكوك الغفران تمنح لمن يقوم بالخدمة العسكرية من الأوربيين في فلسطين، وكان ذلك يعتبر عملاً مشروعاً تقبله الناس، وكان منح هذه الصكوك أيضاً لمن يتكفلون بنفقات محارب صليبي من الأعمال المقبولة والمشروعة، ولكن التوسع في منح صكوك الغفران إلى الذين يؤدون الأموال أو الذين يحاربون مع الباباوات ضد الأباطرة ¬

(¬1) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-عرض/ إبراهيم غرايبة (¬2) التاريخ الاوروبي الحديث من عصر النهضة إلى مؤثمر فينا - د. عبد الحميد البطريق و د. عبد العزيز نوار - ص 46 - دار النهضة العربية للطباعة والنشر

أو الملوك، اصبح من مصادر غضب الملوك وأتباعهم. وتعرض مثل هذا العمل للنقد والسخرية ومن جملة ما انتقدوا الكنيسة الشعراء الجوالون في جنوبي فرنسا وشمالي إيطاليا. كما ادت الحروب الصليبية إلى ثراء الأديرة، بسبب أن بعض ملاك الأراضي في أوروبا قد باعوا أراضيهم للأديرة أو رهنوها ليحصلوا بذلك على المال اللازم لسداد نفقات الحروب الصليبية، وأصبح للاديرة بفضل ذلك ضياع واسعه وسيؤدي هذا في النهاية إلى حسد الملوك (¬1). ومن الحقائق الأخرى التي ينبغي الإشارة إليها ما نسميه تصاعُد الحمَّى المشيحانية، أي الرغبة في العودة إلى صهيون (أي فلسطين) والاستيلاء عليها وتحويلها إلى وطن قومي يهودي. إذ من المعروف أن الشريعة اليهودية تحرِّم على اليهود العودة إلى فلسطين وعلى اليهودي أن ينتظر بصبر وأناة إلى أن يشاء الإله ويرسل الماشيَّح، فيحق له حينئذ أن يعود. ويرى كثير من المؤرخين أن حمَّى العودة ورَفْض الانتظار بدأت بين اليهود بحملات الصليبيون ووصلت إلى قمتها مع الحركة الصهيونية التي حققت النجاح لأنها جندت النزعة الدينية والاستعمارية لدى البروتستانت في المجتمع الغربي وتحالفت معها ووضعت نفسها تحت تصرفها. وما يهمنا هنا من الحركات المشيحانية حركة الماشيَّح الدجال (داود الرائي) المولود عام 1135 إذ يبدو أن هجمات الصليبيون على فلسطين، والفوضى التي أعقبتها، طرحت إمكانية العودة وتحرير القدس في مخيلة بعض أعضاء الجماعات اليهودية. وقد تركزت دعوة داود الرائي هذا في آمد (في جبال كردستان) على الطريق الإستراتيجي الموصل بين مملكة الخزر اليهودية التركية وممالك الصليبيون. ولعل شيئاً من ذكرى إمبراطورية الخزر وأمجادهم كان لا يزال عالقاً بذهن داود الرائي وأتباعه. وقد تصاعدت الحمَّى المشيحانية مرة أخرى في القرن السادس عشر الميلادي إذ يبدو أن البابا كليمنت السابع (1524) عاودته الأحلام الاستيطانية الاسترجاعية، وكان يتصوَّر أن بإمكانه دَعْم طريق الكنيسة مرة أخرى واستعادة شيء من نفوذها عن طريق تجريد حملة صليبية. وقد أدرك هذه الحقيقة ماشيَّح دجال آخر يُسمَّى ¬

(¬1) تاريخ الحروب الصليبية 1095 - 1291 - د. محمود سعيد عمران- ص 347 - دار النهضة العربية للطباعة والنشر /بيروت- ط2 1999

حملات الصليبيون والجماعات اليهودية في غرب أوربا وفلسطين

ديفيد رءوبيني، فادَّعى أنه ابن ملك يُدعى سليمان وأخ لملك يُدعى يوسف يحكم بعض الجماعات والقبائل اليهودية في خيبر بالقرب من المدينة المنورة. وقد أخبر رءوبيني البابا أن أخاه يتبعه ثلاثمائة ألف جندي مدربين على الحرب وأنهم لسوء الحظ ينقصهم السلاح، وطلب إلى البابا تزويدهم بما ينقصهم حتى يمكنهم طَرْد المسلمين من فلسطين. وقد استقبله البابا استقبالاً حسناً في بادئ الأمر، بل نجح في مقابلة ملك البرتغال وفي التأثير عليه. وفي تصوُّرنا أن هذه هي أول مرة يتحول فيها المشروع الصليبي للفرنجة إلى مشروع صهيوني وتقبل فيها المؤسسات الغربية استخدام المادة البشرية اليهودية المقاتلة بدلاً من المادة المسيحية. وقد تركت حروب الصليبيون تأثيراً عميقاً في إدراك الوجدان الغربي لفلسطين أو العرب، فأصبحت فلسطين الأرض المقدَّسة التي لابد أن تُسترجَع ليُوطَّن فيها عنصر مسيحي غربي، وأصبح العرب (أهل فلسطين) هم الغرباء الذين يجب استبعادهم. وقد أصبحت هذه الصيغة هي الصيغة التي تمت علمنتها فيما بعد لتصبح الصهيونية (¬1). حملات الصليبيون والجماعات اليهودية في غرب أوربا وفلسطين من المعروف تاريخياً ان الصليبيين، عندما احتلوا بيت المقدس، جمعوا يهود المدينة في الكنيس، ثم احروقوهم فيه احياء (¬2)، حيث كانت الحروب الصليبية قائمة أساساً على معاداة السامية، وبدأت بمهاجمة اليهود والسعي للقضاء عليهم، وكانوا يخيرون بين التنصر والموت. وقبل أن تتحرك الجيوش الصليبية إلى الشرق كانت مشغولة بتطهير أوروبا من اليهود قتلة المسيح، وجعل الصليبيون من اللاسامية مرضاً غربياً لا شفاء منه استمر متلبثاً في الغرب طوال العصور الوسطى. وفي تلك الأثناء تدفقت الهجرة اليهودية إلى الشرق هرباً من مذابح الصليبيين، وجاء موسى بن ميمون إلى مصر مع والده وكان طفلاً في الخامسة من عمره، فتعلم الطب هناك وبرع فيه، وصار طبيب صلاح الدين الأيوبي، كما كان أيضا أحد أهم المراجع الدينية ¬

(¬1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 106 (¬2) فلسطين الفكر والكلمة- د. محمود السمرة- ص10، الدينيةار المتحدة للنشر، بيروت، 1974 م.

التشابه بين حملات الصليبيون والمشروع الصهيوني

حتى اليوم لدى اليهود، فقد أنشأ حلماً يهودياً -ولعله كان في ذلك متأثرا بالصراع على القدس- بقيام دولة لليهود على أرض إسرائيل تحكمها التوراة. وربما هذا هو ما جعل الحرب المقدسة اليهودية تنحو منحى الحرب المقدسة المسيحية، حتى إن الصهاينة المتدينين يبدون كما لو أنهم يستعيدون ويقتبسون النموذج الصليبي، ويبدو أن الحرب الصليبية ساعدت في تشكيل الصهيونية الدينية تماماً كما أنشأت اللاسامية المعادية لليهود. وهكذا فقد ارتبطت الفكرة الصليبية ارتباطاً واضحاً ومباشراً بالنزاع الحالي في الشرق الأوسط، ففي بداية رحلتهم إلى ذات جديدة لهم ذبح الصليبيون اليهود، وفي نهاية حملتهم المرعبة ذبحوا المسلمين في القدس بوحشية تقشعر لها الأبدان، وكان الحقد على اليهود والمسلمين قد انغرس عميقاً في الهوية الغربية، ولولا اللاسامية الغربية لما قامت دولة يهودية في الشرق الأوسط. وقد شهد القرن الثامن عشر حقبة قومية ملتهبة، وظهر اليهودي عدواً للشخصية القومية، وفي ألمانيا تشكلت قومية قائمة على الشعب وليس الحضارة والمدينة، وهذه الرؤية جعلت اليهودية عدواً أساسيا للروح الألمانية، فعندما نهض هتلر مرة أخرى كان يقتل أيضاً حتى الذين اعتنقوا المسيحية من اليهود قبل مئات السنين هرباً من المذابح التي ارتكبها قادة الحروب الصليبية. وفي خضم هذه البيئة القومية المحمومة راح اليهود يلتمسون لأنفسهم حلاً قومياً، وكانت الفلسفة الأساسية للحل القومي هي إعادة الاتصال المادي بأرض آبائهم، ونشأت الحركة الصهيونية (¬1). التشابه بين حملات الصليبيون والمشروع الصهيوني رغم أن حروب الصليبيون ظاهرة مرتبطة بالتشكيل الحضاري الغربي في العصر الوسيط، فقد ساهمت هذه الحروب وبعمق في صياغة الإدراك الغربي لفلسطين والعرب. ولا يملك الدارس إلا أن يُلاحظ عمق التشابه بين المشروع الصليبي والمشروع الصهيوني الإسرائيلي، وهذا أمر متوقع لأن كليهما جزء من المواجهة المستمرة بين التشكيلين الحضاريين السائدين في الغرب والشرق العربي، ¬

(¬1) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-عرض/ إبراهيم غرايبة

كما أن حملات الصليبيون هي نقطة انطلاق أوروبا نحو التوسع والإصرار على بسط سيطرتها على الخارج، حيث احتوت حملات الصليبيون بذور كل أشكال الإمبريالية الأوربية التي حكمت فيما بعد حياة جميع شعوب العالم (على حد قول أحد مؤرخي حملات الصليبيون الغربيين). ولهذا، أصبحت حملات الصليبيون صورة مجازية أساسية في الخطاب الاستعماري الغربي، وأصبحت ديباجاتها هي نفسها ديباجة المشروع الاستعماري الغربي. وقد رأى كثير من المدافعين عن المشروع الصهيوني، من اليهود وغير اليهود، أنه استمرار وإحياء للمشروع الصليبي ومحاولة وَضْعه موضع التنفيذ من جديد في العصر الحديث. فقد ألَّف سي. آر. كوندر عام 1897، وهو صهيوني غير يهودي ومؤسس صندوق استكشاف فلسطين، كتاباً عن تاريخ المملكة اللاتينية في القدس أشار فيه إلى أن الإمبريالية الغربية قد نجحت فيما أخفقت فيه الحملات الصليبية أي حملات الصليبيون. والواقع أن تصوُّره هذا يشبه في كثير من الوجوه تصوُّر الصحافة البريطانية وكذلك تصوُّر بعض أعضاء النخبة الحاكمة في بريطانيا بأن هجوم أللنبي على القدس يساوي حملة صليبية أخرى. وقد صرح لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، والذي أصدرت وزارته وعد بلفور، أن أللنبي شن وربح آخر الحملات الصليبية وأعظمها انتصاراً. ويمكننا أن نقول إن المشروع الصهيوني هو نفسه المشروع الصليبي، بعد أن تم إحلال المادة البشرية اليهودية محل المادة البشرية المسيحية. وقد لاحَظ روبرت برنارد سولومون، وهو ضابط إنجليزي رأس الاتحاد الصهيوني البريطاني، أوجه التشابه بين المشروعين الصليبي والصهيوني في دراسة له نشرها في جويش ريفيو عام 1912 تحت عنوان (مستعمرات القرن الثاني عشر في فلسطين) حيث أكد أن المشكلات التي واجهها المستوطنون الصليبيون ونجحوا في التغلب عليها تشبه من نواح كثيرة تلك المشكلات التي تواجه المستوطنين الصهاينة في فلسطين، ثم أخذ في تعداد هذه النواحي. كما أشار إلى العوامل التي أدَّت إلى انهيار ممالك الصليبيون بعبارة (المؤثرات الشرقية التي أدَّت إلى الانحلال) ليحذر المستوطنين الجدد منها. وسنحاول حَصْر جوانب الشبه بين التجربتين الصليبية والصهيونية، وتصنيفها تحت رؤوس موضوعات قد تكون متداخلة ولكنها مع هذا تيسر لنا عملية تقسيم هذه الأوجه والتعامل معها. فووجوه

الشبه بين هاتين الدولتين صارخة اذ ان كلاً منهما حركة بنيت على الدين، مسلحة عدوانية استيطانية غربية المصدر فلسطينية المستقر، عنصرية غير انصهارية، اعتمدت على الدعم الغربي مالياً وعسكرياً ودعائياً واجتماعياً، ثم ان كلاً منهما نشأت في فترة انقسام وشردذمة الشرق (¬1). ولعل نقطة التشابه الأساسية ذات طابع جغرافي ففلسطين هي النقطة المستهدفة في كل من المشروعين الصليبي والصهيوني. ويبدو أن فلسطين مستهدفة دائماً من صناع الإمبراطوريات إذ أنها تُعَدُّ مفتاحاً أساسياً لآسيا وأفريقيا، وتُعدُّ معبراً على البحرين الأحمر والأبيض، وتقف على مشارف الطرق البرية التي تؤدي إلى العراق وإيران، وهي أيضاً معبر أساسي لشطري العالم الإسلامي. وفلسطين في واقع الأمر ليست سوى جزء من ساحل طويل يضم سوريا ومصر، يشكل فاصلاً بين البحر المتوسط في الغرب والمحيط الهندي في الشرق. ويُعد هذا الموقع، بالتالي، فاصلاً بين مراكز النشاط في أوربا الغربية والشرق الأقصى. كل هذا يبين تشابك المصير بين سوريا ومصر من جهة وفلسطين من جهة أخرى، وخصوصاً أن كثافة مصر السكانية جعلتها دائماً المرشحة لقيادة المنطقة بأسرها في صراعها ضد الغزوات الغربية. ويلاحظ أن كلاًّ من المشروعين الصليبي والصهيوني اكتشف أنه لحسم الصراع لصالحه، فلابد من ضرب مصر أو على الأقل تحييدها (¬2). والواقع أن الغزاة الاستيطانيين عادةً ما يسلكون طريق البحر، ثم تستقر الجيوب الاستيطانية على الساحل أو تحتفظ بركيزتها الأساسية فيه كما حدث في جنوب أفريقيا والجزائر. وكذلك، فإن الغزوتين الصليبية والصهيونية سلكتا الطريق البحري نفسه واحتلتا أجزاء من نفس الشريط البحري، وإن كان الشريط الذي احتله الصليبيون أكثر طولاً من الشريط الذي احتله الصهاينة. أما من الناحية التاريخية، فيمكن القول بأن ثمة تشابهاً بين وَضْع العالمين العربي والإسلامي في القرن الحادي عشر ووضعهما في أواخر القرن التاسع عشر، فقد كانا في حالة انقسام وتراجع وتجزئة. فالخلافة الفاطمية في مصر كانت في ¬

(¬1) الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 - ص39 (¬2) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 107

حالة مواجهة مع الخلافة العباسية في العراق، وقد اقتسمتا فيما بينهما العالم الإسلامي. وكان النظامان العباسي والفاطمي يعانيان من الصراعات الداخلية والمؤامرات. وهما، في هذا، يشبهان النظام السياسي العربي المعاصر، المتجزئ، المنقسم على نفسه، المتصارع مع ذاته (¬1). والغزوتان الصليبية والصهيونية تهدفان إلى حل بعض مشاكل المجتمع الغربي وتخفيف حدة تناقضاته. فالمجتمع الوسيط الغربي كان يخوض عملية بَعْث اقتصادي فتحت شهيته للاستيلاء على طرق التجارة المتجهة إلى الشرق. وهذا يشبه من بعض الوجوه، وإن كان بدرجة أقل، انفتاح شهية رجل أوربا الشره في القرن التاسع عشر الميلادي الذي لم يهدأ له بال إلا بعد أن وقع العالم كله في قبضته. وقد استخدمت أوربا كلا المشروعين، الصليبي والصهيوني، في التخلص مما أطلق عليه في القرن التاسع عشر الميلادي (الفائض البشري)، أي العناصر التي لم تستطع أن تحقق الحراك الاجتماعي داخل مجتمعاتها ولذا كانت تهدِّد السلام الاجتماعي ولم يكن هناك مفر من تصديرها للشرق حتى يحقق الغرب سلاماً اجتماعياً داخلياً. فالمشروع الصليبي كان يهدف أيضاً إلى تخليص أوربا من فائضها البشري الذي كان يهدد سلامها الاجتماعي حسب تصوُّر البعض على الأقل. ومن نقط التشابه الأخرى أن المشروعين الصليبي والصهيوني مشروعان استعماريان من النوع الاستيطاني الإحلالي. فالمشروع الصليبي كان يهدف إلى تكوين جيوب بشرية غربية وممالك فرنجية تدين بالولاء الكامل للعالم الغربي. ولذا، لم تأت الجيوش وحسب، وإنما أتى معها العنصر البشري الغربي المسيحي ليحل محل العنصر البشري العربي الإسلامي. وهو في هذا لا يختلف عن المشروع الصهيوني إلا في بعض التفاصيل. فغزو فلسطين تم أولاً على يد القوات البريطانية، ثم حَضَر المستوطنون الصهاينة بعد ذلك بوصفهم عنصراً يقوم بالزراعة والقتال. وقد كانت المؤسسات الاقتصادية للصليبيين، مثلها مثل قرينتها الإسرائيلية، تتسم بطابع عسكري. كما أن التنظيم الاقتصادي التعاوني لم يكن مجهولاً لدى الصليبيون. ¬

(¬1) انظر: مستقبل اسرائيل بين الاستئصال والتذويب "دراسة حول المشابهة التاريخية بين الغزوة الصليبية والغزوة الصهيونية"- كمال محمد الاسطل - ص 30 - دار الموقف العربي للصحافة والنشر والتوزيع - القاهرة

ويمكن القول بأن دويلات الصليبيون، مثلها مثل الدولة الصهيونية، كانت ترسانات عسكرية في حالة تأهب دائم للدفاع عن النفس وللتوسع كلما سنحت لها الفرصة. ويُلاحَظ أن كلاًّ من ممالك الصليبيون والدولة الصهيونية، بسبب طبيعتها الإحلالية، خلقت مشكلة لاجئين. كما يُلاحَظ أن هؤلاء اللاجئين تحوَّلوا إلى وقود جنَّد سكان المنطقة ضد الدولة القلعة (¬1). ومن المعروف أن الكيانات الاستيطانية لا تفقد صلتها قط بالوطن الأم بل تعتمد عليه اعتماداً يكاد يكون كاملاً لأنها، بسبب تناقضها الجوهري مع البيئة المحلية التي تلفظها، تستمد مقومات الحياة من دعم عسكري ومالي وهوية ثقافية ومادة بشرية من وطنها الأصلي. وهذه سمة أساسية في الكيانين الصليبي والصهيوني، مع تنويعات فرعية تنصرف إلى التفاصيل لا الجوهر. فمثلاً اعتمدت ممالك الصليبيون على كل أوربا كمصدر للدعم، ولكن اعتمادها كان على فرنسا بالدرجة الأولى. وكذلك، فإن الدولة الصهيونية التي اعتبرت أوربا قاعدتها الإستراتيجية واعتمدت على معظم دول العالم الغربي الرأسمالي مع التركيز على بلد واحد هو إنجلترا ثم فرنسا لفترة قصيرة وأخيراً الولايات المتحدة منذ منتصف الستينيات. ومع سقوط الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي تطرح الدولة الصهيونية نفسها باعتبارها قاعدة للحضارة الغربية كلها في مواجهة العالم الإسلامي. ويشير أحد الدارسين الإسرائيليين إلى أنه كان هناك جباية صليبية موحدة تماماً مثل الجباية اليهودية الموحَّدة. وقد جاءت المادة البشرية لكلا المشروعين من العالم الغربي. ولكنهما، مع هذا، لم يحققا التجانس العرْقي المطلوب لتحقيق شيء من التوازن داخل التجمُّع الاستيطاني، فتولدت درجة عالية من التوتر. فممالك الصليبيون كانت تضم في بادئ الأمر عنصراً فرنسياً غالباً بالإضافة إلى عنصر إيطالي انقسم بدوره إلى جنوي وبندقي نسبة إلى جنوة والبندقية. ولكن عناصر أخرى انضمت إلى هذين العنصرين، مثل: الأرمن وبعض العناصر المسيحية المحلية والمسلمين الذين تنصروا. كما أن ممالك الصليبيون نفسها استوعبت، بمرور الزمن، العناصر الثقافية من البيئة ¬

(¬1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 107

المحلية. ولكن، ومع هذا، يمكن القول بأن ممالك الصليبيون احتفظت بقدر من التجانس أعلى كثيراً مما حققه الكيان الصهيوني. فهذه الممالك ظلت فرنجية (فرنسية)، كما أن أعضاء النخبة الحاكمة التي كانت عناصرها الأساسية من الصليبيون ظلت متماسكة، وكذلك كانت الهوية الثقافية مستمدة من فرنسا. ويلاحظ أن أوربا في ذلك الوقت لم تكن قد انقسمت بعد إلى كيانات قومية لكل منها لغتها، وكانت اللاتينية لغة العبادة والفكر. وكان التشكيل الحضاري يتمتع بشيء من الوحدة الثقافية، على الأقل، بالقياس إلى فترة التفتت القومي التي بدأت بعصر النهضة (¬1). وقد حاول التجمع الصهيوني أن يحتفظ بهوية إشكنازية متجانسة تستند إلى تجربة شرق أوربا. ولكن أوربا، في القرن التاسع عشر الميلادي، كانت ذات تشكيل حضاري مقسم إلى كيانات قومية مختلفة تتحدث لغات مختلفة، فجاء يهود من المجر ورومانيا وألمانيا وإنجلترا وفرنسا، كلٌّ يتحدث لغته. وجاء من شرق أوربا نفسها أنواع غير متجانسة، فثمة يهود جاءوا من بولندا يتحدثون البولندية، وآخرون جاءوا من رومانيا يتحدثون الرومانية، ومن روسيا جاء من يتحدث الروسية إلى جانب الأغلبية التي تتحدث اليديشية. كما كان النسق الديني اليهودي في حالة تفتُّت وتراجُع ومن ثم نجد أن هناك يهوداً أرثوذكس ويهوداً إصلاحيين أو محافظين أو قرّاءين ... إلخ. ثم اجتاحت التجمع الصهيوني الكثافة السكانية الوافدة من العالمين العربي والإسلامي التي غيَّرت بنيته السكانية وتوجُّهه الثقافي بحيث أصبحت أغلبية العنصر اليهودي شرقية تحكمها أقلية إشكنازية. ولكن الدولة الصهيونية تحاول مع هذا أن تحتفظ بالتوجه الإشكنازي للمجتمع، إذ يتضح هذا في تشجيع الهجرة من الاتحاد السوفيتي وفي المناخ الثقافي الذي تفرضه المؤسسة الحاكمة، وهذا الوضع يُولِّد الكثير من التوتر. ويُلاحظ الصحفي الإسرائيلي يوري أفنيري أن كلاًّ من التجمعين الصليبي والصهيوني تكوَّن من ثلاث طبقات ذات طابع عرْقي: الطبقة الحاكمة من المسيحيين الغربيين في دويلات الصليبيون يقابلها اليهود الإشكناز في الدولة الصهيونية. ثم ¬

(¬1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 108

يأتي في المرتبة الثانية مواطنو الدرجة الثانية من المسيحيين الشرقيين في دويلات الصليبيون يقابلهم اليهود الشرقيون في الدولة الصهيونية. وأخيراً يأتي مواطنو الدرجة الثالثة وهم المسلمون واليهود وبعض المسيحيين العرب في دويلات الصليبيون، والمسلمون والمسيحيون العرب في الدولة الصهيونية. والمجتمع الاستيطاني مجتمع مزروع أو مشتول في العادة، فهو يأخذ شكل الدولة الجيتو أو الدولة القلعة، التى تقوم بدور أوكل إليها في جمع الضرائب والإيجارات والإشراف على إدارة مصالح اسيادها حيث تحميها القوة العسكرية. وهذا المجتمع منعزل عن بيئته وينصرف جزء كبير من نشاطه إلى عملية القتال ضد السكان المحليين. وهذه مسألة ليست عرضية وإنما هي مسألة جوهرية وتنبع من الوظيفة نفسها. والعالم الغربي يزود الجيوب الاستيطانية بالعون ومقومات الحياة حتى تظل ركيزة لنشاطاته الإمبريالية والتوسعية. وينطبق هذا الوضع على الجيبين الصليبي والصهيوني، وإن كان يبدو أن الدعم الغربي للجيب الصهيوني يفوق الدعم الغربي للجيب الصليبي (¬1). كما أن أزمة التجمُّع الصليبي لا تختلف عن أزمة التجمع الصهيوني. فيُلاحَظ أن الكيان الصليبي كان يعاني من أزمة سكانية لا تختلف كثيراً عن أزمة المستوطن الصهيوني، وذلك نظراً لانخفاض عدد سكان أوربا عام 1300 بعد انتهاء فترة تزايد السكان، الأمر الذي أدَّى إلى عدم مجيء المزيد من المادة البشرية، كما كان الكيان الصليبي يعاني من تناقص نسبة المواليد. وكان كثير من الأراضي التي ضمها الصليبيون يزرعها سكانها الأصليون العرب. بل إن بعض الأقنان الذين جاءوا مع حملات الصليبيون اشتغلوا بأعمال أخرى غير الزراعة، نظراً لعدم درايتهم بالتربة وربما لتفتُّح فرص اقتصادية أخرى بحيث أمكنهم العمل في التجارة. ويشبه هذا زحف العرب التدريجي على الزراعة داخل المُستوطَن الصهيوني وضمن ذلك الكيبوتسات، وتحوُّل المستوطنين الصهاينة إلى مهام أخرى غير الزراعة. ولا تنحصر نقاط التشابه بين المشروعين الصليبي والصهيوني في الظروف الاجتماعية والجغرافية المحيطة بكل منهما، ولا في بنية الكيانين فقط، وإنما تمتد ¬

(¬1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 108

مركزية حملات الصليبيون في الوجدان الصهيوني/الإسرائيلي

نقاط التشابه هذه لتضم الديباجات والقصد. فقد قُدِّمت تبريرات للمشروعين وتم الدفاع عنهما عن طريق ديباجات دينية تستخدم الرموز الدينية وتوظفها في عملية التعبئة العسكرية. والرموز الدينية المستخدمة هي في واقع الأمر رموز عرْقية أو إثنية أو قومية رغم طلائها الديني اللامع. ومن هنا كانت عنصرية الديباجات الصليبية والصهيونية. ومن هنا أيضاً كان تمييزها الحاد بين البشر وتقسيمهم إلى أدنى وأعلى، أو حاضر وغائب، أو فئة لها كل الحقوق وفئة لا حقوق لها على الإطلاق ... إلخ. وهذا مختلف تماماً عن إيمان الديانات التوحيدية الثلاث بالمساواة بين البشر والتي تصدُر عن الإيمان بأننا نولد جميعاً من آدم وآدم من تراب. ويُلاحَظ أن ديباجات الصليبيون والصهاينة ترى غزو فلسطين في إطار فكرة أن الغزاة شعب مقدَّس أو مختار. وكان يسيطر على كل من الصليبيون والصهاينة تفكير نخبوي يجعل زعماءهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم طلائع شعوبهم التي ستحمل السلام لتخلِّص الأرض المقدَّسة، وأن هذه الحملة العسكرية إن هي إلا خروج ثان يشبه خروج العبرانيين من مصر إلى كنعان. وقد ارتبطت الديباجات في كلا المشروعين بالأحلام الألفية في استرجاع فلسطين بعد عودة المسيح أو تمهيداً لعودته (¬1). مركزية حملات الصليبيون في الوجدان الصهيوني/الإسرائيلي تستخدم الحركة الصهيونية التاريخ بمختلف مناهجه لدراسة ظاهرة الحروب الصليبية أو) تاريخ المملكة اللاتينية (كما يحلو لمؤرخيهم تسميتها، اذ ان هناك مؤسسات علمية بحثية تقوم بتنظيم فرق بحث لدراسة تاريخ الحملات الصليبية لتستخلص منها العبر، ومن خلال استخلاص تلك العبر تقوم بالكشف والتنقيب عن النموذج المماثل لها في التاريخ ليتم الكشف عن اوجه التشابه بين التجربتين. حيث التمزق والتشرذم الذي تعانيه الامة آنذاك، وتعانيه اليوم، وبالصورة نفسها بل اكبر وبشكل مكثف جداً وابشع على الرغم من انتصار الصليبيين آنذاك لم يكن تعبيراً حقيقياً عن موازين القوى، فقد كانت الجيوش العربية، وموارد المنطقة البشرية ¬

(¬1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 109

تكفل هزيمه ساحقة إذا ما جمعتها جهة موحدة، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك، ولكن التشرذم العربي، بل ومساندة بعض المسلمين للجيوش الصليبية، وميراث الحقد والشك والضغائن بين حكام المنطقة جعلت انتصار الصليبيين امراً منطقياُ. وهذا من أهم عوامل انشغال الوعي الصهيوني بهذه الحروب وبتلك الحملات، حيث أخذت حيزاً مهماً من انشغال العاملين في الابحاث الاستشراقية والصراعية، فتتم دراسة الوقائع والتطورات والعبر ذات الصلة بالحملات الصليبية ومواجهتها، ودراسة الظروف العربية التي سبقت وسادت القرنيين الثاني عشر والثالث عشر، والوقوف ملياً عند معركة حطين عام 1187م: مقدماتها ومجرياتها ونتائجها والدروس المستخلصة منها، مع محاولة صهيونية مكشوفة لتزوير التاريخ بجانب أو بآخر مما يتصل بالفترة المدروسة (¬1). ونظراً للتشابه بين المشروعين الصليبي والصهيوني، ونظراً لأن كليهما اتخذ فلسطين ساحة لتنفيذ أحلامه، نجد أن الوجدان الصهيوني منشغل إلى أقصى حد بالمشروع الصليبي، وخصوصاً أن الصليبيون قد رحلوا ولم يتركوا شيئاً خلفهم سوى بعض القلاع التي يزورها السائحون ويدرسها علماء الآثار من الإسرائيليين والعرب. ويحاول الدارسون الصهاينة أن ينظروا إلى مشروع الصليبيون من منظور ما يسمونه (التاريخ اليهودي) وكأن حملات الصليبيون جُرِّدت بالدرجة الأولى ضد اليهود، تماماً مثلما يمنحون الجماعات اليهودية مركزية في كل الأحداث التاريخية. وتتحدث الكتابات الصهيونية الإسرائيلية عن ضحايا حملات الصليبيون وكأنهم الضحايا الوحيدون، بل تدَّعى بعضها دوراً يهودياً مستقلاًّ في صد الصليبيون، وهو الأمر الذي يتنافى تماماً مع حقائق التاريخ. ولكن أهم جوانب الاهتمام الصهيوني الإسرائيلي بالكيان الصليبي هو دراسته من منظور الصراع العربي الإسرائيلي، بمعنى عَقْد الدراسات المقارنة في مشاكل الاستيطان ومشاكل الموارد البشرية والعلاقات الدولية فضلاً عن محاولة فَهْم عوامل الإخفاق والفشل التي أودت بالكيان الصليبي. وهناك من يهتم بدراسة المقومات البشرية والاقتصادية والعسكرية للكيان ¬

(¬1) الاستشراق و ابحاث الصراع لدى اسرائيل - ابراهيم عبد الكريم ـ ص 226 - دار الجليل، 1993.

الصليبي، ومن يهتم برصد العلاقة بين هذا الكيان والكيان الأوربي المساند له. وقد وجَّه فريق من الباحثين اليهود اهتمامه لدراسة مشكلات الاستيطان والهجرة (¬1). فالباحثون الاسرائيليون يولون الصليبيات عناية فائقة، لانهم يرون فيها الحركة الرائدة والتجربة السالفة. فالغزو الصهيوني يشبه في غزوه واحتلاله الغزو الصليبي، لهذا فإنهم يهتمون بالمشكلات التى واجهت الصليبيات، الامن، الاستيطان، والعمائر والمستوطنات الحربية، ونقص في الطاقات البشرية، ويدرسون الموقف في الشرق العربي الإسلامي. وهناك فرق عمل كاملة في الجامعات العبرية تخصصت في دراسة الحروب الصليبية، يهوشع بروار، وميرون بنفينستي، وبنيامين اربل، وآرييه جرابوس، ويأتيل كاتزير، والقائمة طويله، يكتبون بالعبرية والانجليزية والفرنسية والالمانية والايطالية والروسية، ويتابعون ما ينشر عن الصليبيات في العالم اجمع. ويشاركون في الجمعيات العلمية المهتمة بدراسة الصليبيات مثل جمعية دراسة الحروب الصليبية والشرق اللاتيني بانجلترا، الصليبيات في حد ذاتها لا تهمهم، وانما يهتمون بها لكونها نقله بين الحركة الصهيونية والمستقبل، ولاسقاط التاريخ على الواقع المستقبلي. ودرسوا القلاع الصليبية ونظم التحصيين الصليبي في مرتفات الجولان، وحللوا رحلات الحجاج والتغيير في الرؤية للارض المقدسة، درسوا الجغرافيا التاريخية لفلسطين ابان الحروب الصليبية، وتاريخ اليهود والاحياء اليهودية والاستيطان الصليبي، والاقطاع وقوانين الادارة والتجارة والحدود، والسقوط المفاجئ لمملكة بيت المقدس، وطرد آخر بقايا الصليبيين غذاة سقوط عكا، هذه المسألة في الماضي، وممتدة في المستقبل. فالاسرائيليون يتحسسون في الصليبيات مصير الغذ. ولهذا ففد شغلت الحروب الصليبية عدداً كبيراً من العلماء والباحثين في اسرائيل، حتى اصبحت الجامعة العبرية من أهم مراكز الأبحاث الصليبية في العالم يستخرجون ¬

(¬1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 110

العبر من دراسة تلك التجربة التاريخية الحية لمجتمع أجنبي حل في البلاد المقدسة، واستقر فيها قرابة قرنين من الزمن (¬1). وهنا لا يجوز بحث موضوع الدراسات الصهيونية للحركة الصليبية دون الاشارة إلى يهوشع برافر عميد الدراسات الصليبية. وهو المؤسس الأول لهذه الدراسات، حيث تتميز دراساته بأنه أول من نظر إلى الحركة الصهيونية على انها حركة استيطانية كولونية. فكتب ابحاثاً رائدة في مشروع الدولة الجديدة، ومهد لتلاميذه الذين اصبحوا زملاءه فيما بعد، سبل البحث في كيان الدولة ومؤسساتها وطبيعة الحكم فيها والاسس التشريعية لهذا الحكم، ونظامها العسكري، وتطور مفهومها الأمني وتأثير العوامل الجغرافية، كالصحراء على الاعتبارات الاستراتيجية، وطبيعة علاقة الصليبيين بالسكان المحليين المدعوين بالاقليات من مسلمين ومسيحيين شرقيين ويهود، وبدو، واسماعيلية، وموارنه بكثير من التفاصيل ... ودرسوا الحياة الفكرية والعقلية في تلك الفتره ... وقد ركزوا أيضاً في الدراسات الإسلامية، اذ درسوا الوضع السياسي والاجتماعي المعاصر في المجتمع العربي الإسلامي، والحياة العقلية والفكرية والادب والاشعار والامثال الدارجة في تلك الفترة ثم بحثوا في فكرة الجهاد وفاعليتها في تحريض المسلمين على القتال. كما درسوا طبيعة الحكم والعلاقات الطبقية والتجارية والزراعية ومدى انعكاس هذه العوامل على الدولة الصليبية. وليس ادل على نشاط العلماء الاسرائيليين في هذا المجال هو كثرة عضويتهم في (جمعية دراسة الصليبيات والشرق اللاتيني) ومركزها بريطانيا، اذ ينضم الآن إلى هذه الجمعية خمسة وعشرون عالماً وعالمة من اسرائيل من اصل 227 من جميع انحاء العالم، مقابل سبعة علماء عرب!! والابحات الصهيونية في الصليبيات على كثرتها تكاد تنحصر في مملكة القدس اللاتينية. ولا تتخطاها الا في النادر لدراسة الامارات الصليبية الاخرى في طرابلس وانطاكيا والرها، وقد يعكس هذا اهتمام الاسرائيليين عموماً بالتركيز في التاريخ غير العربي الإسلامي ¬

(¬1) الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 - ص35 أو انظر كتاب فوشيه الشارتري، تاريخ الحملة إلى القدس- ترجمة د. زياد العسلي ص5 - دار الشروق - ط1 1990

لفلسطين، ولكن على اي حال لا يدل على اهتمام علمي مجرد بالوجود الصليبي في الشرق بعامة بل ينحصر ذلك في الكيان الذي قام في الاراضى المقدسة. ويستاء الصهيونيون من مقارنة حركتهم بالحركة الصليبية لما تتضمنه تلك المقارنه من جعل اسرائيل عنصراً دخيلاً على الشرق سيلفظه كما لفظ الدولة الصليبية من قبل. ونعتقد ان تشريحهم للكيان الصليبي يستهدف استخلاص العبر التى تمكنهم من تجنب ذلك المصير، ونرى انهم نجحوا بالفعل في تفادي اخطاء الصليبيين في عدة نواح اساسية (¬1). والاهتمام الصهيوني بالحروب الصليبية لا يقتصر على الدوائر الأكاديمية، فنجد أن شخصيات سياسية عامة مثل رابين وديان وأفنيري يهتمون بمشاكل الاستيطان والهجرة. ففي سبتمبر 1970، عقد إسحق رابين مقارنة بين ممالك الصليبيون والدولة الصهيونية حيث توصَّل إلى أن الخطر الأساسي الذي يهدد إسرائيل هو تجميد الهجرة، وأن هذا هو الذي سيؤدي إلى اضمحلال الدولة بسبب عدم سريان دم جديد فيها. ويعقد أفنيري في كتابه إسرائيل بدون صهيونية (1968) مقارنة مستفيضة بين ممالك الصليبيون والدولة الصهيونية يخلص فيها إلى أن المقارنة درس لابد أن يتعلم منه الصهاينة، فإسرائيل مثل ممالك الصليبيون مُحاصَرة عسكرياً لا لأن هذا هو المصير الموعود (الذي لا مفر منه) كما يتصور بعض الصهاينة، وإنما هي مُحاصَرة عسكرياً لأنها تجاهلت الوجود الفلسطيني ورفضت الاعتراف بأن أرض الميعاد يقطنها العرب منذ مئات السنين. وقد عاد أفنيري إلى الموضوع، عام 1983، بعد الغزو الصهيوني للبنان، في مقال نشر في (هاعولام هزاى) بعنوان (ماذا ستكون النهاية) فأشار إلى أن ممالك الصليبيون احتلت رقعة من الأرض أوسع من تلك التي احتلتها الدولة الصهيونية، وأن الصليبيون كانوا قادرين على كل شيء إلا العيش في سلام، لأن الحلول الوسط والتعايش السلمي كانا غريبين على التكوين الأساسي للحركة. وحينما كان جيل جديد يطالب بالسلام كانت مجهوداتهم تضيع سدى مع قدوم تيارات جديدة من ¬

(¬1) الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 - ص38

المستوطنين، الأمر الذي يعني أن ممالك الصليبيون لم تفقد قط طابعها الاستيطاني. كما أن المؤسسة العسكرية الاقتصادية للفرنجة قامت بدور فعال في القضاء على محاولات السلام، فاستمر التوسع الصليبي على مدى جيل أو جيلين. ثم بدأ الإرهاق يحل بهم، وزاد التوتر بين المسيحيين الصليبيون من جهة وأبناء الطوائف الشرقية من جهة أخرى، الأمر الذي أضعف مجتمع الصليبيون الاستيطاني، كما ضعف الدعم المالي والسكاني من الغرب. وفي الوقت نفسه، بدأ بعث إسلامي جديد، وبدأت الحركة للإجهاز على ممالك الصليبيون، فأوجد المسلمون طرقاً تجارية بديلة عن تلك التي استولى عليها الصليبيون. وبعد موت الأجيال الأولى من أعضاء النخبة في الممالك، حل محلهم ورثة ضعفاء في وقت ظهرت فيه سلسلة من القادة المسلمين العظماء ابتداءً من صلاح الدين ذي الشخصية الأسطورية حتى الظاهر بيبرس. وظل ميزان القوى يميل لغير صالح الصليبيون، كما لم يكن هناك ما يوقف هزيمتهم النهائية. وقد ترك هذا الحدث التاريخي بصماته وآثاره في وعي شعوب المنطقة حتى اليوم (¬1). كما انعكس هذا الاهتمام الصهيوني بفترة الحروب الصليبية على مجال الادب حيث تعددت الاعمال الادبية العبرية التي تربط بين المشروعين الصليبي والصهيوني، وذلك لكونهما يتخذان من الغيبيات ذريعة للاستيلاء على فلسطين بغرض زرع كيان غريب فيها. ومن الادباء من لجأ إلى تلك الاحداث بغرض تذكير القارئ العبري بالمصير المؤلم الذي انتهت اليه الحملات الصليبية بعد ان لفظتها المنطقة، من منطلق التلميح إلى ان هذا هو ما يمكن ان يكون ايضاً مصير الدولة العبرية. وأما البعض الآخر، فقد لجأ اليه بغرض لفت نظر القارئ إلى الأخطاء التى ارتكبها الصليبيون، والتي يتحتم على الكيان الجديد أن يتحاشاها حتى يجنب نفسه التعرض للمصير نفسه (¬2). ولو تأملنا الابحاث الصهيونية في الصليبيات فإننا سنجد، انها على كثرتها - تنحصر- كما نبه إلى ذلك الدكتور شاكر مصطفى - في نقطة وحيدة هي: "كيف تم ¬

(¬1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 110 (¬2) القصة العبرية المعاصرة بين الحلم الصهيوني والكابوس الصليبي- د. علي عبد الرحمن استاذ الادب العبري بجامعة عين شمس

مواجهة الهجمة الصليبية الجديدة

طرد الصليبيين من هذه البقاع نفسها التي يحتلونها". لهذا لا يهمهم بحث ما قتله الغربيون بحثاً. ولكن تهمهم الرمال المتحركة تحث الغزاة في فلسطين (¬1). وهذا يعني ان الموقف اليهودي من الحركة الصليبية نابع من ادراكهم حقيقة الوظيفة الحضارية للتاريخ كعلم، فهم يدرسون تاريخ الحركة الصليبية مع التركيز في الوجود اللاتيني في ارض فلسطين، وطبيعة علاقات الصليبيين بشعوب المنطقة وعوامل النجاح التى حققت لهم الانتصارات الأولية، ثم عوامل الفشل والاخفاق التى ادت إلى رحيل الصليبيين من المنطقة العربية ونهاية دولتهم .... فالتشابه بين التجربتين الصليبية والصهيونية هو الذى يغرى الكثيرين من الدارسين اليهود بدراسة تاريخ الحركة الصليبية، وتسخير نتائج دراساتهم في دراسة مستقبل الكيان الصهيوني (¬2). وهنا فإن الصهيونيون يستاءون من مقارنة حركتهم بالحركة الصليبية لما تتضمنه تلك المقارنه من جعل اسرائيل عنصراً دخيلاً على الشرق سيلفظه كما لفظ الدولة الصليبية من قبل (¬3). والواقع أن اهتمام المستوطنين الصهاينة بممالك الصليبيون تعبير عن إدراك أوَّلي لطبيعة دورهم في المنطقة كدولة وظيفية تكون مجرد أداة في يد قوى عظمى خارجية، وهو إحساس يشوبه قسط كبير من القدرية والعدمية الناجمة عن إحساس الأداة بأنها لا تمتلك ناصية أمورها ولا تسيطر على مصيرها أو قدرها (¬4). مواجهة الهجمة الصليبية الجديدة من العرض السابق يتضح لنا حجم التشابه بين الحملة الصليبية في الماضي والحاضر، وهذا يعنى ان المسلمون عندما يربطون اليوم، الإمبريالية الغربية والحملات التبشيرية المسيحية بالصليبيين، فإنهم ليسوا علي خطأ فيما ذهبوا إليه. ¬

(¬1) الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 - ص39 (¬2) رؤية اسرائيلية للحروب الصليبية: د. قاسم عبده قاسم ص248 (¬3) الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 - ص39 (¬4) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 110

فعندما وصل الفرنسيون إلي دمشق، سار قائدهم في موكب إلي ضريح صلاح الدين في المسجد الكبير وصرخ قائلاً بالفرنسية ما معناه بالعربية (يا صلاح الدين ـ لقد عدنا). وعندما وصل الجنرال اللنبي إلي القدس عام 1917، أعلن أن الحملات الصليبية قد انتهت، وهو بإعلانه انتهاء الحروب الصليبية فقد وضع في فلسطين أسس نظام تمييز عنصري يقضي بفصل الأهالي الأصليين في مناطق معزولة، مولداً بذلك الكراهية والحروب التي كان صلاح الدين قد وضع حداً لها منذ عام 1187 وحتى عدة قرون من بعده وذلك حين دخل منتصرا إلى القدس فأعاد فتح المعابد اليهودية والكنائس المسيحية (¬1). وهنا يجب ان نؤكد ان المسلمون يؤمنون إيماناً مطلقاً بأن الإسلام سيجدد نفسه وينجب صلاح الدين الجديد الذي سيحرر القدس حتي بعد 200 سنة من الآن. فقد كانت التجربة الأولي لمسلمي المشرق مع المسيحيين في الغرب خلال الحروب الصليبية عام 1099، عندما احتل الصليبيون القدس وذبحوا حوالي 30 ألف مسلم ويهودي في المدينة التي تحولت من مدينة مقدسة مزدهرة إلي بركة من الدماء نتنة الرائحة. وتمكن المسلمون المشتتون من إعادة توحيد صفوفهم وتحرير المسجد الأقصى وتحقق النصر. وهنا فإن المسجد الاقصى يجسد النصر الذي احرزه المسلمون على الصليبيين بريادة عماد الدين زنكي الرائد الأول لقيادة المسلمين إلى قتال الصليبيين في العراق وغيرها من الحدود المتاخمة لهم. ثم تبعه- ولكن بصورة أكثر واشرس- القائد الرباني نور الدين زنكي، الذي صنع منبراً للمسجد الأقصى الاسير، متفائلاً وموقناً بنصر الله للمسلمين. ثم توجت هذه الانتصارات بالقائد المظفر البطل صلاح الدين الايوبي الذي وحد الجبهتين (المصرية والشامية) ضد الغزو الصليبي المتمركز في تلك البلاد حت انتصر في المعركة الفاصلة (حطين) سنة 583 هـ (1187م) (¬2). ¬

(¬1) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي ـ ترجمة وتقديم د. منى طلبه - د. انور مغيث- ص190 - دار الشروق- ط3 2002 (¬2) الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 - ص36

من هم الصليبيون الجدد .. ؟

ونعتقد ان هذا الامر يمكن ان يتكرر لو تمكن المسلمون من وضع الهجمة الصليبية الجديدة في اطارها الصحيح كما فعل اجدادنا الاوائل، الذين لم ينتصروا الا بعد ان استطاعوا فهم طبيعه هذه الهجمة وطبيعة الرد المطلوب عليها. فالبرغم من ان نظرة الاوربيين للحملات الصليبية الأولى كانت نظرة دينية لاسترجاع القبر المقدس من ايدى المسلمين، الا انه في المقابل كان المؤرخون المسلمون الذين كتبوا عن الحروب الصليبية- في بدايتها- يرونها حملات عسكرية توسعية اقتصادية ولم يربطوها أبدا بالدين المسيحي، كما هو الوضع الآن. غير ان الامر اختلف كلياً مع ظهور عماد الدين زنكي الذي بدأ حملة مضادة لمواجهة الصليبيين، واستعيدت من جديد قيم الجهاد وأفكاره لتجميع المسلمين في مواجهة الصليبيين، وتحولت الحرب لدى المسلمين من علمانية للتحرير والدفاع إلى حرب ممزوجة بالكرامات الدينية، وتصاعدت الوتيرة الدينية للحرب بمجيء محمود نور الدين زنكي بعد مقتل أبيه عماد، فقد كان محمود بخلاف أبيه متديناً (¬1). ونعتقد ان مواجهة الصليبيون الجدد يكون من خلال وضع هذه الهجمه في اطارها الصحيح من حيث اهدافها وطبيعتها، وكيفية مواجهتها وهذا ما حاولناه في هذا الكتاب. من هم الصليبيون الجدد .. ؟ اول خطوة في المواجهة هي تحديد المفاهيم وبالذات المقصود بـ (الصليبيون الجدد) حتى لا يختلط علينا الامر. فمواجهة المسيحية الصهيونية بما تشكله من خطر على المنطقة والعالم، يتطلب حشد كافة الامكانيات والجهود الخيره في العالم. ولكن نظراً لارتباط تسميتها بالمسيحية فإنه من الضروري ازالة هذا اللبس، وفصل الحب عن القشور، حيث يعتبر ذلك الخطوة الأولى في المواجهة. فكما وضحنا خلال هذا الكتاب وفي مناطق مختلفة الفروقات بين الطوائف المسيحية المختلفة في نظرتها إلى العلاقة باسرائيل والنبوءات التوراتية، وهو امر مهم حتى لا تختلط علينا الامور. فنحن لا نهدف إلى القول بأن كل مسيحيي العالم يؤمنون بخرفات الصهيونية المسيحية، بل إن هذا الأمر مقصور فقط على اتباع المذهب البروتستانتي الذين ¬

(¬1) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-عرض/ إبراهيم غرايبة

ينتشرون في أمريكيا وبريطانيا وبعض الدول الأوربية، أما الطوائف المسيحية الأخرى - كاثوليك وارتوذكس - فلا يؤمنون بالتفسيرات والنبوءات التوراتية الخاصة بإسرائيل كما وردت في الكتاب المقدس، ولهم موقفهم الخاص من اليهود وإسرائيل، والذي يصل إلى حد العداء، وليس أدل على ذلك من أن البابا بولس السادس بابا الفاتيكان السابق وراعى الكنيسة الكاثوليكية - اكبر الكنائس المسيحية في العالم - رفض كثير من المواقف الإسرائيلية. كما إن الكنيسة الارتوذكسية لها موقف اكثر حدة من اليهود، حيث يرفض اتباعها الذين ينتشرون في روسيا واليونان والدول العربية مواقف إسرائيل المختلفة فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي. وفي الازمه التي مرت بها المنطقة، بسبب الحرب على العراق دعت الكنيستان الكاثوليكه والارتوذكسية إلى تجنب نزاع بين المسيحية والإسلام حيث جاء هذا على لسان البابا يوحنا بولس الثاني، والبطريرك اليكسى الثاني رأس الكنيسة الارتوذكسية. فالصليبيون الجدد الذين نتحدث عنهم هنا هم اتباع المذهب البروتستانتي الذي ظهر مع ما سمى بحركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، حيث يأخذ اتباع هذا المذهب بالتفسير الحرفي للإنجيل، وقاموا بالسعى من اجل تحقيق كافة النبوءات الواردة فيه والخاصة باليهود ودولة إسرائيل، ولا يزالون حتى هذه اللحظة يعدون العدة لتنفيذ باقي النبوءات والخرافات التوراتية وبالذات فيما يتعلق بمدينة القدس والمسجد الأقصى، ومعركة هرمجيدون. أما بالنسبة لموقف المسيحيين العرب، فلا مجال هنا للمس بهم وبمواقفهم المشرفة عبر التاريخ وبنضالهم في سبيل نصرة قضايا أمتهم العربية وعلى رأسها قضية فلسطين، حيث شاركوا بكل قواهم في التصدي للخطر الصهيوني سواء بدمائهم أو بأقلامهم التي كانت لها صولات وجولات في فضح الخطر الصهيوني والتصدي له من خلال كتابات ومواقف كثيرة، ونخص بالذكر هنا موقف الكنيسة القبطية المصرية وعلى رأسها قداسة البابا شنوذة الذي اصدر أوامره إلى اتباعه بعدم زيارة مدينة القدس ما دامت تخضع للاحتلال الإسرائيلي هذا بالرغم من وجود اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل، كما أن البطريرك الماروني نصر الله صفير قال

تعليقاً على حرب أمريكيا على أفغانستان وبعض دول المنطقة: إن المسيحيين في لبنان جزء من الشرق، وان الاعتداء على هذا الشرق اعتداء على المسيحية. وفي مقال رائع في جريدة الخليجبعنوان (المسيحيون ملحُ العروبة) كتب محمد خالد موضحاً العلاقة الازلية بين العرب مسلميين ومسيحيين قائلاً: الإسلام هو المشروع الحضاري التاريخي للعرب: مسلمين ومسيحيين، والقبائل العربية المسيحية في جزيرة العرب وبلاد الشام - قبل الإسلام وبعده - كثيرة أشهرها عشرة: تغلب، تميم، غسان، منذر، إياد، قضاعة، طيء، مذحج، ربيعة، وحنيفة. ومن القبائل المسيحية المعاصرة آل رحباني في لبنان. ولولا مشاركة هذه القبائل لما تم فتح بلاد الشام ولا تمت هزيمة الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، ولاحقاً جوهرة التاج العربي: مصر. وقبل الإسلام وبعده كان هناك مئات الألوف من الشعراء والأدباء والمفكرين والفلاسفة والقادة ورجال الدولة المسيحيين الذين ساهموا في بناء الحضارة العربية الإسلامية عبر العصور منذ الجاهلية وصدر الإسلام والدولة الأموية والعباسية والأندلس حتى يومنا هذا. ومن التاريخ الحديث أمثلة كثيرة. من مصر يأتي حدثان: الأول عند نهاية القرن التاسع عشر، قدم من روسيا الأرثوذكسية مندوب وقابل بابا الأقباط وعرض عليه حماية الكنيسة الروسية لمسيحيي مصر، فسأله بابا مصر: هل يموت بطريرك روسيا أم يخلد؟ فأجابه المبعوث: طبعاً يموت. فقال البابا كلمته المشهورة: "لقد اسلمنا أمرنا للذي لا يموت". ومن مصر أيضاً يقف البابا شنودة عملاقاً وهو يرفض جميع الضغوطات الخارجية للسماح لاقباط مصر بالحج إلى القدس قائلاً ندخل القدس المحررة مع اخوتنا العرب المسلمين. ومن سوريا يذكر العرب فارس الخوري وقسطنطين زريق والشهيد جول جمّال الذي باستشهاده أغرق المدمرة الاسرائيلية ايلات. ومن حلب جاء مار مارون إلى لبنان وجدُّ الشاعر سعيد عقل ومعظم العائلات المارونية. ومن أجمل الصور ان هناك مقاماً مسيحياً إلى الآن في داخل المسجد الأموي يؤمه اصحاب النذور من مسلمين ومسيحيين. كما ان المسجد الأموي بقي مكاناً للصلاة المشتركة بين المسلمين والمسيحيين لمدة 80 عاماً. ومن الأردن يعبر نايف حواتمة جسر العودة ليناضل في فلسطين. ويكتب الأديب غالب هلسا أجمل ما قيل في الغربة: "لقد عثرت على وصف دقيق للاغتراب

هو ان تعيش خارج مصر" .. هذا غزل رائع في الأوطان يذكرنا بغزل عمر بن ابي ربيعة في النساء. وفي فلسطين ومنذ سلّم القس المبجل صفرونيوس مفاتيح القدس للخليفة عمر بن الخطاب قبل 1400 سنة والبرتقال اليافاوي يفوح عطراً ويتعتق الزيتون الروماني عاماً وراء عام. بعض البرتقال الفلسطيني والزيتون له اسماء مثل المطران هيلاريون كبوجي ويوسف بيدس وادوارد سعيد وعطاالله حنا وجورج حبش ووديع حداد وعزمي بشارة والمؤرخ هنري كتن وحنان عشراوي واميل حبيبي وسلفادور عرنيطة والاخوة صايغ (فايز ويوسف وأنيس). وفي لبنان هناك مقبرة في بيروت اسمها مقبرة الشهداء يدفن فيها الفلسطيني المسلم والمسيحي من دون النظر إلى جوازي سفرهما .. ففيها دفن الشهداء الثلاثة كمال ناصر وكمال عدوان وابو يوسف النجار، فقد كانوا متساوين فوق الأرض ومتساوين تحتها. وفي لبنان يحلو للبعض ان يعتبر - تحبباً - ان المسيحي اللبناني (غير شِكل) .. الحقيقة انه شكل مثل غيره. وينهمر العطاء بدءاً من رهبان الأديرة الذين حفظوا اللغة العربية والتراث وأثروها نسخاً وترجمة وابداعاً وصولاً إلى جيش المبدعين من انطون سعادة وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأبو محمد (مارون عبود) وجورجي زيدان وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) وفيليب حتي وصولاً إلى بول غيراغوسيان ومرسيل خليفة وخليل حاوي والشاعر القروي وأمين الريحاني وبشارة واكيم والرحابنة وايليا أبوماضي وهرم لبنان الثالث: فيروز وآل معلوف والحبل على الجرار (¬1). إن هذه الإشارة وهذا التوضيح كان ضرورياً لبيان العلاقة الاخوية والمصيرية بين المسلمين والمسيحيين العرب وحتى لا يعتقد البعض أننا نهدف إلى تصعيد الصراع بين المسيحية والإسلام، في وقت حقق الحوار بين الإسلام وممثلي الكنائس المسيحية الارثودكسية والكاثوليكية تفاهم واتفاق حول كثير من الأمور، والذي نتمنى أن يستمر للوصول إلى تعايش وتعاون مثمر بين اتباع الديانتين، بعيداً عن محاولات التهويد المنظم التي تخضع لها الفرق المسيحية البروتستانتية. كما أن هذا التوضيح كان ضروريا حتى لا يوضع المسيحيون العرب موضع الاتهام عن جهل أو ¬

(¬1) المسيحيون ملحُ العروبة- محمد خالد - جريدة الخليج- 29 - 11 - 2005.

سوء نية، فالتعايش المسيحي الإسلامي في عالمنا العربي سيظل شاهداً على التسامح والتعاون المثمر بين الأديان بالرغم من كل المحاولات التي يقوم بها أعداء امتنا العربية من اجل تعكير صفو هذا التعايش الذي جعل اللورد كرومر يقول: انه لم يلحظ في مصر أي فرق بين مسلم ومسيحي سوى أن الأول يصلي لله في مسجد والثاني يصلي لله في كنيسة (¬1). فهذا الكتاب ليس موجهاً ضد المسيحية ولا يضعها في قفص الاتهام، فهذا بعيد كل البعد عن الغاية التى يسعى اليها، هذا بالرغم من ان العنوان يجعل القارئ يظن للوهلة الأولى ان جميع المسيحيين صهيونيون. في حين ان المسيحية ليست هذا ابداً. وهي بعيدة كل البعد عن الصهيونية كما انها تتنافى قطعاً مع اليهودية. المسيحية، هى انجيل المسيح واعمال الرسل كما هو الإسلام القرآن والسنة. فالمسيحية بمفهومها ومبادئها هي شمولية والى جميع البشر، وليس شعب معين أو عرق معين، فهي محبة وتضحية ورجاء ودعوة إلى السلام والمساواة. فالعدائية غير موجودة في المسيحية، فهي دعوة إلى الحرية والديمقراطية الداخلية في ذات الانسان والخير المطلق لكل شعوب الارض، تنفي الخوف، وتصر على العطاء، اعطاء الانسان الامل والرجاء والفرح. في حين اليهودية الصهيونية هي مجموعة مصالح لشعب معين اختار نفسه ليكون شعب الله المختار، كما انها حركة عنصرية تسعى إلى هدم المسيحية، وتعتبر الله خادم الشعب اليهودي، في حين ترى المسيحية ان الله من الازل والى الازل، والانسان ولد في مرحلة معينة ويستمر في الروح مع الله إلى الازل (¬2). فالصليبيون الجدد الذين نتحدث عنهم هم اتباع الكنيسة البروتستانتية اليمينية المتطرفة وبالذات في أمريكيا وبريطانيا، الذين حولوا المسيحية من دين محبه وسلام إلى دين بطش وارهاب وقتل، ولهذا فان من واجب دول العالم إقامة تحالف مشترك ضد هذه الهلوسة والخرافات، التي قادت العالم إلى حروب مدمره خلال هذا القرن. وهذا التحالف يجب أن يكون إسلامي مسيحي بوذي هندوسي ¬

(¬1) المسيحية والإسلام على ارض مصر - د. وليم سليمان قلادة - ص 292 - دار الحرية للصحافة والطباعة والنشر - ط1 1986. (¬2) الصهيونية المسيحية (1891 - 1948) - بول مركلي- ترجمة: فاضل جتكر-ص21

وعلماني ... الخ لوضع حد لهذه الخرافات التي تحكم تفكير اكبر دوله في العالم. كما إن علي هذا التحالف مهمة شاقه وطويلة من اجل ترويض هذا التفكير العدمى، ليس فقط من اجل حماية العالم، بل وأيضا لحماية أمريكيا من نفسها (¬1). فالمقصود بمواجهة المسيحية الصهيونية يعنى في الاساس عزل هذه الظاهرة الشاذة، عن غيرها من المذاهب المسيحية الاخرى كالكاثوليكية والارثوذكسية، وتعريتها، من اجل ازالة اللبس الحاصل من تسميتها بالمسيحية والمسيحية منها براء. فالمسيحية في قيمها ومثلها وتعاليمها تتناقض كل التناقض مع ما تدعو إليه هذه الحركة من تعاليم وما تبثه من قيم، ثم إنها حركة تتهجم على الكاثوليكية وتتطاول على البابا وهي تتنكر ليس فقط للكنائس المسيحية المشرقية وخاصة الارثوذكسيه ولكنها كأي حركة اصوليه دينيه أخرى تعتبر كل من هو خارجها محروما من نعمة الخلاص (¬2). وهنا يرى د. جورج صبرا ان إطلاق تسمية الصهيونية المسيحية خاطئ، إذ ليس هناك صهيونية مسيحية بالمعنى اللاهوتي والكنسي، بل هي تسمية سياسيه بامتياز تماماً كإطلاق تسمية الإسلام الإرهابي. فكما أن هناك اناساً يدعمون الصهيونية وإسرائيل باسم المسيحية، هناك أيضا أناس يقومون بأعمال إرهابية باسم الإسلام. فهؤلاء الذين يحملون لواء الصهيونية المسيحية يتحركون وفقا لتفاسير خاصه وبعيدة عن توصيات الكنيسة، وقد اصدر مجلس كنائس الشرق الأوسط في هذا الصدد توصية تدعو إلى عدم استعمال عبارة المسيحية الصهيونية واستبدالها بتسمية الحركات والأحزاب الداعمة للصهيونية باسم المسيحيه (¬3). وبالرغم من أهمية الإقتراح السابق، الا ان ذلك لن يحل المشكلة، لان المسيحية موجودة في العبارتين، ولا يستطيع أحد ان ينكر على هذه الفرق، ¬

(¬1) تعمدت تكرار أهمية عدم الخلط بين مواقف الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية من ناحية والكنيسة البروتستانتية من ناحية أخرى للأهمية الكبرى لهذا الموضوع والذى لو استطعنا فهمه جيداً والتعامل على أساسه، فإن ذلك سيعطى نتائج إيجابية جداً، لان خطر الأصولية المسيحية لا يهدد الإسلام فقط، بل يهدد العالم اجمع، وعداء الجماعات البروتستانتية المتطرفة للكاثوليك والأرثوذكس لا يقل عن عدائهم للمسلمين، لانهم في الأساس اقرب إلى اليهودية منهم إلى المسيحية، ولذلك فهم يعادون من يعادى اليهود ويحاولون الانتقام من كل من اضطهد اليهود أو عاداهم على مر التاريخ. (¬2) الدين في القرار الأمريكي - محمد السماك - ص12 - دار النفائس- ط1 2003 (¬3) اوجه التشابه .. والاختلاف / د. جورج صبرا الخليج 15/ 2/2 .. 3 عدد8672

مواجهة الصهيونية المسيحية

ادعائها بالإنتماء للمسيح، ولذلك فإنني اعتقد أن الاهم هو زيادة وعي الناس بمواقف الكنائس المختلفة وثأثيرها على المؤمنين في كل مكان، وبذلك لا يقع الخلط. مواجهة الصهيونية المسيحية اعتقد اننا بتحديدنا لمفهوم الصليبيون الجدد نكون قد خطونا خطوة كبيرة في مواجهة هذه ظاهرة الصهيونية المسيحية، وسنلاحظ انه من خلال مزيد من التحليل لهذه الظاهرة سنتمكن من عزل مزيد من العوامل التى ستساعد في تضييق الخناق عليها وتحجيمها، ووضع الخطط لمواجهتها. فالرغم من قوة تأثير وفعالية الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة، فإن لها معارضين من داخل الكنيسة الإنجيلية نفسها، ومن خارجها، وهي ليست الوحيدة على الساحة، وهذا يعني ان مجال العمل مفتوح لمواجهتها والحد من فعاليتها. أولا: -المواجهة من داخل الكنيسة الإنجيلية تتمثل أهم قاعدة للمعارضة الإنجيلية في المجلس الوطني لكنائس المسيح ويضم هذا المجلس 34 طائفة يبلغ عدد أتباعها نحو الأربعين مليون شخص، وتصدر عن هذا المجلس مجلة شهرية تدعى (القرن المسيحي) كما تصدر عنه مجلة شهرية أخرى تدعى (المسيحية والأزمات). ويستقطب المجلس ومجلتاه الإنجيليين الليبراليين الذين يرفضون التفسير الحرفي للكتاب المقدس، كما يرفضون الصهيونية اللاهوتية في الكنيسة. ومن أبرز المواقف السياسية التي اتخذها المجلس الوطني لكنائس المسيح، إعلانه في عام 1979 م أن من حق منظمة التحرير الفلسطينية الاشتراك في أي مفاوضات للسلام باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. ويعبر عن هذه المواقف والآراء دوريات أخرى أبرزها، مجلة القيمون وتصدر في واشنطن العاصمة، مجلة الطرف الآخر، وتصدر في فيلادلفيا، ومجلة المصلح، وتصدر في ميتشجان. وهذه المجلات الثلاث تنتقد باستمرار وبشدة الصهيونية المسيحية، وتدعو إلى احترام حقوق الشعب الفلسطيني، وخاصة حقه في تقرير مصيره.

وهناك ايضاً عدد آخر من الكنائس الإنجيلية المتعاطفة مع هذا الخط، ولو بنسب متفاوتة، وهذا يعني أن ثمة طرقاً مفتوحة وجسوراً قائمة للعمل من أجل كبح جماح الصهيونية المسيحية، وعدم الاستسلام لنفوذها العدائي المدمر (¬1). وللعلم فإنّ العديد من المنظمات المسيحية الأمريكية بدأت تستشعر الخطر الصهيوني على أمريكا نفسها وعلى العقيدة النصرانية, وبدأت تتحدث عن الأخطار المحدقة بالنصرانية كتوجّه عقائدي وسياسي, وقد تدخل هذه التوجهات المسيحية المستيقظة في صراع سياسي مع اللوبي اليهودي في أمريكا لينعكس ذلك تذبذباً على المسار السياسي الأمريكي (¬2). واعتقد ان اهم طريقه لمواجهة اتباع الصهيونية المسيحية هو العمل بكل الوسائل على نشر الحقائق عن الصراع الدائر في المنطقة، والعمل على توعيتهم واخراجهم من حالة العزلة والانغلاق الفكرى الذى يسيطر على تفكيرهم، بسبب المعلومات المغلوطة التى يحصلون عليها من الطرف الصهيونى ومن مراجعهم الدينية المشوهة. ثانيا: المواجهة من خارج الكنيسة الإنجيلية الكنيسة الكاثوليكية عرضنا سابقاً لموقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود ودولة اسرائيل، حيث اتضح لنا رفضها لكافة دعاوى اليهود في فلسطين، حيث تعتبر هذه الكنيسة اكبر الكنائس المسيحية في العالم، ومركزها الروحى هو الفاتيكان في روما، حيث ظلت هذه الكنيسة بالرغم من كل الهجمات والمؤامرات التى تعرضت لها من اليهود والبروتستانت، محافظة على التعاليم المسيحية المعروفة التي تتعلق باليهود، والتى تناقض تماماً تحريفات لوثر التى افرخت الاصولية المسيحية. فالكنيسية الكاثوليكية تعتبر من اكبر الكنائس المسيحية انتشاراً وتعداداً، حيث ينتشر اتباعها في كافة ارجاء العالم ويشكلون الغالبية في اوروبا الغربية، باستثناء بريطانيا وهولندا وبعض الدول الاسكندنافية. كما يشكلون الغالبية العظمى في أمريكيا اللاتينية ودول العالم ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية - محمد السماك ص 149 - دار النفائس - ط3 2000 (¬2) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm

الثالث. اما استراليا ونيوزيلندا فهما ذات غالبية بروتستانتية انجلوسكسونية. اما أمريكيا وكندا فغالبية سكانها من البروتستانت، وان كان تعداد الطوائف الاخرى يمثل نسبة لا يستهان بها، ولكن الامر المهم هنا هو ان البروتستانت يشكلون الطبقة الحاكمة في هذه الدولة منذ تأسيسها، ولعبوا دوراً كبيراً في تشكيل الفكر والتقافة الأمريكية حتى الآن، والتى انعكست على موقف أمريكا تجاه العالم الإسلامى وقضية فلسطين كما وضحنا. ولكن بالرغم من هذه السيطره الانجلوسكسونية البروتستانتية على مقاليد الامور في أمريكا، فان هناك الكثير مما يمكن للاقليات الاخرى عمله واحداث التغيير المطلوب، وبالذات الكاثوليك الذين يمثلون ثانى قوة على الساحة الأمريكية. ففي العام 1982 نشر الكتاب السنوي للكنائس الاميريكيه - الكندية إحصاء لتعداد التابعين للطائفة الكاثوليكية في الولايات المتحدة فقط، وقد بلغ المجموع الكلي لكاثوليك أمريكا حسب هذا الإحصاء 54.088.774 مواطناً أمريكياً، ولكن يبدو التأثير الكلي للكاثوليكية وتعاليم الكنيسة على الوضع السياسي التعددي في الولايات المتحدة متواضعاً، بسبب ان الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية تهتم دائماً وبشكل خاص، بقضايا تهميش المهاجرين وحقوقهم، وهذا مرجعه جذورها التاريخية ككنيسة مهاجرين. ومن المقدر بحلول عام 2005 أن تصبح نسبة 50% أو اكثر من كاثوليك الولايات المتحدة منحدرة من أصول أسبانية (أمريكا اللاتينية) وكثير منهم لن تكون الإنجليزية لغتهم الأصلية (¬1). ولا شك ان هذا التغيير سينعكس على الخارطه السياسية الأمريكية في المستقبل إذا امكن تجميع هذه القوه والاستفاده منها. فالكاثوليكية الأمريكية، ككنيسة مهاجرة وسط اغلبية بروتستانتية، ابقت على ارتباطها بالفاتيكان كتعبير عن الهوية حتى لا تكون في وضع هامشي، في مواجهة البروتستانت (¬2). ولا شك إن موقف الكنيسة الكاثوليكية كما هي ممثلة في مركزها التاريخي (الفاتيكان) ظل معادياً لليهود باعتبارهم قتلة المسيح التاريخيين، ثم نشأت ¬

(¬1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1 - مايكل كوربت-جوليا ميشتل كوربت ص143 (¬2) المسيح اليهودي - رضا هلال - مكتبة الشروق الدولية- ص172

اعتراضات داخل العقيدة الكاثوليكية، تقول بفصل اليهود المعاصرين عما اقترفه العبرانيون القدامى بحق المسيح، ويشبه هذا المنطق ما تعبر عنه الآية الكريمة (ولا تزر وازرة وزر أخرى). ورغم التخفيف الكاثوليكي من لهجة العداء الديني لليهود فان الفاتيكان بشخص البابا بيوس العاشر كان قد أعلن رفضه للدعاوى اليهودية - الهرتزليه في فلسطين فاثر لقاء بين البابا ببوس وتيودور هرتزل في السادس والعشرين من كانون الثاني عام 1904 انتهى اللقاء بإعلان فاتيكاني حاسم "إن البابا يعلن معارضته الكلية للحركة الصهيونية وللهجرة اليهودية إلى فلسطين". ومن الطبيعي إن موقف الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة، كان يحذو حذو الموقف لدى الكنيسة الام في روما (¬1)، وهذا يجعل الكاثوليك مؤهلين للعب دور هام جداً في تغيير السياسة الأمريكية تجاه منطقتنا، بل وتجاه العالم. ولكى يتم ذلك لابد من حدوث تعاون مثمر مع زعماء الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا، والفئات الاخرى المهمشة مثل العرب والمسلمين، الزنوج والآسيويين، وحتى بعض فئات البروتستانت، وهذا التعاون يهدف في الاساس إلى زيادة ثميل هذه الفئات في الحكومة الأمريكية والكونجرس، وتشكيل قوة ضغط موازية للتيار الاصولى المتعصب لتحجيمه والتقليل من خطره. وربما يقول البعض انه من الصعب الوصول إلى هذا الامر بسبب اختلاف مصالح هذه الاقليات. والرد على ذلك، هو ان اى اختلافات في المصالح لا يجب ان تكون عائقاً في سبيل التصدى لهذا الوحش الذى يهدد الحضارة الانسانية، وقد عرضنا بما فيه الكفايه للخطر الذى يمثله التيار الديني الاصولي الذي يحكم أمريكا الآن على العالم باسره. وسبب تركيزنا على الكاثوليك، هو انهم اقدر الجماعات على التصدى لهذا الخطر، وبالذات بالنظر إلى الدعم الذى سيتلقونه من الدول الكاثوليكية في اوروبا وأمريكا اللاتينية، والتي بدأت تنظر بحذر لعلاقاتها مع أمريكا بسبب علاقاتها المريره معها والتى عرضنا لجزء منها في السابق، والاهم من ذلك هو انهم سيساهمون وبدرجة كبيرة في وقف التهويد المنظم للمسيحية. فالقاعدة المسيحية الكاثوليكية الأمريكية لا تزال محافظة على مبادئها اللاهوتية، ولا تزال متمسكة ¬

(¬1) على أعتاب الألفية الثالثة- الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لاسرائيل- حمدان حمدان ص142

بالثوابت الفاتيكانية، ولا زال للفاتيكان تأثير على الدور السياسي للكاثوليك، حيث أن للكنيسة والقساوسة تأثيراً يفوق أحياناً الساسة العلمانيين. فقد حجب الكاثوليك اصواتهم عن روزفلت عندما طلب منهم القساوسة ذلك. وتحت تأثير الكنيسة تكتلوا في انتخابات عام 1960 خلف المرشح الديمقراطي الكاثوليكي جون كيندي (¬1). وهذا يعني أن المجال مفتوح لعمل إسلامي - كاثوليكي مع الفاتيكان مباشرة ومع الكتيسة الكاثوليكية الأمريكية، من أجل بلورة جوامح مشتركة ضد الصهيونية المسيحية وأهدافها في فلسطين والمنطقة العربية. ويؤكد إمكان هذا العمل وقائع الإجتماع الذي عقده الكاردينال كوك في بيروت مع عدد من أعضاء مجلس النواب اللبناني، فقد توجه الكاردينال إلى الأعضاء المسيحيين منتقدا بشدة الإتصال المسيحي اللبناني مع إسرائيل، وقال لهم:"إن الولايات المتحدة هي أكبر دولة في العالم، لم تتمكن من التعامل مع إسرائيل على قاعدة الأخذ والعطاء، فإسرائيل تأخذ ولا تعطي" وحذرهم من أن الاتصال الذي تم مع إسرائيل يمكن أن يكون خطأ، ولكن إذا تكرر أو تواصل فإنه يصبح جريمة (¬2). الكنيسة الأرثوذكس الأرثوذكس هم أتباع الكنيسة الشرقية التي كان مقرها في القسطنطينية، حيث ينتشر أتباعها في البلاد العربية واليونان وروسيا والبلقان. "وقد انفصلت هذه الكنيسة عن الكنيسة الكاثوليكية أيام ميخائيل كارولا ديوس بطريرك القسطنطينية في عام 1054م، وهي الآن مؤلفة من عدة كنائس متفرقة" (¬3). وأسباب انقسام الكنيسة إلى شرقية وغربية "يرجع إلى تساهل كنيسة روما (¬4) الكاثوليكية - لتجذب لها الجرمان واللادينيين - فأحلت لهم أكل الدم المخنوق وأباحت للرهبان أكل دهن الخنزير وغير ذلك من الأمور التي لم تقبلها الكنائس ¬

(¬1) المسيح اليهودي - رضا هلال - مكتبة الشروق الدولية- ص174 (¬2) الصهيونية المسيحية محمد السماك ص 166 - دار النفائس - ط3 2000 (¬3) سلسلة مقارنة الأديان - د. أحمد شلبى - ج2 (المسيحية) - ص 239 (¬4) يقول أمام المعتزلة القاضي عبد الجبار: إن النصرانية عندما دخلت روما لم تنصر روما، ولكن النصرانية ترومت.

الشرقية" (¬1). ويمكن اجمال اسباب الانفضال في سبب واحد وهو الخلاف بين الروح الشرقية التي تميل إلى التوحيد والروح الغربية التي تميل إلى التعدد، حيث انعكس هذا الخلاف على عقيدة كلاً الكنيستين حول طبيعة المسيح والروح القدس وغيرها من الأمور. فالكنيسة الأرثوذكسية تقول أن للمسيح طبيعة واحدة ومشيئة واحدة، أما الكاثوليك فيقولون أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، أي أن آثار التوحيد التي انفطر عليها الشرقيون واضحة في عقيدة هذه الكنيسة، بعكس الكنيسة الكاثوليكية التي تأثرت بالحضارة اليونانية والرومانية فمالت إلى التعدد. "وهذا الجدل اللاهوتي هو الذي يتيح لنا أن ندرك سبب الاستجابة السريعة إلى الإسلام من قبل الاريوسيين الذين وجدوا في الإسلام صدى لعقيدتهم، فحينما ظهر الإسلام كان رفضه لالوهية المسيح هو الامر الجوهري الذي تمركزت حوله الوان الجدل مع الكنيسة في فلسطين وفي البلدان التي اخذت بمذهب اريوس أو بمذهب تابعه نسطور. والتوحيد في الإسلام كما هو لدى اريوس يرفض فكرة التثليث (الاقانيم الثلاثة) التي صيغت بمنطق الثقافة اليونانية في مجمع نيقية" (¬2). والكنيسة الأرثوذكسية تتخذ موقفاً مناهضاً للصهيونية المسيحية على قاعدة الدفاع عن العقيدة المسيحية في الدرجة الأولى. ويعكس هذا الموقف البيان الذي أصدره (مجلس كنائس الشرق الأوسط) عن الحركات الإنجيلية الغربية الجديدة حيال الشرق الأوسط والذي أكد فيه على: "أن التعاظم المفاجئ في نشاط الحركات الإنجيلية الغربية وعددها، وفي نشاط المراسلين العاملين في الشرق الأوسط، هو مسألة تهم كنائس المنطقة ومجلس كنائس الشرق الأوسط. ففيما نجهد لاستعادة وحدتنا في المسيح، تعترينا مخاوف من أن بعض هذه المجموعات تحدث أثراً انقسامياً، فبعضها لا يعترف للكنائس في الشرق الأوسط بتاريخها وشهادتها ورسالتها الخاصة، وبعضها الآخر يصر على زرع رؤية لاهوتية غريبة على ثقافتنا، بل أن اختلاط المفاهيم أحدث قلقاً، وبخاصة بين الإنجيليين والأسقفيين من أعضاء مجموعة كنائس المجلس الذي نجحوا في آداء شهادة أصلية وملائمة ثقافياً". ¬

(¬1) سلسلة مقارنة الأديان - د. أحمد شلبى - ج2 (المسيحية - ص 240 (¬2) تاريخ اوروبا في العصور الوسطى - د. سعيد عبد الفتاح عاشور- ص 4 - دار النهضة العربية - بيروت

ويضيف البيان بالقول: "أن بعض هذه المجموعات والحركات تتميز بسمات جديدة وفريدة تنذر بنسف الشهادة المسيحية، لا في الشرق الأوسط فقط، بل في مواطن هذه الحركات أيضاً، وهذا يلقي على كاهل كنائس تلك البلاد مسئوليات معينة، بخاصة في الولايات المتحدة حيث نشأت هذه الحركات. ولا حاجة إلى القول أن أي جماعة لا تستطيع التحدث نيابة عن كنائس مسيحيي الشرق الأوسط إلا كنائس هذه المنطقة، ولما كان مؤتمر بال (¬1) قد حاول ذلك، فإنه يتعين علينا أن نرفض علناً مقرراته وتوصياته. إننا نعاود إعلان الإلتزام بالعدالة والسلام في الشرق الأوسط وفي العالم، ونعتبر التزامنا هذه هو إعراب عن إخلاصنا لإنجيل يسوع المسيح وعن اهتمامنا الأكيد بالمتألمين والمحرومين من حقوقهم الأساسية" (¬2). فهذا الوقفه التي وقفها مجلس كنائس الشرق الاوسط، تعبر في الاساس عن انتماء اصيل لهذه المنطقة، بالاضافة إلى انتماء لا يقل اصاله لرسالة السيد المسيح التي تخضع الآن للتهويد المنظم على يد اليمين المسيحي المتطرف. وقد وضح الاستاذ سمير مرقص الدور الذي مارسه اليمين المتطرف لتلويث المسيحية، حيث ذكر "أن هذه المحاولة لتشويه ديانة المسيح جاءت من خلال الإيمان المسيحي بفكرة أن الله جاء لفئة محدده وهي شعب الله المختار، وهي فكرة فاسده ترفضها المسيحية في جوهرها كما يرفضها الإسلام" (¬3). الكنائس العربية يمكن للكنائس العربية ان تلعب دوراً مهماً في مواجهة المسيحية الصهيونية، باعتبار ان المسيحية نشأت في المنطقة العربية، وتضم بين جنباتها اهم الاماكن المقدسة المسيحية التى يحج اليها المسيحيون من كل مكان في العالم، مما يعنى وجود فرصة كبيره امام الكنائس العربية لتوضيح الحقائق وفضح المخططات العدوانية للصهيونية المسيحية، وهذا ما قامت به كثير من الكنائس العربية حتى الآن وبنسب متفاوته، كالكنيسة القبطية المصرية والكنائس الكاثوليكية ¬

(¬1) المقصود هنا المؤتمر الذى عقدته السفارة المسيحية الدولية التى سبقت الاشارة اليها. (¬2) الصهيونية المسيحية محمد السماك ص 161. (¬3) الصهيونية المسيحية مسخرة لخدمة إسرائيل- سمير مرقص الخليج 15/ 2/2 .. 3 عدد8672

والارثوذكسية. ففي موقف واضح وعلني ضد الصهيونية المسيحية، صدر عن السيد (غيربال حبيب) الأمين العام للجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط بيان، ادان فيه "سوء استخدام الكتاب المقدس وإثارة المشاعر في محاولة لتبرير خلق دولة ما - إسرائيل - ولتشريع سياسات حكومة ما- الحكومة الإسرائيلية". وارفق هذا الموقف المبدئي بدراسة لاهوتية - تاريخية تسفه الصهيونية المسيحية وتؤكد اعتبارها خطرا على المسيحية، وتدعو الدراسة " كنائس الشرق الأوسط إلى تذكير المسيحيين في العالم باستمرار إلى أنهم يرفضون الأيدلوجية والأهداف السياسية للإتجاه الصهيوني المسيحي"، كما تدعو القيادات الكنيسة إلى إصدار البيانات التي تندد بهذا الإتجاه وإلى توعية مستمرة ودائمة في إطار الثقافة الكنسية" (¬1). ويضاف إلى ما تقدم ان على الكنائس العربية مهمة اخرى وهي ضرورة حمل رسالة السيد المسيح من جديد وتوضيح مبادئها الحقة والتي تم الابتعاد عنها بل ونقضها بسبب التهويد المنظم للمسيحية على يد حركة الاصلاح الديني. وهنا يقول (إبراهيم متري رحباني)، مؤلف كتاب (المسيح السوري) الذي نشر أول ما نشر باللغة الانجليزيه في الولايات المتحدة الاميركيه عام 1916 وأعيدت طباعته هناك سبع عشرة مره بين العامين 1916، 1937: "انه لمن الصعب جداً إن لم يكن مستحيلاً، إن يستوعب شعب ما وبشكل كلي، أدباً لم ينبثق من وسط حياته القومية". وهنا يجب ان نسأل إلى أي مدى نجح الغرب عامة، الولايات المتحدة الأمريكيه خاصة بفهم رسالة السيد المسيح؟ ونحن لا نسأل السؤال للمعرفة التي لا تفيد، بل للمعرفة التي ينتج عنها سياسات تحدد اتجاهنا كأمة تقترب من طاولة حوار الحضارات أو ساحة صراعها (¬2). وهذا يعنى بأنه لابد من حمل رسالة السيد المسيح مجدداً إلى الغرب وأمريكا بالذات، لتوضيح مبادئها الحقة ولازالة سوء الفهم والتشويه التى تعرضت له هذه الرسالة، وخير من يقوم بذلك هم ابناء هذه المنطقة، وهذا يتطلب دعم كنائس الشرق المسيحية، حيث سيساهم ذلك في حرمان "الهيمنة الأمريكية المفترضة من رداء التدين الزائف الذي يرفعه قادتها. ولو تزايد تأثير دور البابا ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية محمد السماك ص 149 (¬2) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحية- عرض وتوثيق هشام آل قطيط- ص233 - دار المحجة البيضاء - 2003

شنودة وبابا الفاتيكان ورئيس مجلس الكنائس الانجلية في ابراز الآثار السلبية للهيمنة الأمريكية الاحادية على العالم والسلام الدولي، فلابد وان يحدث هذا تغييراً جوهرياً في عوامل القوة الأمريكية الحالية (¬1). كما ان المسيحيين العرب يمكن ان يقوموا بمهمة حلقة الوصل بين الحضارتين العربية والغربية، وهذا ما طرحه (مكسيموس الخامس) حكيم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الكاثوليك في أثناء زيارته للجزائر في نيسان 1987 حيث قال: "العالم العربي - الإسلامي والطوائف العربية - المسيحية وجدت من اجل ان يكمل بعضها بعضاً .. نحن العرب - المسلمين والعرب المسيحيين - كلنا ننتمي إلى جنس واحد. نعبد إلهاً واحداً. ونحن كلنا نجل ونحترم الانبياء جميعاً. أما خلاصنا، فإنه يتجسد في الاعتراف بتلك الاختلافات في القيم، التي تمثل كل جانب، وبإمكان كل جانب اكمال الجوانب الأخرى. ان انفتاح المسيحية على الثقافة الغربية لا يحولها إلى أخ خائن للمسلمين. بل ان هذا الانفتاح يمكن أن يجعل من المسيحية حلقة وسطية بين الحضارتين، بين الثقافتين، بين الديانتين، اللتين تؤمنان برب واحد" (¬2). ولكن ما يعيق هذا المهمة وغيرها ويفشلها في بعض الأحيان، هو ما حدث ويحدث من اضرابات وصراع بين المسلمين والمسيحيين العرب في منطقتنا، والتي تقف ورائها الصهيونية العالمية، حيث اساءت هذه الصراعات لقرون طويلة من التعايش الخلاق بين الجانبين، في جو سادته الاخوة والمحبة. نعم لقد سعى الإستعمار والصهيونية العالمية إلى خلق الفرقة والتشتت في صفوف الأمة العربية، وذلك عن طريق إثارة الفتن الطائفية بين المسلمين والمسيحيين من أجل إتخاذ هذه الفتن ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية بالزعم بأن هدفهم حماية الأقليات المسيحية، كما أنهم يهدفون من وراء إثارة هذه الفتن إلى إضعاف الدول العربية حتى يسهل عليهم السيطرة والتحكم في مصيرها. وقد اتبع الاستعمار الغربي هذا الأسلوب قديماً وحديثاً في محاولته السيطرة على الأمة العربية. وهنا ¬

(¬1) المؤامرة الكبرى - مخطط تقسيم الوطن العربي من بعد العراق؟ محمد ابراهيم بسيوني ص121 - دار الكتاب العربي - ط1 2004 (¬2) الإسلام والمسيحية من التنافس والتصادم إلى الحوار والتفاهم- تأليف اليكسي جورافسكي - ترجمة د. خلف محمد الجراد - ص212 - دار الفكر المعاصر - ط2 2000

يقول برناند لويس: "الواقع أن إلحاق المنطقة العربية بالغرب لم يكن ممكناً إلا عن طريق تفكيكها وتجزئتها، ولو أعطيت لأي سياسي في العالم مسألة يسألونه فيها أن يسعى إلى إلحاق المنطقة العربية بالغرب، لما اختار غير الأسلوب الذي اختاره الغرب فعلاً، وهو تفكيك المنطقة بالفتن الطائفية والتفتيت الإجتماعي والثقافي، وافتعال الخصومات والفروقات، وتوسيع مواطن الاختلاف والمبالغة في إبرازها. وليس من شك في أن من يسعى إلى هذا يحزنه مشهد السلام بين الطوائف ويسعده إندلاع التقاتل بينها، ولعل من يستبعد دور الغرب في إشعال فتيل هذا التقاتل هو واحد من اثنين، خادع أو مخدوع" (¬1). ولما كانت الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية العربيتين، وخاصة في مصر ولبنان، تتمتعان بموقع يمكنهما من دفع الحوار الإسلامي - المسيحي في الاتجاه الصحيح، فأن إثارة الاضطرابات الطائفية في لبنان ومصر، ودور إسرائيل في هذه الإثارة، يستهدف في الدرجة الأولى طعن مصداقية الكنيستين ورجالهما أمام المسلمين وطعن المصداقية الإسلامية أمام القيادات المسيحية، وبالتالي تعطيل القيام بهذا الدور الحواري التوحيدي. فالعرب والمسلمين في تصديهم للصهيونية بوجهيها اليهودي والمسيحي، يحتاجون إلى التحالف مع الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية وحتى مع بعض الكنائس الإنجيلية التي تعتبر الصهيونية معادية لها وخطراً عليها. ومن مستلزمات هذا التحالف تعزيز التفاهم الإسلامي المسيحي وإخماد الفتن الطائفية التي تنفجر مرة في لبنان، ومرة ثانية في مصر .. ومرة ثالثة في السودان، والقفز من فوق مخططات التجزئة والتقسيم التي تروج لها إسرائيل كقاعدة لأمنها الاستراتيجي. إن الإدانة التي تصدر عن بعض المسلمين ضد الكنيسة أو عن بعض المسيحيين ضد الإسلام فوق أنها إدانة ظالمة وخاطئة بالمطلق، فإنها تعطل سبل تفاهمهما وتقطع الطريق أمام تحالفهما. وكلما ازدادت الهوة اتساعاً بين المسيحية والمسلمين، تتقدم الصهيونية المسيحية خطوات إلى الأمام نحو أهدافها على حساب الإسلام والمسيحية معاً. فقد أدى التحالف بين دول إسلامية وعربية مع الكتلة ¬

(¬1) من يحمى المسيحيين العرب- فكتور سحاب- ص 57 - دار الوحدة,- ط1 1981

الشيوعية - السابقة - في الخمسينات من هذا القرن، إلى إضرام النار في حقل التفاهم الإسلامي المسيحي الجاف، حيث لعبت الخلفية الاستعمارية لدول أوروبا الغربية، والخلفية الصهيونية لسياسة الولايات المتحدة، الدور الأساسي في دفع بعض الدول العربية والإسلامية إلى أحضان الكرملين، رغم العداء للشيوعية كعقيدة. وقد وظفت الصهيونية اليهودية، والصهيونية المسيحية هذا الأمر لتوسيع الهوة بين العرب والغرب، وبين الإسلام والمسيحية. وقبل أن تتكشف خطورة الفصل بين المسيحية، والصهيونية المسيحية، كانت أحكام الإدانة المشرعة قد عطلت لغة الحوار والتفاهم على قواعد العقائد والمصالح المشتركة. ومع الوقت أصبحت الإدانات المتبادلة قوالب جامدة لعلاقات سيئة، ولم تتمكن مؤتمرات الحوار الإسلامي المسيحي أن تفعل الكثير لتحطيم هذه القوالب، ومن ثم لدفع العلاقات نحو آفاق التعاون الرحب والمفتوح أمامها. كما كان للفتنة في لبنان آثار مدمرة على محاولات الحوار المتواصلة التي جرت في الثمانينات في روما وأثينا ومدريد وقبرص، وحتى في الولايات المتحدة نفسها. فالمثال اللبناني الراقي على التعايش بين المسلمين والمسيحيين تحول بفعل التدخل والتحريض الإسرائيلي والدولي إلى وحش مخيف. وما لم يدرك المسلمون والمسيحيون داخل لبنان وخارجه، أن ما حدث في لبنان هو جزء من الصراع بين الصهيونية (اليهودية والمسيحية) وأعدائها، فإن كل حسابات التعامل مع أسباب ونتائج هذه الفتنة، ستبقى حسابات خاطئة ومتعثرة. إن ما حدث في لبنان كان نتيجة ولم يكن سبباً، كان أداة ولم يكن هدفاً. لم يكن ما حدث نتيجة لاستحالة التعايش الإسلامي - المسيحي، ولكنه كان سبباً لنجاح هذا التعايش. فالذين ساءهم نجاح التجربة اللبنانية عملوا على ضربها. ولم يكن ضرب هذه الصيغة هدفاً في حد ذاته، بل أداة لضرب هدف أكبر، هو التفاهم الإسلامي المسيحي ضد الصهيونية (¬1). ومما يدل على ذلك هو ان أول رد على أكاذيب الصهيونية المسيحية في عقر دارها في ¬

(¬1) الصهيونية المسيحية محمد السماك ص 149

دور المسلمين والعرب في أمريكيا في المواجهة

الولايات المتحدة الاميركيه كان بقلم القس إبراهيم متري رحباني في كتابه (المسيح السوري) المطبوع في أميركا عام 1916 (¬1). دور المسلمين والعرب في أمريكيا في المواجهة إذا كنا عرضنا في السابق للدور الذي يمكن ان تقوم به الكنائس المختلفة والكنائس العربية في مواجهة الصهيونية المسيحية، فإن هناك دور مهم وحيوى يمكن ان يقوم به المسلمون والعرب داخل أمريكا، بسبب تاريخهم الطويل وثقلهم العددى الذى يمكنهم إذا ما تعاونوا مع الجماعت الاخرى، من تشكيل قوه ضاغطه ومؤثرة في صناعة القرار في أمريكا. ويكفي ان نعلم ان المسلمون كانوا من اوائل النازلين بأمريكا. يقول بول فندلى: "قدم المسلمون إلى شواطئ أمريكا طواعية، وكان بعضم بين اوائل النازلين بأمريكيا الشمالية، وتشير وثيقة قديمة إلى ان البحارة المسلمين قدموا إلى أمريكيا الشمالية عام 1178، اى قبل ثلاثة قرون من رحلة كولمبس الأولى. وكان بعض اولئك البحارة من الصين وآخرون من غرب افريقيا. وفي عام 1310 كان مسلمون من منطقة مالى في افريقيا، اول من استكشفوا المناطق الداخلية التى اصبحت فيما بعد الولايات المتحدة، مستخدمين نهر المسيسبى طريق مرور لهم. وفي عام 1492، كان عدة بحارة مسلمين بين بحارة كولمبس اثناء رحلته الناجحة إلى العالم الجديد. وحمل معه ايضاً وثيقه يشير فيها العالم العربى الادريسى إلى ثمانية مستكشفين قد اكتشفوا قارة جديدة قبل ذلك بعدة سنوات" (¬2). وهذا التاريخ الطويل للمسلمين في أمريكيا، والذي لن يعجب الانجلوسكسون، يعطي مشروعية تاريخية للوجود العربي الإسلامي في أمريكا. والمشروعية التي نقصدها تنبع من كوننا كمسلمين وعرب اصحاب رسالة حضارية انسانية تحترم الآخر وتتفاعل معه. والدليل على ذلك انه عندما اكتشف المسلمون أمريكا قبل كولمبس، لم يسرقوا ويدمروا ويقتلوا اهل البلاد الاصليين، بل تفاعلوا معهم، وبنوا ¬

(¬1) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحية- عرض وتوثيق هشام آل قطيط- ص13 (¬2) لا سكوت بعد اليوم - بول فيندلى- ص61 - شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- ط2 2001

مسجداً، ساهم في تأخير نهب أمريكا وابادة سكانها بعض الوقت. والمأمل ان يساهم وجودهم المتزايد الآن في أمريكا، في اعادة الامور إلى نصابها، واعادة الوجه الانساني لهذه القاره الذي سرقه الصليبيون الجدد. وبالرغم من صعوبه المهمة فأنه بإمكان المسلمين والعرب، القيام بذلك أو على اقل تقدير المساهمه به، من خلال التعاون مع الجماعت الأخرى المناهضة للوضع الحالي، يساعدهم في ذلك تزايد عددهم. ففى الوقت الحاضر تؤكد المصادر الاحصائيه الرسمية في أمريكا أن عدد المسلمين المتواجدين في أنحاء الولايات المتحده الأمريكيه بصورة رسميه يبلغ سبعة ملايين توزيعهم كالتالي: مليون مسلم أمريكي من أصول عربيه، 3 مليون مسلم أمريكي من أصول امريكيه وغير عربيه، 3 مليون مسلم أمريكي من أصول غير امريكيه اغلبهم من باكستان والهند وإيران وتركيا والدول العربيه. أما مجموع إحصاء الأمريكيين من أصول عربيه المقيمين بصورة رسميه في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكيه فيبلغ ثلاثة ملايين عربي توزيعهم كالتالي: مليون مسلم بنسبة 33% (الجالية الثانية في أمريكا)، 300 الف بروتستانتي بنسبة 10%، 750 الف أرثوذكسي يوناني وكلداني بنسبة 19%، 60 الف أرثوذكسي مصري بنسبة 2%، مليون و 108 الف كاثوليك روم بنسبة 36% الجالية الأولى في أمريكا" (¬1). وبالرغم من هذا التاريخ الطويل والوزن العددي للمسلمين والعرب في أمريكا الا ان تأثيرهم في الحياة العامه حتى الآن لا يتناسب مع حجمهم وامكانياتهم. ففي حين قام بعض المسلمون، المنخرطون في انشطة تنظيمية وانشطة ذات صلة بالسياسة العامة، بخطى واسعه، مؤثرة في مجال التفاهم بين الديانات المختلفة، الا انهم ليسوا سوى جزء صغير من الجماعة الإسلامية في أمريكيا، حيث لا يزال عدد المسلمين المشاركين في المؤسسات الإسلامية في أمريكا قليل، غير انه يتضح ان هذه المشاركة تزداد اثناء الفترات العصيبة (¬2). واذا اعتمدنا لوائح العضوية والحضور في المؤتمرات السنوية التى تعقدها اكبر منظمتين اسلاميين، نستطيع ان نقدر ¬

(¬1) قرآن ... وسيف د. رفعت سيد احمد ص163 (¬2) المسلمون في أمريكا - المحرر ايفون يزبك حداد - مركز الاهرام للترجمة والنشر- ص15 - ط1 1994

عدد المسلمين المنخرطين في النشاط المنظم، لكن افضل التقديرات المبنية عليها تعطى رقماً لمجموع هؤلاء، لا يتجاوز مائتى الف ناشط، اما بقية المسلمين، وهم اكثر من ستة ملايين نسمة، فإنهم اكثرية صامته تقف على الهامش، ولا تقدم اى دعم، حتى انها تحجم عن المساعدة بالمال. ولهذا فقد احس قادة التنظيمات والجمعيات الإسلامية بهذا الامر، فبدءوا يركزون جهودهم لحث المسلمين على الانحراط في النشاطات العامه، حيث اثمر ذلك وبدأ يحرز المسلمون الأمريكيون، تدريجياً مكانه بارزة في الحكم، ويظهرون المهارة في مزاولة السياسة بعدما كانوا، لسنوات طويلة، في موقع المتفرج، وباتوا ينتخبون لتولى المناصب الرسمية، ويساعدون مرشحين آخرين على الفوز في الانتخابات، ويمارسون دوراً قيادياً في انشطة الاحزاب السياسية والانشطة السياسية الحكومية، ويؤسسون حضوراً في السلطة القضائية للدولة (¬1). ويرى فندلى، ان سبباً رئيسياً من اسباب بقاء الانماط المعادية للاسلام، هو واقع المسلمين الأمريكين الذين ما زالوا غير منظمين إلى حد بعيد، رغم وجودهم في أمريكيا منذ امد طويل. وعلى الرغم من تعاظم عددهم، فإن قيادتهم الوطنية لم تتبلور الا مؤخراً. يضاف إلى ذلك ان المسلمين الأمريكيين ليس لهم ثأثير يذكر في قرارات تغطية الاخبار بأى وسيلة من وسائل الاعلام، ومرد ذلك جزئياً إلى انخراط عدد قليل فقط منهم في ميدان الصحافة وامتهانها. فمعظم الاخبار التى تنشر وتبث في أمريكيا، يكتبها صحافيون لا يملكون معلومات وافية عن الإسلام، أو يملكون معلومات مضللة. واذا اراد المسلمون ان يكون لهم صوت مسموع في أمريكا فعليهم الاعلان جهراً عن هويتهم الإسلامية. والبحث عن وسائل تمكنهم من عرض حقيقة دينهم على غير المسلمين. فالرد على الافكار المنمطه، عبر تدابير تصحيحية متفاعلة مع الغير، هو امر اساسى، ولكن اتخاذ خطوات تتحكم بالوضع ولا تنتظر وقوع الواقعة للرد عليها، على القدر ذاته من أهمية الامر الأول. لهذا يجب على المسلمين الظهور بمظهر لائق في الدول التي يقيمون فيها، فعندما يهمل احد المسلمين واجبه كمواطن أو يسلك سلوكاً سيئاً، فإنه يجلب المعاناة للمسلمين كافة. ¬

(¬1) لا سكوت بعد اليوم - بول فيندلى-ص267

العلاقات العربية الأميركية

وعدم الطعن في كل صورة تشوه الإسلام، بل عدم الطعن في اى تقرير عن احداث مسيئة إلى الإسلام، تقع في اماكن بعيدة، مثل اندونيسيا والفلبين وافغانستان، يحمل المسلمين الأمريكيين عبئاً اضافياً مهما يكن مصدر الاساءة، ولهذا فإنه ينبغى لكل مسلم ان يشعر بواجب الدفاع عن ديانته ازاء تشوه حقائقها (¬1). فالعداء للعرب والمسلمين، الذي كان على الدوام جزءاً من الايديولوجية الغربية، يكاد يتحول الآن إلى هواية شعبية. هذا العداء تغذيه الرأسمالية العالمية الحريصة على تبرير استغلالها وعدوانها وتسخر في خدمته أدوات اعلامها الجهنمية، وهو يستند ايضاً إلى اسس اخرى كثيرة، بعضها تاريخي جيوبوليتيكي والآخر ثقافي ديني. على اننا نحن العرب والمسلمين نحسن صنعاً لو بدأنا، ليس بهم وبدوافعهم، ولكن بالصورة التي تطرحها افعالنا وقيمنا وأنماط سلوكنا وتفكيرنا- حكاماً وسواحاً وشعوباً- في اذهان العالم المعاصر، غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، لنعرف هل تجعلهم هذه الصورة أدنى إلى التعاطف مع قضايانا وثورتنا، وبوجه خاص ثورة فلسطين، ام هم ادنى إلى الوقوع في شراك العداء التي تنصبها لنا الصهيومية والامبريالية في كل مكان (¬2). العلاقات العربية الأميركية يعرض الأستاذ (محمد حسنين هيكل) في كتابه (الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق) تحليلاً قيماًً لحاضر ومستقبل العلاقات العربية الأمريكية، يمكن الاستفاده منه في وضع استراتيجيه خارجيه ودولية لعلاقات الدول العربية مع أمريكا والعالم، حيث يقول: تحيط بالعلاقات العربية الأميركية بيئة تتكون من شبه مستحيلات أربعة تبدو وكأنها أضلاع صندوق مغلق، وهي كما يراها هيكل: 1 - صعوبة إقامة صداقة حقيقية مع الإمبراطورية الأميركية, لأن تلك فرصة أفلتت من زمن طويل، فقد تبدت لها احتمالات ممكنة سنة 1945، ولكنها تبددت عام 1948. ¬

(¬1) لا سكوت بعد اليوم - بول فيندلى- ص244 - 353 (¬2) خروج العرب من التاريخ- د. فوزي منصور- ترجمة ظريف عبد الله و كمال السيد- ص 8 - مكتبة مدبولي - ط1 1993

2 - خطورة الدخول في عداء مطلق مع الإمبراطورية الأميركية, لأن هذه الدرجة من العداء تصل بحركة الأشياء إلى الصدام العنيف، وذلك تحد لا تستطيع الأمة احتماله، فهو في اللحظة هذه وللزمن المرئي يفوق طاقتها أو يتعدى مواردها. 3 - منزلق الاندفاع إلى النهاية في مثل هذا العداء بدون حد، لأن ذلك يصل بأصحابه إلى حالة من الكراهية العاجزة تضرهم بأكثر مما تصيب غيرهم، وتلك وصفة فشل أكثر منها نجاح بشري. 4 - استحالة الصبر إذا توهم العرب أن بإمكانهم تجاهل الإمبراطورية الأميركية وتركها لعوامل الزمن تعريها وتكسر شوكتها، كما حدث لإمبراطوريات سبقتها، لأن وزن الحقائق لا يسمح بمثل هذا التجاهل، فالواقع الراهن له أحكامه، وانتظار الظنون فرض يصعب اعتماده للتصرف الآني مع وجود الإمبراطورية الأميركية بسطوتها وبأسها في قلب العالم العربي بطلبه مرة أو بطلبها مرات. وبالرغم من هذه البيئه الشائكة التى تحيط بالعلاقات العربيبة الأمريكية الا ان الاستاذ هيكل يرى أن السياسة الأميركية برغم أنها تبدو أمام العرب عاصفة من العنف الأحمق والجامح، فإن ذلك ينبغي ألا يخيف ويغري بالفرار، لأن واحدا من أهم دروس التاريخ أن الإمبراطوريات العاتية تكابر حتى تصل إلى الذرى العالية، ثم تكتشف عند الوصول هناك أن البقاء فادح التكاليف، وعندها تظهر حتمية النزول، لكن الإمبراطوريات تعاند وساعتها يبلغ العنف مداه، وذلك ما حدث لكل الإمبراطوريات سابقاً، من الإمبراطورية الرومانية في العالم القديم، إلى الإمبراطوريتين الكبريين في التاريخ الإسلامي (الأموية والعباسية) في العصر الوسيط، إلى الإمبراطوريات الأوروبية في العصرين القريب والحديث. فتلك الإمبراطوريات جميعاً بلغت الذرى زمن الصعود، وكلها بعد ذلك وبسب أعباء وتكاليف الإمبراطورية اضطرت إلى النزول على السفوح، وكلها في حالة الصعود استعانت بالقوة، وكلها في اتقاء النزول قاومت بالعنف. وذلك ما يحدث للإمبراطورية الأميركية, وإن كان في حالتها يستدعي قدراً أكثر من الحرص والتدقيق، لأن هذه الإمبراطورية فصيلة تختلف عما سبقها، فهي تملك من عوامل القوة الاقتصادية والمالية ما يتفوق على سابقاتها طوال التاريخ، وهذه الإمبراطورية توظف لخدمة أهدافها أقوى وأكبر منجزات التقدم الإنساني في

عشرات الأسلحة لمواجهة أمريكا

جميع المجالات. وعاشت الإمبراطورية الأميركية بعيدة عن أي تهديد مباشر لأرضها وسكانها، وراكمت من أسباب القدرة والثروة مدداً وفيراً، وبالتالي قدراً ضخماً من المناعة والثقة بالنفس يزيد أحياناً على الحد. وتملك هذه الإمبراطورية سطوة في السلاح لم تتوافر لغيرها من الإمبراطوريات مع وجود توافق حرج بين التكنولوجيا العسكرية والتكنولوجيا المدنية. واستطاعت الإمبراطورية الأميركية أن تعرض من جاذبية النموذج ما يمهد لتوسعها وانتشارها، بغواية في أساليب الحياة تعزز وسائط القوة. وتمكنت الإمبراطورية الأميركية من أسلوب جديد في السيطرة، يقوم على نظام شديد الجرأة والجسارة إلى درجة الاقتحام والاختراق لخصوصيات الدول والشعوب، والقدرة على خطف وعي الآخرين وارتهانه أسير إعلام مصور وملون، مكتوب وناطق يعطي لنفسه احتكار وضع جدول اهتمامات الرأي العام العالمي وسحب الآخرين وراءه وجرهم مهرولين. ولكن الحكمة الصوفية القائلة "عند التمام يبدأ النقصان" صادقة بالعرفان والبرهان (¬1). عشرات الأسلحة لمواجهة أمريكا إن العالم الإسلامي والعربي بالرغم من ضعفه في الجوانب العسكرية والاقتصادية والسياسية، فإنه يظل يمثل أمة لها فكر وعقيدة وثقافة متميزة ترفض الولاء لغير الله، وذلك ما ترفضه أميركا التي تريد أن تطبع العالم بنموذجها في الحياة، واعتماد العولمة واقتصاد السوق والديمقراطية الغربية. وهذا ما أدى بها إلى اتخاذ موقف معاد للمسلمين بسبب تمسكهم بعقيدتهم التي لم يتمكن الغرب من زحزحتهم عنها رغم قوته وضعفهم. ومن هنا احتدم الصراع بين هاتين الحضارتين الغربية والإسلامية على جبهات عدة، منها الجبهة السياسية ويتم ذلك عبر مختلف هيئات الأمم المتحدة خاصة مجلس الأمن، والجبهة الاقتصادية حيث تعمل الولايات المتحدة على استغلال اقتصاديات الدول الإسلامية والهيمنة على خيراتها، والجبهة الثقافية إذ يتم من خلالها فرض القيم الغربية والعولمة الفكرية وإشاعة حرية ¬

(¬1) الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق- محمد حسنين هيكل- عرض/ إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت- 12/ 2/2004م

المعتقد والإباحية وحرية الإعلام وفق نموذج أميركي جاهز التنفيذ. وأخيراً الجبهة العسكرية وهي الجبهة المفتوحة على مصراعيها في فلسطين بدعمها التام لإسرائيل، وفي أفغانستان وسوريا وباكستان والعراق باعتماد سياسة، من ليس معنا فهو ضدنا" (¬1). من هنا فإن التركيز الأميركي على العالم الإسلامي يعبر عن تخوف من إقصاء أكثر منه عن قدرة على توسيع الإمبراطورية ويكشف قلق أميركا أكثر مما يعبر عن قوتها. والتركيز على العالم العربي يفسر أساساً بضعف هذا الأخير الذي يفتقر إلى وجود دولة قوية. فهو بطبيعته كبش فداء. وعليه فالعالم العربي يعد مسرحاً لاستعراض قوة أميركا التي بمقدورها أن تحقق فيه انتصارات، تذكر سهولتها بألعاب الفيديو. ولهذا يعد الخيار الأمريكي المناوئ للعرب خيار السهولة وليس مدروساً. فالعرب يعاملون بسوء لأنهم ضعفاء، ولأن لديهم النفط، ولأنه لا يوجد لوبي عربي فعال في اللعبة السياسية الداخلية الأمريكية (¬2). هكذا تريد أمريكا من عالم الإسلام حكاماً ومنظمات وشعوباً .. إن يصير الإسلام والمسلمون حملاً وديعاً قبالة الذئب الأمريكي لكي يغدو قصعة مشاعة يلتهمها ذوو الأنياب الحادة دون إن ينغصهم شيء أو يعترضهم عارض (¬3). ولكن هنالك حقيقة تغيب عن بال أمريكا، وهي أنه ما من قوة على وجه الأرض، تستطيع بالغة ما بلغت أن تقضي على الإسلام، ولو رافقتها كل أنواع المكر وأساليب الزيف والخداع، ومهما أعدت لذلك من الجيوش والأموال والتقنيات والخطط (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) الأنفال: 36. (ذلكم وان الله موهن كيد الكافرين) الأنفال: 18. ومن خلال عرضنا للتاريخ والفكر الامريكى اتضح لنا انه لا معايير اخلاقيه وانسانيه تحكم العقل الأمريكي الا عقلية الصراع والبقاء للأقوى الذي جسدته ثقافة رعاة البقر (الكاوبوي) في سنوات الهجرة الأولى إلى أمريكا وتجسدها الآن طائرات الاباتشي وأسلحة التدمير الشامل والصواريخ العابرة للقارات والقنابل الحرارية، ¬

(¬1) بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة-عرض/سكينة بوشلوح - الجزيرة نت (¬2) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز (¬3) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص97

ولذلك ليس للعالم أن يتوقع من أمريكا إلا سياسات الأذى والعدوان، والإثم ونهب الثروات والاعتداء على الحرمات بعد أن تترجم إرادتها المحركة لاقتراف ذلك إلى (قوانين) دوليه (وشعارات) معولمه تتمثل فيما تدعي انه: (قرارات مجلس الأمن) (الشرعية الدولية) وأمثال ذلك. لذلك من العبث أن يضيع العرب والمسلمون أوقاتهم في الحج إلى واشنطن، والطواف بالبيت الأبيض والتلبية في الكونجرس ومناشدة الشعب الأمريكي، ومن الأفضل لهم أن يركزوا جهودهم فيما نراه على أربعة محاور: 1 - بناء الجبهة الداخلية بناءاً لا تقل متطلباته عن التضحية بدول التجزئة من اجل دولة الوحدة، وبالسلطة الفردية المطلقة من اجل سيادة الأمة الواحدة، وبالسياسات الظالمة من اجل العدل، وبالدنيا من اجل الاخره وباختصار الاعتماد على الله والنفس وبناء القوة الذاتية وتفجير القوى الكامنة. 2 - القيام بحملة دعويه اسلاميه - عربيه عالميه في أمريكا وغيرها من محاور الطغيان، حملة غايتها إعادة هذا المغولي الجديد إلى إنسانيته وتوجيه قوته المفرطة لإنقاذ نفسه وإنقاذ الانسانيه من عواقب (دارونيته الاجتماعيه المدمره). 3 - ولتكون الحملة الدعويه المنشودة فاعله ومفيدة، يجب إنشاء مركز بحوث ودراسات تختص بدراسة أسس التفكير الاستراتيجي الأمريكي ومساراته المستقبلية بقصد التعرف على أساليبه والخروج به من سجن الشهوات إلى حرية النظر ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والاخره ومن عبادة البترول والدولار إلى عبادة الله وحده مع مراعاة أمرين مهمين: أ - الصبر والأيمان بالنصر والتحوط من الاصابه بمرض هذا المغولي الجديد. ب - الحذر من النموذج الإسلامي الذي تريده لنا الولايات المتحدة، وتضغط على الدول العربية والإسلاميه لتلقينه إلى الأجيال القادمة، كما فعل الإمبراطور قسطنطين الرابع عندما اجبر المجامع المسيحية الأولى على إخراج مسيحية رومانية. 4 - انه مهما قيل عن جبروت الولايات المتحدة وقوتها ودقة تنظيماتها وامتداد اذرع مخابراتها، فيجب إلا يغيب عن بالنا أن أمماً سابقه بلغت اكثر مما بلغته الولايات

المتحدة من الرفعة والمنعه فلما طغت وتجبرت استبدلها الله بغيرها، وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا (¬1). وهنا يتساءل المرء أحيانا إلا يمكن إن يوجه المستضعفون في الأرض من أبناء الأمة الإسلاميه المقهورة ضربات موجعة لأمريكا ومصالحها بعيداً عن التفجيرات ولعلعة الرصاص وأعمال العنف وخطف الطائرات؟ بعيداً عن كل ما يدفع (المحاولة) بالإرهاب ويعطي لأمريكا ومدللتها إسرائيل فرصاً أوسع للرد البربري الذي قد تكون خسائره التي تلحق بعالم الإسلام اكبر بكثير جداً مما يلحق بأمريكا نفسها، إلا يمكن استخدام سلاح النفط الذي يملك المسلمون في العالم المساحة الأكبر من مقدراته، ألا يمكن اعتماد سلاح المقاطعة للبضائع والمنتجات الأمريكيه التي تغذي الدخل القومي الأمريكي بمردود أسطوري يمكنها جنباً إلى جنب مع سياقات أخرى من حماية موازنتها المالية من الميل أو العجز، ألا يمكن إن يتفق العمال في كل مكان من عالم الإسلام على رفض شحن أو تفريغ السفن المحملة بالبضائع المصدرة أو المستوردة من أمريكا والتي تعين هي الاخرى الدخل القومي الأمريكي على إن يحفظ توازنه، ويمكن الإدارة الأمريكيه من ثم من إن تكون اكثر قدرة اقتصادية وعسكرية على التحكم بمصائر المسلمين في كل مكان؟ ألا يمكن إن تتردد الحكومات العربية والإسلاميه، ولو قليلاً في عقد صفقات السلاح العتيق (الستوك) الذي تبيعه إياها أمريكا بمليارات الدولارات بعد إن توشك على إلقائه في البحر إذ لم تعد جدوى من استعماله في زمن القفزات النوعية الاسطوريه في صناعة السلاح؟ ألا يمكن إن يتردد أرباب المال العربي والمسلمون في وضع أرصدتهم ذات الأرقام الفلكية في المصارف والمؤسسات المالية الأمريكيه، فيما يجعل الولايات المتحدة تتحقق بأكثر من مردود من جراء هذه الحالة قد يكون أولها توظيف هذه الأرصدة عبر أنشطتها الاقتصادية والتنموية في سياقاتها كافه وقد لا يكون آخرها التلويح بتجميد هذه الأرصدة حيثما ارتأت امريكه ضرورة إنزال العقاب بهذه الجهة أو تلك من المؤسسات المالية والاقتصادية في عالم الإسلام أو بهذا الرجل أو ذاك من ناشطي المسلمين في دوائر المال والاقتصاد. مجرد تساؤل ومرئيات قد تخطئ وقد ¬

(¬1) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص24 - 25

خطة عمل عربيه لمواجهة صهيونية الحركة المسيحية الأصولية

تصيب .. وإذا كان غاندي قد قاد أربع مائة مليون هندي في مجابهة (سلبية) للوجود الاستعماري في الهند فتمكن من الإمساك بخناقه، أفلا يكون بمقدار مليار وربع المليار من مسلمي العالم، يملكون الموقع والنفط والمعادن والمال .. إن يضيقوا الخناق على أمريكا لكي تكف على الأقل عن دعمها المطلق لإسرائيل التي تمارس ضد الشعب الفلسطيني واحدة من ابشع المجازر في التاريخ المعاصر (¬1). خطة عمل عربيه لمواجهة صهيونية الحركة المسيحية الأصولية بالرغم من ان هناك اليوم طوائف مسيحية مختلفة ومتعددة، فإن ما يعنينا هنا المذهبين الكاثوليكي والارثوذكسي، لان المذهب البروتستانتي خضع لعملية تهويد منظمة ابعدته عن روح المسيحية السمحمه. ومن هنا فإن التفاهم الإسلامي - المسيحي لكبح جماح الصهيونية المسيحية، فوق أنه ممكن، ومتوفر، فإنه سيكون شديد الفعالية، ذلك لأن الكنيسة الكاثوليكية - خلافا للبروتستنية - هي كنيسة مركزية موحدة، ويلتزم أبناؤها بفكرها اللاهوتي التزاماً شديداً، ثم إنها غير معنية على الإطلاق بأيديولوجية الكنيسة البروتستنتية التي تعلم أبناءها أن الله يتعامل مع الأمم حسب تعامل هذه الأمم مع إسرائيل، وأن عدم الوقوف إلى جانب إسرائيل هي معاداة الله، كما أن الكنيسة الكاثوليكية غير معنية بالأيدلوجية اليهودية البروتستنتية التي تزعم أن اليهود هم شعب الله المختار، وأن الله منح اليهود وعداً أبدياً بفلسطين. وبالرغم من انعقاد عدة مؤتمرات للحوار الإسلامي - المسيحي شارك فيها وشجعها الفاتيكان ودول ومؤسسات إسلامية متعددة، الا انها لم تتصد لهذه القضية الأساسية، ولم تشكل فرق عمل لوضع منهجية مشتركة تنطلق من ثوابت إيمانية ومن قناعات مشتركة لمواجهة خطر المسيحية الصهيونية. فالمواجهة يجب ان تشمل اقامة حوار بناء وهادف مع كافة المذاهب المسيحية وبالذات الكاثوليكية والارثوذكسية وذلك من اجل اقامة تحالف مع هذه الكنائس للتصدى وفضح المخططات العدمية للصهيونية المسيحية، والتى لا تهدد العرب والمسلمين فقط، بل ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص93 - 95

تهدد المسيحية ذاتها وتخرجها عن اطارها الصحيح، كديانه للمحبه والسلام، من خلال عملية التهويد المنظم للصهيونية المسيحية. وفي كتابه (البعد الدينى في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربى - الصهيونى) - اقترح د. يوسف الحسن خطة عمل عربيه لمواجهة صهيونية الحركة المسيحية الاصوليه شملت العناصر التالية (¬1): 1 - إعداد دراسة جادة ومفصله حول مواد التعليم في مدارس الأحد والمدارس الدينية، حيث تهدف الدراسة لاستكشاف العناصر الخفية والظاهره للاتجاهات الصهيونية والمؤيدة لاسرائيل، وتقديم ذلك إلى قادة مسيحيين ممن يتعاطفون مع وجهة النظر العربية، مثل المجلس الوطني للكنائس وذلك بهدف تشجيعهم على المطالبة بإصلاح برامج التعليم في المدارس الدينية وبخاصة مدارس الاحد. 2 - دعم وتشجيع عقد مؤتمرات دينيه مسيحية في الولايات المتحدة الأمريكيه وفي الوطن العربى، وبشكل دوري ومنتظم تناقش فيها مسائل العلاقات بين الدين وحقوق الإنسان، بهدف استكشاف وكشف استخدام الصهيونية السياسية للتوراه. 3 - تنظيم برامج زيارات دوريه متبادله لقادة مسيحيين أمريكيين للدول العربية، ولقادة مسيحيين عرب من مثقفين ورجال دين إلى الولايات المتحدة الأمريكيه، وإيجاد صلات عمليه بين الكنائس العربية والكنائس الأمريكيه وبخاصة الكنيسة الكاثوليكيه ومؤسساتها المختلفه. 4 - تنظيم حملة واعيه ومستمره في الصحافة ومحطات الراديو والتلفزة في الولايات المتحدة الأمريكيه، مستخدمة اللغة الكنسيه نفسها لتفنيد عدم صحة مقولات الصهيونية المسيحية مثل اطروحة شعب الله المختار ووضع مدينه القدس. 5 - دعم وتشجيع نشر معلومات معده بشكل علمي وميسر حول الإسلام ومعالجاته للقضايا الاجتماعية والسياسية ونظرته إلى الأديان الأخرى، بما في ذلك الدور العربي والإسلامي في نقل وتطوير وحفظ الحضارة الانسانيه، وذلك في محاولة للرد على اطروحات الاصوليه المسيحية التي تركز على وحدانية التراث المسيحي - اليهودي للانسانيه. ¬

(¬1) البعد الدينى في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربى - الصهيونى- د. يوسف الحسن ص 198 - 205

6 - وضع أسس حوار دائم بين الإسلام والمسيحيه واليهوديه، واستحداث أقسام داخل المنظمات والمعاهد والمراكز والمؤسسات الإسلاميه في الوطن العربي، مختصة بهذا الحوار وتنظيمه ونشر أبحاثه وقراراته. 7 - إعداد أفلام وثائقيه وسينمائيه متنوعه موجهة إلى الجمهور الأمريكي، تروى قصة العرب ودورهم في الحضارة الانسانيه وكذلك البعد الديني لاحتلال إسرائيل لفلسطين وأراض عربيه اخرى، إضافة إلى مسائل اليهود في التاريخ العربي وغير ذلك من القضايا، التي يمكن أن تشكل رداً على السينما الصهيونية المسيحية التي تعمل على تشويه صورة العرب. 8 - دعم وتشجيع إقامة صلاة إفطار دوريه من اجل القدس والسلام والعدل في فلسطين، يدعى إليها رجال دين مسيحيون عرب وقيادات من الكونغرس ورجال دين من مختلف الطوائف المسيحية الأمريكيه، ويصدر عنها قرارات أو بيانات. 9 - دعم وتشجيع نشر و (زرع) مقالات وأخبار حول مسائل تتعلق بحقوق الإنسان الفلسطيني في الأراضي العربية المحتلة والقدس كمدينه للسلام، وإثارة اسئله توراتيه حول معتقدات المسيحيين في العهد القديم والتشكيك بالملكية غير المشروطه لليهود في فلسطين. 10 - دعم وتشجيع (تعيين ضباط اتصال) لروابط ومنظمات مسيحية امريكيه في الأقطار العربية، لتسهيل الاتصال وتوفير التحليل والفهم والتفهم الموضوعين للقضايا المشتركة والخلافيه. 11 - دعم وتشجيع إيفاد واستقبال (بعثات لتقصي الحقائق) في ما يتعلق بفلسطين، تضم رجال دين وعلماء لاهوت وصحفيين مختصين بهذه الشؤون. 12 - لاول مره في التاريخ اصبح لدى الاصولية المسيحية تقنية الأقمار الصناعية للاتصال عبرها مع العالم (ولنشر الكتاب المقدس في كل انحاء الكرة الارضيه). وأي خطة للمواجهة لا بد أن تشمل عناصرها استخدام هذه الوسائل التقنية المعاصره. 13 - إصدار (مجلة متخصصه) توزع على مستوى الولايات المتحدة الأمريكيه إما بشكل اسبوعي أو شهري وموجهة إلى المجتمع الكنسي، لمعالجة المسائل الدينيه والقضايا السياسية والاجتماعية من منظور مسيحي يخدم وجهة النظر العربية المشتركه.

14 - تشجيع دعم نشاطات مسيحية غير صهيونية في إطار العمل التشريعي للجان الكونغرس، وبخاصة في مجال تقديم شهادات الاستماع ( Testimony) في المسائل الدينيه المسيحية. 15 - تنظيم حمله من اجل القدس، حيث ستظل مدينة القدس ومستقبلها في السنوات القادمه محور مناقشات واسعه، داخل أروقة واجتماعات الكونغرس الأمريكي، وفي صحافة مؤسسات الكنائس المسيحية، فضلاً عن منظمات الحركة الصهيونية اليهوديه. 16 - إنشاء إدارات أو لجان دائمه في المؤسسات الدينيه العربية بحيث تختص بشؤون الأديان السماوية والعقائد الاخرى، وتدريس الديانتين المسيحية واليهوديه في المعاهد والكليات الإسلاميه، بهدف تنمية فهم افضل لهاتين الديانتين وتوفير مناخ صحي موضوعي لحوار بين الأديان السماوية وبخاصة بين المسلمين والمسيحيين. 17 - بناء جسور منظمه بين المؤسسات الدينيه العربية وبخاصة مجلس كنائس الشرق الأوسط، وبين المجلس القومي للكنائس في الولايات المتحدة الأمريكيه بهدف التأثير في صياغة مواقفه وسياساته تجاه القضايا، وتبادل المعلومات والبيانات والزيارات وتبني مشروعات مشتركة في أنحاء متفرقة من العالم مثل مشروعات الاغاثه الانسانيه (¬1). ¬

(¬1) البعد الدينى في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربى - الصهيونى- د. يوسف الحسن ص 198 - 205

الفصل الثالث الحوار بين الأديان والحضارات

الفصل الثالث الحوار بين الأديان والحضارات في اطار حربها الضروس على الامه العربية والإسلامية، ولانجاح حربها الصليبية الجديدة، عمدت الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الدوائر الغربية إلى خوض هذه الحرب على كافة الصعد، حيث احتلت عملية تشويه صورة العرب والمسلمين اولوية رئيسة في اجندتها من اجل كسب المعركة، وذلك لتبرير كل ما تقوم به من دعم وتأييد لجرائم اسرائيل في المنطقة، ولتبرير جرائمها وتدخلها في شؤون المنطقة منذ عقود طويلة. لهذا فقد عمدت أمريكا على كافة المستويات إلى خلق صوره مخيفه للعرب والمسلمين مستغله صوراً نمطيه رسمها كثير من المستشرقفيين والمبشرين الغربيون عن الإسلام والعرب منذ زمن طويل، وقاموا من خلال مؤسساتهم ومراكز ابحاثهم بتضخيم هذه الصوره وتعميمها على الرأي العام المحلي والدولي، بل وفي احيان كثيره عمدوا إلى خلق هذه الصور وابرازها، كما حث في ما يسمونه (الحرب ضد الارهاب). وبالتأكيد فإن أمريكا في سعيها الدؤوب هذا لا يعنيها حدوث ايه تفاهم أو تقارب بين الأديان أو حدوث اي حوار حقيقي بين الحضارات، لان هذا يعنى نهايه الكذب والتضليل وانكشاف عدم مصداقية كافة الصور النمطية المشوهه عن العرب والمسلمين، والتى سعت هى وغيرها من الدوائر الصهيونية المعادية للعرب والمسلمين إلى ترسيخها في وجدان الرأى العام العالمي والغربي بصفة خاصه، وما يحدث الآن على الساحه خير دليل على ذلك من خلال تخويف الجميع مما يسمى الارهاب الإسلامى الذي صنعته هى، وبدأت في التدخل في المناهج الدراسيه والخطب الدينية، ومصارف الزكاه والصدقات، وما يجب وما لا يجب .. الخ. بحيث اصبحت محاربة ما يسمى (بالتطرف الإسلامي) الشغل الشاغل للعالم كله، لان أمريكا تريد ذلك، حيث تناسى الجميع _لان أمريكا تريد ذلك ايضاً- اصناف التطرف اليهودي والمسيحي الصهيوني، وتطرف المحافظون الجدد حكام البيت الابيض.

وهنا تقول المستشرقة (آرمسترونغ): "إن الإعلام الغربي يثير انطباعات بأن التشدد والتزمت الديني الذي يتسم بالعنف ويسمي (التعصب) هو ظاهرة إسلامية بحتة، لكن الحقيقة هي أن التعصب ظاهرة عالمية طفت علي السطح في كل الأديان الرئيسية ... فهناك تعصب يهودي (¬1)، وتعصب مسيحي، وتعصب هندوسي، وتعصب بوذي بل وتعصب كونفوشي. ولكن تعصب الأسواق هو أسوأ تلك الأنواع من التعصب، حيث أدي بشكل غير مباشر إلي نشوء كل ما سبق ذكره من صنوف التعصب. وكان أول أشكال التعصب قد ظهر في العالم المسيحي في الولايات المتحدة أوائل القرن العشرين". وتستطرد آرمسترونغ وتقول: "من بين ديانات التوحيد الثلاثة، كان الإسلام آخر الأديان التي ظهر فيها التيار المتعصب ... أواخر الستينيات والسبعينيات. وفي ذلك الوقت، كان التعصب قد أخذ من المسيحيين واليهود كل مأخذ" (¬2). ولكن مثل هذه الحقيقة التى تقولها المستشرقة آرمسترونغ وغيرها من العلماء والمفكريين الغربيين المنصفين، لا تروق لقادة أمريكا وبريطانيا وجموع اليمين المسيحي المتطرف، بل لا بد من ابقاء صورة الإسلام الارهابى والمتطرف الذى يهدد الحضارة الغربية. "فالأمريكي الابيض لم يفكر فيما فعله في الهنود الحمر وفيما فعل القراصنة البيض في الخمسة عشر مليوناً من العبيد السود الافارقه، الذين خطفوهم من أفريقيا وباعوهم في أسواق النخاسة، وفيما فعل الصرب من مجازر ومذابح لمسلمي البوسنه، وما فعله الأمريكان في هيروشيما، وما يفعله الاستعمار الأوروبي والأمريكي الآن في القارة الافريقيه في بلاد الماس والذهب .. زائير ورواندا وبوروندى. أين بربرية الإسلام المزعومة من هذه الإبادة والقتل الجماعي وخطف الملايين وبيعهم في أسواق العبيد وفي تشريد الشعب الزائيري ¬

(¬1) في كتابه الاصولية اليهودية يعرض المؤلف لاصناف مختلفة من التطرف والتحجر والجمود لدى الاحزاب الدينية اليهودية والذي لا يمكن مقارنته بأيه حال من الاحوال بمظاهر ما يسمى التطرف الإسلامي، ولكن موضوع هذا التطرف لا يسلط عليه الضوء من قبل الاعلام الأمريكي والغربي بالرغم من ان اتباعه اصبحوا لهم اليد العليا في تشكيل الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة وسعى الاحزاب الرئيسية إلى استرضائهم. (¬2) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص28

وموته جوعاً في الغابات ونهب خيراته وثرواته وإثارة طوائفه ليقتل بعضها بعضاً. وأين هذه الجرائم والفتن والمذابح مما فعل بالمسلمون في الأندلس" (¬1). ان المسلمين لم يأتوا إلى الأندلس غزاة، ولم يفتحوا بلاد الروم والفرس، ولا بلاد أوروبا كما فتحها المغول والتتار للنهب والسلب، وانما دخلوها يحملون ديناً وكتاباً وحضارة .. دخلوها كرسل علم وكطلائع تنوير واعمار .. ولم يغترفوا من ثروات أوروبا ما اغترفت ونهبت من ثروات مستعمراتها في افريقيا. كما ان العرب والمسلمون لم يعرفوا في عقيدتهم وتاريخهم تجارب الإبادة والطرد الجماعي والعزل العنصري والممارسات الفاشية والنازية، بينما شهد الغرب ولادة تجارب الحروب الصليبية التي ستبقى وصمه عار تلطخ تاريخ أوروبا، وشهد الغرب الإبادة الوحشية للشعوب في العالم الجديد وخاصة في القارة الاميركيه وشهد تجارة الرقيق بكل بشاعاتها والتي استنزفت طاقات إفريقيا السوداء لقرون، وشهد الغرب أيضا ظاهرة الاستعمار الكولونيالي بكافة وجوهه، فكان الناهب للخيرات والطارد للبشر والمستوطن لأرضهم، في حين لم يشهد العالم الإسلامي في ذروة تألقه أي شيء من هذا. وقد شكل بقاء الاقليات في العالم الإسلامي، بكل ما تملك من خصوصيات ثقافية ودينيه دليلا على حضارة تؤمن فعلاً وقولاً بحق الآخر في الوجود والتميز والمشاركة (¬2). ولكنهم في أوروبا وأمريكا يحاولون الآن طمس هذه الحقيقة ويحاولون تزوير التاريخ وينفقون الملايين لتشويه الإسلام وتبشيع صورته .. فهو إرهاب وجرائم قتل وتفجير قنابل وإشعال حرائق .. في الصفحات الأولى من جميع جرائدهم. لقد انتهت الشيوعية ولم يبق لهم عدو سوى الإسلام. هذا هو المعنى الذي يغرسونه في كل صفحة، وفي كل عمود وفي كل خبر ليستقر في وجدان العالم تمهيداً للعدوان الذي يدبرونه على الإسلام واهله (¬3). ¬

(¬1) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص107 - 108 (¬2) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص28 (¬3) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص108 - 109

نظرية صراع الحضارات

نظرية صراع الحضارات في اللحظة التى بدأ حوار الأديان والحضارات يشق طريقه بنجاح، جاء منظرو صراع الحضارات محاولين قطع الطريق على هذا الحوار، فكانت نظرية نهاية التاريخ (لفوكوياما)، وصراع الحضارات لهنتغتون. فالمصلحه الأمريكية والصهيونية تتطلب تصعيد الصراع بأيه طريقه، ولهذا تظهر الفبركة والاكاذيب والتلفيق للوصول إلى الهدف. فعندما طرح هنتجون كتابه صراع الحضارات وتنبأ أو بمعنى اصح حدد العدو الجديد للغرب ممثلاً بالإسلام والصين، سعى إلى حشد اوروبا بكاملها مع أمريكيا كجبهه موحدة ضد الإسلام، جاعلاً الصراع وكأنه صراع بين الحضارة المسيحية والإسلام، متناسياً وبشكل متعمد ان الحضارة المسيحية ليست وحدة واحدة كما وضحنا في هذا الكتاب، فاوروبا بشكل عام كاثوليكية المذهب، وهو على النقيض من المذهب البروتستانتى السائد في أمريكا. ولكن من اجل حشد اكبر قدر من الحلفاء لفكرة صراع الحضارات، تناسى هنتجتون هذه الفروقات والتاريخ الطويل من الصراع بين البروتستانت والكاثوليك في اوروبا وأمريكا وحشدهم في جبهة واحدة ضد الإسلام. ومما يوضح سوء النية عند هنتجتون ومحاولته تضليل الرأى العام هو انه في كتابه الجديد (من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأمريكية)، يتراجع عن فكرة الحضارة المسيحة الموحدة، إلى فكرة (الثقافة الانجلو بروتستانية) باعتبارها المصدر الرئيس للهوية الامريكة، بل والاهم من ذلك هو انه يرى ان اختلاط الأمريكيين بغيرهم من اصحاب الثقافات الاخرى بالاضافة إلى هجرة الاقليات من أمريكيا اللاتينة (كاثوليك) واوروبا، يشكل خطر على الهوية الأمريكية. ولحماية هذه الهوية فإن هنتجتون يرى ان ذلك يمكن ان يتم من خلال توحيدهم في مواجهة الخطر الإسلامي، حيث يرى أن العداء للإسلام والحضارة الإسلامية قد يساعد بشكل كبير في تحقيق التفاف الأميركيين المنشود حول هويتهم الوطنية في المستقبل المنظور، حيث يطرح هنتنغتون رؤية لإعادة بناء الهوية الأميركية تقوم على استشراف بعض التغيرات الجذرية الإيجابية الطارئة على المجتمع الأميركي في الفترة الأخيرة، التي من شأن تأكيدها عودة الروح للهوية الوطنية الأميركية. ويعني هنتنغتون بهذه التغيرات تحولين أساسيين، أولهما عودة الأميركيين للدين المسيحي

(يعنى البروتستانتيه) وزيادة دور المسيحية في الحياة العامة الأميركية، وثانيهما الدور الذي يمكن أن يلعبه الإسلام كعدو أساسي جديد لأميركا (¬1). ومن خلال مقارنة ما طرحه هنتجتون في كتابه (صراع الحضارات)، وكتابه الجديد (من نحن؟ تحديات الهوية الأمريكية) يتضح لنا ان اهم ما يعنى هنتجتون هو ابقاء الإسلام كعدو اساسي لأمريكا، وتفعيل دور الدين الممسيحي (بشقه البروتستانتى) في الحياة العامه، اى زيادة نفوذ التيار المسيحي الاصولي الذي يتطلع إلى تحقيق الخرافات والنبوءات التوراتية. ولهذا فإن الدكتور (زكاء الله) كان محقاٌ في كتابه (الصليب والهلال) عندما فند مقولة صدام الحضارات، وبين الترابط بينها وبين الرؤية التي يتوقعها سفر الرؤيا لنهاية العالم، والتي تقول بقيام معركة هرمجدون التي ستدوم ثلاث سنوات ونصف السنة، وتبدأ بسبب العرب حسب أحد التفسيرات المتداولة، ليقيم بعدها المسيح دولة الرب. وقد تطورت أشكال التفسيرات والتصورات لرؤية المعركة الأخيرة، لتتبلور في النهاية في مقولة صدام الحضارات التي خرج بها صموئيل هنتنغتون، دون أن يستطيع الخروج من الرؤيا الكارثية التي صورتها العقيدة المسيحية عندما بشرت بحرب ضروس تبدأ بسبب العالم العربي (¬2). وهكذا فإن نظرية صراع الحضارات التى قال بها هنتغتون، استاذ العلوم السياسية ومدير مؤسسة (جون أولين) للدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد، تؤكد بإيجاز على إن الغرب وأمريكا بالذات، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بحاجة ماسة إلى عدو جديد يوحد دوله وشعوبه (¬3) وان الحرب لن تتوقف حتى لو سكت السلاح وأبرمت المعاهدات، ذلك إن حرباً حضارية قادمة ستستمر بين المعسكر الغربي الذي تتزعمه أمريكا، وبين طرف آخر قد يكون عالم الإسلام أو الصين. اما نظرية نهاية التاريخ (لفوكوياما) فتسعى إلى إلغاء البعد التاريخي، ووضع الأمم والجماعات كافه عراة قبالة الصنميه الاقتصادية التي تنزع إلى تسوية الجميع إزاء مطالبها، لكنها من ¬

(¬1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية: صموئيل هنتنغتون- عرض/ علاء بيومي- الجزيرة نت 2 - 8 - 2004 (¬2) الصليب والهلال - المؤلف: محمد عارف زكاء الله - الناشر: ذي آذرز، كوالالمبور- الطبعة: الأولى/2004 - الجزيرة نت (¬3) مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى انسنة الحضارة وثقافة السلام - د. محمد سعدي - مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2006 - ص 184

وراء هذا تزيد أغنياء العالم وطواغيته غنى وجبروتاً وفقراءه ومستضعفيه فقراً واستبعاداً. إنها بشكل من الأشكال مناورة فكريه تمنح خلفيات تنظيريه لممارسات تتجاوز ابتداءً منظومة القيم الخلقية وثوابت العقائد والأديان والمطالب الاساسيه للإنسان، ومن وراء هذه المناورة تكمن الخبرة الصليبية واليهودية والاستعمارية والرأسمالية. إن إلغاء الذاكرة التاريخية، وتحكيم الصنميه الاقتصادية المتسلحة بكل قوى العلم والتكنولوجية والتفوق العسكري وحتى السياسي، للغرب لن يجعل الفقير غنياً وينزل بالاغنياء لكي يقاربوا الفقراء، بل ستجعلنا وكل المستضعفين في الارض ينسلخون عن تاريخهم، ويفقدون تميزهم ويزدادون التصاقاً بالقوى المتحكمة في آليات الاقتصاد العالمي. ان تجريد العالم من بطانته الروحية، والوجود من تجذره في الغيب، ومنح السلطة المطلقة للاقتصاد، سوف يميل بالميزان، وسيكون الانسان هو الخاسر الوحيد (¬1). ولا شك أن إيديولوجية كهذه لا بد أن تعتبر الإسلام عقبة كأداء لا بد من إزالتها من الطريق ولا سبيل للحوار معها، بل حتى المذاهب المسيحية الأرثوذكسية ملزمة بالتحول إلى ما تعتقده تلك الإيديولوجية إن هي أرادت النجاة من (الحرب الأخيرة) قبيل عودة المسيح .. ! "فأسطورة (نهاية العالم) هذه وعودة المسيح آخر الزمان كما يروج لها هذا التدين السائد اليوم في أمريكا هي التي تلقفها وألبسها لبوساً ليبرالياً كلاً من فرانسيس فوكوياما في كتابه عن نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ثم صامويل هانتنجتون في حديثه عن صدام الحضارات! ومن العجيب أن يعكس هذا الفكر الليبرالي ذلك النوع من الفكر الديني وينتهي معه إلى التبشير بمصير مأساوي للإنسانية!. لقد أجمعت الدراسات على مبلغ تدين الشعب الأمريكي، مقارنة بالشعوب الأوروبية، إلا أن الحقيقة الصادمة توضح أن هذا التدين في الأغلب لا يساعد على قيام تفاهم حضاري، لأنه تدين عدواني الطابع، منغلق التفكير، إرهابي النزعة، يبشر بعالم مخيف حقا! " (¬2). ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص114 (¬2) أية قيم دينية لحضارة إنسانية؟ - د. عبد المجيد الصغيّر http://www.qatar-conferences.org/dialogue/article2.do

حوار الأديان والحضارات

حوار الأديان والحضارات يناقش الكاتب الإيطالي (أمبرتو إيكو) مقولة صراع الحضارات أو الثقافات التي تفسر الحرب الأميركية على العالم الإسلامي وحرب المسلمين عليها، ويتساءل ان كانت الحرب هي الشكل العادل للعنف .. وهل يعتبر ما يجري صراعاً بين الشرق والغرب على غرار الحروب الصليبية؟ ويجيب ايكو على ذلك مستبعداً مقولة صراع الحضارات في تفسير ما يجري، ويدعو بقوة إلى مقاومة نزعة العداء الحضاري والثقافي لأن كلفتها تضر بالغرب، وقد تلحق به الهزيمة، فقد تداخل الشرق بالغرب، وتداخلت المصالح والعلاقات على نحو لم يعد ممكناً حمايتها إلا بالتعاون والعمل المشترك من خلال الحوار بين الأديان والحضارات (¬1). فالبشرية في عصرنا الحاضر تعاني من أزمات سياسية وانفجارات اجتماعية وهجرات سكانية وفجوات عميقة اقتصادية وتناقص في الموارد الطبيعية، ودمار متواصل للبيئة وارتفاع في وتيرة العنف والغلو. كما يشهد العالم تحولات كيفية غير مسبوقة خاصة في مجالات الثورة التكنولوجية الثالثة، والتي يصعب فهم تأثيرها على القيم والعلاقات والأفكار والثقافات، دون إعمال العقل والحوار. كما تبرز صعوبة إدراك حقيقة القواعد والعلاقات والمشاعر والبناء الاجتماعي والحدود التي تقوم عليها الحضارات، ومدى تغير دلالاتها عبر الزمان والمكان، ومدى تأثر اتجاهاتها بالضغوط الخارجية والأزمات الداخلية ... وغير ذلك. كما يخشى أن يؤدي استمرار وجود الصور النمطية لحضارة عند أخرى إلى تغذية ضروب الكراهية الجماعية خاصة في المجتمعات التي تنتشر فيها الجهالة والتعصب والخرافات، فيتحول الاختلاف إلى نزاع، وإذا نشب النزاع، فقد يتحول إلى عنف إذا لم يكن هناك حوار و (ثقافة حوار)، والتي تعلي من قيمة التسامح، وتحترم مبدأ كرامة الإنسان وحريته في الاختيار، وتقبل مبدأ التنوع والتعددية الحضارية بدلاً من فرض (النموذج) والهيمنة (¬2). ¬

(¬1) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ - جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجار-الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي (¬2) حوار الحضارات .. لماذا؟ يوسف الحسن- الموسوعة الإسلامية http://www.balagh.com/mosoa/garb/cx01bsu0.htm

فلا يكاد يمر يوم إلا تحمل لنا الأحداث الجارية في الساحة الدولية نذر صدام ديني وحضاري بين ما يدعى بالثقافة اليهودية المسيحية الغربية، والثقافة العربية الإسلامية. فنقاط التماس كثيرة، إلى درجة أن هانتغتون قال بأن حدود الإسلام المختلفة (دامية). فمن هذه الساحات: المعترك الفلسطيني حيث الصراع العربي الصهيوني يقدم خطأ في الإعلام الغربي و كأنه صراع بين اليهودية والإسلام. ومن هذه الساحات الحروب الأهلية في السودان وفي بعض مناطق إفريقيا مثل ساحل العاج وإرتريا ونيجيريا. حيث تطرح العلاقة بين الديانتين المسلمة والمسيحية إشكالات حادة. و بعد أحداث 11 سبتمبر، نشطت بعض المجموعات المتطرفة في الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإسلام والمسلمين رابطة خطأ بين الإسلام والإرهاب، من منظور كون الإسلام يدعو للتعصب والكراهية والعنف. وفي منطقتنا كررت بعض الأصوات المتشددة مقولات مماثلة، ومعتبرة إختلال الموازين في التعامل مع القضايا العربية والإسلامية العادلة عدوانا وحربا ضد الإسلام. إن هذا الوضع المتأزم الذي تدفعه التيارات المتطرفة من الجانبين للإنفجار، يستدعي من العقلاء المنصفين من الديانات السماوية الثلاث الوقوف بحزم ضد الغلو والتشدد والإرهاب، بتوظيف قيم السلم والتسامح التي تزخر به النصوص المقدسة (¬1). ولهذا دعي الكثيرون أنه حيال هذا العالم المعقد المتشابك المهدد، لابد من حوار يكفل اجتماع الفرقاء والشركاء، ويضمن احتواء ما أمكن من أزمات وكدمات تبدأ صغيرة أو وطنية وتتدرج لتطال أمداً بعيداً (¬2). فلم يعد بالإمكان - في هذا العصر - تقوقع الذات عن الآخر، إذ أصبح تشابك العلاقات الإنسانية، وما تواجهه من تحديات تجاه قضايا مشتركة، يفرض على الذات ان تدخل في الحوار، من أجل المصلحة العامة التي تجمع بين البشر، بطريقة وبأخرى، وهذا الواقع يؤكد ان مسألة الحوار بين الأديان والحضارات ترقى إلى مستوى الضرورة التي ينبغي ان تقابل بالجدية ¬

(¬1) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي http://www.science-islam.net/article.php3?id_article=690&lang=ar (¬2) حوار الحضارات والثقافات: رؤية في حوار الحضارات وصراع الأمم- بقلم الحسين ولد مدو- http://www.akhbarnouakchott.com

أهمية الحوار

اللازمة. وهنا يجب ان نشير إلى ان رسالة الإسلام ومبادئه لا يمكن ابدا ان تدعو إلى الصدام والصراع مع الحضارات والديانات الاخرى، والإسلام الحقيقي هو اسلام المحبة والسلام والاخاء واحترام الآخر ونبد العنف والتطرف، والدفاع عن القيم النبيلة واحترام حقوق الانسان وتحقيق العدالة والقضاء على الفقر والنفتاح على كل الحضارات الانسانية (¬1). أهمية الحوار مما تقدم يتضح لنا اهمية الحوار مع الآخر والذي جعله ديننا الإسلام طريقاً للدعوه ومخاطبه الآخرين للوصول إلى الحقيقة. ولعل حضارتنا العربية والإسلامية هي (الأعلى) صوتاً وفعلاً في رسالتها (الحوارية) خاصة وهي تولي منزلة عليا للعقل والعلم والحرية، وتدعو البشرية للتعارف والتفاهم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). وهذه هي رسالة الحضارة (¬2). وبالتأكيد فإن التعارف لا يتم الا من خلال الحوار الجاد والبناء الذى يعرض الحق بجلاء ويقدر ويحترم آراء ومواقف الآخرين. لقد كان الحوار قبل الإسلام كما في الحضارة والفلسفة اليونانية فناً قائماً بذاته، فالمحاورة تحدد موضوعاً للدراسة، وليس القصد منها الخروج بنتيجة بصدد المشكلات المعروضة بقدر ما تجعلنا أقدر على الجدل في كل الموضوعات، فهدف المحاورات لم يكن إمداد الناس بالمعلومات والمعارف، بل تقديم مساعدة على التدريب على فنون الجدل. أما الهدف الأساسي للحوار في الإسلام فهو وصول الناس إلى الحق بالطريقة التي تعمق الإيمان في نفوسهم، فالإسلام ينطلق في فهمه للحوار من فكرة أن الله فطر الإنسان على الجدل (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) ليواجه الحياة بكل ما فيها من أوضاع وملابسات وأفكار بعقلية منفتحة قلقة لا تستقر على حال، وهذا ما يجعله في بحث دائم مستمر عن الحق والأفضل والأكثر صواباً، فثمة ما هو صواب وما هو أكثر صواباً، والشك هو طريق اليقين أو إثبات اليقين ¬

(¬1) مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى انسنة الحضارة وثقافة السلام - د. محمد سعدي - مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2006 - ص 368 (¬2) حوار الحضارات .. لماذا؟ بقلم يوسف الحسن

ورسوخه. وترى الإنسان لا يستقر على حال فتراه يفتش عن الشيء وضده، عن الحق والباطل، فلا يتيقن إلا ليتململ في رحلة جديدة من الشك، ولا يشك إلا ليبدأ رحلته الطويلة نحو اليقين. وقد رأينا في علاقات الدول والأفراد اضطراباً حين يفشل الحوار أو يفتقد، فقتل قابيل أخاه هابيل عندما فشل الحوار بينهما، ولكن يبقى العقل هو القوة الصالحة للحكم على الأشياء وميزانا يزن به صحة القضايا وفسادها، حتى في يوم القيامة لا يقف الإنسان مكتوف اليدين أمام مصيره بل يترك له مجال الدخول في حوار وجدال يدافع به عن نفسه على أساس العدالة التي تحترم في الإنسان حقه الطبيعي في الدفاع عن نفسه حتى أمام الله الذي يعلم كل شيء (¬1). ومن هنا فإن اهمية الحوار تكمن أنه يمكن أن يكون أساساً لتجتمع الإنسانية حوله، وعلى الإنسان الاطلاع على أفكار الآخرين، ففي ذلك فهم لفكر الآخر. فالحوار في هذا السياق هو أحد الأفكار والحلول المهمة للخروج من مأزق العنف والتطرف. ففي مقابل الغياب الكبير المفزع للحوار في حياتنا وعلاقاتنا وعملنا، هناك حضور كبير للحوار في القرآن الكريم ومقاصد الشريعة الإسلامية، حتى يكاد يكون قضية أساسية، فنجد في القرآن الكريم مواضع لا تعد ولا تحصى للحوار، الحوار بين الله والملائكة، (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) والحوار بين الله وإبليس، والحوار بين الله والأنبياء، وحوار الأنبياء مع قومهم، وحوار الأنبياء والصالحين مع أنفسهم. ونجد في القرآن دعوة إلى الحوار في العلم والدعوة والحياة، (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن). (¬2). والحوار بهذا المعنى ليس فقط لتوضيح القضايا التي يختلف عليها، ولكنه يقرب الناس بعضهم من بعض، ويخلق حركة فكرية ومجتمعاً متعلماً متحركاً. وغياب الحوار في المجتمع يجعله مجتمع قهر وعنف، وغيابه في علاقات الأفراد يجعلهم جزراً معزولة بعضها عن بعض، ويحول همومهم إلى الغرق في الذات والدوران حولها، حتى درجة المرض والهوس. وغياب الحوار بين الدول يعطل مصالحها ويضر بشعوبها ويجعلها تتحمل جهوداً وتكاليف زائدة يمكن الاستغناء عنها وتوفيرها أو ¬

(¬1) المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي-المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله- عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت (¬2) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.

استخدامها في المصالح والاحتياجات. ويمكن أن نجعل الحوار منهجاً للتربية، وتكوين القناعات، وأسلوب الحركة الفكرية في التنشئة، وتهيئة الروح الموضوعية في مواجهة مسائل الخلاف، وفي تقبل الفكرة المضادة بطريقة عقلانية واقعية. فموضوع الحوار يرتبط بالتكوين الداخلي لشخصية الإنسان المسلم الذي يريد له الإسلام أن يفكر كيف يتعلم ويدعو الناس ويفتح قلوبهم وعقولهم على الحق والصواب، ولا بد من الحوار حتى تستمر الحياة في حالة الضعف أو القوة، وفي حالة الحرب أو السلم، فلا أحد يستطيع أن يستغني عنه مهما علا شأنه أو كانت قوته، فرداً كان أو مجموعة أو مجتمعاً أو دولة (¬1). فالعالم المعاصر الذي يتسم بالتونع والتعددية، والذي يرتبط ببعض عبر آلاف من اقنية الاتصال، سيطرح أمام الوعي الديني حتماً مشكلات العلمنة وحوار الأديان. وهو ما اكده احد العلماء المسلمين، حيث قال: "ان قوة الاتصالات بالعالم المعاصر، ستفتح آفاقاً وإمكانيات عريضة لإدراك التقاليد الدينية المغايرة، الأمر الذي يجعل حوار الإسلام الجدي مع الديانات الأخرى في منتهى الأهمية والضرورة. ولهذا فإن مفكري الشرق الدينيين الأكثر عمقاً واطلاعاً يدركون بصورة أكبر فأكبر، ان بلوغ تدين أكثر ملاءمة واتستقاً مع الظروف العصرية الراهنة، يمكن ان يحدث فقط في شروط تؤمن التحرر من الكراهية الطائفية والشعور بالتفوق والتميز" (¬2). وبهذا تكون قضية الحوار هي إحدى الهموم الكبيرة للعاملين في الدعوة والتربية والتعليم والإعلام والسياسة والدبلوماسية والتجارة والتسويق، وتتزايد الحاجة إليه كأساس للثقافة والعمل والتعليم والعلاقات والتنظيم. ونلاحظ على سبيل المثال ازدهار البرامج الحوارية مع تنامي الفضائيات والإنترنت، حتى يكاد يكون الحوار هو السمة الأساسية للفضائيات والإنترنت، وتعتمد عليه تماماً مؤسسات التعليم عن بعد والتعليم المستمر، فمن دونه تفقد هذه البرامج جوهرها وجدواها (¬3). ¬

(¬1) المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي-المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله- عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت (¬2) الإسلام والمسيحية من التنافس والتصادم إلى الحوار والتفاهم- تأليف اليكسي جورافسكي - ترجمة د. خلف محمد الجراد - ص212 - دار الفكر المعاصر - ط2 2000 (¬3) المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي-المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله- عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت

ورغم بلوغ الحضارة الإسلامية في العصر العباسي ذروتها وقيادتها للعالم في العصر الوسيط آنذاك، فقد تعايشت مع الحضارات الأخرى في وئام وانسجام. ومن هنا فإن الحوار الحضاري كما يعرضه الإسلام لا يعد استجابة لظرفية زمنية خاصة، بل هو مشروع يتميز بالشمولية والاستمرارية ينبع من مبدأ جعل سعادة الإنسان غاية ذلك الحوار، أي أنه يقوم على مبدأ تحقيق إنسانية الإنسان، فالإنسان هو كائن حساس، فريد متميز واسع الدوائر الوجودية، ذو خصائص عقلية وروحية وأخلاقية شاملة، فضلا عن أنه خليفة الله في الأرض. ومن خلال معاصرته لتجربة تاريخية مرة تسبب فيها الاستعمار بكوارث ومآس حلت بالإنسانية، وقسمت الشعوب وفرقتها إلى عرقيات وطوائف متنافرة طرح المفكر الإسلامي (سعيد النورسي) في رسائله (رسائل النور) مفهوماً بديلاً موضوعياً لفكرة صدام الحضارات من خلال طرح مبدأ (التكامل) بدل (الصراع)، و (التعايش) بدل (الإقصاء)، شريطة أن يقوم الحوار بين الحضارات على قدم المساواة وعلى احترام تعدد الثقافات، وبحيث لا ينحصر في مجرد حوارات كلامية بين الناس، بل يكون فلسفة نابعة من جوهر الإيمان، إيمان الإنسان بأن الله خلق البشرية لحكمة وغاية محددة تتمثل في التآلف والتساكن لتحقيق أمر رباني وهو تعميم الخير ودفع الشر. فالحوار ليس وسيلة لحل النزاعات الدولية وحسب، بل هو أسلوب للتعارف والتعايش والتكافل بين الشعوب من أجل تحسين ظروف البشرية وهو ما يسميه النورسي (مسلك الخلة والأخوة) (¬1) أو بعبارات (د. محمد عابد الجابري) (ثقافة السلام) والذي يدعو "إلى بناء تصور مشترك لها من خلال اهتمام الحوار بين الأديان بموضوع الضرورات الخمس ذلك لأن هذه الضروريات، أعني حفظ النفس والعقل والنسل والمال والدين هي أساس كل سلام وبدونها لا يتحقق السلام، لا السلام مع النفس ولا السلام مع الجار ولا السلام بين الأمم. وفي هذا الصدد أرى أنه بالإمكان تأسيس ¬

(¬1) بين أخلاقيات العرب وذهنيات الغرب- إبراهيم القادري بوتشيش- عرض/إبراهيم غرايبة- رؤية للنشر والتوزيع, القاهرة-ط.1 2005 - الجزيره نت- حوار الحضارات من خلال رسائل بديع الزمان النورسي

علاقة المسلم بالآخر عموما

رؤية جديدة سلمية وسليمة للمشاكل والتحديات التي يواجهها الضمير الديني والأخلاقي في عصرنا" (¬1). إن الإسلام هو دون شك دين قائم على الحوار بمعانيه المختلفة، ومستوياته المتباينة المتعددة. فهو بداية حوار بين الله جل جلاله والإنسان، لإقناعه بالإستجابة لنداء الوحي والهداية. فليس الإيمان إنصياعاً بالإكراه بل نتيجة إقتناع بآيات التنزيل التي توجه نظر الإنسان إلى أدلة الخلق وعبر التاريخ وحالات النفس الإنسانية. وهو حوار مع المشرك الذي يؤمن بتعدد الآلهة وعبادة الأصنام لإقناعه عقلياً وشعورياً بمبدأ التوحيد والتنزيه المطلق للذات الإلهية. وهو حوار مع الدهري الملحد الذي لا يؤمن بدين ولا معاد ولا رسالة لإستمالته لطمأنينة اليقين ونور النبوة وبراهين التوحيد. وهو حوار من داخل الدائرة الإبراهيمية مع أهل الكتاب الذين يشكل إمتدادا لهم و ختماً لرسالتهم التي تمهد له وتؤكده و تدل عليه (¬2). علاقة المسلم بالآخر عموما لما كان الإسلام ديناً عالمياً وخاتم الأديان، فإنه في روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمي إلى تسنم (المركزية الدينية) التي تجبر العالم على التمسك بدين واحد، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى في تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى في الكون، لان دعوة الإسلام إلى التفاعل مع باقي الديانات والحضارات تتبع من رؤيته إلى التعامل مع غير المسلمين الذين يؤمنون برسالاتهم السماوية، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعاً، بيد أنه لا يجوز أن يفهم هذا التسامح الانساني الذي جعله الإسلام أساساً راسخاً لعلاقة المسلم مع غير المسلم، على أنه انفلات أو استعداد للذوبان في أي كيان من الكيانات التي لا تتفق مع جوهر هذا الدين. فهذا التسامح لا يلغي الفارق والاختلاف، ولكنه يؤسس للعلاقات الانسانية التي يريد الإسلام أن تسود حياة الناس. فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية ¬

(¬1) الحوار بين الديانات: قيم ثقافة السلام -1 - محمد عابد الجابري - http://www.aljabriabed.net/pape16.htm (¬2) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.

والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضاري بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها (¬1). ومن ينظر إلى العقيدة الإسلامية يجد أنها عقيدة تتسع لجميع الناس لا تريد أن تلغي الآخر بل هي تعترف أن هناك آخر، هناك مَن يخالفها في العقيدة وهناك مَن يخالفها في الشريعة وهناك مَن يخالفها في السياسة وهناك ... ولكن أهم الخلافات هي الخلافات العقائدية والقرآن قرر أن هذا الاختلاف واقع بمشيئة الله، ومشيئة الله لا تنفصل عن حكمته، أي الحكمة الإلهية والمشيئة الإلهية اقتضتا أن يكون الناس مختلفين في الدين، لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد الناس أن يكونوا على دين واحد وعلى نهج واحد لخلق الإنسان على غير هذه الصورة. ومادام لكل إنسان عقله وإرادته فلابد أن يتغير الناس في اتجاهاتهم الدينية وغير الدينية وهذا ما يقرره القرآن بوضوح حيث يقول الله تعالى (ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أي على دين واحد وعلى منهج واحد (ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} مختلفين {إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ). المفسرون يقولون ولذلك أي وللاختلاف خلقهم .. خلقهم ذوي عقول مختلفة وإرادات مختلفة وملكات مختلفة ولهذا لابد أن تتغير أديانهم وتختلف فهذا واقع ولذلك خلقهم. ولذلك مَن يريد أن يلغي الآخرين ويريد أن يجمع الناس على دين واحد أو على نهج واحد هذا يخالف المشيئة الإلهية. فالتنوع مطلوب حسب نص القرآن الكريم، وهو من آيات الخلق السامية، كما في قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض وإختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين). فليس من هدف الإسلام حمل الناس على ملة واحدة أو عقيدة مشتركة، بل إن إختلافهم مطلوب مقصود (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم). ويبين القرآن الكريم الحكمة من الإختلاف بأنها (التعارف) و (التعاون على البر و التقوى) و (التسابق إلى الخير)، بما فصلته الآية الكريمة: (ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا و لو شاء الله ¬

(¬1) الإسلام وترسيخ ثقافة الحوار الحضاري-حسن عزوزي- http://www.scienceislam.net/article.php3?id_article=567&lang=ar

لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم في ما أتاكم فأستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون). ولهذا السبب أعلن الإسلام حرية العقيدة ونبذ الإكراه في الدين و وضع ضوابط دقيقة لتعميق خط التفاعل و التعارف بين بني البشر الذين يتفقون في أصولهم و عمود نسبهم (كلكم لآدم و آدم من تراب)، كما يتفقون في قدراتهم المعرفية و العقلية و الروحية، و لا يتمايزون إلا بسلوكهم الأخلاقي و ميزاتهم الروحية المكتسبة المتاحة لجميع الناس (¬1). فالإسلام يعترف بالآخر ويقيم العلاقات مع الأخر على أسس ثابتة حتى وهو يعترف بأن الآخرين كفار. وهنا الإسلام يقيم أشياء أساسية في فكر الإنسان وفي نفسيته تنشأ ما نسميه التسامح، التسامح الديني من خلال: أولا: اعتقاده أن هذا الاختلاف واقع بمشيئة الله وهذا يريح الإنسان. ثانياً: أنه إذا كان هناك مهتدى وهناك ضال وهناك مؤمن وهناك كافر وهناك بار وهناك فاجر فحساب هؤلاء الناس ليس للإنسان ولكنه إلى الله عز وجل وليس في هذه الدنيا ولكن في يوم الحساب، الله سيفصل بين هؤلاء ويقول القرآن {إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} {اللَّهُ رَبُّنَا ورَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا ولَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وإلَيْهِ المَصِيرُ} هذا أمر آخر يريح الإنسان مع الذين يختلفون معه. ثالثاً: أن الإسلام يكرم الإنسان من حيث هو إنسان بغض النظر عن جنسه أو دينه أو لونه أو لغته أو إقليمه أو طبقته {ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما روي البخاري ومسلم أنهم مروا عليه بجنازة فقام الرسول عليه الصلاة والسلام لها واقفا احتراما للميت فقالوا يا رسول الله إنها جنازة يهودي. فقال أليست نفس. فما أروع الموقف وما أروع التعليل نفسه" أليست نفس". رابعاً: الإسلام يقيم العلاقة بين الناس جميعا على أساس العدل، عدل الله لجميع خلق الله يهودي نصراني مجوسي وثني {ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} الشنآن شدة البغض سواء شدة بغضهم لكم أو ¬

(¬1) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.

بغضكم لهم لا يمنع هذا أنك تحكم بالعدل فالعدل مطلوب، والقرآن أنزل الله فيه تسع آيات من سورة النساء تدافع عن يهودي أُتهم ظلما، حيث ان احد المسلمين سرق ولكن اهله وقبيلته أرادوا أن يلصقوا التهمة بأحد اليهود، وذهبوا إلى النبي يعرضون حجتهم حيث كاد النبي عليه الصلاة والسلام ان يصدقهم ويدافع عن هذا المسلم ويتهم هذا اليهودي، وهنا نزل القرآن يبرئ اليهودي ويعاتب النبي عليه الصلاة والسلام أنه هم بتصديق هؤلاء ويقول الله تعالى في هذه الآيات {إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ولا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً، واسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً، ولا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} لا تحامي عنهم {ولا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} إلى آخر الآيات التسع في الدفاع عن هذا اليهودي (¬1). ومما تقدم يتضح لنا ان بنية الإسلام في الأصل بنية حوارية يشكل فيها "الاعتراف بالآخر" أولى مميزاتها بل أساساً يتنزل فيها منزلة "العقيدة". ذلك أن القرآن لم يثبت شرعية وجوده ويدافع عن اختياراته وبدائله إلا عبر أخلاقيات الحوار والنقاش، بل ربما انفرد القرآن، من بين نصوص الأديان الكتابية الأخرى، بذلك الحرص القوي الذي يطبع جل آياته، على محاولة طرح اختياراته الإصلاحية عبر أسلوب الجدال والحوار ومحاولة البرهان والتدليل على اختياراته وبدائله وإقناع مخالفيه بها ... وما هو أهم في كل هذا "اعترافه" الضمني والصريح بذلك التراكم المعرفي والأخلاقي الذي يمثله تاريخ الديانات الكتابية وسيرها الحثيث نحو الإصلاح والتصحيح والكمال العقائدي والأخلاقي، الأمر الذي اقتضى من الإسلام، قرآنا وسنة، ضرورة الاعتراف ب"الآخر" باعتباره مساهما فعالا في ذلك التطور الفكري والأخلاقي القابل دوما للإصلاح و"التتميم". من ثم جاءت تلك التأكيدات المتتالية في القرآن تذكر المؤمنين به قبل غيرهم، أنهم يمثلون حلقة من سلسلة من تلك "الحنيفية" التي يعتبر إبراهيم الخليل عليه السلام واسطة عقدها، ولبنة أساسية فيها. وحيث ذلك، أُمر المسلمون في تعاملهم مع "أهل الكتاب"، ورغم الخلافات الواردة، ان ¬

(¬1) علاقة المسلمين باليهود - الشيخ يوسف القرضاوي - برامج الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - تاريخ النشر: الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة

الحوار بين الأديان

يبادروا إلى الاعتراف بهم، وأن يكونوا متسامحين معهم وأكثر تفتحاً وأبعد عن التعصب، وأن يقولوا: "آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيؤون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (¬1). الحوار بين الأديان مثل الحوار قاعدة أساسية ومنهجية من قواعد الدعوة الإسلامية، التي يعود تاريخها إلى اللحظة الأولى لانطلاق رسالة الإسلام، وقد تم بناء هذه القاعدة وتأصيلها بدءاً بقوله سبحانه "إقرأ باسم ربك الذي خلق" ومروراً بقوله: إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" وانتهاءًُ بقوله سبحانه سبحانه (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله). وقد سجل القرآن الكريم، وسجلت السنة النبوية نماذج الحوار بمختلف مستوياته وأساليبه ليعلم الناس جميعاً بأن هذا الدين إنما تبنى دعوته على الاقتناع والبينة والحجة العقلية ولا مجال فيه- أبداً- للإكراه على الإيمان به أو الدعوة إليه "لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". وإذا كان الحوار ضرورياً في مرحلة الدعوة المكية والمدنية وما تلاهما فهو اليوم أشد ضرورة وأكثر أهمية في ظل ثورة الاتصالات الحديثة التي تبث عبر أجواء من التوتر، وافتعال الصراع ونشر ثقافة القوة. لهذا فقد أولى الرسول (ص) منذ بداية الدعوة الإسلامية اهتماماً خاصاً بأهل الكتاب والحوار معهم ودعوتهم للإسلام، وذلك لأنهم أصحاب ديانات سماوية سابقة جاء الإسلام ليرث أهم ما فيها وليضيف إليها ما تحتاجه البشرية في مسيرتها إلى يوم الدين، يقول الله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى" (سورة الشورى: الآية 13) واهتمام الرسول (ص) بدعوة أهل الكتاب، كان لاعتقاده بأنهم سيكونون أول من سيؤمن به وبدعوته ¬

(¬1) أية قيم دينية لحضارة إنسانية؟ - د. عبد المجيد الصغيّر- http://www.qatar-conferences.org/dialogue/article2.do

بسبب التشابه الكبير بين ما جاء به الإسلام وبين ما هو موجود في كتبهم .. هذا بالإضافة إلى أنهم كانوا ينتظرون ظهور نبي في بلاد العرب كما جاء في البشارات الموجودة في كتبهم. ولذلك كان الرسول الكريم يطمع في ان يكون اهل الكتاب عوناً له في استئصال الشرك والكقر من الجزيرة العربية اولا ثم نشر الدعوى للعالمين. وقد جاءت اولى بوادر ذلك الموقف من النجاشي ملك الحبشة الذي احتضن المسلمين وأمنهم من غذر واضطهاد قريش حتى اشتد عودهم وعادوا إلى مكه ليستمروا في دعوتهم، حيث تطلع الرسول الكريم إلى موقف اقوى من اهل الكتاب من الدين الجديد فاسلم قليل منهم وبقى جزء كبير على دينهم ودخل الرسول معهم في حوارات ومجادلات كثيرة، فرد عليهم القرآن وعلم النبي كيف يجادلهم بالتي هي أحسن بأسلوب منطقي يقدم الحق جلياً من غير التعرض لشخصيات الأنبياء ولا لرسالتهم (¬1)، حيث نهى القرآن عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن في قوله تعالى:"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" (سورة العنكبوت: الآية 46) ففي قوله تعالى لا تجادلوا نهي عن مبادئتهم بالجدال في نصوص وطقوس دينهم وفي قوله إلا بالتي هي أحسن استثناء يجيز الرد عليهم إذا بدءونا بالجدال، فليكن الرد عليهم بالتي هي أحسن حتى لا نتعرض لنبيهم ولا لكتابهم (¬2) ومن التي هي أحسن، ذكر مواضع الاتفاق بين المتجادلين والانطلاق منها إلى مواضع الخلاف، أما مواضع الاختلاف، فالحكم فيها إلى الله يوم القيامة، يقول تعالى: "وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون" (سورة الحج: الآية 68). ¬

(¬1) آدم عبد الله الألورى: تاريخ الدعوة إلى الله بين الأمس واليوم - ص 247 (¬2) المصدر السابق: ص 135

وقد سار النبي (ص) على خطى التوجيهات القرآنية في دعوته ومجادلته لأهل الكتاب، فدخل معهم في مجادلات ومناقشات عديدة رواها القرآن والسنة النبوية المطهرة. فقد جرت مناقشات كثيرة بين الرسول (ص) وبين اليهود حول الكتب المقدسة وكان محسور بن سبحان هو المتحدث باسم اليهود. فقال للرسول ما دليلك على أن القرآن من عند الله، فنزل قوله تعالى: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" (سورة النساء: الآية 82) وناقشهم الرسول في أمور كثيرة أخرى، مثل ادعائهم بأنهم الأخيار وأنهم بمنجاة عن النار، وفي مجادلات أخرى، أجرى مقارنة بين كتبهم المحرفة وبين القرآن، وأيدته آيات القرآن وسجلت هذه المحاورات والمجادلات، ومن ذلك قوله تعالى: "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولوا سمعنا وعصينا" (سورة النساء: الآية 46)، "يحرفون الكلام عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به" (سورة المائدة: الآية 13). وقد دخل كثير من اليهود في الإسلام بعد هذه المجادلات والمحاورات مثل عبد الله بن سلام وثعلبة بن أسيد وأسيد بن عبيد وغيرهم. كما جرت مناقشات وحوارات بين الرسول (ص) وبين النصارى سجلها القرآن الكريم وعلم الرسول كيف يرد عليهم، فمن المعروف أن النصارى يدعون أن عيسى عليه السلام لا يناظره شخص آخر لكونه وجد من غير أب، وبالغوا في هذا الادعاء حتى أنكروا نبوة محمد ص وتمسكوا بنبوة عيسى ووصلوا به إلى الألوهية، فرد الله عليهم بقوله: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" (سورة آل عمران: الآية 59). وجرت مناقشات ومجادلات بين الرسول (ص) ونصارى نجران حيث ذكر هؤلاء أن المسيح إله لأنه أحيا الموتى وأبرأ المرضى، فقال لهم الرسول ص إن ذلك كان بعون الله وتلا عليهم قوله تعالى: "ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم، أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأبرئ الأكمة والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله" (سورة آل عمران: الآية 49). وسأل واحداً منهم الرسول (ص) قائلا: أتريدنا يا محمد أن نعبدك كما نعبد عيسى؟ فقال لهم الرسول (ص): معاذ الله أن نعبد غير الله ولست إلا عبد الله، ونزل قوله تعالى " وما كان لبشر أن يوتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول

للناس كونوا عباداً لي من دون الله " (سورة آل عمران: الآية 79) وعلى أثر هذه المجادلات والمناقشات أسلم نفر من النصارى. وهكذا لاحظنا كيف أن الرسول (ص) كان يجادل ويحاور أهل الكتاب بلين ورفق وبالتي هي أحسن لكي لا يتعرض أو يسيء إلى أنبيائهم وكتبهم، التي جعل الإسلام الإيمان بها أصل من أصول الإيمان والعقيدة، بل انه سمح لوفد النصارى القادم من نجران لزيارته بالإقامة في مسجد المدينة المنورة. وفي المساء، وعندما رغب النصارى بأداء صلاتهم، سمح لهم النبيّ بذلك. وقد سار المسلمون في أيام الرسول ص وفيما بعد على هدي هذا الطريق السليم في حوارهم ومجادلتهم لأهل الكتاب، مما أدى إلى ظهور علم جديد لدى المسلمين هو علم مقارنة الأديان. هذا العلم الذي يعد من مفاخر المسلمين، لأنه من الطبيعي أن لا يظهر هذا العلم قبل الإسلام لأن الأديان قبل الإسلام لم يعترف أي منها بالآخر، وكان كل دين يعد ماعداه من الأديان هرطقة وضلالاً، فجاء الإسلام وكان موقفه من الأديان الأخرى ينضوي تحت اتجاهين: فمن الناحية النظرية يعلن الإسلام أنه الحلقة الأخيرة من سلسلة الأديان وأنه بالتالي ورث أهم ما في الأديان من حسنات وأضاف إلى ذلك ما تحتاجه البشرية في مسيرتها إلى يوم الدين، أما من الناحية الواقعية فيعترف الإسلام بالوجود الفعلي لجماعات غير مسلمة ويتحدث عن أهل الكتاب وأهل الذمة وينظم حقوقهم وواجباتهم (¬1). ومن هنا كان اهتمام المسلمين بهذا العلم، فألفوا فيه الكثير من الكتب التي تبين عظمة الإسلام وفساد العقائد الأخرى وما دخل عليها من تحريف وتوضح ايضاً ان الإسلام جاء ليكمل الدين للعالمين ويعيد اصحاب الديانات الاخرى إلى الطريق القويم الذى ضلوا عنه مع الزمن. وقد كانت الوسيلة لذلك هي كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق اظهار نقاط الاتفاق بين الإسلام وهذه الديانات وتوضيح ان المسلمون يؤمنون بهذه الديانات ورسلها ويعظمونهم ويجلونهم، وان الإسلام جاء ليكمل هذه الديانات. ويجب أن نشير هنا إلى أن هذا العلم لم يكن لدى المسلمين وسيلة للحط والاستهزاء بالأديان الأخرى، بل أنه كان ¬

(¬1) د. أحمد شلبى: مقارنة الأديان - ج 1 - ص 45

دراسة وصفية علمية تؤدي إلى نتائجها الطبيعية عن طريق الحجة التي تخاطب العقل بهدوء وموضوعية من غير تعصب أو جحود (¬1)؟ ويعد النوبختي أول من ألف في هذا العلم في كتابه «الآراء والديانات»، كما كتب المسعودي كتابه عن الديانات، ثم جاء المسبحي وألف كتابه «درك البغية في وصف الأديان والعبادات». ثم ازداد التأليف في هذا العلم بعد ذلك، وظهرت الكتب التي كتبت عن الملل والنحل مثل كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني، «والفصل في الملل والأهواء والنحل» لابن حزم الأندلسي، وكتاب «الفرق بين الفرق» للبغدادي (¬2)، وألف الأمام الغزالي كتابه «الرد الجميل لألوهية عيسى بصريح الإنجيل» ويكشف عنوانه عن موضوعه بجلاء، فالغزالي يرد فيه رداً جميلاًً موضوعياً على قول النصارى بألوهية عيسى (، وقد اعتمد في رده هذا على ما جاء في الإنجيل الذي في أيدي النصارى والذي يقدسونه ويجعلونه كتاب دينهم وحجتهم (¬3) كما أن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية كتب موسوعته الضخمة التي أطلق عليها «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح»، وجاء تلميذه ابن القيم الجوزيه ليضع كتابه «هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى». كما انه نتيجه للتسامح الديني في الاندلس فقد دخلت بعض الشخصيات الأوربية في حوار جدي مع فقهاء مسلمين، حيث كانوا جميعا على علم أنهم يعبدون إلها واحدا، وهو إله إبراهيم ويعقوب وإسحق. ولقد نشر مجلد جديد يحتوي على تسعة مقالات تتناول الحوار الديني في العصور الوسطى وكانت بؤرة موضوع البحث منطقة شبه جزيرة أسبانيا والبرتغال، وقد نقلت مأثورات واقعية من فرنسا عن هذا الحوار الفكري، منها: أن بطرس آبيللار كتب مقالا على شكل حوار بين الأديان، وأن بطرس فينيرابلس كلف العلماء الأسبان بمهمة ترجمة القرآن (¬4). وهكذا نلاحظ إلى أي مدى اهتم المسلمون بهذا العلم واتخذوه وسيلة موضوعية مهذبة للحوار ولدعوة أهل الكتاب ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وليبينوا ¬

(¬1) آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري - ج 1 - ص 366 (¬2) د. أحمد شلبى: مقارنة الأديان - ج 1 - ص 27 (¬3) الإمام أبو حامد الغزالى: الرد الجميل لألوهية عيسى بصريح الإنجيل - دراسة وتحقيق د. محمد عبد الله الشرقاوى (¬4) "اليهود والمسيحيون والمسلمون وحوار الأديان في العصور الوسطى" - بقلم كريستيان هاوك - ترجمة عبد اللطيف شعيب - ق الطبع قنطرة 2005 ماتياس لوتس باخمان والكسندرا فيدورا: دارمشتات 2004.

لهم ما دخل دينهم من تحريف، وليؤكدوا ما جاء في القرآن والسنة حول ذلك. ولكن هذا العلم اختفى لفترة معينة في عصور الضعف الإسلامية ولكنه عاد مرة أخرى في عصرنا الحاضر، ومن الذين ألفوا في هذا العلم الدكتور أحمد شلبي في سلسلة مقارنة الأديان بالإضافة إلى بعض العلماء الآخرين الذين كتبوا كتب متنوعة عن الديانات الأخرى مثل كتاب «تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم» للأستاذ محمد عبد الله دروزة وكتاب «محاضرات في النصرانية» للشيخ محمد أبو زهرة، وكتاب «الديانات» لمحمد مظهر وكتاب «الإسلام دين العلم والمدنية» للإمام محمد عبده وغيرهم كثيرون. وهكذا نرى أن دعوة أهل الكتاب ومجادلتهم والحوار معهم عبر التاريخ الإسلامي كانت تتم على أساس من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن بدون تحدي أو إثارة. فإذا كنا في عصرنا الحاضر جادين في دعوة أهل الكتاب ومجادلتهم، يجب علينا أن نضع نصب أعيننا ما جاء في القرآن الكريم من آيات حددت علاقتنا بأهل الكتاب وحددت طرق دعوتهم ومجادلتهم والحوار معهم. وهنا يقول الشيخ محمد الغزالي في تفسيره لقوله تعالى: "فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة يبننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير" (سورة الشورى: الآية 15) يقول: أن الأمر بالدعوة باقي إلى آخر الدهر لا يبطله شيء، وكذلك النهي عن أتباع الزائفين، ونحن المسلمين نحمل حقائق الوحي كله منذ بعث الله المرسلين، ونعلم أن أهل الكتاب نسوا كثيراً وتاهوا في طرق لا حصر لها، ومهمتنا أن نذكرهم بما نسوا، ونريهم الصراط المستقيم، ووسيلتنا الترفع والتسامح وعدم الانسياق وراء الشحناء والتذكير الدائم بأن المصير إلى الله (¬1). فالداعية الذي يريد مثلاً أن يدعو أهل الكتاب ويجادلهم، يردهم إلى كتابهم الحق ويذكرهم بأقوال رسولهم ويوضح لهم أن الرسل كلهم أخوان اصطفاهم الله من خلقه وجعلهم سفراء بينه وبين عباده، ويدلل لهم على أن اللاحق منهم يقف على أثر السابق وأن الواجب على الناس جميعاً أن يؤمنوا بكل الرسل بلا استثناء لأن ¬

(¬1) جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج - الشيخ محمد الغزالى - ص (68 - 69)

الله عز وجل هو الذي أرسلهم وهو الذي أمر بالإيمان بهم (¬1)، قال تعالى: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير " (سورة البقرة: الآية 285) فإذا هم أجابوه شرح لهم العقيدة الصحيحة ثم ثنى بمبادئ الإسلام وفرائضه مبيناً أن الإسلام هو دين جميع البشر، قال تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" (سورة آل عمران: الآية 85) أما إذا لم يجيبوه، فيكون قد أدى أمانة البلاغ، وأمرهم وحسابهم بعد ذلك إلى الله. وهكذا فإن علاقة المسلمين بأتباع الأديان الأخرى تدور على محور واحد، عرض مبادئ الإسلام بوضوح ورد الشبهات بأدب، وإعطاء فرصة للتأمل والحكم المتأني، فلا استعجال ولا استغلال، أنه البلاغ الخالي من الإكراه الذي يخلى بين كل امرئ وضميره فإن شاء أسلم وإن شاء بقي حيث هو وحسابه إلى الله. فحوار الإسلام مع الديانتين اليهودية و المسيحية كما دشنه النبي، صلى الله عليه و سلم، و وضع أصوله ثم سار على هديه الكريم خلفاؤه الراشدون يرتكز على أربعة مبادئ أساسية هي: قبول الإختلاف و التنوع - عدم الإكراه على الدين التعاون على البر و التقوى -تحريم العدوان و تقييد الحرب أخلاقيا. حيث لا تزال هذه المبادئ تشكل خلفية ثمينة و صالحة لحوار مستقبلي ناجع و منفتح بين الديانات الثلاث (¬2). ويجب - قبل أن نخوض في التفاصيل - أن نثبت حقيقة مهمة، وهي أن المسلمين يؤمنون بكل الأنبياء ويعتبرون تراث الأنبياء تراثهم، ويعتبرون رسالتهم الإسلامية امتداداً لرسالات الأنبياء الذين جاءوا من قبلهم، وأن الدعوة التي دعا إليها الأنبياء هي نفس الدعوة التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم وبالتالي فإن رصيد تجربة الأنبياء في دعوتهم للحق وعبادة الله وحده لا تنفصم عن دعوة المسلمين ورصيد تجربتهم. وانظر إلى قوله سبحانه {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، فهي رسالة التوحيد التي يدعو إليها كل رسول. وعندما كان يكذب أي قوم رسولهم فقد كان ذلك تكذيباً لجميع المرسلين، وتأمل ¬

(¬1) أسس الدعوة وآداب الدعاة - د. محمد الوكيل- ص 45 (¬2) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.

اليهود والنصارى في القرآن والسنة

قوله تعالى في {كذبت قوم نوح المرسلين}، {كذبت عاد المرسلين}، {كذبت ثمود المرسلين}، {كذبت قوم لوط المرسلين}، {كذب أصحاب الأيكة المرسلين} (¬1). فقد اعتبر الإسلام أنبياء الماضي وعقلاءه وحكماءه أنبياءه وعقلاءه وحكماءه. وجعل من خير الماضي وصلاحه خيره وصلاحه. ووجد ذلك تعبيره المكثف في الحديث القائل بان خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام (¬2). اليهود والنصارى في القرآن والسنة من الجلي أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن اليهودية والمسيحية لا يتحدث عن ديانات غريبة، بل يعتبرها تعبيرات مختلفة عن نفس الدين الإلهي الذي هو الإسلام من حيث هو تسليم لله و توحيد له، و لذا أطلق صفة المسلم على النبي إبراهيم، عليه السلام، و إعتبر مختلف أنبياء التوحيد مسلمين. فالفرق بين الإسلام و الديانتين الإبراهيميتين الأخريتين لا يتعلق بطبيعة العقيدة أو القيم أو الرؤية، بل في بعض الجزئيات التي إقتضتها تحولات الزمن و إعتبارات التاريخ. فالإسلام هو دين إكتمال المسار الإبراهيمي، و بذا كان لا بد أن يتسم بالمرونة و الإنفتاح و اليسر ليستوعب إختلاف السياقات المكانية و الزمانية. فهو، لهذا السبب، دين يقوم على إحترام الإختلاف و التعددية و قبول حرية الرأي و العقيدة (¬3). وقد ورد في القرآن عدد كبير من الآيات التي تأمر المسلمين بمعاملة أهل الكتاب (النصارى واليهود) أحسن معاملة وكان عنوان التعاون معهم في المجتمع الإسلامي على اساس القاعدة العامة التي رآها الفقهاء: (لهم ما لنا ـ وعليهم ما علينا) (¬4). فقال الله تعالى في سورة الممتحنة، آية 8: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين". كما قال تعالى في ¬

(¬1) تاريخ فلسطين قبل الإسلام -وقفات مع تاريخ صراع الحق والباطل على أرض فلسطين (¬2) الصورة والمعنى في الصراع العربي - اليهودي- د. ميثم الجنابي - مجلة المؤتمر عدد 1174 - 14 - آب-2006 http://www.inciraq.com/Al-Mutamar/2006/1101_1200/1174/060814_1174_5.htm (¬3) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي. (¬4) السيد سابق / فقه السنة ـ المجلد الثاني، ص622، دار الكاتب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1969 م

سورة العنكبوت آية 46: "ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي احسن الا الذين ظلموا منهم". فالنصوص الإسلامية إختطت إطارا دقيقا للتعامل مع أهل الكتاب أساسه البر و التودد لمن يسالم المسلمين و لا يعتدي عليهم: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم إن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون " (سورة الممتحنة آيه 8). فالتمييز هنا واضح وصريح بين المعتدي و المحارب والمهادن المسالم، والأصل في علاقة المسلم بأخيه اليهودي والمسيحي هو التعاطف والتعاون، ويحذر القرآن الكريم من التعميم الخاطئ المتمثل في الحكم على أهل ديانة ما بسلوك بعض المنتمين إليها: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل و هم يسجدون. يؤمنون بالله و اليوم الآخر و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يسارعون في الخيرات و أولئك من الصالحين. و ما يفعلوا من خير فلن يكفروه و الله عليم بالمتقين " (سورة آل عمران) و قد طبّق الرسول، صلى الله عليه و سلم، و خلفاؤه الراشدون هذه التعاليم الربانية أحسن تطبيق، و تمثلوها في علاقاتهم بالأقوام والملل الذين تعاملوا معهم في مراحل تأسيس الدولة الإسلامية وخلال عهود توسعها (¬1). وقد امتدح القرآن الصالحين من اهل الكتاب كما يمتدح غيرهم من المؤمنين فقال الله تعالى في سورة آل عمران آية 75: "ومن أهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده اليك" وقوله تعالى: "يسارعون في الخيرات و أولئك من الصالحين". ويبين لنا التاريخ أنه عندما بلغ نبأ موت النجاشي للرسول (ص) استدار إلى جمع المصلين وقال لهم: "لقد مات اليوم أحد الصالحين. إذاً، فانهضوا وصلّوا من أجل أخيكم"؛ ثم أمَّهم للصلاة. ويرى بعض المسلمين أن النجاشي قد اعتنق الإسلام سراً، إذ أنهم لا يستطيعون قبول فكرة صلاة النبي محمد على روح شخص غير مسلم، لكن الخبراء بتاريخ الإسلام يقولون أن النبي صلّى عليه لكونه مسيحياً صالحاً قام ¬

(¬1) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي

أيضاً بحماية مريديه من الاضطهاد على أيدي القبائل غير المسلمة في أول عهد الإسلام. وهناك عشرات الاحاديث النبوية التي تدعو المسلمون لمعاملة اهل الكتاب من اليهود والنصارى احسن معاملة، وقد حرم على المسلمين ايذاءهم أو الاعتداء على املاكهم، أو معابدهم، أو اكل حقوقهم. وكل عهد يعطي لغير المسلمين من النصارى واليهود، عهد يستوجب التنفيذ حسب الشريعة الإسلامية، وقد عاهد الخلفاء المسلمون النصارى واليهود على كثير من الامور بعد انتهاء الحرب، فتضمنت عهودهم (حمايتهم، والحفاظ على حريتهم الشخصية والدينية، وإقامة العدل بينهم والانتصاف من الظالم) (¬1). وجاء في الحديث (من ظلم معاهداً، أو كلفه فوق طاقته فانا حجيجه) (¬2). ولهذا قرر الإسلام المساواة بين الذميين والمسلمين. فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وكفل لهم حريتهم الدينية، وذلك بعدم إكراه احد منهم على ترك دينه. قال الله تعالى في سورة البقرة الآية 256 {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}. ومن حق اهل الكتاب ان يمارسوا شعائر دينهم فلا تهدم لهم كنيسة ولا يكسر لهم صليب، يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه (اتركوهم وما يدينون). بل من حق زوجة المسلم (اليهودية والنصرانية) ان تذهب إلى الكنيسة أو المعبد، ولا يحق لزوجها في منعها من ذلك. فإحترام ما تقرره الأديان والعقائد هذا من الأسس الأولى لا نتدخل في شؤونهم حتى أن الإسلام بلغ من التسامح ذروة أنه لا يفرض عليهم الأشياء التي يحرمها الإسلام إذا كانت مباحة عندهم ... مثل أكل الخنزير وشرب الخمر، الخمر أم الخبائث عند المسلمين ومن الكبائر والموبقات ولكن الإسلام يقول للذمي: مادام دينك أباحها لا نحرمها وكل ما في الأمر لا تروجها عند مسلم. ويعتبر الخمر والخنزير في مذهب الإمام أبي حنيفة مالا متقوما من أتلف خمرا لذمي يهودي أو نصراني عليه أن يغرم ثمنها. وفي أيام دخول التتار إلى دمشق أسروا ناس من المسلمين ومن اليهود ومن المسيحيين وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ومعه جماعة من علماء المسلمين عند هولاكو يطلبون منه فك الأسرى فقالوا له سنطلق لك سراح ¬

(¬1) - السيد سابق / المصدر السابق - ص 669 (¬2) السيد سابق / المصدر السابق، ص668.

الحوار الإسلامي المسيحي

المسلمين فقط. فقال لهم أهل ذمتنا قبل أهل ملتنا والله لا أخرج قبل أن يفك أسر الجميع. وهكذا الدفاع عن أهل الذمة واجب على المسلمين حتى قال علماء المسلمين أن إيذاء الذمي أشد إثما من إيذاء المسلم، غيبة الذمي أشد في الإثم من غيبة المسلم لأن هذا معتبر كأن المسلمين هم المسؤولين عنه (¬1). كما سوى الإسلام بين اهل الذمة وبين المسلمين في العقوبات (¬2) قال الزهري (دية اليهودي، والنصراني، وكل ذمي مثل دية المسلم). ولهذا كان يقف المسلمون امام القانون مع النصارى واليهود سواء بسواء حتى ولو كان المسلمون من الخلفاء الراشدين أو من الصحابة. وعن انس رضي الله عنه قال: رهن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ درعاً عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيراً لأهله ". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ان النبي (اشترى طعاماً من يهودي إلى اجل ورهنه درعاً من حديد، وفي لفظ: توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودرعه مرهون عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير. رواهما البخاري ومسلم (¬3). الحوار الإسلامي المسيحي من خلال ما تقدم اتضح لنا كيف استطاع الإسلام أن يؤسس قاعدة متينه للحوار بين المسيحية والإسلام منذ البدايات الأولى ويستوعب اهل الكتاب من النصارى تحت كنفه ويضع الاسس والقواعد التى تحكم العلاقة معهم ويتجلى ذلك في عهد النبي، صلى الله عليه و سلم، لنصارى نجران في آخر عهد البعثة النبوية حيث عبر هذا العهد عن هذه الرؤية المنفتحة المتسامحة للاسلام، فنص على ما يلي: و لنجران و حاشيتها، و لأهل ملتها، و لجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض و غربها، قريبها و بعيدها، فصيحها و أعجمها، جوار الله و ذمة محمد النبي رسول الله، و على أموالهم، و أنفسهم و ملتهم، و غائبهم و شاهدهم، و عشيرتهم، و بيعهم، و كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. لا يغير أسقف من أسقفيته، و لا ¬

(¬1) برامج الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - تاريخ النشر: الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة (¬2) - السيد سابق / المصدر السابق، ص 603 ـ 604. (¬3) السيد سابق / المصدر السابق، ص 609، 610، 611، 612.

راهب من رهبانيته .. و لا يطأ أرضهم جيش .. و أن أحمي جانبهم، و أذب عنهم و عن كنائسهم و بيعهم و بيوت صلواتهم .. و أن أحرس دينهم و ملتهم أين كانوا .. بما أحفظ به نفسي و خاصيتي و أهل الإسلام من ملتي (¬1) ". وجاء الخليفة الراشد الأول ابو بكر الصديق ليسير على نفس النهج وارسل وصية ليزيد بن أبي سفيان أمير جنده الذاهب إلى الشام، يحدد فيها إطار علاقة المسلمين بالديانات الأخرى ويؤصل لقانون و أخلاقيات الحرب في الإسلام يقول فيها: إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم و ما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له .. و إني أوصيك بعشر: لا تقتل إمرأة و لا صبيا. و لا كبيرا هرما. و لا تقطعن شجرا مثمرا. و لا تخربن عامرا. و لا تعقرن شاة و لا بعيرا إلا المأكلة و لا تحرقن نخلا و لا تغرقنه، و لا تغلل و لا تجبن " (¬2). وما نستخلصه من هذه الوثائق المرجعية الأساسية هو أن أحكام التمييز و الفصل ليست هي المقياس الأصلي لعلاقة المسلمين بأهل الكتاب، بل إن الإسلام يعتمد معيار الدولة المدنية غير الدينية التي تقوم العلاقة بين مواطنيها على أساس المصلحة المشتركة و التعاون على دفع الظلم و تحقيق العدل وبسبب هذه المبادئ والاخلاقيات فقد كان مجئ الإسلام - خلافاً لتعصب الأباطرة البيزنطيين- يبدو تحريراً لليهود وللمسيحيين الذين كانوا يسمون (الهراطقة)، أي تحريراً لمعظم سكان المنطقة ما عدا المحتلين البيزنطيين ... ولذا عندما اقترب المسلمين من سورية وفلسطين استقبلوا - على أنهم محررون- من قبل الجماهير العربية المهيأة من الناحية الدينية للاعتراف بمبدأ التوحيد الواضح في الإسلام الذي يرى في ابراهيم وموسى وعيسى رسلاً من عند الله وأنبياء قد سبقوا (محمداً). يقول ميشيل السوري: "إن الله المنتقم قد أرسل إلينا بالعرب لينقذونا من الرومان. إن كنائسنا لم ترجع إلينا فقد احتفظ كل بما يملك .. ولكن العرب حررونا من وحشية البيزنطيين وحقدهم علينا". ¬

(¬1) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي (¬2) راجع هذه الوثائق في مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي و الخلافة الراشدة - جمعها و حققها حميد الله الحيدرابادي - طبعة القاهرة 1956

لهذا فإن التعصب القمعي لدى الأباطرة البيزنطيين يتيح لنا أن نفهم كيف تم حسم مصير سورية وفلسطين بمعركة واحدة، هي معركة اليرموك في العشرين من آب عام 636 وكيف سحق الجيش البيزنطي وكيف تفجر ذلك العصيان قبل معركة اليرموك بين صفوف الجنود المسيحيين الأرمن في الجيش الامبراطوري، وكيف انسحب المسيحيون العرب السوريون من الجيش البيزنطي إبان المعركة .. وهكذا وجد جيش الروم نفسه وحيداً فتم سحقه .. ثم وصلت جيوش المسلمين دون قتال إلى ابواب دمشق .. وفي القدس عرض البطريرك المسيحي سوفرونيوس الصلح شريطة أن يأتي الخليفة نفسه إلى القدس لضمان تنفيذ شروط هذا الصلح، وقبل الخليفة بذلك ... ويذكر الاخباريون العرب ان الخليفة عمر لم يقبل الدعوة التي وجهها اليه بطريرك القدس إلى اقامة الصلاة في إحدى كنائس القدس خوفاً من أن يتخذ بعض المسلمين المتحمسين ذلك ذريعة لتحويل الكنيسة إلى مسجد تخليداً لذكرى مروره بها. وخلال حكم الامويين كانت سياسة الخلفاء الامويين تتسم بالتسامح والانفتاح حتى ان بعض المسيحيين كمنصور بن سرجون وابنه وحفيده المعروف بيوحنا الدمشقي تقلدوا مناصب هامة في خزينة الدولة وماليتها فكانوا شخصيات مرموقة في نظام الحكم (¬1). وبعدها في ظل الحكومات الإسلامية المختلفة عاش المسيحيون في امن وسلام ومارسوا عقائدهم بحرية ولم يتعرضوا للاضهاد الا على يد الغزاة الغرباء، ولهذا كانت العصور الإسلامية في معضمها عصور ذهبية لاتباع الديانه المسيحية والأديان الاخرى، حيث اعتبر الإسلام خيمة جامعة للأديان كلها على اختلافهاً ونموذجاً رفيعاً للتعايش وحضناً رحيماً يتسع للتعددية في الرأي والمعتقد (¬2). ولم يحاول الإسلام اجبار اهل الكتاب على تغيير دينهم وطالب دائماً بالحوار معهم (المجادلة)، اي ضمن لهم حرية الفكر حسب مفهومنا المعاصر، وترك لهم حق اتخاذ القرار. وقد كان موقف القرآن الكريم بشكل عام ايجابياً من المسيحية من الناحيتين السياسية والسلوكية (¬3). ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص121 - 122 (¬2) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص129 (¬3) العرب النصارى (عرض تاريخي) - حسين العودات -ص64 - 65 - الاهالى للطباعة والنشر والتوزيع - ط1 1992

وهنا يعترف القمص ابراهيم لوقا بهذه الحقيقة فيقول: ان نبي الإسلام قد حفظ للديانة المسيحية مركزها، وأيد جلالها، واثبت صحة الكثير من تعاليمها .. واحترم كتبها المنزلة (¬1). ولكي نفهم كيف استطاع المسيحيون ان يعيشوا في اطار الحضارة الإسلامية العربية ويشعروا انهم من لحامها وسداها وانهم ليسوا غرباء عنها بل من العناصر الفاعلة في تشييد الحضارة العربية ومساعدة اخوانهم المسلمين لصيانة عقائدهم في مختلف ميادين العلوم ومقتضيات الحضارة، يجب ان نشير إلى ان ذلك يعود إلى الاسس المشتركة بين الديانتين المسيحية والإسلامية ومواطن الالتقاء في ميادين الحياة (¬2). مثل الايمان باله واحد خالق السموات والارض الحي القيوم الغفور الرحيم بعبادة والمحب لهم والذي يحيي ويميت، وكذلك الايمان بالرسل والانبياء وبفضل الله ونعمه علينا ولذلك يكرس المؤمن كل اعماله لطاعه الله وعبادته وحمده وشكره على نعمه الكثيره التى سخرها له والتى يجب ان يستعملها بحكمة اذ انه سيحاسب على كيفية تصرفه. ان نقاط الالتقاء ومحاوره عديدة بين المسيحية والإسلام، وبالتالي بين المؤمنين المسيحيين والمؤمنين المسلمين. وسب ذلك اللقاء يكمن في كون الدينين ينبعان من مصدر واحد في الاساس هو مصدر التوحيد السامي - الابراهيمي- فالمسيحية فخورة بكونها تسير على المنوال الذي نسجه ابراهيم، والإسلام كذلك، يعلن، بكل صراحة، انه لم يأت بعقيدة جديدة، بل ان جل ما قام به هو تصحيح ما شاب الايمان الابراهيمي التوحيدي من انحرافات وغموض وشوائب. فالإسلام هو في نظر علماء الدين المسلمين - الحركة التصحيحية اللازمة والتي كانت منتظرة، لتنقذ الدين الحنيف، دين ابراهيم الخليل، من كل انحراف أصابه، خلال حقبات الزمن، وتطهره من كل وهن اصابه أو شرك أو خطأ ادخله الناس، زوراً وجهلاً، على عقيدة الإسلام الاصيلة، وايمان التوحيد الخالص. ¬

(¬1) المسيحية في الإسلام - القمص ابراهيم لوقا - ص5 (¬2) المسيحية والحضارة العربية - الاب الدكتور جورج شحاته قنواتي - ص 17 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - ط2 1984

وكما المسيحية تقول عن نفسها إنها لم تبدع ديانه جديدة إنما هي بناء روحي يقوم على قواعد ترقى بنا بعيداً في الزمن، من آدم وحواء إلى هابيل وشيت .. إلى نوح، فسام، فابراهيم، ومن ابراهيم إلى موسى وداود وسليمان، ومن سليمان الحكيم إلى يوحنا- يحيى والمسيح. انها إذا، واسفارها التي هي كتب العهد الجديد، ليست سوى إتمام للبناء التوحيدي، الابراهيمي- الموسوي، الذي تجلى ووصل إلى قمته بولادة المسيح وبشارته. انها الاكمال لتلك العمارة التي بدأت بآدم وحواء .. وهي مستمرة إلى اليوم. وكما تلتقي المسيحية "الموسوية- اليهودية" في كثير من المحاور وفي عديد من النقاط الهامة، وكما تفترق المسيحية عن الموسوية في بعض المجالات وفي عدد من المحاور، كذلك يلتقي الإسلام المسيحية في كثير من محاور الايجاب وفي عديد من النقاط المشتركة المركزية، ويعود ليفترق عنها في بعض المجالات وعند عدد من المحاور (¬1). ان هذا الارث الزاخر لموقف الإسلام من المسيحيين ومن الديانه المسيحية يمكن ان يكون افضل منطلق للحوار بين الإسلام والمسيحية. فالإسلام كدين سماوى خاتم جاء معترفاً بالمسيحية وبرسالة السيد المسيح عليه السلام، حيث ان ما ورد في القرآن والسنة عن السيد المسيح عليه السلام وامه مريم العذراء، سيكون له أثر كبير في التسريع في الحوار وجعل كثير من المسيحيين يتفهمون الإسلام ورسالته الخالدة بما سيكون له دور مهم في التقريب بين الديانتين السماوييتين بما يخدم قضية الانسان على الارض ويساهم في مواجهة المسيحية الصهيونية، ومحاولاتها لتشويه صورة الإسلام والمسلمين. وبالرغم من انعقاد عدة مؤتمرات للحوار الإسلامي - المسيحي شارك فيها وشجعها الفاتيكان ودول ومؤسسات إسلامية متعددة، الا انها لم تتصد لكثير من القضايا الأساسية، ولم تشكل فرق عمل لوضع منهجية مشتركة تنطلق من ثوابت إيمانية ومن قناعات مشتركة لمواجهة الاخطار التي تواجه الجميع وبالذات خطر المسيحية الصهيونية. فالمواجهة يجب ان تشمل اقامة حوار بناء وهادف مع كافة ¬

(¬1) محاور الالتقاء ومحاور الافتراق بين المسيحية والإسلام - غسان سليم سالم- ص188 - دار الطليعة -بيروت - ط1 2004

المسيح المسلم

المذاهب المسيحية وبالذات الكاثوليكية والارثوذكسية وذلك من اجل اقامة تحالف مع هذه الكنائس للتصدى وفضح المخططات العدمية للصهيونية المسيحية، والتى لا تهدد العرب والمسلمين فقط، بل تهدد المسيحية ذاتها وتخرجها عن اطارها الصحيح، كديانه للمحبه والسلام، من خلال عملية التهويد المنظم للصهيونية المسيحية. وربما يكون كتاب "المسيح المسلم" للدكتور طريف الخالدى نموذج ممتاز للتعريف بالإسلام وموقفه من رسالة السيد المسيح عليه السلام سيسهم بكل تأكيد في اثراء الحوار الإسلامى المسيحى. المسيح المسلم (¬1) هذا الكتاب يمتاز بميزتين، الأولى أنه فريد في نوعه ومضمونه, والثانية أنه يحمل رسالة بالغة الأهمية موجهة إلى القارئ الغربي. فموضوع الكتاب هو صورة السيد المسيح في التراث العربي الإسلامي, ومنهجه هو حصر الأدبيات والأقوال والقصص التي وردت في كتابات المؤرخين والأدباء والشعراء العرب والمسلمين عن السيد المسيح. وتتمثل أهمية مثل هذا الكتاب في أنه يهشم إحدى الصور النمطية في المخيلة الغربية عن الإسلام ونظرته إلى المسيحية, وهي نظرة لا أصل لها, خاصة عند غالبية الناس العاديين. فهذه النظرة تفترض عداء مستحكماً بين الإسلام والمسيحية, وبالتالي وجود نظرة عداء تجاه السيد المسيح بين المسلمين. والغريب أنه مقابل هذا العداء المفترض بين المسيحية والإسلام, بين محمد وعيسى, هناك افتراض تقارب وعلاقة تكاملية بين اليهودية والمسيحية أثمرت ما صار يطلق عليه البعض "التقاليد أو الحضارة المسيحية اليهودية المشتركة", وذلك في سياق جهد محموم, لا تبتعد عنه السياسة ومرتبط بالمسيحية المتصهينة في الولايات المتحدة, لتخفيف وطأة "عقدة الذنب" التاريخية والعداء الكبير بين المسيحية واليهودية جراء ما يحمله المسيحيون من مشاعر ضد اليهود كونهم "قتلوا المسيح" بحسب رواياتهم. ¬

(¬1) المسيح المسلم -تأليف د. طريف الخالدي- ط1 2001م - مطبعة جامعة هارفارد- المصدر: الجزيرة نت خدمة كمبردج بوك ريفيوز

وفي مقابل "الغفران" الذي تصكه أدبيات المسيحية المتصهينة لليهود على تلك "الجريمة" والتقارب المفتعل بين الديانتين هناك توكيد لعلاقة العداء المتوهم بين الإسلام والمسيحية تنسحب على طبيعة النظرة العدائية لنبي الإسلام محمد, وتفترض أن نظرة مشابهة لها موجودة عند المسلمين تجاه السيد المسيح. فلا تدرك غالبية مسيحيي العالم, وفي مقدمتهم مسيحيو الغرب, أن المسلمين يعتبرون المسيح نبياً من أنبيائهم, ويوقرونه كما يوقرون محمداًً, وأنهم يصلون عليه كلما ذكر ويردون عليه السلام، وأنه لا يجوز بحسب قيم الإسلام إلا أن يخص المسيح وسائر الأنبياء بالاحترام والطاعة والتقدير, فضلاً عن أن يجول بخاطر المسلمين أن يعادوا أحد الأنبياء ويتطاولوا عليه كما يتم التطاول على سيدنا محمد (ص) مثلاً في الأدبيات الغربية المسيحية. وعلى ذلك فإن النظرة العدائية هي في الواقع باتجاه واحد، من قبل الغربيين تجاه نبي الإسلام, لأن النظرة التي بالاتجاه المعاكس, أي من قبل المسلمين إزاء السيد المسيح هي نظرة تبجيل لنبي مرسل. لكن السؤال الذي يبرز هنا هو هل هناك خصوصية بارزة لتعامل النص القرآني, ومن ثم الأدبيات العربية الإسلامية, مع السيد المسيح تمنحه موقعاً متميزاً عن الأنبياء الآخرين الوارد قصصهم في القرآن؟ والجواب هو نعم ولا في الوقت نفسه. ففي حين أن بعض القصص الخاص بأنبياء آخرين يأخذ مساحة أكبر, أو أن ذكر بعض الأنبياء يتردد بشكل أكثر من السيد المسيح, من ناحية التكرار أو عدد المرات فإن ثمة خصوصية معينة للمسيح تتمثل في أنه كان آخر الأنبياء قبل النبي محمد, وأنه وصف في القرآن بأنه "روح الله" و"كلمة الله" كما أنه "ابن مريم" الذي لا أب له. لكن النص القرآني شديد التركيز على أن عيسى ابن مريم إن هو إلا بشر كغيره من العباد وأنه ليس إلها ولا يدعي الألوهية. كما أن هناك رفضاً موازياً لعقيدة التثليث المسيحية, وتوكيد بارز على مبدأ الألوهية الواحدية- الله الواحد الأحد الذي لا شريك له. وهذا التركيز الشديد هو الذي يثير وأثار حفيظة العديد من علماء اللاهوت المسيحيين في قرائتهم للقرآن. ومن هنا فإن المسيح "القرآني" وافق من ناحية المسيح "الإنجيلي" حيث صورته طافحة بالحب والألفة والتوقير, لكن في الوقت نفسه خالفه من ناحية رفض قصة الصلب التي يقول الإنجيل بأنها حدثت, كما والأهم من ذلك التوكيد على بشرية السيد المسيح وعدم ألوهيته. وكان أن اعتبر

البعض أن رفض القرآن لفكرة ألوهية المسيح وصلبه لن يؤدي إلى أي مصالحة تاريخية بين الديانتين وبالتالي فإنه لا مغزى للصورة الإيجابية عن المسيح في القرآن. وبشكل عام يتناول النص القرآني قصص المسيح عبر أربعة أشكال أو مراحل، قصص مرحلة ولادة المسيح وما رافقها, وقصص المعجزات الخاصة به كإحياء الموتى وشفاء المرضى, وقصص الحوارات التي دارت بينه وبين الله, ثم الآيات الكثيرة التي توكد على بشريته وعبوديته لله. أما النصوص الورادة عن المسيح في الكتابات العربية والإسلامية فهي في مجملها مثيرة وتقدم معرفة رائدة وفريدة من نوعها، فيها نقرأ أحاديث منسوبة إلى السيد المسيح تنقل لنا عظمة حكمته وروحه الشفافة, ونقرأ قصصا عن رأفته بالناس ونبوته وتضحياته, وكلها تؤكد على بشريته انسجاماً مع الرؤية القرآنية والإسلامية له. والسيد المسيح يتبدى لنا عبداً لله, وليس بإله, وهي السمة الأبرز والأهم لـ"المسيح المسلم" (¬1). وفي مقابل هذه النظره الايجابية تجاه المسيحيه والسيد المسيح، فاننا نجد نظره مغايره تماماً لدى المسيحيين تجاه الإسلام والرسول الكريم، حيث قوبلت المبادرة الحوارية للإسلام بذلك النوع من "الإنشاء الإيديولوجي" الذي نستطيع نعت تاريخه، باعتراف بعض الأوساط المسيحية المعاصرة، بأنه كان مجرد تاريخ للكذب على الإسلام (¬2) الأمر الذي أضفى على ردود الفعل المسيحية القديمة طابعا أكثر عنفاً وأغزر إنشاءً وأبعد أثراً على المستوى النفسي والثقافي، مما شكل في الواقع عائقا أمام التفاهم بين الطرفين وحال دون الاشتراك في بناء حضارة إنسانية مشتركة. وحسب شهادة المستشرق المعاصر الكبير "يوسف فإن إيس" في كتاب صدر له سنة 1978 "إن ما يسمعه المرء أو يقرؤه عن الإسلام في وسائل الإعلام الغربية [الحديثة] والطريقة التي يتحدث بها المثقفون في الغرب عموما عنه، لهو شيء مزعج جدا، مزعج بمعنى مزدوج: أولا بسبب المعلومات غير الصحيحة والآراء ¬

(¬1) المسيح المسلم -تأليف د. طريف الخالدي- ط1 2001م - مطبعة جامعة هارفارد- المصدر: الجزيرة نت خدمة كمبردج بوك ريفيوز (¬2) - الإسلام والمسيحية- أليكسي جورافسكي- الكويت، عالم المعرفة، ط.1 نوفمبر 1996، الفصل الثالث والرابع (ترجمة محمد الجراد).

الخاطئة، وثانيا بسبب النبرة الشيطانية المخيفة التي يتم بها عرض هذه الأحكام عن الإسلام" (¬1). وفي احدى الندوات المخصصة لدراسة سبل تعزيز التعاون بين الأديان، تركّزت معظم المناقشات، علي ما لدي المسيحيين من أفكار خاطئة عن الإسلام. ومن الصور النمطية الكثيرة التي جري تناولها، برزت خمسٌ اعتُبرت العائق الأكبر أمام الانسجام والتعاون بين الديانات والثقافات. فهي تربط الإسلام بالإرهاب والتعصّب واستعباد المرأة وانعدام التسامح تجاه غير المسلمين والعداء للديموقراطية وعبادة إله غريب وانتقامي (¬2). وهذه الصور كما يقول "بول فندلي" ليست بعيده عن ان الصور المزيفه عن الإسلام، التى حملتها من مرحلة الطفولة، فقد استمرت طويلاً في تجربتى إلى حد يجعلنى لا افاجئ بوجود أمريكيين آخرين يحمملون افكاراً خاطئه مماثله. وثمة ما يثير الاحساس بحراجة الحال، لدى التأمل بهذا الكم الهائل من الصور النمطية المضللة عن الإسلام، الذى تدفق، عاماً بعد آخر، من صفوف مدارس الاحد في انحاء أمريكا، من دون ان يواجه الطعن. اذ ان الملايين من الشباب القابلين للتأثر ربما تقبلوا هذه التضليلات كحقيقة، ونقلوها، على مر السنين، كما هى، بلا تصحيح، إلى ملايين آخرين من الناس (¬3). ويوضح بول فندلي كيف تمكن من تغيير نظرته للاسلام بعد ان عايش المسلمين وعرفهم عن قرب حيث يقول: كانت عدن أول محطة لي في استكشاف العالم الإسلامي. في ذلك البلد النائي تعرّفت، للمرة الأولي، إلي ديانة يؤمن بها أكثر من بليون نسمة يشغلون أنحاء العالم كافة. إنهم جماعة دينية لا يفوقها عدداً سوي المسيحيين الذين يبلغ تعدادهم ما يزيد علي بليوني نسمة. وفي المحطات التالية التي توقفتُ فيها، فتحت عينيّ علي ثقافة مستندة إلي الشرف والكرامة وقيمة كل إنسان، علاوة علي التسامح وطلب العلم؛ وهي معايير، عرفت، في ما بعد، أنها متأصّلة عميقاً في الدين الإسلامي. إنها أهداف كانت ستلقي استحسان أجدادي المسيحيين. ولكن مع هذه المعتقدات الأساسية والمشتركة، يواجه المسلمون ¬

(¬1) - الإسلام في عيون الإعلام الغربي- سهام بادي - " مجلة رؤى، باريس: العدد 13 خريف 2001، ص: 49. (¬2) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى ص 30 (¬3) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى ص37

مصاعب يومية في مجتمع أميركا المسيحيّ في غالبيته. إن معظم الأميركيين لا يعرفون أيّ مسلم؛ وما زالوا غافلين عن وجود المسلمين المتنامي بوتيرة سريعة في الولايات المتحدة. ولم يناقشوا يوماً الإسلام مع أي شخص مطّلع علي هذا الدين. ولم يقرأوا يوماً آية واحدة من القرآن الكريم. وتنبع معظم تصوّراتهم عن الإسلام من الصور السلبية المزيّفة التي تظهرها التقارير الإخبارية، والأفلام والمسلسلات التلفزيونية، والحوارات في الإذاعة والتلفزيون (¬1). وقد اشرنا سابقاً إلى دور المبشريين والمستشرقيين في رسم هذه الصوره المشوهه عن الإسلام والمسلمين ولهذا فإن ايه محاوله جديده للحوار بين المسيحية والإسلام يجب ان تبدأ بمراجعة الدراسات الإستشراقية المتأثرة بمناخ الحروب الصليبية لتنقيتها من ما خالطها من دس و تشويه لصورة الإسلام و نبيه و قيمه و شعائره، مع الإستفادة من كبار المستشرقين المنصفين الذين أشادوا بروحانية الإسلام و سماحة قيمه وتسامحه. ولا بد هنا من التنويه بالخطوات الإيجابية التي قطعتها الكنيسة الكاتولوكية منذ المجمع الفاتيكاني وصدور وثيقة Nostra Actate عام 1965 التي تبنت الحوار مع المسلمين والإنفتاح عليهم، من منطلق تعزيز المحبة الوحدة بين أتباع الديانات التوحيدية. فقد نص المجمع الفاتيكاني بوضوح على "أن الكنيسة تنظر بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الأوحد، الحي القيوم، الرحيم القدير، خالق السماء والأرض، الذي وجه كلامه إلى البشر، و إنهم يسعون في الخضوع بكل نفوسهم لأحكامه الحقة كما خضع إبراهيم لله، الذي ينتمي إليه الإيمان الإسلامي بطيبة خاطر. و أنهم يجلون يسوع كنبي، و إن لم يعترفوا به كإله، و يكرمون مريم أمه العذراء ... وإذا كانت قد نشأت، على مر القرون، منازعات و عداوات كثيرة بين المسيحيين و المسلمين، فالمجمع المقدس يحض الجميع على أن يتناسوا الماضي، و ¬

(¬1) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى -ص19

يسعوا في تحقيق تفاهم صادق بينهم، و يعملوا معا على صيانة و دعم العدل في المجتمع و القيم الأخلاقية، و أيضا السلم و الحرية لجميع البشر " (¬1). كما أعلن البابا بول السادس الرؤية الجديدة للعالم الإسلامي في خطاب بابوي بعنوان"كنيسته"-أي كنيسة السيد المسيح- قال فيه:"من الصواب أن تعجب بأولئك الناس-يعني المسلمين - لكل ما هو طيب وحق" "في عبادتهم لله (جل في علاه) ". ولقد تأكد هذا الموقف في الخطاب البابوي الذي صدر بعد ذلك بشهرين سنة 1964م بعنوان "نور لكل الأمم"، الذي جاء فيه أن "مبدأ الخلاص يشمل أيضاً أولئك الذين يُقرُّون بوجودالخالق وفي مقدمتهم المسلمون (¬2). وقد أنشئت في سنة 1974م لجنتان: لجنة لليهودية، وأخرى للإسلام ضمن كيان واحد يطلق عليه الآن " المجلس البابوي للحوار بين الأديان. إن هذه المقاربة الجديدة تفتح الباب واسعا للحوار البناء بين المسلمين الذين لم يكن لهم أصلا مشكل عقدي مع الديانة المسيحية، و إن كان لا بد من التنبيه إلى أن بعض التيارات الأصولية المسيحية المتطرفة لاتزال تتمسك بالصورة المشوهة السابقة، و من بينها الحركات الصهيونية المسيحية في أمريكا. و قد إستمعنا لبعض رموز و أركان هذا التيار يسب الإسلام و ينعته بالديانة الزائفة الشريرة بعد تفجيرات نيويورك في سبتمبر 2001 (¬3). ولكن تزايد الوجود الإسلامي في الغرب ادى إلى زياده المعرفه بالإسلام، حيث يعتبر هذا الوجود عنصرا أساسيا في حسابات التفاعل من تعايش وصراع حضاريين بين المسيحية واليهودية من جهة والإسلام من جهة أخرى، وقد أدى هذا التواجد إلى بروز مجموعة من الظواهر المستحدثة كتزايد عدد المساجد والمراكز الإسلامية والجمعيات الخيرية والمدنية التي حقق بعضها نجاحات ¬

(¬1) ندوة العيش المشترك في الإسلام و المسيحية - اللجنة الوطنية اللبنانية للتربية و الثقافة و العلوم - بيروت 2002 - راجع على الخصوص بحث د. محمد السماك: في ثقافة الحوار الإسلامي - المسيحي (ص 260 - 266) (¬2) الإسلام والغرب: تعاون أم صدام - رالف بريبانتي- http://www.science-islam.net/article.php3?id_article=630&lang=ar (¬3) ندوة العيش المشترك في الإسلام و المسيحية - اللجنة الوطنية اللبنانية للتربية و الثقافة و العلوم - بيروت 2002 - راجع على الخصوص بحث د. محمد السماك: في ثقافة الحوار الإسلامي - المسيحي (ص 260 - 266)

كبيرة، حيث وصلت مصداقيتها إلى مستوى الجمعيات الدولية غير الحكومية. وعن طريق التزاوج والاحتكاك اعتنق كثير من الغربيين الإسلام، وبهذا فتحت جبهة جديدة في التفاعل الحضاري بقيادة الجاليات المسلمة في الدول الغربية التي بدأت تشكل أحد أبواب الانبعاث الحضاري للإسلام في ظل التطور العلمي والتكنولوجي الذي يشهده الغرب، غير أن هذا الباب تعتريه صعوبات مهمة أبرزها وأخطرها التهمة بالإرهاب (¬1). وعلى العموم فأنه في اطار العلاقة بين الإسلام والمسيحية في عصرنا الحاضر فإن هناك الكثير مما يمكن انجازه لتعزيز الحوار الهادف والبناء بين الجانبين بما يخدم قضيه الانسان على هذه الارض. فالخلاف بين الجانبين ليس كبيراً، بل ان نقاط الالتقاء اكثر من الخلاف. فلا داعي لان نختلف ونتعارك ونحن واقفون على عتبة إيمانية مشتركة، وما يقربنا من بعضنا البعض اكثر بكثير مما يبعدنا. والمعاشرة بالمعروف مع كل الطوائف والأديان المخالفة هي اصل من أصول الشريعة الإسلاميه، والمسلمون اكثر اعترافاً من المسيحيين بصلة القربى بين الأديان (¬2). وامام مجموع هذه الحقائق الثابته، نقف بحيرة وعجب لنسأل: اين الحل الذي يجب ان يولد، ليبدأ المجهود المشترك الهادف إلى فتح مجال الحوار الحقيقي الجدى بين نصارى العالم ومسيحييه من جهه، وبين مسلمي العالم ومؤمنيه من جهة آخرى، للوصول إلى فهم عميق يجمع المؤمنين كافة كل المؤمنين، في مناخ واحد من الاحترام المتبادل الصريح اولاً، والتخطيط الواضح لبدأ عمل بناء مشترك، على ساحة الارض كلها ثانياً. فمستقبل البشرية والانسان ومصير الكرة الارضية ومن عليها مرهون، في الزمن الآتي، لقيام مثل هذا التعاون البناء المشترك، الذي يدعو اليه الناس، وندعو اليه نحن معهم، بكل ما اوتينا من قناعة وكد وحماسة. فإن الذي يجمع بين محمد والمسيح هو في الواقع، اكثر بكثير من الذي يفرق! أنه يجب علينا الا ننسى ايضاً أنه، بالرغم من وجود محاور هامة تجمع بين ديانتي التوحيد، فإن في الامر كثيراً من النقاط العديدة التي يفترق فيها المسيحيون والمسلمون، بعضهم عن ¬

(¬1) بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة-عرض/سكينة بوشلوح (¬2) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى- ص 54

الحوار بين الإسلام واليهودية

البعض الآخر. لذلك وجب بدء العمل الصادق لاقامة الحوار الواجب انطلاقاً من قبول كل دين للدين الآخر والاعتراف له بحقه في الوجود والاعراب عن نفسه وحقائقه وايمانه. فعلى صخرة مثل هذه المبادئ وعلى ارضية متينه من الصراحة في التعامل والصدق في الأخذ والعطاء، يمكننا أن نبدأ دراستنا لمحاور الافتراق، دون ان نقع في محاذير التحيز والانحراف، والرياء والتقوقع، ومحاولة ذر الرماد في العيون والعقول (¬1). الحوار بين الإسلام واليهودية ربما يستغرب البعض طرح فكرة حوار بين الديانتين اليهودية والإسلامية في عصرنا الحاضر الذى يشهد صراعاً مريراً بين اتباع الديانتين من منطلقات ايديلوجيه ربما يرى البعض انها بعيده عن الدين، حيث كانت ارض فلسطين ملتقى هذا الصراع بين اسرائيل وحلفائها من ناحية والدول العربية والإسلامية من ناحية اخرى. وبالتأكيد فإن هذا الصراع زاد من الجفاء والبعد بين اتباع الديانتين السماويتين ولم يعد بالامكان البحث عن نقاط الالتقاء والتقارب والبحث عن الاصل المشترك لهاتين الديانتين ومحاوله الالتقاء عند قواسم مشتركه ربما ستساهم في وضع حد لهذا التدهور والحرب المستعره في المنطقة منذ زمن بعيد، والاهم انها يمكن ان تكون خطوه مهمه في ايقاف استغلال الصهيونية والاصوليون المسيحيون لهذه القضيه لتنفيذ مخططاتهم العدمية في المنطقة والعالم. وكما اتضح لنا في السابق فان التاريخ الإسلامي كما تعامل مع الديانه المسيحية والمسيحيين بتسامح وانصاف وحفظ لهم حقوقهم الدينيه والمدنية في ظل الدولة الإسلامية منذ عهد الرسول (ص) وحتى بداية انهيار الدولة الإسلامية، فقد كان الحال كذلك مع اليهود حيث عاشوا في امن وسلام خلال فترات الحكم الإسلامى ولم يتعرضوا للاضطهاد والمضايقه كما حدث معهم في اوروبا بل وصل العديد منهم إلى مناصب عليا في الدوله الإسلامية واسهموا في تطورها وازدهارها وكانت لهم الملاذ الامين من بطش الاوربيين قديماً وحتى وقت قريب. وهنا ينبه ¬

(¬1) محاور الالتقاء ومحاور الافتراق بين المسيحية والإسلام - غسان سليم سالم- ص198 - 190 - دار الطليعة -بيروت - ط1 2004

المؤرخ (رابوبور) إلى " أنه بعد فتح فلسطين على يد المسلمين فقد تحسن وضع اليهود على نحو ملموس وزاد نشاطهم الثقافي. ومع عهد الخلفاء المسلمين استطاعت أكاديمية طبريا أن تنتقل إلى القدس لتصبح مركز اشعاع ثقافي: فلقد جرى فيها تثبيت النصوص العبرانية للعهد القديم. وفي فلسطين تم آنذاك تأليف أجمل تراتيل الصلوات الدينية اليهودية. ولم يتعرض اليهود والمسيحيون في ارض الإسلام إلى اضطهادات ومذابح كتلك المذابح الضخمة التى جرت في الغرب ومنها المذابح الدموية العارمة ابان احتلال الصليبيين للقدس (¬1). واذا كان الحال كذلك فلابد لنا من البحث عن الخلل الذى حدث لهذه العلاقه وهو بالتأكيد كان بسبب الهجمه الصليبيه الصهيونية الحديثه في عصرنا الحاضر، مما يعنى اننا يجب ان نبدأ بمحاولات للحوار مع اتباع الديانه اليهودية انطلاقاً مما ورد في ديننا الإسلامى عسى ان يساهم ذلك في اعادة بعض اليهود إلى الصواب ويعرفهم بحقيقة ديننا الإسلامى الذى يعتبر اليهودية ديانه سماوية وكيف اننا كمسلمين نجل ونقدر الانبياء جميعاً ولا نفرق بين احداً منهم، حيث يعتبر الباحثون في علم الأديان، ان الرسالات الثلاث: الموسوية- اليهودية والمسيحية- النصرانية والإسلام هي، في الواقع، متصلة بعضها بالبعض الآخر: زمنياً وتاريخياً وتسلسلياً، وجفرافياً ومناطقياً واقليمياً، عقيدة ومبادئ وتعاليم. فهي تلتقي في كثير من الشؤون والمجالات، والمبادئ والتعاليم. ويؤكد معظم الباحثين انها حلقات ثلاث في عقد واحد فريد. ومن اجل ذلك، وفي سبيل الموضوعية العلمية، لا يستطيع الباحث الجدي ان يلج عالم المسيحية والإسلام، دون الانطلاق - ولو بايجاز - من الدين اليهودي لان الولوج إلى دائرة: الكتاب المقدس من جهة، والقرآن المجيد من جهة اخرى لا يمكن ان يكون متكاملاً، متيناً وعميقاً، اذ لم يتطرق الباحث فيه إلى التوحيد الابراهيمي الذي بدأ - زمنياً وتاريخياً- مع خليل الرحمن ابراهيم المطيع لله ومع ابنيه اسماعيل واسحق ثم مع حفيده يعقوب والاسباط ابناء يعقوب. ذلك ان عقد ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص126

التوحيد الفريد القيم: بدأ حلقة، حلقة، ودرة، درة .. إلى ان انتهى برسالة القرآن ودعوة محمد، الرسول العربي (¬1). وكما اسلفنا فقد حرص الرسول الكريم على دعوة اليهود للدين الإسلامي وحاورهم وجادلهم وفي بداية الفترة المدنية بعد الهجرة إلى مكه عقد الرسول (ص) حلفاً ومعاهدة مع اليهود تجسد في دستور المدينة لينظم العلاقة بين الامة المسلمة الناشة باليهود ضمن دولة مدنية قائمة على التنوع تجسيدا موضوعيا للرؤية القرآنية للتنوع الديني. فمن بنود هذا الدستور الذي تتجاوز بنوده الخمسين: لليهود دينهم و للمسلمين دينهم ... و من تبعنا من يهود فإن لهم النصر و الأسوة، غير مظلومين و لا متناصر عليهم ... و أن بطانة يهود و مواليهم كأنفسهم .. و أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، و على اليهود نفقتهم، و على المسلمين نفقتهم، و أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ... و أن بينهم النصح و النصيحة و البر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه ". ومن الواضح من هذه المعاهدة التي تكرس تحالفا متينا بين المسلمين و اليهود انها تقوم على المساواة المطلقة و حقوق المواطنة المتماثلة - لإن إختلاف الدين لم يكن له أثر في طبيعة العلاقة بين المجموعتين المتعايشتين، و لم ينحل العقد إلا بغدر قبائل يهود المدينة التي إختارت الإنحياز للخط المناوي للمسلمين (¬2) واصرت على موقفها من الدعوة الجديدة ووقفت موقفاً عدائياً من الإسلام والمسلمين منذ ظهور الإسلام، وتآمرت مع المشركين لاخفاء نور الإسلام وسحق دعوته، ولهذا فقد اضطر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ان يعاملهم بالمثل فحاربهم، وعاهدهم، ولكنهم خانوا، وخدعوا فتم اجلاؤهم عن الجزيرة العربية، ليس لانهم يهود، بل لخياناتهم. وبعد ان انتصر الإسلام على المشركين، وعلى اليهود، وتمت له السيطرة اصبح اليهود، شأنهم شأن النصارى، يعاملون معاملة طبيعية كمواطنين، ما لم يخرجوا على النظام، ويمتنعوا عن القيام بواجباتهم ¬

(¬1) محاور الالتقاء ومحاور الافتراق بين المسيحية والإسلام - غسان سليم سالم- ص 76 - دار الطليعة -بيروت - ط1 2004 (¬2) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.

المفروضة عليهم. فحقوقهم محفوظة طالما أدوا واجباتهم. وهذا لا ينطبق عليهم وحدهم كأصحاب دين مغاير، بل ينطبق على المسلمين ايضاً الذين يخرجون على النظام ويخالفون القوانين والانظمة التي ارساها الإسلام. ومما يؤكد ذلك ان الرسول (ص) عامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح حتى انه اوصى عامله معاذ بن جبل (بأن لا يفتن اليهود عن يهوديتهم) (¬1). وعندما دخل الخليفة عمر بن الخطاب مدينة القدس عام 638 م، منح أهل القدس وبطريركها سافرونيوس عهداً بالسلم والحماية صار يعرف بعهد عمر أو بميثاق عمر بالإضافة إلى ذلك، ولتأكيد حماية الأماكن المقدسة للنصارى واليهود والعناية بها، عهد عمر بحماية كل مكانٍ من الأمكنة المقدسة الرئيسية، والعناية به، إلى أسرةٍ مسلمة مختلفة (¬2). وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين اذ لم يكلفوا الا دفع الجزية وبقوا متمسكين بدين آبائهم (¬3). ونتيجة هذه المعاملة كما يذهب د. اسرائيل ولفستون فقد كان اليهود في اغلب مدن العراق يخرجون لاستقبال جيوش المسلمين بالحفاوة والاكرام لانهم كانوا يؤثرونهم على غيرهم اذ يرون فيهم قوماً يؤمنون باله موسى وابراهيم. وقد ازدادت هذه الروابط متنه مع امتداد الزمن حتى دخل اليهود في جيوش المسلمين ليناضلوا معهم في اقاليم الاندلس (¬4). وهكذا فإن معاملة اليهود في ظل الحكم الإسلامي عبر التاريخ، لم تكن وليدة صدفة، ولا مجرد كرم اخلاقي من الحكام المسلمين، وانما كان ذلك بسبب العقيدة الإسلامية التي تلزم اصحابها حكاماً ومحكومين، بحماية اصحاب الديانات الاخرى، ومعاملتهم كمواطنين لهم حقوقهم التي لا يجوز المساس بها ولهم احترامهم كأصحاب ديانات سماوية يعترف بها الإسلام ويعترف برسلهم "آمن الرسول بما انزل ¬

(¬1) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - د. اسرائيل ولفنستون -ص 207 أو فتوح البلدان للبلاذري ص 71 (¬2) حان وقت إنقاذ الإسلام من المحاكم الطالبانية في مقديشو- بشير غوث- arabic.tharwaproject.com/node/894 (¬3) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - د. اسرائيل ولفنستون -ص 207 أو فتوح البلدان للبلاذري ص 78 (¬4) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - د. اسرائيل ولفنستون -ص 11 - مكتبة النافذة - الطبعة الأولى 2006

اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله، وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله". فالإسلام ينظر إلى اليهود باعتبارهم أهل كتاب سماوي وأهل دين سماوي هم مع المسيحيين ولهم أحكام خاصة في الإسلام دون غيرهم من الناس فلهم حق المؤاكلة نأكل من ذبائحهم ونتزوج من نساءهم (وطَعَامُ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُم) فالإسلام أجاز للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية. ما معنى أنه يتزوج يهودية أو نصرانية يعني تصبح هذه ربة بيته وشريكة حياته وموضع سره وأم أولاده. فهناك رابطتان طبيعيتان رابطة النسب والدم ورابطة المصاهرة، وحينما يتزوج الإنسان يضيف إلى عائلته عائلة أخرى عن طريق المصاهرة ويصبح أبو الزوجة جد أولاده أمها جدة أولاده إخوانها أخوال أولادها أخواتها خالات أولاده وهؤلاء لهم حقوق الأرحام وذوي القربى فينشأ هذه اللحمة كلحمة النسب. وبالرغم من ان الكتب المقدسة الموجودة الآن تعتبر من وجهة نظر الإسلام كتب محرفة، وليست كما نزلت على موسى وعيسى عليهما السلام، الا ان ذلك لم يمنع الإسلام بالزام المسلمين باحترام المؤمنين بها وحماية كنائسهم، واتاحة الفرصة لهم للتمتع بممارسة عباداتهم بالشكل الذي يعتقدونه. كما والزم الإسلام المسلمين بحماية حقوق غير المسلمين، ليس فقط بحرية العبادة، بل بحرية العمل والتملك، والحياة الحرة الكريمة، واعتبر الإسلام ان الاعتداء على احد من هؤلاء هو خروج على التعاليم الإسلامية، ما داموا يؤدون واجابتهم والتزاماتهم، ويؤدون الطاعة اللازمة، ولا يخرجون على النظام العام والقوانين والانظمة التي حددها الإسلام للمسلمين وغير المسلمين.

اليهود في ظل الحكم الإسلامي

اليهود في ظل الحكم الإسلامي (¬1) لقد واجه اليهود عبر التاريخ الطويل للبشرية انواعاً متعددة من الاضهادات والمظالم، لاسباب مختلفة، يعزيها بعض المؤرخين إلى اسباب ذاتية تتعلق باليهود انفسهم، أو بسبب وظائفهم الاقتصادية، كما يعزيها البعض الآخر إلى اسباب خارجة عن إرادة اليهود، بسبب الاغيار الذين يحملون عقيدة مخالفة لهم، أو لأسباب اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك. وقد صَوَّرَ المؤرخون اليهود في القرن التاسع عشر التجربة اليهودية في القرون الوسطى في ظل الإسلام باستخدام مصطلحات رومانطيقية شبه أسطورية على العكس تماماً من تاريخ الاضطهاد والقمع الذي عاشه اليهود الذين قطنوا في العالم المسيحي في القرون الوسطى، حيث قيل عن يهود الأراضي العربية وخاصة أولئك الذين عاشوا في أسبانيا المسلمة انهم عاشوا في عصر ذهبي أو ربما طوباوي (¬2)، مقارنه بما شهده اليهود من مذابح واضطهادات في معظم البلاد الاوروبية ـ ان لم يكن جميعها ـ شرقيها وغربيها، فقد حصل ان واجهوا الطرد والحرمان والمذابح (¬3). كما واجهوا احراق كتبهم الدينية كالتلمود في كثير من البلاد الاوربية في الوقت الذي كان فيه موسى بن ميمون (الذي كان يعمل في قصر الخليفة المسلم في بلاد الاندلس) يكتب عن التلمود والفلسفة اليهودية بحرية في ظلم الحكم الإسلامي (¬4). وحتى اللغة العبرية التي اختفت تماماً في القرن الثالث قبل الميلاد وحلت محلها اللغة اليونانية والارامية، لم يتم احيائها الا بعد ستة عشر قرناً وذلك في القرن الثالث عشر الميلادي .. العصر الذهبي للاسلام (¬5). ¬

(¬1) من كتاب الاستعمار وفلسطين (إسرائيل مشروع استعماري)، رفيق شاكر النتشة ـ طبعة اوليى 1984 ـ دار الجليل ـ عمان (¬2) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي-. نشر المقال باللغة الألمانية في صحيفة فرانكفورتر ألكمانية تسايتونغ بتاريخ 25.10.2003 - - موقع قنطره http://www.qantara.de/webcom/show_softlink.php?wc_c=339 (¬3) الإسلام و فلسطين - رفيق شاكر النتشة / محاضرة ص42 ـ 43، فلسطين المحلتة، بيروت، الطبعة الثالثة 1981م. (¬4) - الجنرال جواد رفعت اتلخان / الإسلام وبنو إسرائيل، ص60 ـ61، ترجمة يوسف وليشاه، الرياض، 1404هـ. (¬5) ما بعد اسرائيل - بداية التوراة ونهاية الصهيونية - احمد المسلماني- ص 56

هذا وقد وصل انتشار العقيدة اليهودية- حينما لم تكن اليهودية محصورة في حدود أمة- إلى قمته في بابل ثم في بغداد في القرن التاسع أيام الخلفاء المسلمين، حتى إن كبير احبار اليهود كان يقيم في بلاط الخلفاء وله مكانة تفوق مكانة كبار النصارى. وقد برز في هذه الفترة من ازدهار العقيدة اليهودية تحت ظل الخلافة العربية شخصيات يهودية في العراق ومصر ... وكان انحسار الثقافة اليهودية على أثر انحسار الامبراطورية العربية التي ازدهرت في ظلها تلك الثقافة. ثم كان مركز تألق اليهودية من بعد ذلك في اسبانيا تحت ظل الخلافة الإسلامية حيث ظهر فيها ونبغ (امراء) الطائفة اليهودية مثل (حسدهي بن سبروت) وزير الخليفة في قرطبة، وصموئيل وزير سلطان غرناطه، وهناك فلاسفة ولاهوتيون وشعراء (سليمان بن جابيرول ويهودا هاليفي ولاسيما موسى بن ميمون) ظهروا ونبغوا في تلك المرحلة التي يسميها أندريه شوراكي (المرحلة الذهبية) لليهود في اسبانيا المسلمة حيث أثمر التلاقح اليهودي - العربي أنضج ثماره واحلاها (¬1). ففي حين كانت اوروبا الغربية المسيحية تضطهد اليهود باسم الدين وتذيقهم الوان العذاب في القرون الوسطى، وتضطرهم على النزوح إلى شرقي اوروبا وغربيها، كانت الدول العربية توليهم اسمى المناصب وتعترف لهم بحق المساواة المطلقة فيتجرون ويثرون، يبلغون شأناً في السياسة والادارة والاقتصاد لم يسبق له مثيل (¬2). وهكذا عاشوا في بلاد المسلمين لهم ذمة الله وذمة رسوله وذمة جماعة المسلمين وكان لهم ثروات هائلة ووصلوا إلى القرب من أهل الحل والعقد ومن قرب السلطان حتى في بعض الأحيان حسدهم المسلمون أنهم أصبحوا مقربين من أولى الأمر ومن السلاطين، وهناك شاعر مصري ساخر اسمه الحسن ابن خرقان له أبيات يقول فيها: يهود هذا الزمان قد بلغوا غايات آمالهم وقد ملكوا المجد فيهم والمال عندهم ومنهم المستشار والملك ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص186 (¬2) موقف عرب فلسطين من الهجرة اليهودية الصهيونية (1882 ـ 1914م) - بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ بلاد الشام (فلسطين) - د. اسماعيل احمد ياغي / ص1.

يا أهل مصر إني نصحت لكم تهودوا فقد تهود الملك (¬1). هكذا تمتّع اليهود والمسيحيون الذين عاشوا في العالم الإسلامي بتسامح شرعي بوصفهم "أهل الذمة"، حيث لم تتكون في الإسلام قوانين خاصة لليهود كتلك التي تَكَوّنَتْ في العالم المسيحي، حيث كان يهود القرون الوسطى يعتبرون أقناناً للمجلس الملكي وفي بعض الأحيان مارست الكنيسة سلطتها المطلقة على اليهود متذرعة بمبدأ كنسي قديم يتعلق بعبودية اليهود الأبدية. إن التشريعات الإسلامية التي تتعلق بحياة اليهود تجسدت في ميثاق عمر الذي أُدْخِلَ في الشريعة الإسلامية. وقد حُوفِظَ على التنظيمات أو التشريعات كما هي بدون تغيير على مرور الزمن ونادراً ما تم خرقها. ولأسباب مهمة أخرى أيضاً لم يُصَب التجار اليهود المتجولين في الفلك الإسلامي بوصمة الآخرية (أي كونهم آخرين) التي عانى منها اليهود في أوربا. لأنهم كانوا من سكان الشرق الأدنى الأصليين وليسوا مهاجرين كما في الغرب اللاتيني، وغالباً لا يمكن تمييزهم جسمانياً من جيرانهم العرب المسلمين (¬2). يقول الكاتب اليهودي الماركسي إبراهام ليون في كتابه "المفهوم المادي للمسألة اليهودية " والذي علق عليه الكاتب اليهودي مكسيم ردنسون: "عامل الإسلام اليهودية بتسامح يفوق التسامح الذي لاقاه هذا الدين ـ من جانب المسيحية ـ كتيار ايديولوجي اعترف بحقه بالبقاء بالرغم من الهزيمة التي لحقت به". ويقول ايضاً في: وفي ظل الامبراطورية الإسلامية والدويلات التي قامت على اشلائها، والتي احتفظت فيما بينها بصلات وثيقة، ازدهرت التجارة بين مناطق متباعدة، وتقدم الانتاج الزراعي الخاص بكل اقليم من الاقاليم، وراجت الصناعات اليدوية، وشارك اليهود كسائر عناصر السكان في هذا التقدم، ومارس عدد كبير منهم التجارة كما يقول ـ جواتين ـ: " لقد ادت هذه الثورة ـ البرجوازية ـ إلى الاسراع في تحويل اليهود من شعب يمارس بالدرجة الأولى المهن اليدوية إلى جماعة تهتم بصورة ¬

(¬1) برامج الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - تاريخ النشر: الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة (¬2) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي-. نشر المقال باللغة الألمانية في صحيفة فرانكفورتر ألكمانية تسايتونغ بتاريخ 25.10.2003 - - موقع قنطره http://www.qantara.de/webcom/show_softlink.php?wc_c=339

رئيسية بالتجارة .. وعندما وجد اليهود انفسهم ابان العصر الإسلامي امام حاضرة ميركانتيلية قابلوا التحدي وتحولوا بدورهم إلى امة تتكون من رجال الاعمال وباشروا بالقيام بدور رئيسي في نهضة الحضارة الجديدة (¬1). وقد وجد اليهود الذين لم يعانوا الاضطهاد القاسي حيث كانوا يقيمون ملجأ لهم في البلدان المجاورة، وخاصة خارج البلدان المسيحية، في العالم الإسلامي الذي فتح لهم صدره (¬2). ويقول الكاتب اليهودي المعادي للصهيونية الفرد ليلنتال: وكما اشار المؤرخون اليهود فان العصر الذهبي لليهودية امتد من القرون البادئة عام 711 ب. م عندما عاش اليهود متمتعين بالنفوذ والاحترام تحت السلطة الإسلامية في اسبانيا والبرتغال. وحين اضطر اليهود إلى الفرار من وجه مجالس التفتيش المسيحية وجدوا ملجأ لهم في شمال افريقيا والشرق الاوسط. ان ما يعرف في الغرب بالعداء للسامية لم ينشأ في العالم العربي في يوم من الأيام، ان العرب لم يكونوا قط معادين لليهود، والإسلام يعتبر موسى وابراهيم كما يعتبر يسوع انبياء ... وفي مصر عاش اليهود طوال الف سنة جنباً إلى جنب مع المسلمين ـ وبعضهم من احفاد اليهود القدماء الذين خلفهم موسى وراءه عند خروجه من مصر، وفر آخرون إلى مصر بعد التدمير الأول الذي انزله البابليون بهيكل القدس، وفي عام 250 ق. م يحدثنا فيلو انه كان في الاسكندرية يهوداً اكثر مما كان في القدس، ووجد اليهود ملاذاً لهم في مصر نجاهم من الاضطهادات النصرانية في اسبانيا والبرتغال خلال القرن الخامس وكذلك اثناء الثورة الروسية والحكم الهتلري. ولا ريب في ان الغزو الاسرائيلي لمصر قد وضع حداً لهذا الملاذ المصري ليهود العالم (¬3). وجاء في كتاب "تاريخ العرب: ولقد لقى اليهود من محاسنة المسلمين فوق ما لقيه النصارى برغم مما في بعض الآيات القرآنية من تنديد بهم. والسبب انهم كانوا قليلي العدد فلم يخشى آذاهم، وقد وجد المقدسي سنة 985م ان اكثر الصيارفة وارباب البنوك في سوريا يهود واكثر الكتبة والاطباء نصارى ونرى في عهد عدد من ¬

(¬1) المفهوم المادي للمسألة اليهودية- ابراهام ليون - ص156 - 157، دار الطليعة، بيروت، 1970م، (¬2) - المفهوم المادي للمسألة اليهودية- ابراهام ليون /ص161. (¬3) هكذا يضيع الشرق الاوسط- الفريد ليلينتال - ص 294 - 295.

الخلفاء واخصهم المعتصد (892 ـ 902م) انه كان لليهود في الدولة مراكز هامة. وكان لهم في بغداد مستعمرة كبيرة ظلت مزدهرة حتى سقوط المدينة. وقد زار هذه المستعمرة بنيامين التطيلي حول سنة 1169 م فوجد فيها عشر مدارس للحاخامين وثلاثة وعشرين كنيساً منها واحد رئيسي مزدان بالرخام المخطط ومجمل بالذهب والفضة، وافاض بنيامين في وصف الحفاوة التي لاقاها رئيس اليهود البابليين من المسلمين بصفته سليل بيت داوود النبي ورئيس الملة الاسرائيلية (ريش جاوثا) في الارامية أي امير السبي أو بصفته في الواقع زعيم جميع اليهود الذين يدينون بالطاعة للخلافة في بغداد. فقد كان لرئيس الحاخاميين هذا من السلطة التشريعية على ابناء طائفته مثل ما كان للجاثليق على جميع النصارى، وقد روى انه كانت له ثروة ومكانة واملاك طائلة فيها الحدائق والبيوت والمزارع الخصبة، وكان إذا خرج إلى المثول في حضرة الخليفة ارتدى الملابس الحريرية المطرزة وعمامة بيضاء موشاة فيها الجواهر واحاط به رهط من الفرسان وجرى امامه ساع يصيح باعلى صوته (افسحوا درباً لسيدنا ابن داوود) (¬1). وهكذا فأنه ليس من المدهش أن اليهود الذين عاشوا في الأراضي الإسلامية في العصور الوسطى لم يحفظوا أية ذاكرة جماعية عن عنف قام به مسلمون ضد اليهود، ناهيك عن معاداة السامية. و هذا على خلاف شديد مع إخوانهم الذين عاشوا في الأراضي المسيحية والذين رسموا تاريخهم على شكل سلسلة طويلة من المعاناة. ولكن هنالك سلسلة واحدة من العنف تأتي إلى الذاكرة. وهي المذابح والتحويل القسري التي قامت به طائفة متعصبة من الموحّدين في شمال أفريقيا وأسبانيا في القرن الثاني عشر ضد اليهود والمسيحيين وحتى المسلمين المنشقين أو الذين لا يوافقون طريقتهم. وهذا الاضطهاد هو الذي أجبر عائلة ميمون على هجرة وترك أسبانيا والاغتراب (¬2). وفي ظل الدولة العثمانية تمتع اليهود في فلسطين، التي كانت خاضعة للحكم العثماني، منذ سنة 1517 م وفي اماكن اخرى من الامبراطورية العثمانية، بقسط ¬

(¬1) تاريخ العرب- فيليب حتي، د. ادوارد جرجي - الجزء الثاني، ص437 ـ 438 د. جبرائيل جبور/ دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع، بيروت، ط3، 1961م. (¬2) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي.

كاف من الحرية الدينية، لم تكن من نصيبهم في أي بلد اوروبي، فخلال الحكم العثماني، لم تتخذ اية اجراءات رسمية تستحق الذكر، تناهض اليهود أو تميز بينهم وبين باقي السكان، كما كان الحال في معظم الدول الاوروبية ان لم يكن فيها كلها (¬1). فقد عاش اليهود تحت الحكم العثماني بسلام لكنهم كانوا يلاقون دوماً في اوروبا الشرقية تمييزاً وكراهية قوية كانت تتفاقم من وقت لآخر لتنتهي بالمذابح (¬2). وتؤكد (الموسوعة اليهودية) بان السلطان عبد الحميد الثاني عامل يهود الدولة العثمانية معاملة طيبة، ويشهد بذلك بعض المقربين اليه من اليهود امثال "ارمينيوس فامبري " الصديق الشخصي للسلطان الذي صرح: انه من خلال الصداقة المستمرة التي تربطني بالسلطان منذ سنوات طويلة كانت لي الفرصة للتعرف على معاملته الطيبة لليهود. وكان اول حاكم تركي يعطيهم المساواة امام القانون مع رعاياه المسلمين، وعندما استلم الحكم امر باعطاء رواتب شهرية لحاخام تركيا الاكبر وبمعنى آخر عامل الحاخام كما يعامل كبار موظفي الدولة واتخذ تقليداً بان يرسل سنوياً في عيد الفصح إلى حاخام القسطنطينية ثمانية آلاف فرنك لتوزع على فقراء اليهود في العاصمة التركية، وعندما منعت حكومة كريت المحلية في عام 1881م مشاركة اليهود في الانتخابات البلدية الغى عبد الحميد هذه الانتخابات ووبخ السلطات لتعديها على حقوق اليهود (¬3). ويعزو بعض المؤرخين (غير المسلمين) سبب بقاء اليهود على قيد الحياة إلى استضافة المسلمين وحمايتهم لهم. يقول ج. ه. جانسن في كتابه "الصهيونية واسرائيل وآسيا:" وفي مناسبتين من التاريخ اليهودي في اوروبا نرى ان بقاء اليهود على قيد الحياة يعود إلى استضافة وحماية الحكام المسلمين، كانت الفترة الأولى في القرن السادس عندما وضعت الفتوحات الإسلامية في اسبانيا حداً للاضطهاد اليهودي على يد المسيحيين هناك، ومنذ القرن العاشر فصاعداً أخذ الضغط على اليهود في اوروبا الغربية في الازدياد ببطء حتى إذا ما اطل القرن السادس عشر كانت تلك ¬

(¬1) تاريخ الصهيونية- صبري جريس - الجزء الأول، ص 60، م. ت. ف، مركز الابحاث، بيروت 1981م. (¬2) الصهيونية و إسرائيل وآسيا- ج. هـ. جانسن - ص16، مركز الابحاث، بيروت، 1972م. (¬3) موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية (1897 ـ1909م) - حسان علي الحلاق- ص309 ـ 310.

منع هجرة اليهود إلى فلسطين

المنطقة بكاملها قد افرغت من اليهود ما عدا بعض الجيوب الصغيرة والمبعثرة، حيث انتقلت الجاليات اليهودية نحو الشرق ووجدت ملجأ لها في الامبراطورية العثمانية (¬1). لقد ألّفَ اليهود في أراضي الأشكنازي (أوربا الوسطى والشرقية) عدداً كبيراً من القصائد والمراثي في أثر الاضطهادات التي تعرضوا لها والشهداء الذين سقطوا منهم وخاصة بعد مذابح اليهود في الراينلاند وفي أماكن أخرى خلال الحملة الصليبية الأولى، وقد أُدْخِلَ قسم كبير من هذا النصوص الرثائية إلى الطقوس الدينية والتي ما زالتْ تُتْلى في المعابد إلى يومنا هذا. وعلى العكس من هذا، ومن بين آلاف القصائد العبرية التي كُتِبَتْ خلال القرون الإسلامية الكلاسيكية، فإن القصيدة العبرية الوحيدة من العصور الوسطى التي تنوح وتبكي على اضطهاد تعرض له اليهود في أرض عربية هي قصيدة تبكي و تنوح على استئصال المجتمعات اليهودية في شمال أفريقيا وأسبانيا خلال حكم الموحّدين (¬2). منع هجرة اليهود إلى فلسطين كانت صلة اليهود بفلسطين عبر التاريخ وقبل وجود الصهيونية الاستعمارية، مجرد صلة دينية عاطفية ولم يكن لهم اية مطامع سياسية، وكان هذا الامر قبل السبي البابلي، الذي قام به نوخذ نصر، اذ انه من الثابت تاريخياً ان اليهود كانوا موزعين في العالم العربي، وغير العربي، في ذلك الوقت، ولم يكونوا مجتمعين فقط في فلسطين، بل كانوا مواطنين في كثير من الدول. كانت صلة اليهود بفلسطين مجرد صلة دينية عاطفية ورغبة لدى بعض الفئات اليهودية المتدينة في الاقامة قرب الاماكن المقدسة للتعبد وممارسة الطقوس الدينية لقضاء ايامهم الاخيرة في المدن الاربعة المقدسة (القدس، صفد، طبرية، الخليل) ناهيك عن ان اليهود المتدينيين كانوا يؤمنون بفكرة بعث الدولة اليهودية في فلسطين بحدوث ¬

(¬1) الصهيونية و إسرائيل وآسيا- ج. هـ. جانسن -ص16، مركز الابحاث، بيروت، 1972م. (¬2) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي

معجزة الهية يظهر معها المسيح المنتظر الذي سيعيد بناء "هيكل سليمان " ويقود العالم نحو الخير والسلام (¬1). وقد شهد اليهود في حياتهم بين المسلمين في العالم الإسلامي، اكرم حياة وعوملوا أطيب معاملة، كانت مضرب المثل لليهود في الاقطار الاخرى. وقد شهد على ذلك المؤرخون اليهود والنصارى، بالاضافة إلى المؤرخين المسلمين، فمنذ ان فتح المسلمون فلسطين، سمح الخليفة عمر بن الخطاب لليهود بالعودة إلى القدس ومنحهم قطعة ارض على جبل الزيتون لاقامة الصلوات، كما سمح لهم بعد ذلك السلطان صلاح الدين الايوبي بالعودة بعد الاضطهاد والابادة التي لاقوها اثناء الحروب الصليبية، واخيراً سمح لهم العثمانيون بالعودة إلى فلسطين بعد طردهم من الاندلس (¬2). وبعد خضوع فلسطين للحكم العثماني في اوائل القرن السادس عشر، بدأ يهود اوروبا يهاجرون اليها واقاموا في الاماكن المقدسة، القدس، طبريا، صفد، الخليل. وفي منتصف القرن الثامن عشر هاجر عدد من يهود بولندا وروسيا إلى فلسطين بسبب اضطهادهم هناك، واستقر معظمهم في صفد وطبريا حيث لاقوا تحت حكم ضاهر العمر الحماية والامن. كما لاقوا من مختلف السلاطين العثمانين المعاملة الحسنة، ثم ازداد عددهم في اوائل القرن التاسع عشر بعد ان ازداد تدفقهم من اسبانيا بسبب مظالم فرديناند الكاثوليكي وفيليب الثاني. ويسمى هؤلاء اليهود بالسفارديم أي اهل الكتاب (¬3). وحين وافق السلطان سليمان عام 1562م على تحويل مدينة طبريا إلى مدينة يهودية عارض المسيحيون، وتدخل البابا مع الصدر الاعظم لافساد المشروع ورفض العمال العرب ان يعملوا ولكن والي ¬

(¬1) موقف عرب فلسطين من الهجرة اليهودية الصهيونية (1882 ـ 1914م) - د. اسماعيل احمد ياغي - ص2. (¬2) مجلة البحوث الإسلامية / العدد السابع 1403هـ، ص 22، تصدر عن رئاسة ادارة البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد، الامانة العامة لهيئة كبار العلماء، الرياض. (¬3) موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية (1897 ـ1909م) - حسان علي الحلاق- ص83 - الدار الجامعية/ بيروت- ط.2 1980 م

دمشق ساعد على اتمام بناء السور الا ان التطور توقف بموت السلطان سليم سنة 1574 (¬1). ولم يواجه المهاجرون اليهود أي عقبة سياسية لان زعماء المسلمين لم يرفضوا في أي فترة السماح لليهود القادمين من البلدان الاجنبية بدخول فلسطين والاستيطان فيها. ولم يمنح هذا السماح للمسيحيين الغربيين، وبعد وصول اول فوج من المستوطنين الصهيونيين من رومانيا عام 1882م اصدر السلطان عبد الحميد لاول مرة في التاريخ، عام 1885م، امراً يسمح بدخول اليهود كحجاج فقط لا كمستوطنين. على ان القانون لم ينفذ ابداً بصرامة، ولكن هذا القانون وما تلاه من قوانين تقيد الهجرة كانت تنطبق فقط على اليهود الاجانب، اما مئات الآلاف من المواطنين اليهود في البلدان المحيطة بفلسطين والخاضعة للامبراطورية العثمانية فقد كان باستطاعتهم دوماً الاستيطان في فلسطين (¬2). ففي الماضي كان يباح للاجنبي الاتجار مع البلاد العثمانية والمكوث فيها دون ان يملك اقل قطعة من الارض، لان الشرع الإسلامي لا يبيح له دخول البلاد الإسلامية الا إذا قبل احد امرين الجزية أو الإسلام، واذا دخلها فلا يقيم بها الا لاجل معين إلى ان تغير ذلك في 7 صفر 1284هـ (1856م) بصدور الخط الهمايوني الذي يساوي بين حق الاجنبي وحق العثماني في الامتلاك العقاري بالبلاد العثمانية. ولكن الاوامر الجديدة كانت تستثنى اليهود الاجانب من التملك في فلسطين. وقد اشارت جريدة المؤيد في 5/ 11/1891م بان الدولة العلية كانت قد رحبت بالمهاجرين من يهود روسيا فكانت بذلك اعرف الدول بحقوق الانسانية ولكنها رأت بعد ذلك انهم يفدون إلى البلاد التي يقصدونها زمراً وجماعات بحيث يضيق عنهم قضاء تلك البلدان، فلما تدبر الباب العالي في المضار التي تلحق الرعايا العثمانية من وفودهم بهذه الصفة اضطرت ان تمنع دخولهم الاراضي العثمانية (¬3). ¬

(¬1) موقف عرب فلسطين من الهجرة اليهودية الصهيونية (1882 ـ 1914م) - د. اسماعيل احمد ياغي- ص3. (¬2) الصهيونية و إسرائيل وآسيا- ج. هـ. جانسن -ص23. (¬3) النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه (1980ـ1918م) - د. خيرية قاسمية - ص24 - 25، م. ت. ف، مركز الابحاث، بيروت، 1873م

ظهور الصهيونية والعداء لليهود

لقد كان وصول المهاجرين اليهود إلى اراضي الدولة العثمانية ـ ومنها فلسطين ـ يستقبل بعدم المبالاة، وينظر اليه نظرة انسانية، خاصة ان هؤلاء المهاجرين كانوا يأتون للاقامة من اجل العبادة، ويهربون من المذابح التي يلاقونها في بلاد اخرى ليست من العالم الإسلامي. ولا يعقل ان يخطر ببال المهاجرين الاساءة إلى العرب في قطرهم وهم الذين رحبوا بهم وافسحوا لهم صدرهم الآن وعلى مدى عصور التاريخ (¬1). ظهور الصهيونية والعداء لليهود هكذا نجد ان المعاملة الطيبة، التي لا مثيل لها في أي بلد آخر، التي لاقاها اليهود في العالم الإسلامي لم تتغير الا بعد نشوء الصهيونية التي ابتكرها ورعاها، وخطط لها ونفذها المستعمرون غير اليهود اولاً ثم حفنة من عملائهم اليهود الصهاينة بعد ذلك كحل لمشكلة اليهود في اوروبا وتحقيقاً لنبوءات توراتية. فهذا العداء- كما يقول الشيخ القرضاوي- لم نبتكره نحن لسنا الذين اخترعنا هذا العداء .. اليهود عاشوا بين المسلمين وبين ظاهراني المسلمين قرون عديدة حتى حينما اضطهدتهم أوروبا ولفظتهم أوروبا لم يجدوا صدرا حنونا ولم يجدوا كهفا يؤوون إليه ويعيشون فيه آمنين مطمئنين إلا دار الإسلام .. أوطان المسلمين هي التي وسعتهم. ولكن عندما احتل اليهود أرض فلسطين وشردوا أهلها وفعلوا ما فعلوا فهم الذين بدؤوا بالعداء ولم نبدأ نحن بالعداء. ويضيف: بل أنا أقول ربما كان اليهود أقرب إلى المسلمين من ناحية العقيدة ومن ناحية الشريعة أكثر من المسيحيين لأن اليهود لا يؤلهون موسى ليست عندهم عقيدة تثليث هم لا يؤلهون موسى كما يُؤله المسيحيون عيسى ابن مريم هم من ناحية الشريعة في كثير من الأشياء يتفقون مع المسلمين. النصارى لا يذبحون اليهود يذبحون، النصارى لا يختنون أبناءهم اليهود يختنون، النصارى لا يحرمون الخنزير اليهود يحرمون الخنزير .. النصارى لا يحرمون التماثيل ومعابدهم وكنائسهم مليئة بالتماثيل اليهود يحرمون التماثيل، أشياء كثيرة يتفق فيها اليهود مع ¬

(¬1) موقف عرب فلسطين من الهجرة اليهودية الصهيونية (1882 ـ 1914م) -د. اسماعيل احمد ياغي - ص3.

المسلمين فليست المشكلة مع اليهود مشكلة عقيدة ولا شريعة إنما هي مشكلة أطماع وأشياء جعلت هذا الموقف منذ العهد النبوي مع اليهود ثم في عهدنا هذا منذ بدؤوا يطمعون في أرض الإسراء والمعراج أرض فلسطين المقدسة المباركة (¬1). وهكذا نجد انه ليس هناك من مبرر اطلاقاً، للاعتداء على أي قطر من اقطار العالم الإسلامي، (بسبب اضطهاد اليهود)، أو (بسبب اللاسامية)، أو (بسبب المسألة اليهودية) التي لم يكن قد وقع عليهم بسببها أي اذى في العالم الإسلامي. فلم يكن هناك اضطهاد، ولا مذابح، بفضل سماحة الإسلام والمسلمين. ولم يكن هناك لا سامية في العالم الإسلامي، خاصة في العالم العربي لان العرب هم اساس العرق السامي. ولم يكن هناك مشكلة يهودية في أي قطر عربي أو اسلامي لانهم كانوا يعاملون احسن معاملة يلقاها اخوانهم في الدين في أي بلد في العالم. وكان من الأولى ان تحل مشكلتهم عند من اوجدوها. عند اولئك الذين اوقعوا فيهم المذابح والاضطهادات، وعند الذين اخترعوا اللاسامية ومارسوها، وعند اولئك الذين اوجدوا المشكلة اليهودية. ان معذبي اليهود كانوا غربيين: الجرمان واللاسامية توجد في أمريكا وفي بريطانيا، كما توجد في كثير من البلدان الغربية ولكنها لم توجد في البلدان العربية قط (¬2). وحتى قيام دولة إسرائيل عام 1948م لم تسيطر الصهيونية على اليهود الشرقيين لانهم لم يعانوا من اللاسامية في البلدان التي اقاموا فيها (¬3). ولكن انقلب بعد ذلك كل شيء، بفضل مخططات الاستعمار الغربي الذي بدأ بالتعاون مع عملائه الصهاينة ـ بافتعال القتل والحرق والدمار ضد المواطنين اليهود في البلاد الإسلامية والعربية خاصة، مما ادى وعن سابق تخطيط إلى تهجير مئات الآلوف من اليهود العرب إلى إسرائيل ليشاركوا في بناء الدولة الاسرائيلية. يقول الفرد ليلينتال: والغريب العجيب ان يقف اليهود من العرب هذا الموقف العدائي الوحشي وهم الذين نعموا في ظل الدولة العربية الإسلامية بالسلام والرخاء، بينما يتعرضون في اوروبا لضروب الاضطهاد: لقد منحهم الإسلام الحرية ¬

(¬1) علاقة المسلمين باليهود - الشيخ يوسف القرضاوي - برامج الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة (¬2) هكذا يضيع الشرق الاوسط- الفريد ليلينتال - ص314 .. (¬3) الصهيونية و إسرائيل وآسيا- ج. هـ. جانسن -ص43.

واعتبرهم "اهل الكتاب " واتاح لهم الفرصة للوصول إلى المراتب العليا في الدولة وشجع وأكرم من نبغ منهم من الشعراء، والفلاسفة، والعلماء، والاطباء، والمؤرخين .. وفي هذا الوقت بالذات كانوا يعتبرون في اوروبا "قتلة الرب" و "جلادي المسيح" وكانوا متكتلين في جماعات مغلقة على ذاتها، وبسب هذه العزلة عانوا الواناً من الزراية والاضطهاد وكثيراً ما اخذوا بجريرة آثار لم يرتكبوها (¬1). فرغم حسن معاملة الإسلام لليهود فإنهم اعتبروه مجرد صياغة بشرية لمادة من التوراة أو التلمود، وحاولوا احتواء الإسلام بكل الوسائل، ولم ينظروا إلى ما أثبتته نصوصه من تحريف الأحبار لأصل اليهودية، وما أدخلوه بموجب ذلك التحريف من كذب وتزوير، لذلك استخدم أحبار اليهود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مختلف الكيد، ووصفهم القرآن بأنهم أشد عداوة للذين آمنوا، كما حاولوا إدخال كثير من التشويه إلى مصادر الإسلام، أطلق عليه المفسرون مصطلح "الإسرائيليات". وفي العصر الحديث ربطت الصهيونية بين الإسلام والتخلف، وبينه وبين الأصولية والإرهاب، ومعاداة الحضارة الغربية، كل ذلك من أجل تشويه صورته، وحجب حقيقته، وحاولت بكل الوسائل أن تحجب الآراء اليهودية التي تدعو إلى الحوار بين الإسلام واليهودية، أو التي لا تعتبر الإسلام عدوا لليهود (¬2). وهكذا انتج النزاع العربي اليهودي حول فلسطين قضية سياسية جديدة أثّرتْ على تاريخ اليهودية في القرون الوسطى في العالم الإسلامي. لقد استغل كلا الجانبين الصراع وعدّل قراءة خرافة التعايش الطوباوي بين الدينين لخدمة أغراضه السياسية. فقد لوّح العرب وكذلك مؤيدي القومية العربية براية التناغم والتآلف والتوافق العربي-اليهودي في الماضي وألقوا باللوم على الصهيونية المعاصرة لعدائها للعرب في الوقت الحاضر. بالمثل، استبدل عدد من الكُتّاب الصهاينة نظرية العصر الذهبي بما أدعُوُه النظرية المضادة -الاضطهاد الإسلامي أو الفهم البكائي الحزين للتاريخ العربي اليهودي. وزعم أؤلئك المُعَدِّلُون (الذين عدّلوا النظرة التاريخية السائدة) أن الحياة اليهودية في الإسلام بدايةً بالنبي محمد (ص) تميزت ¬

(¬1) فلسطين الفكر والكلمة- د. محمود السمرة- ص255، الدار المتحدة للنشر، بيروت، 1974 م. (¬2) الموقف اليهودي والإسرائيلي من الحوار مع المسيحية والإسلام - مركز زايد للتنسيق والمتابعة.

الحوار مع اليهود بين الرفض والقبول

بالصعوبة والمشقة والاضطهاد تماثل بالمرارة المعاناة الفظيعة التي شهدتها الحياة اليهودية في العالم المسيحي. وهذا يتضمن ان معاداة السامية عند العرب ليست أمراً جديداً ولكنه مرض مزمن قديم، وليس من المحتمل أن يذهب أو يزول حتى لو قامت إسرائيل بتنازلات سياسية كبيرة من أجل سلام الأمة الفلسطينية الناشئة (¬1). ولكن إذا انتهى يوما ما الصراع بين العرب واليهود بصورة تامة، عندئذ سيُصْبِحَ ممكناً رؤية الماضي مرة أخرى ليس، بالطبع، كتعايش طوباوي بين الدينين ولكن كزمن عاش فيه اليهود مغروسين في مجتمع إسلامي في تعايش خلاّق مشتركين في أمور كثيرة ومتحررين إلى درجة كبيرة من البغضاء ومعاداة السامية التي عانى منها إخوانهم في الأراضي المسيحية (¬2). الحوار مع اليهود بين الرفض والقبول أصدر مركز زايد للتنسيق والمتابعة دراسة تناولت موضوع "الموقف اليهودي والإسرائيلي من الحوار مع المسيحية والإسلام"، حيث وقفت عند ذلك الموقف عبر التاريخ، والمحددات التي حكمته، والخلفيات التي وجهته، بصورة تجمع بين استحضار الوثائق والشواهد، وتحليل الآراء والوقوف عند أبعادها، بأسلوب علمي رصين. وتتبعت الدراسة موضوع الحوار في الديانة اليهودية بصورة عامة، فبينت مرتكزاته، وأسلوبه، ومعوقات قيامه، وكيف توجه اليهود إلى الانعزالية، والحذر من الاحتكاك والحوار مع الشعوب الأخرى، رغم ما فرضه عليهم منطق التاريخ من علاقات مع بعض المجتمعات عن طريق المصاهرة والاختلاط، وإن كانت علاقات ظلت دائما محل ريبة وحذر، وموضع تأثيم من قبل التيار العريض من معتنقي اليهودية، بل إن الجدل الذي دار حول ظاهرة الاختلاط، ولو عن طريق المصاهرة، نظرت إليه أسفار العهد القديم باعتباره مهددا لديانة بني إسرائيل التوحيدية، مما ¬

(¬1) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي-. نشر المقال باللغة الألمانية في صحيفة فرانكفورتر ألكمانية تسايتونغ بتاريخ 25.10.2003 - - موقع قنطره http://www.qantara.de/webcom/show_softlink.php?wc_c=339 (¬2) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي.

دعا بعض أنبياء اليهود، مثل عزرا ونحميا إلى المطالبة بتحريم الزواج من الأجنبيات مطلقا، لئلا يؤثر على نقاء الدم الإسرائيلي. (¬1) وخلصت الدراسة إلى أن مجتمعا، كالمجتمع اليهودي والإسرائيلي، لا يمكن أن يقبل بالحوار؛ لاعتقاده الديني بأنه صفوة البشر التي اختارها الإله، وأعطاها العهد، وبشرها بالخلاص، وخصها بالطهارة والفضل، وأن غيره "أغيار أغراب " لا تنبغي مخالطتهم، ولا العيش معهم لتدنيهم ودنسهم؛ الأمر الذي فرض أن يقام الحي اليهودي الخالص (الجيتو) في المدن الأوروبية خلال القرون الوسطى، والذي شجعته الصهيونية في العصر الحديث؛ بل على أساس من فكرته، وتذمرا من واقعه كان البحث عن وطن بديل، وكانت فلسطين أرض الميعاد والخلاص. وتضيف الدراسة: "أن موقف اليهود من الحوار مع الإسلام كان سلبيا، ومحكوما بنظرة سياسية قوامها إقناع المسلمين بأحقية اليهود في فلسطين، واستصدار فتاوى من أئمة الإسلام تحرم الجهاد ضد المحتلين، وتقرن بين العمليات الاستشهادية من أجل الدفاع عن النفس والأرض بالانتحار، وتصف الفلسطينيين بالإرهابيين (¬2). اما الشيخ يوسف القرضاوي فيرى: ان الإسلام يرحب بالحوار دائما ومنهج الدعوة الإسلامية كما شرحه القرآن الكريم" ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" الحكمة والموعظة الحسنة مع الموافقين والجدال مع المخالفين ولكن القرآن قيد هذا في آية أخرى في قوله تعالى "ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ" إلا الذين ظلموا منهم الظلمة من أهل الكتاب ليس بيننا وبينهم حوارونحن نرفض الحوار مع حاخامات اليهود الذين يعيشون في إسرائيل ويؤيدون ما تقوم به إسرائيل من مظالم. إنما هناك يهود يعارضون قيام إسرائيل ويرون أن قيام إسرائيل ضد حكم الله هؤلاء نحاورهم نجلس معهم أما هؤلاء الذين يؤيدون البطش والجبروت الإسرائيلي والاستكبار في ¬

(¬1) الموقف اليهودي والإسرائيلي من الحوار مع المسيحية والإسلام - مركز زايد للتنسيق والمتابعة. (¬2) الموقف اليهودي والإسرائيلي من الحوار مع المسيحية والإسلام - مركز زايد للتنسيق والمتابعة.

الأرض وقتل الناس بغير حق هؤلاء لا نضع أيدينا في أيديهم نحن مع الحوار ولكن الحوار لمن يستحق الحوار. ويضيف الشيخ القرضاوي: ان يهود هذا العصر هم يهود عصر الرسالة يعني من ناحية العقيدة ومن ناحية الشريعة ... ونحن الآن لا نتكلم من حيث عقيدتهم وشريعتهم لكن نتكلم من حيث المظالم التي ارتكبوها هذا هو سبب العداء بيننا وبينهم المعركة بيننا وبين اليهود ليست من أجل العقيدة بعض الناس يمكن ان يظن أننا نحارب اليهود من أجل عقيدتهم هذا خطأ نحن لا نحارب اليهود من أجل عقيدتهم نحارب اليهود من أجل الأرض التي اغتصبوها وشردوا أهلها من أجل أنهم احتلوا الأرض هذا هو سبب المعركة بيننا أما اليهود كيهود ليس بيننا وبينهم معركة (¬1). وتخلص دراسة مركز زايد إلى القول: بخصوص الحوار مع اليهودية، فلا بد من التمييز الواضح بين الجانب المتعلق بالمعتقدات و القيم الدينية والجانب المتعلق بالتوظيف السياسي والأيديولوجي لهذه القيم و المعتقدات كما هو شأن الفكر الصهيوني الذي قامت عليه الدولة الإسرائيلية المغتصبة و العدوانية. و لئن كان الإسلام يعترف برسالة موسى و يعظم أنبياء بني إسرائيل، و يقترب من حيث أحكامه و تعاليمه من الشريعة اليهودية، فإن النصوص التلمودية و شروح الهالاخاه المعتمدة لدى المؤسسة الدينية اليهودية لا تزال مشبعة بالكراهية و الحقد على الديانة المسلمة و لا تزال رافضة الإعتراف برسالة الإسلام، و من ثم فإن أي حوار مطلوب بين الإسلام و اليهودية يتطلب أولا تصحيح هذا الخلل الخطير في التعامل مع الديانات الأخرى (¬2). ويجب الاشارة هنا إلى ان كثير من المؤرخين يغرق عند مواجهتهم لادعاءات اليهود المعاصرين بحقهم في فلسطين في الانشغال بعلوم الآثار، وذكر الشعوب التي استوطنت أو حكمت أو مرت على فلسطين وكم حكم كل منها هذه الأرض ¬

(¬1) علاقة المسلمين باليهود - الشيخ يوسف القرضاوي - برامج الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - تاريخ النشر: الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة (¬2) الموقف اليهودي والإسرائيلي من الحوار مع المسيحية والإسلام - مركز زايد للتنسيق والمتابعة.

ليخرجوا في النهاية بنتيجة مؤداها ضآلة الفترة والمساحة التي حكم فيها اليهود عبر التاريخ مقارنة بالعرب والمسلمين، ورغم أن هذا الجانب مفيد في رد ادعاءات اليهود من النواحي التاريخية والعقلية المنطقية، إلا أن كثيراً من هؤلاء الكتاب والمؤرخين يقعون في خطأين كبيرين حسبما يظهر لنا: - الأول: اعتبار تراث الأنبياء الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل أو قادوهم تراثاً خاصاً باليهود فقط، وهذا ما يريده اليهود!! - الثاني: الإساءة إلى سيرة عدد من أنبياء بني إسرائيل باستخدام الاستدلالات المستندة إلى توراة اليهود المحرفة نفسها، وهم عندما يستخدمونها فإنما يقصدون الإشارة إلى "السلوك المشين" لبني إسرائيل وقادتهم عندما حلوا في فلسطين، ليضعفوا من قيمة دولتهم ويبينوا انحطاط مستواهم الحضاري، ويدخل أصحاب هذا المنهج في الاستدلال بما ذكرته الإسرائيليات من اتهام للأنبياء بالغش والكذب والزنى واغتصاب الحقوق وقتل الأبرياء، في محاولات لإثبات قسوة ومكر ولؤم اليهود وتشويه صورة حكمهم ودولتهم في ذلك الزمان. يضاف إلى ذلك امر مهم جداً وهو ان بعض الذين تصدوا للبحث في تاريخ بني اسرائيل قد اتوا على كل شئ في تاريخ اليهود نفياً والغاء، .. حيث تعرضت التوراة لنقد قاس من قبل عديد من الباحثين، وقد تراوح هذا النقد من ابداء ملاحظات مهمة حول مصداقية وقائع جاءت في التوراة أو القيمة الحقيقية لبعض الاسفار، إلى النفي الكامل لقدسية التوراة وصدق الديانه اليهودية. وتأتي خطورة الرؤية الاخيرة من انها لا تصطدم مع العقيدة اليهودية وحدها .. اذ ان النفي المطلق لليهودية انما يصطدم تماماً بالمسيحية والإسلام على السواء .. وعلى ذلك فإن نفي التوراة انما يعني ضمناً نفي الانجيل والقرآن معا (¬1). وهنا يجب ان ننبه إلى ان القرآن الكريم كفانا مؤونة التعرف على أخلاق اليهود وفسادهم وإفسادهم، غير أن أنبياءهم وصالحيهم أمر آخر، فالأنبياء خير البشر، ولا ينبغي الإساءة إليهم والانجرار خلف الروايات الإسرائيلية المحرفة، التي لا تسيء للأنبياء فقط وإنما لله تبارك وتعالى. لقد حرف اليهود التوراة، وساروا على نهج ¬

(¬1) ما بعد اسرائيل - بداية التوراة ونهاية الصهيونية - احمد المسلماني- ص 47

التوراة المحرفة في أخلاقهم وفسادهم وإفسادهم محتجين بما نسبوه إلى أنبيائهم كذباً وزوراً، ومن الواجب على المؤرخين وخصوصاً المسلمين ألا يندفعوا في استقرائهم لتاريخ فلسطين إلى اتهام أنبياء الله بما افتراه عليهم اليهود وذلك في سبيل إثبات حق الأقوام الأخرى في فلسطين (¬1). ولكن قد يظن بعض المسلمين أنه إعمالاً لقاعدة المعاملة بالمثل، يعامل اليهود في البلاد العربية والاوربية بمثل ما يعاملون به المدنيين في فلسطين وهو القتل ومصادرة الاموال أو سلبها. واعتقد ان هذا تصرف لا يقبله الإسلام "لا تزر وازرة وزر اخرى"، ولكن من المؤسف ان بعض المسلمين اليوم تبنوا عدداً من صفات وخواص معاداة السامية الأوربية بعد أن تأسْلَمَتْ كراهية اليهود هذه، أي اتخذت طابعاً إسلامياً مدعوماً بخليط من نصوص معادية لليهود من المصادر الإسلامية، تلك النصوص التي لم يكن من أهمية لها ولا تأثير لها على معاملة المسلمين لليهود في القرون السابقة. ولكن بعد ظهور الصهيونية واسرائيل كان متوقعاً ان يعتم موقف العداء هذا على أي فهم متوازن لماضي الإسلام الحقيقي ومواقفه وسياسته المتسامحة المتساهلة تجاه اليهود والأقليات غير المسلمة الأخرى. كما ان هنالك عدد من اليهود من البلاد العربية الذين يعيشون الآن في إسرائيل استبدلوا ذاكرة القبول الإسلامي لليهود وفترة الانسجام الكبير في الماضي ببغض ومقت شديد ضد الإسلام في الوقت الحاضر. ولهذا يجب أن تبذل الجهود في كل أنحاء العالم سواء في الشرق الأوسط أو أوربا أو أميركا من أجل تشجيع فهم أكثر توازناً للعلاقات اليهودية الإسلامية في القرون الوسطى وذلك بدعوة المسلمين واليهود من أجل استكشاف الثقافة المشتركة في الماضي (¬2). فهل يمكن لمتغيرات سياسية أن تخفف من حدة هذا العداء ¬

(¬1) تاريخ فلسطين قبل الإسلام -وقفات مع تاريخ صراع الحق والباطل على أرض فلسطين (¬2) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي-. نشر المقال باللغة الألمانية في صحيفة فرانكفورتر ألكمانية تسايتونغ بتاريخ 25.10.2003 - - موقع قنطره http://www.qantara.de/webcom/show_softlink.php?wc_c=339

آفاق الحوار الإسلامي مع الديانات التوحيدية في العصر الحاضر

كالوصول إلى حل سياسي لأزمة الشرق الأوسط، لأن العيش في تسامح محفور في الذاكرة التاريخية (¬1). آفاق الحوار الإسلامي مع الديانات التوحيدية في العصر الحاضر (¬2) من المؤكد أن الحوار الإسلامي مع الديانات الأخرى اليوم يختلف كليا من حيث الأهداف والآليات عن تجربة الحوار السابقة في العصور الوسطى، لإختلاف السياقات وتغير أنماط التدين وأشكال حضور الدين في المجتمعات المعاصرة بالمقارنة مع المجتمعات الإسلامية والمسيحية الوسيطة التي كانت تنتظم بحسب مقاييس الدين. ومع ذلك فإنه يجب الحفاظ على لب الرؤية الإسلامية المنفتحة والمتسامحة من أجل جدال بالتي هي أحسن مع الحضارتين اليهودية والمسيحية. ويمكن أن نقسم الرهانات المستقبلية لهذا الحوار إلى ثلاثة ملفات حيوية: ملف ديني، و ملف حضاري، و ملف إستراتيجي. أما الملف الديني فيتعلق بضرورة التغلب على أنماط التشويه و سوء الفهم الموروثة عن حقبة الصراعات الدينية السابقة و الحروب الصليبية. و لا يكون ذلك إلا بتشجيع الدراسات المقارنة بين الديانات الثلاث لتبيان الأوجه المشتركة الكبيرة بينها، و للتدليل على أن الفروق الطفيفة بينها لا تشكل عائقا للتعايش والتفاعل بينها. ففي الساحة الغربية يجب مراجعة الدراسات الإستشراقية المتأثرة بمناخ الحروب الصليبية لتنقيتها من ما خالطها من دس و تشويه لصورة الإسلام و نبيه وقيمه وشعائره، مع الإستفادة من كبار المستشرقين المنصفين الذين أشادوا بروحانية الإسلام وسماحة قيمه وتسامحه. ولا بد هنا من التنويه بالخطوات الإيجابية التي قطعتها الكنيسة الكاتولوكية منذ المجمع الفاتيكاني وصدور وثيقة Nostra ¬

(¬1) في ظل الصليب والهلال: اليهود في العصور الوسطى- مارك كوهين- مراجعة بيآته هنريشس - ترجمة عبد اللطيف شعيب - دار نشر بيك، ميونيخ مارس/آذار 2005 - حقوق الطبع قنطرة 2005 - الأحد 06 فبراير 2005 (¬2) المصدر: الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - الدكتور عبد الملك منصور حسن المصعبي.

Actate عام 1965 التي تبنت الحوار مع المسلمين والإنفتاح عليهم، من منطلق تعزيز المحبة والوحدة بين أتباع الديانات التوحيدية. فقد نص المجمع الفاتيكاني بوضوح على "ان الكنيسة تنظر بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الأوحد، الحي القيوم، الرحيم القدير، خالق السماء والأرض، الذي وجه كلامه إلى البشر، و إنهم يسعون في الخضوع بكل نفوسهم لأحكامه الحقة كما خضع إبراهيم لله، الذي ينتمي إليه الإيمان الإسلامي بطيبة خاطر. و أنهم يجلون يسوع كنبي، و إن لم يعترفوا به كإله، و يكرمون مريم أمه العذراء ... وإذا كانت قد نشأت، على مر القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين، فالمجمع المقدس يحض الجميع على أن يتناسوا الماضي، ويسعوا في تحقيق تفاهم صادق بينهم، ويعملوا معا على صيانة ودعم العدل في المجتمع والقيم الأخلاقية، وأيضا السلم والحرية لجميع البشر" (¬1). إن هذه المقاربة الجديدة تفتح الباب واسعا للحوار البناء بين المسلمين الذين لم يكن لهم أصلا مشكل عقدي مع الديانة المسيحية، وإن كان لا بد من التنبيه إلى أن بعض التيارات الأصولية المسيحية المتطرفة لاتزال تتمسك بالصورة المشوهة السابقة، ومن بينها الحركات الصهيونية المسيحية في أمريكا. و قد إستمعنا لبعض رموز وأركان هذا التيار يسب الإسلام و ينعته بالديانة الزائفة الشريرة بعد تفجيرات نيويورك في سبتمبر 2001. أما بخصوص اليهودية، فلا بد من التمييز الواضح بين الجانب المتعلق بالمعتقدات و القيم الدينية والجانب المتعلق بالتوظيف السياسي والأيديولوجي لهذه القيم والمعتقدات كما هو شأن الفكر الصهيوني الذي قامت عليه الدولة الإسرائيلية المغتصبة والعدوانية. ولئن كان الإسلام يعترف برسالة موسى ويعظم أنبياء بني إسرائيل، ويقترب من حيث أحكامه وتعاليمه من الشريعة اليهودية (في مقابل المسيحية التي لا شرائع لها)، فإن النصوص التلمودية و شروح الهالاخاه المعتمدة لدى المؤسسة الدينية اليهودية لا تزال مشبعة بالكراهية والحقد على الديانتين ¬

(¬1) حول الحوار الإسلامي - المسيحي راجع: ندوة العيش المشترك في الإسلام و المسيحية - اللجنة الوطنية اللبنانية للتربية و الثقافة و العلوم - بيروت 2002 - راجع على الخصوص بحث د. محمد السماك: في ثقافة الحوار الإسلامي - المسيحي (ص 260 - 266)

المسيحية والمسلمة ولا تزال رافضة الإعتراف برسالة الإسلام، ومن ثم فإن أي حوار مطلوب بين الإسلام واليهودية يتطلب أولا تصحيح هذا الخلل الخطير في التعامل مع الديانات الأخرى. و في الساحة الإسلامية، لا بد من مراجعة بعض الأحكام الفقهية والتأويلات الدينية التي تنظر نظرة مناوئة لأتباع الديانات الأخرى، ومنها أحكام أهل الذمة التي تحتاج إلى اعادة دراسة لتتناسب مع مفهوم دولة المواطنة المدنية الحديثة. وكثيرا ما يفهم من آيات السيف الواردة في سورة براءة أن علاقة الإسلام بأهل الكتاب بعد إنتصار الإسلام أصبحت تقوم على الحرب لفرض الإستسلام والجزية. ولقد فند العلامة رشيد رضا في تفسيره "المنار" هذه الصورة مبينا أن المقصود من الآيات المذكورة وخصوصا الآية 29 " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون "هو" أنها تعني قاتلوا الفريق من أهل الكتاب، عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالإعتداء عليكم أو على بلادكم أو إضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد أمنكم وسلامتكم". ففي القرآن مائة آية موزعة على 48 سورة تأمر بالتعامل الحسن مع أهل الكتاب، في مقابل تلك الآيات التي نزلت في سياق محدود معروف. فقوانين الشريعة المحكمة والمفصلة تحمي غير المسلمين الذين يعيشون في أقطار إسلامية. ولكن نال من هذا الاتساق بدرجة كبيرة التنافس بين الإسلام والمسيحية على الهيمنة العالمية والذي تمثل في صورة مصغرة في الحروب الصليبية ومنذ وقت قريب تنامى الخلاف بين الإسلام والمسيحية؛ بسبب قيام دولة إسرائيل، ومساعدة الغرب لها مساعدة غير مشروطة، بزعامة الولايات المتحدة (¬1). وربما ساهم ذلك في رسم صور نمطية عن الغرب االمسيحي والمسيحية بعيده عن الفهم القرآنى، فلم يعد السيد المسيح حاضرا بأفكاره وروحه السلامية في حياتنا نحن المسلمين حضورا ملائما يكافئ الشخصية وحضورها القرآني. ¬

(¬1) الإسلام والغرب: تعاون أم صدام - رالف بريبانتي- http://www.science-islam.net/article.php3?id_article=630&lang=ar

والمثير أننا عندما نحاول الاقتراب منه فلا يكون إلا من خلال الفروق العقائدية حيث تنتشر أشرطة وكتب تنفي الصلب والتأكيد على أن الله رفعه إليه، وهذه حدود عقائدية لا مجال للتلاعب فيها أو التنازل عنها، أو حتى المحاباة بادعاء أي تقريب. لكن أن نختصر الشأن القرآني في هذه المعاني وننسى أن نقد القرآن لعقائد أهل الكتاب لم ينسحب على الحياة الاجتماعية (أن تبروهم) .. والعلاقات الإنسانية (أليست نفسا) .. بل تساكنوا في حياة تعاقدية أثراها التعدد وحفظها التوحد (ولا يزالون مختلفين) ولذلك خلقهم، وتجسد ذلك في دستور المدينة بين المسلمين واليهود ولولا افسادات اليهود لرأينا تجربة تعددية نادرة وفريدة. أما الملف الحضاري فيتعلق بعلاقة حوار الديانات بحوار الحضارات الذي هو من الشعارات الأساسية المطروحة اليوم. فمع أن الحضارة الغربية ليست كما هو معروف حضارة يهودية - مسيحية، إلا أنه لا يمكن إنكار أهمية هذا العامل الديني في تشكلها التاريخي - فهي الحضارة التي ورثت الإمبراطوريات المسيحية الوسيطة، وإستوعبت التراث الديني اليهودي والمسيحي في مفاهيمها وقيمها الحضارية والسلوكية. فالمشكل المطروح اليوم هو هل يشترك المسلمون مع اليهود والمسيحيين في القيم والمفاهيم المؤسسة للحضارة الحديثة؟ لقد طرح هذا السؤال بحدة وقوة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. ومن أبرز تجلياته الرسالة التي بعثها ستون مثقفا أمريكيا من المحافظين المتدينين إلى مثقفي العالم الإسلامي يطالبنوهم فيها بالإندماج في الثقافة العالمية الحديثة بالإنطلاق من خمسة مبادئ، لا يرون أن الإسلام يقرها وهي: 1 - إن البشر يولدون متساوين في الكرامة كما في الحقوق. 2 - الشخصية الإنسانية هي العنصر الأساسي في المجتمع، وتكمن شرعية دور الحكم في حماية هذه الشخصية، والمساعدة في تأمين فرص التفتح الإنساني لها. 3 - يرغب البشر بطبيعتهم في البحث عن غاية الحياة و مقاصدها. 4 - حرية الضمير والحرية الدينية من الحقوق التي لا يمكن إنتهاكها في الشخصية الإنسانية.

5 - القتل بإسم الله مخالف للإيمان بالله وهو يشكل خيانة عظمى لكونية الإيمان الديني (¬1). وبطبيعة الأمر، ليس للمسلمين إعتراض على هذه المبادئ الخمسة التي أصّلها الإسلام وشدد عليها منذ أربعة عشر قرنا بتكريسه تكريم الإنسان، وتحريم قتل النفس بغير حق، ورفضه الإكراه في الدين، ومطالبته بالعدل بين الناس .. ومع ذلك، فلا بد للمسلمين من بذل جهد علمي وفكري واسع لتفسير وشرح منطلقاتهم الحضارية، وتنقية دينهم من شوائب التطرف والتشدد التي ليست منه وإنما هي من دس وتشويه مجموعات وحركات الغلو والتنطع. ولا بد في هذا السياق من التنبيه إلى الأصول الشرقية للديانات السماوية التي نزلت في نفس الأرضية الحضارية والتي أنزل فيها الإسلام، فلا عبرة إذن بالتمييز بين قيم حضارية شرقية وغربية متناوئة، بل يتعين البحث عن جذورهما المشتركة وأنماط التأثر والتأثير الواسعة بينهما ضمن التراث الإنساني الشامل. فرسالة النبي إبراهيم عليه السلام، ظهرت في بلاد الرافدين وإنتقلت عبر ذريته بين مصر والجزيرة العربية وفلسطين. وكانت لغة السيد المسيح هي الآرامية القريبة من العربية .. وكما إستوعبت الحضارة العربية- الإسلامية التراث اليوناني - الروماني ونقلته إلى الغرب الحديث بعد تطويره فكانت صلة الوصل الضرورية بين هذا التراث والنهضة الأوروبية، فإن الحضارة الإسلامية لا تجد اليوم غضاضة في هضم قيم ومعارف الحضارة الغربية الحديثة التي هي في الحقيقة أول حضارة كونية بالمعنى الصحيح للعبارة لأنها حصيلة إمتزاج مختلف الثقافات والديانات وفي مقدمتها حضارتنا وديننا. أما الملف الإستراتيجي، فيتعلق بالتصور الشائع في بعض الأوساط الغربية بكون الإسلام هو العدو الإستراتيجي الجديد الذي خلف الخطر الشيوعي، بالإستناد لما نلمسه اليوم من تنامي أنشطة الإرهاب و العنف التي تستهدف البلدان الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. ويبين المفكر والكاتب البريطاني فريد ¬

(¬1) مجلة الإجتهاد العدد 54 - ربيع 2002 ص 201 - 213 - http://www.mansourdialogue.org/Arabic/lecs%20 (42) .htm

هاليداي، ضحالة هذه النظرية التي يسميها بنظرية الفراغ، معتبرا أن ليس من مقارنة بين الخطر الشيوعي والإسلام الذي يجب أن لا يخلط بينه وبين حركات التطرف والإرهاب، منتهيا إلى "أن أساس مقاربتنا لقضية العالم الإسلامي والعلاقات الدولية .. يجب ألا يكون الدين أو النص أو العقيدة، بل النظر إلى الممارسات الفعلية للشعوب والدول وتفحص كيفية إستعمالها للدين، وليس العكس". فالمشكلات الإستراتيجية المعقدة التي يطرحها الإرهاب اليوم لا علاقة لها بالدين الإسلامي، بل هي مشاكل تفسر بأزمة إنتقال النظام الدولي من توازنات الحرب الباردة إلى نمط الأحادية القطبية الذي لم يعزز بعد توازناته. والإرهاب الذي لا دين له ولا حضارة بل هو ظاهرة عرفتها وتعرفها حاليا كل السياقات والمجالات الحضارية، إستهدف العالم الإسلامي أكثر من غيره، ولا بد من تحديد دقيق لمفهومه وطرق التعامل الفعال معه، للتمييز بينه وحق المقاومة المشروعة ضد الإحتلال ضمن ضوابط القانون الدولي. ويمكن للحوار الديني أن يلعب دورا فاعلا في تجنيب العالم مخاطر العنف والإرهاب، من خلال غرس قيم التسامح والسلم، إلا أن هذا الهدف مشروط بعوامل أربعة أساسية يتوجب التنبيه إليها وهي: - الدفاع عن الشرعية الدولية وفكرة الشراكة بين الأنظمة الإقليمية التي يتكون منها النظام الدولي بما فيها النظام الإقليمي العربي - الإسلامي الواسع والنظام الإقليمي الغربي برافديه الأساسيين الأوروبي والأمريكي. - السعي المشترك لحل القضايا الشائكة العالقة التي تسمم العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي هي العقدة المستعصية في العلاقة بين المسلمين واليهود. - عزل ومحاربة حركات الإرهاب والعنف التي ترفع كذبا اللافتة الدينية سواء كانت يهودية كما في صهيونية شارون المتعصبة والتي تدعمها الأحزاب الأصولية الأرتدوكسية-، أو مسيحية أو مسلمة. - بناء تحالف قوي بين أتباع الديانات الثلاث للتنسيق ضد المخاطر الكبرى التي يواجهها العالم، وأهمها إنتشار أسلحة الدمار الشامل والأسلحة غير التقليدية التي تستأثر بها الدول الصناعية المتقدمة، وإنتشار الجريمة والعنف، وتلوث البيئة، وتفكك الأسرة، وإنفلات التقنيات الجديدة من التوجيه الأخلاقي والتسديد الروحي.

حوار الإسلام والغرب

حوار الإسلام والغرب فكرة الحوار بين الإسلام والغرب، أو "حوار الحضارات" تناولها كثيرون من قبل، ومازالت الدعوة اليها تتجدد واللقاءات تعقد بين الحين والآخر لكن ذلك لم يقلل من اهمية الموضوع اذ ان احداث السنة الأولى من الالفية الثالثة، وما تلا تلك الاحداث، بينت للكثيرين ان نمط العلاقات بين عالم الإسلام وعالم الغرب اخذ منحنى جديداً، فالموقف بين الجانبين تجاوز حالة التوثر ودخل مرحلة الحرب الفعلية الشاملة، وهى حرب اعلامية ونفسية وسياسية وقتالية، قام ويقوم بها جانب واحد، بينما غرق الطرف الآخر في ردود الافعال الناتجة عنها. ومع تطور المعركة واختلاط دخانها بدخان الاعلام صار التحرك كله يجرى في ساحة معتمة تسللت وتتسلل اليها قوى جديدة متغايرة الاهداف متعارضة، مما يزيد المسرح حلكه وظلاماً. والايام والسنوات القادمة تبدو حبلى بمزيد من الاخطار التى لا يعلم مداها الا الله. ولذا فإن الحوار صار أكثر ضرورة، ومازال في درجة من الاهمية كبيرة، وان اهميته تستلزم محاولات اخرى جريئة دائبة، لتناوله بأساليب جديدة، ومن خلال رؤى متعددة ومتنوعة (¬1). فقد بدا واضحا أمام الغالبية العظمى من المهتمين بإنهاء الصراع المحتدم حاليا بين الديانات والحضارات المختلفة، والذي تعددت صوره، ودرجات حدته من التراشق بالاتهامات إلى التراشق بالأسلحة المدمرة دون تحقيق النصر النهائى لأى طرف، أن الطريق الوحيد المتبقى هو التحاور بهدف إيجاد حد أدنى من الأسس المشتركة للتعايش السلمى ونبذ العنف (¬2). في اطار هذا الفهم ينطلق د. دكتور عبد الله أبو عزة في كتابه "حوار الإسلام والغرب" من خلال رؤية محورية فحواها ان بين الإسلام والغرب كثيراً من المبادئ والعناصر الثقافية المتماثلة المشتركة، وهى عناصر رئيسية عند الجانبين، مع اقدار من الاختلاف حول بعض الامور المهمة وامور اخرى اقل اهمية. فإذا انضافت إلى ذلك المصالح المشتركة التى يفرضها الوجود المشترك - وهو وجود لا خيار فيه حيث يعيش الجميع فيما سمى "القرية العالمية"، أو في: بيت زجاجى"لا يحتمل العبث- ¬

(¬1) حوار الإسلام والغرب- تأليف د. عبد الله أبو عزة ص7 (¬2) الحوار بين الإسلام والغرب- جريدة الشرق الاوسط- 19 - 9 - 2003 - عدد 9061

يغذو مشروع الحوار، أو مشاريع الحوار، قمينه بالاهتمام الجدى من جانب كل الاطراف التى تعيش في هذا البيت الزجاجى- افرادا وجماعات - لمصلحة جميع سكان القرية ولضمان الحد الادنى من امنهم وسلامتهم. ومنهجية المؤلف في هذا المشروع البحثي ترمى إلى رصد هذه العناصر الثقافية المشتركة، ثم تجليتها وابرازها وتأكيد اصالتها عند الجانبين على اساس ان ذلك سيكون قاعدة يمكن الانطلاق منها لتحديد اسباب العداوات، توطئة لازالة الجفاء تدريجياً، ولاغراء مجتمع القرية الصغيرة بالاعتراف بوحدته الانسانية ولتحفيزه لتأكيد هذه الوحدة، والدفاع عنها في واقع الحياة العملية على الصعيدين الدولى والثنائي، وبالحوار الايجابي المثمر البناء (¬1). يقول الدكتور كمال أبو المجد: بعيدا عن التعصب والتخويف المتبادل هناك عناصر مشتركة بين الحضارتين الغربية والإسلامية ترشحانهما للتواصل والحوار والتفاهم والتعاون وتبادل الخبرات وتحولان دون الصدام والمواجهة، فلا ننسى ان الحضارة الغربية قامت تاريخيا على ساقين، ساق هيلينية يونانية غير مؤمنة، وساق مسيحية روحية مؤمنة، وبسبب هذه الساق الروحية المؤمنة نبتت في نسق القيم المغذي للحضارة الغربية اوضاع ومقولات وقيم ومبادئ كثيرة الشبه بما يحمله الإسلام للانسانية من قيم في العلاقات، هذا العصر المغذي للحضارة الأوروبية بزاده الروحي والاخلاقي يفتح بابا هائلا للتواصل والحوار والتكامل بين الحضارتين الغربية والإسلامية (¬2). من هنا ينطلق د. دكتور عبد الله أبو عزة في كتابه "الحوار بين الإسلام والغرب" مركزاً على محور رئيسي واحد فحواه ان بين عالم الإسلام وعالم الغرب كثيراً من عناق الاتفاق والتشابه، ملخصاً ذلك بالقول: المتفق عليه أكبر بكثير من عناصر الفرقة»، ناهيك على أنه أشمل وأعمق أثراً.، حيث يتناول أبو عزة في كتابه عناصر الاتفاق عبر ألفي سنة من التاريخ ليكشفها في المسيحية قبل ظهور الإسلام بست قرون، مستمرة بعد انبثاق عالم الإسلام، إلى جانب ذلك تناول الاحوال والتيارات العقدية والفكرية في الغرب متتبعاً التغيرات المهمة في منظور الحركات ¬

(¬1) حوار الإسلام والغرب- تأليف د. عبد الله أبو عزة ص8 - دار المأون للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى (¬2) الحوار بين الإسلام والغرب- جريدة الشرق الاوسط- 19 - 9 - 2003 - عدد 9061

الكبيرة والصغيرة بدءاً من انقسامات وصراعات القرن الرابع الميلادي، مروراً بحقبة سيطرة روما وبابويتها وعصر الاصلاح الديني البروتستنتي وانبعاث الفكر التوحيدي وتأسيس العلمانية السياسية ثم الاجتماعية وظهور التيارات المناوئة للكنيسة والدين كله وتتبع مسيرة البحث العلمي الذي عاد ينشد الحقيقة الأولى وصولاً إلى البحث العلمي في الالفية الثالثة (¬1). وفي نفس الاطار حاول جارودي ان يلخص جذور هذه العلاقة بين الغرب والشرق حتى قبل الإسلام بوقت طويل حيث يقول: ان اتصال الاوربيين بالشرق العربي وارتباطهم به هو موقف ثابت في تاريخ اوروبا (ما عدا الحملات الصليبية وحركة الاستعمار وصنيعته الصهيونية) .. وهذا الموقف لا يعود إلى الموقع الجغرافي للشرق فحسب بل لان الغرب يستمد جذوره الروحية من الشرق. فالفلسفات التي سبقت سقراط قد نمت وتطورت في اسيا الصغرى حيث ولد تاليس وبارمينيد وزينون وهيرقليط وغيرهم. أما الانحسار فكان بسبب الحروب الميدية .. ثم راحت آسيا تمد ثانية العالم الهلنستي ليعطي ما اعطى من ديانات خلاصية بينما كانت افريقية ومصر على وجه الخصوص توحيان إلى فيثاغورس وافلاطون ما توحيان، اما الاسكندر في عبوره إلى الهند فقد تابع حلمه بأن يربط الهلنستية بحضارة آسيا. وحينما كان العالم الهلنستي يحتضر في قوقعة (المدنية) الآيله إلى الانهيار حاول الاسكندر ان يبدع عالماً جديداً .. وهكذا تلاقت - في اثناء عبوره الهند - فلسفة اليونان بحكمة الهند بينما راحت الاسكندرية في افريقية تتحول إلى اكبر مركز للاشعاع الروحي في كل منطقة البحر المتوسط على مفترق الطرق فيما بين آسيا وافريقية واوروبا المتوسطية. وانطلاقاً من القدس في فلسطين وانطاكية في سورية والاسكندرية في مصر راحت تنتشر صوب الغرب الموجات المسيحية الأولى محملة برسالة عالمية شاملة. وفي الشرق الادنى انطلق (آباء الكنيسة) من كابادوقية (في تركيا اليوم) ومن انطاكية يبشرون بالعقيدة الجديدة كما بشر آباء الكنيسة من الاسكندرية (في مصر ¬

(¬1) حوار الإسلام والغرب- تأليف د. عبد الله أبو عزة - جريدة اللواء الاثنين 1 ايار 2006 العدد رقم: 1704

تشابك المصالح

اليوم) ومن قرطاجه (في تونس اليوم) حيث عاش القديس أوغسطين. وبعد ذلك قام شارلمان عام 797 وقبل ان يصبح امبراطور الغرب بالتحالف مع خليفة المسلمين هارون الرشيد، كما عقد فرانسوا الأول عام 1553 حلفه مع سليمان القانوني سلطان الامبراطورية العثمانية. ثم جاءت الفصول المرة التي مثلها الصليبيون والاستعماريون والصهاينة بمزاعمهم في التفوق وممارساتهم الدموية ... لتكون نقيضاً لتلك التقاليد العريقة التي عملت على التبادل المثمر فيما بين الشرق والغرب ... كان ذلك كله نقيضاً للمصالح الاقتصادية والسياسية والروحية لاوروبا (¬1). تشابك المصالح ان تشابك المصالح المشتركة التى يفرضها الوجود المشترك بين الغرب والعالم الإسلامي في عصرنا الحاضر ادى إلى فتح آفاق جديدة للحوار بين الغرب والعالم الإسلامي، فعلى الصعيد الاقتصادي تعتمد اوروبا اليوم في نصف ما تحتاجه من النفط على الشرق الاوسط وتستورد 70% مما تحتاجه من العالم العرب .. وكذلك تحتاج فرنسا إلى النسبة نفسها من غاز الجزائر. ان حجم علاقة فرنسا التجارية بالجزائر وحدها يفوق اربعة اضعاف حجم علاقتها التجارية باسرائيل. وقل الشئ نفسه عن اوروبا كلها، فنصف صادرات الدول العربية تتجه صوب اوروبا التي تصدر إلى العالم العربي 12% من صادراتها اى ما يعادل صادراتها إلى الولايات المتحدة. ان الدول العربية سواء كانت مصدرة أو مستوردة هي افضل شريك تجاري لاوروبا. نعم يمكن لهذه العلاقات الاقتصادية القائمة اليوم ان تتسع وتزدهر وتصبح اشد التحاماً بين اوروبا والعالم العربي وبلدان العالم الثالث غير المنحازة (¬2). ولكن لابد من ضبط هذه العلاقة على اسس سليمة قائمة على العدل والاحترام المتبادل. فنحن لا ننكر أن للغرب مصالح في بلاد المسلمين، كما أن للمسلمين كذلك مصالح في بلاد الغرب، تماماً كما أن لكل شعب مصالح لدى الشعوب الأخرى، فالناس في النهاية جنس بشري واحد، يعيشون على أرض واحدة، هم جميعاً عباد الله، ¬

(¬1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص350 (¬2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص 351

والأرض كلها أرض الله. لكن أن تكون هذه المصالح وحيدة الجانب، أي مجرد مطامع للغرب في بلاد المسلمين، لا يهمه سوى كيف يستخلصها منهم فهذا هو ما يرفضه الإسلام ويرفضه المسلمون، بل ويرفضه كل إنسان سوي. المسلمون ليسوا مجرد أرض تنهب، ثم ترش بالماء لتخصب، فتنهب من جديد، وليسوا بقرة تعلف لتحلب. المسلمون بشر كما الغربيون بشر! لهم مثلهم حق الحياة، وحق الكرامة، وحق السيادة على أنفسهم وأرضهم. المسلمون قوم ككل الأقوام، لهم شخصيتهم المتميزة، وحقوقهم المستقرة، وهويتهم الواضحة، وحضارتهم المتفردة، ولهم في بلاد الغرب مصالح، كما للغربيين في بلادهم مصالح، ولهم في بلاد الشرق مصالح، كما للشرقيين في بلادهم مصالح، تستخرج ويتم تبادلها بالتعاون والوفاق، لا بالقهر والإلزام. فإذا أقر الغرب بتبادل المنافع والمصالح، وتلاقح الأفكار والرؤى، وتمازج الثقافات وتعاون الحضارات، فلا يبقى ثمة للغرب أي مبرر للخوف على مصالحه. والقلق على مستقبل علاقاته مع المسلمين، في ظل حكم الإسلام، لأن الإسلام يقوم على السلام والتعاون، والعلاقات الدولية السليمة، ويؤكد على الالتزام بالعقود والوفاء بالعهود، واحترام المواثيق والمعاهدات، وان رجال الإسلام، هم في الحقيقة والواقع خير من يمثل هذه المبادئ والقيم الإسلامية، ويفي بالعهود والمواثيق، وهم بريئون كل البرائة من تهم الجمود والتحجر والعنف والإرهاب والتطرف وما إلى ذلك من هذه النعوت الظالمة، التي لا تمت إلى الواقع بصلة. أما إذا أنكر الغرب هذا المبدأ، كما يفعل اليوم، ولم يهتم الا بمصالحه فقط، وراح يغلفها بالديمقراطية والحرية والنظام الدولي الجديد، والعولمة وسوى ذلك مما يتوسل به الغرب لتحقيق مطامحه ومطامعه الخاصة، والوصول إلى التسلط على المسلمين والسيطرة على بلادهم ومقدراتهم، ونهب ثرواتهم، وشل أراداتهم، - كما هو حاله اليوم - وجرّد إعلامه، وسلاحه الثقافي والتقني، وجرّ أساطيله الاقتصادية والسياسية والعسكرية لحرب المسلمين، ومسخ هويتهم ومحق شخصيتهم - كما فعل دائماً ولا يزال يفعل اليوم - فان تخوفه حينئذ سيكون مبرراً، وإن قلقه سيكون في محله لأنه لن يجد المسلمين مطواعين لرغباته وممارساته تلك، ولن يكون الغرب الا خاسراً في معركته تلك، إن آجلاً أو عاجلاً، وحينئذ لن تكون نتيجة العدوان

الغربي أن يخسر الغرب مصالحه في بلاد المسلمين فقط، بل ربما اكثر من ذلك بكثير (¬1). لقد شهد المسلون كيف أن الغرب يمارس نفاقه عن طريق دعوته للديمقراطية بينما هو يقوم بخلق ومساندة أقسي وأعنف الأنظمة الديكتاتورية في العالم في بلدانهم! وشهدوا أيضاً لهاث أوروبا وراء سوق مشتركة أدت إلي وحدة باسم الاتحاد الأوروبي بين دول تتكلم بلغات مختلفة وتعتنق معتقدات مختلفة وتتفاوت في تاريخها وثقافاتها. وفي حين خاضت معظم تلك الدول الأوروبية أسوأ الحروب العالمية فإن وحدتها من جديد كانت أمراً رغب به الغرب فتم ذلك. لكن الغرب لا يسمح باتحاد أو توحد العالم العربي أو المسلمين، ولا حتي بالقيام بأبسط التسويات أو التعديلات بين حدود دول العالم العربي الصغيرة ودويلاته التي رسم الغرب خارطتها بعد الحرب العالمية الأولي. لقد شاهد المسلمون بأم أعينهم كيف تتفاوت الثروة في مجتمعاتهم أكثر فأكثر، وأن مصادرهم الطبيعية وعائداتها تنتقل إلي أيدي القلة المتنفذة من أبناء جلدتهم والتي تسلمها بدورها إلي القلة الغربية علي هيئة ودائع يمكن أن تتعرض إلي التآكل أو التجميد أو، في أفضل الأحوال، إلي استثمارات تفضي إلي ثراء الآخرين بينما دولهم تصرخ بأعلي صوتها طلبا للاستثمارات والمشاريع (¬2). وفي ختام كتابه "الإسلام والغرب" يقول د. عبد الله ابو عزه: وما اود ان اقوله عن غذنا المشترك، فهو التذكير بأننا - عالم الإسلام وعالم الغرب- نعيش في بيت زجاجي، هذا الكوكب الصغير الذي يسمى بـ كرة الارض، والذي لم يعد يتحمل اى عبث. ان الاستناد إلى القوة والقهر في التعامل بين الشعوب لن يؤدى الا إلى خراب ودمار يصيب جميع السكان (¬3). ومن هنا فإن الحاجة تتصاعد إلى طرح نموذج اسلام اوربي ليس لقدم المسلمين وتزايدهم المطرد في هذه القارة وحسب، بل لضرورات تتصل بالقضايا الكبرى التي تهم البقاء الانساني في هذه الأيام، فهناك دعوة جادة لتعميق الحوار بين الأديان، فعلى حد تعبير العلامة هانس كنغ في كتابه القيم ¬

(¬1) الإسلام .. والغرب .. وإمكانية الحوار -ابراهيم محمد جواد (¬2) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم- القدس العربي- 3/ 2/2003 (¬3) حوار الإسلام والغرب- تأليف د. عبد الله أبو عزة- ص287 - دار المأمون للنشر والتوزيع في عمان.

الحوار بين الديانات والحضارات لماذا؟

"مشروع لأخلاق عالمية: "لا سلام عالمياً بل سلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان بلا حوار بين الأديان، ولا حوار بين الأديان بلا دراسات جادة وأبحاث موضوعية. فهناك رغبة عالمية صادقة وملحة لصياغة انسان جديد يؤمن بالتنوع الثقافي ويدعو إلى الموازنة بين الروح والمادة، لمواجهة أمراض التكنولوجيا، وفي مقدمتها الغاء الهوية، وتفتيت وحدة الكيان الانساني، وتمزيق الطبيعة وتعميق الفروق الطبقية بين الناس والشعوب والأوطان". وتتأكد هذه الحاجة مع تعالي الصيحات التي تدعو إلى توكيد بل إلى تأسيس ثقافة التسامح التي تتوقف بدورها على الاعتراف بثقافة الآخر (¬1). الحوار بين الديانات والحضارات لماذا؟ يشهد العالم الحديث في ظل الموجة الثالثة أو "عهد القطيع والقبيل الإلكتروني" بلغة "فريدمان" تحولات غير مسبوقة تنذر بإحداث تأثير كبير في منظومات القيم والعلاقات والثقافات .. وعلى الرغم من التطور المذهل الذي يشهده قطاع الاتصالات فقد لاحظ الباحثون بمرارة أنه كلما زادت وسائل الاتصالات كلما قل التواصل! وكلما زادت الآليات الكفيلة بتقريب المتباعدين كلما تقوقع أبناء الحضارة على أنفسهم، وباتوا أقل إحساسا لحرارة مشاعر ومشاغل الغير، وأكثر اعتدادا واعتزازا بذواتهم وبشكل دوغمائي. وتبدو الصورة التي يمكن تقديمها لعالم اليوم متنافرة في جزئياتها، بل ومتعارضة في بعض منها! ففي الوجه الأول نعيش في عالم متلاحم متشابك المصالح والوسائل والغايات، بشكل جعل الكثيرين ينأون بأنفسهم عن الارتباط بكيانات قطرية ضيقة، وينعون الدولة الوطنية التي باتت في منظور الاجتماعيين كبيرة جدا عند مواجهة المشاكل الصغرى، وصغيرة جدا حين مواجهة المشاكل الكبرى! وفي الجانب الآخر من الصورة شهد تزايدا مقرفا لتيارات العنف والكراهية وتناميا متسارعا للأقليات الفكرية والطائفية وتفتيتا للأغلبية إلى ¬

(¬1) الاقليات المسلمة في الغرب من العزلة إلى الاندماج الفاعل - غالب حسن الشابندر- المصدر: التوحيد/107/ 2001 م

مجموعات فسيفسائية ولوبيات متناحرة، فضلا عن تسارع وتيرة نمو قوى العنف والتدمير التي تهدد مصير البشرية (¬1). فها نحن نرى كيف ان العولمة الأميركية تأخذ أشكالاً متقدمة ولاسيما على الصعيدين السياسي والعسكري, إذ أصبح من الواضح أن أميركا تريد فرض عولمتها على العالم ولو بقوة السلاح, مما جعل الجميع يشعر بأن الهيمنة والظلم والاجرام والوحشية الأمريكية هى كابوس نتطلع إلى يوم الخلاص من وطأته والانعتاق من أسره في يوم من الايام ومن هنا يبدو حوار الحضارات بديلاً مهماً لهذه العولمة البشعة التي تريد أن تصبغ العالم بلون واحد، وهذا ما دعا كثير من المفكرين، إلى الدعوة إلى وجوب ترسيخ مبدأ حوار الحضارات والأديان، على اسس الايمان بوحدة النسيج الانساني، وتكامله في مواجهة من يعتقد بمبدأ التسلط الثقافي والفكري لدرجة نفي الاخرين وتهميش وجودهم. لقد حان الوقت للحوار بين الثقافات، لو أراد الإنسان أن يعبر دون أن يموت، العتبة الثالثة من تاريخه ... العتبة الأولى كانت ولادة الإنسان وإرادته الأوليه التي ساعدته على مواجهة الحياة ... الثانية كانت ولادة الحضارة مع الزراعه ... الثالثة تتلاعب بالنواة والذره وقلب المادة ومن سماتها هذا التلاعب في الجينات الذي هو قلب الحياة. فقد اصبح الآن للانسان القدرة على إلغاء كل إنجازاته ومكاسبه السابقه، وله أيضا القدرة التكنيكية عبر سيطرته على الذرة أن ينهي أي اثر للحياة على الارض. لقد قادت أحلام احتواء الطبيعة لديكارت وفاوست إلى انهيار العالم وإهدار غالبية الطاقات الطبيعية، وقادت نظريات وعقائد آدم سميث إلى تحويل الإنسان إلى رجل آلى خاو يتلاعب بالعقول والقلوب، هذا بالرغم من ان هناك حضارات أخرى تلك التي في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا والإسلام، عاشت على أسس علاقات أخرى مع الطبيعة والإنسان والله - (الإلهي) فالمشكلات المطروحة في إطار كوكبي تتطلب إجابة في إطار كوكبي (¬2). ¬

(¬1) حوار الحضارات والثقافات: رؤية في حوار الحضارات وصراع الأمم- بقلم الحسين ولد مدو. (¬2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص 143

وفي اعتقادنا وتقديرنا ان الحوار والالتقاء بين كل من آمن بالله واليوم الآخر سوف يؤدي- بكل تأكيد- إلى ان يصبح الايمان اكثر عمقاً واقوى ازدهاراً واكثر كثافة وضياء، سواء بين الناس والشعوب والامم من جهة، أو بين الدول والمؤسسات العامة والخاصة، الحكومية وغير الحكومية من جهة اخرى. وغني عن القول - وكلنا يعرف تماماً تلك الحقيقة المرة- انه، وحتى يومنا هذا، لا يزال اكثر من نصف سكان الارض، لا يعرفون من هو اله ابراهيم ولا يؤمنون بالاله الكائن الاعلى، الخالق، الديان. ومن ما لا شك فيه ان اي اسهام في عملية التغذية وحركة الدعم لتيار الفهم والتفهم بين سائر المؤمنين بالله الكائن الخالق، الديان، يعتبر عملاً ايجابياً خيراً، وجهداً بناءً مباركاً. فالمؤمنين، كل المؤمنين، اكانوا يهوداً ام مسيحيين أو مسلمين، عليهم ان يبذلوا جملة من المساعي والاهتمامات في سبيل الوصول إلى احياء تلك "الورشة القديمة- الحديثة" وتنشيطها. ورشة المشاركة والحوار بين كل مؤمن ومؤمن آخر من هؤلاء الذين اهتدوا إلى وجود الصانع الازلي. وهذا الاسهام المطلوب والمسعى المرجو اللذين نتحدث عنهما، لا بد لهما، مهما كان حجمها محدوداً، ورقعة اتساعها ضيقة، من ان يأتيا- إذا ما قاما على المثابرة وطول الاناة- بثمار يانعة ناضجة خيرة (¬1). ان حقيقة ما نواجهه ليس صراع حضارات، بل هو صراع بين الحضارة الانسانية، والهجمة الدونية التى اختارت المال والذهب كرب خاص لها، وجعلت منه عصب الحياه في هذا الزمان اللانسانى (¬2). ولهذا لن تحل المشكلات التي تواجه البشرية الآن إلا إذا توجهنا وتوصلنا إلى إعادة تكوين النسيج الإنساني المخرب والمدمر بأربعة قرون من الاستعمار والهيمنة الغربية ولن نحلها إلا إذا توجهنا لتطوير حوار حقيقي للحضارات بين كل ثقافات العالم. ان النقطة الرئيسيه في الحضارة الغربية وعلى رأسها الأمريكية هي افتقادها لاي روح، فليس لديها أي مشروع جماعي من اجل مستقبل الانسان، اللهم الا تطوير انتاجها واستهلاكها اعتمادا على ¬

(¬1) محاور الالتقاء ومحاور الافتراق بين المسيحية والإسلام - غسان سليم سالم- ص 6 - دار الطليعة -بيروت - ط1 2004 (¬2) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص227

التفوق في السلاح وهذا ما جاهد هنتنجتون في اخفائه، بزغم المواجهة بين الحضارة اليهوديه المسيحيه والحلف الإسلامي الكونفوشيوسي (¬1). إن الحوار الذي نريده بين الحضارات، حوار يحول دون استمرار الحضارات في النظر إلى بعضها البعض من خلال مرآة مكسورة ... حوار يقوم على الإيمان بوحدة الأصل البشري وعلى مبدأ التعارف والتسامح الثقافي في مواجهة العنصرية ونفي الآخرين ... حوار يؤكد المشترك الإيجابي بين الحضارات، ويقر بأنه لا وجود "لحضارات زائفة" ويزيل ويمحو ذهنية المحاصر في عقل بعض الحضارات. والحوار لا بد أن ينطلق من استعداد كل حضارة لفهم الأخرى، وتجنب إصدار أحكام مسبقة عليها، والاتفاق على إعادة صياغة صورة الآخر في إطار من التسامح، والرغبة المشتركة في بلورة قيم إنسانية، لإحداث التفاعل الحضاري، وقد تساعد في ذلك معطيات المجتمع العالمي الجديد القائم على إنتاج المعلومات وتداولها بشكل سريع وميسور وواسع يتجاوز الحدود الجغرافية للحضارات وللثقافات (¬2). ففي غياب الحوار المطلوب بين مكونات المجتمع الدولي الواحد يخشى أن تتوزع شعوب المعمورة إلى فئتين: فئة تمارس عبادة الذات، وأخرى تمتهن حرفة (نفي الآخر) ... والمفارق أن هذه القطيعة المترتبة على غياب الحوار تأتي في وقت تتناسل فيه التشريعات النبيلة الداعية إلى مزيد من الإنصاف والعدل والتسامح، وفي وقت تتزايد فيه أعداد دعاة الرفق بالإنسان والحيوان، وتتأكد الحاجة إلى الحوار في عالم يدفع خمسة ملايين من أبنائه قربانا لآلهة الحرب كل عقد من الزمن ويعيش أكثر من خمسه الفقر والمعاناة، ويعاني في مجموعه من (شيء من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات)، عالم سكانه مهووسون بصناعة الأنماط المقولبة في حق الغير، ومسكونون بالتنابز بالألقاب، تسوده الديمقراطية وتتأصل منه الدكتاتورية، يمجد التعددية على المستوى القطري ويكفر بها على المستوى العالمي ... تدعو تعاليمه ومواثيقه إلى المساواة والعدل والإنصاف والتسامح، بينما ¬

(¬1) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص 30 (¬2) حوار الحضارات .. لماذا؟ بقلم يوسف الحسن- جريدة الخليخ

يشكو سكانه الغبن والقهر والاغتراب والاستلاب والقلق والغثيان وكل مفردات الفلسفة الوجودية (¬1). فالهدف الرئيسي من حوار الحضارات هو مساعدة الاخرين ليس فقط عبر متخصصين أو بعض الفلاسفة ولكن بالجموع الشعبية العريضة- من هنا فان المشكلات العالمية المطروحة اليوم وان كان أهمها قد ولد بسبب هيمنة خاصه وطويلة للغرب لا يمكن حلها إلا عن طريق حوار مع الحضارات غير الغربية، من اجل تخيل وتصور وتعايش علاقات جديده بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان، وبين الانسان والمقدس. هكذا فقط يمكن أن نفتح أفق ثقافه كوكبيه مرسخه عبر اتحاد حقيقي للانسانيه لا عن طريق تركيبة تلفيقية ولكن مبنية على مفهوم مغاير لفكر الهيمنة بحيث تكون تركيبة سيمفونيه تعزفها الثقافات المختلفة. والطريق مفتوح أمام الشعوب التي خضعت كليا للغرب لكي تنجو من تنميه فرضها الاستعمار وكانت تنميه اجنبيه غريبة عن الثقافة الاصليه لتلك الشعوب. ولا يعني ذلك أبدا أن ننكر مساهمة الغرب بل يعني أن نعطي الغرب مكانة كاملة وليس اكثر من مكانه وخاصة في تنسيق قوى العلم والتكنولوجيا مع اهداف انسانيه حقيقيه. وبهذه الطريقة وحدها يمكن استكمال الملحمة الانسانيه على ظهر هذا الكوكب. ولقد كتب رائد فضاء حط قدميه على سطح القمر، عند عودته. "بدت الأرض من هنا رائعة الجمال مضيئة وبدت موحدة يسودها السلام وكانت هذه أول مرة ترمق فيها عين بشريه الأرض بنظرة شاملة وفي فضاء لا يحده الأفق. فهل سنصل إلى إدراك هذه الصورة ونتمسك بها في المستقبل؟ " (¬2). بالطبع يمكن تحقيق هذه الصوره من خلال حوار جاد بين الحضارات والثقافات يقوده مثقفين منفتحيين يؤمنون بذلك الحوار، حيث ستكون المهمة الأولى للمثقفين هي كشف الاكاذيب التي تسود المراجع المدرسية ووسائل الإعلام وهما اللذان يخدمان الغرب للإبقاء على هيمنته بأيديولوجيات مغالطة عن حداثته، وليس ثمة افتراض واحد عن تلك الحداثة المزعومة لا يعد افتراء وكذبا (¬3). فبنسيانهم لما ¬

(¬1) حوار الحضارات والثقافات: رؤية في حوار الحضارات وصراع الأمم- بقلم الحسين ولد مدو. (¬2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص144 - 145 (¬3) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى - 146

استعاروه من آسيا (ومن إفريقيا فيما بعد ومن باقي العالم عبر الاسكندريه) كانوا يعدون كل ما لا ينتمي للعالم الإغريقي وكل من لا يتكلم لغتهم برابرة، خالقين بذلك من هذه العزلة الاصطناعية الهائلة أسطورة المعجزة اليونانية (¬1). ولكن الاتجاه إلى الاعتقاد بأن التاريخ يبدأ (بنا)، وبان الماضي لا يمكن ادراكه الا على أنه تحضير وانتظار لما سيحدث (لنا) ... لم يكن وفقاً على المسيحية وحدها، وذلك من سوء الطالع. نعم إن مثل هذا المفهوم للتاريخ المكتوب على انه تبشير بمستقبل جاهز منجز، يتيح لكل طرف أن يعد نفسه خاتمه للملحمة الإنسانية وغاية التاريخ وحدثاً فريداً ووحياً لا يأتيه الباطل. وبهذا المنظور يصبح كل (ماض) حدثاً عفى عليه الزمن ويكون كل ابداع جديد انحطاطاً ومروقاً! ان العبريين وقد ادعوا لانفسهم الامتياز بالوعد وبانهم شعب الله المختار، واليونان باحتقارهم المتعالي (للبرابره) أى لكل ماليس يونانياً، والرومان بما لديهم من (عقدة) التفوق والامتياز ثم الكنيسة التي خلفتهم مدعية العالمية (الكاثوليكية)، وأولئك المسلمين الذين انغلقوا على خصوصيتهم ففسروا الآيه القرآنية ( .. خير أمة أخرجت للناس) لا على أنها دعوة والتزام بل على أنها امتياز مكتسب، وذلك بروح من الاكتفاء المتعجرف ... إن هؤلاء وأولئك كانوا يعدون أنفسهم محور العالم شأنهم شأن أباطرة الصين القديمة (¬2). ان الحوار الجاد بين الحضارات يعني أيضا وقف عمليات الاستيعاب والاستلحاق بين الحضارات، ويهدف إلى "عقلنة" سلوك الدول داخل هذه الحضارات، ومنع أو عرقلة استخدام الدول "القوة" لأغراض الهيمنة. وفي الوقت نفسه فإن الحوار بين الحضارات يسهم في تثبيت السمة الرئيسية للثقافات الإنسانية وهي استجابتها للتطور والاغتناء بالتفاعل فيما بينها، كما يسهم الحوار في "عقلنة" النزاعات التي قد تنشأ أثناء تثبيت الهويات الثقافية لهذه الحضارات، أو التي تتوالد في ظروف الأزمات الاقتصادية، نتيجة حدوث احتكاكات بين أبناء الحضارات المختلفة خلال موجات ¬

(¬1) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص56 (¬2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص140 - 141

الهجرات السكانية عبر حدود دوائر هذه الحضارات أو تلك النزاعات التي قد تسببها هجرات غير شرعية، وتغذيها فروق ومشكلات سياسية وعقيدية وتاريخية. إن من فوائد الحوار وغاياته أبطال المناخات المفعمة بالمخاوف ومشاعر العنصرية والكراهية، وتوفير المناخ الملائم لتبادل الوافد النافع من الثقافة والعلم والخبرة. إن الحوار بين الحضارة يعني أن تتبادل العلوم والمخترعات، وليس مجرد الثقافة والإعلام والآداب والفنون، وإلا كان التبادل تبادلا محدودا، ويفتح المجال للهيمنة الثقافية واحتلال العقل ومسخ الثقافات الأخرى. إن الحوار لا يعني نسيان أو تجاهل التميز بين الحضارات، لكن العزلة عن التأثيرات الحضارية الأخرى أمر صعب مثله مثل التبعية أو الذوبان. وهكذا فإن الدعوة للحوار، هي دعوة للتسامح والتعايش مع الآخرين، وإنكار لنزعات التفوق والسيطرة، وهي نظرة لقضايا المستقبل، وتعبير عن إرادة الحضارات المعاصرة لمعالجة هذه القضايا، وعن قناعتها بضرورة التعاون للنجاح في ذلك (¬1). فالحوار يقتضي سلفا تعددية الفاعل وخلافية القضية، والتساوي بين المباشرين لهذا الفعل النبيل، وهو عملية تتيح للمشارك فيها التحول إلى فاعل ومفعول معه بدل مفعول فيه بلغة النحاة. فالحوار على حد تعبير أدغارموران يقتضي المساواة، فلا حوار بين العبد والسيد، ويمكن كل فرد من عرض وجهة نظره وبراهينه، إنه استعداد للاستماع للآخر وإقرار بكونه يستحق أن ينصت إليه إذا تحدث، وأن يتحدث إذا أراد .. وبديهي كذلك أن لا حوار إلا في القضايا المعلقة التي لا تحظى بدرجة الإجماع، كما أن التعددية في الحوار شرط لقيامه وإلا لتحول من Dialogue إلى مونولوج Monologue حديث المرء إلى نفسه! يقول المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في مقدمة الترجمة العربية لكتابه الشهير (الثقافة والإمبريالية): إن فكرة التعددية الثقافية لا تؤدي بالضرورة إلى الهيمنة والعداوة, بل تؤدي إلى المشاركة, وتجاوز الحدود, وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة، وهذا يعني إن حوار الحضارات والثقافات ينبغى أن يعزز التسامح والتفاهم ويعمل على إشراك الآخر، واستكشاف القيم المتبادلة عن الثقافة الأخرى للمساهمة في إزالة الكليشيهات والصور النمطية .. هذا مع ضرورة طرح ¬

(¬1) حوار الحضارات .. لماذا؟ بقلم يوسف الحسن

القضايا الجدية للنقاش والابتعاد عن الوعظ والتصريحات المغلفة بالنوايا الحسنة (¬1). وفي اعتقادنا أن بإمكان المفكر المسلم المساهمة الإيجابية في مد جسور من ذلك "التعارف" الإنساني انطلاقا من قيمه الاجتماعية والدينية التي تناديه دوما أنه "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين" (¬2). وبموجب هذه الآية فإن الكف عن العدوان العقدي وعن العدوان السياسي، خاصة في أجلى مظاهره وهو الاستعمار والطرد من الأرض، إن الكف عن ذلك كفيل بإقامة جسور من الحوار المتكافئ بقصد التفاهم، وجسور من التسامح والتعايش بقصد التساكن "والتبشير" بغد أفضل وبتاريخ مفتوح، لا بحرب آخر الزمان! ولا ريب أن المفكر المسلم المعاصر يتحمل مسؤولية إعادة بناء هذه المفاهيم والقيم الإيجابية في ثقافته الإسلامية خدمة للحضارة الإنسانية جمعاء، بعيدا عن الأهداف الإيديولوجية والتوظيفات السياسوية والتسيب الفكري الذي قد يطال تلك المفاهيم (¬3). ولهذا يتوجب على علماء الدين المسلمون بذل ما هو أكثر من المجهودات الشفهية في سبيل خدمة حوار الأديان والحضارات .. ويكمن عملهم الفعلي في تأسيس نظام قيمي جديد لدى مريديهم، ينظر لاختلاف الأديان على أنه حق شخصي ومنبع للغنى الثقافي، وليس موضوع نزاع أو عداء. عليهم أن يقبلوا ويعلموا أتباعهم قبول أن للحقيقة الإلهية تأويلات مختلفة وأن ينظروا لهذه التأويلات من حيث تكاملها بدلا من النظر إليها على أنها تلغي بعضها بعضاً. إن من الضرورات اليوم أن يبذل الجهد لتحقيق مبدأ الحوار مع الآخر وفق عقد اجتماعي يحترم الحريات ويصون الحقوق ويؤمن الإنسان من الخوف (¬4). لقد آن الأوان لاعادة النظر في العديد من المسلمات الراسخة في اذهاننا عن صورة الآخر، كما أن على الغرب بخاصة ان يقدم صورة موضوعية ونزيهه عن العرب ¬

(¬1) حوار الحضارات والثقافات: رؤية في حوار الحضارات وصراع الأمم- بقلم الحسين ولد مدو. (¬2) - قرآن، سورة الممتحنة، آية 8. (¬3) - أية قيم دينية لحضارة إنسانية؟ - د. عبد المجيد الصغيّر- مؤتمر الدوحة الخامس لحوار الأديان 7 - 9 مايو 2006 (¬4) المسيحيون العرب كمثال- هلال خاشان- http://arabic.tharwaproject.com/node/8

والمسلمين. ان الغرب ليس كيانا واحداً بل يمتاز بالتنوع والاختلاف، كما أن المجتمعات العربية والإسلامية تعيش في ظل التنوع الثقافي والديني والاجتماعي. واذا كان صحيحا ان الغرب اخترع وصنع الصورة التى يريدها عن المسلمين والعرب، فإن المسلمين ايضا صنعوا صورتهم عن الغرب، فلا العالم الإسلامي يظهر على حقيقته ولا الغرب يظهر على حقيقته. واذا كنا ننتقد تشويه الغرب صورة المسلمين والعرب، الا اننا لا ننتبه إلى ان صورة الغرب ليست أقل تشويها (¬1) .. ان الحل الوحيد الممكن لجوع البعض وبطالة البعض الآخر وهجرة الجياع في بحثهم الوهمي عن العمل، هو تغيير جذري لعلاقة الغرب مع العالم الثالث، مع وضع نهاية لسيادة الغرب ولتبعية الجنوب لان التبعية هي التي تنتج التخلف، نحن نعيش عالما مشطورا بين الشمال والجنوب، وفي الشمال كما في الجنوب، بين من يملكون ومن لا يملكون شيئا: ال 20% الأكثر ثراء على الكوكب يحوزون 83% من الداخل العالمي، وال 20 % الأكثر فقرا يحوزون 1.4 %. وحيث إن الاستعمار خلال خمسة قرون ونظام بريتون وودز خلال نصف قرن قد خلقا عدم المساواة هذا بين الشعوب، فان التبادل الحر يعمل على تفاقم السيطرة والتبعيه. ويرى جارودي في كتابه "كيف نصنع المستقبل" ان تغيير الانحرافات الراهنه يمكن ان يتم من خلال: اولا: تدمير الاسطوره التي تضفي كلمة ديمقراطية على حرية السوق ... فالسوق الحر قاتل للديمقراطية ... (بواسطة تراكم الثروة في قطب والبؤس والفقر في القطب الآخر). وهذا يتضمن بعض القرارات السياسية التي تعمل على التحرر من العولمة المزعومة للاقتصاد، أي من الإرادة الأمريكيه التي تريد إن تجعل من أوروبا ومن باقي العالم مستعمرة تفتح منافذ أمام اقتصادها الخاص في جميع المجالات: من المنتجات الزراعية إلى الصناعات الفضائية ومن المعلومات إلى السينما. ثانياً: ضرورة اعادة حرية تأسيس علاقات جديدة جذرياً مع العالم الثالث، وهذا يعني: ¬

(¬1) مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى انسنة الحضارة وثقافة السلام - د. محمد سعدي - مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2006 - ص 368

تأسيس نظام قيمي جديد

1 - ان "باندونج" (¬1) جديده ضرورية من اجل إن يكون القرن الحادي والعشرون علامة على نهاية عصر ما قبل التاريخ الحيواني للإنسان حيث كانت الثروة في عالم مشطور، حكرا على أقلية ضئيلة وتقتضي التبعية والاستغلال، بل وموت الجزء الأكبر من البشريه. 2 - إن بعث الوحدة الإنسانية لا يمكن إن يتم بواسطة العنف والسلاح اللذين كانا يفصمان عراها، ولكنه يتم بواسطة تحالف كل القوى الإنسانية حقا: من الاقتصاد إلى الثقافة إلى الايمان. 3 - ان ضعف الشعوب المضطهدة الحالية راجع في جزء كبير منه إلى انقسامها نتيجة خلافات وحروب استشارها ودعمها سادة العالم الحاليون. فالمهمة الأولى هى وضع نهاية لهذا التمزق عن طريق التفاوض السلمي بشأن كل هذه الصراعات التي تخدم القاهرين. 4 - إن يرفضوا بشكل جماعي دفع الديون المزعومة لصندوق النقد الدولي، وذلك لإن على الغرب دينا ثقيلا تجاه العالم الثالث. ... فمن يسدد لهنود أمريكا استنزاف كل قارتهم ... ومن يعيد إلى الهند القديمة مصدرة النسيج، ملايين الأطنان من القطن التي أخذت من المزارعين بثمن بخس، وأدت لتحطم الصناعة الحرفية للنساجين الهنود لصالح الشركات الكبرى في لانكشاير؟ ... من يعيد لإفريقيا حياة ملايين من أبنائها الأقوياء الذين حملوا كعبيد لأمريكا بواسطة جلابي العبيد الغربيين طوال ثلاثة قرون؟ (¬2). تأسيس نظام قيمي جديد الهدف من هذه الأفكار المتنوعة هو الإعداد للقرن الحادي والعشرين لنحياه كاملا. ذلك لأننا إذا واصلنا هذه الإنحرافات القائمة، فإننا نوشك على تدمير الإنسان، وقتل مليارات من البشر جوعا في الجنوب، وتحميله باتباع نموذج التنمية الغربي ما يوازي ضحايا هيروشيما كل يومين. لتصبح الحياة بلا هدف أو أفق، ما لم نوقف هذا ¬

(¬1) باندونج مدينة في اندونيسيا عقد فيها في ابريل عام 1955 اول مؤتمر للدول غير المنحازة. (¬2) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص116 - 117

الشرخ المتعاظم في العالم، ستتقاقم البطالة والإقصاء والعنف والمخدرات. إن هذا نداء للمقاومة ضد تفريغ العالم من المعنى، ونداء لتشييد عالم موحد وواحد، يتأسس على مبادئ تختلف تماما عن تلك المبادئ التي قادت الغرب بأجمعه إلى الإنحطاط، وقادت العالم إلى الاحتضار. فلقد ماتت الآمال خلال النصف الأخير من القرن، نتيجة حربين مات فيها 80 مليون قتيل (¬1). ان ما سمي بالحلم الأمريكي يحاول احكام قبضته على العالم محاولاً تحويل كافة الاحلام الجميلة والقيم النبيلة لمئات المفكرين والمثقفين على مر العصور إلى كوابيس مرعبة تزلزل الكيان الانساني على الارض وتهدد بإفناء الحضارة الانسانية. ولكن لنعلم يقيناً وعلماً قاطعاً بأن طريق الشر بفساده وباطله مسدود، وبأن الديمومة هى للحق والخير والجمال في الوجود ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، أبداً وسرمداً والا لما كان الله وكان الشيطان وحده منذ عهود بعيده (¬2). ولهذا فإن روجيه جارودى بعد أن كشف بشاعة النمط الأمريكي، دعا إلى تأسيس نظام قيمي جديد للنهوض وبناء مستقبل الانسانية، حيث يقول: أن النهضة الإنسانية، بل ومجرد بقاء الإنسانية، يستلزم بناء المستقبل على أسس أخرى. إن كشف حساب هذا القرن لا يوضح إفلاس ماركس الذي خانوا اشتراكيته، بل يوضح إفلاس آدم سميث الذي اندفعت ليبراليته إلى نتائجها القصوى، فأصبحنا مهددين بانتحار كوكبي (¬3). واليوم يكون ضروريا محاكمة ثقافة وحضارة الغرب على أساس دورها الهدام للثقافات الاخرى طبقا للفكرة الملعونة (الشعب المختار) (التي تتم عبر رفض الآخر وإنكاره حتى إبادته) (¬4). فالغرب يرفض ويدين المختلفين، وهو بهذا الرفض للأشكال الانسانيه الأخرى يحمل أسباب انهياره النهائي، ويضع مستقبل الانسانيه في خطر حقيقي، فقد تخطى الزمن تلك الاحاديه للثقافة الغربية وهيمنتها المهددة بالانشطار. فالقرية العالمية ملك للجميع، ضمن ما تعارف عليه العالم من القوانين ¬

(¬1) أمريكا طليعة الانحطاط- روجيه جارودي (¬2) رسائل حضارية في مواجهة اليهودية/ الاب فوتيوس خليلص60 (¬3) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى - ص23 (¬4) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص142

والمواثيق الدولية العامه. وايه قوة تتجاوز ذلك وتستهين به سوف تكسب عداوة جميع الشعوب، وربما لن تقوى على الصمود لكل هذا العداء عندما يتراكم ويشتد (¬1). لقد إستطاعت أمريكا، بالفعل وفي خلال أسابيع، أن تصدِّع جسوراً إنسانية بَنَتْها الشعوب لُبنةً لُبنةً، وأعلَتْها القرون الطويلة مدماكاً مدماكاً. وقد أثبت النظام العالمي الجديد الذي أنشأته أنه لا يتورّع عن تغيير وجه العالم إلى الأسوأ والأقبح، وأن يهدّد مصير الإنسانية كلّها، إذا ما أُصيبت مدينة أميركية أو إسرائيلية بمكروه. ولعلّه، بذلك، يقدِّم برهاناً على عدم أهليته ليحكم العالم وليكون مؤتَمَناُ على المصائر. وهذا الواقع الذي تكشّف يكفي للحكم عليه و يقضي بتغييره. وقد أصبح هذا التغيير واجباً إنسانياً أوّل لحفظ الوجود. فلا أمَلَ بالسلامة، إلاّ إذا أبكر العالم في معرفة هذه الحقائق، وسارع إلى المواجهة، وتمكّن من وضع الظلاميات جميعاً في محجر واحد، حيث تتناهش هي، ولا تنهش لحم الشعوب وقلب الحضارة كما تفعل الآن. المهمّة الأولى، في عملية التغيير ورسالته، هي منع حصول الكارثة، بمنع هذا النظام من التقدّم نحوها والدفع إليها. وهي مهمّة فورية، وعلى دول العالم وشعوبه أن تتجنّد لها. والمهمّة الثانية هي إيجاد ضمانات المستقبل وإنشاؤها. ضمانات القوى العظمى كارثة، والضمانات العسكرية فاسدة وخطرة، والضمانات السياسية التقليدية قاصرة (¬2). فهناك مرحلة تاريخية تحتضر، هي تلك المرحلة التي سادها الغرب (حسب الأصل اللغوي للكلمة: البلاد التي تغرب فيها الشمس) منذ خمسة قرون، وهناك مرحلة أخرى في طريقها للميلاد في البلاد التي تشرق فيها الشمس: الشرق (¬3). http://www.aljazeera.net/books/2004/1/1-26-1.htm - TOP#TOP فكيف نفتح آفاقاً جديدة ومستقبلاً يتسم بالإنسانية بعيداً عن حقول الأطلال التي خلفها التاريخ الحيواني للإنسان والذي يكتمل مع القرن العشرين؟ لابد إذن من كشف الأخطاء في بوصلة التاريخ الإنساني. فلقد كان الانفصال الأول للغرب هو ما قام به سقراط (والذي يقول عنه نيتشه إنه كان بداية الإنحطاط)، وتابعاه أفلاطون ¬

(¬1) حوار الإسلام والغرب- تأليف د. عبد الله أبو عزة ص288 (¬2) عولمة الرعب - يوسف الأشقر, نشر على الإنترنت: الثلثاء 24 كانون الثاني (يناير) 2006 - http://www.aschkar.org/spip.php?article20 (¬3) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص18

وأرسطو. فلقد أفسدوا التاريخ العقلي للغرب بفلسفة "الوجود" التي كانت أساساً لكل الهيمنة، ولقد حاولنا أن نستعيد "فلسفة العمل" وهي فلسفة بقية الإنسانية منذ ميلاد الأداة الأولى، من المقبرة الأولى ومن الحلم الأول في حياة خالدة إبداعية. وكان الإنفصال الثاني للغرب هو الحروب الصليبية وحروب الاستيلاء ومحاكم التفتيش ضد حكمة الشرق. وكان الإنفصال الثالث للغرب تلك "النهضة" المزعومة التي استخدمت الاكتشافات العلمية والتكنولوجية في الشرق (مثل البوصلة، والبارود، والمطبعة) لتحويلها إلى أدوات للسيطرة على الشعوب والأرواح. لقد بدأ هذا الانفصال عام 1492، مع الإبعاد الأخير للثقافات الشرقية، بالاستيلاء على غرناطة، وغزو وتحطيم ثقافات سكان أمريكا الأصليين، بالجوع إلى الذهب بدءاً بكريستوفر كولومبوس. إنها إذن 2500 سنة من فلسفة السيطرة. ولا بد من تحديها، وفتح آفاق جديدة أمام الإنسان، واقتراح أن تستبدل بوحدة العالم تحت سيطرة الإمبريالية تلك الوحدة السيمفونية، ويستلزم ذلك الاستعانة بحكمة وثقافة العوالم الثلاثة لنضع الإنسانية في الطريق الصحيح للإزدهار المتبادل لكل الثقافات لكي نصد المرامى القاتلة للمركزية العنصرية الغربية، ونوقف الهيمنة. لقد تسبب الغرب في حربين عالميتين اودت الأولى بحياة ثمانية ملايين من البشر، بينما اودت الثانية بحياة خمسين مليوناً. واذا كان بعض الساسة الغربيين يفتخرون بأن الديمقراطية الغربية جلبت إلى العالم فترة سلام استمرت ستين سنة فان هذا الادعاء يجانب الصواب، وينسب إلى ديمقراطية عالم الغرب انجازاً ليس من انتاجها، اذ السلام الذي ساد منذ عام 1945 انما توفر بحماية قوة الردع النووى المتوازنة. والآن زال ذلك التوازن باختلالات بنيويه في كيان احد جانبيه، ومن غير المستبعد ان يستبد الغرور أو العناد ببعض القوى فيتم تدمير البيت الزجاجي، ولا تخلو الاجواء من ارهاصات بذلك. واذا كان الردع النووى قد زال أو ضعف اثره، فلابد ان يحل محله رادع آخر هو الوفاق الانساني المحكوم بالمواثيق والقوانين الدولية، ومبادئ المساواة والديمقراطية الحقيقية- وليس المتأكلة- بين البشر، وبين الدول كما هى بين الجماعات والافراد (¬1). ¬

(¬1) حوار الإسلام والغرب- تأليف د. عبد الله أبو عزة ص287

ان منع الكارثة لا يكفي لضمان المستقبل. إنه يمنح الإنسانية فرصةً لإستعادة أنفاسها ولإستيعاب ما يحدث بأبعاده المصيرية، من دون أن تكون المقصلة فوق رأسها، مستقبل الإنسانية، في رأينا، إمّا يكون دورة حضارية جديدة، أو لا يكون. هذا يعني، على وجه التحديد، أنّ ثمة نظرة أُخرى إلى الإنسان والحياة والكون يجب أن تسود بكامل منظومتها المفهومية والقيَمية والخُلُقية، وبكامل عدّتها السياسية. بلوغ هذا الهدف هو أعظم تحدٍّ تواجهه الإنسانية، لا لتجميل حياتها بل لحفظ بقائها. إنه بناء جديد لا تُُمكن إشادته دفعةً واحدة، بل مدماكاً مدماكاً. حسبنا الآن أن نؤسّس له ونتّجه إليه (¬1). ولهذا لابد من العثور على معايير اخرى للتقدم، تختلف عن معايير قوة التقنيات والثروة "الناتج القومي"، لنعرف التنمية بازدهار الإنسان وليس بالنمو الاقصادي. ويفترض هذا على المستوى العقائدي أن نعطي الإنسان بعده الأساسي: وهو التسامي، على الا يكون التسامي .. تعبيراً عن الإله الملك، الذي يحكم مصائر البشر والإمبراطوريات من الخارج ومن أعلى، ولكن أن يكون ذلك التسامي منبثقاً من عمل الإنسان الخلاق، مع الوعي بأن الله حين خلق الإنسان فلكي يكدح الإنسان لملاقاة الله متخذاً منه مثلاً أعلى. ولذلك لا بد من التخلي عن الظن الخاطئ بأن "التاريخ المقدس" إنما هو تاريخ قبيلة واحدة، ذلك أن هذا التاريخ ينبع من كل عائلات العالم، ومن كل الثقافات، وكل الحضارات، ومن الهند الأمريكية ومن أفريقيا وآسيا (¬2). لهذا يجب ان نعمل على تأسيس ثقافة جديدة: ثقافة الحياة لا ثقافة الموت / ثقافة الحوار لا ثقافة الامر، ثقافة الشخصانية والجماعية وليست ثقافة الفردية / ثقافة المحبة والحب وليست ثقافة الحقد والكره / ثقافة السماح والتسامح وليس ثقافة الثار / ثقافة الانفتاح وليس ثقافة الانغلاق / ثقافة قبول الاخر وليس ثقافة الغاء الاخرين / ثقافة البناء والاعمار وليس ثقافة الهدم / ثقافة الانا تصبح النحن ¬

(¬1) عولمة الرعب - يوسف الأشقر, نشر على الإنترنت: الثلثاء 24 كانون الثاني (يناير) 2006. (¬2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص224

وليس ثقافة الانا والانا فقط / ثقافة العلم والمعرفة وليس ثقافة الجهل والتخلف. هذا هو المناخ الملائم لصنع قيم جديدة ... على اسس الحق والخير والجمال. ان الازمة التي نعيشها هي أزمة حضارة وصَلتْ إلى الطريق المسدودة، لعلّة في قِيَمها، ومفاهيمها، وعقليتها الخُلُقية، وكامل نظرتها إلى الوجود ومبادىء تعاملها معه. هي عدائية وإعتدائية على الإنسان والطبيعة وأجيال المستقبل. من هنا أنّ ضمانات المستقبل لا تكون إلاّ بثورة في الحضارة تقيم التوازن المفقود مع ثورة الوسائل، وتُنشىء محرِّضات إنسانية جديدة تستنفر خيرَ ما في الإنسان لا شرَّ ما في غرائزه المتوحّشة. المجتمعات هي الطرف الأصيل في هذه الثورة-الضمانة، وهي موضوعها ومسرحها وأداتها والوسيلة (¬1). وهذا يفترض أيضاً على الصعيد الجمالي، تغيير دراسة العمل الإبداعي للإنسان، حتى لا نحصر الجمال في النماذج الغربية وحدها، والتي قدمها الإغريق وعصر النهضة في القرن السادس عشر. وبهذه الطريقة وحدها، يمكن للفن الخروج من قيود وحدود أرسطو، فلا نحكم على الفنون بمعايير التشريح والمنظور في عصر النهضة وحدها، (ومقاييس بومبي التي أعقب كبار الرواد طوال ثلاثة قرون). ونتحرر أيضاً من القيد الآخر، لأن مجرد النفي والعصيان أدى إلى تدهور الفن المسمى "الفن المعاصر"، والذي توهم أنه يصبح فناً "حديثا" كلما زاد جهلاً بالماضي، حتى أصبح هذا الفن يشمل بعض اللوحات أو النحت مما يشبه الأراضي المليئة بالنفايات، وأصبح يثير الضجيج بدلاً من الموسيقى، وحول الرقص إلى حركات هستيرية تخلو من أي معنى إنساني (¬2). قد انتهت الحضارة الاوربية إلى علاقة استهلاكية مع الطبيعة وتقلصت جماليات الزمان المبدع في الموسيقى وفي الرسم فحلت المقطوعات القصيرة السريعة الايقاع التي تختلس الوقت وتبتره واللوحات السريعة التي سطعت بديلاً عن الزمان الكامل للابداع وذلك لمسايرة عامل الانتاج والاستهلاك. كان الكلداني يتطلع إلى جماليات السماء دوماً فورث عنه طاليس اليوناني علم الفلك .. اما فيثاغورس فقد كان ابناً باراً لعلوم الجماليات المصرية التي ابدعت الاهرامات .. كل تلك ¬

(¬1) عولمة الرعب - يوسف الأشقر, نشر على الإنترنت: الثلثاء 24 كانون الثاني (يناير) 2006. (¬2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص223 - 226

الحضارات التاريخية التي لا يمكن القول بأنها بائدة قد منحت عالم اليوم مقدماته العلمية، بعد ان انفتحت على قيم الكون الجمالية (¬1). يقول أحد كبار الفنانين المجددين في هذا القرن، ورائد التكعيبية "خوان جريس": "إن عظمة الفنان تتوقف على قوة الماضي الذي يحمله داخله، وليس ذلك لتقليد القدامى، أو الحفاظ على الموروث، ولكن لتجديد شعلة الرسالة التي كان أعظم حملة لوائها يعملون لإعلان الإمكانية الدائمة لتجديد إنسانية الكائن البشري". وهذا يفترض على الصعيدين السياسي والاقتصادي، تحطيم أصنام "العلوم الإنسانية" المدعاة التي تتمثل طريقتها في شف علوم الطبيعة، وإقامة مبادئ - على هذا النحو - تحط من قيمة الإنسان. إن الرجل الاقتصادي الذي لا بد له من أن يكون أحد هذين النموذجين: إما منتجاً، وإما مستهلكاً، متحركاً طبقاً لأغرضه الخاصة، هو أساس قاتل يحاول "الاقتصاديون" إخفاءه عن طريق آلات حسابية وهمية، لإعطاء مظاهر علمية لما هو في الواقع أيديولوجية موجهة لتنظير وتبرير نظام ظالم موجود وقائم. إن قلب المستقبل هو إعادة البحث، والتقديم الذاتي لكل المفاهيم الأخرى للإنسان، المولودة من خلال ثقافات أخرى، وتقديم السبل لخلق ظروف وشروط تقنية واقتصادية، وسياسية وروحية للجميع، تسمح لكل كائن إنساني (إمرأة أو رجل) بأن يصبح أكثر إنسانية، بمعنى أن يصبح "شاعراً" بالمعنى العميق للكلمة: وهو ان يصبح مبدعاً للنسخة الاصلية للمستقبل المحتمل (¬2). يقول رجل من الهنود الحمر معلقاً على همجية الرجل الابيض الذي افسد كل شئ عندما غزا أمريكا كاشفاً عن خواءه الروحي والانساني: نعتبر هذه البلاد قسمتنا ونعرف إن الرجل الأبيض لا يفهمنا، تستوي هذه الأرض عنده والأرض المجاورة لأنه الغريب الذي تسلل في ظلمات الليل فنال من هذه الأرض كل ما تمنى، انه لا يرى الأرض أختا له بل عدوا يقهره ولا يعبأ، انه يسرق الأرض من أبنائها ولا يعبأ، هذه قبور آبائه ومهاد أبنائه منسية، وها هو ينظر إلى أمه السماء فلا يراها إلا سلعة تسرق أو تباع كالأغنام والخرز إن جشعه يلتهم الأرض فلا يغادرها إلا صحراء ... لا ¬

(¬1) العالمية الإسلامية الثانية - ابو القاسم حاج حمد ص 231 (¬2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص223 - 226

يترك هذا الرجل الأبيض حيث يحل ويرحل شبرا من ارض دون ضجيج، لم يبق لديه مكان لسماع حفيف الأوراق وتفتحها في الربيع (¬1). ¬

(¬1) حق التضحية بالآخر- تأليف منير العكش-ص165

الفصل الرابع أمتنا ودورها الحضاري

الفصل الرابع أمتنا ودورها الحضاري ان امتنا بما تمتلك من ارث حضارى عريق، لازالت تمتلك من المقومات ما يمكنها من استنبات مشروعها الحضارى النهضوى وتخلق تراكمات تمكنها من بناء مركز قوة، وقاعدة هامة من قواعد ارتكاز الشعوب المقهورة في كفاحها المفتوح ضد المشروع الاستكبارى الصهيونى المتوحش. وهذا ليس بجديد عليها. فقد تمكنت من ذلك في الواقع العملى التاريخى. فهى حملت بتجربتها العملية الطمأنينة والسلام، وجسدت على ارض الواقع كيفية تحقيق التطور الانسانى المشترك دون اخضاع ولا خضوع، ليس لمن اعتنق الإسلام فحسب، بل لكل الشعوب التى احتكت بها (¬1). فبلادنا العربية هى مهد الحضارات الانسانية، وعلى ارضها كانت الدعوة الأولى لرفض عبودية الانسان، والى عبادة اله واحد احد. فبينما كانت قبائل العالم القديم، كل يسعى إلى اله خاص يختص بها، جاء سيدنا ابراهيم ابو الانياء برسالة التوحيد، توحيد البشر جميعاً على عبادة اله واحد. فكل البشر متساوون امام هذا الخالق، لهم نفس الحقوق والواجبات اياً كان اصلهم أو انتمائهم الجغرافى. وبنى مع ابنه اسماعيل الكعبة المشرفة - بيت الله الحرام - من دخلها فهو آمن بغض النظر عن المكان الذى اتى منه أو القبيلة التى يحمل اسمها. واستحوذت الكعبة كمنارة لحضارة التسامح والاخاء والمساواة والامن على افئدة الناس جميعاً في المنطقة، مما اثار حسد الاقوام الاخرى التى سعت إلى تدمير هذه المنارة الجديدة، فكانت محاوله ابرهه ملك الحبشه لهدم الكعبه، رمز التوحيد والعدل والمساواة بين الشعوب، ولكن كان للكعبة رب يحميها. واستمر الصراع بين الاتجاه الانسانى الذى يرى في الانسان قيمه بحد ذاته، يجب ان تسخر كل الاشياء لخدمته، وبين نظره ترى ان الانسان كغيره من الاشياء لا قيمة له بحد ذاته كانسان، بل ان مدى قوته وسيطرته وما يملك هى التى تحدد ¬

(¬1) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص 207

قيمته، حيث كان اليهود اول من حاد عن طريق الصواب، بعد ان قام احبارهم بتوجيه الديانة اليهودية التى نزلت على سيدنا موسى عن مسارها التوحيدى، حيث جعلوا منها ديانة مغلقة وخاصة باليهود دون غيرهم، واعتبروا انفسهم شعب الله المختار، حيث كان ذلك خلال السبى البابلى، التى كتبت خلاله اغلب اسفار ما تسمى بالتوراه الحالية، لتخدم مصالح طبقه من اليهود، لتبرير الاستيلاء على الارض والرغبه في السيطره والنهب، ولتصبح التوراة وثيقة عنصرية تحرض ضد الانسان، وتبيح المحظورات في سبيل جمع المال، وعاتوا في الارض فساداً وتحكموا بواسطة مهنة الربا الخالية من كل اخلاق وشرف في اوضاع كثير من الشعوب، ولذلك تعرضوا لانتقام الآخرين وحروبهم. واخترعوا لهم اله خاص بهم (يهوه) اله حرب وشر يقود اتباعه لتدمير كل الشعوب بهدف السيطرة على ثرواتهم لتصبح ملكاً خاصاً لهم. "واصبح منذ هذه اللحظة أي شخص لا ينتمي للاثنتين عشرة قبيلة لا يمثل جزءاً من الشعب المختار من الله عن طريق هبة الأرض والوحي بالشريعة، وهكذا وجد الآخرون أنفسهم كالبرابرة بالنسبة لليونان مطرودين من الحضارة الوحيدة الحقيقية: الحضارة اليهودية. "وبعد تسعة قرون جاء المسيح، ودعوته الكونية التي حشدت اكبر طاقة في تاريخ البشر والآلهة، تلك الآلهة التي كان يجري تصورها حتى ذلك الحين على أنها ملوك جبابرة، وفتح الطريق الأول لحياة مبدعه بتحطيم الممنوعات القديمة وخصوصية الشريعة، وبقطيعة مع المفهوم القبلي والوثني لإله جزئي ومنحاز قد اختار شعباً محدداً، مذكرا بأن الله هو أبو كل البشر ... جاء عيسى عليه السلام، هادياً للبشرية، ومنقذاً لها من سطوة الحاخامات والمرابين، وليطهر الهيكل من رجسهم، وليؤكد للناس جميعاً معانى الاخوه والمحبة والسلام والرحمة، ولكن هذه الدعوة لم تسلم من التشويه على يد بعض الادعياء، الذين كان لادعائاتهم اليد الطولى في حدوث الانقلاب البروتستانتى باسم الاصلاح الدينى، والذى اعاد المسيحية إلى احضان اليهودية. وكان هناك رجل يعرف جيداً كلتا الثقافتين وهو بولس الطرطوسي .. وقد أنجز توليفة منادياً فيها بزعامة يسوع، وبلور مذهباً لا يرجع أبداً إلى كلمات

يسوع وممارساته في حياته لكي يجعل من النجار الفقير في الناصره: مسيح (باليونانية خر يستو Christos) اليهود وخليفة داود" (¬1). ثم جاء الإسلام الحنيف مكملاً لرسالة الحق، لخدمة الانسان واسعاده، دين رحمة ومساواه وعدل، ليوحد العرب ويرفع الظلم عنهم وعن شعوب كثيره استعبدتها امبراطوريات ذلك الزمان، فدخل الناس في دين الله افواجاً، ونشأت حضاره اسلامية عظيمه وحدت شعوب وقبائل من اقصى المغرب إلى اقصى المشرق تحت رايه واحده، وجد الجيمع في ظلها الامن والسكينه والسلام، والفرصه للابداع والتطور. فقد فتح المسلمون عبر تاريخهم الطويل صدورهم لغير المسلمين: يهوداً ونصارى ومجوساً وأتاحوا للعناصر ذات الكفاية منهم احتلال مواقعهم الاجتماعية والوظيفية في إطار من مبدأ تكافؤ الفرص، لم تعرفه أمة من الأمم عبر التاريخ. لقد اسهم غير المسلمين في صنع حضارة الإسلام واغنائها دونما أية عقد أو حساسيات من هذا الجانب أو ذاك، كما فتح الطريق أمامهم للوصول إلى أعلى المناصب، بدءاً من الكتابة في الدواوين وانتهاءً بمركز الوزارة نفسها، وأتيح لأبناء الأديان والمذاهب الاخرى إن يتحركوا في ساحات النشاط الاقتصادي والمالي بحرية فنموا ثرواتهم وارتفعوا بمستوياتهم الاجتماعية بما يوازي قدراتهم على العمل والنشاط، وملئوا بهذا وذاك مساحة واسعة في ميدان النشاط الاقتصادي والمالي جنباً إلى جنب مع مواطنيهم المسلمين (¬2). وعلى صعيد التوسع الجغرافي، كان المسار الإسلامي آخذا بالصعود والتفوق حتى استطاع المسلمون فتح مدينة القسطنطينية عام 1453 عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، ثم تواصل زحفهم حتى كادوا يدخلون فيينا عاصمة النمسا عام 1683، متوجين بذلك مسيرة ألف سنة من الفتوحات والانتصارات بدأت في الشام والعراق في القرن السابع الميلادي، وتواصلت في آسيا وأفريقيا وأوروبا. وصاحب تلك الحملات العسكرية تجارة واسعة ومتنوعة وممتدة في القارات الثلاث، وحركة ثقافية وعلمية وفنية. وظهرت حضارة اسلامية متميزه وفريدة شاركت في صنعها جميع ¬

(¬1) كيف نصنع المستقبل- روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص57 (¬2) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص129

انهيار الامبراطورية الإسلامية وصعود الغرب

الشعوب. فالإسلام يتميز عن غيره من الأديان بأنه دين المساواة الذي حرر الناس من الإقطاع الفارسي والطائفية الهندية والأرستقراطية الغربية، ورفض التفرقة على أساس الجنس أو اللون أو الثراء أو المكانة الاجتماعية. انهيار الامبراطورية الإسلامية وصعود الغرب بعد هذه الاندفاعه القوية التى استمرت اكثر من عشرة قرون، بدأ المد الإسلامي بالتوقف والانحسار فتوقفت الانتصارات، وبدأ الانحسار من أنحاء مختلفة من العالم. فخلال فترة أواخر القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، شهدت الساحة التاريخية ثلاث إمبراطوريات إسلامية رئيسية: الإمبراطورية العثمانية في الأناضول وسورية وشمال إفريقيا والجزيرة العربية، والإمبراطورية الصفوية في بلاد فارس، والحضارة المغولية في الهند. وقد اعتنقت معظم دول شرق آسيا (الملايو، أندونيسيا ... إلخ) الإسلام علي يد التجار المسلمين. وفي تلك الأثناء، كانت أوروبا بصدد تطوير حضارة جديدة أوجدت نظاماً قائماً علي رأس المال علي أنقاض النظام الزراعي. وحدث تطور صناعي وتجاري كبير في الغرب في حين ان المجتمعات الإسلامية لم تواكب هذه النهضة وبدأت في الانحدار. ففي الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر بدأ انحسار المد الإسلامي، وتوقفت حركة الترجمة الكبرى وتوقف الإنتاج العلمي والمعرفي، وبدأ الأوروبيون يحرزون تقدما ملموساً في فنون الحضارة. وبقدوم ما يسمى (المعرفة الجديدة) بدؤوا يتقدمون بسرعة، وسبقوا التراث العلمي والتكنولوجي ثم الثقافي للعالم الإسلامي بأشواط طويلة. فقد كان السلطان العثماني في أوائل القرن السادس عشر الميلادي تشغله المنافسة الكبرى مع المماليك في مصر والشام وإيران الصفوية، واستطاع السلطان (سليم الأول) أن ينهي دولة المماليك ويفتح البلاد العربية كلها. ولكن الصراع العثماني-الصفوي استمر حتى القرن التاسع عشر، واستهلك هذا الصراع المسلمين وألهاهم عما يدور في أوروبا غير بعيد عنهم من تقدم وتطور. فعندما استطاع فاسكو دي غاما الوصول بحراً من البرتغال إلى رأس الرجاء الصالح في نهاية القرن الخامس عشر، فتح طريقاً بحرياً بين أوروبا وآسيا متجاوزا المجال الإستراتيجي

للطريق السابق الذي كان يسيطر عليه المسلمون. وبدأ البرتغال والإسبان والهولنديون ينشئون قواعد لهم، في جنوب شرق آسيا وفي الموانئ والسواحل المطلة على المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، لتأمين طرق التجارة والتحكم فيها. وكانت القارة الأميركية مصدراً للموارد والهيمنة التي لم تصلها القوة الإسلامية العثمانية، ومكنت الأراضي الخصبة والمعادن التي امتلكها الأوروبيون من الاستغناء عن كثير من المنتوجات القادمة من الشرق الأوسط وآسيا، ونشطت المهارات التجارية والحرفية (¬1). وكانت هزيمة الأتراك في فيينا عام 1683 بداية تحول وانكسار، وتبعتها هزائم متوالية ومتواصلة في مالطة عام 1684، وفي المواجهة مع روسيا عام 1696 عندما استولى القيصر الروسي بطرس الأكبر على مدينة أزوف على البحر الأسو. ومنذ القرن الثامن عشر وبعده، أصبحت الدول الإسلامية تتهاوي الواحدة تلو الأخري تحت مطارق الاستعمار الغربي الناشيء. كما ادى انتشار التقنية في الغرب إلي ظهور الثورة الصناعية. وانقضّ الغرب الصناعي مستعمراً الدول المسلمة بهدف ضمها إلي شبكة مصالحه التجارية، وسمحت الدول المستعمرة بإجراء تحديث سطحي في الدول المستعمَرة لتكفي فقط المستعمرين الغربيين وتمكنهم من استغلال المواد الخام في هذه المستعمرات (¬2) وربما يكون التاريخ الحديث للشرق الأوسط بدأ عام 1798 مع الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون، حيث أخضعت للمرة الأولى إحدى الدول في قلب ديار الإسلام لحكم دولة أجنبية، وبدأت مظاهر التغير الثقافي في الشرق. وبدأ الحكام في الآستانة والقاهرة يستعينون بالغرب لتحديث دولهم وجيوشهم، فقد استقدم الخبراء العسكريون الغربيون في عمليات إعادة تنظيم الجيش، واستخدمت أنظمة الإدارة الغربية، والأسلحة الغربية، وأرسلت البعثات التعليمية إلى الغرب لاقتباس العلوم الغربية (الإفرنجية)، هذا بالرغم من ان المسلمون كانوا يحتقرون الغرب ولا يأبهون بالجهود الحثيثة التي يبذلها للنهضة والتقدم، وعندما أفاقوا على ¬

(¬1) أين الخطأ؟ .. التأثير الغربي واستجابة المسلمين- برنارد لويس- ترجمة: محمد عناني-تقديم ودراسة: رؤوف عباس (¬2) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم- القدس العربي- 3/ 2/2003

صدمة التفوق التقني في بداية القرن الثامن عشر كان الغرب قد سبقهم بأربعمائة سنة في التقدم العلمي، وبدأ التأثير الغربي يغزو الشرق من مدخل التقنية. وهكذا أصبح العالم الإسلامي اليوم، إذا قورن بالعالم المسيحي الذي دأب على منافسته طوال ألف عام، فقيراً ضعيفًا وجاهلاً، وتبدى للجميع في القرنين التاسع عشر والعشرين تفوق الغرب وهيمنته، فقد غزي العالم الإسلامي في كل جوانب حياته العامة والخاصة. ولم يقتصر الأمر على أن يجد المسلمون أنفسهم ضعفاء وفقراء بعد قرون من الثراء والقوة، فقد أتى القرن العشرون بمزيد من الإذلال والهزائم، وتقدمت عليهم دول أخرى كانت أضعف وأفقر مثل اليابان ودول شرق آسيا. وهنا بدأ كثير من المفكرين والمصلحين محاولة معرفة اسباب هذا الخلل، حيث كانت الاجابات متنوعه ومختلفة. فقد حُمّل المغول والأتراك والاستعمار الغربي واليهود مسؤولية التخلف والضعف، وأعادها البعض إلى أسباب ثقافية وفكرية تعود إلى التخلي عن الثقافة الإسلامية والركض وراء الثقافة الغربية (¬1). وبالتأكيد فإن كل هذه الاسباب صحيحة ولكننا سنركز هنا على الاسباب الفكرية والثقافية التى ادت إلى انهيار العالم الإسلامي، لاعتقادنا بانها تمثل الثقل الرئيس في عوامل النهوض والانكسار لاى حضارة أو ثقافة. فالحضارة الإسلامية بدأت في اتخاذ منحناً تنازلياً بعد ان ظهرت الخلافات الفكرية والمذهبية بين اتباعه، مقرونه بالجمود والتقليد، وبلغت ذروة ذلك عندما تم قفل باب الاجتهاد وبدأ التضييق على حرية الفكر والابداع الذى طبع حركة الإسلام الأولى، فكان نتيجة ذلك ان قل الالتزام بتعاليم الإسلام أو ظل الالتزتم موجوداً ولكن من خلال الأخذ بالمظهر دون الجوهر. ¬

(¬1) أين الخطأ؟ .. التأثير الغربي واستجابة المسلمين- برنارد لويس- ترجمة: محمد عناني-تقديم ودراسة: رؤوف عباس

الغزو الفكري أدواته وأهدافه في العالم الإسلامي

الغزو الفكري أدواته وأهدافه في العالم الإسلامي (¬1) لما بدأ المسلمون يتخلون عن مبادئ دينهم العظيم، بدأ يدب في عضدهم التفرق والوهن والضعف، فوصل حالهم إلى ما هو عليه، ليفسحوا - بسبب تقصيرهم- المجال، مره اخرى لحضاره لا تعترف بالانسان كقيمه، بل كشئ كغيره من الاشياء، حضاره تميز بين الناس عنصرياً على اساس لونهم وجنسهم وانتماءاتهم ... حضاره لا مكان للثقافه ولا لتلاقح الحضارات، ولا لخصوصيات الشعوب. حضاره اصبح الصراع والحروب هو البديل لنهجها، والقتل والتدمير وسفك الدماء طريقها، في غابه كونية اصبح شعارها البقاء للاقوى .. وفرق تسد والغاية تبرر الوسيله، فكانت حصيلة عصرنا الحاضر ظلم وجور واستغلال ونهب وابادة وحروب مدمره لن تنتهى مادامت هذه الحضاره مسيطره .. ومادام الآخرون مما يملكون البديل الانسانى صامتين ومقصريين، فاسحين المجال لتمادى قوى الشر لاكمال مشروعها العدمى للبشرية، تحت مسميات وشعارات براقه لحقوق الانسان والديمقراطية والحرية، والتى لم يحققوها في بلدنانهم أو في اى من البلاد التى حلت عليها نقمتهم واحقادهم. فقد نجح هذا المشروع العدمى الذى تقوده أمريكا بخلفيتها التوراتية، في اماكن كثيره كما عرضنا سابقاً بدءً من ابادة الهنود الحمر واستعباد السود، مروراً بنهب أمريكا اللاتينية وتدمير اوروبا وانتهاءً بما يخطط للعالم الإسلامى منذ فتره كبيره. ولكن لكى تكتمل الحلقة الجهنمية، ويتم اخضاع العالم الإسلامى لمخططات اسياد الظلام، من يهود وأمريكان اشباه يهود، كان لا بد من ضرب هويتنا وحضارتنا وتاريخنا. ومن اجل هذا تزداد شراسة الهجمة وحشية وهمجية وانكشافاً. فنحن وحتى اللحظة لا زلنا نتمسك بانتمائنا وهويتا، ونعتز بتاريخنا، منصهرين في بوثقه حضارتنا وقيمنا. وهذا ما يراد اسقاطه عبر الهجوم اللاحضارى الكاسح، الذى يسعى الاعداء من خلاله لدفعنا للتنكر لهويتنا وانتمائنا، نلعن تاريخنا، ونحتقر حضارتنا ونسفه قيمنا ونعتبر كل ذلك سبباً لجهلنا وتخلفنا. وقد بدء التخطيط والتنفيذ لهذه ¬

(¬1) الغزو الفكرى أدواته واهدافه في العالم الإسلامي - سلسلة مقالات للمؤلف نشرت في جريدة الوحدة الاماراتية عام 1987

الهجمة منذ زمن بعيد، منذ فشل الحروب الصليبية في تحقيق اهدافها، وذلك عن طريق ما سمي الغزو الفكرى الذى كانت خطورته على العالم العربى والإسلامى اشد من الغزو العسكرى، حيث أدرك الغرب بعد فشل الحروب الصليبية أن الغزو العسكري للبلاد الإسلامية لابد أن يخفق مهما طال الزمن، ما لم يصاحبه غزو فكري يقضي على عوامل القوة والمنعة الكامنة في الإسلام. وفي هذا يقول كيرك: "أن الحروب الصليبية فتحت أذهان الغربيين إلى مستوى الحضارة في الشرق الأوسط، ذلك المستوى الذي كان يفوق بكثير حضارة الغرب. ومع تفتح أذهان الغربيين اتجه هؤلاء إلى غزو الشرق فكرياً بعد أن عجزوا عن غزوه عسكرياً". ومصطلح الغزو الفكري من المصطلحات التي ظهرت في عصرنا الحديث بعد أن تعرضت كثير من دول العالم للاستعمار الغربي والذي عمل جاهداً على إبقاء سيطرته على هذه الدول حتى بعد زوال سيطرته العسكرية والسياسية عنها. وذلك عن طريق إبقائها في حالة تبعية فكرية واقتصادية لها. والغزو الفكري يقصد به بوجه عام ذلك الجهد البشري المبذول ضد شعب أو أمة من الأمم لكسب معارك الحياة فيها، وتسهيل قيادتها، وتحويل مسارها التاريخي عن طريق إخضاعها لثقافة وفكر غريب عنها وعن شخصيتها ومقوماتها التي تميزها، وجعلها تعيش في حالة تبعية فكرية، فتعيش عالة على الثقافات الأخرى. فالغزو الفكري مكمل لأساليب الغزو التقليدي ومساعد لها، وفي بعض الأحيان يكون بديلاً عنها، مع التقائه معها في الأهداف وإن اختلفت وسائل ومظاهر كل منهما. فبينما يعتمد الغزو العسكري على قوة السلاح وما تحققه الجيوش من انتصارات في ساحات المعركة، لتحقيق أهدافه، يعتمد الغزو الفكري على مدى دراية الغزاة وعلمهم بأحوال الأمة التي يراد غزوها، ومعرفتهم بمواطن الضعف والقوة في فكر وتراث هذه الأمة، فيعملوا على محاربة وتشويه مواطن القوة فيها، وزيادة مواطن الضعف بشتى الطرق. ومن مظاهر الغزو الفكري هي سيطرة ثقافة وفكر الدولة الغازية على ثقافة وفكر الدولة المغزوة، بحيث تظل هذه الدولة أو الأمة في حالة تبعية فكرية وثقافية للدولة الغازية. فالغزو الفكري هو أن تسود أخلاق وعادات وتقاليد أمة من الأمم، أخلاق وعادات وتقاليد أمة أخرى. فإذا كانت الأخلاق والعادات والتقاليد تنبع من القيم

والمثل الأصلية لأي أمة من الأمم ومن الظروف التي تعيش فيها، فإن تنكر الأمة لأخلاقها وعاداتها وتقاليدها هو تنكر لأصالتها ومسخ لشخصيتها وهويتها المميزة. الغزو الفكري هو أن تزاحم لغة الغالب لغة المغلوب أو تحل محلها أو تحاربها بإحياء اللهجات العامية فيها، فتعيش لغة المغلوب عالة على لغة الغالب فتصبح غريبة في وطنها ويدب فيها الضعف بسبب إهمالها وكثرة المصطلحات والمفردات التي تدخلها من خارجها. وإذا كانت اللغة هي وسيلة الإنسان للتعبير عن أحاسيسه وأفكاره، فإن ضعف اللغة من غير شك يؤدي إلى ضعف الفكر وخواء مضمونه. فيزداد الميل للتقليد الأعمى ويقل الابتكار والإبداع لدى مفكري الطرف المغلوب. الغزو الفكري هو أن يعيش أدباء ومفكرو وعلماء أمة من الأمم عالة على أدباء ومفكري وعلماء أمة أخرى، ويتحولون إلى أصحاب وكالات فكرية لا يعرفون معنى للإبداع والابتكار، فيقومون بتبني أفكار ومذاهب ونظريات غريبة عنهم وعن مجتمعهم وشخصيتهم المميزة، متناسين خصوصية فكر وثقافة كل أمة من الأمم. وهذا هو العجز بعينه الذي يجعلهم يختارون أسهل الطرق وأخطرها عن طريق التقليد بدعوى عالمية الفكر والدعوة للتجديد والحداثة. الغزو الفكري هو أن تهمل أمة من الأمم تاريخها وتراثها وتتخذ من تاريخ وتراث أمة أخرى مثلاً أعلى لها. فتهمل تاريخ أبطالها وسير النابغين من أبنائها فتفقد ثقتها في نفسها وتاريخها. الغزو الفكري هو أن يتعرض تاريخ وفكر ونظام حياة أمة من الأمم لحملات التشويه والتخريب والاحتواء من فكر أمة آخر. "فعندما يظهر تأثير أجنبي في شيء ذي أهمية جوهرية لثقافة ما مثل المؤسسات والمساجد، فهذا يعني أن الثقة بالنفس ثقافياً قد اهتزت. وعندما يغير الناس ملابسهم ويرتدون ملابس مجتمع آخر يكونون قد اتخذوا خيارا ثقافيا آخر (¬1). وقد تعرضت الأمة الإسلامية كغيرها من الأمم الأخرى التي خضعت للاستعمار الغربي لهذا النوع من الغزو وعانت منه طويلاً ولا زالت تعاني. ولكن عندما يتعلق أمر الغزو الفكري بالعالم الإسلامي والفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية، فإن الكلام ¬

(¬1) أين الخطأ؟ .. التأثير الغربي واستجابة المسلمين- برنارد لويس- ترجمة: محمد عناني-تقديم ودراسة: رؤوف عباس

يحتاج إلى كثير من الإيضاح والتركيز. فالإسلام هو خاتم الرسالات السماوية التي ارتضاها الله سبحانه وتعالى شريعة ومنهاجاً أبدياً للبشرية في دنياها وآخرتها. فكان هذا الدين منذ أوائل عهده ثورة في وجه الظلم والاستغلال والانحراف. ودعوة إلى العدل والإخاء والمساواة بين البشر، فكان حرباً على المستغلين والمنحرفين واقفاً في صف الضعفاء، والمقهورين، وهذا لا يرضي المستعمرين والمستغلين لأنهم لن يستطيعوا تحقيق أهدافهم. لهذا وجد هؤلاء أن الطريق الصحيح للسيطرة على العالم الإسلامي هو محاربة هذا الدين وتشويهه، محاربة الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية بكل جوانبها، وفرض الثقافة والفكر الغربي على البلاد الإسلامية بكافة الطرق، واعتبار الحضارة الغربية وقيمها مقياس كل نهوض وتقدم ونشر ذلك بين المسلمين حتى يقل اعتزازهم بدينهم وفكرهم وحضارتهم ويزداد إعجابهم وميلهم للحضارة الغربية. لهذا فقد عمد الغرب إلى رد كل إبداع حضاري لدى الشعوب الإسلامية إلى الأصول اليونانية والرومانية، وكأنه لم يوجد فكر في العصور القديمة إلا الفكر اليوناني والروماني، متناسين أثر الحضارات الشرقية القديمة على الحضارة اليونانية والرومانية، ومبرزين لأثر الحضارة اليونانية على الحضارة الإسلامية. فالمسلمون في نظرهم لم يكونوا إلا نقلة وشراحاً للفكر اليوناني ولم يضيفوا شيئاً جديداً يستحق الذكر للحضارة الإنسانية. فإسهام المسلمين عندهم الذي يستحق الذكر في مجال الحضارة الإنسانية هو أنهم قاموا بحفظ التراث اليوناني من الضياع عن طريق ترجمته وشرحه وتهذيبه ولا شيء غير ذلك. فهم خزنة ماهرين ولكنهم ليسوا مبدعين. فالإبداع والنظر العقلي سمة للعقلية الغربية، والتقليد والإمعان في الروحانية سمة للعقلية الشرقية. فتاريخ الفلسفة عندهم هو تاريخ الفلسفة الغربية مع إهمال ذكر إسهامات الفلاسفة المسلمين وأثرهم على الفلاسفة الغربيين، أمثال الغزالى والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم. وتاريخ العلم هو تاريخ العلم الغربي، مع التقليل من قيمة إسهامات العلماء المسلمين في تطور العلوم وتقدمها. ونسبتهم كثير كشوفات العلماء والمسلمين ونظرياتهم إلى علماء غربيين، أو عدم ذكر أثرهم في توصل العلماء الغربيين إلى ما وصلوا إليه من كشوفات. وتاريخ الأدب هو تاريخ الأدب الغربي من هوميروس في

عصر اليونان، إلى أصحاب المدرسة الكلاسيكية والرومانسية في العصر الحديث، وإهمال ذكر أدباء المسلمين وإبداعاتهم وأثرهم في كثير من الأدباء والشعراء الغربيين. وعصور الغرب هي كل العصور ولا عصور غيرها، فهي مقياس التقدم والانحطاط. فالعصر الوسيط هو عصر انحطاط وتخلف لأن الغرب كان كذلك، متناسين أن هذا القول ينطبق على الحضارة الغربية وحدها، أما الحضارة الإسلامية فقد كانت في أوج مجدها وازدهارها في العصور الوسطى. وهكذا نصب الغرب نفسه معلماً أبدياً للبشرية وأسدى ستاراً من الصمت والتعتيم والتشويه حول إنجازات الحضارة الإسلامية في كافة المجالات، حتى يبقيها في حالة تبعية فكرية له لأطول فترة ممكنة، وذلك بجعل النموذج الحضاري الغربي هو النموذج الوحيد للتقدم الحضاري في كل العصور، ولا نموذج سواه، ولذلك يجب الإقتداء به وتقليده لمن يريد التقدم والازدهار. وقد سارت عملية الإعلاء من قيمة الحضارة الغربية والفكر الغربي جنباً إلى جنب مع حملات التشويه والتخريب للتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية والدين الإسلامي. فتسربت كثير من الأفكار الخاطئة عن الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي والدين الإسلامي إلى البلاد الإسلامية من خلال ما فرضه الغرب على هذه البلاد من أنماط معينة للتفكير والثقافة بواسطة مؤسساته التعليمية وغيرها من المؤسسات الأخرى. ومما تقدم يتضح ان الغزو الفكري كان من أشد معاول الهدم خطورة على العالم الإسلامي، والتي كرست تبعيته الفكرية للعالم الغربي لفترة طويلة، وساعدت الدول الاستعمارية في تحقيق أهدافها. وتكمن خطورة الغزو الفكري في أنه من الأمور غير المنظورة التي لا يمكن تتبعها وعلاجها بسرعة بالإضافة إلى اختلاف الآراء حولها. بعكس الغزو العسكري الذي يشعر به كل فرد، فتسهل مقاومته والقضاء عليه متى توفرت الإمكانيات لذلك. وإذا أردنا أن نتحدث عن الغزو الفكري للعالم الإسلامي، فيجب علينا أن نبحث عن الجذور التاريخية له والتي ساهمت إلى حد كبير في استمراره، وفي مساعدة الدول الاستعمارية في فرض سيطرتها السياسية والعسكرية والفكرية على العالم الإسلامي لفترة كبيرة من الزمن ولا زالت. فإذا كانت الدول الإسلامية قد تحررت من قيود الاستعمار الغربى من الناحية العسكرية وحصلت على استقلالها السياسي، إلا

الغزو الفكري دوافعه وأدواته

أن تبعيتها الفكرية للدول الاستعمارية ما زالت قائمة، بالرغم من المحاولات الجادة التي تبذلها هذه الدول للتخلص من هذه التبعية، والتي تحتاج إلى وقت وصبر وعمل دائم على كافة المستويات بالإضافة إلى تكاتف جهود كل الدول والمؤسسات الفكرية في الدول الإسلامية. الغزو الفكري دوافعه وأدواته يذهب أغلب الباحثين إلى ان فشل الحروب الصليبية في تحقيق أهدافها عن طرق الغزو العسكري، جعلت الغرب يستخلص الدروس والعبر التي تعينه على معرفة الطريقة الجديدة التي يجب أن يتعامل بها مع العالم الإسلامي، حيث أدرك الغرب أن الغزو العسكري لابد مخفق مهما طال الزمان، ما لم يصحبه غزو فكري يزلزل عوامل القوة الكامنة في الإسلام والحضارة الإسلامية. والغرب بذلك يعمل وفق القاعدة التي تقول: "إذا أرهبك عدوك فافسد فكره ينتحر به". وهنا يقول المؤرخ (جان دي جوانفيل) الذي رافق الملك (لويس التاسع) ملك فرنسا في حملته الصليبية (الحملة السابعة): "أن خلوة الملك لويس التاسع في معتقله بالمنصورة، أتاحت له فرصة هادئة ليفكر بصبر في السياسة التي كان أجدر بالغرب أن يتبعها إزاء المسلمين. وقد انتهى به التفكير إلى أنه لا سبيل للسيطرة على المسلمين عن طريق الحرب أو القوة، وذلك لأن في دينهم عامل حاسم هو عامل المواجهة والمقاومة والجهاد وبذل النفس والدم، لأنهم قادرون دوماً انطلاقاً من عقيدتهم إلى المقاومة ودحر الغزو الذي يجتاح بلادهم، وأنه لابد من إيجاد سبيل آخر من شأنه أن يزيل هذا المفهوم عند المسلمين، وذلك لا يتم إلا بتعديل الحملات الصليبية العسكرية إلى حملات سلمية تستهدف الغرض نفسه، وذلك من خلال التركيز على الفكر الإسلامي وتحويله عن مساره وأهدافه حتى يستسلم المسلمون أمام لقاء القوى الغربية وتروض أنفسهم على تقبلها على نحو من أنحاء الاحتواء والصداقة أو التعاون. وأفضل وسيلة لذلك هي تجنيد المبشرين والمستشرقيين ودعم مؤسساتهم ونشاطهم في العالم الإسلامي". وقد علق المؤرخ رينيه جروسيه على ذلك بقوله:

"أن الملك لويس التاسع كان بذلك في مقدمة كبار الساسة في الغرب، الذين وضعوا للغرب الخطط الرئيسية، لسياسة جديدة شملت مستقبل آسيا وأفريقيا بأسرها". ومن هنا بدأ الغرب التخطيط لهذا الأمر وهو إفساد الفكر الإسلامي. فأجمع الغرب أمره على محاربة الإسلام والمسلمين وذلك بهدم البنيان من أصوله وجذوره، ومحاربة الإسلام في نفوس أبنائه لزعزعة ثقة المسلمين بدينهم وإبعادهم عنه وإبعاده عنهم، وشغلهم بمبادئ أخرى إن لم تقض نهائياً على الإسلام فإنها تزاحمه وتزلزل أركانه، فيسهل القضاء عليه مع الزمن. لهذا قرر الغرب دراسة الإسلام وآدابه وفنونه وعلومه وحضارته دراسة وافية ليقفوا على مواطن القوة والضعف فيها فكان الإستشراق والتبشير السلاحين الخطرين الذين ظهرا بشكل سافر وعلى نطاق واسع منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا. فقد حمل الاستشراق أعباء الأعمال في ميادين المعرفة الأكاديمية وأضفى على بحوثه ودراساته عن العالم الإسلامي الطابع العلمي، واستخدم الكتابة والتأليف والترجمة والتحقيق والنشر وإلقاء المحاضرات وعقد المؤتمرات والتدريس الجامعي وسائل لتحقيق أهدافه. وحمل التبشير أعباء الدعوة في أوساط الجماهير العامة الفقيرة، عن طريق تقديم الخدمات الطبية والتعليمية للجماهير بالإضافة إلى قيامه بإنشاء الملاجئ ودور الأيتام ودور الحضانة للأطفال وإنشاؤه لجمعيات تدعي أنها تهدف لعمل الخير وهي في الأصل للتبشير. وفعلاً أخذ الغرب في تنفيذ هذا المخطط عن طريق الاستشراق والتبشير، حيث عبر عن ذلك المبشر شاتيله في كتابه (الغارة على العالم الإسلامي) وقال مخاطباً المبشرين: "إذا أردتم أن تغزوا العالم الإسلامي وتحصروا شوكته وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة، والتي كانت السبب الرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم، فعليكم أن تواجهوا جهودكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية بأماتة روح الاعتزاز بماضيهم وتاريخهم وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن ذلك بنشر ثقافتكم وتاريخكم ونشر روح الإباحية وتوفير عوامل الهدم المعنوي، حتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم

الصهيونية المسيحية والإسلام

والسذج والبسطاء فإنه يكفينا ذلك لأن الشجرة يجب أن يتسبب في قطعها أحد أعضائها" (¬1). كما عبر المبشر الامريكى زويمر عن رأيه الصريح في أعمل المبشرين البروتستانت، حين اعترف بأن للتبشير في البلاد الإسلامية ميزة هدم وميزة بناء. ويعني بالهدم انتزاع المسلم من دينه ولو إلى الإلحاد. ويعني بالبناء تنصير المسلم إن أمكن، ويضيف زويمر قائلاً للمبشرين: "لا ينبغي للمبشر المسيحي أن يفشل أو أن ييأس ويقنط، عندما يجد أن مساعيه لم تثمر في جلب كثير من المسلمين إلى المسيحية، لكن يكفي أن تجعل الإسلام يخسر مسلمين بذبذبة بعضهم. عندما يتذبذب مسلم وتجعل الإسلام يخسره، تعتبر ناجحاً أيها المبشر المسيحي. يكفي أن تذبذبه ولو لم يصبح هذا المسلم مسيحيا"ً (¬2). الصهيونية المسيحية والإسلام لما كانت اسرائيل والصهيونية العالمية اشد اعداء الامه في هذا العصر، فاننا لا نستغرب دورهما الهدام في الغزو الفكرى للامه، لادراكهم للدور الخطير الذى يلعبه الغزو الفكرى والثقافى في تحقيق مخططاتهم في المنطقة. فقد ادرك قادة ومنظروا الصهيونية المسيحية هذه الحقيقة منذ زمن بعيد. ادركوا ان الغزو الثقافى، يلعب دوراً حاسماً ومركزياً في تحقيق المخطط الامريكى الصهيونى الجهنمى، كما ادركوا ان مخططاتهم لن يكتب لها النجاح الا إذا استطاعوا الانتصار لغزوتهم الثقافية والفكرية التى تهدف إلى شطب ذاكرتنا والغاء تاريخنا لنلعن حضارتنا ونشكك بهويتنا وانتمائنا .. ونعتبر ذلك سبباً لتخلفنا، آنذاك يسهل عليهم السيطرة علينا، ليس حاضراً وحسب بل ومستقبلً ايضاً (¬3). واذا كان الفكر اليهودى قد استغل الظلام الذى ساد اوروبا في القرن الخامس عشر وتسلل إلى العقيدة المسيحية، واذا كان هذا التسلل قد ادى منذ القرن السادس عشر إلى وضع اليهود تحت مظلة القداسة الدينية المسيحية، وبالتالى إلى تعامل ¬

(¬1) الغارة على العالم الإسلامي- المبشر شاتيلا - ترجمة محب الدين الخطيب - دار الفتح، القاهرة (¬2) حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر - احمد عبد الوهاب ص160 (¬3) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص226

الكنيسة الجديدة (البروتستانتية والتطهيرية) معهم كشعب ميزه الله عن سائر الشعوب الاخرى، وانه - اى الشعب اليهودى - يملك صكاً الهياً بملكية الارض المقدسة، وان عودته إلى فلسطين تحقق نبوءة توراتية تمهد للعودة الثانية للمسيح. واذا كان هذا الفكر اليهودى قد تمكن كذلك، من ربط العقيدة الدينية المستحدثة بالمصالح الاستراتيجية للدول الغربية، فانه لم يقف عند هذه الحدود، بل حاول التسلل ايضاً إلى الإسلام نفسه في مواكبة تكاملية مع ما كانت تتعرض له المسيحية. ومن الجدير بالذكر ان محاولة التسلل إلى الإسلام لم تلقى اهتماماً اسلامياً مبكراً لاسباب عديدة، اهمها هي ان الغاية من هذه المحاولة لم تكن موجهة إلى المسلمين والعرب مباشرة، بقدر ما كانت موجهة إلى الاوربيين. كما ان الذين قاموا بتلك المحاولة هم من الفلاسفة واللاهوتيين والمستشرقيين اليهود الاوربيين الذين كتبوا الافكار التى اختلقوها باللغات الاوربية، ولذلك بقيت الافكار بعيدة عن متناول المسلمين العرب حتى اواخر القرن التاسع عشر. فالمحاولة أو المحاولات اليهودية - الاوربية، تناولت الإسلام كدين، وتناولت العرب كمجتمع، تم طرحت موضوع الدور والحضور اليهوديين في كلا الامرين. فبالنسبة للدين الإسلامى، حاول الفكر اليهودى ان يقدم الإسلام وكأنه اقتباس عن اليهودية، حيث حاول بعضهم اظهار النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن لا عمل له سوى الاقتباس عن اليهودية، وحاول آخرون ان يصور يهود الجزيرة العربية على انهم المصدر الذى استقى منه الرسول الكريم هذه الافكار. وعلى الخط نفسه زعم بعضهم بالاثر اليهودى على عقيدة التوحيد في الإسلام، واكدوا على اهمية الدور اليهودى وحجمه في الجزيرة العربية، حتى المؤسسات الإسلامية نسبوها إلى اليهود. هذه الدراسات اليهودية حاولت من جهه اولى ان تنكر المقومات الذاتية للحضارة الإسلامية العربية، وحاولت من جهه اخرى ان تدعى استمرارية الوجود اليهودى في المنطقة، وان تنفى الغياب اليهودى عن المنطقة العربية تبريراً لقرار العودة ممثلاً في فكر الصهيونية. واذا كان بعض المفكرين العرب المحدثين قد سقط ضحية تضليل هذا الاستشراق اليهودى، فان الإسلام خلافاً لما حدث في المسيحية، استعصى على الاختراق واحتفظ بسلامة العقيدة وبنقاوتها. غير ان الفكر

أمتنا ودورها الحضاري

اليهود حقق نجاحاً محدوداً جداً في ميدان، كما حقق نجاحاً واسعاً في ميدان آخر. يتمثل النجاح المحدود جداً في ظهور بعض الحركات الارتدادية كالقاديانية والبهائية وغيرها. ولكن انحصار هذه الحركات في اطراف العالم الإسلامى وعزلها بعيداً عن القلب ادى إلى انحسارها وتآكلها (¬1). اما النجاح الواسع فيتمثل في القضاء على الخلافة الإسلامية رمز الوحدة وقاعدتها (¬2). أمتنا ودورها الحضاري إذا كنا عرضنا في السابق تصور لطرق مواجهة الهجمة الصليبية من داخلها أو بالتحالف مع قوى اخرى خيره في العالم من خلال حوار الأديان والحضارات، الا ان كل ذلك ليس كافيا لنجاح هذه المواجهة إذا لم نقم نحن المسلمون والعرب بتأسيس وبناء مشروعنا الحضاري الخاص بنا والذى يمكن ان يكون بديلا انسانيا للنموذج الأمريكي المتهاوى واللانساني. فهذا التخطيط الواعى من قبل الاعداء .. وهذه الشراسة الهمجية في العدوان، والوضوح في الاستهداف، يستدعى من امتنا رداً بمستوى الخطر الجسيم الذى يتربص بها، وهذا لا يكون الا بمشروع نهضوى شامل يتم التأسيس له من معمان المعركة المفتوحة مع العدو ومن خلال ادامة الاشتباك معه بمختلف الاشكال الممكنة أو الممكن ابتكارها (¬3). وعسى إن تكرهوا شيئا وهو خير لكم فمن يدري؟ لعلها وخزه كبيرة تخترق الجملة العصبية لامة نائمة فتستيقظ، لعلها تلتقي بعد التمزق والتشتت والخصام ولو على الحد الأدنى من مطالب التوحد وشروطه، فيما يمنحها ¬

(¬1) بالرغم من انحسار هذه الحركات في اطراف العالم الإسلامي، فإن نشاطها الهدام يعتبر من اخطر ما يواجهه الإسلام في هذه المرحلة بسبب تعاونها مع الحركة الصهيونية والصهيونية المسيحية، وحصولها على دعم هائل من الموساد الاسرائيلى والمخابرات الأمريكية والمنظمات التبشيرية. كما ان هذه الحركات استطاعت في دول عربية واسلامية كثيره إلى ايصال اتباعها إلى الحكم أو إلى مراكز حساسة في صنع القرار، فكان هذا التهاون والاستسلام للهجمة الصليبية الجديدة. وسيضح مع الوقت حجم الاختراق الذى نجحت هذه الفرق الضاله في تحقيقه في منطقتنا العربية بمساعده ودعم كامل من اسرائيل وأمريكا. ولمزيد من المعلومات عن نشاط هذه الحركات يمكن مراجعة كتابنا "احمد ديدات بين القاديانية والإسلام". (¬2) الصهيونية المسيحية - محمد السماك -ص 99 - 104 (¬3) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص229

ثقلاً بين الأمم ويعيدها ثانية إلى التاريخ بعد رحلة الضياع في التيه كما ضاع بنو إسرائيل من قبل، لعلها فرصة البحث عن الذات الغائبة والتحقق بحضور اشد فاعلية واكثر عطاء (¬1). فالامه العربية والإسلامية هى امة ذات رسالة انسانية خالدة، ساهمت عبر التاريخ باسهامات لا ينكرها الا جاحد، فالحضارات الانسانية الأولى نشأت وترعرت بها، والأديان السماوية كذلك، وقد سبق للمؤرخ ارنولد توينبي اعتبار أن مركزي الحضارة هما منطقتا سوريا واسيا الوسطى: ففي سوريا تشكلت المسيحية التي توسعت في العالم الهيليني بأكمله، كما تشكلت النسطوريه ومذهب الطبيعة الواحدة للسيد المسيح في ايديس في بلاد ما بين النهرين. وفي جنوبي سوريا- في الحجاز - ولد الإسلام في مكة والمدينه (¬2)، حيث انتشر في مشارق الارض ومغاربها بسرعه فائقة وانشأ حضارة زاهره امتدت لقرون طويلة، ظلت ثؤتر وتغني الحضارة الانسانية حتى هذه اللحظة. وقديماً هدم الرومان تدمر وأتى العرب بعد الف عام فبنوا قرطبه ... لقد أقاموا مع جامع قرطبه جامعتها التي كانت مركزاً ثقافياً شع على الغرب على مدى ثلاثة قرون بعلوم الشرق وحكمته وفلسفة اليونان والهند، لا بترجمة الآثار العلمية والفلسفية فحسب، بل بإبداع (تركيبة) جديدة وتطوير خلاق مارسه الإسلام. وعلى الطرف الآخر من العالم الإسلامي .. من بغداد إلى جند يسابور قرب الخليج العربي كان الاطباء والحكماء من يونان وهنود وغيرهم يتعاونون في ظل الحضارة الإسلامية. كان العالم الإسلامي يلعب دوره الحضاري في تمدين الانسان وتطوير انسانيته عبر هذا الطريق التى شقتها له شعوب المنطقة منذ ثلاثة آلاف عام (¬3). إن الدارس لبنيات الحضارات الإنسانية المختلفة، لا يمكنه أن يتنكر للدور الحضاري الخلاق الذي لعبه العرب والمسلمون في بناء النهضة العلمية لأوربا ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص52 (¬2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص30 - 31 (¬3) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص348

الحديثة (¬1)، فهذا أوجست كونت مؤسس الفلسفة الوظعية أدرك قدرة الإسلام في التعامل واحتواء جميع العقول والفلسفات والأفكار الإنسانية .. وعبّر عن ذلك بقوله: " إن عبقرية الإسلام وقدرته الروحية لا يتناقضان البتة مع العقل كما هو الحال في الأديان الأخرى؛ بل ولا يتناقضان مع الفلسفة الوضعية نفسها؛ لأن الإسلام يتمشى أساساً مع واقع الإنسان، كل إنسان، بما له من عقيدة مبسطة، ومن شعائر عملية مفيدة! (¬2). أما شبرل" عميد كلية الحقوق بجامعة "فيينا"، فيقول في مؤتمر الحقوق سنة 1927: " إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد (صلى الله عليه وسلم) إليها، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً؛ أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون؛ لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة (¬3) ". والحضارة الإسلامية الآن غير عاجزة عن التكيف مع العصر، وتملك خبرات وقيماً رفيعة من التسامح والقدرة على التفاعل والتعايش مع الآخرين. فقد منعت الحضارة العربية الإسلامية - بالقول والفعل - إهدار كرامة الإنسان والسيطرة عليه. وأكدت -مثلما أكدت حضارات أخرى- أن كرامة الإنسان اسبق من كل انتماء وهوية حضارية، وحصانة أولية للإنسان ثابتة له بوصفه إنسانا كرمه خالقه وجعله خليفة له في أرضه. فالاختلاف والخلاف بين الحضارات لا ينبغي لهما أن يهدر حق الشعوب، أن في التعامل أو في الوجود (¬4). وبالرغم من ان الحضارة المسيطرة الآن هى الحضارة المسيحية، الا ان العالم والمؤلف البارز، الدكتور (رالف بريبانت)، يعتقد: "ان الإسلام يشهد حالياً، تزايد الاقرار به، والموافقة عليه، على النطاق العالمى، في حين ان المسيحية تبدو في حالة تراجع ببعض النواحى. فنظام القيم الإسلامى يبدو اكثر تحفظاً بنقائه الاصلى، واسلم من المعتقدات المسيحية التى تتراجع باطراد، إلى عالم الاسطوره أو التعصب .. اما الإسلام، فانه، من ناحية اخرى في مرحلة نمو دينامية، مفعمه بالحماسة والنشاط". ¬

(¬1) نظرات إسلامية للإنسان والمجتمع من خلال القرن الرابع عشر الهجري.- - رشدي فكار- ص 31 - القاهرة: مكتبة وهبة، 1980. (¬2) نظرات إسلامية للإنسان والمجتمع من خلال القرن الرابع عشر الهجري.- - رشدي فكار- ص 31 - القاهرة: مكتبة وهبة، 1980. (¬3) معالم الحضارة في الإسلام- عبد الله ناصح علوان- ص 155. (¬4) حوار الحضارات .. لماذا؟ بقلم يوسف الحسن

وهنا يحذر بريبانت- وهو عضو في الكنيسة الاسقفية البروتستانتية- من ان الإسلام لا يصل إلى تحقيق كامل طاقته الكامنه الا إذا اولى المسلمون صورة الإسلام لدى العامة من الناس اهتماماً كبيراً، فضلاً عن اهتمامهم بسلوك المسلمين كأفراد ايضاً: "نجد في هذه اللحظة من التاريخ، ان للقوى المحركة في الإسلام وقيمه المحددة بوضوح، امكانية انتشال العالم الغربى من حالته المرضية. ولا يمكن ان يتحقق ذلك، الا إذا كانت الصورة، التى يعرضها الإسلام على الشاشة الكونية، واداء المسلمين على المسرح العالمى، متساوقين مع مبادئ الإسلام، في السلام والعدل واحترام الحياة" (¬1). ولو أن الإسلام - بدلا من أن يتحجر على ماضيه - عاد إلى التصور القرآني لوحدة الديانات منذ أن نفخ الله من روحه في أدم عليه السلام وذلك بشريعة هي القاسم المشترك لكل عقيدة ولكل حكمة على المستوى العالمي، وبمعنى آخر: لو عاد الإسلام إلى أصالته القرآنية، ولو عاد (لاهوت التحرير) إلى أصالة رسالة السيد المسيح بعيداً عن عهود (لاهوت السيطرة)، فان هذه الجبهة العالمية سوف يتحقق لها النصر على هذا العالم الذي يخلو من الروح وهو عالم (وحدانية السوق) " (¬2) وهنا يعتقد الامير تشالز، وريث العرش البريطانى الذى يجعله منصبه هذا رئيساً فخرياً لكنيسة انجلترا، "ان بوسع المسيحيين تعلم امور كثيره من المسلمين". وفي خطاب متلفز القاه عام 1993 في جامعة اكسفورد، لحظ تشارلز مآثر الإسلام للحضارة الغربية، حين قال: "يمكن للاسلام إن يعلمنا اليوم طريقة للفهم والعيش في العالم كانت المسيحية هى الخاسرة عندما فقدته. ذلك اننا نجد في جوهر الإسلام محافظته على نظرة متكاملة إلى الكون. فهو يرفض الفصل بين الانسان والطبيعه، وبين الدين والعلوم، وبين العقل والمادة. وقد حافظ على نظرة ميتافيزيقية وموحدة عن انفسنا، وعن العالم من حولنا" (¬3). وفي كتابه (الإسلام في الغرب) يعطي (روجيه جارودي) ادلة على عالمية الرسالة الإسلامية وانفتاحها حيث يقول: "ان الاُمّة الإسلامية هي منفتحة ـ بلا تمييز ¬

(¬1) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى- ص 52 (¬2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص32 - 33 (¬3) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى- ص 55

للاصل أو العنصر ـ على كل من يعترف بوحدانية الله وتنزيهه للرسالة الشاملة لكل الانبياء". ويضيف: "ان جدال المسلمين مع اليهود ليس موجهاً ضد رسالة موسى ورسالة الانبياء، بل ضد تأويلاتها المتعصبة، وكذلك فأن جدل المسلمين مع المسيحيين ليس موجهاً ضد رسالة عيسى ولكن ضد الشرك". ثم ينتهي جارودي إلى القول: "وبما ان الإسلام قد تجلى هكذا ـ كما جاء في القرآن ـ بشموليته دون ان يكون مرتبطاً بتقاليد معينة لشعب ما، فقد عرف تألقاً معجزاً، لان اعتناقه لم يكن يعني بالنسبة لرجل مؤمن، قطيعة ولا كفراً: فكل شخص يجد فيه الرسالة التي تلقاها عن انبيائه، بشكلها الاكثر بساطة والاكثر شعبية، وتطبيقها في جميع ميادين الحياة يجعل الله حاضراً في كل امر وفي جيمع العلاقات الاجتماعية: اقتصادية، سياسية، ثقافية (¬1). وربما هذا ما حدا بسفير المانيا في المغرب ويلفريد هوفمان ان يعد كتاباً تحت عنوان (الإسلام هو البديل) يطرح فيه الإسلام المنهج الصالح والامثل لانقاذ البشرية من عذاباته. ورغم ان الامر يدخل في اطار حرية العقيدة التي يتغنى الغرب بالدفاع عنها، فان فرانك ايليه مدير ادارة التخطيط السياسي بوزارة الخارجية في بون، رفع تقريراً إلى وزارة الخارجية يصف فيه ان الامر في غاية الخطورة ويتنافى مع الدور الذي يمكن ان يلعبه سفير دولة ديمراطية غربية في دولة اسلامية! وهكذا فإن العالم العربي والإسلامي يستطيع الانفتاح على الحضارة الإنسانية, وبالمشاركة في صناعتها، والمساهمة في ابداعاتها وان يقف في وجه المد الالغائي الذي يتعرض له، بل انه يستطيع ان يضفي عمقاً روحياً على هذه الحضارة وان يهذب سلوكها، بحيث تكون اكثر انسانية مما هي عليه الآن. ولان الحضارة هي تراكم ثقافات تفرز قيما مشتركة تعيد صياغة حياة الانسان، فان لنا من ثقافتنا ومن قيمتنا ما يؤهلنا للمساهمة في عملية نقل الانسان إلى حقبة حضارية جديدة، وهذا يتطلب أولا, وقبل كل شيء, إعداد عقول نيرة تكون في مستوى هذا التحدي الحضاري. فتاريخ الإنسانية يشهد بان كل التحديات الكبيرة قام بها افراد نذروا أنفسهم لقيم ومبادئ يؤمنون بها ويكافحون من اجلها، ومن اجل تحقيقها فرادى ¬

(¬1) الإسلام في الغرب - روجيه جارودى ص19

وجماعات. قد يكون مثل هؤلاء الأشخاص قلة في مجتمعاتنا، وهم كذلك فعلاً، إلا انهم قادرون، كما حدث في مجتمعات عديدة أخرى، على تغيير مسار التاريخ (¬1). وهنا يستقرئ ارنولد تويبني ما يمكن ان يقوله التاريخ بصدد مستقبل الإسلام ثم يصدر حكمه فيقول: "إذا كان للسوابق التاريخية اي معنى عندنا وهي اشعاعات الضوء الوحيدة التي يمكن ان يلقيها على الظلمات التي تكتنف مستقبلنا، فانها تنذر بأن الإسلام قادر على التأثير في المستقبل بأساليب عدة تسمو على فهمنا وادراكنا (¬2). ويؤكد هذا المعنى (جارودي) في (وعود الإسلام) فيقول: "ما الذي يستطيع الإسلام إن يقدم، ليعدنا للإجابة عن المسؤوليات التي تفرضها قدرة العلم والتقنية على جميع البشر اليوم؟ وما يلبث إن يجيب: إن المشكلة كونيه ولا يمكن للجواب ألا إن يكون على المستوى الكوني. وهكذا تصير مشاركة الإسلام القادمة اكثر من ضرورية، تصير أمراً محتماً لأنها لن تدخل الساحة لكي تعالج هذه الجزئية أو تلك، وإنما لكي تعيد تصميم الحياة البشرية بما يرد إليها قيمتها الحقه ويمنحها هدفاً ومغزى (¬3). إن الغاية الأولي والأخيرة للرأسمالية هي النمو المادي وتجميع الثروات بصرف النظر عن الكيفية وعن آلية التوزيع. أما في الإسلام، فإن الغاية من الحياة والرؤية الاقتصادية مختلفتان تمام الاختلاف. لقد أوضحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في دراستها حول الإسلام والرأسمالية والاشتراكية، الرؤية الإسلامية للاقتصاد. وقد أوردت هذه الدراسة: تختلف المفاهيم الإسلامية عن الرأسمالية في أنها تعارض كنز الثروات، وعن الاشتراكية من حيث أنها لا تنكر حقوق الملكية، بما فيها ملكية وسائل الإنتاج. فالمجتمع الإسلامي الصحيح ليس بأي حال من الأحوال حلبة تتصارع فيها المصالح المختلفة وتتناحر، بل إنه مكان تسوده العلاقات المنسجمة التي يمكن تحقيقها والوصول إليها من خلال الإحساس بالمسؤوليات المشتركة. ولا بد لحقوق الأفراد أن تكون متوازنة مع مصالح المجتمع بأكمله علي ¬

(¬1) موقع الإسلام في صراع الحضارات و النظام العالمي الجديد (محمد السماك) - خلفية الصراع بين العرب و الغرب ص314 (¬2) الإسلام والغرب والمستقبل، تعريب نبيل صبحى ص60 (¬3) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص1،3

بناء مشروع نهضوي عربي

نحو متساوٍ. فكما قال أحد مشاهير المدراء التنفيذيين الأميركيين ذات مرة، فإنه يعيش بين أحزان الأمس وقلق الغد. أما في الإسلام، فإن من يحكم مصالح المجتمع بأسره هو الصالح العام وليس وول ستريت، أي أن المصلحة العامة هي الغاية من الحكم دون أي إجحاف لحقوق الأفراد الشرعية. وهذا ما تفتقده الولايات المتحدة التي يمتلك 0.5% من سكانها أكثر مما يملكه 90% من الشعب الأميركي من الثروات، في وقت يعتبر 35 مليوناً من الأميركيين فقراء حسب تصنيف الحكومة، وهذا ما يجعل نظامها الاقتصادي متناقضاً مع المبادئ الإسلامية (¬1). بناء مشروع نهضوي عربي يتوقع ان يشهد المستقبل الحضاري للإسلام انتعاشا فعالا لاعتبارات عدة أهمها: القوة الكامنة في الإسلام التي لا يمكن ترويضها أو محوها، ثم الإمكانيات الاقتصادية من مواد خام وأموال وأراض خصبة وصناعات، وهذه -إن أحسن استغلالها- تشكل مصدراً مهما وفعالاً في هذا الانتعاش. أما الإمكانيات البشرية فهي أكثر ما يخيف أعداء الإسلام، خاصة لما قد يحمله هذا الكم البشري الهائل من كفاءات وكوادر يمكن أن تبدع وتنجز إذا ما توفرت لها ظروف الإبداع والإنجاز. وهنا فأن الشعور بالظلم كفيل بتفجير قوة قادرة على المواجهة والتحدي، مع وجوب بذل الجهد لأجل التمسك بالبعد العقدي في كل المجالات. "فالعقيدة هي التي حافظت على ما بقي من استقلالنا وتميزنا وهي مصدر قوتنا وعزتنا". وتمثل استقامة البعد التربوي أهم عامل تجب مراعاته لأجل تدعيم الحفاظ على البعد العقدي، وذلك بإيجاد منظومة تربوية فعالة تهدف إلى تكوين أفراد يؤمنون بالجد والعمل، وتمدهم بقيم وعادات سليمة ومهارات علمية متطورة في مختلف المجالات. ولأجل مواجهة واقع لا يرحم وتحديات دولية لا مكان فيها للضعفاء، لابد من اعتماد سياسة التكتل والتعاون، لأنه ربما لن يجد العرب والمسلمون خيراً من تضامنهم للحاق بركب ¬

(¬1) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم- القدس العربي- 3/ 2/2003

كيف نواجه الهمجية الدونية

الحضارة ومحاولة التأثير في إعادة صياغة النظام العالمي بما يخدم مبادئهم ومصالح شعوبهم (¬1). وقد نظم مركز دراسات الوحدة العربية في الفترة 23 - 26 نيسان/إبريل 2001 في مدينة فاس في المغرب، ندوة "نحو مشروع حضاري نهضوي عربي" وقد شارك فيها حوالي مائة مفكر وباحث من أنحاء عربية واتجاهات وأجيال مختلفة. وقد سعت الندوة الإجابة على سؤالين: هل للعرب مشروع نهضوي انتكس ولا يحتاج إلى أكثر من استئناف أم أن الأمر يتعلق بغياب مشروع من هذا النوع وبالحاجة إلى إنشائه؟ وقد اجمل المجتمعون الأسس والعناصر التي يقوم عليها المشروع النهضوي وهي ستة: الوحدة العربية في مواجهة التجزئة، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد، والتنمية المستقلة في مواجهة النمو المشوه والتبعية، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال، والاستقلال الوطني والقومي في مواجهة الهيمنة الأجنبية والمشروع الصهيوني، والأصالة والتجدد الحضاري في مواجهة التغريب (¬2). ومن الواضح ان هذه المبادئ الستة التى اجملتها الندوة كلها تصب في خانه واحدة وهى تأتى في اطار المواجهة مع الهجمة الصليبية الأمريكية الحالية التى تعمل وتخطط لعدم تمكين امتنا من تحقيق وحدتها واستقلالها الفعلى لتتمكن من استغلال مواردها في بناء مشروعها الحضارى المستقل والذي يمكن ان يساهم بايجابية في تخليص العالم من هذا الكابوس الأمريكي الظالم والمدمر. كيف نواجه الهمجية الدونية (¬3) إن العرب والمسلمين احوج من غيرهم إلى اليقضة والانتباه إلى ما يحاك ضدهم، وقد اخترقتهم الهيمنة الاوربية اولاً والأمريكية حالياً بشعارات تجميلية ومغالطات تنميقية. فبأسم التحرير يتم التدمير والتعهير، وباسم الانسانية يتم الحصار والتجويع والتركيع للنساء والاطفال والشيوخ، وباسم حقوق الانسان تتم ابادة ¬

(¬1) بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة-عرض/سكينة بوشلوح (¬2) نحو مشروع حضاري نهضوي عربي - تأليف عبد العزيز الدوري وآخرون -الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت. (¬3) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على

الشعوب، وباسم الديمقراطية يتم رفع لواء المحتل الصهيوني بعنصريته الفجة! كل هذا الافتراء وازدواجية المعايير في التعامل واختلاق الاسباب لنسف البنية الحيوية للشعوب، باتت امراً سافراً إلى درجة ان الجماهير تعودت هذا القبح، وتبدو وكأنها استكانت له. ولكن الفوران الداخلي سيطفو، وسيرفض الانسان هذا الهدر لآدميته في لحظة تاريخية حاسمة إذا ما تعلم من التاريخ. فالقناعة بإمكان التحول من الرضوخ إلى المقاومة، من الشرذمة إلى الوحدة، من التواكل إلى الارادة، من التبعية إلى الاستقلال، هي المحرك للتغيير. ان لحظة التغيير ليست لحظة سحرية، بل هى لحظة وعي جماعي يدرك آليات الاستعمار وميكانزيمات قهر الآخر، ويبدع مواجهة مناسبة تتلائم مع نوعية الهجمة وضراوتها. فليس يكفي ان نعرف اننا مقهورون: علينا ان نعرف كيف تم قهرنا. وهذا القهر ليس مسألة بسيطة. فهو ليس انتصاراً عسكرياً أو اختراقاً اقتصادياً فحسب، بل هو صراع حضارى شامل (¬1). ان العرب يدفعون الآن فيتدافعون خارج التاريخ، ليس فقط لأن وطنهم في زمن تصفية الاستعمار في اشكاله كافة، والتحرر الوطني للشعوب في كل مكان، هو الوطن الوحيد الذي ينشأ فيه ابتداء ويستقر في قلبه استعمار استيطاني، عنصري، ظلامي، توسعي، اذلالي، فاشي النزعة، يعرف كل عربي حي في قرارة نفسه ان هدفه النهائي هو بسط سيطرته العسكرية والسياسية والاقتصادية على سائر البلدان العربية، وتنصيب نفسه سيداً عليها يستغل خيراتها ويحطم طموحات شعوبها، ويرى كل عربي ذي عينين ان كل عقد من العقود الخمسة الماضية، قد اتى لتلك المغامرة الاستعمارية الفريدة بنصر جديد، وجعلها ادنى إلى تحقيق كامل اهدافها، لا، ليس ذلك وحده هو الذي يخرج العرب من المجرى العام للتاريخ: فالتاريخ قد يصبر على قوم في هزائمهم، وقد يمد يده لمن يتخلف عن الركب، اما الذي لا يتسامح التاريخ فيه ابداً، فهو ان يدير القوم ظهورهم له ويمضوا متباعدين عنه، وذلك تحديداً ما يفعله العرب (¬2). ¬

(¬1) فتح أمريكا - مسألة الاخر- ترفيتان تودوروف- ترجمة بشير السباعي ص10 (¬2) خروج العرب من التاريخ- د. فوزي منصور- ترجمة ظريف عبد الله و كمال السيد- ص 6 - 7 - مكتبة مدبولي - ط1 1993

وفي كتابه "صهيونية الخزر وصراع الحضارات" يعرض الاستاذ/وليد محمد على لخطة لمواجهة الهجمة الدونية الأمريكية الصهيونية حيث يقول: "أن كسب المعركة في مواجهة الهمجية الدونية، لا يتوقف على قناعتنا الراسخة أننا أبناء حضارة إنسانية منفتحة على غيرها من الحضارات .. تدعو إلى التلاقح والحوار الإنساني .. ولا تتوقف على قناعتنا الراسخة أننا أصحاب حق ولا على إقناع الآخرين بذلك الحق. أننا نستطيع كسب المعركة إذا ما استطعنا بناء عوامل الصمود الحقيقية لمواجهة الهجمة، وعملنا تراكميا لبناء مقومات المواجهة وتحقيق النصر. تحقيق ذلك يحتاج إلى حوار مسؤول ومساهمات جادة من قبل من يرون أنفسهم معنيون بحاضر الأمة ومستقبلها. وهذه عناوين أساسيه نعتقد أنها ستفيد في التأشير إلى ما نراه يساهم في خدمة المعركة. أن الرد على الهجوم الدوني المتوحش الذي قلب كل المعايير القيمة والأخلاقية الإنسانية الذي يسعى لتسطيح كل شيء من الفكر إلى العمل الإنتاجي إلى الإبداع .. فيصبح التعصب لفريق رياضي كفيلاً بتحويل جمهور نهاية القرن العشرين إلى متعصبين، لا يتورعون عن تدمير كل شيء تعصباً للفريق ... والرياضة أصبحت سلعة تجاريه، بدل أن تكون وسيلة من وسائل بناء الجسم والعقل (العقل السليم في الجسم السليم). يصبح الرياضيون سلعة تباع وتشترى في الأسواق ويعرضون في البورصات العالمية. فيغدوا الاهتمام ببناء فريق كرة القدم له الأولويه على بناء مصنع، وتنشئة لاعب كره أهم من عالم فيزياء أو رياضيات، ودخل راقصه (هز البطن) يتجاوز دخل أساتذة جامعه بأكملها .. وفتاة الموديل يتجاوز دخلها دخل عمال ومهندسي مصنع كبير .. الخ (¬1). أن الرد على هذا الهجوم الدوني المتوحش لا يمكن أن يكون إذا ما أردنا له الانتصار إلا رداً حضارياً، أولا وقبل كل شيء. رد نكرس عبره انتماءنا إلى العروبة الحضارية الطاردة لكل تعصب عنصري أو انغلاق .. نؤكد التزامنا بحضارتنا الإسلاميه (مسلمين ومسيحيين وسواهم من أبناء الأمة .. فإذا كان الإسلام للمسلمين عقيدة وحضاره وقيما وتراثا، فهو لغير المسلمين حضارة وقيم وتراث) ¬

(¬1) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص231

القائمة على اخوة الإنسان للإنسان .. لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا إكراه في الدين. فحضارتنا العربية الإسلامية حضارة منفتحة لا تعرف الانغلاق على الذات وتدعو للانفتاح على الآخر (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). حضارتنا قادرة على الامتصاص الإيجابي لكل آليات التقدم والتطور والتلاقح الثقافي والحضاري مع الآخرين على أساس احترام خصوصيات كل شعب وقوم بهدف تعاون الحضارات لا تصادمها، تعاون يؤدي إلى إنقاذ البشرية من مصائب ومكائد الوحشية الدونية (¬1). كما ان للعلم دور كبير في بناء الحضارة وفي الديانة الإسلاميه دعوة ملحه للاستزاده من العلم واكتسابه. يقول تعالى في محكم كتابه الكريم (علم الإنسان ما لم يعلم) (وقل ربي زدني علما) وجاء على لسان رسولنا الأكرم محمد (صلى الله عليه وسلم) إلحاح على طلب العلم مهما كان مصدره وكانت الصعاب في سبيل الحصول عليه (اطلبوا العلم ولو في الصين). ويربط الإسلام بين العلم النظري والتطبيق العلمي يقول تعالى (إنا لا نضيع اجر من احسن عملا) ويقول الرسول الأعظم (أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه). وقد كان للعرب والمسلمين إنجازات علمية ضخمه، قاموا بها وأبدعوها عندما كانوا متمثلين للجوهر الحضاري لديانتهم الحنيفه، حيث أن كل الوقائع تؤكد زيف الادعاء القائل (أن العلم صناعة غريبة) وهي مقولة لا يرددها للآسف المستعمرون ومنظروهم وحدهم، بل وبعض أبناء امتنا من المغترين المخترقين من قبل أفكار الهمجية الدونية. ذلك لان الواقع الراهن يعطي مؤشرات في هذا الاتجاه (العلم صناعة غريبة) ومن مهمتنا الملحة إذا أردنا أن نكسب المعركة .. العمل على الخروج من الوضع الراهن، وبناء ما ينسجم مع التاريخ والمصلحة الإنسانية. لقد عرف عصرنا الراهن اقواماً كثيرة، هامشية قليلة العدد، كانت تقف على اطراف العالم في الامريكتين واستراليا، فاجأتها الاحداث بما لا تطيق فانقرضت أو كادت: بعضها لم يعرف من حضارة الغرب سوى الخمر فغرق فيها، وبعض آخر ظن أنه يستطيع ان يطرد الشياطين الوافدة برقصة الدراويش طوال الليل وممارسة ¬

(¬1) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص232

الطقوس السحرية آناء النهار، وبعض ثالث توهم خلاصه في التفاني في خدمة السادة الجدد ففقد نفسه وأرضه، وثمة آخرون انطلقوا على احصنتهم الشهباء، على رؤوسهم الريش الابيض أو الاحمر واصواتهم تجلجل بصيحات الحرب، يحاولون اختراق صفوف العدو الرابض في انتظارهم، لكن لم تغنهم الشجاعة الشخصية الفائقة عما تسلح به الغزاة من اسباب العلم والتنظيم والتخطيط والتعاون المنضبط. (¬1) فمن غير الجائز أن يبقى الكيان الصهيوني (الثكنة العسكرية المتقدمة للولايات المتحدة) متقدماً علمياً على امتنا بكاملها. رغم كل ما لامتنا من تاريخ وحضارة ومن إمكانيات بشرية وطبيعية. (يقول نتنياهو) رئيس وزراء العدو الصهيوني: "إنني متفائل جداً لأنني أومن بأن في استطاعة (دولة إسرائيل) خلال الأعوام القريبة المقبلة، أن تزيد في قوتها أضعافاً مضاعفة في العالم ما بعد الصناعي الذي نلجه، توشك (إسرائيل) أن تتحول إلى عنصر جبار، شديد الأهمية، لأننا متأهبون لاقتصاد المعلومات اكثر من أية دولة أخرى في العالم. أن عدد العلماء نسبة إلى السكان في البلد هو الأعلى في العالم، والمؤسسة الأمنية تنتج سنوياً آلافاً من الشبان الذين اكتسبوا خبرة فريدة من نوعها في مجال نظم المعلومات والحاسبات الالكترونيه والمحركات والأجهزة الآلية التي تقوم بأعمال الإنسان". طبعاً لم يذكر (نتنياهو) أن نسبة عاليه جداً من هؤلاء العلماء قد قدموا إلى الكيان الصهيوني عبر تهجيرهم من بلدانهم ودفعهم للاستيطان في فلسطين خدمة للمشروع (الأمريكي الصهيوني) " (¬2). وعلى الطرف الآخر في عالمنا العربي تعيش شعوبنا نسبه عالية من الامية باختلاف انواعها ولا يتجاوز انتاجنا الثقافى والعلمي مما ينشر ما تنشسره دوله صغيره مثل اليونان، وحتى اسهاماتنا العلمية معدومه وانتاجنا الثقافي والفكرى وحتى العلمي تغلب عليه الشعوذة والنقل والتقليد واجترار الماضى والتغنى على الاطلال، ولكن بالرغم من ذلك فأننا قادرون بالتأكيد على الإبداع العلمي، وعلى ¬

(¬1) خروج العرب من التاريخ- د. فوزي منصور- ترجمة ظريف عبد الله و كمال السيد- ص 6 - 7 - مكتبة مدبولي - ط1 1993 (¬2) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص234

جسر الهوة الثقافية والتقنية والمعلوماتية التي تفصلنا عن الدول المتقدمة، فهناك الآلاف من كبار العلماء والمخترعين والمبدعين من أبناء امتنا موجودون في الكثير من دول العالم، ويحتلون العديد من المفاصل في عالم الثقافة والمعلوماتية وغيرها من حقول العلم. وهم مستعدون إلى العودة إلى وطنهم في حال توفر المناخات المناسبة. وكذلك يوجد في وطننا العربي عشرات الآلاف من العقول المبدعة والمعطاءة. وبالأساس فان مسألة توفر الكفاءات العالية العربية سواء في الوطن أو دول المهجر ليست بالقضية المطروحة أمامنا. بل أن القضية هي كيف يمكننا تأسيس مشروعنا النهضوي العربي الذي يستقطب كل الكفاءات. ولذلك كما نرى عدة شروط أبرزها: أولاً: حسم رؤيتنا لطبيعة الصراع مع العدو الأمريكي الصهيوني، كونه صراعاً حضارياً شاملاً وهو مع الكيان الصهيوني صراع وجود. ثانياً: الاقتناع الراسخ لدى كل المنتمين للمشروع النهضوي الحضاري للامه .. أن تخلفنا الراهن، هو أمر طارئ وغير طبيعي، وان حضارتنا العربية الإسلامية (عندما كنا متمسكين بها وقادرين على تمثلها بشكل صحيح) مكنتنا من أن نكون في قمة الحضارة العالمية. ثالثاً: أن يصبح هذا المشروع هو مشروع جماهير الأمة صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير والنهضة والتقدم. وهذا لا يتأتى إلا في إطار تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. والفصل بين المؤسسات، والإقرار بالحريات الأساسية، التي كان الإسلام من مصادرها الاساسية. لان ذلك يؤدي إلى إفساح المجال أمام الطاقات المبدعة ويفجر الإبداع المتجدد ويساهم في كسر حلقة التخلف الذي نعيش فيه. رابعاً: أن تعود أوطاننا إلى أبنائها بشكل فعلي وملموس ليعود أبناؤها إليها (إلى أوطانهم). فامتنا ونتيجة لدوامة التخلف والتجزئة والتهويد، أصبحت أمة طاردة لأبنائها الذين اصبحوا يضطرون إلى هجرها بحثاً عن العلم والوظيفة وتحقيق الذات، وأحياناً بحثاً عن العلاج ناهيك عن الحرية.

خامساً: إعطاء الاهتمام اللازم لمراكز البحوث والدراسات التي تمكن العلماء والخبراء من العمل في تخصصاتهم، والإسهام في تطوير مجتمعاتهم. سادساً: أن تكون حكوماتنا وأحزابنا ومنظمات المجتمع الأهلي كلها أدوات لتحقيق أهداف الأمة لا أهداف بحد ذاتها. هذا يساعدنا على الخروج من حالة القبلية (¬1) التي نعيش في دوامتها ويعيدنا إلى وضعنا الطبيعي .. فقد كانت الخلافة الراشدة أول نظام حكم ديمقراطي حقيقي في التاريخ (الحكم بالمبايعة والقيادة بالشورى). وعندما تخلى المسلمون عنها وصلنا إلى هذا الوضع المتأزم، الذي يتحمل مسئوليته القادة والسياسيين والمفكرين، فانهم أولاً وأخيراً حجر الرحى، ومركز الدائرة، وملتقى تقاطع الخطوط، ونقطة الزاوية فيما نحن فيه، من العلاقة المتأزمة بين أقطارنا، وبين شعوبنا وحكامنا، وبين تياراتنا الفكرية والسياسية. نعم أن الكل مسؤول والكبار قبل الصغار والعقلية الشخصانية للحكام أولاً وغياب المشورة وغياب الديمقراطية وغياب التعددية في الرأي ومحاولة الزعامات فرض الرأي الواحد باللجوء إلى اسهل الطرق .. إلى أجهزة القهر ووسائل القمع. هذه البدائية في العمل السياسي هي السبب والداء والمرض الكامن في كل الدول المتخلفه .. إنها الطفولة والانفعالية والتهافت على الأخذ قبل العطاء، ومحاولة رؤية كل شيء من خلال الأنا وليس من خلال نحن، من خلال الواحد وليس الكل. وللاسف فإن كل الدول العربية والإسلامية مصابه بهذا الداء الوبيل بدرجات مختلفة .. والإسلام أبداً ليس مسؤولاً عن هذا الداء الوبيل. فأول ما يأمر به القرآن كل حاكم هو ألا يطيع هواه وألا يركن إلى نفسه وان يطلب العدالة بلا تحيز وان حملته هذه العدالة على إنصاف من يكره ومعاقبة من يحب وان يأخذ بالمشورة وان يستمع إلى رأي الاخر (¬2). ¬

(¬1) يرى احدى الباحثين ان "التفكك القومي للعرب في عصرنا الراهن، في مواجهة الغزو الصهيوني المتسارع الخطر، ذلك التفكك الذي يكاد يأخذ طابع الانتحار الجماعي، يعود إلى تغلب الصحراء على المدن في اللحظة العربية الراهنة، الصحراء التي تقذف المدن تباعاً، ليس فقط بالقيم الجديدة المرتبطة بالدخول "الريعية" ولكن أيضاً بالقيم القديمة القبلية الأفق في كل اتجاه ينبسط اليه البصر". خروج العرب من التاريخ- د. فوزي منصور- ترجمة ظريف عبد الله و كمال السيد- ص 10. (¬2) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص36

سابعاً: الإقرار بفطرة الاختلاف وبديهية التعددية. فالإقرار بالاختلاف والتعددية هو المدخل الطبيعي لإبداع الوسائل التي تمكننا من مواجهة تحديات العصر وصناعة المستقبل. ومع الآخذ بعين الاعتبار أن لا فائدة من التعددية إذا لم تمكنا من حشد الجهود في مواجهة الغزو الأميركي الصهيوني، ولا فائدة من أي تيار إلا بانخراط دعاته وأنصاره في خضم المعركة المصيريه. ثامناً: العلاقة الجدلية بين الوحدة والتحرير والتقدم. لقد ارتكز الغرب الاستعماري على حالة التخلف التي كانت تعيش فيها امتنا (بفعل عوامل مركبه لا مجال للخوض فيها هنا) ليحتل بلادنا، ويجزء حتى الوحدات الطبيعية فيها (سوريا، وادي النيل، المغرب العربي، شبه جزيرة العرب والخليج اليمن)، وعمل على تهويد القلب الذي يربط الجناحين الآسيوي والإفريقي للوطن العربي (فلسطين). فكان الارتكاز إلى التخلف والتجزئة لإقامة ثكنة عسكرية متقدمة للغرب وعمل على تكريسها، فتشكل ثالوث معاد يساند بعضه بعضاً (التخلف، التجزئة، التهويد). وقد اصبح من الواضح ومن خلال التجربة العلمية أيضاً، أن لا تقدم ممكن لأي قطر من الأقطار العربية .. إلا عبر خطوات وحدوية تراكمية، وهذه الخطوات لم تعد ممكنة بدون عملية تقدم شاملة تؤدي إلى وعي عميق بأهمية الإقدام على تلك الخطوات الوحدوية. وهذان الأمران الوحدة والتقدم غير واردين بدون التصدي للغرب الاستعماري المتمثل الآن بالولايات المتحدة - وقاعدته المتقدمة الكيان الصهيوني. ولقد أثبتت الأمة قدرة كبيره على هذا التصدي وعلى دور التصدي في حشد طاقاتها (تجربة حرب تشرين/أكتوبر 1973 - المقاومة الفلسطينية والانتفاضة الشعبية - المقاومة الإسلاميه والوطنية في لبنان). أن علاقة الوحدة والتقدم والتحرر علاقة مثلت جدلي سبب ونتيجة، أن كلاً منها سبب للآخر ونتيجة له في آن واحد. فالتحرير سيكون نتيجة للوحدة والتقدم وهو أساسي لهما، وكذلك الوحدة لن تكون بدون تقدم. والتحرير والتقدم لن يكتب له النجاح بدون خطوات على طريق الوحدة والتحرير. ثالوث لا يمكن له أن يتحقق إلا بالتوازي وبالتراكم المترابط. تاسعاً: أن يستند المشروع النهضوي لامتنا على دائرة تحالفيه أولية (دائرة الشعوب الإسلامية) التي تجمع ولا تفرق، تقر بالخصوصية في إطار الوحدة. فلكل

الشعوب الإسلامية مصلحة مشتركة في التصدي للعدوان الدوني المتوحش، واقتلاع الكيان الصهيوني الذي يسيطر على أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين (القدس التي باركها وما حولها الباري عز وجل) ويريدون تدميرها نهائيا كرمز للقضاء المبرم على الإسلام وحضارته الإنسانية. ومرة اخرى أقول: أن اتحادنا في عصبة واحده ويد واحده هو أقوى أسلحتنا. بل أن عزل إيران عن العصبة الإسلاميه هو تآمر أمريكي غربي، وتفتيت العصبة الإسلاميه كان دائماً هدفاً عزيزاً لقوى الاستعمار الغربي، وخلق الأعداء للإسلام من داخله كان دائماً سياستهم، وقد جاء أوان رأب الصدع وجمع الصف (¬1). عاشراً: إقامة تحالف حقيقي قائم على الاحترام المتبادل والمصالح الواحدة مع كل الشعوب المستضعفة في الأرض، والتي تتعرض لكوابيس الدون المتوحشين مصاصي دماء الشعوب. فهناك ضرورة للتعاون بين دول الشمال والجنوب لغرض تدعيم السلم والتسامح ابتداء بتخلي دول الشمال عن روح الاستعلاء ونظرة العداء تجاه أبناء المستعمرات القديمة وفتح مجال التعاون الاقتصادي والثقافي بينهما. كما ان هناك ضرورة تعزيز المنظومة التربوية بالقيم الإنسانية التي توجه الأجيال الصاعدة نحو الحوار وحسن الاستماع للآخر واحترامه والقبول بالاختلاف الحضاري والتمايز الثقافي، وهو في ذلك لا فرق بين الدول الغربية والدول الإسلامية لأن الوقوف في وجه العولمة الأميركية لا يمكن أن تحققه الدول الأوروبية بمفردها، إذ لابد لها من دعم إستراتيجي واقتصادي وبشري، وهو ما يمكن العثور عليه في دول جنوب البحر المتوسط المتمثلة في الدول العربية. وبناء على ذلك فأنه يمكن إنشاء قوة متوسطية يحسب لها حساب بإمكانها أن تفرض على أميركا احترام حقوق الشعوب ومميزاتهم ومعتقداتهم، فتكون -أي هذه القوة- الضمانة من أجل الرخاء ونشر الأمن والوئام بين شعوب وحضارات البحر المتوسط (¬2). حادي عشر: إعادة العلاقة بين الإسلام والمسيحية، إلى صورتها الحقيقية التي تم تشويهها وتكسيرها بفعل الاختراق الصهيوني. فكلا الديانتين الإسلامية ¬

(¬1) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص50 (¬2) بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة-عرض/سكينة بوشلوح

والمسيحية تؤمنان بالله الواحد الرحيم المحب للإنسان، عكس ديانة يهوه اله الحرب اله القبيلة الحاقد على الإنسان على الوجود برمته. ثاني عشر: فتح حوار مع كل البلدان المتقدمة المستهدفة من قبل الهجوم (الأميركي الصهيوني) والتي بدأت تتحسس أخطاره عليها راهناً ومستقبلاً - دول أوروبا- روسيا الصين اليابان. فللجميع مصلحة في إطلاق تعاون مستمر في مواجهة الهجوم الدوني المتوحش ... الذي يحتاج الانتصار عليه إلى توحيد جهود كافة المتضررين منه. وليس من باب التكرار على نقطة مركزيه محوريه لكل ما سبق ذكره هي أن الوحشية الدونية لا يمكن الحد من غوليتها (نسبة إلى الغول) إلا عبر الردع المركب من قبل امتنا التي تشكل رأس الحربة في المواجهة الشاملة. فقد أصبح ملحاً تشكيل قوة ردع حقيقية، تحد من السطوة العسكرية للعدو من ناحية، ومن ناحية ثانية بناء مجتمع مقاوم على مختلف الصعد، يأخذ على عاتقه مهمة ادامة الاشتباك مع العدو والحاق الاذى به حيث يمكن ذلك. فلن يسمح الأعداء بأن نتقدم أو نوحد صفوفنا بطيب خاطرهم، نعم أنها معركة طويلة جداً ومكلفة جداً ولكن لا خيار أمامنا .. أمام أمة الشهداء والشهادة الأمة حاملة الخير والبركة للبشرية جمعاء (¬1). "لقد كشف احتلال الأمريكان للعراق الأوراق وأظهر للأمة المسلمة أن طريق الخلاص لن يكون في اجتماعات أو قرارات (مجلس الأمن!) أو (الأمم المتحدة!) وانما في مقاومة الغزاة وبذل التضحيات فلن يدافع عنا أحد ان لم ندافع عن أنفسنا، ولن تعود لنا كرامتنا المهدرة ان لم نستعن بالله ونستعيدها بأنفسنا .. اذن فسقوط تلك الأقنعة كان ضروريا لايقاظ أمتنا الجريحة التى خدرت طويلاً بشعارات زائفة وألاعيب متقنة. لقد انتهى عهد الخداع وأصبح الصراع واضحاً ومكشوفاً فهو صراع أديان قبل أن يكون صراع أوطان ... وهو صراع مقدسات قبل أن يكون صراع على الثروات ... (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا) ... ولقد كتب ¬

(¬1) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص238

علينا القتال وهو كره لنا، فما سعينا له وما أقدمنا عليه الا بعد أن تمكنوا من رقابنا وعاثوا في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين " (¬1). وبما أن الإسلام مجّد المقاومة والجهاد ورفع من مكانة الشهيد والشهادة، فإن ثقافة المقاومة في المجتمعات الإسلامية ثقافة راسخة رسوخ العقيدة فيها، ورغم ضعف الإمكانيات المادية فإن المقاومة تتميز بالاستمرارية وحتمية النصر في النهاية. ومن هذا المنطلق يمكن التفريق بين أن تهزم عدوك بالقوة، وبين أن تمتلك عناصر المقاومة وتهزمه بقوة البقاء والتحمل. كما أن استمرار الحضارة الإسلامية أكثر من خمسة عشر قرناً وبقاءها في وقت ظهرت فيه حضارات أخرى واندثرت، دليل على قوة هذه الحضارة وحركية هذه الأمة (¬2). http://www.aljazeera.net/NR/exeres/ فنحن أمة قاتلت خصومها في معظم الأحيان وهي الأقل عدة وعدداً، ومع ذلك خرجت منتصرة في معظم الأحيان. كذلك وعندما نهزم كانت الخيانة الطعنة الغادرة التي تجىء بأيدي أبناء جلدتنا أنفسهم هي التي تهزمنا. لقد أخرجتنا الخيانة من الأندلس وفتحت الطريق أمام خصوم هذا الدين لكي يذبحوا أمة جاوزت مليونين واربع مائة الألف عدداً، لقد أرغمتنا الخيانة على مغادرة الفردوس المفقود، ولم تكن هذه هي المرة الأولى والاخيره في تاريخ الإسلام والمسلمين .. لقد تكرر المشهد كثيراً ولن يتسع المجال لاستعراض فصوله بل حتى التأشير عليها .. ويكفي إن نتذكر إن الخيانة أسقطت الخلافة العثمانية وأخرجتنا من الجانب الآخر من أوربة الجانب الشرقي .. ومكنت الغرب المستعمر من الإمساك برقابنا وفتحت الطريق لشذاذ الآفاق لكي يقيموا دولتهم المغتصبة في فلسطين (¬3). وما لم تتوحد القيادات والقوى الشريفة المتبقية في الساحة عبر اللحظات الراهنة لكي تجنب البشرية هذا المصير المفجع، فان السرطان الأمريكي سيمضي لافتراس العالم كله .. القيم النبيلة المتبقية في هذا العالم بعبارة أدق، لكي يفرض ¬

(¬1) الكابوس الأمريكي وحلم الخلاص - محب الصالحين - http://www.almotmaiz.net/vb/showthread.php?t=9872 (¬2) بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة-عرض/سكينة بوشلوح (¬3) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص169

نموذجه المادي الحسي السيئ بمثلثة المعروف: المصنع، المبغى، والسوبر ماركت (¬1). اننا نعتقد أن لنا دوراً كبيراً فيما يعد على مسرح الحوادث الآن، وانه نفس الدور الذي كان لنا في أيام التتار وفي أيام الصليبيين، ولكن الصليبية القادمة هي صليبية يهوديه لا علاقة لها بصليب ولا بمسيح .. وانما مرادها الوحيد هو السيطرة على العالم القديم بمسميات دينيه توراتيه كاذبه (¬2). أننا لسنا وحدنا في النهاية .. فلله سبحانه وتعالى طرف خفي في الصراع، فالدين المستهدف هو دينه، ولكن هذا لا يعفينا من المسؤولية ولا يخلى طرفنا من واجب الاستعداد واخذ ألاهبة. فالتواكل والتخاذل والركون إلى الظالمين والإخلاد إلى الدنيا، ليست من أخلاق المسلم .. والله لا ينصر إلا من ينصره .. وهو القائل في قرآنه: (ولينصرن الله من ينصره أن الله لقوى عزيز) 4. - الحج. فلنصر الله شرط هو الانتصار لدين الله ولا بد أن نوفيه. وانا لموفون به بإذن الله (¬3). وهنا فاننا كمسلمين لا نراهن على هزيمة الغرب عسكرياً ولا سياسياً ولا اقتصادياً، وانما نراهن على الهزيمة الثقافية والحضارية للغرب أمام ثقافة الإسلام الشاملة وحضارته الإنسانية (¬4). فالسلاح وحده لا يستطيع أن يصنع نصراً حضارياً .. وهل صنع التتار شيئاً وهم الذين انتصروا على المسلمين ثم دخلوا في الإسلام رغم انتصارهم .. أن الحكاية اكبر مما يتصور الذين خططوا لها. إننا نقف على مشارف منعطف تاريخي خطير .. أن الكارثة تهدد الكل. وما من دولة من دول المواجهة إلا وستصاب في أراضها واقتصادها وابنائها واستقلالها، إذا اخطأ أولو الأمر فيها حساباتهم (¬5). فاعداءنا يرون انهم يعيشون مرحلة انتصار على المستويين الدولى والاقليمى. واننا كأمه عربية اسلامية قد هزمنا وخسرنا الاصدقاء .. ولابد من استكمال هزيمتنا في مختلف المناحى واخضاع امتنا بالكامل .. كخطوة مفصلية على طريق سحقنا بكل ما تحمله كلمة سحق من معنى. وإذا استطاعت شعوب الشرق ¬

(¬1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص181 (¬2) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص136 (¬3) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص60 (¬4) الإسلام .. والغرب .. وإمكانية الحوار -ابراهيم محمد جواد (¬5) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص27

الأوسط أن تطرح إحساسها بالظلم وتسوي خلافاتها وتعمل على تكاتف طاقاتها ومواهبها ومواردها لتحقيق أهداف نهضوية مشتركة، فسوف تستطيع من جديد أن تعيد الشرق الأوسط إلى ما كان عليه في الأزمان الغابرة من تفوق وازدهار ومركز رئيسي للحضارة .. والاختيار بأيدي هذه الشعوب (¬1). ¬

(¬1) أين الخطأ؟ .. التأثير الغربي واستجابة المسلمين- برنارد لويس- ترجمة: محمد عناني-تقديم ودراسة: رؤوف عباس- القاهرة: دار سطور، 2003

خاتمة

خاتمة لم يكن اختيارنا لعنوان الكتاب "الحملة الصليبية على العالم الإسلامى والعالم" يهدف فقط لتسليط الضوء على الابعاد الدينية لسياسة بوش تجاه المنطقة العربية والإسلامية والتى وصفها بالحرب الصليبية، بل كان محاولة لكشف الرؤية الدينية التى سيطرت على تصرفات أمريكا تجاه العالم منذ نشأتها وحتى الآن حيث لم تكن حملة بوش الاخيره الا محطه من المحطات الكثيرة التى حاولنا قدر الامكان عرض بعضها، واذا كنا قد وضعنا "حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي" كعنوان للجزء الثاني، فإن مرد ذلك انها كانت اكثر المحطات وضوحاُ في توجهاتها وخلفياتها الدينية، واكثرها دموية. وهذا لا يعنى ان هذا النهج سيتوقف في القريب العاجل عند محطة بوش، بل سيستمر حتى يفوق العالم من سكرته ويضع الخطط لمواجهة هذا النهج وطريقة التفكير العدمية التى ستقود البشرية إلى كارثة لا يعلم مداها الا الله. فنهج وسياسة بوش ما هو الا استمرار لنفس الاسس وطريقة التفكير ومنظومة القيم التى حكمت أمريكا ولا زالت وستبقى لفتره ليست بالقصيره ان لم يتحد العالم ويتصدى لهذا الفكر. فبوش لم يكن الا عنوان بارز لهذا النمط من التفكير العدمى الذى جر ويلات كثيره على العالم، والتى جعلت العالم غير مستعدّ لرئيس آخر من الحزب الجمهوري المتطرّف .. خصوصاً بعد أسوأ رئيس مر على تاريخ أمريكا. اعلم ان كلامنا كان قاسياً على الأمريكيين، ولكن أمام ضخامة الخطر كان علينا أن نرد برفض واضح، إذ إنه لا يمكن أن نوقظ الناس وننبههم لأن يدركوا هذه الأمور بالهمس في آذانهم. لقد حاول هذا الكتاب أن يشرح ويوضح خطورة الرؤى الدينية الاحادية المغلقه التي تعمل في كل مكان لإلغاء الحضارات الأخرى لاخضاعها لنمط معين من التفكير، واجبارها على الاستسلام أو الموت لتلك القدرية المحتومه. ولكن التاريخ علمنا بان هذا النوع من الرؤى بالرغم مما يسببه من دمار وفوضى لابد ان يهزم امام ارادة الخير والمحبة والحق. فمنذ زمن حذرنا الفيلسوف الراحل جان

باراك أوباما وجرأة الأمل

ماري بنوا، من أن نغفل ونرضى بوضعنا بحيث نصبح «مستهلكين متخمين ومنتجين مستغَلين ومجاملين في وقت واحد»، لقد أوصانا بالمقاومة وألا ننخدع بواقع العالم. علينا أن نبعد هذه القدرية العدمية وأن ندعو الولايات المتحدة نفسها لإعادة تعريف المصطلحات وأن نعلمها احترام الآخرين، وإن لم تستجب لنا علينا بالرد .. لنساعد الأمريكيين .. ولنساعد أنفسنا في الوقت ذاته في رفض تحجر العالم وانغلاقه في ظلام رؤى احادية عدمية قاتله. لقد تحدتث كثيرا في هذا الكتاب عن تاريخ الارهاب والغزو الامريكى، وكنت اتمنى ان يسمح سياق الكتاب للحديث عن تاريخ امريكى اخر مبدع ومخترع ومكتشف ومغامر، وصل إلى الفضاء واعماق البحار ومنح البشرية منجزات عظيمه لا ينكرها الا جاحد. ساهمت ولازالت في تقدم البشرية وتطورها وازدهارها، ولكن هذا الارث العظيم من الانجازات الأمريكية هو الوجه الاخر لأمريكا وعظمتها وجلالها، للاسف شوهته افكار عدمية متعصبه عنصرية، سخرت هذا الانجازات العظيمه لخدمه اهداف انانية طفيليه على حساب شعوب وحضارات اخرى كانت لها ارثها الحضارى الذى الهم البشرية جمعاء، والذى تحاول أمريكا سحقه والحاقه بمشروعها الاحادى الذى لا يعترف بالتعدد والتنوع أو الحوار مع الاخر، واختصر العالم إلى فسطاطين خير وشر .. معنا أو ضدنا كما جاء على لسان بوش. باراك أوباما وجرأة الأمل جرأة الأمل هو الكتاب الثاني لباراك اوباما نشر في عام 2006، أما كتابه الأول فكان عنوانه (احلام من أبي (وفيه يرسم صورة شاب مشغول باسئلة كبرى عن الانتماء والهوية. في (جرأة الأمل) زحام شديد للأفكار يطرح من خلاله اوباما رؤى متعددة لجوانب الحياة الأمريكية وعلاقة الولايات المتحدة بالعالم الخارجي ودورها الذي يجب ان تنوء به لتحظى بالاحترام الذي حققته في الايام السالفة عندما كان يرأسها رؤساء حكماء صعدوا بسمعتها نحو القمة على العكس مما تسبب به اخرون كـ (بوش) في اهدار مصداقيتها ومقبوليتها لدى دول العالم.

واذا كانت كثير من دول العالم وشعوبه تمنت الفوز لاوباما لاسباب كثيره -وانا منهم- لما يحمله وصول اسود من اصول اسلامية للرئاسة من انقلاب غير عادى في الحياة الأمريكية، فانه وحسب اعتقادى ومن خلال دراستى للعقلية الأمريكية والتى القينا عليها بعض الضوء، فان حلم تمكن اوباما من تغيير السياسة الأمريكية امر صعب وشاق ويصعب حدوثه دفعه واحده وبدون تعاون كافة الشعوب والدول التى يعنيها تصحيح مسار الامبراطورية الأمريكية. واذا كان بوش قد غاذر موقعه في البيت الابيض بعد ولايتين أسوأ من بعضهما، فان ذلك لا يعنى ان هذا الكابوس سينتهى بتغيير الوجوه، لان التعويل على فوز اوباما يعنى اننا لم نعى جيدا طبيعة المجتمع الامريكى وطبيعة القيم والقوى المسيطرة التى تحكمه. فمن خلال ما عرضناه في هذا الكتاب ومدى تسلط الانجلوسكسكسون البيض المتديينين WASP على الحياه الأمريكية ومفاصلها (السياسة، والاقتصاد، والسينما والمجتمع) سواء نتيجه لاغلبيتهم العددية أو بسبب العنصرية والكره الذى انطبع به هؤلاء تجاه الاقليات الاخرى الدينية والعرقية، يصعب احداث التغيير المطلوب إذا لم تتكاثف الجهود من داخل أمريكا وخارجها لدعم هذا التغيير وترسيخه بخطى رزينه وعقلانية. فأوباما المولود عام 1961 في هاواي الأمريكية من اب كيني افريقي وام امريكية بيضاء كان اول امريكي من اصول افريقية فاز بترشيح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد منافسة شرسة مع السناتور هيلاري كلينتون، وعندما فاز بترشيح الحزب كان ذلك حدثا سياسيا كبيراً في الولايات المتحدة، وعندما اعلن عن فوزه الكاسح في سباق البيت الابيض الأمريكي على منافسه الجمهوري جون ماكين، دخل التاريخ من اوسع ابوابه وكان مؤشراً على دخول الولايات المتحدة حقبة سياسية جديدة، هذا بالرغم من الاتهامات التى وجهت له وحاولت تنفير الناخب الأمريكي منه باتهامه بانه مسلم. لقد أكد السيناتور الديموقراطي وفريقه مراراً أنه لم يكن قط مسلماً، وهو مسيحي يرتاد الكنيسة الاتحادية (كنيسة الثالوث المتحدة للسيد المسيح) في شيكاغو بانتظام، منذ أن عثر على إيمانه في مطلع عقده الثاني. يقول اوباما: انا مسيحي، وأَنا مسيحي مؤمن. أَؤمنُ بالموتِ الفدائي وبقيامة الرب يسوع المسيح.

أَعتقدُ بأنّ ذلك الإيمانِ يَعطيني الطريق الّذي سَيَكُونُ مُطَهَّرًا لي مِنْ الذنبِ ويعطيني حياة أبديّة. لكن من الأهمية جداً بمكان، أَنني أؤمنُ بالمثالِ الذي يضعه أمامنا يسوع عن طريق إطعام الجائعَ وشفاء المريضَ ويُفضّلَ دائماً الأقل والأصاغر على أولئك الأقوياءِ. أنا لَمْ ' أسْقطُ في الكنيسةِ ' كما يَقُولونَ، لكن كانت هناك يقظة قوية جداً فيّ بقدر أهميةِ هذه القضايا في حياتِي. أنا لَمْ أُردْ السير لوحدي في هذه الرحلةِ. إن قُبُول الرب يسوع المسيح في حياتِي كَانَ دليلا قويا لتصرّفِي وسلوكي وقِيَمِي ونماذجِي. ونظرا لتدين اوباما فقد اختاره الكاتب المحافظ الإنجيلي مؤرخ سيرة الرئيس الأميركي جورج بوش ليكون موضوع كتابه الجديد "إيمان باراك أوباما"، وتحدث عنه بطريقة إيجابية ووصفه بالوجه المقنع للناخبين المسيحيين، الأمر الذي وفّر له مصداقية اكسبته أصوات الناخبين المسيحيين الإنجيليين. يقول مانسفيلد "بالنسبة لأوباما، الإيمان ليس زياً سياسيًا بسيطاً. الدين بالنسبة له تحوّل ويستمر طيلة الحياة وحقيقي". وقارن الكاتب المسيحي بشكل إيجابي وتفضيلي بين أوباما والرئيسين المسيحيين الديموقراطيين جيمي كارتر وبيل كلينتون اللذين قال إنهما بنيا "جدار فصل" بين دينهم وطريقة حكمهم، غير أن "إيمان أوباما ينصهر مع سياسته العامة، حيث لا يعود محصوراً بمملكة حياته الشخصية، بل يتعداه إلى قيادته". من جهة أخرى، لم يخشَ المرشح الكيني الأصل من أن يحسن الكلام عن الإسلام، الذي قال إنه تعرف إليه عن كثب عندما كان في إندونيسيا، مشيراً إلى انه دين متسامح. ودعا إلى ان يعيش الاميركيون في ظل احترام لجميع الأديان. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن في عائلة أوباما حاخام يهودي هو ابن عمة زوجته ميشال، الحاخام كابريس فاني، الذي يترأس معبداً يهودياً للسود في شيكاغو، ويحظى بعلاقة مقربة من الزوجين أوباما. هكذا جمع اوباما في شخصيته الديانت السماوية الثلاث، والاعراق المختلفه. ورغم ذلك فأوباما ليس متدينا بشكل مقولب، فمعتقداته الدينية قد لا تتطابق مع معتقدات بقية المسيحيين، كما أوضح في إحدى مقابلاته. لقد نشأ السيناتور الديموقرطي في مدرسة علمانية رسمية في إندونيسيا، في ظل رعاية أمه الأميركية

الموقف من اسرائيل

وزوج أمه الإندونيسي، ثم انتقل إلى مدرسة مسيحية هناك طيلة عامين، قبل أن يعود مع أمه إلى الولايات المتحدة. وفي شيكاجو لم يتوانَ أوباما، الذي يعرب دوما عن تعلقه بدينه وبكنيسته، عن اتهام الزعماء المسيحيين الإنجيليين المحافظين بأنهم خطفوا الإيمان، لأنهم كانوا متحمسين لاستغلال انقساماتنا. لقد تحدث اوباما في احدى كلماته عن نفسه كمثال للقيم الأمريكية المبنية على الطموح والعصامية حيث درس العلوم السياسية في جامعة كولومبيا وبعدها انتقل إلى مدينة شيكاجو وعمل باحدى الهيئات المحلية لمدة ثلاث سنوات ونصف. وفي عام 1988 انتقل إلى جامعة هارفارد المرموقة لدراسة القانون وبعد التخرج كان اول افريقي يتولى منصباً مرموقاً في الجامعة. عاد بعد ذلك إلى مدينة شيكاجو وتمرس في مهنة المحاماة وتخصص في مجال الدفاع عن الحقوق المدنية. وكان اغلب زبائنه من ضحايا التمييز في العمل والسكن كما تولى منصب السناتور في مجلس ولاية الينوي ما بين 1996 و2004. وبعد اشهر قليلة من فوزه بمقعد في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية الينوي اصبح نجما اعلاميا وواحداً من اكثر الشخصيات شعبية في العاصمة واشنطن وصاحب كتابين من اكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة. وكان أوباما الأفريقي الوحيد بين أعضاء مجلس الشيوخ المئة، وخامس أمريكي من اصول افريقية يدخل إلى مجلس الشيوخ، واول امريكى اسود يتولى منصب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. الموقف من اسرائيل هنالك في مخزون الذاكرة الفلسطينية والعربية اجمالاً ما يكفي للقول، ان ثمة تحالفات استراتيجية بين الولايات المتحدة واسرائيل، وهذه التحالفات تقوم على أسس العداء العميق بين الولايات المتحدة والعالمين العربي والإسلامي. كل ما نتذكره حول علاقتنا مع الولايات المتحدة، هو العداء، وانحياز الولايات المتحدة لإسرائيل لدرجة التطابق بين السياستين الاميركية والاسرائيلية. وخلال حملته الانتخابية أعلن اوباما أمام اللجنة الأميركية-الإسرائيلية المشتركه (إيباك) دعمه الكامل للدولة العبرية والتزم في حال فوزه بالرئاسة بضمان

أمن إسرائيل وتفوقها على جيرانها العرب وزاد على ذلك وأعلن تأييده لتبقى القدس عاصمة أبدية لإسرائيل والتزم بتحقيق ذلك في حال فوزه بالرئاسة. قال اوباما: "ان ما بين اسرائيل والولايات المتحدة وعد لا ينكسر اليوم وغداً والى الابد .. ". هكذا استهل اوباما «خطاب القسم» امام ايباك. وربط بين قصته الشخصية بقصة الشعب اليهودي وقصة الاميركيين الافارقة بتلك الخاصة باليهود الاميركيين، ليصل إلى الذروة في خطابه بالتأكيد على «قداسة» امن اسرائيل وعدم قابليته للتفاوض .. هذا الوعد لم يكن قصراً على اوباما، فأكدته هيلاري كلينتون في المناسبة ذاتها: الولايات المتحدة تقف إلى جانب اسرائيل الآن والى الابد .. ». بدا كل من اوباما وكلينتون كمن يؤدي صلاة. في محراب ايباك على نية الوصول إلى البيت الابيض .. لقد بدا اوباما في خطابه اقرب إلى المؤمن الذي يسعى إلى نيل البركة الالهية اكثر منه السياسي الذي يسعى إلى اقناع شريحة هامة من الناخبين اليهود الاميركيين ببرامجه الاقتصادية وتوجهاته السياسية. وقد لقيت تصريحات أوباما ترحيباً كبيراً في إسرائيل، وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت أن خطاب أوباما أمام إيباك مؤثر جداً وقال إنه إذا انتخب رئيساً فسوف نناقش معه مجمل القضايا التي أثارها، ووصف الإسرائيليون هذا الخطاب بأنه الأشد تأييداً لإسرائيل في تاريخ الولايات المتحدة. وقال التلفزيون الإسرائيلي إن خطاب أوباما كان أكثر تحيزاً لإسرائيل من الخطابات التي تُسمع في مؤتمرات حزب الليكود وباقي أحزاب اليمين الأخرى، وربما هذا ما يفسر ان اليهود الاميركيين صوتوا لاوباما بنسبة 72 بالمئة. على انه ليس من المبالغة في شيء القول ان ظهور اوباما امام مؤتمر ايباك شكل اكثر المحطات دقة وحساسية في رحلة وصوله إلى البيت الابيض. ويرجع ذلك إلى النفوذ الكبير الذي تمتلكه هذه المنظمة اليهودية القوية في ترجيح كفة اي من المرشحين لأسباب تبدأ بقدراتها المالية الهائلة ولا تنتهي بشبكة تحالفاتها مع شرائح انتخابية مسيحية اصولية تصل إلى حدود الاندماج العقائدي والاستحواذ على انماط تفكير وايمان تلك الشرائح بالوعد التوراتي ليهود العالم بدولة يهودية في ارض فلسطين.

خطاب أوباما في جامعة القاهرة

باراك اوباما سيكون بالتأكيد رئيساً مختلفاً في التاريخ الاميركي بوصوله إلى البيت الابيض. غير انه لن يختلف عن اي رئيس اميركي سابق منذ قيام دولة اسرائيل، من حيث ايمانه بـ"الوعد الابدي" للشراكة بين اسرائيل واميركا والذي يبقى السمفونية المكررة التي يعزفها كل الطامحين للوصول إلى جنة الرئاسة الاميركية ويكون شهودها ومستمعوها عرابو الشراكة الاميركية - الاسرائيلية وصناع السياسة الخارجية الذين لا يقبلون شريكاً إلا إذا اتقن العزف في محاريب المنظمات اليهودية الاميركية وعلى رأسها ايباك التي وقفت وصفقت بقضها وقضيضها لهذا المرشح المقبل على البيت الابيض فوق اجنحة التغيير الذي يدغدغ احلام الملايين من الاميركيين. خطاب أوباما في جامعة القاهرة لقد وعد اوباما ناخبية بالتغيير ووعد العالم بالامل بعالم افضل، ومنذ رئاسته وهو يعمل جاهداً لتغيير صورة أمريكا في الداخل والخارج على الاقل ليفى بوعوده الانتخابية. لقد جاء اوباما إلى منطقتنا العربية وزار عدد من الدول العربية والإسلامية لاصلاح وترميم الدمار الذى خلفته سياسات بوش العدوانية والمتعصبه، والقى خطاب هام في جامعة القاهرة المصرية حظي بتغطية اعلامية كبيره وضح رؤيته تجاه المنطقة، حيث اختلف المحللون والناس العاديون حول هذا الخطاب واهميتة بين مرحب ومتحفظ ومشكك. في كتابه جرأة الأمل اعتبر أوباما أن الوظيفة الأساسية للسياسة هي ترجمة مشاعر الخير الكامنة في الإنسان إلى واقع، ويبدو أنه يتمتع بما يكفي من الجرأة لتطبيق هذا المبدأ في السياسة على الجهود الأمريكية لإحلال السلام في الشرق الأوسط، ولاشك أن خطابه الذي ألقاه بالقاهرة كان مناسبة أخرى لإيصال رسالة واضحة إلى العالم الإسلامي يعزز فيها العلاقات بين أمريكا والمسلمين، ويدعم بها فرص السلام في منطقة تحفل بالاضطرابات، لاسيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل الذي استمر طويلاً بسبب السياسات الأمريكية السابقة في المنطقة البعيدة جداً عن تلك المبادي الخيرة التي تحدث عنها أوباما في

كتابه والتي يسعى على ما يبدو إلى إعادة العمل بها من خلال خطابه بالقاهرة. ولكن هل بالفعل كان خطابه جرأة أمل أم إثارة الدهشة أم الخديعة .. على كل الاحول فإن البحث في ثنايا الخطاب ستكشف سلبيات وتناقضات عديدة في مضمونه، برغم لغته البراقة وأسلوبه الأخاذ كما يرى البعض، الا أن الخطاب في مجمله متوازن وفيه رؤية واضحة وفيه مقاربة جديدة فيما يتعلق بالعلاقة مع الدول الإسلامية ومنها قضية حوار الحضارات والقضية الفلسطينية، إذا ما قورن بخطابات ومواقف الرؤساء الأمريكيون السابقون التى كانت تعتبر خطابات معادية ومنحازة لإسرائيل، ولا فائدة من متابعتها. هذا الخطاب بالذات، كان له وقعه الواضح، وامتاز بلغة اميركية جديدة ففي جميع القضايا التي تشغل العالمين العربي والإسلامي، كان أوباما صريحاً وواضحاً، وقد سعى منذ بداية خطابه إلى إيصال رسالة مفادها "أنا أفهمكم جيداً"، لهذا بدأ خطابه بالتركيز على مساهمة الحضارة الإسلامية تاريخياً بتطور العلوم والرياضيات والطب وعلوم الإبحار، واستخدم تاريخه الشخصي كابن لعائلة كينية، أعداد كبيرة منها مسلمة، مذكرا بأنه كان يستمع إلى الأذان صباح كل يوم في اندونيسيا حيث امضى جزءا من طفولته. واستخدم أوباما العديد من الآيات القرآنية للتدليل على فهمه للإسلام والمسلمين. وباستعراض ما قاله بشان القضايا التي جعلت الشعوب العربية والإسلامية تنظر للولايات المتحدة كعدو، نجد أن أوباما قد حاول بكثير من الوضوح "تفكيك" هذه الخصومة وتحويلها إلى نوع من شراكة محتملة وممكنة. فيما يتعلق بأفغانستان وباكستان فإن أميركا لن تهادن، ولن تتراجع في الحرب التي تشنها على القاعدة وحلفائها. أوباما يرى الحرب مشروعة وضرورية وعادلة لمعاقبة من تسبب بمقتل الآلاف من الأميركيين في الحادي عشر من سبتمبر، ولن تكون هنالك مساومة على ذلك إلى أن يتم عزل القاعدة ومحاصرتها والقضاء عليها. أما ما يتعلق بالعراق، فقد كان أوباما من أوائل المناهضين للحرب على العراق عام 2003. وعندما تحدث أمام جماهير الحزب الديمقراطي في مؤتمر بوسطن، أشاد بالجنود الأمريكيين الذين يخدمون في العراق، وقال إنه يجب إعطاء عائلات الجنود الذين يقتلون في العراق المزيد من الدعم المالي. لهذا فقد اقترب أوباما

كثيراً جداً من الاعتذار دون ان يقول ذلك صراحة. لكن كلماته كانت اعتذارية. هي "حرب لم تفرض علينا"، "اختيارية"، "انقسم الأميركون والعالم معهم بشأنها"، مضيفاً وهذا هو الأهم، "سنغادر العراق بأسرع وقت ممكن، ولن تكون لنا قواعد عسكرية فيه"، موضحاً بأن ذلك ينتهي العام 2012. اما بالنسبة لفلسطين القضية المركزية للامه العربية والإسلامية، والتى بدون حلها لن تنعم المنطقة بالاستقرار، فقد كانت مقاربتة الجديدة التي طرحها اوباما تتعامل بالتزام وتوازن، فالكلمات المستخدمة شديدة الدلالة على تفهمه لما عاناه ويعانيه الفلسطينيون، وعلى جدية إدارته والتزامه الشخصي بطي هذا الملف بإنجاز تسوية بين الفلسطينيين وإسرائيل وفق مبدأ الدولتين. لأول مرة نستمع إلى رئيس أميركي يتحدث عن الصراع الذي بدأ منذ قيام إسرائيل وليس منذ عدوانها على العرب العام 1967، مستخدماً في وصفة لمعاناة اللاجئين تعبيراً يعني اعترافاً بأنهم "انتزعوا من أرضهم بالقوة"، وبأنهم يعيشون في حالة من الذل تحت الاحتلال، وان هذا الوضع لا يمكن التسامح معه، وأن أميركا ستقف مع حق الفلسطينيين بالكرامة والدولة ولن تدير ظهرها لهم. تأكيد أوباما بأن الاستيطان غير شرعي ـ مهم هنا وهو تطور في طريقة النظر لمسألة الاستيطان، لأن الدارج سابقاً لدى السياسيين الأميركيين أن يقولوا إنه "عقبة في طريق السلام" بينما المسألة هي عدم شرعية هذا الاستيطان وضرورة إزالته لتعارضه من القانون الدولي. ومن المهم أيضا ملاحظة أن أوباما يرفض استمرار محاصرة غزة "فالأزمة الانسانية في غزة لا تجلب الأمن للإسرائيليين وتدمر حياة الفلسطينيين". وفي خطابه كرر أوباما حديثه عن علاقة أميركا بإسرائيل "غير القابلة للكسر" وعن معاناة "الشعب اليهودي التاريخية" وعن حقهم تبعاً لهذه المعاناة بدولة خاصة بهم، فقال: إن متانة الأواصر الرابطة بين أمريكا وإسرائيل معروفة على نطاق واسع. ولا يمكن قطع هذه الأواصر أبدا وهي تستند إلى علاقات ثقافية وتاريخية وكذلك الاعتراف بأن رغبة اليهود في وجود وطن خاص لهم هي رغبة متأصلة في تاريخ مأساوي لا يمكن لأحد نفيه. وهذا الدعم والتعاطف الكامل مع اسرائيل لا يقلل بأي حال من تعاطفه وتفهمه لمعاناة الفلسطينيين. والواقع أن أوباما قد أرسل منذ توليه الرئاسة رسائل

واضحة بشأن ذلك. فالتعاطف مع اسرائيل قائم في ادارة اوباما، ولكنه ليس أعمى. العهد الذي كان بوسعنا فيه ان نشد الحبل وان نسوف الوقت بلغ منتهاه، كما عبر عن ذلك احد الكتاب اليهود. لقد كان الخطاب المشحون بالعاطفة الذي ألقاه الرئيس الأمريكي باراك أوباما من على مدرج جامعة القاهرة، عظة دينية وجدانية، تخاطب القلب أكثر مما تخاطب العقل، ويمكن اعتباره خطاباً تاريخياً على المستوى التقني لخطابات زعماء الدول من حيث الشكل وبلاغة الخطيب المعروف بأنه متحدث مفوه لا يشق له غبار. وقد يكون أفلح في هذا، وكان له ما أراد، وتأكد هذا من خلال الاستجابات العاطفية التي كان يتلقاها، مع كل آية قرآنية، أو حديث نبوي كان يتلوه، وهو ينظر من دون تركيز، على الأثر الانفجاري الطاغي الذي كانت كلماته تتركه في نفوس مستمعيه. وهنا لن ننكر عليه قدراته البلاغية والخطابية المميزة التي أنتجت تلك الملحمة الخطابية التاريخية غير المسبوقة. ولكن حين نضع خطاب اوباما تحت مجهر النقد والتمحيص، فإن الأمر سيبدو غير ذلك بالتأكيد، وعلى درجة حادة من الفروقات والاختلاف الكبير، وفيه من المغالطات، ومجافاة الواقع، الشيء، الكثير. فعلى صعيد الأفكار والنموذج المعرفي الذي يستند إليه اوباما ويستمد منه لغته فان الأمر يختلف حتماً، إذ يظهر التشريح أن الخطاب الذي غلبت عليه اللغة التصالحية والنظرة الواقعية والاستشهاد الديني بدا عاجزاً عن تقديم حلول مقنعة لمشاكل مستعصية وعمد اوباما إلى الهروب من التفاصيل إلى العموميات التي لا تلزمه بأي وعود تجاه أي طرف من الأطراف، كالوعود الانتخابية الكثيرة التي يحاول أوباما الوفاء بها الوعد تلو الآخر مما يترك له هامشاً واسعاً من المناورة في المستقبل. فالخطاب ليس برنامجاً عاماً وعملياً، غايته أن يعالج ويتصدى لجملة من أزمات ومشاكل سياسية، واجتماعية تهم الشارع العام. لقد كانت الغاية الأولى والأخيرة من هذه الخطبة، بالضبط، هي تهدئة روع المسلمين الساخطين على سياسات الإدارة الأمريكية السابقة الاستفزازية مع فريق المحافظين الجدد، والذين لم يتركوا وراءهم أي أثر أو مثقال ذرة يمكن أن يترحم الناس من خلالها عليهم، أو يستذكرونهم بأي قدر من الخير.

لغة الخطاب واعدة وتصالحية ومختلفة عن خطابات الإدارة السابقة خاصة من جهة السعي لتحسين خطاب العلاقات مع العالم الإسلامي، ولكنه أيضاً يصب في مصلحة أمريكا وموقعها في العالم خاصة الإسلامي، ويمكن اعتباره أسساً ومنطلقاً لتغيير مسار العلاقات الاميركية - العربية والإسلامية عموماً. وهنالك من الأسس التي وردت في الخطاب، يمكن الاعتماد عليها لتأسيس شبكة علاقات من نوع جديد، فيما لو أُحسن استخدامها عربياً وأميركياً على نحو صحيح. باختصار، خطاب أوباما هو خطاب القطيعة مع سياسات بوش، وهو يعبر عن سياسة جديدة، إيجابية وتدعو للتفاؤل بأن العلاقات العربية ــ الأميركية، والإسلامية ــ الأميركية يمكن إصلاحها، تقويتها وتطويرها، ويتوقف ذلك على تحويل "هذا الكلام الجميل" إلى مشروع عمل وأفعال تؤدي إلى نتائج يمكن قياسها. ولكن الخوف كل الخوف من اتباع التيار المحافظ والعنصريون البيض الذين لن يتركوه يعمل على هواه بالرغم من هزيمتهم النكراء، بل انهم بدأوا يلملمون شملهم بقيادة احد صقورهم نائب الرئيس السابق ديك تشينى وبدأو ينتقدون سياساته المنفتحه على العالم، وشنوا عليه حمله جعلته يتراجع عن بعض وعوده أو يؤجلها، وهاجموا لغته التصالحية مع العالم الإسلامى واعتبروها مساس بكرامة أمريكا وهيبتها، بل اعتبرها بعضهم اذلال لها. من هنا فاننى اعتقتد ان مرحلة اوباما ستكون مرحله انتقالية حرجه وصعبه يتم خلالها ترتيب البيت الامريكى الداخلى واصلاح ما افسدته فترة بوش خارجياً وداخلياً والخروج من الازمة المالية التى يعاني منها الاقتصاد الامريكى، مع عدم تمكين اوباما من احداث تغيير جوهرى في السياسة الأمريكية، وهنا فاننى لا اقلل من قيمة الافكار والرؤى التى يحملها اوباما لأمريكا والعالم، بل اقلل من احتمال نجاحه في تطبيقها على ارض الواقع. ولا استبعد ان يتم ازاحة اوباما عن الحكم بالقوة (وذلك بسبب اصوله الملونه وخلفيته الدينية والثقافية التى تتعارض مع فكر وقيم الغالبية المسيطرة) اى من خلال اغتياله وهذا امر غير مستبعد من العنصريين البروتستانت، الذين اعدوا خطط لاغتيال اوباما خلال فترة ترشحه للانتخابات، وثم القاء القبض على المخططين كما ذكرت محطة CNN، ونقلت اذاعة "سوا" عن "جيمس ثيربر" أْستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية في واشنطن قوله ان الجميع

فلسطين ودورها الحضاري

يشعرون بالقلق على حياة الرئيس "أوباما" ويتذكرون جيداً زمن "كينيدي" الذي يبدو قريب الشبه من هذا الزمن. كما ان احدى الصحف في ولاية بنسلفانيا نشرت اعلانا دعا ضمنياً إلى اغتيال الرئيس الأمريكي باراك اوباما. وكان الاعلان يقول: "لعل اوباما يحذو حذو لينكولن وجارفيلد ومكنيلي وكنيدي." وقد لاحظنا انه خلال التاريخ الامريكى كله لم يصل إلى الحكم الا رئيس كاثوليكى واحد هو جون كنيدى وبصعوبه ولكنه لم يكمل فترة رئاسته واغتيل على ايدى المتعصبيبن البروتستانت، كما ان تاريخ أمريكا مع الملونين واصحاب الديانات الاخرى واضح لنا، وواقع الملونيين في أمريكا الآن خير شاهد على العنصرية والكراهية التى يتعرضون لها في بلد ما يسمى بالحريات والديمقراطية، ويجب ان لا ننسى انه تم اغتيال الرئيس الامريكى ابراهام لنكولن لانه دعا إلى تحرير السود، وكانت قضية السود من القضايا الرئيسية التى ادت إلى نشوب الحرب الاهلية الأمريكية، كما اغتيل داعية الحقوق المدنية الاسود مارتن لوثر كنج لنفس الاسباب. وربما كان هاجس كراهية الملونين والسود هو الذى دفع القس مايكل فليجر احد انصار اوباما إلى القاء خطبه دينية يسخر فيها من هلارى كلنتون قال فيها:" إن هيلاري كلينتون تفكر دائما بهذه الطريقة: إنها لي، أنا زوجة بيل، أنا بيضاء. وفجأة ظهر باراك أوباما من العدم، فقالت من أين جئت ياهذا؟ أنا بيضاء أنا أستحق، إن هذا الرجل يخطف مني الأضواء. وبالرغم من ان اوباما أعرب "عن عميق خيبته" من الخطبة وقال إنها "مثيرة للشقاق، وتحمل رؤية متخلفة"، الا ان ذلك يشير إلى جذور العنصرية التى لازالت تعشعش في عقل قطاع كبير من الأمريكيين البيض، تجاه الاقليات المختلفة، ويكشف مدى الاحباط والظلم الذي يشعر به الملونون في أمريكا. فلسطين ودورها الحضاري إذا كنا قد سلطتنا الضوء في هذه الدراسة على الصهيونية المسيحية ونشأتها ودورها في اقامة اسرائيل في المنطقة العربية وركزنا على الدور البريطاني الامريكى بالذات ووضعنا خطة لمواجهتا، فان ذلك يعتبر بداية للفهم الصحيح للصراع وطرق مواجهته ويمهد لاتخاذ خطوات ووضع الخطط اللازمة للخروج من هذا

المأزق الذى تواجهه امتنا والذى استنزف ثرواتها وخيرة ابنائها وهى في امس الحاجة لاستثمارها من اجل النهوض واللحاق بركب الحضارة وممارسة دورها الرائد في الحضارة الانسانية. من اجل ذلك فاننا نرى ان وضع حل نهائي لهذا الصراع اصبح ضرورة قومية ودينية وحضارية تفرضها الاوضاع الدولية والمصلحة العامة للامه. وبالرغم من كبر حجم الكتاب فاننى كنت انوى اضافة جزء اخر له بعنوان "فلسطين ودورها الحضاري" يوضح طبيعة الصراع على فلسطين والمراحل التى مر بها والعلاقة بين اليهود وفلسطين عبر التاريخ، وهذا يستدعى تفكيك الصراع والانطلاق بالتحليل والتأمل التاريخى والدينى بعيداً عن كثير من الافكار والاحكام المسبقة والانتقائية التى ارتبطت بالصراع في عصرنا الحاضر سواء بسبب التداخلات التى افرزها الاستعمار الغربي لمنطقتنا وظهور الحركة الصهيونية وما صحبها من تطرف وغلو في النظر إلى فلسطين، أو بسبب ظهور الحركات القومية العربية والحركات الإسلامية، والتى تعاملت مع الصراع من خلال نظرة قومية ضيقه أو دينية انتقائية، لم تستطع ان تشخص طبيعة الصراع وسبل مواجهته، فتاهت في نظريات وتفسيرات ثبت فشلها بالكلية لانها لم تستلهمها من ارثنا الحضارى المجيد بل اقتصرت في علاجها لهذه الظاهره من خلال اقتباس ادبيات التجربة الاوربية الصراعية التى جلبت الويلات للقارة الاوربية والعالم خلال الخمسة قرون الاخيرة، حيث لم تكن فلسطين والشرق غائباً عن هذه النظرة الصراعية، فتعرضت المنطقة لهجمه شرسه وضحنا بداياتها وما انتهت اليه من اجل تحقيق نبوءات وافكار عدمية على يد اتباع المذهب البروتستانتى، وعلى الجانب الآخر تعرض اليهود المتواجدون في اوروبا لحملات اضطهاد وتنكيل منظمه من قبل كثير من الدول التى عاشوا فيها، لاسباب دينية معاديه لليهود، كانت تنظر لهم على انهم قتلة المسيح، وسعت للتخلص منهم بالقاءهم في منطقتنا، وفي الحالتين تحملنا اخطاء غيرنا ودفعنا ثمناً باهضاً نتيجه لذلك. من هنا فاننا نرى ان وضع تصور لحل الصراع يجب ان ينبع من منطقتنا بعيداً عن الاملاءات الخارجية التى لها اجندات بعيده كل البعد عن قيمنا ومصالحنا .. تصور ينبع من اصالة حضارتنا وقدرتها اللامحدودة على الانفتاح والتفاعل واستيعاب الغزاة الذين مروا بها على مر التاريخ، والذين لم يشفع لهم تفوقهم العسكرى والمادي

لتمكينهم من السيطرة على هذه المنطقة وفرض افكارهم عليها، بل استطاعت حضارتنا على مر التاريخ ان تهزم الغزاة ليس بالقوة العسكرية فحسب، بل من خلال ارتها الحضارى الذى هزم الاعداء بالرغم من تفوقهم العسكرى وجعلهم يتبنون قيم هذه الحضارة وافكارها. وهذا الامر ليس مستغربا إذا تأملنا ارثنا الحضاري الضخم الذى الهم البشرية جمعاء، فالديانات السماوية في العالم والتى تدين بها اكثر من نصف البشرية نبعت من هنا، والحضارات القديمه التى وضعت اسس التمدن الانساني اشرقت من هنا، وتاريخ العالم بدأ وازدهر وتطور وانتشر من هذه المنطقة المباركة، وكل ذلك جعلها محط انظار العالم وقبلته من الناحية الدينية والحضارية. واذا كانت امتنا تمر في عصرنا الراهن بازمه نتيجه لتخلفها عن ركب الحضارة بسبب التحديات التى فرضت عليها فان ذلك لا يعنى الاستسلام لهذا الامر، ولا يجب ان نفقد الامل في اصلاح حالنا واللحاق بركب الحضاره. واعتقد ان الجميع يعلم ضخامه وثراء ثراتنا الثقافى والحضارى الذى اعطى العالم اولى الحضارات (الفرعونية والفنيقية والبابلية والسومرية، والاشورية والكنعانية)، وثم تتويج ذلك بهبه من الله للعالمين دياناته السماوية اليهودية والمسيحية ثم الإسلام الدين الخاتم. اعتقد انه لا توجد منطقه في الدنيا توفرت لها مثل هذا الارث العظيم والتاريخ الزاهر. وهنا فاننى لست من هواة الوقوف على الاطلال والتغنى بالماضى، ولكن اعتقد ان ايه نهضه واى تغيير لا بد ان يستند على قاعدة اصيله من الثقة بالنفس وبقدرتنا على التطور والاخذ بناصية الحضارة. فليس من المنطق أو العقل ان تكون هذه الارض المباركة ساحة للصراع والحروب، في الوقت الذى استطاعت ان تلهم العالم والبشرية جمعاء بقيمها النبيله عن الحب والتسامح والمساواه والدعوة إلى اعمار الارض واعلاء شأن الانسان بتخليصه من كافة اشكال العبودية لغير الله. هذه الارض المباركة لديها رساله جديده يمكنها الهام العالم والبشرية من جديد من خلال التأمل بدقه بإرثها الدينى والحضارى الذى يبنى ولا يهدم والذى يستوعب الجميع من خلال مبادئه المتسامحه. هناك جهد جبار يجب ان يبدل من قبل المخلصين في امتنا وهم كثر لتصحيح كثير من المفاهيم والافكار التى تعيق تقدمنا، آخذين في الاعتبار وقوع منطقتنا

الإصلاح الإسلامي

لفتره طويلة فريسه لاطماع وحروب مختلفه لاهميتها الحضارية والثقافية والدينية والجفرافية، والتى بدأت مع حروب المغول والصليبيون ثم الاستعمار الحديث. ولا شك ان الذي حدث تتحمل جزء من مسئوليته الاجيال السابقة التى مزقتها الصراعات المختلفة، الا ان ذلك لا يجب ان يغفلنا عن جاذبية هذه المنطقة واهميتها للعالم اجمع وهذا هو جزء من ثمن ارثنا الحضارى العظيم الذى يجب ان نحافظ عليه ونحميه ويكون حافزاً لنا من اجل تجديد الرساله والرياده للعالم. ان المتأمل لتاريخ منطقتنا يجد انها تعرضت لغزوات وحروب على مر تاريخها ولكنها كانت في كل مره تهزم اعدائها ليس بقوة الجنود بل بقوة حضارتها وقيمها. وهكذا لم يصدم الغزاة القادمون من وسط اسيا واوروبا بالحدود والجيوش فحسب وانما واجهتهم حضارة تدافع عن (الحضارة) - فالحضارة لا يمكن ولا يكفى ان تدافع عنها بقوة السلاح - وهؤلاء الغزاة الوافدون من سهوب آسيا واوروبا على الرغم من تغلبهم بقوة السلاح قد احتوتهم ثقافة المغلوبيين فتمثل الغزاة حضارة هؤلاء، كما حدث مع الرومان الذي سيطروا على المنطقة لفتره طويله ولكنهم في النهاية اعتنقوا الديانه المسيحية المشرقية، وحدث نفس الشئ مع المغول الذي دموروا بغداد ولكنهم في النهاية دخلوا الإسلام واصبحوا من اشد المدافعين عنه والداعين له. ونحن الان لدينا المقدره لتقديم نموذج حضاري بديل يستوعب الانجازات الحضارية القائمه ويهذبها ويضيف لها بعدا انسانياً وروحياً، تحتاجه البشرية الان، وذلك لن يحث الا إذا اصلحنا انفسنا أولاً "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم". الإصلاح الإسلامي ربما سيقول بعض القراء ان الإسلام هو الحل، مرددا الشعار البراق الذى يطرح دائما كبديل لحل مشاكلنا أو لتبرير تخلفنا نتيجه لعدم اتباعنا النموذج الإسلامى. وانا اعتقد ان طرح المسأله بهذه البساطة والسذاجه فيه تجنى على الواقع الذى نعيش فية بنفس قدر تجنيه على الإسلام نفسه. فالإسلام حتى في عهده الأول لم يمتلك تلك الحلول الجاهزه، والاجوبه الشافية لكافة المسائل والقضايا التى واجهها

بسبب اتساع رقعه الدوله ودخول كثير من الشعوب تحت مظلة الإسلام. لهذا حدث الاجتهاد والاختلاف (بما لا يفسد للود قضيه) بين المسلمين والفقهاء، وادلى الجميع بدلوه في هذا الامر فظهرت مدارس اهل الرأى واهل الحديث، وظهر علم الكلام والفلسفه وغيرها من العلوم الدينية والدنيوية، والتى مكنت للمسلمين من النهضه والريادة وتسيد العالم. واعتقد ان الجميع يعلم الفرق بين واقعنا المعاصر كمسلمين وواقع المسلمين ايام مجدهم، وحجم القضايا والامور التى ظهرت والتى بحاجه إلى اجتهاد ومعرفه دقيقه بمقاصد الشريعه لتحديد الموقف الشرعى الدقيق منها. وهنا لابد من تحديد الإسلام المقصود .. هل هو اسلام بن لادن .. الاخوان المسلمون .. حزب التحرير .. طالبان .. ابى حفص .. ام الإسلام السلفى أو الليبرالى .. الخ. وهنا فاننى لا اعيب تعدد الاحزاب والتيارات الإسلامية فهذا امر مطلوب وصحي، ولكن الشئ المعيب هو ان نجد ان كل حركه وتيار لا تحترم وجهة النظر الاخرى بل قد يصل الامر إلى حد التكفير والخروج عن المله (بأسهم بينهم شديد) .. ولكن الجميع يستشهد بحديث نبوي عن ضرورة انقسام الامه إلى 72 فرقه ليس بينها الا فرقه واحد ناجيه من النار، وبالتأكيد فان كل فرقه تعتبر نفسها فقط الفرقة الناجية. وهنا يتوه المسلم البسيط الساعى إلى الفوز العظيم، في غابة الفرق والاحزاب والدراويش، لعله يجد مبتغاه وينجو من النار، وهنا تكون بداية التطرف والتنطع في الدين. فمادامت القضية، قضية فرقه ناجيه بدون غيرها، يجعل اتباع كل فرقه يعتقدون ان مهمة اصلاح الدين والدنيا تقع على عاتقهم وحدهم ولا يجب عليهم التنازل قيد انملة عن تعليمات مشايخهم الذين يستغلون بساطة هؤلاء المؤمنين، وتتوه شعوب الامه بين الفرق ومشايخها وفتاويهم .. فهذا يحرم وذاك يزكى وآخر يكفر وغيره يؤجل .. وهكذا وبسبب الفهم الخاطئ للاسلام، وبدلاً من ان يكون الإسلام حلاً لمشاكل الامه يصبح عبئا آخر عليها، وبدلاً من ان يوحدها ويجمع شملها، يشتتها ويفرقها. وبالرغم من انني احسب نفسي من المؤمنين بمقدرة الإسلام على الاخذ بيد الامه لطريق الوحدة والنهضه والعزه واحاول من خلال بعض مشاريعي البحثيه ان اساهم بهذ المجال قدر استطاعتي، الا انني وصلت إلى قناعه بأن الوقت لم يحن بعد لهذا المشروع ليأخذ مكانه ويزاحم الآخرين للظفر بالسلطه وقيادة الامه في ظل

القيادات وطريقة التفكير الحالية، لان التيارات الفكرية الإسلامية أو على الاقل ما تمخض عنها من حركات واحزاب اسلامية لاتزال تعيش في عالم غير عالمنا ولم تستطع حتى اللحظه ان تدرك ليس فقط المعاني العظيمه للاسلام بل والاخطر انها لا تعرف شئ عن حقيقه العالم الذي نعيش فيه والمتغيرات التى تحكمه واكتفت برفع شعارات براقه كالإسلام هو الحل والإسلام هو البديل .. الخ، بدون ان تقدم ايه حل أو بديل مقنع للجماهير على اي مستوى من المستويات، ولهذا تجد نفسها في مأزق بمجرد امتلاكها للسلطه أو جزء منها فتفشل. وبالطبع فان مبرراتها جاهزه لسبب الفشل وهو مؤامرة الكفار والعلمانيون الذين لا يريدون للاسلام ان يحكم، كما ان تهمها بالخيانه والعماله والرده والخروج عن الصف جاهزه لمن لا يوافقونها الرأى. وهنا فاننى لا انكر ان هناك مؤامره على الإسلام، ولكن ليس هذا هو المهم بل الاهم من ذلك هو استعدادنا لنكون ضحيه للمؤامرة والتى ما فتئت الحركات الإسلامية تقع فيها من اول تجربه سلطويه تمر بها سواء كانت في الحكم أو في المعارضه، والمؤمن لا يلذغ من جحر مرتين. وبالرغم من اننى لا انكر اصاله النشأة والتكوين لاغلب الحركات الإسلامية، وصدق نواياها الا ان مشكلتها الرئيسية كانت في عدم نضوجها ووعيها السطحى بالوضع الدولى وتعقيدات الحكم على المستوى الوطنى، فوقعت في صدامات غير مبرره مع السلطه على المستوى المحلي، ودخلت في صراعات غير محسوبه مع الدول العظمى على المستوى الدولى، وتم كل ذلك باسم الجهاد في سبيل الله تعالى من أجل رفعة شأن الإسلام، فانتشرت الصدامات في مختلف البلدان من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وخالطتها كثير من المخالفات الشرعية، التى اتخذت من الإسلام درعا لطرح فكر متعصب لا يقبل التسامح ولا العقل ولا الاعتراف بالاخر بدلا من زرع بذور الخير والمحبة والقذوة الحسنة والكلمة الطيبة التي توحد الناس وتأخذ بيد الامه إلى التغيير المطلوب. ولو حاولنا مراجعة تجارب حركات الإسلام السياسي في منطقتنا منذ الاستقلال وحتى اللحظه فاننا سنجد انها تنقسم إلى قسمين، الأولى ونتيجه لفكرها المغلق التكفيرى وعدم نضوجها السياسي، وضعت نفسها كخصم عنيد لكافه الانظمه الوطنية واخذت تزاحم على السلطه بدعوى انها تريد تطبيق الإسلام

بالرغم من ان مشروعها الإسلامي لم يكن جاهزا وقتها وحتى اللحظه، واخذت تستغل بعض التصرفات هنا وهناك لتكفير النظام ومحاولة الانقلاب عليه بدلا من المساعده في مواجهة التحديات والاخذ بيد النظام الوليد، وهذا ما حدث في مصر والعراق وسوريا في ذروة المد الثوري والقومي حيث وضعت حركة الاخوان المسلمين وغيرها من الحركات نفسها في مواجهه مباشره مع الاحزاب القوميه، وكأن الإسلام يعارض القومية والوحدة العربية، بل اننى اذكر كيف انهم كانوا يصورن فكر القوميين العرب والبعثيين وكأنه فكر شيوعي الحادي كافر، ونسى القوم ان فكرة بعث الامة العربية هي في النهايه بعث للاسلام واحياء له لانه لا عروبه بدون اسلام. ثم جاءت تجربه هذه الحركات لتتكرر وتقوم بنفس الدور في العراق ابان الغزو الأمريكي للعراق حيث فضلت ان تقف في صف المحتل المعتدي ضد نظام صدام متناسيه ومتغافله عن احكام صريحه في القرآن تحرم ذلك وكانت النتيجه ما نراه ونسمعه في العراق من دمار لكل شئ وحرب طائفيه بين من يدعون الإسلام (شيعه وسنه) بدل الحرب على الاجنبي المحتل. وفي سوريا كاد يتكرر نفس المشهد عندما ابدت حركة الاخوان المسلمون السورية استعدادها للتعاون مع أمريكا للاطاحه بالنظام السوري. اما النوع الثاني من الحركات الإسلامية والتي ظهرت في نهاية السبعينيات، فقد مثل ظهورها تطور نوعي في عمل الحركات الإسلامية نتيجه لما فرخته التجربه الافغانية من حركات ولدت في احضان المخابرات الأمريكية والانظمه المتعاونه معها، حيث دخل معها الإسلام السياسي مرحله جديده وخطيره، بعد ان تم تصنيعه ثم استغلاله من قبل المخابرات الأمريكية والعربية، فحصل على مشروعيه مؤقته لدحر الغزو السوفيثي لافغانستان، ولكن بعد انتهاء دوره مع السوفيث، بدأ اضطهاده ومطاردته لدفعه للقيام بدور جديد من خلال نشره في كل مكان، فظهرت هذه الحركات بدون تحديد اوليات واسس لعملها الجهادي واستخدمت من حيث لا تدري كاداه، فكانت ثاره تعمل كوكيل لأمريكا في اثارة القلاقل في الدول العربية وروسيا ومناطق اخرى، وثاره كاداه في يد المحافظين الجدد في أمريكا في سعيهم لتصوير الإسلام كعدو بديل للشيوعية وانه الخطر الذي يتهدد العالم والذي استخدمته أمريكا ودول اوروبا الغربيه كمبرر لاعلان حربها على ما يسمى بالارهاب والتضييق على

المسلمين في كل مكان، وتجلى ذلك في احداث 11 سبتمر التى ابتهج لها كثير من المسلمين ولكن بعد حين اكتشفوا عمق المأزق الذى وضع المسلمون به نتيجه هذه الاحداث، وبدأ البعض بعد فوات الاوان ينتقد هذه العمليات ويشكك في من يقف وراءها وجدواها بعد ان لمسوا انعكاساتها الخطيره على الامه، وان المستفيد الوحيد من هذه الاحداث كانت ادارة بوش المتطرفه واسرائيل، التى استخدمت بعض الحركات الإسلامية ليس كاداه تنفيذية -لانهم لايصلحون لذلك- بل فقط كمتبني يقف من بعيد ليخرج علينا من حين لاخر ببيانات واشرطه مصوره استخدمتها ادارة بوش افضل استخدام لضرب الإسلام في كل مكان. وهكذا لم تكتفي كثير من حركات الإسلام السياسي بتخريب واعاقه حركات التحرر الوطنى في بلدانها بل انها عملت على الاساءه إلى الإسلام والعروبه في العالم وابراز المسلمين بشكل بشع امام العالم من خلال عمليات وتصريحات وافعال الحقت اضرار فظيعة بالإسلام والمسلمين وشوهت صورته. وهنا فانني لا انكر كيد الغرب وأمريكا للاسلام واهله، ولكن هذا لا يعنى الدخول في مواجهه مفتوحه معهم بدون حساب التداعيات الخطيره على الإسلام. كما انني لا احاول تبرئه الانظمه الحاكمه من كثير من الاخطاء والخطايا والتجاوزات، ولكن هذا لا يبرر ان تضع هذه الحركات نفسها على طرف نقيض من هذه الانظمة وتحاول بكل الطرق الانقضاض عليها بدل توحيد الجهود والتدرج واعداد العده للتغيير المطلوب. فبالرغم من ان كثير من الحركات الإسلامية لم يكن لها ميزه زائده عن الحركات الوطنية الاخرى في حروب الاستقلال وتضحياتها، بل ان ظهورها كان متأخر جداً في بعض المناطق، الا انها وبمجرد زوال الاستعمار بدأت تنشط ووضعت نفسها مباشره في صدام مع النظام بدون تطبيق ابسط ابجديات العمل الإسلامي من تحديد الأوليات والوعى بالتحديات والتدرج في حلها. بل انها اكتفت بالتركيز على شكليات الإسلام دون الجوهر فكانت النتيجه رؤيه ساذجه ومبسطه للاسلام جعلت الواحد منهم يعتقد ان تطويل اللحى وتقصير الجلباب يكفي لاستحقاقه النصر من الله والدعوه إلى اقامة دولة الخلافه، ونسى أو تناسى القوم ان للنصر والاستخلاف شروط وقوانين غير اللحى الطويله والاسماء الجميله التى تستحضر عظمة الماضي بشكله لا بجوهره، فليس كل من تسمى بابي حفص ملك عداله عمر، وليس كل من

كنى نفسه بابو الوليد أو ابو مصعب والقعقاع وغيرهم من الصحابة العظام رضى الله عنهم جميعاً اصبح من المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من ترك الدنيا والتفاني في خدمة الإسلام بالعلم والعمل، فدانت لهم الدنيا بما رحبت. ان للاستخلاف والنصر سنن وقوانين بعيده كل البعد عن الشعارات البراقه والشكليات الجوفاء والخطب الرنانه التى اصبحت منهجاً لكثير من الحركات الإسلامية. فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد من الله بالنصر لم يغفل ولو للحظه واحده عن الاخذ بالاسباب واعداد العده بالرغم من يقينه بنصر الله للدين الجديد. ولكن الله سبحانه وتعالى اراد وضع منهج للنصر والتمكين للمسلمين في كل زمان ومكان ليأخذوا به. ففي احد هزم المسلمون لان بعض الصحابة لم يتبع اوامر الرسول الكريم وانساق وراء عرض الدنيا. وكادوا ان يهزموا في حنين عندما اعجبتهم كثرتهم. وفي الخندق اعد المسلمون العده واخذوا بالاسباب وحفروا الخندق وبعدها جاء النصر من الله وتفرقت الاحزاب. وفي مؤته انسحب خالد بذكاء من المعركه حقناً لدماء المسلمين، فقال عنهم عامة المسلمين الذين لا يدركون السنن الالهيه انهم الفرار ورد عليهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بانهم الكرار، وفي الشام تنازل خالد عن القيادة لابي عبيده انصياعاً لامر خليفة المسلمين وهو في اوج انتصاراته وعظمته من اجل مصلحة المسلمين، وهناك مئات بل آلاف العبر والدروس الشبيهه والتي نتغنى بها ليل مساء، ولكننا كالحمار يحمل اسفاراً. ان الإسلام شريعه ومنهج حياه إذا اتبعناه قولا وعملا كنا خير امة اخرجت للناس، وصلح حالنا في الدارين، اما إذا اكتفينا برفع شعاراته والتغنى بفضائله وعظمة رجاله، من غير ان نستوعب ونطبق الدروس والعبر فلن يغير الله من حالنا، ولن تشفع لنا عندها ابتهالاتنا ودعواتنا بتدمير الكفر والكافرين ونصرة الإسلام والمسلمين، لان الله ينصر من ينصر دينه قولا وعملا، ونصرة الدين لا تكون بالدعاء والبكاء ولكن بامتلاك القوة واسبابها، واعداد العدة بمختلف طرقها ومجالاتها،"واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" اما إذا توقعنا النصر بغير ذلك يصبح يقيننا بالنصر يقيناً منقوصاً وهو اقرب إلى القاء انفسنا إلى التهلكه، لان المؤمن القوى احب إلى الله من المؤمن الضعيف، والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي اكبر شاهد على ذلك، ولهذا تقدم المسلمون وفتحوا مشارق الارض ومغاربها من خلال

اعداد العدة والاخذ بالاسباب ووضع خطط الحروب فبرزت عبقريات فذه وبطولات عظيمه ومواقف ايمانية جعلت اليقين بالنصر من الله حقيقة واقعه، لان "اعقلها" سبقت وتوكل، ولان الايمان صدقه العمل. والسؤال الذي يبرز بقوه في واقعنا المعاصر اين نحن من كل ما تقدم؟ بالطبع الفارق كبير كالفرق بين الثرا والثريا كما يقولون، وواقعنا المزري خير شاهد على ذلك حيث تتصدر دولنا العربية والإسلامية القائمة السوداء في كل شئ من التخلف العلمي والامية والجهل والفقر والفساد والرشوه والتطرف .. الخ. فاين الحركات الإسلامية من كل ذلك وما هي مساهماتها ومبادراتها؟ بالرغم من علمي ان هذا يقع ضمن مسئوليات الدوله، ولكن ذلك لا يعفيها من المسئولية لانها تمتلك اكبر قوه للتأثير على الناس بسبب الميل الفطري لدى الناس لاتباع رأى علماء الدين إذا صدقوا وتوحدوا، كما ان المجال مفتوح امامها للعمل في كثير من المجالات البعيده عن الصدام بالسلطه لتقديم القدوة الحسنة في كل شئ واعداد العدة للتغيير بدل السعي إلى السلطه وهي خاوية اليدين، فتصتدم بالواقع المر الذى تسعى لتغييره، لان المطالبه بالتغيير شئ والقدره على التغيير وامتلاك ادواته شئ آخر مختلف، لما يتطلبه ذلك من وعي وقدره وخبره وتوحيد للجهود الوطنيه بكافه اشكالها ومشاربها، بالاضافة إلى تحديد الاهداف المطلوب تحقيقها بوضوح في ظل الامكانيات المتاحه، بدون الزج بالإسلام في ساحات للصراع غير متكافئة. إن المطلوب من كافة الحركات الإسلامية ان تراجع نهجها وطرق عملها وتستوعب العبر والدروس الحقيقية لسنن العلو والتمكين، وتكف عن الزج بالإسلام في صراعات وتجارب خاسره وفاشله نتيجة عيب فيها وليس في الإسلام الذي بدأ يدفع ثمناً باهضاً نتيجة جهل ابناءه وخبث اعدائه. ان الإسلام شريعة الله في أرضه ودينه القويم وسبيل الهداية والصلاح والفلاح لنا في الدارين، الا أن الجهل وانحراف الرؤى والأفكار ومناهج العمل لبعض الجماعات الإسلامية المتشبعة بثقافة العنف ورفض الآخر تقف من حيث لا تدري حجر عثره في سبيل نهوضه وتمكينه وتعزله عن العالم وتقيم حواجز من التخلف والعداء حوله، حيث تتستر هذه الجماعات على أعمالها المتطرفة بالدين وشريعته الإسلامية للوصول إلى السلطة، وشتان بين منهج سياسي يتحصن بدرع الدين ويسعى باسمه للوصول إلى السلطة، وبين قيم

رسالة ايمانية غايتها إسعاد البشرية ورخائها ونشر المحبة والسلام بين الناس وتحقيق صلاحهم في الدنيا والآخره. وفي كل الأحوال فإن المشروع الإسلامي أوسع من أن يختزله حزب أو برنامج للحكم، فالحكم مجرد جزء من مشروعه، وليس هو الجزء الأعظم والأهم، ولذلك سقطت للإسلام دول لا تحصى بينما استمر فعله في الأمة والتاريخ ... مصداقاً لقوله تعالى " إنّا نحن نزلنا الذكر و إنّا له لحافظون" ... واذا كان عبد المطلب قال لابرهه الحبشي: اما البعير فهي لى، وللبيت رب يحميه" فانني اقول لكافة الحركات الإسلامية ارفعوا ايديكم عن الإسلام .. وكفاكم اساءه للدين باسم الدين، وتعلموا من الاعاجم كيف يكون الوصول إلى الحكم والسلطه ... (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم)، (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) وبعد .. فاننى اطلب المعذرة من الاخوة القراء لكبر حجم الدراسه ولكن ما دفعنى إلى ذلك يمكن تلخيصه في النقاط التالية: 1 - شيوع التبريرات المصلحية في تفسير اسباب التحيز البريطانى والأمريكي لاسرائيل بحيث يمكن القول ان كافة الكتابات السياسية العربية والاجنبية تركز على المصالح ونفوذ اللوبي الصهيونى وغيرها من الامور، وعندما يظهر كتاب يريد ان يدحض هذه المقولات لابد له من الاثيان بالعديد من الادلة والبراهين والشواهد لتأييد وجهة نظره، لاننا هنا في مرحلة التأصيل لفكر جديد. فالخوض في افكار جديده وطرحها يتطلب مزيدا من التركيز والتوضيح في ظل سيطره وجهه نظر معينه لدى النخب والرأى العام. 2 - لا يمكن الحديث عن دور العامل الدينى في توجيه الساسة الأمريكية في عصرنا الحاضر والفكرة العامه لدى المفكرين وعامة الناس ان الغرب برمته علمانى لا مكان للدين في حياته. وهذا يضع عبأ كبير لدحض هذه الرؤية واثبات دور الدين في تشكيل الثقافة الغربية نتيجه للاصلاح الدينى. وهذا ما جعلنى اشير إلى مبادئ حركة الاصلاح واثرها على الفكر الانجلوسكسونى البريطانى

والامريكى (بالرغم من اننى ارى ان هناك قسور من جانبي في اعطاء هذه الامر حقه، واعمل الآن على اعداد دراسه خاصة عن دور القيم الدينية المستمدة من حركة الاصلاح الدينى في النهضة الغربية). 3 - عند الحديث عن حرب صليبية كان يجب ان اميز بين ثلاث طوائف مسيحية رئيسية (الكاثوليك- الارثوذكس- البروتستانت) ومواقف كل منها مما يجرى على الارض لنصل في النهاية إلى المقصود بالصليبيون الجدد. فبالرغم من ان هناك دراسات حول دور الدين في توجيه السياسه الغربية تجاه الصراع العربي الاسرائيلى الا ان كثيرون لا يفرقون بين مواقف الطوائف المسيحية من الصراع، فيهاجم بعضهم البابا أو المسيحيون العرب لان بوش أو غيره من القساوسه البروتستانت صرح تصريح مؤيد لاسرائيل أو معاد للاسلام. 4 - ظاهرة المسيحية الصهيونية ظاهره قديمه نشأت مع حركة الاصلاح الدينى في القرن الخامس عشر ومرت بمراحل مختلفة كان لابد من توضيحها حتى وصلت إلى ما هى عليه في عصرنا الحاضر. وقد حاولت في هذا الكتاب ان اوضح الجذور العميقة لهذه الظاهرة التى تمتد لفتره اكتر من اربعة قرون، بالاضافة إلى اننى حاولت ربط الواقع المعاش بافكار المسيحية الصهيونية، ووجدت انه من الضرورى وضع خطه لمواجهتها على كافة المستويات. وبالتأكيد فان ذلك يحتاج إلى بيان وتوضيح مما زاد حجم الكتاب لهذه الدرجه. وفي النهاية فاننى لا ادعى لنفسي ميزه أو خصوصيه في تناول هذه الظاهره، بل الفضل كل الفضل يعود لكثير من المفكرين والكتاب الافاضل، الذين اشاروا إلى هذه النقطه أو تلك، فتتبعت خطاهم واجتهدت، واتمنى ان اكون قد وفقت في تعزيز ما وصلوا اليه أو نالى حظ الاضافه أو لفت الانظار لهذه الظاهرة الخطيره وسبل التصدى لها راجيا من المولى عز وجل ان تحصل الفائده المرجوه من هذا الكتاب. والحمد لله في البدء والختام يوسف الطويل غزه- رفح في 19/ 6/2009

قائمة المراجع

قائمة المراجع 1. الاستشراق و ابحاث الصراع لدى اسرائيل - ابراهيم عبد الكريم. -. دار الجليل، 1993. 2. تاريخ سورية ولبنان وفلسطين - فيليب حتي- جبرائيل جبور وكمال يازجي ـ دار الثقافة ـ بيروت ـ 1982 3. 1999 نصر بلا حرب, 1913 _ 1994م - ريتشارد نيكسون - تقديم المشير/ محمد عبد الحليم أبو غزالة. مركز الاهرام, 1989 4. احداث 11 سبتمبر - الاكذوبة الكبرى - محمد صفي - دار الاحمدى للنشر - الطبعة الأولى 2003 5. احكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية ـ الدكتور حامد سلطان- طبعة دار النهضة العربية عام (1968م) القاهرة 6. احمد ديدات بين القاديانية والإسلام - يوسف الطويل- مكتبة مدبولى - الطبعة الأولى - 2002 7. اربع كتب في الماسونية ـ شاهين بك مكاريوس - ط1/ 1994 - مكتبة مدبولي 8. ارض الميعاد والدولة الصليبية ـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال - دار الشروق - ط2 2001

9. اريحا المدينة الملعونة -ماذا يخطط اليهود لفلسطين حتى عام 2000؟ من محمد عزت محمد عارف دار الاعتصام, 1994 10. ازمة الفكر الصهيوني - د. محمد ربيع - المؤسسة العربية للدراسة والنشر 11. اساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى القديم - د. كارم محمود عزيز - دار الحصاد للنشر والتوزيع /دمشق- ط1 1999 12. اساطير بيضاء (كتابة التاريخ والغرب) - روبرت يانج - ترجمة احمد محمود - المجلس الاعلى للثقافة - ط1 2003 13. استهداف العراق - العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية - جيف سيموند - مركز دراسات الوحدة العربية - ط1 2003 14. اسرار وأكاذيب .. عملية "تحرير العراق" وما بعدها ـ ديليب هيرو -ط 1 2004 - الناشر: ناشن بوكس، نيويورك 15. اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود- كتاب اليوم / اخبار اليوم - الطبعة السادسة 16. اسرائيل الكبرى، دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني ـ د. أسعد رزوق - المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 1973 17. اسس علم النفس الاجتماعي- مختار حمزة -- دار البيان العربي/ جده، 1989،. 18. اسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحية ـ عرض وتوثيق هشام آل قطيط - دار المحجة البيضاء - 2003

19. اصول الصهيونية في الدين اليهودي - د. اسماعيل راجي الفاروقي - مكتبة وهبه - ط2 1988 20. اعمدة الاستعمار الأمريكي / مصرع الديمقراطية في العالم الجديد - فيكتور بيرلو و البرت ا. كان - تعريب منير البعلبكى- الطبعة رقم: 1، الناشر: دار العلم للملايين. 21. اغتيال فلسطين - أميل الغوري - دار النيل للطباعة، القاهرة - ط.1 1955م. 22. افلاس النظرية الصهيونية ـ نصر شمالي. منشورات فلسطين المحتلة - ط1، 1981 23. اكذب عليّ: البروباغاندا والتشويه الإعلامي في الحرب على العراق تحرير: ديفد ميلر--ط1 2004 - الناشر: فيرسو, لندن 24. الاجتماع الديني (مفاهيمه النظرية وتطبيقاته العملية) الدكتور / احمد الخشاب 25. الاختيار السيطرة على العالم أم قيادة العالم- زبيغنيو بريجنسكي - ط1 2004 - الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت 26. الارتقاء إلى العالمية (السياسة الخارجية الأمريكية منذ 1938) - ستيفن امبروز - ترجمة نادية الحسيني- مراجعة ا. د. ودودة عبد الرحمن بدران - المكتبة الاكاديمية- ط1 1994 27. الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين - اناتولي اوتكين - ترجمة أنور إبراهيم و محمد الجبلي - المجلس الاعلى للثقافة - ط1 - 2003

28. الاستشراق و ابحاث الصراع لدى اسرائيل / ابراهيم عبد الكريم. دار الجليل، 1993. 29. الاستعمار وفلسطين (إسرائيل مشروع استعماري)، رفيق شاكر النتشة ـ طبعة اوليى 1984 ـ دار الجليل ـ عمان. 30. الإسلام عام 2000 - - د. مراد هوفمان- ترجمة: عادل المعلّم - مكتبة الشروق. 31. الإسلام في الغرب - روجيه جارودى 32. الإسلام و فلسطين - رفيق شاكر النتشة - فلسطين المحلتة، بيروت، الطبعة الثالثة 1981م. 33. الإسلام والغرب والمستقبل - أرنولد توينبي - تعريب الدكتور نبيل صبحي، بيروت- الدار العربية للطباعة والنشر- 1969) 34. الإسلام والمسيحية من التنافس والتصادم إلى الحوار والتفاهم- تأليف اليكسي جورافسكي - ترجمة د. خلف محمد الجراد - ص212 - دار الفكر المعاصر - ط2 2000 35. الإسلام وبنو إسرائيل - الجنرال جواد رفعت اتلخان- ترجمة يوسف وليشاه - الرياض، 1404هـ 36. الاصولية اليهودية في اسرائيل- تأليف اسرائيل شاحاك - نورتون متسفينسكي - ص23 ترجمة ناصر عفيفي - الناشر الكتاب الذهبي مؤسسة روز اليوسق- 2001

37. الامبراطورية الاستباقية (الدليل إلى مملكة بوش) - سول لاند - تقديم جورجمككفرن- تعريب ليلى النابلسي - الحوار الثقافي- ط1 2005 38. الامبراطورية الأمريكية البداية .. والنهاية - منصور عبد الحكيم -دار الكتاب العربي - ط1 2005 39. الانحياز - علاقات أمريكا السرية باسرائيل-ستيفن غرين - مؤسسة الدراسات الفلسطينية- ط2 1992 - القدس 40. الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية- د. احمد لطفي عبد السلام- مكتبة النافذة - ط1 2005 41. الإخطبوط الصهيوني وخيوط المؤامرة لابتلاع فلسطين - تأليف سيناتور جاك تنى - تعليق وترجمة هشام عوض - دار الفضيلة للنشر والتوزيع 42. الإخوة كيندى - أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد - الناشر د. ماجد علاء الدين - ط1 1986 43. الإرهاب والليبراليةـ بول بيرمان ـ الناشر: نورتون، نيويورك ولندن- ط1 2003 44. الإسلام والمسيحية من التنافس والتصادم إلى الحوار والتفاهم ـ إليكس جورافسكى ـ ترجمة د. خلف الجراد - دار الفكر المعاصر/ بيروت- دار الفكر/دمشق- ط2 2000م 45. الإسلام وخرافة المواجهة-الدين والسياسة في الشرق الاوسط- فريد هاليداي- ترجمة محمد مستجير-مكتبة مدبولي-ط1 1997

46. الإمبراطورية الأمريكية ـ كلود جوليان ـ ترجمة ناجى أبو خليل - دار الحقيقة بيروت 1970م 47. الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق- محمد حسنين هيكل- دار الشروق- ط5 2005 48. الإمبراطورية .. كيف صنعت بريطانيا العالم الحديث؟ ـ نيل فيرغسون - ط1 2003 - الناشر: بنغوين, لندن 49. الأرض في الفكر الاجتماعي الصهيوني (1948 - 1973) - كمال الخالدي - الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين - ط1 1984 50. الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية - روجيه جارودى -تقديم محمد حسنين هيكل - دار الشروق- ط1 1998 51. الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي ـ جورجي كنعان - الجزء الأول (الدعوة والدعاة) - بيسان للنشر والتوزيع - ط1 1995 52. الأصولية في العالم العربي - دكمجيان- دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع/ المنصورة، 1989 53. الأيديولوجية الصهيونية (دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة) ـ عبد الوهاب المسيرى المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب, 1982 54. البروتوكولات واليهودية والصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري- ط 1/ 2003 - دار الشروق

55. البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني - د. يوسف الحسن - مركز دراسات الوحدة العربية - ط3 2000 56. التاريخ الاوروبي الحديث من عصر النهضة إلى مؤثمر فينا - د. عبد الحميد البطريق و د. عبد العزيز نوار -دار النهضة العربية للطباعة والنشر 57. التبشير والاستعمار في البلاد الإسلامية - د. مصطفى خالدي، د. عمر فروخ - الطبعة الثالثة - بيروت 1964 58. التجربة والخطأ ـ مذكرات حاييم وايزمان ـ ترجمة محمد الشهابى 59. التحدي الصهيوني ـ جاك دومال وماري لوروا، ـ ترجمة نزيه الحكيم - دار المعلم للملايين، دار الآداب، ط أيار، 1969 60. التضليل الشيطاني - تيري ميسان - دار الوطنية الجديدة - دمشق 2002 61. التلمود والصهيونية ـ د. اسعد رزوق - مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1970، 62. التلمود وتعاليمه وغاياته ـ ظفر الإسلام خان - دار النفائس- ط5 - 1984 63. الثقافة والإمبريالية - ادوارد سعيد ـ تعريب كمال أبو ديب - دار الآداب/ بيروت - ط1 1997 64. الثورة العربية الكبرى في فلسطين ـ 1936ـ1939م (الرواية الإسرائيلية الرسمية) مؤسسة الدراسات الفلسطينية

65. الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب - من قسم العالم إلى فسطاطين - اسعد أبو خليل - ترجمة / ميرفت أبو خليل -دار الآداب للنشر والتوزيع /بيروت - ط1 2003 66. الحرب الصليبية (توايخ حرب ظالمة) - جيمس كارول - ترجمة د. قاسم عبده قاسم - الجزء الثاني - مكتبة الشروق الدولية - ط1 2005 67. الحرب الصليبية .. وقائع حرب ظالمة- الصحافي والكاتب الأمريكي جيمس كارول - نيويورك 2004. 68. الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-ط1 2004 - دار الكتاب العربي- بيروت 69. الحركة الصليبية في العصور الوسطي في مجلدين دكتور سعيد عاشور مكتبة الأنجلو -مصرية- الطبعة الأولى 1963م 70. الحركة الصليبية: حركة مشرقة من تاريخ الجهاد الإسلامي في العصور الوسطى - د. سعيد عاشور- ج1 - القاهرة: دار الشروق، 1992 71. الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري أو عصر النهضة في الإسلام / تأليف آدم متز؛ نقله إلى العربية محمد عبد الهادي أبو ريدة - طبعة بيروت سنة 1967م 72. الحلم والتاريخ - مائتا عام من تاريخ أمريكا _ كلود جوليان - ترجمة نخلة كلاس دار طلاس, 1989

73. الحياة والمؤسسات الأمريكية - دوغلاس ك. ستيفنسون - ترجمة: امل سعيد- الدار الاهلية للنشر والتوزيع - ط1 2001 74. الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي/ تأليف اسماعيل الكيلاني. - ط.2. - بيروت، لبنان: المكتب الإسلامي، 1994. 75. الدبلوماسية الأمريكية - تأليف: جورج. ف. كنان - ترجمة عبد اللاله الملاح - دار دمشق- ط2 1989 76. الدعاية الصهيونية في الولايات المتحدة - فايز صايغ 77. الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر- شركة الحوار الثقافي- ط1 2003 78. الدولة المارقة - حكم القوة في الشؤون الدولية ـ نعوم تشومسكي - ترجمة محمود على عيسى - دار الكتاب العربي - نينوى للدراسات والنشر - ط1 2003 79. الدولة المارقة ـ دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد- المجلس الاعلى للثقافة - ط1 2002 80. الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - دار النفائس- ط1 2003 81. الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة- دار الفارس للنشر والتوزيع - ط1 2001 82. الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ مايكل كوربت وجوليا كوربت، ـ ترجمه د. عصام فايز، ود. ناهد وصفي - مكتبة الشروق الدولية - ط2 2002

83. الدين والسياسة في الولايات المتحدة ج2 - مايكل كوربت - جوليا كوربت - ترجمة د. زين نجاى، مهندس نشأت جعفر- مكتبة الشروق الدولية - ط2 2002 84. الرد الجميل لألوهية عيسى بصريح الإنجيل - الإمام أبو حامد الغزالى - دراسة وتحقيق د. محمد عبد الله الشرقاوى- مكتبة الزهراء 85. الرئيس كينيدي .. ملامح القوة ـ ريتشارد ريفز ـ 86. السحر في التوراة والعهد القديم - شفيق مقار- رياض الريس للكتب والنشر - لندن - قبرص - ط1 1990 87. السلام الخادع: من مؤتمر مدريد إلى انتفاضة الاقصى 1991 - 2000 م/ تأليف محمد علي عمر الفرا- ط.1. - عمان: دار مجدلاوي، 2001. 88. الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية - دكتور رشاد الشامي - سلسلة عالم المعرفة - الكويت. يونيو 1986 89. الشخصية اليهودية في الأدب الإنجليزي ـ د. هاني الراهب- المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 1979 90. الصرح: ارتقاء وسقوط الإمبراطورية الأميركية: نايل فيرغسون - ط1 2004 - الناشر: ألن لين، بريطانيا 91. الصليب والهلال - محمد عارف زكاء الله- الناشر: ذي آذرز، كوالالمبور- ط1 2004

92. الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكيا الخارجية 1942ـ 1947 ـ ريتشارد ستيفن 0 - ترجمة جورج نجيب. بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 93. الصهيونية العالمية ـ جمال الدين الرماوى- مكتبة الوعي العربي 94. الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك - دار النفائس - ط3 2000 95. الصهيونية المسيحية (1891 - 1948) - بول مركلي- ترجمة: فاضل جتكر- ط 2003 سوريا - قدمس للنشر والتوزيع 96. الصهيونية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان- بيسان للنشر و التوزيع، بيروت ط1، تموز 1995. 97. الصهيونية تحرف الأناجيل / سهيل التغلبى - مكتبة مجد - ط 1999 98. الصهيونية غير اليهودية: جذورها في التاريخ الغربى/ تأليف ريجينا الشريف؛ ترجمة احمد عبالله عبد العزيز. المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب، 1985م. الدورية: عالم المعرفة؛ 96 99. الصهيونية في الستينات، الفاتيكان واليهود للأستاذ محمود نعناعه- الدار القومية للطباعة والنشر - القاهرة 1994. 100. الصهيونية و إسرائيل وآسيا- ج. هـ. جانسن - مركز الابحاث، بيروت، 1972م. 101. الصهيونية والصراع الطبقي ـ د. صادق جلال العظم - دار العودة، بيروت، ط 1، 1975

102. الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ - عبد الوهاب المسرى - دار الشروق - ط1 1997 103. الطريق إلى حرب الخليج (من موهافى إلى الكويت) ـ محمد مظفر الأدهمى- الاهلية للنشر والتوزيع- ط1 1997 104. العالمية الإسلامية الثانية (جدلية الغيب والانسان والطبيعة) ـ محمد أبو القاسم حاج حمد - دار الميسرة. 105. العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم - تأليف: د. بشار خليف - دار الرائي للدراسات والترجمة - دمشق 2004. 106. العدوان الإسرائيلي القديم، والعدوان الإسرائيلي الحديث على فلسطين ـ محمد عزة دروزة - دار الكلمة للنشر، 1979، 107. العراق أولاً - حرب إسرائيل الخاطفة على نفط الشرق الأوسط (عملية شيخينا) - جوفيالزـ ترجمة مروان سعد الدين- الاوائل للنشر والتوزيع/ دمشق- ط1 2003 108. العراق تحت الحصار: الأثر المميت للعقوبات والحرب - تأليف ـ أنتوني آرنوف - ط1 2000 - الناشر: بلوتو برس- لندن 109. العراق .. تقرير من الداخل ـ ديليب هيرو - كامبردج بوك ريفيوز -الطبعة: الأولى 2003 - الناشر: London, Granta Books

110. العراق .. تقرير من الداخل ـ ديليب هيرو -الناشر: ناشن بوكس، نيويورك- ط1 2004 111. العرب الساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل ـ د. احمد داوود - طباعة دار المستقبل /دمشق- ط1 1991 112. العرب النصارى (عرض تاريخي) - حسين العودات - الاهالى للطباعة والنشر والتوزيع - ط1 1992 113. العرب واليهود في التاريخ: حقائق تاريخية تظهرها المكتشفات الآثارية / بقلم د. أحمد سوسة - (سلسلة الكتب الحرية؛ 14) - بغداد: وزارة الاعلام، مديرية الثقافة العامة،1972 114. العقد الاجتماعي، أو، مبادئ الحقوق السياسية/ تأليف جان جاك روسو؛ ترجمة عادل زعيتر. - ط.2. - بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1995. 115. العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال- مكتبة مدبولي- ط1 1997 116. العلاقات العربية الأمريكية والضغط الصهيوني ـ اندرو كارفلى ـ ترجمة أسعد حليم - الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1970 117. العنصرية الصهيونية اليهودية والبعد الايديولوجى الديني ـ على حسن طه- دار الهادي /بيروث- ط1 2002

118. الغارة على العالم الإسلامي- المبشر شاتيلا - ترجمة محب الدين الخطيب - دار الفتح، القاهرة 119. الغزو الفكري وأثره في المجتمع الإسلامى المعاصرـ على عبد الحليم - دار المنار- القاهرة 1989 120. الفردوس والقوة .. أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديدـ روبرت كيغان -الناشر: اتلانتيك بوكس، لندن، 2003 121. الفيروس الأميركي .. فضح الإمبرطورية الأميركية- تحرير: جون بيلامي فوستر وروبرت دبليو ماكشنسي--ط1 2004 - الناشر: بلوتو برس, لندن 122. القاعدة .. الإخوة الإرهابيون -المؤلف: بول. إل. ويليامس - ط1 2002 - الناشر: ألفا بوكس، بيرسون أديوكيشينال 123. القدس في التاريخ- فرانكين المستشرق الهولندي تحرير وترجمة كامل جميل العسلي.- عمان (الأردن) الجامعة الأردنية، 1992م. 124. القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني ـ مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عام 1973 125. القيم الأمريكية تتعرض للخطر ـ تأليف: جيمي كارتر - الناشر: سايمون وشوستر - ط1 2005 126. الكامل في التاريخ - ابن الأثير ـ حوادث سنة 617 وما بعدها ج9ص329ـ387 - - دار الكتاب العربي للطباعة والنشر والتوزيع

127. الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني - الأب مايكل برير - ترجمة احمد الجمل و زياد منى - دار قدمس للنشر والتوزيع - ط3 2004 128. الكل أميركيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 ـ جون ماري كولمباني - ط1 2002 - الناشر: فايار - باريس 129. الكنز المرصوص في فضائح التلموذ - د. محمد عبد الله الشرقاوي - مكتبة الوعي الإسلامي 130. الماسونية في العراء ـ محمد على الزعبي - دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع 1980 131. الماسونية في المنطقة 245 ـ أبو إسلام أحمد عبد الله - القاهرة، دار الزهراء للإعلام العربي، ط 1 - 1986م 132. الماسونية وموقف الإسلام منها - د. احمد الرحيلي- دار العاصمة للنشر والتوزيع- النشرة الأولى 1415هـ 133. المجتمع الأميركي بعد 11 سبتمبر ـ المؤلف: صوفي بودي جندرو - ط1 2002 - الناشر: مطبوعات [المؤسسة الوطنية للعلوم السياسية] 134. المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية - الجزء الأول حتى 1877 - د. محمد النيرب - دار الثقافة الجديدة - ط1 1997 135. المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي- السيد محمد حسين فضل الله - ط1 2003 - رياض الريس للكتب والنشر، بيروت

136. المسلمون في أمريكا - المحرر ايفون يزبك حداد - مركز الاهرام للترجمة والنشر- ط1 1994 137. المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ط 1/ 2004 - دار الطليعة - بيروت 138. المسيح المسلم - د. طريف الخالدي- الطبعة الأولى- 2001م الناشر: مطبعة جامعة هارفارد 139. المسيح اليهودي - رضا هلال - مكتبة الشروق الدولية 140. المسيحية في الإسلام - القمص ابراهيم لوقا - THE GOOD WAY. RIKON SWITZERLAND- طبعه رابعه منقحه 141. المسيحية والإسلام على ارض مصر - د. وليم سليمان قلادة - دار الحرية للصحافة والطباعة والنشر - ط1 1986. 142. المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين - ط 3/ 2002 - دار الفكر المعاصر / بيروت 143. المسيحية والتوراة، بحث في الجذور الدينية للصراع في الشرق الأوسط،- شفيق مقار- رياض الريس للكتب والنشر، لندن، إنجلترا، ط1، 1992. 144. المسيحية والحضارة العربية - الاب الدكتور جورج شحاته قنواتي- المؤسسة العربية للدراسات والنشر - الطبعة الثانية 1984

145. المسيخ الدجال (قراءة سياسية في اصول الديانات الكبرى ـ سعيد أيوب- دار الاعتصام- ط1 1989 146. المعتقدات الكنعانية - د. خزعل الماجدي- دار الشروق للنشر والتوزيع - ط1 - 2001 147. المفردات في غريب القرآن. الراغب الأصفهاني: ت: محمد سيد كيلاني. دار المعرفة ـ بيروت 148. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لـ د. جواد على - دار الساقي -الطبعة: الطبعة الرابعة / 2001م 149. المفهوم المادي للمسألة اليهودية- ابراهام ليون - دار الطليعة، بيروت، 1970م، 150. المنظمات الصهيونية المسيحية - احمد تهامي سلطان - ط1 - مكتبة التراث الإسلامي 151. الموجز في تاريخ فلسطين - الياس شوفاني - مؤسسة الدراسات الفلسطينية-1998. 152. الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري - ط1 - دار الشروق 153. المؤامرة الكبرى - مخطط تقسيم الوطن العربي من بعد العراق؟ محمد ابراهيم بسيوني- دار الكتاب العربي - ط1 2004

154. المؤامرة الكبرى، اغتيال فلسطين ـ أميل الغورى ـ ص 150 - دار النيل للطباعة، القاهرة - ط.1 1955م .. 155. المؤثرات الدينية في توجيه السياسة الغربية المعاصرة - محمود سلطان 156. الناصرية (دراسة في فكر جمال عبد الناص) ـ تأليف عبد الله إمام - تقديم ضياء الدين داود- مطبوعات دار الشعب 1971 157. النبوءة والسياسة (الانجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية) - جريس هالسيل - ترجمة محمد السماك- دار الشروق - ط4 1998 158. النبوءة والسياسة (الانجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية) - جريس هالسيل - ترجمة محمد السماك- دار الشروق - ط4 1998 159. النشاط السري اليهودي في الفكر والممارسة - غازي محمد فرج - دار النفائس- ط1 1990 160. النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه (1980 ـ 1918م) - د. خيرية قاسمية -م. ت. ف، مركز الابحاث، بيروت، 1873م 161. النظرية الاجتماعية لمعاصرة ـ دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع ـ د. على ليله - دار المعارف - ط1 1981 162. الهرطقة في الغرب ـ د. رمسيس عوض -سينا للنشر /القاهرة- الانتشار العربي /بيروت- ط1 1997

163. الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم- نعوم تشومسكي -ترجمة سامي الكعكي-دار الكتاب العربي 2004. 164. الوجه الآخر .. العلاقات السرية بين النازية والصهيونية ـ محمود عباس- ط1984 - دار ابن رشد عمان. 165. الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين- نصير عاروري - ط1 2003 166. الولايات المتحدة من الخيمة إلى الإمبراطورية - إعداد ديب على حسن - مراجعة وتدقيق اسماعيل الكردي- الناشر: الأوائل للنشر والتوزيع - ط1 2002 167. الولايات المتحدة والدول العربية ـ ا. ا. اوسيبوف ـ ترجمة محمود شفيق الشعبان. 168. الولايات المتحدة والفلسطينيون بين الاستيعاب والتصفية ـ د. محمد شديد ـ ترجمة كوكب الريس - المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981 169. الولايات المتحدة وإسرائيل ـ برنارد ريتش ـ ترجمة مصطفى كمال - الطبعة الأولى، مؤسسة البيان، دبي 170. اليد الخفية (دراسات في الحركات اليهودية الهدامة والسرية) - د. عبد الوهاب المسيرى - ط دار الشروق 1998م 171. اليهودي العالمي (المشكلة الأولى التي تواجه الاعالم) ـ هنري فورد ـ تعريب / خيري حماد- دار الافاق الجديدة, 1986

172. امبراطورية الحرية - انطونيو بلتران هرنانديزـ ترجمة احمد توفيق حيدر- دار الفارابي/ بيروت - ط1 2004 173. امبراطورية الشرالجديدة ـ عبد الحي زلوم - المؤسسة العربية للتوزيع والنشر- ط1 2003 174. امبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة -ألان جوكس- الطبعة: الأولى 2002 - الناشر: لا ديكوفارت - باريس 175. أمريكا التوتاليتارية: الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ - تأليف ميشال بوغنون مرردان - ترجمة خليل احمد خليل- ط.1. - بيروت، لبنان: دار الساقي، 2002. 176. أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية- ط1 2002 177. أمريكا واسرائيل علاقة حميمه (التورط الأمريكي مع اسرائيل منذ العام 1947 حتى الآن) - جورج و. بول، دوغلاس ب. بول - ترجمة د. محمد زكريا اسماعيل - دار بيسان للنشر والتوزيع - ط1 1994 178. أمريكا والعالم - د. حسين فوزي النجار - مكتبة مدبولي 1986 179. أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى - تقديم كامل زهيري- تعريب عمرو زهيري - دار الشروق- ط3 2002 180. أمريكيا والفرصة التاريخية - ريتشارد نيكسون - ترجمة د. محمد زكريا إسماعيل - دمشق, سورية: دار حسان, 1983

181. اميركا على مفترق الطرق- فرانسيس فوكوياما - الناشر: يال ينيفرسيتي برس/نيويورك- 2006 182. انجلز .. مقدمة قصيرة جداً- تيريل كارفر- ط1 2003 - الناشر اكسفورد 183. اندماج: دراسة في العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية و اسرائيل - د. يوسف الحسن .. القاهرة: دار المستقبل العربى، 1986. 184. انقلاب في السياسة الأمريكية - إعادة ترتيب الشرق الأوسط لصالح إسرائيل- عاطف الغمري- المكتب المصري الحديث- ط1 2004 185. اني أتهم ـ روجيه ديلورم ـ ترجمة نخله كلاس- دار الجرمق, 1985. 186. اين الخطأ؟ .. التأثير الغربي واستجابة المسلمين- برنارد لويس- ترجمة: محمد عناني-تقديم ودراسة: رؤوف عباس- القاهرة: دار سطور، 2003 187. إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود - كتاب اليوم / اخبار اليوم - الطبعة السادسة 188. إسرائيل الكبرى، دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني ـ د. أسعد رزوق - المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 1973 189. تاريخ البشرية ـ أرنولد توينبي ـ ت: نقولا زيادة ـ دار الأهلية بيروت ـ 1982 190. أزمة الفكر الصهيوني - د. محمد ربيع - المؤسسة العربية للدراسة والنشر 191. أسس الدعوة وآداب الدعاة - د. محمد الوكيل- دار الوفاء للطباعة والنشر

192. بابل والكتاب المقدس - جان بوتيرو - ت: روز مخلوف - دار كنعان- دمشق 2000. 193. باسم أسامة بن لادن: رولان جاكار - ط1 2001 - الناشر: Paris, Jean Picollec éditeur 194. بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأمريكي ـ المؤلف: إمانيول طود - ط1 2002 - الناشر: غاليمار - باريس 195. بل هي حرب على الإسلام - الدكتور محمد عباس - مكتبة مدبولي - 2002 196. بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب - محمود شكري الألوسي المحقق: محمد بهجة الأثري الناشر: دار الكتب العلمية 197. بنيامين نتنياهو - ارهابي تحت الاضواء - مكتبة مدبولي - ط1 1996 198. بوتوكلات حكماء صهيون ـ ترجمة محمد خليفة التونسي - تقديم الاستاذ / عباس العقاد- دار الكتاب العربي 199. بوش في الحرب ـ بوب وودوارد - الناشر (سايمون وشوستر) - أكتوبر 2006 200. بوش في بابل (إعادة استعمار العراق) - طارق على- ترجمة د. فاطمة نصر - دار سطور- ط1 2004 201. بين أخلاقيات العرب وذهنيات الغرب- إبراهيم القادري بوتشيش - رؤية للنشر والتوزيع, القاهرة-الطبعة: الأولى/2005

202. بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة- دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران-الجزائر - الطبعة: الأولى 2004 203. تاجر البندقية - وليم شكسبير- ترجمة غازي جمال- دار القلم بيروت - ط1 1978 204. تاريخ الإرهاب الأمريكي (الكوكلاكس كلان) - ر. ف. إيفانوف ـ أي. ف. ليسينفسكي- ترجمةغسان رسلان.- اللاذقية: دار الحوار، 1983 205. تاريخ الحروب الصليبية 1095 - 1291 - د. محمود سعيد عمران- دار النهضة العربية للطباعة والنشر /بيروت- ط2 1999 206. تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه - عويدات, 1982 207. تاريخ الحملة إلى القدس- فوشيه الشارتري - ترجمة د. زياد العسلي - دار الشروق - ط1 1990 208. تاريخ الحياة الثقافية في أميركا يرويه لويس بيري ـ ترجمة أحمد العناني ـ مركز الكتاب الاردني- 1990 209. تاريخ الصهيونية- صبري جريس - الجزء الأول - م. ت. ف، مركز الابحاث، بيروت 1981م. 210. تاريخ العرب- فيليب حتي، د. ادوارد جرجي - د. جبرائيل جبور -دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع، بيروت، ط3، 1961م.

211. تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - د. اسرائيل ولفنستون - مكتبة النافذة - الطبعة الأولى 2006 212. تاريخ اوروبا في العصور الوسطى - د. سعيد عبد الفتاح عاشور- دار النهضة العربية - بيروت 213. تاريخ بوش السري الاسود ورجال البيت الابيض- انيس الدغيدي- دار الكتاب العربي- ط1 2004 214. ترهات إمبريالية-المؤلف: مجهول -عرض/ كامبردج بوك ريفيوز- ط1 2004 - الناشر: واشنطن: بريسيز إنك 215. تيودور هرتزل عراب الحركة الصهيونية ـ مؤسسة الدراسات الفلسطينية 216. جذور البلاء ـ عبد الله التل- المكتب الإسلامى, 1978. 217. جريمة أمريكيا في الخليج ـ الأسرار الكاملة ـ محمود بكرى ـ ط1 1998 - الناشر محمد بكري 218. جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج - الشيخ محمد الغزالى - نهضة مصر 1996 219. جورج سوروس .. و العولمة/ تأليف جورج سوروس؛ تعريب هشام الدجاني. - ط.1. - الرياض، مكتبة العبيكان، 2003. 220. العصور القديمة ـ جيمس هنري بريستد ـ ت: داوود قربان ـ مؤسسة عز الدين ـ بيروت 1983

221. حرب الخليج (الملف السري) بيار سالنجر، اريك لوران ـ دار اذار للتوزيع والنشر/بيروت- ط1 1991 222. حرب الخليج أوهام القوة والنصر ـمحمد حسنين هيكل- مركز الاهرام, 1992 223. حرب آل بوش (أسرار النزاع التي لا يمكن الأعتراف بها) - تأليف/ أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش - ط.1. - بيروت، لبنان: دار الخيال، 2003. 224. حضارة العالم الجديد من عصر الاستكشاف إلى عصر الذرة- ارل شينك ـ ترجمة فؤاد جميل- مطبعة شفيق / بغذاد - ط1 1958 225. حضارة العرب - غوستاف لوبون- عادل زعيتر - د. ن, 1969 226. حق التضحية بالآخر (أمريكا والابادات الجماعية ـ تأليف منير العكش- رياض الريس للكتب والنشر- ط1 2002 227. حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر - احمد عبد الوهاب- ط1. مكتبة وهبة، 1401هـ. 228. حكايات الهنود الأمريكيين (الحمر) أساطيرهم: حيل البقاء والمقاومة ـ فلاديمير هلباتش ترجمة: موسى الحالول - ومراجعة د. زبيدة أشكناني - الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2002

229. حكمة الغرب (عرض تاريخي للفلسفة لبغربية في اطارها الاجتماعي والسياسي - برتراند راسل - فؤاد زكريا- المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب, كناب رقم 62 - 1983 230. حوار الإسلام والغرب- د. عبد الله أبو عزة - دار المأمون للنشر والتوزيع في عمان. - ط1 2005 231. حياة السيد المسيح - خير الله طلفاح - دار الحرية للطباعة/ بغذاد 232. حياة لوثر زعيم الإصلاح ـ ا. موريس - ترجمة القس باقي صدقه- دار الثقافة المسيحية/ القاهرة - ط2 233. خروج العرب من التاريخ- د. فوزي منصور- ترجمة ظريف عبد الله و كمال السيد- مكتبة مدبولي - ط1 1993 234. خطة غزو العراق (عشرة أسباب لمناهضة الحرب على العراق) - ميلان راي ترجمة: حسن الحسن- بيروت: دار الكتاب العربي، 2003م 235. خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم- دار الفارابي - ط1 2004 236. خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق ـ د. صالح زهر الدين - المركز العربي للابحاث والثوثيق- ط1 1999 237. خيارات صعبة ـ مذكرات سايروس فانس- المركز العربى للمعلومات, 1984

238. دراسات في تاريخ العرب المعاصر - د. محمد على القوزي - دار النهضة العربية للطباعه والنشر - ط 1 1999 239. دفاع عن الإنسان (دراسة نظرية و تطبيقية في النماذج المركبة) ـ د. عبد الوهاب المسيري - دار الشروق، القاهرة 2003. 240. دول محور الشر الإرهابية - أمريكا .. بريطانيا .. إسرائيل ـ محمد عبد الحميد الكفري - دار قتيبة للطباعة والنشر- ط1 2003 241. ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ - جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجار-الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي 242. رب الزمان - سيد محمود القمني - مكتبة مدبولى الصغير - ط1 1996 243. رجال بيض أغبياء ـ المؤلف ـ مايكل مور - الدار العربية للعلوم 244. رد على التوراة - نذرة اليازجي -دار طلاس- ط3 1990 245. رسائل حضارية في مواجهة اليهوديةـ الأب فوتيوس خليل - العربي للنشر والطباعة والتوزيع - ط2 246. رقعة الشطرنج العظمى: التفوق الاميركي - زبيغنييف بريجنسكي - ترجمة سليم ابراهام. -دار علاء الدين سوريا- ط1 2001 247. رؤية اسرائيلية للحروب الصليبية: د. قاسم عبده قاسم - دار الموقف العربي، 1983.

248. رؤية دينية للدولة الإسرائيلية - محمد حسن مي - دار الفرقان/ عمان - 1985 249. رؤية لتغيير أمريكا (بالاهتمام بالناس اولا) - بل كلينتون - آل جور -مركز الاهرام للترجمة والنشر - الطبعة الأولى 1992 250. ريغان الرجل والرئيس ـ تأليف مجموعة من الصحفيين الأمريكيين- من سميث، هيدريك- الدار العربية للموسوعات- ط1 1982 251. زعماء ودماء - ياسر حسين- التحدي للنشر والاعلام - ط1 1997 252. زلزال في أرض الشقاق: العراق 1915 - 2015 - كمال ديب؛ تقديم جورج قرم. - ط.1 - بيروت، لبنان: دار الفارابي، 2003. 253. ساعتان هزتا العالم: 11 أيلول */ تأليف فريد هاليداي؛ ترجمة عبد الاله النعيمي. - ط.1. - بيروت، دار الساقي، 2002. - 254. سفر الموت .. من أفغانستان إلى العراق (وثائق الخارجية الأميركية) - محمود المراغي-ط1 2003 - دار الشروق، القاهرة 255. سلسلة مقارنة الأديان (المسيحية) ـ د. أحمد شلبي- القاهرة, مصر: مكتبة النهضة المصرية, 1979 256. سلسلة مقارنة الأديان (اليهودية) - د. احمد شلبي - القاهرة, مصر: مكتبة النهضة المصرية, 1979

257. سلسلة نظرات في إشكاليات التوراة - الكتاب الثاني -أفكار وأسرارفي الأسفار - د. عيسى بن ضيف الله حداد - التسجيل وزارة الإعلام- دمشق - 2005 258. شهود يهوه - بين برج المراقبة الأمريكي وقاعة التلموذ اليهودي - حسين عمر حماده - دار قتيبه 1990 259. صدام الحضارات - صامويل هنتنجتون -ترجمة طلعت الشايب ـ تقديم د. صلاح قنصوه - الناشر: سطور- 1998 260. صراع اليهودية مع القومية الصهيونية - د. عبد الله عبد الدائم- دار الطليعة, 2000 261. صلاة الجواسيس - عادل حمودة- الفرسان للنشر - ط11 2003 262. صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - دار النفائس - ط1 2003 263. صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على - دار التضامن / بيروت - ط1 1999 264. ضد كل الأعداء .. رؤية من داخل الحرب الأميركية ضد الإرهاب ريتشارد كلارك - ط1 2004 - الناشر: فري برس، الولايات المتحدة 265. عاصفة الصحراء - أسرار البيت الأبيض - الجزء الثاني من الملف السري لحرب الخليج - اريك لوران- ترجمة محمد مستجير - ط1 266. عالم بوش السري: الديانة و المعتقدات الأعمال و الشبكات الخفية - اريك لوران - ترجمة سوزان قازان. - ط.1. - بيروت، لبنان: دار الخيال، 2003.

267. عقد من القرارات، السياسة الأميركية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي- وليم كوانت - ترجمة عبد الكريم ناصيف مكتب الخدمات الطباعية دمشق (1984 268. عقيدة جورج دبليو بوش ـ ستيفن مانسفيلد -عرض/ علاء بيومي -ط1 2004 - الناشر: جا. بي. تارشر, أميركا 269. على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيل ـ حمدان حمدان- بيسان للنشر والتوزيع- ط1 2000 270. عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ احمد حجازي السقا - دار الكتاب العربي / دمشق - القاهرة - ط2 2003 271. غسل الدماغ - الدكتور فخرى محمد صالح الدباغ- دار الطليعة. 272. فتح أمريكا (مسألة الآخر) -تزفيتان تودوروف - ترجمة بشير السباعي- تقديم فريال جبوري غزول- الناشر: دار العالم الثالث- ط2 2003 273. فتوح البلدان-: أبي الحسن أحمد بن جابر البلاذري - دار الكتب العلمية 274. فرْطُ الإرهاب: الحرب الجديدة تأليف/ فرانسوا هايزبور ومؤسسة البحث الإستراتيجي- ط1 2001 وديل جاكوب-باريس 275. فرنسا ضد الإمبراطوريةـ باسكال بونيفاس ـ- ط1 2003 - الناشر: روبير لافون - باريس 276. فقاعة التفوق الأميركي ـ جورج سورس - عرض/ كامبردج بوك ريفيوز- ط1 2004 - الناشر: ويدندفيلد ونيكولسن، لندن

277. فقه السنة ـ السيد سابق - دار الكاتب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1969 م 278. فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة (التاريخ السياسي من عهد الكنعانيين حتى القرن) ـ بيان نويهض الحوت - دار الاستقلال,- ط1 1991 279. فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - طبعة 1991 280. فلسطين الفكر والكلمة - د. محمود السمرة - الدار المتحدة للنشر، بيروت، 1974 م. 281. فلسطين في ضوء الحق والعدل ـ هنري كتن ـ ترجمة وديع فلسطين- معهد البحوث والدراسات العربية، 1970 282. فلسطين من الاسكندر إلى الفتح العربي الإسلامي- د. نقولا زيادة-الموسوعة الفلسطينية، المجلد الثاني بيروت،1990. 283. فلسطين من أقدم العصور إلى القرن الرابع قبل الميلاد.- د. معاوية ابراهيم. -الموسوعة الفلسطينية، المجلد الثاني، بيروت،1990. 284. في الخطاب والمصطلح الصهيوني (دراسة نظرية وتطبيقية) - د. عبد الوهاب المسيري - دار الشروق- ط1 2003 285. في انتظار البرابرة - ج. م. كوتزي - ترجمة ابتسام عبد الله - المركز الثقافي العربي / الدار البيضاء- ط2 2004

286. في ظل الصليب والهلال: اليهود في العصور الوسطى- مارك كوهين- مراجعة بيآته هنريشس - ترجمة عبد اللطيف شعيب - دار نشر بيك، ميونيخ مارس/آذار 2005 - حقوق الطبع قنطرة 2005 287. قبل الرحيل (روايه) - محمد جاد الحق- اتحاد الكتاب العرب 1997 288. قبل أن يهدم الأقصى - عبد العزيز مصطفى- دار التوزيع والنشر الإسلامية, 1990 289. قراءة سياسة للتوراة ـ شفيق مقار - رياض الريس للكتب والنشر - لندن-قبرص- ط1 1991 290. قرآن وسيف (من الأفغان .. إلى بن لادن) (من ملفات الإسلام السياسي) - رفعت سيد أحمد - مكتبة مدبولي. 291. قرن أمريكي آخر - نيكولاس غايات - ترجمة رياض حسن- دار الفارابي- ط1 2003 292. قصة الحضارة ـ ول ديورانت - زكي نجيب محمود، , محيى الدين صابر، مقدم دار الجيل, 1988 293. قصة الديانات ـ سليمان مظهر- الوطن العربى, 1984 294. كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي ـ ترجمة وتقديم د. منى طلبه - د. انور مغيث- دار الشروق- ط3 2002

295. لا سكوت بعد ـ اليوم ـ بول فندلى- شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- ط2 2001 296. لاهوت التحرير ـ غسان دمشقية - ط. 1. - دمشق، سوريا: الأهالي للطباعة و النشر 1990. 297. لسان العرب - ابن منظور- دار ومكتبة الهلال 298. لماذا ننشد الأفضل ـ جيمى كارتر 299. لماذا يكره الناس أميركا? تأليف- ضياء الدين سردار وميريل واين ديفز- ط1 2002 - الناشر: آيكون بوكس 300. لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى- ايرينا بونتشينسكايا - دار الحصاد للطباعة والنشر والتوزيع / دمشق- ط1 2002 301. لوك .. مقدمة قصيرة جداًـ تأليف/ جون دون 302. ما الحروب الصليبية - جوناثان ريلي سميث- ترجمة د. محمد الشاعر- دار الامين للنشر والتوزيع- ط1 1999 303. ما بعد اسرائيل - بداية التوراة ونهاية الصهيونية - احمد المسلماني- ط1 2003 - دار ميريت، القاهرة 304. ما بعد اسرائيل - بداية التوراة ونهاية الصهيونية - احمد المسلماني- ميريت للنشر القاهرة- ط1 2003

305. ما بعد الامبراطورية: دراسة في تفكك النظام الاميركي/ تأليف ايمانويل تود؛ ترجمة محمد زكريا إسماعيل. - ط.1. - بيروت، لبنان: دار الساقي، 2003. 306. ما وراء 11 سبتمبر (مختارات معارضة) - تحرير فل سكراتون - تعريب د. ابراهيم يحيى الشهابي - راجعه وفيق زيتون- الحوار الثقافي - ط1 2004 307. ماهية الحروب الصليبية-د-قاسم عبده قاسم -كتاب عالم المعرفة الكويت 308. مائة سؤال عن الإسلام ـ الشيخ محمد الغزالي - دار ثابت. القاهرة. ط الخامسة 309. مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي و الخلافة الراشدة - جمعها و حققها حميد الله الحيدرابادي - طبعة القاهرة 1956 310. محاكمة هنري كيسنجر.- كريستوفر هيتشنز-.ط 1 2001 - الناشر: فيرسو، لندن- بريطانيا 311. مختارات من الفكر الأمريكي/ تحرير دايان رافيتش ... [وآخرون]؛ ترجمة نمير مظفر - ط.1. - الأردن: دار الفارس، 1998. 312. مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل- دار الفكر بدمشق- ط1 2003 313. مسألة الهوية (العروبة والإسلام. والغرب) - د. محمد عابد الجابري مركز دراسات الوحدة العربية/1997 م 314. مسيحية بلا مسيح - د. كامل سعفان - دار الفضيلة

315. معجم بلدان فلسطين ـ محمد شراب - دار المأمون للتراث/ دمشق - ط1 1987 316. معركة آخر الزمان ونبوءة المسيح منقذ إسرائيل - باسل حسين - دار الأمين - ط1/ 1993 317. معركة هرمجيدون وتأسيس مملكة الرب في التوراة والإنجيل والقرآن - كارلوتا جيزن ـ مكتبة دار الكتاب العربي بالقاهرة ودمشق سنة 2002 318. معنا أم ضدنا: دراسات في ظاهرة معاداة أميركا عالميا- المحرران: توني جدت ودنيس لاكورن- الناشر: بالغريف ماكميلان، نيويورك - الطبعة: الأولى/ 2005 319. مفارقة القوة الأمريكية: لماذا لا تستطيع القوة العظمى ... / تأليف جوزيف س. ناي؛ تعريب محمد توفيق البجيرمي. - ط.1. - الرياض، السعودية: مكتبة العبيكان، 2003. 320. مقارنة الأديان والاستشراف ـ د. أحمد شلبي ـ مطبوعات معهد الدراسات الإسلامية. 321. مكان تحت الشمس - بنيامين نتنياهو - ترجمة محمد الدويري مراجعة كلثوم السعدي- دار الجليل للنشر - ط2 1996 322. من الثروة إلى القوة - الجذور الفريدة لدور أمريكا العالمي - فريد زكريا - ترجمة رضا خليفة - مركز الاهرام للترجمة والنشر ط1 1999 323. من أوراق واشنطن ـ د. يوسف الحسن. دار المستقبل العربى, ط1 1986

324. من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية: صموئيل هنتنغتون - ط1 2004 - الناشر: سيمون آند سيشتر - الولايات المتحدة 325. من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل - المصرية للنشر العربي والدولي- ط.2 2002 326. من هو اليهودي - اسحق دويتشر - ترجمة نجاة قصاب حسن- دار العروبة - سورية 1967. 327. من يجرؤ على الكلام (اللوبى الصهيونى وسياسات اميركا الداخلية والخارجية) ـ بول فندلى- شركة المطبوعات, 1985 328. من يحمى المسيحيين العرب- فكتور سحاب - دار الوحدة,- ط1 1981 329. منطقة الخليج العربي أمام التحدي العقدي - سعيد عبد الله حارب - نشر مكتبة الأمة بدبي ط 1985 330. مواقف من تاريخ الكنيسة - رولاند بينتون ـ ترجمة القس عبد النور ميخائيل- دار الثقافة المسيحية 331. موقع الإسلام في صراع الحضارات و النظام العالمي الجديد - محمد السماك -دار النفائس- ط.2 1999 332. خلفية الصراع بين العرب و الغرب 333. موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية (1897 ـ1909م) - حسان علي الحلاق -الدار الجامعية/ بيروت- ط.2 1980 م

334. ميلاد عالم جديد (فرصة متاحة لقيادة عالمية) بقلم هارلان كليفلاند ـ تقديم روبرت ماكنمارا ـ ترجمة د. جمال زهران - المكتبة الاكاديمية- ط1 2000 335. نانسى ريجان ـ فضيحة في البيت الأبيض كيتى كي - يوسف فكرى, نهال الشريف دار الهلال,1991 336. نحو حرب دينية؟ جدل العصر / روجيه جارودى- دار عطية للطباعة والنشر والتوزيع- ط.2 1997 337. نحو مشروع حضاري نهضوي عربي - تأليف عبد العزيز الدوري وآخرون -الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت. 338. نقد المفهوم التقليدي عن العلمانية - محمود سلطان- القاهرة 1998 339. نهاية التاريخ والإنسان الأخير -فرانسيس فوكوياما- ترجمة مركز الإنماء العربي بإشراف مطاع الصفدي -ترجمة الدكتور فؤاد شاهين والدكتور جميل قاسم ورضا الشايبي بيروت 1993م 340. هذه هي أمريكا - وكالة الإعلام الأمريكية- الولايات المتحدة الأمريكية 341. هكذا يضيع الشرق الاوسط- الفريد ليلينتال - دار العلم للملايين، بيروت 1957م. 342. يد الله (لماذا تضحى الولايات المتحدة بمصالحها من اجل اسرائل؟!) - غريس هالسيل ـ ترجمة محمد السماك - دار الشروق- ط.1 2000

343. يوميات قادة العدو -3 - الفاشية - موشي دايان- ترجمة جوزيف صفير - ص 38 - دار المسيرة، بيروت. 344. يوميات كولن باول ـ بقلم جوزيف بريسكو - الناشر الاهلية للنشر والتوزيع /عمان - توزيع جروس برس 345. يوميات هرتزل، ترجمة هلدا شعبان صايغ - سلسلسة كتب فلسطينية- مركز الأبحاث م. ت. ف- ط 1973 346. تاريخ اوروبا في العصور الوسطى - تأليف: موريس بيشوب - ترجمة على السيد على - المجلس الاعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة- الطبعة الأولى 2005 347. أمريكا المسيحانية (حروب المحافظون الجدد- الان فوشون، دانيال قرنه- ترجمة موريس شربل - دار الجليس -جروس برس طرابلس 2005 348. الحروب الصليبية الثالثة (صلاح الدين وريتشارد- ج2 ترجمة وتعليق حسن حبشي - الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000 349. تراث الإسلام - تصنيف شاخت وبوزورت- ترجمة د. محمد زهير السمهوري، د. حسين مؤنس، د. احسان العمد- ج1 ط2 1988 - سلسلة عالم المعرفة 350. العدو الأمريكي (اصول النزعة الفرنسية المعادية لأمريكا - فليب روجيه - ترجمة بدر الدين عردوكي - المشروع القومي للترجمة عدد816 - ط1 2005

351. المحافظون الجدد والحلم الامبراطوري - موفق صادق العطار - دار الاوائل- دمشق- ط 1 2007 352. المجتمع الاسرائيلى وثقافة الصراع - د. عمر عبد العلى علام - دار العلوم للنشر والتوزيع - ط1 2007 353. ماكين والشرق الأوسط والولاية الثالثة للمحافظين الجدد- المؤلف: علاء بيومي- الناشر: مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، قطر- سلسلة أوراق الجزيرة رقم 5 - الطبعة: الأولى، أغسطس/آب 2008 - الجزيرة نت 354. يهود الجزائر هؤلاء المجهولون - تأليف فوزي سعد الله (جزئين) 355. الصيهونية العدو الحقيقي لليهود - تأليف الباحث والصحفي آلان هارت. (جزئين) 356. 357. الدراسات والمقالات 1. 11 سبتمبر .. سيناريو ما حدث هناك- بقلم كابتن/إسحاق الكوهجي- اسلام اون لاين-8 - 1 - 2002 - http://www.islamonline.net/arabic/science/2002/01/article3.shtml 2. 11 سبتمبر: دعوة للتفكير الحر .. في الوثائق والحقائق والوقائع- بقلم زين العابدين الركابي - الشرق الاوسط - السبت 09 شعبان 1427 هـ 2 سبتمبر 2006 العدد 10140

3. اجراس الخطر .. الحقيقة وراء 11 سبتمبر ج3 - قناة الجزيرة برنامج سرى للغاية- مقدم الحلقة: يسري فودة- تاريخ الحلقة: 22/ 9/2005 4. هل تحتاج أمريكا سياسة خارجية؟ نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين- هنري كيسنجر - إصدار: نيويورك: سايمون أند شوستر 2001 - عرض: مارك بوردمان (كاتب بمجلة إكزكتف إنتلجنس ريفيو).- السويد - حسين النديم- 2001/ 10/18 - إسلام أون لاين- http://www.islamonline.net/arabic/economics/2001/10/article6.shtml 5. اساطير في ثوب ديني وتحالف استراتيجي - رضا محمد حرب - الخليج العدد 8674 6. افق آخر- خيري منصور ـ سانت بوش ـ الخليج ـ 10ـ3ـ2003 م ـ عدد 8695 7. الإسلام .. والغرب .. وإمكانية الحوار -ابراهيم محمد جواد - مجلة النبأ - عدد 39 - 40 - رمضان 1420هـ 8. الإسلام في عيون الإعلام الغربي- سهام بادي - " مجلة رؤى، باريس: العدد 13 خريف 2001. 9. الإسلام والديانات السماوية - د. محمد ظفر الله خان- المصدر: الإسلام والانسان المعاصر http://www.balagh.com/mosoa/mabade/0m01al0t.htm

10. الاصولية المسيحية أصولها ونشأتها ودورها في صنع القرار الأمريكي ـ يوسف الحسن- جريدة الخليج عدد 8674 11. الاقليات المسلمة في الغرب من العزلة إلى الاندماج الفاعل - غالب حسن الشابندر- المصدر: التوحيد/107/ 2001 م 12. الإسلام عدو بديل .. هدف ثابت وصياغات متغيرة! - نبيل شبيب ـ إسلام أون لاين- 12 - 1 - 2001 - http://www.islamonline.net/arabic/politics/2002/01/article9.shtml 13. الأصوات المغيبة والمصلحة القومية الكاذبة- بقلم هوارد زن - جريدة الخليج عدد 9326 تاريخ 30 - 11 - 2004 14. البعد الديني للضربة الأمريكية للعراق وعلاقته بمخطط اسرائيل الكبرى - يوسف الطويل- القدس العربي اكتوبر 1998 15. البوشنية .. سيره يهودية / بقلم شوقي أبو شعيره ـ جريدة الخليج العدد 8609 - 14 ديسمبر 2002م 16. البيت الأبيض: إنجيل على نهر البوتوماك- بقلم كينيث وودوارد - نيوزويك. 17. التزييف الرسمي لحقيقة حادث "ليبرتي- وورد بوسطن /كبير المستشارين في تحقيقات السفينة ليبرتي - جريدة الخليج - 14 - 1 - 2004م

18. التفجيرات الأمريكية: سيناريو مختلف .. لكنه ممكن جدًا - أ. د. أحمد حسن مأمون - موقع -2001/ 09/29 - http://www.islamonline.net/arabic/arts/2001/09/article17.shtml 19. التقرير الألماني /ما حدث هل هو إرهاب، أم انتقام داخلي، أم انقلاب عسكرى- تقرير وليد الشيخ - 19 - 9 - 2001 - المصدر: شبكة المعلومات العربية محيط 20. التلفيق والعدوانية في الايديولوجية الصهيونية -الكاتب: د. فيصل دراج كاتب وناقد فلسطيني ـ دمشق 31 - 3 - 205 - http://www.moqawama.org/_isrzionism.php?filename=20050716105917 21. الحرب العالمية الأخيرة -ما الفرق بين تنظيم القاعدة وطاقم الإدارة الأمريكية- بقلم مالك عثامنة - جريدة المرايا الالكترونية عن الدستور الأردنية 22. الحق التاريخي في فلسطين - موقع مركز المعلومات الوطني الفلسطيني - http://www.pnic.gov.ps/arabic/history/palestine.html#file4 23. الحكومة الأمريكية تصنع الإرهابيين منذ 55 عاما- جورج مونبيوت - صحيفة الجارديان -عرض / إيمان محمد ـ إسلام أون لاين. نت/30ـ10ـ2001م 24. الحنيفية ديانة ابراهيم عليه السلام - بحث وتحقيق: عبد اللطيف زكي أبو هاشم - منبر دنيا الوطن http://www.alwatanvoice.com

25. الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي http://www.science-islam.net/article.php3?id_article=690&lang=ar 26. الحوار بين الديانات: قيم ثقافة السلام -1 - محمد عابد الجابري - http://www.aljabriabed.net/pape16.htm 27. الرجال الثلاثة .. والطريق إلى العراق - بقلم معتز الخطيب/ كاتب وباحث سوري-الشبكة الإسلامية 28. الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 29. الشخصيات الأسطورية في العهد القديم وثالوث عزرا: الوثنية " يهوه " - العنصرية " الشعب المختار " - الاستعمار " الأرض الوعد " (دراسة تحليلية للشخصيات والأحداث) جميل خرطبيل - فلسطين- دراسه منشورة على الانترنت- http://www.aklaam.net/forum/showthread.php?t=11481 30. الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - علاقة المسلمين باليهود - الشيخ يوسف القرضاوي - تاريخ النشر: الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة 31. الصليبيون الجدد ... الحملة الثامنه - يوسف الطويل - سلسة مقالات نشرت في جريدة القدس عام 1993

32. الصهيونية المسيحية .. أصولها ونشأتها د. يوسف الحسن - جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3 م عدد 8672 33. الصهيونية المسيحية مسخرة لخدمة إسرائيل- سمير مرقص الخليج 15/ 2/2 .. 3 عدد8672 34. العبودية الجنوبية والقانون 1619ـ1860"ـ أنيت جوردون ريد ـ جريدة الخليج 27ـ2ـ2003م عدد 8684 35. العلاقة بين الإسلام والغرب وواجب المسلمين في أوروبا- محمد علي التسخيري -مجلة التوحيد/العدد90/ السنة1997م 36. الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- بقلم / يحي أبوزكريا - دراسه منشورة على الانترنت 37. الغزو الفكرى أدواته واهدافه في العالم الإسلامي - يوسف الطويل- سلسلة مقالات نشرت في جريدة الوحدة الاماراتية عام 1987 38. القومية الأمريكية الجديدة ... الحلقة الرابعة - تأليف: اناتول لييفين -عرض: بشير البكر - جريدة الخليج - 30 - 6 - 2005 - العدد 9538 القيم الأمريكية تتعرض للخطر ـ تأليف: جيمي كارتر عرض: عمر عدس ـ جريدة الخليج الإماراتية - عدد 9709 بتاريخ 18ـ12ـ2005 م 39. الكابوس الأمريكي وحلم الخلاص - محب الصالحين - http://www.almotmaiz.net/vb/showthread.php?t=9872

40. الكابوس الأمريكي ـ روبرت دول - عرض غسان العزى- الناشر ف-ال-بي، كيبك -جريدة الخليج 13 يونيو1997 41. الكذبات العشر - بقلم كريستوفر شير -مدير تحرير موقع "الترنيت دوت اورج" والنص منشور في هذا الموقع ـ جريدة الخليج ـ 6 ـ7ـ2003 ـ عدد 8813 42. اللعبة الكبرى .. يعملها الأمريكان ويقع فيها المسلمون! - أورخان محمد علي- اسلام اون لاين-3 - 11 - 2001 - http://www.islamonline.net/arabic/politics/2001/11/article4.shtml 43. المبشرون البروتستانت والنية القاتلة - غريس هالسل - كتاب مترجم نشر في جريدة الشرق الاوسط 44. المستشرقون والإسلام معالجة منهجية خاطئة ـ إبراهيم محمد جواد- مجلة النبأ - عدد 51 - تشرين الثاني 2000 45. المسؤولية عن هجمات سبتمبر في خطابات بن لادن - شاهر احمد- 13 - 9 - 2006 - الجزيرة نت- http://www.aljazeera.net/channel/archive/archive?ArchiveId=337866 46. المسيح يدعوك لتبني مستوطنة ـ محمد عبد العاطي - اسلم اون لاين - http://www.islamonline.net/iol-arabic/dowalia/fan-20/alqawel.asp 47. المسيحيون ملحُ العروبة- محمد خالد - جريدة الخليج- 29 - 11 - 2005 -

48. الميليشيات المسيحية الأمريكية .. هواية القتل اللذيذ - أحمد زين- موقع إسلام أون لاين- 13 - 9 - 2001 - http://www.islamonline.net/arabic/famous/2001/09/article3.shtml 49. اليهود في التراث الديني المسيحي- يوسف الطويل - دراسه نشرت على 5 حلقات في جريدة الخليج. عام 1989 50. اليهود والمسيحيون والمسلمون وحوار الأديان في العصور الوسطى" - بقلم كريستيان هاوك - ترجمة عبد اللطيف شعيب - ق الطبع قنطرة 2005 ماتياس لوتس باخمان والكسندرا فيدورا: دارمشتات 2004. 51. امبراطورية بوش بين قمة الثماني وتفجيرات لندن - بقلم /إميل أمين- جريدة الخليج 14 - 7 - 2005 عدد 9552 52. أمريكا .. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية / إعداد وسام الأسدي جريدة الخليج 27ـ2ـ2003م عدد 8684 53. أمريكا .. ذلك الوجه الآخر! جيف سيمون ونعوم تشومسكى - الشبكة الإسلامية- http://www.islamweb.net/pls/iweb/misc1.Article?vArticle=13700 54. انها حرب على الإسلام- رسالة محمد مهدي عاكف المرشد العام لجماعة الاخوان المسلمين - موقع اخوان اون لاين - 23 - 9 - 2004

55. اوجه التشابه .. والاختلاف ـ د. جورج صبرا جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3 عدد8672 56. اية قيم دينية لحضارة إنسانية؟ - د. عبد المجيد الصغيّر- مؤتمر الدوحة الخامس لحوار الأديان 7 - 9 مايو 2006 57. بالنسبة لبوش .. إنه الإحساس بالتاريخ والمصير- الواشنطن بوست 09/ 03/2003م 58. برنامج سري للغاية - اجراس الخطر .. الحقيقة وراء 11 سبتمبر- تقديم/ يسري فودة- قناة الجزيرة 59. برنامج ما وراء الأحداث-- تدمير حضارة العراق- تقديم احمد منصور- قناة الجزيرة 60. بوش والرب- بقلم "هاوارد فاينمان"- مجلة نيوزويك 10/ 03/2003م 61. بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية/بقلم محمد بن المختار الشنقيطي - الجزيرة نت 21/ 3/2004م 62. بين أخلاقيات العرب وذهنيات الغرب- إبراهيم القادري بوتشيش- عرض/إبراهيم غرايبة- رؤية للنشر والتوزيع, القاهرة-ط.1 2005 - الجزيره نت- حوار الحضارات من خلال رسائل بديع الزمان النورسي 63. تاريخ الحضارة- جيمس هنري برستد - موقع مركز المعلومات الوطني الفلسطيني-

64. تاريخ تطور علاقة المسيحية باليهودية / د. فكتور سحاب - جريدة الخليج عدد 8674 65. تاريخ فلسطين قبل الإسلام -وقفات مع تاريخ صراع الحق والباطل على أرض فلسطين- موقع مركز المعلومات الوطني الفلسطيني - 66. تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي-. نشر المقال باللغة الألمانية في صحيفة فرانكفورتر ألكمانية تسايتونغ بتاريخ 25.10.2003 - - موقع قنطره http://www.qantara.de/webcom/show_softlink.php?wc_c=339 67. تيموتى مكفاي نموذجاً! - لبنى سعيد - موقع إسلام أون لاين 68. جريمة أمريكيا في الخليج ـ الأسرار الكاملة ـ محمود بكرى - الاسبوع العربي 69. جماعة أصولية تسيطر على السياسة الأمريكية / محمد يوسف عدس جريدة الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695 70. حذارِ الحرب الصليبية الجديدة - جورج حاوى- صحيفة السفير -15 أيلول - سبتمبر 2001 71. حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي وعلاقتها بمخطط إسرائيل الكبرى - يوسف الطويل- جريدة الشعب ـ مصر 12/ 10/2001م 72. حنفاء آخرون .. وحقيقة الحنيفية -محمد عابد الجابري- http://www.aljabriabed.net/coran6.htm

73. حوار الحضارات .. لماذا؟ بقلم يوسف الحسن - الموسوعة الإسلامية 74. حول علاقة الدين بالدولة الأمريكية الحديثة / محمد الصياد ـ جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672 75. خطيئة التكبر - "مارتن مارتي" قسيس وأستاذ بجامعة شيكاغو - نيوزويك10/ 03/2003م 76. ذرائع الإرهاب الأمريكي- غريب صابر- جريدة الخليج - عدد 9506 - بتاريخ 29 - 5 - 2005م 77. رؤساء أمريكا .. قادة صهاينة في البيت الأبيض - محمد القدوسي ـ دار الجمل - 2004 - دراسة منشوره على الانترنت 78. سمير مرقص: الصهيونية المسيحية مسخرة لخدمة إسرائيل ـ جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672 79. سؤال يتجدد: هل كانت "إسرائيل" وراء أحداث سبتمبر؟ إميل أمين الخميس- جريدة الخليج- 30 - 6 - 2005 - العدد 9538 80. صناعة الأكاذيب وحمايتها - لعبة الترويج والإسكات والتضليل ـ بقلم/ ايمن الصياد - الخليج عدد 8845ـ 7 أغسطس 2003 81. عام على أحداث 11 سبتمبر / بقلم ديفيد ديوك ترجمة كمال البيطار - جريدة الخليج 6/ 9/2002 - عدد 8510

82. عائلة بوش ومنظمة الجماجم والعظام - بقلم /جمال عبد الحي التميمي / باحث إعلامي فلسطيني (جامعة تيمز فالى) لندن - جريدة الخليج 83. عندما تختلط الأساطير بالنبوءات ـ جون هيوبرزـ منسق الإرساليات للشرق الأوسط وجنوب آسيا في الكنيسة المصلحة - جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3 م 84. قناع أبيض للعالم كله د. حسن مدن - جريدة الخليج - عدد 9506 ـ بتاريخ 29ـ5ـ 2005 م 85. كنائس الشرق تكافح أعداء المسيح الجدد ـ شكري عازرـ جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672 لغز اختفاء بن لادن! بقلم باتر محمد علي وردم- جريدة الدستور11/ 3/2002 م. 11/ 3/2002 م. 86. ما حدث هل هو إرهاب، أم انتقام داخلي، أم انقلاب عسكرى؟! - وليد الشيخ - شبكة الملومات العربية محيط 87. ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور - قناة الجزيرة 88. مجلة روز اليوسف 12ـ4ـ2003 القس رفعت فكرى سعيد ـ شبرا مصر 89. محاكمة صدام بين الرفض والإدانة - الاتجاه المعاكس - تقديم فيصل القاسم ـ 6/ 7/2004م- قناة الجزيرة

90. محمد يعتنق الحنيفية- عزت اندراوس - المصدر: موسوعة تاريخ أقباط مصر - http://www.coptichistory.org/new_page_342.htm 91. مقاومة الاحتلال هي مفتاح السلام /بقلم / بسام ابو شريف 25/ 2/2001 - موقع Peace online 92. مقصلة الكبرياء ـ حياة الحويك عطية - جريدة الخليج 18/ 4/2003 93. من يدير الدفة في الولايات المتحدة؟ إدوارد سعيد جريدة الخليج - 10ـ3ـ2003 ـ عدد 8695 94. موقف عرب فلسطين من الهجرة اليهودية الصهيونية (1882 ـ 1914م) - بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ بلاد الشام (فلسطين) - د. اسماعيل احمد ياغي. 95. ندوة العيش المشترك في الإسلام و المسيحية - اللجنة الوطنية اللبنانية للتربية و الثقافة و العلوم - بيروت 2002 - راجع على الخصوص بحث د. محمد السماك: في ثقافة الحوار الإسلامي - المسيحي 96. هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكر- جريدة الخليح الاماراتية - 15 - 12 - 2005 97. القصة العبرية المعاصرة بين الحلم الصهيوني والكابوس الصليبي- د. علي عبد الرحمن استاذ الادب العبري بجامعة عين شمس 98. الاثار في العراق بين ايدي لصوص الحضارات - محمد سيدي - 1 - 4 - 2003 - الجزيرة نت - http://www.aljazeera.net/News/archive/archive?ArchiveId=51692

§1/1