الحلة السيراء

ابن الأبار

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (بنى لي الْمجد آبَاء كرام ... ورثنا مجدهم باعاً فباعا) (وهذبني الإباء فقات طرفِي ... وكل بعد يجرى مَا استطاعا) وقبلهما مِمَّا يصل حبلهما ويصف فضلهما (وَمَا للنَّاس منا غير رعي ... يفيدهم رفاهاً وانتفاعا) (فيمنعهم وَمَا شعبوا مضاماً ... ويوسعهم وَمَا سغبوا انتجاعا) وَلَهُم رضى الله عَنْهُم وَسمعت ذَلِك مِنْهُم (أجب داعيتها فالنجيب يُجيب ... وشب لظاها فالنخيب يخيب)

(وشم عَزمَة لَا يغمز الْعَجز متنها ... فذو الْعَزْم فِي الْيَوْم الصعيب يُصِيب) (وَلَا تبتغ العلياء إِلَّا بأبيض ... لغربيه فِي هام الكماة غرُوب) (وأسمر غر شيب الوقع رَأسه ... أَلا إِنَّمَا بعد القشيب مشيب) (وَإِن شِئْت قلت النَّجْم توج رَأسه ... فلاح لَهُ بَين الْقُلُوب ثقوب) (ينضنض صلاً ثمَّ يهوى كَأَنَّهُ ... رشاء لَهُ قلب الكمى قليب) (وصفراء ربتها الْجُيُوب وراوحت ... ذوائبها فَوق الجبوب جنوب) (إِذا عيج متناها أُقِيمَت شباتها ... فَمِنْهَا سروب لَا يرى ورسوب) (فَإِن سدكت بالكف أَو فل خطوها ... فخطو بنيها فِي الحروب رحيب) (وأجرد يستجلى بأوضاحه الوغى ... وَقد جنها يَوْم الرّكُوب عكوب)

(إِذا مَا استحر الضَّرْب وأشتجر القنا ... بدا وَهُوَ فِي حَال) (لَهُ من سعالى الْجِنّ خلق مطهم ... يروع وَمن هوج الرِّيَاح هبوب) (بِتِلْكَ ينَال الْوتر لَو حَال دونه ... سهوب وحالت عَن مداه لهوب) (فرع عَنْك أَبنَاء الزَّمَان فكلهم ... لَهُ عِنْد تمحيص الغيوب عُيُوب) (فَلَا توردنه وردك الصفو إِنَّه ... شروب وَعند الحادثات سروب) ( [] اوى الرِّجَال فباسم ... لَهُ عِنْد هباب الخطوب خطوب) ( [] قربى يعرد هايبا ... ويبأى إِذا الْحق النؤوب يؤوب) ( [] إِلَى الْخَلِيل محلّة ... وَقد جعلت [] ) ( [] يَديك فَإِنَّهُ ... سَوَاء قريب فِي الورى وغريب) ( [أَلا فاستعتن واستعن بِاللَّه إِنَّه ... لفتح بِتَقْدِير الرَّقِيب قريب) وَلَهُم أَيّدهُم الله فِي اسْتِقْبَال حَضرتهمْ الْعلية من بعض غزواتهم الميمونة (تقر جفون عَيْنك بالقرار ... وَمن شَرط الْهوى رعى االذراري) (ألاح الْبَرْق مُعْتَرضًا فغارت ... نُجُوم الْأُفق من مَاء ونار) (خفى يسرى وظل الدمع يجرى ... فواحرباه من سَار وجار) (وهاب الْبَدْر أَن يفرى دجاه ... فَمَال عَن الشرار إِلَى السرَار) (وساءل مُسْندًا يرويهِ عني ... فحدثه الزَّفِير عَن إدكار) (سقى أَعْلَام تونس فالحنايا ... فمقتبل العشية والعرار) (فواكبداه من شوق تناءت ... نهايته على قرب المزار) (وأبرح مَا يكون الشوق يَوْمًا ... إِذا دنت الديار من الديار)

وَمن قلائدهم المزرية بقلائد العقيان المربية على فرائد الجمان (وحوراء تستعلى بنهدين أشرعا ... وَلَا غرو أَن يَدْعُو هَواهَا فَأتبعهُ) (تَقول وَقد رقت لما بِي أجازع ... وَأَنت جرئ ولأسنة مشرعه) (فَقلت لَهَا جفناك عزا تجلدي ... ونهداك هَذَا نفس هيمان موجعه) (وَمَا زلت ألقِي الْقرن يعسل رمحه ... فَمن لي بِمن يلقى الْفُؤَاد بأربعه) صدر هَذَا عَنْهُم دَامَت سعادتهم وَقد أنْشد بمجلسهم العلى للْقَاضِي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ فِي مداعب لَهُ من فتيَان الملثمة هز رمحه عَلَيْهِ وَأَوْمَأَ بِهِ إِلَيْهِ (يهز على الرمْح ظَبْي مهفهف ... لعوب بألباب الْبَريَّة عابث) (فَلَو كَانَ رمحا وَاحِدًا لاتقيته ... وَلكنه رمح وثان وثالث) كَذَا قَرَأت فِي ديوَان شعرهم أدام الله تأييد أَمرهم وهما عِنْدِي للْقَاضِي أبي مُحَمَّد عبد الْحق بن غَالب بن عَطِيَّة أنشدنيهما القَاضِي أَبُو سُلَيْمَان دَاوُود ابْن سُلَيْمَان بن حوط الله الْأنْصَارِيّ الْحَارِثِيّ بِمَدِينَة بلنسية وَهُوَ إِذْ ذَاك يتَوَلَّى

قضاءها قَالَ أنشدنا الشَّيْخ أَبُو الْحُسَيْن سراج بن عبد الله العثماني مَرَّات للفقيه القَاضِي أبي مُحَمَّد عبد الْحق بن عَطِيَّة وَذكر الْبَيْتَيْنِ إِلَّا أَن صدر أَولهمَا فِي هَذِه الرِّوَايَة يهددني بِالرُّمْحِ ظَبْي مهفهف وَصدر ثَانِيهمَا فَلَو كَانَ رمحا وَاحِدًا لَا تقيته وباقيهما سَوَاء وَلمن كَانَ مِنْهُمَا ذَلِك فقد عدل بِهِ عَن جادة الإجادة وَالزِّيَادَة وَمن لزومياتهم السّنيَّة فِي غزلياتهم السُّلْطَانِيَّة (بَدَت لَك فِي ثوب يشف منجم ... أزيرق يالله لِلْحسنِ أزرقا) (ولاحت وَبدر الْأُفق فِي الْأُفق كَامِل ... فَلم أدر أَي راعني حِين أشرق) (خلا أَنه لما رأى حسن وَجههَا ... تأنى قَلِيلا حِين شام فأبرقا) (ودونهما صفو الغدير مسلسلاً ... فأقسم لَوْلَا رقة الْوَصْل أحرقا) (وَلما رنا نَحْو السجنجل وَجههَا ... أطل على متن الغدير فأطرقا) (وزرت عَلَيْهِ الشهب ثوب سمائه ... فقارب فِي التَّشْبِيه منهاا وأغرقا) (ونازعها ثوبا ولوناً ورفعة ... وبعداً وإشراقاً ووجهاً ترقرقا) وَمن رفيع الرصف وبديع الْوَصْف قَوْلهم لاا زَالَ يجاري الأقدار عدلهم ويباري الأمطار طولهم (أعد نظرا حَيْثُ الرياض كَأَنَّهَا ... خدود الغواني أَو قدود الكواعب)

(تميل وَلَيْسَت بَين كأس وقينة ... وَلكنهَا بَين الصِّبَا والجنائب) (وسال نمير المَاء بَين أخضرارها ... فجَاء كَمثل الْفرق بَين الذوائب) (وَإِلَّا كَمَا شقّ الكنهور بارق ... وَإِلَّا كَمثل الصُّبْح بَين الغياهب) (قد أطردت فِيهِ المذانب دَائِما ... وَلم تَرَ حسنا كأطراد المذانب) (وللنرجس النَّضر أصفرار تخاله ... كشمس أصيل بَين بيض السحائب) (يدب إِلَيْك الْحسن فِي جنباتها ... بعقرب أصداغ من الآس لَا سبّ) (وللياسمين الغض فِي خضر بسطها ... نثائر در أَو سبائك ساكب) (وللسوسن المبيض إصغاء آلف ... يحن فيحنو خَاشِعًا نَحْو شَارِب) (وَقد كللت أَغْصَان نارنجها فَقل ... مجامر تبر جامد غير ذائب) (وعطر مِنْهَا النشر مَا بَلل الندى ... فَنمت بِأَنْفَاسِ الرِّيَاح الغرائب) (وللماء فِي الدولاب إِن رمت وَصفه ... سِهَام قسى أَو مخاريق لاعب) (تضمن سقى الرَّوْض رفهاً يعله ... وَفَاء فعد القَوْل عَن قَوس حَاجِب) (معطرة الأردان يفعم نفحها ... يُحْيِيك عرف الطّيب من كل جَانب) (سَمَاء وَجرى المَاء فِيهَا مجرة ... وَمن زهرها المفتر زهر الْكَوَاكِب) (فدونكها تختال زهواً ونضرة ... وترفل تيهاً فِي برود الْعَجَائِب) وَلَهُم خلد الله سلطانهم فِي طبق مَمْلُوء نثائر زهر النارنج والخابور وَأكْثر هَذَا التَّشْبِيه على البديهة (بعثتها وذكى الْعرف ألحقها ... بردين من وضح الإصباح والشفق) (كَأَنَّمَا الزهر والخابور جزعه ... شذر تناثر فِي در من الْعُنُق) (قد راق منظره حسنا لملتفت ... ورق مخبره عرفا لمنتشق)

وَلَهُم ظَاهر الله نعمه لديهم مِمَّا كتبته بَين الكريمتين يديهم (خُذْهَا كَمَا تمّ عرف الرَّوْض بِالسحرِ ... وَأَيْقَظَ الطل رَبًّا نَائِم الزهر) (حَمْرَاء ترفل فِي أَثوَاب بهجتها ... تفتر عَن لُؤْلُؤ عذب وَعَن أشر) (زفقتها ورواق اللَّيْل منسدل ... كَأَنَّهَا شفق فِي هَالة الْقَمَر) وَمن ألغازهم وَسمعت مِنْهُم رَضِي الله عَنْهُم (زقفتها سحرت أعين الجآذر لبّى ... وأستباحت حمى فُؤَادِي وقلبي) ( [] مِنْهَا أشتباه ... فأنظرن التَّصْحِيف من بعد قلب) وَقد أستوفوا حُرُوف المعجم فِي هَذَا الْبَاب فَأتوا أَيّدهُم الله بِمَا فِيهِ عِبْرَة لأولى الْأَلْبَاب وَلَهُم فِي الرثاء أدام الله أيامهم كَمَا جعل مَفَاتِيح الأقاليم سيوفهم وأقلامهم (تصبر فَإِن الصَّبْر أولى بِذِي حجر ... وَإِن كَانَ حجرا فالملام إِلَى الْحجر) (وَمَا زَالَت الْأَيَّام تَغْدُو على الْفَتى ... فطوراً على بشر وطورا على بسر) (وَإِن سالمت واالظلم مِنْهَا سجية ... فَلَا بُد يَوْمًا أَن تغر وَأَن تغرى) (مرى الْحزن دمعى أَن أَمر حباله ... وَكَانَ قَدِيما لَا يمر وَلَا يمرى) (وعهدي بِهَذَا الدمع ياعين وافياً ... فَهَل لَك فِي الْغدر المبرح من عذر) (أَلا من لعين لَا ينهنه غربها ... أَلا من لسحر لَا يمل من السحر) (أَلا تِلْكَ شمس الجو فِي الدو فَأُعْجِبُوا ... أَلا تلكم إدمانة العفر فِي القفر)

(أأسلو وَهَذَا شخصها حَشْو مقلتي ... وأنسى وَمَا تنفك مني على ذكر) (لَئِن ضم مِنْك اللَّحْد ذاتاً زكية ... لقد حنيت منى الضلوع على جمر) (سأبكيك مَا أَنْت فقيدة بكرها ... وحنت إِلَى وكر مطوفة النَّحْر) (أطارحها شجوى فيسعد شجوها ... فتحسبنا إلفى مصاب لَدَى وكر) (وَمَالِي وَمَا للعيد لَوْلَا تحفل ... يكلفني مَالا أُطِيق من الصَّبْر) (فَمن كَانَ ذَا هدى وَهدى لعيده ... فعندي هدى من مدامعي الْحمر) (يغادونها قربى لنحر ثَلَاثَة ... ودمعي من تسكابه الدَّهْر فِي بَحر) (وَعِنْدِي وَلَا رد زفير مردد ... تهد لظاه جَانب الْبشر) (وتصديق إِيمَان وَإِقْرَار موقن ... وَتَسْلِيم مربوب لذى الْخلق وَالْأَمر) وَمن تصنيف لَهُم فِي الزّهْد جليل هُوَ على أنفرادهم فِي الْكَمَال وسحر الْكَلَام أوضح دَلِيل (يعجل الْإِنْسَان بالشَّيْء وَهل ... خلق الْإِنْسَان إِلَّا من عجل) (ولذى الْعدْل قَضَاء فِي الورى ... بتقاضاه كتاب وَأجل) (إِن ظفر اللَّيْث يدمى من ردى ... مثل خد الخود يدمى من خجل) (وأخو الْغَفْلَة فِي غفلته ... إِن بَكت وَرْقَاء غنى وأرتجل) وَإِنَّمَا أورد مِنْهُ الفرائد وأقصد إِلَيْهِ من القصائد وَهَا هِيَ تضيق عَنْهَا المهارق وتضىء مِنْهَا المغارب والمشارق وَإِنَّمَا هَذَا إلماع بِمَا أعوز الْعلمَاء وإسماع لما أسكت الْحُكَمَاء وَلما ظَفرت من هَذَا الْمَقْصُود الأحمد وسبقت إِلَيْهِ سبق الْجواد إِذا استولى على الأمد قصرته على مُلُوك إفريقية وبلاد الْمغرب المضافة إِلَيْهَا وقدمت

القادمين فِي الْمِائَة الأولى من السّلف الأول عَلَيْهَا لِأَنَّهَا من أَوَائِل فتوح الْإِسْلَام ثمَّ من منَازِل بدر التَّمام مَوْلَانَا الْخَلِيفَة الإِمَام أدام الله لَهُم نصر الألوية والأعلام (وَفِي الْمِائَة الثَّانِيَة صَارَت الأندلس دَار إِيمَان فواليت ذكر ولاتها من ذَلِك الزَّمَان ليوقف على جلالة شَأْنهمْ وَيعرف تمكن محلهم من البلاغة ومكانهم وَذكرت أَبْنَاءَهُم وأختصرت أنباءهم هربا من التَّطْوِيل ورهباً للتثقيل إِلَّا نكتاً لَهَا بأنتخابها أحسن المواقع وعيوناً هِيَ بأقتضابها أجول فِي المحافل وأولج فِي المسامع وَرُبمَا عرض مَا يَدْعُو إِلَى الْبسط فأنتقض حكم هَذَا الشَّرْط وَلَا غرو أَن أواقع الْمَحْذُور فللكلام اضطرار يُبِيح الْمَحْظُور وأبرزته مسوقاً على الحقب منسوقا بِحَسب الرتب أعين للصدور صدر كل مائَة وَأبين من تميز فِي جمَاعَة أَو تحيز إِلَى فِئَة ليستوفى المتأدبين حَتَّى من المتوثبين وَالَّذين مَا عثرت على أشعارهم أفردت بَابا لأخبارهم وَلم أعرض لمن أَعرَضت عَنْهُم الدولة الحفصية بالخلعان وأنتزعت مَا كَانَ بِأَيْدِيهِم تراثاً لَهَا من الْملك وَالسُّلْطَان ثمَّ [] الأسم الَّذِي من خَصَائِصه التَّأْمِين والتأمير وأشبهه [] النَّضِير والمشرع النمير حَضْرَة مَوْلَانَا الْأَمِير [] الأسعد الأطهر الأرضى أَبُو يحيى ولي عهد الْمُؤمنِينَ وعهد الولى فِي مُتَتَابِعَات السنين

والملى وَقد [] مَكَارِم الْآبَاء بإنجاب كرام الْبَنِينَ أجهد فِي الأستظهار على شكر نعْمَته وأجهر آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار بِأَن يكون الْعَمَل خَادِم النِّيَّة فِي خدمته وأقصى المأمول أَن تَأذن لَهُ سيادته فِي الْقرب من سدته وتقابل وفادته بِالْقبُولِ ليسعد مداه بسعادة مدَّته أبقاه الله وَلِوَاؤُهُ مَنْصُور وكرم الْخلال فِيهِ مَحْصُور وَشرف الْكَمَال عَلَيْهِ مَقْصُور والعيون والقلوب إِلَيْهِ ميل وصور يمنه

المائة الأولى من الهجرة

الْمِائَة الأولى من الْهِجْرَة 1 - عَمْرو بن العاصى أَبُو عبد الله قَرَأت بِخَط أَحْمد بن يحيى بن جَابر البلاذرى فِي كتاب أَنْسَاب الْأَشْرَاف من تأليفه قَالَ مُحَمَّد بن سعد قَالَ الْوَاقِدِيّ من خبر عَمْرو ابْن العاصى إِنَّه قدم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسلما فِي صفر سنة ثَمَان قبل فتح مَكَّة بأشهر وَكَانَ الْفَتْح فِي شهر رَمَضَان فوجهه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان إِلَى ذَات السلَاسِل فِي سَرِيَّة وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح رضى الله عَن جَمِيعهم قَالَ ثمَّ بعث بِهِ إِلَى ابْني الجلندى بعمان فَأَسْلمَا وَكَانَ أَمِيرا عَلَيْهَا فَلم يزل عَمْرو بعمان حَتَّى قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَعَمْرو بن العاصى هُوَ الَّذِي فتح مصر ونواحيها فِي خلَافَة عمر وعزله عُثْمَان عَنْهَا وَقَالَ غير البلاذرى ثمَّ صَار من مصر حَتَّى قدم برقة فَصَالح أَهلهَا على ثَلَاثَة عشر ألف دِينَار يؤدونها إِلَيْهِ جِزْيَة على أَن يبيعوا من أبنائهم

فِي [جزيتهم مَا أَحبُّوا بَيْعه] [وعَلى يَدَيْهِ تمّ فتح الْمُسلمين] لبرقة ثمَّ غزا فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين إطرابلس فحاصرها شهرا لَا يقدر مِنْهَا على شَيْء ثمَّ أفتتحها فِي قصَّة غَرِيبَة ذكرهَا أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الحكم فِي تَارِيخه وغنم مَا فِيهَا وَلم يفلت الرّوم إِلَّا بِمَا خف لَهُم فِي مراكبهم وَأَرَادَ أَن يُوَجه إِلَى الْمغرب فَكتب إِلَى عمر رضى الله عَنهُ إِن الله عز وَجل فتح علينا إطرابلس وَلَيْسَ بَينهَا وَبَين إفريقية إِلَّا تِسْعَة أَيَّام فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يغزوها ويفتحها الله على يَدَيْهِ فعل فَكتب إِلَيْهِ عمر ينهاه عَن ذَلِك الظَّاهِر من هَذَا الْخَبَر تحيز إطرابلس من إفريقية وَلم تزل من أَعمالهَا قَدِيما وحديثاً قَالَ ابْن عبد الحكم كَانَ سُلْطَان جرجير من إطرابلس إِلَى طنجة وَبِهَذَا الأعتبار سَاغَ لي ذكر عَمْرو رضى الله عَنهُ فِي هَذَا الْكتاب وَمن شعره يُخَاطب عمَارَة بن الْوَلِيد أَخا خَالِد بن الْوَلِيد عِنْد النَّجَاشِيّ

وَكَانَت قُرَيْش بعثتهما إِلَيْهِ يكلمانه فِي من قدم عَلَيْهِ من الْمُهَاجِرين رضى الله عَنْهُم (تعلم عمار أَن من شَرّ شُبْهَة ... لمثلك أَن يدعى ابْن عَم لَهُ أنتمى) (لَئِن كنت ذَا بردين أحوى مرجلاً ... فلست برَاء لِابْنِ عمك محرما) (إِذا الْمَرْء لم يتْرك طَعَاما يُحِبهُ ... وَلم ينْه قلباً هائماً حَيْثُ يمما) (قضى وطراً مِنْهُ وغادر سبة ... إِذا ذكرت أَمْثَالهَا تملأ الفما) وَقَالَ أَيْضا فِي حروب صفّين (شبت الْحَرْب فأعددت لَهَا ... مفرغ الحارك محبوك السبج)

(يصل الشد بشد فَإِذا ... ونت الْخَيل من الشد معج) (جرشع أعظمه جفرته ... فَإِذا ابتل من المَاء حدج) وَقَالَ يُخَاطب مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رضى الله عَنهُ (معاوى إِنِّي بِعْت ديني وَلم أنل ... بِهِ مِنْك دنيا فأنظرن كَيفَ تصنع) (وَمَا الدّين وَالدُّنْيَا سَوَاء وإنني ... لآخذ مَا تُعْطى ورأسي مقنع) (فَإِن تعطنى مصرا فأربح بصفقة ... أخذت بهَا شَيخا يضر وينفع) قَالَ عَمْرو وَهَذَا لِأَنَّهُ شَرط على مُعَاوِيَة لما تحير إِلَيْهِ وَكَانَ مَعَه فِي حروبه لعَلي رضى الله عَنْهُم أَن يوليه إِذا ظهر مصر طعمة فوفى لَهُ بذلك وروى أَن عتبَة بن أبي سُفْيَان دخل على مُعَاوِيَة أَخِيه وَهُوَ يكلم عمرا فِي مصر وَعَمْرو يَقُول لَهُ إِنَّمَا بِعْتُك بهَا ديني فَقَالَ لَهُ عتبَة أثمن الرجل بِدِينِهِ فَإِنَّهُ صَاحب من أَصْحَاب مُحَمَّد

فَأَقَامَ على مصر إِلَى أَن توفى فِي خلَافَة مُعَاوِيَة وَمِمَّا يعزى إِلَيْهِ (وأغضى على أَشْيَاء لَو شِئْت قلتهَا ... وَلَو قلتهَا لم أبق للصلح موضعا) (فَإِن كَانَ عودي من نضار فإنني ... لأكْره يَوْمًا أَن أحطم خروعا) وَأنْشد لَهُ ابْن إِسْحَاق صَاحب الْمَغَازِي فِي يَوْم أحد مالم أر وَجها لذكره 2 - ابْنه عبد الله بن عَمْرو بن االعاصي أَبُو مُحَمَّد ذكره أَبُو بكر عبد الله بن مُحَمَّد الْمَالِكِي فِي الداخلين إفريقية من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وهم قريب من ثَلَاثِينَ رجلا وَكَانَ يخلف أَبَاهُ على إِمَارَة مصر إِذْ وَليهَا عَمْرو فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب وَفِي خلَافَة مُعَاوِيَة وَهُوَ صلى على أَبِيه عِنْد وَفَاته ثمَّ صلى بِالنَّاسِ يَوْم الْفطر وَلم يكن بَينه وَبَين أَبِيه فِي السن إِلَّا أثنتا عشرَة سنة وَأسلم قبله وَكَانَ أحد فُقَهَاء الصَّحَابَة وفضلائهم والمكثرين من الحَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم الْفَقِيه روى عبد الله بن عَمْرو بن العاصى سَبْعمِائة حَدِيث وَفِي تَارِيخ ابْن عبد الحكم أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَى عبد الله بن سعد بن أبي سرح يؤمره على مصر سنة خمس وَعشْرين فَجَاءَهُ االكتاب بالفيوم بقرية مِنْهَا تدعى دموشة فَجعل لأهل الْجَواب جعلا على أَن يصبحوا بِهِ الْفسْطَاط فِي موكبه فقدموا بِهِ الْفسْطَاط قبل أَن يصبح الصُّبْح فَأَشَارَ إِلَى الْمُؤَذّن فَأَقَامَ الصَّلَاة حِين طلع الْفجْر وَعبد الله بن عَمْرو بن العاصى ينْتَظر الْمُؤَذّن يَدعُوهُ إِلَى الصَّلَاة لِأَنَّهُ كَانَ خَليفَة أَبِيه فأستنكر الْإِقَامَة فَقيل لَهُ صلى عبد الله بن سعد بِالنَّاسِ قَالَ ابْن عبد الحكم يَزْعمُونَ أَن عبد الله بن سعد أقبل من غربي الْمَسْجِد بَين يَدَيْهِ شمعة وَأَقْبل عبد الله بن عَمْرو من نَحْو دَاره بَين يَدَيْهِ شمعة فألتفت عِنْد الْقبْلَة فَأقبل عبد الله بن عَمْرو حَتَّى وقف على عبد الله بن سعد فَقَالَ هَذَا بغيك ودسك فَقَالَ عبد الله بن سعد مَا فعلت وَقد كنت أَنْت وَأَبُوك تحسداني على الصَّعِيد فتعال حَتَّى أوليك الصَّعِيد وَأولى أَبَاك أَسْفَل الأَرْض وَلَا أحسدكما عَلَيْهِ وَكَانَ عزل عَمْرو بن العاصى عَن مصر وتولية عبد الله بن سعد فِي سنة خمس وَعشْرين صدر خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَمن شعر عبد الله بن عَمْرو فِي صفّين (فَلَو شهِدت جمل مقَامي ومشهدي ... بصفين يَوْمًا شَاب مِنْهُ الذوائب) (عَشِيَّة حبا أهل الْعرَاق كَأَنَّهُمْ ... سَحَاب ربيع دَفعته الجنائب)

(وجئناهم نردى كَأَن صُفُوفنَا ... من الْبَحْر مد موجه متراكب) (إِذا قلت قد ولوا سرَاعًا بَدَت لنا ... كتائب مِنْهُم فأرجحنت كتائب) (فدارت رحانا وأستدارت رحاهم ... سراة النَّهَار مَا تولى المناكب) (وَقَالُوا لنا إِنَّا نرى أَن تبايعوا ... عليا فَقُلْنَا بل نرى أَن تضاربوا) هَكَذَا وجدت هَذَا الشّعْر مَنْسُوبا إِلَيْهِ وَخلاف هَذِه الْحَال كَانَ على أَن أَبَا الْفتُوح الطَّائِي الْبَغْدَادِيّ قد حكى فِي كِتَابه الْأَرْبَعين حَدِيثا من جمعه أَن عبد الله بن عَمْرو شهد مَعَ أَبِيه صفّين وَكَانَ يضْرب بسيفين وَالأَصَح هُوَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي خبر يسْندهُ إِلَى ابْن

أبي مليكَة أَن عبد الله بن عَمْرو بن العاصى كَانَ يَقُول مَالِي ولصفين مَالِي ولقتال الْمُسلمين وَالله لَوَدِدْت أَنِّي مت قبل هَذَا بِعشر سِنِين ثمَّ يَقُول أما وَالله مَا ضربت فِيهَا بِسيف وَلَا طعنت بِرُمْح وَلَا رميت بِسَهْم ولوددت أَنِّي لم أحضر شَيْئا مِنْهَا وَأَسْتَغْفِر الله عز وَجل من ذَلِك وَأَتُوب إِلَيْهِ قَالَ أَبُو عمر إِلَّا أَنه ذكر أَنه كَانَت بِيَدِهِ الرَّايَة يَوْمئِذٍ فندم ندامة شَدِيدَة على قِتَاله مَعَ مُعَاوِيَة قَالَ أقسم أَنه إِنَّمَا شَهِدَهَا لعزمة أَبِيه عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ أطع أَبَاك ذكر أَبُو عمر هَذَا فِي كتاب الأستيعاب فِي الصَّحَابَة من تأليفه وَلَكِن الشّعْر مَعَ هَذَا مَذْكُور لَهُ فِي مُصَنف أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره 3 - عبد الله بن عَبَّاس أَبُو الْعَبَّاس غزا إفريقية مَعَ عبد الله بن سعد بن أبي سرح فِي خلَافَة عُثْمَان سنة سبع وَعشْرين وَشهد فتحهَا ذكر ذَلِك أَبُو سعيد بن يُونُس فِي تَارِيخه ثمَّ ولى إِمَارَة الْبَصْرَة فِي خلَافَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ حِين أسْتَعْمل أَخَوَيْهِ عبيد الله على الْيمن ومعبداً على مَكَّة وَكَانَ لعبد الله بن الْعَبَّاس من عمر بن الْخطاب مَكَان وَقَالَ لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَقد كَلمه فِي حظوته لَدَيْهِ إِنَّه من حَيْثُ علمت

وَكَانَ يَقُول ابْن عَبَّاس فَتى الكهول لَهُ لِسَان سؤول وقلب عقول وَيَقُول إِذا سَأَلَ ابْن عَبَّاس فِي الْأَمر يعرض مَعَ جلة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ تَلُومُونَنِي عَلَيْهِ بعد مَا ترَوْنَ وَفِي كتاب الأغاني لأبي الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ أَن عُيَيْنَة بن مرداس ابْن فسوة الشَّاعِر وَهُوَ الْمَعْرُوف بِأبي فسوة أَتَى عبد الله بن الْعَبَّاس وَهُوَ عَامل لعَلي بن أبي طَالب على الْبَصْرَة وَتَحْته يَوْمئِذٍ شميلة بنت جُنَادَة بن أبي أزيهر الزهرانية وَكَانَت قبْلَة تحلت مجاشع بن مَسْعُود السلمى فَأَسْتَأْذِن عَلَيْهِ فَأذن لَهُ وَكَانَ لَا يزَال يأتى أُمَرَاء الْبَصْرَة فيمدحهم فيعطونه وَيَخَافُونَ لِسَانه فَلَمَّا دخل على ابْن عَبَّاس قَالَ لَهُ مَا جَاءَ بك إِلَى يَا ابْن فسوة فَقَالَ لَهُ وَهل دُونك مقصداً أَو وَرَاءَك معدى جئْتُك لتعينني على مروءتي وَتصل قَرَابَتي فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس وَمَا مُرُوءَة من يعْصى الرَّحْمَن وَيَقُول الْبُهْتَان وَيقطع مَا أَمر الله بن أَن يُوصل وَالله لَئِن أَعطيتك لأعيننك على الْكفْر والعصيان أَنطلق فَأَنا أقسم بِاللَّه لَئِن بَلغنِي أَنَّك هجوت أحدا من الْعَرَب لأقطعن لسَانك فَأَرَادَ الْكَلَام فَمَنعه من حضر وحبسه يَوْمه ذَلِك ثمَّ أخرجه عَن الْبَصْرَة فوفد إِلَى الْمَدِينَة بعد مقتل عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فلقى الْحسن بن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَعبد الله بن جَعْفَر عَلَيْهِمَا السَّلَام فَسَأَلَاهُ عَن خَبره مَعَ ابْن عَبَّاس فَأَخْبرهُمَا فأشتريا عرضه بِمَا أرضاه فَقَالَ يمدحهما وَيَلُوم ابْن عَبَّاس من أَبْيَات

(لقِيت ابْن عَبَّاس فَلم يقْض حَاجَتي ... وَلم يرج معروفي وَلم يخْش منكري) (فَلَو كنت من زهران لم ينس حَاجَتي ... ولكنني مولى جميل بن معمر) (فليت قلوصي أغربت أَو رحلتها ... إِلَى حسن فِي دَاره وَابْن جَعْفَر) (إِلَى ابْن رَسُول الله يَأْمر بالتقى ... وللدين يَدْعُو وَالْكتاب المطهر) (إِلَى معشر لَا يخصفون نعَالهمْ ... وَلَا يلبسُونَ السبت مالم يخصر) (فَلَمَّا عرفت الْيَأْس مِنْهُ وَقد بَدَت ... أيادي سبا الْحَاجَات للمتذكر) (تسنمت حرجوجاً كَأَن بغامها ... أجيج ابْن مَاء فِي يراع مفجر) (فَمَا زلت فِي التسيار حَتَّى أنختها ... إِلَى ابْن رَسُول الْأمة المتخير) (فَلَا تدعني إِذْ رحلت إِلَيْكُم ... بنى هَاشم أَن تصدروني بمصدر) قَالَ أَبُو الْفرج كَانَ عُيَيْنَة هَذَا شَاعِرًا خَبِيث اللِّسَان مخوف المعرة فِي جاهليته وإسلامه وَكَانَ يقدم على أُمَرَاء الْعرَاق وأشراف النَّاس فَيُصِيب مِنْهُم بِشعرِهِ قَالَ وَكَانَ حليفاً لجميل بن معمر الْقرشِي وَمن شعر عبد الله بن الْعَبَّاس وَكَانَ أَبوهُ الْعَبَّاس أَيْضا شَاعِرًا (إِذا طارقات الْهم ضاجعت الْفَتى ... وأعمل فكر اللَّيْل وَاللَّيْل عاكر) (وباكرني فِي حَاجَة لم يجد لَهَا ... سواى وَلَا من نكبة الدَّهْر نَاصِر)

(فرجت بِمَالي همه من مقَامه ... وزايله هم طروق مسامر) (وَكَانَ لَهُ فضل على بظنه ... بِي الْخَيْر إِنِّي للَّذي ظن شَاكر) وَقَالَ أَيْضا وَقد عمى فِي آخر عمره وروى عَنهُ من وُجُوه قَالَه أَبُو عمر ابْن عبد الْبر وَغَيره (إِن يَأْخُذ الله من عَيْني نورهما ... فَفِي لساني وقلبي مِنْهُمَا نور) (قلبِي ذكي وعقلي غير ذِي دخل ... وَفِي فمي صارم كالسيف مأثور) وَهَذَا من أحسن مَا قيل فِي هَذَا الْمَعْنى وَهُوَ دَاخل فِي بَاب تَحْسِين مَا يقبح وَقد جمعت قِطْعَة من ذَلِك فِي تأليفى للخزانة الْعَالِيَة الإمامية الموسوم ب قطع الرياض فِي بدع الْأَغْرَاض وَمن ذَلِك قَول بشار بن برد (عميت جَنِينا والذكاء من الْعَمى ... فَجئْت مُصِيب الظَّن للْعلم موئلا) (وغاض صفاء الْعين لِلْعَقْلِ رافدا ... بقلب إِذا ماضيع النَّاس حصلا) (وَشعر كنور الرَّوْض لامست نظمه ... بقول إِذا مَا أَحْزَن الشّعْر أسهلا) وَقَالَ آخر ويروى لأبي الْعَلَاء وَالصَّحِيح أَنه لأبي الْحسن الحصري (وَقَالُوا قد عميت فَقلت كلا ... وَإِنِّي الْيَوْم أبْصر من بَصِير) (سَواد الْعين زار سَواد قلبِي ... ليجتمعا على فهم الْأُمُور) وَقَالَ عبد الله بن سُلَيْمَان الْقُرْطُبِيّ النَّحْوِيّ الْمَعْرُوف بدرود وَيُقَال دريود وَكَانَ أعمى (تَقول من للعمى بالْحسنِ قلت لَهَا ... كفى عَن الله فِي تَصْدِيقه الْخَبَر)

(الْقلب يدْرك مَالا عين تُدْرِكهُ ... وَالْحسن مَا أستحسنته النَّفس لَا الْبَصَر) (وَمَا الْعُيُون الَّتِي تعمى إِذا نظرت ... بل الْقُلُوب الَّتِي يعمى بهَا النّظر) وَمن جيد الْعذر لَوْلَا شوبه بالهجر قَول الآخر (قَالُوا الْعَمى منظر قَبِيح ... قلت بفقدي لَهُم يهون) (تالله مَا فِي الْأَنَام شَيْء ... تأسى على فَقده الْعُيُون) كَأَنَّهُ أَخذه من قَول بن سعيد الْمسيب وَقد نزل المَاء فِي عَيْنَيْهِ فَقيل لَهُ لوقدحتهما فَقَالَ وعَلى من أفتحهما وَمثل هَذَا قَول المعرى وَهُوَ عِنْدِي من المنشد (أَبَا الْعَلَاء بن سليمانا ... إِن الْعَمى أولاك إحساناً) (لَو أَبْصرت عَيْنَاك هَذَا الورى ... لم ير إنسانك إنْسَانا) 4 - عبد الله بن الزبير أَبُو بكر وَأَبُو خبيب غزا إفريقية مَعَ ابْن أبي سرح فِي خلَافَة عُثْمَان وَهُوَ الَّذِي ولى قتل جرجير ملكهَا وأحتز رَأسه وَجعله فِي رمحه وَكبر فإنهزم الرّوم فِي خبر طَوِيل ذكره مُصعب بن الزبير فِي كتاب قُرَيْش من تأليفه فَوجه بِهِ ابْن

أبي سرح بشيراً إِلَى عُثْمَان فَقدم عَلَيْهِ فَأخْبرهُ بِفَتْح الله وَنَصره وخطب يَوْمئِذٍ بذلك فِي مَسْجِد الْمَدِينَة على الْمِنْبَر قَالَ مُصعب وَبشر عبد الله مقدمه من إفريقية بِابْنِهِ خبيب بن عبد الله وَهُوَ أكبر وَلَده وَقَالَ ابْن عبد الحكم بعث عبد الله بن سعد بِالْفَتْح عقبَة بن نَافِع وَيُقَال بل عبد الله بن الزبير وَذَلِكَ أصح فَيُقَال إِنَّه سَار على رَاحِلَته إِلَى الْمَدِينَة من إفريقية فِي عشْرين لَيْلَة قَالَ وَقد قيل إِن عبد الله بن سعد كَانَ قد وَجه مَرْوَان بن الحكم إِلَى عُثْمَان من إفريقية فَلَا أَدْرِي أَفِي الْفَتْح أم بعده وَالله أعلم ثمَّ ولى ابْن الزبير الْخلَافَة بالحجاز وَالْعراق وَأكْثر الشَّام بعد موت مُعَاوِيَة ابْن يزِيد بن مُعَاوِيَة وَكَانَ قد خرج من الْمَدِينَة مَعَ الْحُسَيْن بن عَليّ إثرموت مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان مُمْتَنعا من بيعَة ابْنه يزِيد وَأقَام يسلم عَلَيْهِ بالخلافة تسع سِنِين ثمَّ قَتله عبد الْملك بن مَرْوَان على يَد الْحجَّاج سنة ثَلَاث وَسبعين من الْهِجْرَة وَحكى الزبير بن بكار فِي كتاب نسب قُرَيْش لَهُ عَن هِشَام بن

عُرْوَة قَالَ كَانَ أول مَا أفْصح بِهِ عمى عبد الله بن الزبير وَهُوَ صبي السَّيْف وَكَانَ لَا يَضَعهُ من فَمه فَكَانَ الزبير بن الْعَوام إِذا سمع ذَلِك مِنْهُ يَقُول أما وَالله لَيَكُونن لَهُ مِنْهُ يَوْم وَيَوْم وَأَيَّام وَمن شعره الْمَشْهُور عَنهُ (وَكم من عَدو قد أَرَادَ مساءتي ... بِغَيْب وَلَو لاقيته لتندما) (كثير الْخَنَا حَتَّى إِذا مَا لَقيته ... أصر على إِثْم وَإِن كَانَ أقسما) وَقَالَ أَيْضا أنْشدهُ لَهُ أَبُو على الْحسن بن رَشِيق فِي كتاب الْعُمْدَة من تأليفه قَالَ غَيره ويروى لعبد الله بن الزبير بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْبَاء (لَا أَحسب الشَّرّ جاراً لَا يفارقني ... وَلَا أحز على مَا فَاتَنِي الودجا) (وَمَا لقِيت من الْمَكْرُوه منزلَة ... إِلَّا وثقت بِأَن ألْقى لَهَا فرجا) ويروى أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان كتب إِلَيْهِ (رَأَيْت كرام النَّاس إِن كف عَنْهُم ... بحلم رَأَوْا فضلا لمن قد تحلما) (وَلَا سِيمَا إِن كَانَ عفوا بقدرة ... فَذَلِك أَحْرَى أَن يجل ويعظما)

(وَلست بِذِي لؤم فَتعذر بِالَّذِي ... أتيت من الْأَخْلَاق مَا كَانَ ألأما) (وإبي لأخشى أَن أنالك بِالَّتِي ... كرهت فيخزى الله من كَانَ أظلما) فَرَاجعه ابْن الزبير (أَلا سمع الله الَّذِي أَنا عَبده ... وأخزى إِلَه النَّاس من كَانَ أظلما) (وأحرا على الله الْعَظِيم بجرمه ... وأسرعه فِي الموبقات تقحما) (أغرك أَن قَالُوا حَلِيم بقدرة ... وَلَيْسَ بِذِي حلم وَلَكِن تحلما) (وَأقسم لَوْلَا بيعَة لَك لم أكن ... لأنقضها لم تنج منى مُسلما) وَمِمَّا رويته من طَرِيق ابْن أبي الْحسن بن صَخْر فِي فَوَائده وقرأته على الْحَافِظ أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن مُوسَى بن سَالم الكلَاعِي بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد الله بن الْمُبَارك قَالَ حَدثنِي يُونُس عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أجتمع مَرْوَان وَابْن الزبير عِنْد عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ فَذكر مَرْوَان بَيْتا من شعر لبيد (وَمَا الْمَرْء إِلَّا كالشهاب وضوئِهِ ... يعود رَمَادا بعد إِذْ هُوَ سَاطِع) فتعجب مِنْهُ قَالَ ابْن الزبير وَمَا تعجبك لَو شِئْت قلت مَا هُوَ أفضل مِنْهُ (ففوض إِلَى الله الْأُمُور إِذا اعترت ... فبالله لَا بالأقربين تدافع) قَالَ مَرْوَان (وداو ضمير الْقلب بِالْبرِّ وألتقى ... وَلَا يستوى قلبان قَاس وخاشع)

وَقَالَ ابْن الزبير (وَلَا يستوى عَبْدَانِ عبد مصلم ... عتل لأرحام الْأَقَارِب قَاطع) قَالَ مَرْوَان (وَعبد تجافى جنبه عَن فرَاشه ... يبيت يُنَاجِي ربه وَهُوَ رَاكِع) قَالَ ابْن الزبير (وللخير أهل يعْرفُونَ بهديهم ... إِذا جمعتهم فِي الخطوب المجامع) قَالَ مَرْوَان (وللشر أهل يعْرفُونَ بشكلهم ... تُشِير إِلَيْهِم بِالْفُجُورِ الْأَصَابِع) فَسكت ابْن الزبير فَقَالَت لَهُ عَائِشَة مَا سَمِعت مجادلة قطّ أحسن من هَذِه وَلَكِن لمروان إِرْث فِي الشّعْر لَيْسَ لَك 5 - مَرْوَان بن الحكم أَبُو عبد الْملك غزا إفريقية مَعَ ابْن أبي سرح وَوَجهه إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ على مَا ذكره ابْن عبد الحكم حَسْبَمَا تقدم وَكَانَ ابْن أبي سرح قد كتب إِلَى عُثْمَان يَسْتَأْذِنهُ فِي غَزْو إفريقية فندب عُثْمَان النَّاس بعد المشورة فِي ذَلِك فَلَمَّا اجْتَمعُوا أَمر عَلَيْهِم الْحَرْث بن الحكم أَخا مَرْوَان إِلَى أَن يقدموا على عبد الله بن سعد بن أبي سرح بِمصْر فَيكون الْأَمر إِلَيْهِ

وَمن شعر مَرْوَان (أعمل وَأَنت من الدُّنْيَا على حذر ... وَأعلم بأنك بعد الْمَوْت مَبْعُوث) (وَأعلم بأنك مَا قدمت من عمل ... محصى عَلَيْك وَمَا خلفت موروث) وَقد أوردت مَا دَار بَينه وَبَين عبد الله بن الزبير قبل هَذَا وَهُوَ الْقَائِل أَيْضا بَين يَدي خِلَافَته عِنْد موت مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة وأضطراب الْأُمُور بِالشَّام (إِنِّي أرى فتْنَة تغلى مراجلها ... وَالْملك بعد أبي ليلى لمن غلبا) وَذكر لَهُ الزبير بن بكار وَغَيره رجزاً فِي قتل الْحُسَيْن بن عَليّ حِين قدم بِرَأْسِهِ على الْمَدِينَة تركت ذكره وَكَانَ أَخُوهُ عبد الرَّحْمَن بن الحكم من فحول الشُّعَرَاء 6 - ابْنه عبد الْملك بن مَرْوَان أَبُو الْوَلِيد غزا إفريقية مَعَ مُعَاوِيَة بن حديج سنة أَربع وَثَلَاثِينَ فِي آخر خلَافَة عُثْمَان وَبَعثه مُعَاوِيَة هَذَا إِلَى مَدِينَة يُقَال لَهَا جلولا فِي ألف رجل فحاصرها

عبد الْملك أَيَّامًا فَلم يصنع شَيْئا فأنصرف رَاجعا فَلم يسر إِلَّا يَسِيرا حَتَّى رأى فِي ساقة النَّاس غباراً شَدِيدا فَظن أَن الْعَدو قد طَلَبهمْ فكر بِجَمَاعَة من النَّاس لذَلِك وَبَقِي من بَقِي على مَصَافهمْ وتسرع سرعَان النَّاس فَإِذا مَدِينَة جلولا قد قوع حائطها فَدَخلَهَا الْمُسلمُونَ وغنموا مَا فِيهَا وأنصرف عبد الْملك إِلَى مُعَاوِيَة بن حديج ولعَبْد الْملك فِي تمنيه الْخلَافَة وَإجَابَة دُعَائِهِ بذلك خبر غَرِيب يدْخل فِي بَاب الْأَمَانِي الصادقة وَقد رويته عَن الْحَافِظ أبي الرّبيع بن سَالم بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ من طَرِيق أبي على بن سكرة الصَّدَفِي بِإِسْنَادِهِ إِلَى الشّعبِيّ قَالَ لقد رَأَيْت عجبا كُنَّا بِفنَاء الْكَعْبَة وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن الزبير وَمصْعَب بن الزبير وَعبد الْملك بن مَرْوَان فَقَالَ الْقَوْم بعد أَن فرغوا من حَدِيثهمْ ليقمْ كل رجل مِنْكُم فليأخذ بالركن الْيَمَانِيّ وَيسْأل الله حَاجته فَإِنَّهُ يعْطى من سَعَة قُم يَا عبد الله ابْن الزبير فَإنَّك أول مَوْلُود ولد فِي الْهِجْرَة فَقَامَ فَأخذ بالركن الْيَمَانِيّ ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك عَظِيم ترجى لكل عَظِيم أَسأَلك بحركة وَجهك وبحرمة عرشك وَحُرْمَة نبيك أَلا تميتنى من الدُّنْيَا حَتَّى توليني الْحجاز وَيسلم عَليّ بالخلافة وَجَاء حَتَّى جلس فَقَالُوا قُم يَا مُصعب بن الزبير فَقَامَ حَتَّى أَخذ بالركن الْيَمَانِيّ ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك رب كل شَيْء وَإِلَيْك يصير كل شَيْء أَسأَلك بقدرتك على كل شَيْء أَلا تميتني من الدنياحتى توليني الْعرَاق وَتَزَوَّجنِي سكينَة بنت الْحُسَيْن وَجَاء حَتَّى جلس وَقَالُوا قُم يَا عبد الْملك بن مَرْوَان فَقَامَ وَأخذ بالركن الْيَمَانِيّ فَقَالَ اللَّهُمَّ رب السَّمَاوَات السَّبع وَرب الْأَرْضين ذَات النبت بعد القفر أَسأَلك بِمَا سَأَلَك

عِبَادك المطيعون لأمرك وَأَسْأَلك بِحرْمَة وَجهك وَأَسْأَلك بحقك على جَمِيع خلقك وبحق الطائفين حول بَيْتك أَلا تميتني من الدُّنْيَا حَتَّى توليني مشرق الأَرْض وَمَغْرِبهَا وَلَا يُنَازعنِي أحد إِلَّا أتيت بِرَأْسِهِ ثمَّ جَاءَ حَتَّى جلس ثمَّ قَالُوا قُم يَا عبد الله بن عمر فَقَامَ حَتَّى أَخذ بالركن الْيَمَانِيّ ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك رحمان رَحِيم أَسأَلك بِرَحْمَتك الَّتِي سبقت غضبك وَأَسْأَلك بقدرتك على جَمِيع خلقك أَلا تميتني من الدُّنْيَا حَتَّى توجب لي الْجنَّة قَالَ الشّعبِيّ فَمَا ذهبت عَيْنَايَ من الدنياحتى رَأَيْت كل وَاحِد مِنْهُم أعْطى مَا سَأَلَ وَبشر عبد الله بِالْجنَّةِ ورؤيت لَهُ وَمن شعر عبد الْملك وَقد هم بقتل بعض أَهله ثمَّ صفح عَنهُ (هَمَمْت بنفسي همة لَو فعلتها ... لَكَانَ كثيرا بعْدهَا مَا ألومها) (ولكنني من أسرة عبشمية ... إِذا هِيَ هَمت أدركتها حلومها) ويروى أَنه لما بلغه إِسْرَاف الْحجَّاج بن يُوسُف فِي الْقَتْل وتبذيره الْأَمْوَال بعد ظُهُوره على عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْأَشْعَث كتب إِلَيْهِ ينهاه ويتوعده وَكتب فِي أَسْفَل كِتَابه (إِذا أَنْت لم تتْرك أموراً كرهتها ... وتطلب رضاي بِالَّذِي أَنْت طَالبه) (وتخش الَّذِي لم يخْش مثلك لم تكن ... كذي الدّرّ رد الدّرّ فِي الضَّرع حالبه) (فَإِن تَرَ مني وثبة أموية ... فَهَذَا وَهَذَا كل ذَا أَنا صَاحبه) (وَإِن تَرَ مني غَفلَة قرشية ... فياربما قد غص بِالْمَاءِ شَاربه) (فَلَا تأمنني والحوادث جمة ... فَإنَّك مَجْزِي بِمَا أَنْت كاسبه) (وَإِنِّي لأغضى جفن عَيْني على القذى ... وأزور بِالْأَمر الَّذِي أَنا رَاكِبه) (وأملي لذِي الذَّنب الْعَظِيم كأنني ... أَخُو غَفلَة عَنهُ وَقد جب غاربه) (فَإِن آب لم أعجل عَلَيْهِ وَإِن أَبى ... وَثَبت عَلَيْهِ وثبة لَا أراقبه)

فجاوبه الْحجَّاج برسالة وَكتب مَعهَا (إِذا أَنا لم أطلب رضاك وَأتقى ... أذاك فيومى لَا توارى كواكبه) (وَمَا لامرئ يعْصى الْخَلِيفَة جنَّة ... تقيه من الْأَمر الَّذِي هُوَ رَاكِبه) (أسالم من سالمت من ذِي مَوَدَّة ... وَمن لم تسالمه فَإِنِّي محاربه) (إِذا قارف الْحجَّاج فِيك خَطِيئَة ... فَقَامَتْ عَلَيْهِ بالصياح نوادبه) (وَإِن أَنا لم أدن النصيح لنصحه ... وأقص الَّذِي دبت على عقاربه) (وَأعْطِ المواسى ... ترد الَّذِي ضَاقَتْ على مذاهبه) (فَمن يتقى بوسى ويرعى مودتي ... ويخشى الردى والدهر جم عجائبه) (فأمري إِلَيْك الْيَوْم مَا قلت قلته ... ومالم تقله لم أقل مَا يُقَارِبه) (وَمهما ترد مني فَإِنِّي أريده ... وَمَا لم ترد مني فَإِنِّي مجانبه) (بِي على الرِّضَا ... مدى الدَّهْر حَتَّى يرجع الدّرّ حالبه) وَالَّذِي أوردته من أَبْيَات فمنقول عَن إِثْبَات ومجموع من تصنيفات أشتات وَمَا كَانَ مقولا عَلَيْهِم ومنحولا إِلَيْهِم فَأَنا برِئ من عهدته

المائة الثانية

الْمِائَة الثَّانِيَة 7 - أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ ابْن عبد الله بن الْعَبَّاس دخل إفريقية فِي أَيَّام بني أُميَّة وَهُوَ إِذْ ذَاك سوقة فِرَارًا مِنْهُم وملكها فِي خِلَافَته بعد أَخِيه أبي الْعَبَّاس السفاح وخلع فِيهَا وقتا ثمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ وولاها الْأَغْلَب بن سَالم التَّمِيمِي جد الأغالبة المتداولين ملكهَا إِلَى أَن غلبهم عَلَيْهَا عبيد الله الشيعي فأنقرضوا بِهِ وَكَانَ يُقَال لأبي جَعْفَر فِي صغره مِقْلَاص لقب بذلك تَشْبِيها بالمقلاص من الْإِبِل وَهِي النَّاقة الَّتِي تسمن فِي الصَّيف وتهزل فِي الشتَاء وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو جَعْفَر حكى ذَلِك أَبُو الْوَلِيد الوقشي قَالَ وَهُوَ مقلوب الْعَادة وَلَيْسَ فِي خلفاء بني الْعَبَّاس أعلم من أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَعبد الله الْمَأْمُون ثمَّ بعدهمَا الرشيد والواثق وَمن متأخريهم المسترشد بن المستظهر وأشعرهم أَبُو الْعَبَّاس الراضي بن المقتدر

وَأَبُو جَعْفَر مَعْدُود فِي الكملة من الْمُلُوك وَكَانَ يفرط فِي دَعْوَاهُ الِاطِّلَاع ويقرط بتقريظ نَفسه الأسماع فَمن قَوْله فِي بعض خطبه الْمُلُوك أَرْبَعَة مُعَاوِيَة وَكَفاهُ زياده وَعبد الْملك وَكَفاهُ حجاجه وَهِشَام وَكَفاهُ موَالِيه وَأَنا وَلَا كافى لي وَلما عزم على الفتك بِأبي مُسلم صَاحب دولتهم والقائم بدعوتهم وَقد حذر من عَاقِبَة ذَلِك كتب إِلَيْهِ عِيسَى بن مُوسَى بن على ابْن عبد الله بن الْعَبَّاس مُشِيرا عَلَيْهِ بالأناة وَكَانَ قد شاوره فِيهِ (إِذا كنت ذَا رَأْي فَكُن ذَا تدثر ... فَإِن فَسَاد الرَّأْي أَن يتعجلا) فَقَالَ الْمَنْصُور يجِيبه (إِذا كنت ذَا رَأْي فَكُن ذَا عَزِيمَة ... فَإِن فَسَاد الرَّأْي أَن يترددا) (وَلَا تهمل الْأَعْدَاء يَوْمًا بقدرة ... وبادرهم أَن يملكُوا مثلهَا غَدا) وَينظر إِلَى هَذَا قَول عبد الله بن المعتز (وَإِن فرْصَة أمكنت فِي العدا ... فَلَا تبد فعلك إِلَّا بهَا) (فَإِن لم تلج بَابهَا مسرعا ... أَتَاك عَدوك من بَابهَا) (وَإِيَّاك من نَدم بعْدهَا ... وتأميل أُخْرَى وَأَنِّي بهَا) وَقَالَ الْمَنْصُور (تقسمني أَمْرَانِ لم أفتتحهما ... بحزم وَلم تعرك قواى الْكَرَاكِر) (وَمَا ساور الأحشاء مثل دفينة ... من الْهم ردتها عَلَيْك المصادر) (وَقد علمت أَبنَاء عدنان أنني ... لَدَى مَا عرا مقدامة متجاسر)

وَقَالَ أَيْضا يُخَاطب مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيم ابْني عبد الله بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رضى الله عَنْهُم حِين خرجا عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَة (بنى عمنَا لَا نصر عنْدكُمْ لنا ... وَلَكِنَّكُمْ فِينَا سيوف قواطع) (فلولا دفاعي عَنْكُم إِذْ عجزتم ... وَبِاللَّهِ أحمى عَنْكُم وأدافع) (لكنتم ذنابى آل مَرْوَان مِثْلَمَا ... عهدناكم وَالله معط ومانع) 8 - عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان الدَّاخِل إِلَى الأندلس وَيُقَال لَهُ صقر قُرَيْش سَمَّاهُ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور بذلك وكنيته أَبُو الْمطرف وَهُوَ الْأَشْهر فِي كنيته وَقيل أَبُو زيد وَقيل أَبُو سُلَيْمَان هرب فِي أول دولة بنى الْعَبَّاس إِلَى الْمغرب وَتردد بنواحي إفريقية وَأقَام دهر فِي أَخْوَاله نفزة من قبائل البربر وَكَانَت أمه مِنْهُم رَاح ثمَّ لحق بالأندلس فِي غرَّة شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَهزمَ أميرها يُوسُف ابْن عبد الرَّحْمَن الفِهري فِي يَوْم الْخَمِيس لتسْع خلون من ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة وأستوسقت لَهُ الْخلَافَة ليَوْم آخر يَوْم الْجُمُعَة يَوْم الْأَضْحَى وَهُوَ ابْن سِتّ وَعشْرين سنة ودعا لنَفسِهِ عِنْد استغلاظ أمره وأستيلائه على دَار الْإِمَارَة قرطبة وَيُقَال إِنَّه أَقَامَ أشهراً دون السّنة يَدْعُو لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور متقيلا فِي ذَلِك يُوسُف

الفِهري الْوَالِي قبله إِلَى أَن أفرد نَفسه بِالدُّعَاءِ وَيُقَال إِن عبد الْملك بن عمر ابْن مَرْوَان بن الحكم أَشَارَ عَلَيْهِ بذلك عِنْد خلوصه إِلَيْهِ فَقبله إِلَّا أَنه لم يعد أسم الْإِمَارَة وسلك الْأُمَرَاء من وَلَده سنته فِي ذَلِك إِلَى أَبى عهد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد النَّاصِر لدين الله فَهُوَ الَّذِي تسمى بالخلافة بعد سِنِين من سُلْطَانه ودعى بأمير الْمُؤمنِينَ لما أستفحل أمره وأستبان لَهُ ضعف ولد الْعَبَّاس وأنتثار سلطانهم بالمشرق وَذَلِكَ فِي آخر خلَافَة المقتدر بِاللَّه جَعْفَر بن أَحْمد المعتضد مِنْهُم ذكر ذَلِك أَبُو مَرْوَان حَيَّان بن خلف بن حَيَّان صَاحب تَارِيخ الأندلس وَمن شعر عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة يتشوق معاهده بِالشَّام أنْشدهُ الْحميدِي فِي تَارِيخه (أَيهَا الرَّاكِب الميمم أرضي ... أقرّ من بَعْضِي السَّلَام لبَعض) (إِن جسمي كَمَا علمت بِأَرْض ... وفؤادي ومالكيه بِأَرْض) (قدر الْبَين بَيْننَا فأفترقنا ... وطوى الْبَين عَن جفوني غمضي) (قد قضى الله بالفراق علينا ... فَعَسَى بإجتماعنا سَوف يقْضى) وَقَالَ أَيْضا فِي حَيْوَة بن ملامس الْحَضْرَمِيّ من جند حمص النازلين إشبيلية وَكَانَت لَهُ مِنْهُ منزلَة لَطِيفَة فِي أول ملكه

(فَلَا خير فِي الدنياا وَلَا فِي نعيمها ... إِذا غَابَ عَنْهَا حَيْوَة بن ملامس) (أَخُو السَّيْف قارى الضَّيْف حقايراهما ... عَلَيْهِ ونافى الضيم عَن كل بائس) وَحكى عِيسَى بن أَحْمد الرَّازِيّ أَن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة أول نُزُوله منية الرصافة بقرطبة وأتخاذه لَهَا نظر إِلَى نَخْلَة مُفْردَة فهاجت شجنه وتذكر بلد الْمشرق فَقَالَ بديهاً (تبدت لنا وسط الرصافة نَخْلَة ... تناءت بِأَرْض الغرب عَن بلد النّخل) (فَقلت شبيهي فِي التغرب والنوى ... وَطول التنائي عَن بني وَعَن أَهلِي) (نشأت بِأَرْض أَنْت فِيهَا غَرِيبَة ... فمثلك فِي الإقصاء والمنتأى مثلي) (سقتك غوادي المزن من صوبها الَّذِي ... يسح ويستمري السماكين بالوبل) وَقَالَ أَيْضا فِيهَا (يَا نخل أَنْت غَرِيبَة مثلي ... فِي الغرب نائية عَن الأَصْل) (فأبكى وَهل تبْكي مكبسة ... عجماء لم تطبع على خبل) (لَو أَنَّهَا تبكى إِذا لبكت ... مَاء الْفُرَات ومنبت النّخل) (لَكِنَّهَا ذهلت وأذهلني ... بغضي بني الْعَبَّاس عَن أَهلِي) وَقد قيل إِن الأبيات الْأَرْبَعَة الأول لعبد الْملك بن بشر بن عبد الْملك بن بشر بن مَرْوَان بن الحكم قَالَهَا عِنْد دُخُوله الأندلس فِرَارًا من بني الْعَبَّاس فِي صدر أَيَّام الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وَقيل فِي الأبيات الْأَخِيرَة إِنَّهَا لعبد الْملك

ابْن عمر بن مَرْوَان بن الحكم وَقد اجتاز فِي قَصده قرطبة حَضْرَة الْأَمِير عبد الرحمن بن مُعَاوِيَة على مَا حكى الْحَافِظ بِمَدِينَة إشبيلية فَرَأى فِي مَوضِع مِنْهَا يعرف ب النخيل إِلَى الْيَوْم نَخْلَة مُفْردَة فلحقته رقة عِنْد النّظر إِلَيْهَا وَقَالَ بديهاً الأبيات الْمَذْكُورَة وَمِمَّا يرد هَذَا القَوْل ويقوى نسبتها أَعنِي الأبيات الْأَخِيرَة لعبد الرَّحْمَن ابْن مُعَاوِيَة مَا حكى الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم خلف بن عبد الْملك بن بشكوال فِي تَارِيخه وقرأته على القَاضِي أبي الْخطاب أَحْمد بن مُحَمَّد بن وَاجِب الْقَيْسِي بِمَدِينَة بلنسية عَنهُ قِرَاءَة عَلَيْهِ بِحَضْرَة قرطبة قَالَ قَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُوسَى بن فتح يعرف بِابْن الْغُرَاب دخلت يَوْمًا على أبي عُثْمَان بن الْقَزاز وَهُوَ يعلق فَقلت لَهُ رَأَيْت السَّاعَة فِي تَوَجُّهِي إِلَيْك القَاضِي والوزراء والحكام والعدول قد نهضوا بِجَمْعِهِمْ إِلَى حِيَازَة الْجنَّة الْمَعْرُوفَة ب ربنالش وَهبهَا هِشَام للمظفر بن أبي عَامر قَالَ فَقَالَ لي ابْن الْقَزاز إِن هشاماً لضعيف هَذِه الْجنَّة الْمَذْكُورَة

هِيَ أول أصل أتخذه عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وَكَانَ فِيهَا نَخْلَة أدركتها بسنى وَمِنْهَا توالدت كل نَخْلَة بالأندلس قَالَ وَفِي ذَلِك يَقُول عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وَقد تنزه إليهاا فَرَأى تِلْكَ النَّخْلَة فحن يَا نخل أَنْت غَرِيبَة مثلي وَذكر الأبيات إِلَى آخرهَا وَحكى أَبُو عمر أَحْمد بن مُحَمَّد بن فرج صَاحب كتاب الحدائق الْمُؤلف للْحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه من أشعار الأندلسيين قَالَ بَلغنِي أَن بعض الْوُفُود من قُرَيْش كتب إِلَى الإِمَام عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة رَحمَه الله يستعظم حَقه عَلَيْهِ بالرحم ويستقل حَظه مِنْهُ بالمسطمع فَوَقع فِي ظهر كِتَابه (شتان من قَامَ ذَا أمتعاض ... منتضى الشفرتين نصلا) (فجاب قفراً وشق بحرا ... مساميا لجة ومحلا) (فشادمجدا وبز ملكا ... ومنبراً للخطاب فصلا) (وجند الْجند حِين أودى ... ومصر الْمصر حِين أخلى) (ثمَّ دَعَا أَهله جَمِيعًا ... حَيْثُ أنتأوا أَن هَلُمَّ أَهلا)

(فجَاء هَذَا طريد جوع ... شريد سيف أياد قتلا) (فنال أمنا ونال شبعاً ... وَحَازَ مَالا وَضم شملا) (ألم يكن حق ذَا على ذَا ... أعظم من منعم وَمولى) وَبَعض هَذَا الشّعْر عَن ابْن حَيَّان وأوله عِنْده (شتان من قَامَ ذَا امتعاض ... فشال مَا قل وأضمحلا) (وَمن غَدا مُصْلِتًا لعزم ... مُجَردا للعداة نصلا) فجاب قفراً الْبَيْت وَبعده (فبز ملكا وشاد عزا ... ) إِلَّا أَن ابْن حَيَّان ذكر عَن مُعَاوِيَة بن هِشَام الشبينسي أَن جلساء عبد الرَّحْمَن القادمين عَلَيْهِ من فل أَهله بِالشَّام حدثوه يَوْمًا مَا كَانَ من

الْغمر بن يزِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان ابْن عَمه أَيَّام محنتهم وَكَلَامه للْعَبَّاس الساطى بهم وَنسب ذَلِك إِلَى عبد الله بن عَليّ وَفِي الأوراق للصولى أَن السفاح عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ تولى قتل الْغمر وَقد فَخر فِي مَجْلِسه بمناقب قومه وَكثر الْقَوْم فِي وصف ذَلِك وعجوا بِهِ فَكَأَن الْأَمِير عبد الرَّحْمَن أحتقر ذَلِك فِي جنب مَا كَانَ مِنْهُ هُوَ فِي الذّهاب بِنَفسِهِ لأقتطاع قِطْعَة من مملكة الْإِسْلَام عَن عدوه وَقَامَ من مَجْلِسه فصاغ هَذِه الأبيات بديهة قَالَ ابْن الْفرج وَأَتَاهُ فِي بعض غَزَوَاته آتٍ مِمَّن كَانَ يعرف كلفه بالصيد فَأخْبرهُ عَن غرانيق وَاقعَة فِي جَانب من مُضْطَرب الْعَسْكَر وحركه إِلَى اصطيادها فَقَالَ (دَعْنِي وصيد وَقع الغرانق ... فَإِن همي فِي أصطياد المارق) (فِي نفق إِن كَانَ أَو فِي حالق ... إِذا التظت لوافح الضوائق) (كَانَ لفاعي ظلّ بند خافق ... غنيت عَن روض وَقصر شَاهِق)

(بالقفر والإيطان بالسرادق ... فَقل لمن نَام على النمارق) (إِن الْعلَا شدت بهم طَارق ... فأركب إِلَيْهَا ثبج المضائق) (أَولا فَأَنت أرذل الْخَلَائق ... 9 - ابْنه هِشَام بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة ولى الْخلَافَة بالأندلس بعد أَبِيه يَوْم الْأَحَد غرَّة جُمَادَى الأولى من سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة وَكَانَت وَفَاة أَبِيه وَهُوَ بماردة يَوْم الثُّلَاثَاء لست بَقينَ من ربيع الآخر وبقرطبة ولد لَهُ هِشَام هَذَا لأَرْبَع خلون من شَوَّال سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَيعرف ب الرِّضَا لعدله وفضله ويكنى أَبَا الْوَلِيد وأستوزره أَبوهُ عبد الرَّحْمَن وأخاه كبيره سُلَيْمَان الْمَوْلُود بِالشَّام تنويهاً بحالهما وَأَخذهمَا بالركوب إِلَى الْقصر ومشاهدة مجَالِس مشورته وَكَانَا يركبان متداولين ومتناوبين لَا يَجْتَمِعَانِ فَإِذا كَانَ يَوْم هِشَام تأهب حاضرو الْمجْلس من كبار أهل المملكة [] والإفاضة فِي الحَدِيث إِلَى إنشاد شعر أَو ضرب مثل أَو ذكر يَوْم من أَيَّام الْعَرَب أَو ذكر حَرْب أَو أجتلاب حِيلَة أَو حِكَايَة تَدْبِير أَو إحماد سيرة وَإِذا كَانَ يَوْم سُلَيْمَان خلا من ذَلِك كُله وانبسط الْحَاضِرُونَ فِي غث الْأَحَادِيث وَأخذُوا فِي الدعابة ويروى أَن رجلا يعرف بالهوارى دخل على هِشَام فِي حَيَاة أَبِيه عبد الرَّحْمَن ابْن مُعَاوِيَة وَهُوَ مرشح للخلافة فَقَالَ لَهُ إِن فلَانا مَاتَ عَن ضَيْعَة تعود بِكَذَا وَكَذَا من الْغلَّة وَأَنَّهَا تبَاع فِي دين أَو عَن وَصِيَّة وَهِي ناعمة مثمرة وطيبة الأَرْض مخصبة وحضه على اشترائها فَقَالَ لَهُ أَنا أُرِيد أمرا إِن بلغته

غنيت عَنْهَا وَإِن قطع بِي دونه خسرتها ولأصطناع رجل أحب إِلَيّ من أكتساب ضَيْعَة فَقَالَ لَهُ الهوارى فأصطنعني بهَا تَجِد أكْرم مصطنع فَأمر بأبتياعها فَأَشَارَ بعض من حضر إِلَى أَن الأستعداد بِالْمَالِ أعون على دَرك الآمال فَأَطْرَقَ عَنهُ ثمَّ قَالَ (الْبَذْل لَا الْجمع فطْرَة الْكَرم ... فَلَا ترد بِي مالم ترد شيمي) (مَا أَنا من ضَيْعَة وَإِن نعمت ... حسبي أصطناع الْأَحْرَار بِالنعَم) (ملك الورى والعباد قاطبة ... لاملك بعض الضّيَاع من هممي) (تفيض كفى فِي السّلم بَحر ندى ... وَفِي سِجَال الحروب بَحر دم) (تزل عَن راحتي البدور وَمَا ... تمسك غير الحسام والقلم) لم أجد لهَذَا الْملك الأمجد مَعَ نشدان ضَالَّة كَلَامه غير هَذَا المنشد وَإِن كَانَ قَلِيلا فَكفى دَلِيلا على سرف الحباء وَشرف الحوباء حَتَّى كَأَن أعشى هَمدَان سمع بِطُولِهِ فأعتمده بقوله (رَأَيْتُك أمس خير بني لؤَي ... وَأَنت الْيَوْم خير مِنْك أمس) (وَأَنت غَدا تزيد الْخَيْر ضعفا ... كَذَاك تزيد سادة عبد شمس) 10 - ابْنه الحكم بن هِشَام الْمَعْرُوف بالربضى أَبُو العاصى ولي بعد أَبِيه يَوْم الْجُمُعَة لأَرْبَع عشرَة خلت من صفر سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَكَانَ شجاعاً باسلاً أديباً مفتناً خَطِيبًا مفوهاً وشاعراً مجوداً تحذر صولاته وتستندر أبياته

وَهُوَ الَّذِي أوقع بِأَهْل الربض فنسب إِلَيْهِ وَأمر بهدمه وتعطيله وصير ذَلِك وَصِيَّة فِيمَن خَلفه وعهداً على بنيه مَا كَانَ لَهُم سُلْطَان بالأندلس فَلم يعمر وَلَا أختطت فِيهِ دَار إِلَى آخر دولتهم ثمَّ بعْدهَا إِلَى أَن ملك الرّوم قرطبة يَوْم الْأَحَد الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَأقَام على ذَلِك نَحوا من أَرْبَعمِائَة سنة وَثَلَاثِينَ سنة وَلَا أعلمهُ إِلَّا كَذَلِك إِلَى الْيَوْم وَكَانَت وقْعَة الربض الشنعاء يَوْم الْأَرْبَعَاء النحسة لثلاث عشرَة خلت من شهر رَمَضَان سنة أثنتين وَمِائَتَيْنِ فِي آخر خلَافَة الحكم وَيَوْم الْخَمِيس بعده أَمر بهدم الربض القبلي الَّذِي مِنْهُ نشأت الْفِتْنَة فأعيد بطحاء مزرعة بعد أَن قتل من أَهله مقتلة عَظِيمَة وَأسر خلقا جماً صلب مِنْهُم نَحْو ثلثمِائة صفوا من إزاء بَاب القنطرة إِلَى آخر المصادة مَعَ ضفة النَّهر لم ير فِيمَا سلف ممثلون أَكثر مِنْهُم عددا وَلَا أهول منْظرًا وَتَمَادَى الْقَتْل والنهب لمنازلهم والتتبع لمستخفيهم ثَلَاثَة أَيَّام لم تقل لمن عثر عَلَيْهِ مِنْهُم عَثْرَة وَجَرت عَلَيْهِم خلالها محن لَا تضبطها الصّفة وكف الحكم عَن الْحرم ووصى بِهن فأجمل فِي ذَلِك مَا شَاءَ

وَلما انْقَضتْ الْأَيَّام الثَّلَاثَة أَمر بِرَفْع الْقَتْل وتأمين الفل على أَن يخرجُوا من حَضرته قرطبة فَسَارُوا عَن أوطانهم كل بِحَسب مَا أمكنه وأستمروا ظاعنين على الصعب والذلول فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء لعشر بَقينَ من شهر رَمَضَان المؤرخ مُتَفَرّقين فِي قصى الكور وأطراف الثغور وَلحق جمهورهم بطليطلة لمُخَالفَة أَهلهَا الحكم ولجأ آخَرُونَ إِلَى سواحل بِلَاد البربر وأصعدت مِنْهُم طَائِفَة عَظِيمَة نَحْو الْخَمْسَة عشر ألفا فِي الْبَحْر نَحْو الْمشرق حَتَّى أنتهوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَذَلِكَ فِي أول ولَايَة عبد الله الْمَأْمُون بن الرشيد فعازهم أَهلهَا وذهبوا إِلَى إذلالهم فَأَبَوا الضيم وثاروا بهم فغلبوهم وبذلوا السَّيْف فيهم وَقتلُوا كثيرا مِنْهُم وسطوا بهم سطوة مُنكرَة وملكوا الْإسْكَنْدَريَّة مديدة إِلَى أَن ورد عبد الله بن طَاهِر أَمِيرا على مصر من قبل الْمَأْمُون فَصَالحهُمْ على التخلى عَنْهَا على مَال بذله لَهُم وَخَيرهمْ فِي النُّزُول بِحَيْثُ شَاءُوا من جزائر الْبَحْر فأختاروا جَزِيرَة إقريطش من الْبَحْر الرومى وَكَانَت يَوْمئِذٍ خَالِيَة من الرّوم فأحتملوا إِلَيْهَا بفتنتهم ونزلوها فأعتمروها وجاءهم النَّاس من كل مَكَان فأوطنوها مَعَهم وَحكى ابْن حَيَّان عَن أبي بكر بن الْقُوطِيَّة وَغَيره أَن الحكم غرب فِي بأساء حربه هَذِه عِنْدَمَا حمى وطيسها وأعضل خطبهَا بنادرة من نَوَادِر الصَّبْر والتوطين على الْمَوْت مَا سمع لأحد من الْمُلُوك مثلهَا وَذَلِكَ أَنه فِي مقَامه بالسطح وَعند بَصَره بأشتداد الْحَرْب وجثوم الكرب وسماعه قعقعة السِّلَاح وأنتماء الْأَبْطَال دَعَا بقارورة غَالِيَة لتدني مِنْهُ فتوانى بهَا عَنهُ

خادمه الْمُسَمّى يزنت ظنا مِنْهُ أَنه لهج فِي مَنْطِقه فصاح بِهِ وزجره وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فَكَأَن الْخَادِم شكّ فِي طلبته واتهم سَمعه فتوقف عَن المضى لأَمره فصاح بِهِ الحكم أَنطلق يَا ابْن اللخناء فَعجل فَجَاءَهُ بالقارورة فأفرغها على رَأسه ولحيته وَلم يملك الْخَادِم نَفسه أَن قَالَ لَهُ وأية سَاعَة طيب هَذِه يَا مولَايَ فتستعمله وَقد ترى مَا نَحن فِيهِ فَقَالَ لَهُ أسكت لَا أم لَك من أَيْن يعرف قَاتل الحكم رَأسه من رَأس غَيره إِذا هُوَ مذه إِن لم يفرق الطّيب بَينهمَا ثمَّ أستلأم للحرب وَأمر بتفريق السِّلَاح وَالْخَيْل على أجناده وأنهضهم لقِتَال من جاش بِهِ بعد أَن كتبهمْ كتائب قَود عَلَيْهَا كبارًا من قواده وَأهل بَيته فأنهزمت الْعَامَّة بعد قتال شَدِيد وَلم تكن لأحد مِنْهُم كرة وَكَانُوا كالدبا كَثْرَة قَالَ وَلم ينل الحكم بعد وقيعة الربض حلاوة الْعَيْش وأمتحن بعلة صعبة طاولته أَرْبَعَة أَعْوَام قلت غربه وأطالت ضناه وأحتجب فِيهَا آخر مدَّته وأستناب وَلَده عبد الرَّحْمَن فِي تَدْبِير ملكه فَمَاتَ على تَوْبَة من ذنُوبه وَنَدم على

مَا اقْتَرَف مِنْهَا بَين صَلَاتي الظّهْر وَالْعصر من يَوْم الْخَمِيس لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ وَمن شعره فِي ذَلِك يعْذر نَفسه بالدفاع عَن ملكه والحماية لسلطانه وَهُوَ من أحسن شعر قيل فِي مَعْنَاهُ (رأبت صدوع الأَرْض بِالسَّيْفِ راقعاً ... وقدماً لأمت الشّعب مذ كنت يافعاً) (فسائل ثغوري هَل بهَا الْيَوْم ثغرة ... أبادرها مستنضى السَّيْف دارعا) (وشافه على الأَرْض الفضاء جماجماً ... كأقحاف شريان الهبيد لوامعا) (تنبئك أَنِّي لم أكن فِي قراعهم ... بوان وقدماً كنت بِالسَّيْفِ قارعا) (وَإِنِّي إِذا حادوا حذاراً عَن الردى ... فلست أَخا حيد عَن الْمَوْت جازعا) (حميت ذماري فاتهكت ذمارهم ... وَمن لَا يحامى ظلّ خزيان ضارعا)

(وَلما تسقينا سِجَال حروبنا ... سقيتهم سجلاً من الْمَوْت ناقعا) (وَهل زِدْت أَن وفيتهم صَاع قرضهم ... فلاقوا منايا قدرت ومصارعا) (فهاك بلادي إِنَّنِي قد تركتهَا ... مهاداً وَلم أترك عَلَيْهَا منازعا) قَالَ عُثْمَان بن الْمثنى النَّحْوِيّ الْمُؤَدب قدم بعد الْوَقْعَة علينا عَبَّاس بن نَاصح قرطبة أَيَّام الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن الحكم فأستنشدني شعر الْأَمِير الحكم فِي الهيج فَأَنْشَدته إِيَّاه فَلَمَّا بلغت إِلَى قَوْله (وَهل زِدْت أَن وفيتهم صَاع قرضهم ... فلاقوا منايا قدرت ومصارعا) قَالَ عَبَّاس لَو أَن الحكم يخْشَى للخصومة بَينه وَبَين أهل الربض لقام بِعُذْرِهِ فيهم هَذَا الْبَيْت وَفِي رِوَايَة إِذا كَانَت الْخُصُومَة بَينه وَبَين أهل الربض أجبرته فَإِن هَذَا الْبَيْت ليحاجج عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة

وَله أَيْضا فِي ذَلِك (غناء صليل الْبيض أشهى إِلَى الْأذن ... من اللّحن فِي الأوتار وَاللَّهْو والردن) (إِذا أختلفت زرق الأسنة والقنا ... أرتك نجوماً يطلعن من الطعْن) (بهَا يهتدى السارى وتنكشف الدجى ... وتستشعر الدُّنْيَا لباساً من الْأَمْن) (شققت غمار الْمَوْت تخطي مهجتي ... سِهَام ردى قبلي أَصَابَت ذَوي الْجُبْن) (إذاا لفحت ريح الظهائر لم يكن ... لفاعى فِيهَا غير فَيْء القنا اللدن) (وَإِن لم يجد حصناً سوى الفر مقدم ... فَمَالِي غير السَّيْف وَالرمْح من حصن) (قذفت بهم من فَوق بهماء فاتروت ... لَهُ الأَرْض وأستولى على السهل والحزن) (فَسَار يرْوى كل صديان حائم ... وسح كَمَا سحت عزال من المزن) (وَإِن عَن للتيار من سيلانه ... ذرى شَاهِق أضحى كمنتفش العهن) (هنأت بِهِ حرباتقشع بحرها ... بِحمْل هناء لَيْسَ يصلح للبدن) وَله فِي النسيب (ظلّ من فرط حبه مَمْلُوكا ... وَلَقَد كَانَ قبلذاك مليكا) (إِن بَكَى أَو شكا الْهوى زيد ظلما ... وبعاداً يدنى حَماما وشيكا) (تركته جآذر الْقصر صبا ... مستهاماً على الصَّعِيد تريكا) (يَجْعَل الخد وَاضِعا فَوق ترب ... للَّذي يَجْعَل الْحَرِير أريكا) (هَكَذَا يحسن التذلل فِي الْحبّ ... إِذا كَانَ فِي الْهوى مَمْلُوكا)

وَله فِي خمس جوَار من حظاياه كن مصطحبات فتغاضبن عَلَيْهِ وقتا فِي طَرِيق الْغيرَة وهجرته (قضب من البان ماست فَوق كُثْبَان ... ولين عني وَقد أزمعن هجراني) (ناشدتهن بحقي فأعتزمن على الْعِصْيَان ... حَتَّى حلا مِنْهُنَّ عصياني) (ملكتني ملك من ذلت عَزَائِمه ... للحب ذل أَسِير موثق عان) (من لي بمغتصبات الرّوح من بدني ... يغصبنني فِي الْهوى عذي وسلطاني) 11 - إِدْرِيس بن عبد الله بن الْحسن بن الْحسن ابْن عَليّ بن أبي طَالب ولد لعبد الله بن حسن وَكَانَ شيخ بني هَاشم فِي وقته إِدْرِيس الْأَكْبَر وَأمه هِنْد بنت أبي عُبَيْدَة المطلبية وَإِدْرِيس الْأَصْغَر هَذَا أمه عَاتِكَة بنت عبد الْملك بن الْحَارِث المخزومية وأخواه مِنْهَا عِيسَى وَسليمَان حكى ذَلِك أَبُو عَليّ حُسَيْن بن أبي سعيد عبد الرَّحْمَن بن عبيد القيرواني الْمَعْرُوف بالوكيل فِي كِتَابه المعرب عَن أَخْبَار الْمغرب وأختصرته مِنْهُ وَذكر أَن إِسْحَاق

ابْن عِيسَى كَانَ على الْمَدِينَة فَلَمَّا مَاتَ الْمهْدي وَولى مُوسَى الهادى شخص وافداً عَلَيْهِ وأستخلف على الْمَدِينَة عمر بن عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب فَخرج عَلَيْهِ بهَا الْحُسَيْن بن عَليّ بن الْحسن بن الْحسن الْعلوِي وأستخفى الْعمريّ حَتَّى خرج الْحُسَيْن إِلَى مَكَّة فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَكَانَ قد حج فِي تِلْكَ السّنة رجال من بني الْعَبَّاس مِنْهُم مُحَمَّد بن سُلَيْمَان ابْن عَليّ وَالْعَبَّاس بن مُحَمَّد ومُوسَى بن عِيسَى وعَلى الْمَوْسِم سُلَيْمَان بن أبي جَعْفَر فَكتب الْهَادِي إِلَى مُحَمَّد بن سُلَيْمَان يوليه الْحَرْب فَالْتَقوا بفخ وخلعوا عبيد الله ابْن قثم بِمَكَّة للْقِيَام بأمرها وَكَانَت الْوَقْعَة يَوْم السبت يَوْم التَّرويَة فَقتل الْحُسَيْن الْقَائِم وَسليمَان بن عبد الله وأنهزم النَّاس فنودى فيهم بالأمان وَلم يتبع هارب وحزت الرؤوس فَكَانَت مائَة ونيفاً وَكَانَ فِيمَن هرب يحيى وَإِدْرِيس ابْنا عبد الله بن حسن فَأَما إِدْرِيس فلحق بالمغرب ولجأ إِلَى أَهله فأعظموه وَلم يزل عِنْدهم إِلَى أَن أحتيل عَلَيْهِ وَخلف ابْنه إِدْرِيس بن إِدْرِيس فملكوا تِلْكَ النَّاحِيَة وأنقطعت عَنْهُم الْبعُوث وَأما يحيى فَصَارَ إِلَى جبل الديلم فَأَقَامَ عِنْد صَاحبه إِلَى أَن شخص إِلَيْهِ الْفضل بن يحيى بن خَالِد فِي أَيَّام الرشيد فَأَمنهُ وَحمله إِلَيْهِ وَقد قيل إِن إِدْرِيس هرب إِلَى الْمغرب فِي أَيَّام أبي جَعْفَر الْمَنْصُور عِنْد قتل أَخَوَيْهِ مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم القائمين عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَة وَأَن أَبَا جَعْفَر بعث إِلَيْهِ من سمه وَالصَّحِيح أَن ذَلِك كَانَ فِي خلَافَة الهادى بالعراق وَبعد عشرَة أشهر وَأَيَّام مِنْهَا وَفِي آخر خلَافَة عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بالأندلس وَقبل وَفَاته بعامين وَأشهر وَأَن إِدْرِيس وَقع إِلَى مصر وعَلى بريدها وَاضح مولى صَالح بن الْمَنْصُور

وَكَانَ رَافِضِيًّا فَحَمله على الْبَرِيد إِلَى أَرض الْمغرب حَتَّى انْتهى إِلَى مَدِينَة وليلى من أَرض طنجة فأستجاب لَهُ من بهَا وبأعراضها من البربر فَلَمَّا ولى الرشيد علم بذلك فَضرب عنق وَاضح وصلبه ودس إِلَى إِدْرِيس من أنس بِهِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ وَكتب لَهُ كتابا إِلَى إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب عَامله على إفريقية فاحتال حَتَّى سمه وأختلف فِيمَن سم إِدْرِيس وَمَا سم فِيهِ فَقيل الشماخ المشماسي مولى الْمهْدي سمه فِي سنُون سَقَطت مِنْهُ أَسْنَانه لما أستعمله وَمَات من وقته وَسَيَأْتِي خَبره بعد إِن شَاءَ الله وَقيل بل سُلَيْمَان بن جرير الرقى كَانَ سَبَب سمه وَكَانَ إِدْرِيس بِهِ واثقاً فَأتى من قبله وهرب مَعَ الرُّسُل الَّذين أَتَوا فِي ذَلِك وَطلب ففات وَيُقَال إِن سُلَيْمَان هَذَا وَكَانَ يَقُول بإمامة زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن نَاظر إِدْرِيس يَوْمًا فِي شَيْء فخالفه ثمَّ دخل الْحمام فَلَمَّا خرج بعث إِلَيْهِ سُلَيْمَان بِسَمَكَةٍ مشوية أنكر نَفسه عِنْد أكله مِنْهَا فَشَكا بَطْنه وَقَالَ أدركوا

سُلَيْمَان فَأدْرك وَقيل لَهُ أجب فأمتنع فَضرب على وَجهه بِسيف وَضرب أُخْرَى على يَده فأنقطعت أُصْبُعه وأفلت وَقيل سم فِي طيب تطيب بِهِ وَولده وَأهل بَيته يَقُولُونَ إِنَّمَا سم فِي بطيخة وهم وَإِن أختلفوا فِي الشَّيْء الَّذِي سم بِهِ فهم مجمعون على أَنه مَاتَ مسموما وَمن شعره (أَلَيْسَ أَبونَا هَاشم شدّ أزره ... وَأوصى بنيه بالطعان وبالضرب) (فلسنا نمل الْحَرْب حَتَّى تملنا ... وَلَا نتشكى مَا يهول من النكب) 12 - ابْنه إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبد الله أَبُو دَاوُود قَالَ أَبُو الْحسن على بن مُحَمَّد النَّوْفَلِي توفّي إِدْرِيس بن عبد الله وَجَارِيَة من جواريه حُبْلَى أسمها كنزة فَقَامَ رَاشد مَوْلَاهُ وَيُقَال إِنَّه مولى أَخِيه عِيسَى بن عبد الله وَهُوَ الَّذِي خرج بِهِ حَتَّى أقدمه الْمغرب بِأَمْر البربر إِلَى أَن ولدت الْجَارِيَة غُلَاما فَسَماهُ باسم أَبِيه إِدْرِيس وَقَامَ بأَمْره حَتَّى بلغ الْغُلَام وأدبه وَكَانَ مولده فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَسبعين وَمِائَة وَتُوفِّي رَاشد سنة سِتّ وَثَمَانِينَ فَقَامَ يَأْمر الْغُلَام أَبُو خَالِد يزِيد بن إلْيَاس وَأخذ بيعَة البربر لَهُ يَوْم الْجُمُعَة فِي شهر ربيع الآخر سنة سبع وَثَمَانِينَ وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة وَأسسَ مَدِينَة الْقرَوِيين سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخرج إِلَى

نَفِيس فِي الْمحرم سنة سبع وَتِسْعين ثمَّ غزا نفزة وتلمسان وَتُوفِّي سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة سم فِي حَبَّة عِنَب فَلم يزل مَفْتُوح الْفَم سَائل اللعاب حَتَّى مَاتَ وَعَن غير النَّوْفَلِي أَن زِيَادَة الله بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب هُوَ الَّذِي أحتال عَلَيْهِ حَتَّى أغتاله وَعَامة من فِي الْمغرب من الحسنيين من ولد إِدْرِيس هَذَا وَمِنْهُم بَنو حمود الْخُلَفَاء فِي قرطبة بعد الأربعمائة وَذكر أَبُو بكر الرَّازِيّ أَن إِدْرِيس بن عبد الله دخل الْمغرب سنة اثْنَتَيْنِ

وَسبعين فِي شهر رَمَضَان هَارِبا بِنَفسِهِ من أبي جَعْفَر فَنزل موضعا يُقَال لَهُ وليلى بوادي الزَّيْتُون فأجتمعت إِلَيْهِ قبائل من البربر فقدموه على أنفسهم وبنوا مَدِينَة فاس وَكَانَت أجمة شعراء وَلما احتفرت أساساتها ألفى فِي بَعْضهَا فأس فسميت بِمَدِينَة فاس وسكنها البربر فَلم تطل أَيَّامه وَهلك سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة وَترك جَارِيَة حَامِلا مِنْهُ فَولدت بعده ابْنا سمى بِإِدْرِيس ابْن إِدْرِيس ملك بعد أَبِيه مَدِينَة فاس وطالت مدَّته وَتُوفِّي فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ ومولده فِي شهر ربيع الآخر سنه خمس وَسبعين كَذَا قَالَ الرَّازِيّ وَقد تقدم التَّنْبِيه على غلط الْقَائِل بِدُخُول إِدْرِيس الْمغرب فِي خلَافَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَمن شعر إِدْرِيس بن إِدْرِيس يُخَاطب البهلول بن عبد الْوَاحِد المدغرى ذَاهِبًا إِلَى مُرَاجعَة طَاعَته ومحذراً مكر إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب وَهُوَ الَّذِي كَانَ أفْسدهُ عَلَيْهِ حَتَّى قَاتله البهلول (كَأَنَّك لم تسمع بمكر ابْن أغلب ... وَمَا قد رمى بالكيد كل بِلَاد) (وَمن دون مَا منتك نَفسك خَالِيا ... ومناك إِبْرَاهِيم خرط قتاد) وَكتب إِلَى إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب يَدعُوهُ إِلَى طَاعَته أَو الْكَفّ عَن ناحيته ويذكره قرَابَته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي أَسْفَل كِتَابه (أذكر إِبْرَاهِيم حق مُحَمَّد ... وعترته وَالْحق خير مقول) (وأدعوه لِلْأَمْرِ الَّذِي فِيهِ رشده ... وَمَا هُوَ لَوْلَا رَأْيه بجهول) (فَإِن آثر الدُّنْيَا فَإِن أَمَامه ... زلازل يَوْم للعقاب طَوِيل) وَله يتشوق أهل بَيته (لَو مَال صبري بصبر النَّاس كلهم ... لضل فِي روعتي أَو ضل فِي جزعي)

(وَمَا أريع إِلَى يأس ليسليني ... إِلَّا يأس إِلَى طمع) (وَكَيف يصبر مطوى هضائمه ... على وساوس هم غير مُنْقَطع) (إِذا الهموم توافت بعد هجعته ... كرت عَلَيْهِ بكأس مرّة الجرع) (بَان الْأَحِبَّة وأستبدلت بعدهمْ ... هما مُقيما وشملاً غير مُجْتَمع) (كأنني حِين يجرى الْهم ذكرهم ... على ضميري مخبول من الْفَزع) (تأوى همومي إِذا حركت ذكرهم ... إِلَى جوانح جسم دَائِم الولع) 13 - عبد الْملك بن عمر بن مَرْوَان بن الحكم أَبُو مَرْوَان وَقيل أَبُو الْوَلِيد قعيد جمَاعَة آل مَرْوَان فِي وقته وفارسهم وشهابهم قدم من مصر على عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة فِي سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة أول ولَايَته بالأندلس وَهُوَ فِي عشرَة رجال من بنيه فرسَان فولاه إشبيلية وَولى ابْنه عبد الله مورور وأغنى فِي حَرْب يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن الفِهري عِنْد نكثه وفراره من قرطبة حَتَّى قتل وَقيل كَانَ والياً على ماردة وَابْنه على لقنت وَلما زحف أهل حمص إِلَى عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة يطلبونه بثأر أبي الصَّباح الْيحصبِي وَكَانَ قد طاح على يَدَيْهِ أبلى عبد الْملك هَذَا بلَاء حسنا وَقتل وَلَده أُميَّة صبرا لما أنحاز إِلَيْهِ مُنْهَزِمًا قدمه فَضرب عُنُقه فهابه الْجند وشدوا مَعَه وَمَعَ سَائِر بنيه فَكَانَت

الدبرة على أهل حمص وَمن مَعَهم وَفتح الله على يَدَيْهِ فتحا لاكفاء لَهُ وأجلت الْحَرْب عَنهُ جريحاً فأحظاه عبد الرَّحْمَن وَقيل بل قتل ابْنه الْمَذْكُور فِي حَرْب يُوسُف الفِهري حِين أنهزم وَقتل من أَصْحَابه نَحْو عشرَة آلَاف وَلم تقم لَهُ بعد قَائِمَة فأحظاه عبد الرَّحْمَن وَقدمه وأستوزر بنيه عبد الله وَإِبْرَاهِيم وَحكما وَزوج ابْنَته كنزة من ابْنه هِشَام ولى عَهده فَقَالَ عبد الْملك فِي ذَلِك من قصيدة طَوِيلَة (فيا زَمنا أودى بأهلى ومعشري ... لقد صرت فِي أحشائنا لاذعاً جمرا) (ويزداد دهر السوء غشا وظلمة ... كَأَن على شمس الضُّحَى دُوننَا سترا) (إِلَى أَن بدا من آل مَرْوَان مقمر ... أَضَاء لنا من بعد ظلمته الدهرا) (هجان أصيل الرأى ندب مهذب ... أَقَامَ لنا ملكا وَشد لنا أزرا) (وَأنْبت آمالاً وَأثبت نعْمَة ... وَجِئْنَا فألفينا الْكَرَامَة والبرا) (أنال وأغنى منعماً متفضلاً ... وأصفى لنا مأمول أبنائه صهرا) (فَنحْن حواليه النُّجُوم تجمعت ... إِلَى الْبَدْر حَتَّى صرن من حوله حجرا) وَمِنْهَا يذكر زفاف ابْنَته كنزة هَذِه (لعمري لقد أهديت بَيْضَاء حرَّة ... إِلَى خير من أغْلى بأثمانها المهرا) (لَهَا حسب يَأْبَى على كل مقرف ... ويرضى لَهَا تِلْكَ الخضارمة الزهرا) (وَآل أبي العَاصِي هم نظراؤها ... فَأكْرم بشمس أنكحت قمراً بَدْرًا)

14 - عبد الْملك بن بشر بن عبد الْملك بن بشر ابْن مَرْوَان بن الحكم كَانَ أَبوهُ بشر من أُمَرَاء الأموية فَقتله أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور مَعَ يزِيد بن عمر ابْن هُبَيْرَة الْفَزارِيّ آخر عُمَّال بني أُميَّة على الْعرَاق وَنَجَا ابْنه عبد الْملك هَذَا فِي فل الْقَوْم إِلَى الْمغرب فقصد الأندلس ودخلها فِي صدر أَيَّام الْأَمِير عبد الرَّحْمَن ابْن مُعَاوِيَة مَعَ ابْن عَمه جزى بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان أخي عمر بن عبد الْعَزِيز وَسكن جواره بقرطبة وَيعرف بالبشرى وَهُوَ الْقَائِل فِي مقتل أَبِيه (لست أنسى مصرعاً من وَالِد ... سيد ضخم وَعم مفتقد) (غادرته الْخَيل فِي معترك ... بَين عَم وَأب زاك وجد) (تسهك الرّيح عَلَيْهِ بالضحى ... وتعفيه أعاصير الْأَبَد) (لم يرد الْمَوْت عَنهُ إِذْ سما ... نَحوه كَثْرَة مَال وَعدد) (أموي حكمي عرفت ... سُورَة الْمجد لَهُ عليا معد) (عَاشَ فِي ملك عَزِيزًا دونه ... حجب الْملك وأبواب الرصد) (فأنتحته بالمنايا فثوى ... لعوافي الطير مسلوب الْجَسَد) وَله يَا معشرا شغف الطَّعَام قُلُوبهم ... فهم طماح نَحْو كل دُخان) (يهدى لواءهم وَيحمل بندهم ... فِي كل معترك أَبُو سَعْدَان)

(يمشى كمشي اللَّيْث رَاح عَشِيَّة ... من غابه وأمامه شبلان) (لَو يعرض الخطى دون وَلِيمَة ... مَشْرُوعَة فِي صَدره لطعان) (لمضى بصادق نِيَّة وبصيرة ... فِيهَا وقلب مشيع شيحان) (حَتَّى يغيب فِي الثَّرِيد ذراعه ... ويجوسها بأشاجع وبنان) وَله (وبنفسي من عِنْدهَا الْيَوْم قلبِي ... علق فِي حبالها معمود) (كلما قلت قد تناهيت عَنْهَا ... عادني من غرامها مَا يعود) (فبقلبي من لاعج الْحبّ مِنْهَا ... كل يَوْم سقم وحزن جَدِيد) 15 - حبيب بن عبد الْملك بن عمر بن الْوَلِيد بن عبد الْملك ابْن مَرْوَان أَبُو سُلَيْمَان كَانَ بالأندلس فِي سُلْطَان عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وَكَانَت لَهُ مِنْهُ خَاصَّة لم تكن لأحد من أهل بَيته وولاه طليطلة وأعمالها وَهُوَ الْقَائِل يخاطبه مغرياً بِأبي الصَّباح عَلَيْهِ (يَا ابْن الخلائف إِنِّي نَاصح لكم ... فِي قتل ذِي إحن يرتاد للنقم)

(لَا يفلتنك فَيَأْتِينَا ببائقة ... وأشدد يَديك بِهِ تَبرأ من السقم) (جلله عضباً من الْهِنْدِيّ ذَا شطب ... إِن الصرامة فِيهِ فعلة الْكَرم) ذكر ذَلِك ابْن حَيَّان وَقيل إِن هَذَا الشّعْر لعبد الْملك بن عمر بن مَرْوَان ابْن الحكم وَتُوفِّي حبيب هَذَا فِي أَيَّامه فَشهد جنَازَته وَمَعَهُ سِتَّة من وَلَده فَلَمَّا صلى عَلَيْهِ قعد وَهُوَ يواري فألتفت عبد الرَّحْمَن فَرَأى وَلَده هشاماً قَاعِدا نَاحيَة قد فِي قعوده فَقَالَ مَا هَذَا يَا أَبَا الْوَلِيد أيدفن عمك وَخير أهل بَيْتك وَأَنت قَاعد قُم وأشدد نطاق الْحزن عَلَيْك فَلَنْ ترى فِي قَوْمك مثل أبي سُلَيْمَان فَقَامَ وَكَانَ حبيب من الَّذين يشاورهم فِي رَأْيه وإدارته عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة ويدنى مجَالِسهمْ مِنْهُ ويضمه إِلَى خاصته من نقباء دولته وَسَائِر أَصْحَابه ومواليه نرْجِع إِلَى ذكر الْأُمَرَاء من غير الهاشمية والأموية على التَّرْتِيب كَمَا شرطنا فِي صدر الْكتاب

16 - الحسام بن ضرار بن سلامان الْكَلْبِيّ أَبُو الخطار بالراء ولي إِمَارَة الأندلس فِي سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة من قبل حَنْظَلَة بن صَفْوَان بن نَوْفَل الْكَلْبِيّ وَالِي إفريقية لهشام بن عبد الْملك ثمَّ للوليد بن يزِيد بن عبد الْملك وَكَانَ قد ولى بإفريقية ولايات فِي إمرة بشر بن صَفْوَان الْكَلْبِيّ أخي حَنْظَلَة وَيُقَال إِن أهل الأندلس الشاميين والبلديين كتبُوا إِلَى حَنْظَلَة بن صَفْوَان وَالِي إفريقية وَالْمغْرب يسألونه أَن يبْعَث إِلَيْهِم عِنْد أختلافهم والياً يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ فَبعث أَبَا الخطار هَذَا فَأقبل إِلَيْهِم حَتَّى قدم عَلَيْهِم فأطاعه أَهلهَا وأجتمعوا عَلَيْهِ ودانت لَهُ الأندلس جَمْعَاء إِلَى ولَايَة مَرْوَان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان آخر خلفاء بني أُميَّة وَلم يقدم فِي ولَايَته الأندلس شَيْئا على تَفْرِيق جَمِيع الْعَرَب الشاميين الغالبين على الْبَلَد عَن دَار الْإِمَارَة قرطبة إِذْ كَانَت لَا تحملهم وأنزلهم مَعَ الْعَرَب البلديين على شبه مَنَازِلهمْ فِي كور شامهم وَتوسع لَهُم فِي الْبِلَاد فَأنْزل فِي كورتي أكشونبة وباجة جند مصر مَعَ البلدين الأول وَأنزل باقيهم فِي كورة تدمير وَأنزل فِي كورتي لبلة وإشبيلية جند حمص مَعَ البلديين الأول أَيْضا وَأنزل فِي كورة شذوتة والجزيرة جند فلسطين وَأنزل فِي كورة ربة جند الْأُرْدُن

وَأنزل فِي كورة إلبيرة جند دمشق وَأنزل فِي كورة جيان جند فنسرين

وَجعل لَهُم ثلث أَمْوَال أهل الذِّمَّة من الْعَجم طعمة وَبَقِي الْعَرَب البلديون من الْجند الأول على مَا بِأَيْدِيهِم من أَمْوَالهم لم يعرض لَهُم فِي شَيْء مِنْهَا فَلَمَّا رَأَوْا بلادا شبه بِلَادهمْ خصباً وتوسعة سكنوا وأغتبطوا وتمولوا

وطالعتا مُوسَى بن نصير وبلج بن بشر هما اللَّتَان تعرفان بالأندلس بالجندين ثمَّ لم يلبث أَبُو الخطار مَعَ مَكَانَهُ من السداد أَن تعصب لليمانية وفضلهم على المضرية فآل بِهِ الْأَمر إِلَى الْخلْع والفرار إِلَى جِهَة باجة فِي غرب الأندلس فِي قصَص طَوِيلَة وَذَلِكَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة بعد أَربع سِنِين وَتِسْعَة أشهر من ولَايَته وَقيل كَانَت ولَايَته سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمن شعره (أفأتم بني مَرْوَان قيسا دماءنا ... وَفِي الله إِن لم تنصفوا حكم عدل) ويروي أفاءت بَنو مَرْوَان وَالْأول أولى (كأنكم لم تشهدوا مرج راهط ... وَلم تعلمُوا من كَانَ ثمَّ لَهُ الْفضل) (وقيناكم حر القنا بنحورنا ... وَلَيْسَ لكم خيل سوانا وَلَا رجل) (فَلَمَّا بَلغْتُمْ نيل مَا قد أردتم ... وطاب لكم منا المشارب وَالْأكل) (تعاميتم عَنَّا بِعَين جلية ... وَأَنْتُم كَذَا مَا قد علمنَا لَهَا فعل) (فَلَا تأمنوا إِن دارت الْحَرْب دورة ... وزلت عَن الْمرقاة بالقدم النَّعْل) (فينتقض الْحَبل الَّذِي قد فتلتم ... أَلا رُبمَا يلوى فينتقض الْحَبل) قَالَ أَبُو الخطار هَذَا الشّعْر لِأَن هِشَام بن عبد الْملك ولى عُبَيْدَة بن عبد الرَّحْمَن ابْن أخي أبي الْأَعْوَر السلمى صَاحب خيل مُعَاوِيَة بصفين إفريقية وَصرف بشر بن حَنْظَلَة الْكَلْبِيّ فَوجدت لذَلِك اليمانية وَيُقَال إِنَّه قدم القيروان وَلم يكن عَلَيْهَا إِذْ ذَاك سور فألفى بشر بن صَفْوَان قد تهَيَّأ

لشهود الْجُمُعَة وَلبس ثِيَابه فَقيل لَهُ هَذَا الْأَمِير قد قدم فَقَالَ لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه هَكَذَا تقوم السَّاعَة فَمَا حَملته رِجْلَاهُ وَدخل عُبَيْدَة بن عبد الرَّحْمَن فَجمع بِالنَّاسِ وَقيل إِنَّه لما تتَابع وُلَاة إفريقية والأندلس من قيس قَالَ أَبُو الخطار هَذَا الشّعْر يعرض فِيهِ بِيَوْم مرج راهط وَمَا كَانَ من بلَاء كلب فِيهِ مَعَ مَرْوَان ابْن الحكم وَقيام القيسية مَعَ الضَّحَّاك بن قيس الفِهري أَمِير عبد الله بن الزبير فَلَمَّا بلغ الشّعْر هِشَام بن عبد الْملك سَأَلَ عَن قَائِله فَأعْلم أَنه رجل من كلب وَكَانَ هِشَام قد ولى إفريقية حَنْظَلَة بن صَفْوَان الْكَلْبِيّ أَخا بشر الْمَذْكُور فَكتب إِلَيْهِ يَأْمُرهُ أَن يُولى أَبَا الخطار الأندلس وَهُوَ الرَّابِع عشر من ولاتها ثمَّ ولى بعده ثوابة بن سَلامَة الجذامى ثمَّ يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن الفِهري وَكَانَ خلعه بِعَبْد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وَأنْشد الْحميدِي فِي تَارِيخه الشّعْر وَقَالَ فِيهِ أفادت بَنو مَرْوَان وَقَالَ إِن لم تعدلوا وَقَالَ وقيناكم حد القنا بسيوفنا وَقَالَ فِي الْبَيْت الرَّابِع وَمَا بعده (فَلَمَّا رَأَيْتُمْ وَاقد الْحَرْب قد خبا ... وطاب لكم فِيهَا المشارب وَالْأكل) (تغافلتم عَنَّا كَأَن لم نَكُنْ لكم ... صديقا وَأَنْتُم مَا علمت لَهَا فعل) (فَلَا تعجلوا إِن دارت الْحَرْب دورة ... وزلت عَن المهواة بالقدم النَّعْل وَلم ينشد الْبَيْت الْأَخير وَقَالَ أَبُو الخطار أَيْضا يُخَاطب الصميل بن حَاتِم الْكلابِي رَئِيس المضرية وَرَأس المتعصبين مَعهَا على اليمانية فِي ولَايَة يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن الفِهري

(إِن ابْن بكر كفاني كل معضلة ... وَحط عَن غاربي مَا كَانَ يُؤْذِينِي) (إِذا أتخذت صديقا أَو هَمَمْت بِهِ ... فأعمد لذِي حسب إِن شِئْت أَو دين) (مَا يقدر الله فِي مَالِي وَفِي وَلَدي ... لَا بُد يدركني لَو كنت بالصين) وَأنْشد لَهُ الْحميدِي (فليت ابْن حواس يخبر أنني ... سعيت بِهِ سعى امْرِئ غير غافل) (قتلت بِهِ تسعين تحسب أَنهم ... جُذُوع نخيل صرعت بالمسايل) (وَلَو كَانَت الْمَوْتَى تبَاع أشتريته ... بكفي وَمَا أستثنيت مِنْهَا أناملي) وَحكى أَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن أبي سعيد عبد الرَّحْمَن بن عبيد القيرواني الْمَعْرُوف بالوكيل فِي الْكتاب المعرب عَن أَخْبَار الْمغرب من تأليفه أَن عُبَيْدَة بن عبد الرَّحْمَن لما قدم القيروان أَخذ عُمَّال بشر بن صَفْوَان وَأَصْحَابه فحبسهم وأغرمهم وتحامل عَلَيْهِم وَكَانَ فيهم أَبُو الخطار فَصنعَ هَذِه الأبيات وَبعث بهَا إِلَى الأبرش الْكَلْبِيّ فَدخل بهَا على هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان فأنشدها فَغَضب هِشَام وَكَانَ ذَلِك سَبَب عزل عُبَيْدَة عَن إفريقية قَالَ أَبُو عَليّ وَهَذَا الشّعْر مَشْهُور بالمشرق كشهرته بالمغرب ذكره صَاحب كتاب الْخِصَال وَجَاء بِهِ بعض المؤلفين فِي أختياره وأتى بِهِ أَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي وَقَالَ لما أنْشدهُ سعيد بن الْوَلِيد الأبرش الْكَلْبِيّ هِشَام بن عبد الْملك غضب وَشتم عُبَيْدَة وَقَالَ قبح الله ابْن النَّصْرَانِيَّة وعزله

17 - الصميل بن حَاتِم بن شمر بن ذِي الجوشن الْكلابِي الضبابِي أَبُو جوشن كَانَ جده شمر من أَشْرَاف عرب الْكُوفَة وَهُوَ أحد قتلة الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا وَالَّذِي قدم بِرَأْسِهِ على يزِيد بن مُعَاوِيَة وَقتل الْمُخْتَار بعد ذَلِك حِين قَامَ ثائراً بقتلة الْحُسَيْن جمَاعَة مِنْهُم فهرب شمر بولده وَعِيَاله وَلحق بِالشَّام فَأَقَامَ بهَا فِي عز ومنعة وَقد قيل إِن الْمُخْتَار قتل شمراً وفر وَلَده إِلَى أَن خرج كُلْثُوم بن عِيَاض الْقشيرِي غازياً إِلَى الْمغرب فَكَانَ الصميل مِمَّن ضرب عَلَيْهِ الْبَعْث فِي أَشْرَاف أهل الشَّام وَدخل الأندلس فِي طَاعَة بلج بن بشر فل أَصْحَاب كُلْثُوم

وَكَانَ شجاعاً نجداً جواداً كَرِيمًا وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِأَمْر المضرية فِي الأندلس عِنْدَمَا أظهر أَبُو الخطار الحسام بن ضرار الْكَلْبِيّ العصبية لليمانية إِلَّا أَنه كَانَ رجلا أُمِّيا لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب وَكَانَت لَهُ فِي قلب الدول وتدبير الحروب أَخْبَار مَشْهُورَة وَحكى أَبُو بكر بن الْقُوطِيَّة فِي تَارِيخه أَنه مر بمعلم يَتْلُو {وَتلك الْأَيَّام نداولها بَين النَّاس} فَوقف يتفهم وَكَانَ أُمِّيا لَا يقْرَأ ونادى الْمعلم يَا هَناه كَذَا نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ نعم قَالَ فَأرى وَالله أَن سيشركنا فِي هَذَا الْأَمر العبيد والأراذل والسفلة وَغلب على أَمر يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن الفِهري فِي ولَايَته وَكَانَ مَعَه فِي حربه لعبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بعد أَن ولاه مَدِينَة سرفسطة ثمَّ طليطلة وَهُوَ الْقَائِل عِنْدَمَا أغار الطائيون على دَاره بشقندة يَوْم المصارة عِنْد أنهزام الفِهري وأستخلاف عبد الرَّحْمَن (أَلا إِن مَالِي عِنْد طي وَدِيعَة ... وَلَا بُد يَوْمًا أَن ترد الودائع) (سلوا يمناً عَن فعل رُمْحِي ومنصلي ... فَإِن سكتوا أثنت على الوقائع) أنشدهما أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي تَارِيخه وَتُوفِّي الصميل فِي سجن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة سنة أثنتين وَأَرْبَعين وَمِائَة 18 - الْأَغْلَب بن سَالم بن عقال بن خفاجة التَّمِيمِي أَبُو جَعْفَر كَانَ مِمَّن سعى فِي الْقيام بدعوة بني الْعَبَّاس مَعَ أبي مُسلم وَحَارب مَعَه عبد الله بن عَليّ وَكَانَ مَعَ أبي جَعْفَر الْمَنْصُور فِي حِصَار ابْن هُبَيْرَة

وَفِي قتل أبي مُسلم وَيُقَال إِنَّه الَّذِي ضربه فأطار يَده ثمَّ تولى حز رَأسه وَوَجهه أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور مَعَ مُحَمَّد بن الْأَشْعَث بن عقبَة الْخُزَاعِيّ إِلَى قتال البربر وَهُوَ أول قدومه إِلَى إفريقية وَكَانَ عَامل مصر وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة فَخرج فِي أَرْبَعِينَ ألفا عَلَيْهِم مائَة وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ قائدا من تَحت يَد ابْن الْأَشْعَث مِنْهُم ثَلَاثُونَ ألفا من خُرَاسَان وَعشرَة آلَاف من الشَّام وَقيل أَلفَانِ فَقَط من الشَّام وَقَالَ الْمَنْصُور إِن حدث بِهِ حدث كَانَ الْأَغْلَب أَمِيرهمْ بعده فولى طبنة إِلَى أَن خرج ابْن الْأَشْعَث من القيروان فِي شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَكَانَ قد بنى سور القيروان فَبعث أَبُو جَعْفَر إِلَى الْأَغْلَب عَهده بِولَايَة القيروان فأستقامت لَهُ الْأُمُور ثمَّ أضطربت بعقب ذَلِك لخُرُوج أبي قُرَّة الْبَرْبَرِي عَلَيْهِ وأشتغاله بحربه وَخرج الْحسن

ابْن حَرْب الْكِنْدِيّ عَلَيْهِ وخاطب القواد مضرياً فلحق بِهِ مِنْهُم جمَاعَة وَهُوَ بتونس فَأقبل إِلَى القيروان فَدَخلَهَا وَبلغ الْخَبَر الْأَغْلَب فَأقبل فِي عدَّة يسيرَة مِمَّن أطاعه وَكتب إِلَى الْحسن (أَلا من مبلغ عني مقَالا ... يسير بِهِ إِلَى الْحسن بن حَرْب) (فَإِن الْبَغي أبعده وبال ... عَلَيْك وقربه لَك شَرّ قرب) (فَإِن لم تدعني لتنال سلما ... وعفوي فأدن من طعني وضربي) فقصد الْحسن الْأَغْلَب فأقتتلوا قتالا شَدِيدا أنهزم الْحسن عَنهُ وكر رَاجعا إِلَى تونس وَدخل الْأَغْلَب القيروان ثمَّ زحف الْحسن إِلَيْهِ ثَانِيَة وَخرج الْأَغْلَب من بَاب أَصْرَم فتواقف الْفَرِيقَانِ فبرز الْأَغْلَب وَقَالَ

(أغدو إِلَى الله بِأَمْر يرضاه ... لَا خير فِي) (إِن يهوني الْمَوْت فَإِنِّي أهواه ... كل مرئ يلقى يَوْمًا) ثمَّ شدّ على الميمنة فِي أَصْحَابه فكشفها وأنصرف إِلَى موقفه وَهُوَ يَقُول (أضْرب فِي الْقَوْم ومثلي يضْرب ... فَإِن يكن حَربًا فَإِنِّي الْأَغْلَب) (لَا أجزع الْيَوْم وَلَا أكذب ... ) ثمَّ شدّ على الميسرة فَفعل مثل فعله فِي الميمنة وأنصرف وَهُوَ يَقُول (لم يبْق إِلَّا الْقلب أَو أَمُوت ... إِن تحم لي الْحَرْب فقد حميت) (وَإِن توليت فَمَا بقيت) ثمَّ حمل على الْقلب فَلم يثن حَده حَتَّى قتل بِسَهْم رمى بِهِ وَذَلِكَ فِي شعْبَان سنة خمس وَمِائَة وَبلغ الْمَنْصُور مَوته فَقَالَ إِن سَيفي بالمغرب قد أنقطع فَإِن دفع الله عَن الْمغرب برِيح دولتنا وَإِلَّا فَلَا مغرب وَقَالَ الحكم بن ثَابت السَّعْدِيّ من ولد سَلامَة بن جندل يرثى الْأَغْلَب (لقد أفسد الْمَوْت الْحَيَاة بأغلب ... غَدَاة غَدا للْمَوْت فِي الْحَرْب معلما) (تبدت لَهُ أم المنايا فأقصدت ... فَتى حِين يلقى الْمَوْت فِي الْحَرْب صمما) (أَخا غزوات مَا تزَال جياده ... تصبح عَنهُ غَارة حَيْثُ يمما) (أَتَتْهُ المنايا فِي القنا فاختر مِنْهُ ... وغادرنه فِي ملتقى الْخَيل مُسلما) (كَأَن على أثوابه من دمائه ... عبيطاً وبالخدين والنحر عِنْدَمَا) (فَبَاتَ شَهِيدا نَالَ أكْرم ميتَة ... وَلم يبغ عمرا أَن يطول ويسقما)

19 - الْحسن بن حَرْب الْكِنْدِيّ كَانَ بتونس فَقَامَ على الْأَغْلَب بن سَالم حَسْبَمَا تقدم خَبره وَخَالفهُ وَسَار إِلَى القيروان فَلم يَدْفَعهُ أحد عَنْهَا حَتَّى دَخلهَا وَبلغ أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور تنازعهما فَكتب إِلَى الْحسن بن حَرْب يحضه على الطَّاعَة وَكَانَ من كبار القواد وأبطال الفرسان بإفريقية وَهُوَ الْقَائِل يُجيب الْأَغْلَب عَن أبياته الْمَذْكُورَة قبل (أَلا قولا لأغلب غير سر ... مغلغلة عَن الْحسن بن حَرْب) (بِأَن الْمَوْت بَيْنكُم وبيني ... وكأس الْمَوْت أكره كل شرب) (رويدكم فيومكم ويومي ... وَإِن بعدا مصيرهما لقرب) ثمَّ تقالا بعد ذَلِك فَقتل الْأَغْلَب وَصَاح صائح مَاتَ الْأَمِير وَكَانَ سَالم بن سوَادَة التَّمِيمِي فِي الميمنة وَهُوَ ابْن عَم االأغلب فَقَالَ لَا أنظر إِلَى الدُّنْيَا بعد الْيَوْم وَوَقع فِي عَسْكَر الْحسن الصياح مَاتَ الْأَمِير فَظن أَن الْحسن هُوَ الْمَقْتُول فَوَلوا منهزمين وركبهم سَالم بن سوَادَة والمخارق بن غفار الطَّائِي بِالسَّيْفِ فَقتل من أَصْحَاب الْحسن مقتلة عَظِيمَة وأتبع هُوَ فَقتل بتونس وَيُقَال إِنَّه أَتَوا بِهِ مقتولا إِلَى القيروان فصلبه الْمخَارِق يَوْم السبت آخر يَوْم من شعْبَان سنة خمسين وَمِائَة 20 - يزِيد بن حَاتِم بن قبيصَة بن الْمُهلب بن أبي صفرَة الْأَزْدِيّ الْعَتكِي أَبُو خَالِد ولي إفريقية فِي خلَافَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور فأصلحها ورتب أَمر القيروان

وجدد أَمر الْمَسْجِد الْجَامِع وَكَانَ غَايَة فِي الْجُود ممدحاً كثير الشّبَه بجده الْمُهلب فِي حروبه ودهائه وَكَرمه وسخائه خَاصّا يأبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَكَانَ لاي يحجب عَنهُ وَولي ولايات كَثِيرَة قبل قدومه إِلَى الْمغرب مِنْهَا أرمينية والسند ومصر وأذربيجان وَغير ذَلِك وَقدم إفريقية من مصر وَكَانَ والياً عَلَيْهَا فِي ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة إِلَى سنة أثنتين وَخمسين وَحكى عَنهُ أَنه قَالَ لما ولاني أَبُو جَعْفَر دخلت عَلَيْهِ فَقَالَ لي يَا أَبَا خَالِد بَادر النّيل قبل خُرُوج الرَّايَات الصفر وَأَصْحَاب الدَّوَابّ البتر

ثمَّ استقدمه بعد أَن قتل عمر بن حَفْص المهلبي فولاه إفريقية وَالْمغْرب وشيعه إِلَى فلسطين فحسده الْأُمَرَاء والرؤساء وَكَانَ الْمَنْصُور يَقُول مَا أَخْطَأت فِي شَيْء من تدبيري إِلَّا فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء تشييع يزِيد بن حَاتِم أَرَأَيْت لَو نكث أَكَانَ يحسن بِي أَن أرجع أَو كَانَ يحسن بِي أَن ألقِي الْجَيْش بنفسي وَيَوْم الراوندية وُقُوفِي على بَاب الذَّهَب أَرَأَيْت لَو أَن رجلا رماني بِسَهْم أَلَيْسَ دمى كَانَ يذهب ضيَاعًا وقتلى أَبَا مُسلم وَأَنا فِي الْخرق وَمَعَهُ أهل خُرَاسَان ثَلَاثُونَ ألفا يعبدونه من دون الله وَفِي يزِيد هَذَا يَقُول ربيعَة بن ثَابت الرقى من بني أَسد وَقد وَفد عَلَيْهِ أبياته السائرة فِي النَّاس إِلَى الْيَوْم (لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى ... يزِيد سليم والأغر بن حَاتِم) (يزِيد سليم سَالم المَال والفتى ... أَخُو الأزد للأموال غير مسالم) (فهم الْفَتى الْأَزْدِيّ إِتْلَاف مَا لَهُ ... وهم الْفَتى الْقَيْسِي جمع الدَّرَاهِم) (فَلَا يحْسب التمتام أَنِّي هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم) يُرِيد بالتمتام وَهُوَ المتردد فِي التَّاء يزِيد بن أسيد السلمى سَمَّاهُ الْمبرد وَهِي من قصيدة حَسَنَة يَقُول فِيهَا (أَبَا خَالِد أَنْت المنوه باسمه ... إِذا نزلت بِالنَّاسِ إِحْدَى العظائم) (كفيت بني الْعَبَّاس كل عَظِيمَة ... وَكنت عَن الْإِسْلَام خير مُزَاحم)

وَيُقَال إِن ربيعَة لما مدحه بِهَذِهِ القصيدة استبطأ بره وصلته فَقَالَ أَرَانِي وَلَا كفران لله رَاجعا لَا بخفى حنين من يزِيد بن حَاتِم فَبلغ ذَلِك يزِيد فَدَعَا بِهِ وَقَالَ أنزعوا خفيه فَنَزَعَا وَهُوَ خَائِف من عُقُوبَته على ذكره خَفِي حنين فملأهما لَهُ دَرَاهِم ودنانير وَكَانَا كبيرين كأخفاف الْجند ثمَّ وَصله بعد ذَلِك بصلات جزيلة وَهَذِه الْقِصَّة شَبيهَة بِقصَّة أبي الْعَتَاهِيَة مَعَ عمر بن الْعَلَاء حِين أمتدحه بقصيدته الَّتِي يَقُول فِيهَا (إِنِّي أمنت من الزَّمَان وريبه ... لما علقت من الْأَمِير حِبَالًا) (لَو يَسْتَطِيع النَّاس من إجلاله ... لحذوا لَهُ حر الخدود نعالا) (مَا كَانَ هَذَا الْجُود حَتَّى كنت يَا ... عمر وَلَو يَوْمًا تَزُول لزالا) (إِن المطايا تشتكيك لِأَنَّهَا ... قطعت إِلَيْك سباسباً ورمالا) (فَإِذا وردن بِنَا وردن مخفة ... وَإِذا صدرن بِنَا صدرن ثقالا) فَتَأَخر عَنهُ بره قَلِيلا فَكتب إِلَيْهِ يستبطئه (أَصَابَت علينا جودك الْعين يَا عمر ... وَعز لما نبغي التمائم والنشر) (سنرقيك بالأشعار حَتَّى تملها ... فَإِن لم تفق مِنْهَا رقيناك بالسور) وَقَالَ أَيْضا (يَا ابْن الْعَلَاء وَيَا ابْن القرم مرداس ... إِنِّي لأطريك فِي صحبي وجلاسي) (أثني عَلَيْك ولي حَال تكذبني ... فِيمَا أَقُول فأستحيي من النَّاس) (حَتَّى إِذا قيل مَا أَعْطَاك من صفد ... طأطأت من سوء حَالي عِنْدهَا رَأْسِي) فَأمر حَاجِبه أَن يدْفع إِلَيْهِ المَال وَقَالَ لَا تدخله على فَإِنِّي أستحي مِنْهُ وروى أَنه وَصله عَلَيْهَا بسبعين ألف دِرْهَم فحسدته الشُّعَرَاء وَقَالُوا لنا بِبَاب

الْأَمِير أَعْوَام نخدم الآمال مَا وصلنا إِلَى بعض هَذَا فأتصل ذَلِك بِهِ فَأمر بإحضارهم وَقَالَ قد بَلغنِي الَّذِي قُلْتُمْ وَإِن أحدكُم يأتى فيمدحني بالقصيدة يشبب فِيهَا فَلَا يصل إِلَى الْمَدْح حَتَّى تذْهب لَذَّة حلاوته ورائق طلاوته وَإِن أَبَا الْعَتَاهِيَة أَتَى فشبب بِأَبْيَات يسيرَة ثمَّ قَالَ إِن المطايا تشتكيك وَأنْشد الأبيات وَمن شعر يزِيد بن حَاتِم (مَا يألف الدِّرْهَم الْمَضْرُوب خرقتنا ... إِلَّا لماماً قَلِيلا ثمَّ ينْطَلق) (يمر مرا عَلَيْهَا وَهِي تلفظه ... إِنِّي امْرُؤ لم يحالف خرقتي الْوَرق) وَتُوفِّي فِي شهر رَمَضَان سنة سبعين وَمِائَة 21 - الْفضل بن روح بن حَاتِم بن قبيصَة بن الْمُهلب ولاه الرشيد إفريقية فَقدم على القيروان فِي الْمحرم سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وَيُقَال إِنَّه لم يل إفريقية أجمل مِنْهُ وَمن أبي الْعَبَّاس عبد الله بن إِبْرَاهِيم ابْن الْأَغْلَب

وأستعمل على تونس الْمُغيرَة بن بشر بن روح ابْن أَخِيه وَكَانَت تونس نظيرة القيروان حَتَّى إِن أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور كَانَ يَقُول مَا فعلت إِحْدَى القيروانين يعْنى تونس وَكَانَ الْمُغيرَة غراً لَا تجربة لَهُ بالأمور وَلَا معرفَة بتصاريفها فأستخف بالجند وَسَار فيهم بِمَا أنكروه فَكَتَبُوا إِلَى الْفضل بذلك فَلم يعزله عَنْهُم فقدموا فِي قصَّة طَوِيلَة عبد الله بن الْجَارُود الْعَبْدي وأخرجوا الْمُغيرَة وَكتب ابْن الْجَارُود إِلَى الْفضل إِلَى الْأَمِير الْفضل بن روح من عبد الله ابْن الْجَارُود أما بعد فَإنَّا لم نخرج الْمُغيرَة إِخْرَاج خلاف عَن الطَّاعَة وَلَكِن لأحداث فِيهَا فَسَاد الدولة فول علينا من نرضاه وَإِلَّا نَظرنَا لأنفسنا وواسنا بالأسلاف كَمَا كَانَت الْوُلَاة تصنع بِنَا قبلك وَإِلَّا فَلَا طَاعَة لَك علينا وَكتب فِي أَسْفَل الْكتاب

(أَلا من مبلغ الْفضل بن روح ... وَصدق القَوْل زين للرِّجَال) (بأنك حِين وليت ابْن بشر ... علينا غير مَحْمُود الفعال) (فول سواهُ أَو كن رهن حَرْب ... تغص بهَا على المَاء الزلَال) (وَإِن لم تُعْطِنَا الأسلاف طَوْعًا ... أجبْت لَهَا بكره بالعوالي) فَأجَاب الْفضل عَن ذَلِك يرميهم بِالْخِلَافِ ويوئسهم من الأسلاف وَكتب فِي آخر كِتَابه (أَتَانِي عَنْك مَا ستنال مِنْهُ ... وبالاً إِن عصيت على العقال) (فَإِن ترجع تنَلْ سلما وَأمنا ... وَإِن تجمح فلست بمستقال) (وَإِن لمن أطَاع عَلَيْك فضلا ... كفضل يَد الْيَمين على الشمَال) (وَلست بمدرك الأسلاف حَتَّى ... تناولهن قسراً بالعوالي) ثمَّ بعث عبد الله بن يزِيد المهلبي والياً وَضم إِلَيْهِ كثيرا من أَصْحَابه فَأخْرج ابْن الْجَارُود جمَاعَة يختبرون مَا قدمُوا لَهُ ونهاهم عَن الْحَرْب فلقوهم بسبخة تونس فَقتل عبد الله فِي خبر يطول ذكره وَأسر القواد الَّذين مَعَه وَأدّى ذَلِك إِلَى محاربة الْفضل بالقيروان فغلب عَلَيْهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَسبعين

وَمِائَة وسير فِي أهل بَيته ثمَّ أسترجع من طَرِيقه وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى قابس فحبس مَعَ رجلَيْنِ من أَصْحَابه ثمَّ دخل عَلَيْهِ الْجند فَقَتَلُوهُ فِي محبسه وَمن شعر الْفضل (ومارست هَذَا الدَّهْر خمسين حجَّة ... وَنصفا أَرْجَى قَابلا بعد قَابل) (فَلَا أَنا فِي الدُّنْيَا بلغت جسيمها ... وَلَا فِي الَّذِي أَهْوى كدحت بطائل) (وَقد أشرعت فِينَا المنايا أكفها ... وأيقنت أَنِّي رهن موت معاجل) 22 - سعيد بن يزِيد بن حَاتِم المهلبي لما عظم على الْفضل بن روح أَمر ابْن الْجَارُود وَخُرُوجه عَلَيْهِ بتونس وزحفه إِلَيْهِ جمع أهل بَيته وَقَالَ مَا ترَوْنَ فِي هَذَا الْأَمر الَّذِي لَا يخصني دونكم فكثرت الآراء فَقَالَ ابْن عَمه سعيد أطعنى الْيَوْم وأعصني فِيمَا يسْتَأْنف سد أَبْوَاب الْمَدِينَة كلهَا إِلَّا بَابا وَاحِدًا وندخل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْحصار سنة فوَاللَّه لكَأَنِّي أنظر إِن لم تفعل ذَلِك قد دخل عَلَيْك من آمنها عنْدك وَقَالَ فِي ذَلِك يُخَاطب الْفضل (أرى الْحَرْب قد مدت إِلَيْنَا بساقها ... وقلبك يقظان شَبيه بنائم) (فَخذ لنهود الْحَرْب أهبة يَوْمهَا ... وشمر لَهَا الأذيال قبل التنادم) (فَإِن كنت تحمى الغرب فأشدد لَهَا القوى ... تنَلْ ظفراً أَو تلق موت الأكارم) (فَلَيْسَ يُرِيد الْقَوْم إِلَّا نفوسنا ... أَو النَّفْي عَنْهَا يَا ابْن روح بن حَاتِم)

وَقَالَ أَيْضا (أَلا قل لفضل إِنَّنِي لَك نَاصح ... فَلَا تسمعن مِمَّا يُشِير ابْن وَاقد) (فَإنَّك إِن تسمع لأقواله تعد ... إِلَى أَسد فِي كبة الْخَيل لَا بُد) (ستذكر قولي حِين لَيْسَ بِنَافِع ... إِذا شقَّتْ الأرماح نحر القلائد) فخالفه الْفضل فَكَانَ مَا تقدم من أمره 23 - أَخُوهُ عبد الله بن يزِيد بن حَاتِم كَانَ مَعَ ابْن عَمه الْفضل بن روح بن حَاتِم فِي حروبه بإفريقية ثمَّ قرف عِنْده بممالأة عدوه الْخَارِج عَلَيْهِ ابْن الْجَارُود الْمَعْرُوف بعبدوية فنغل صدر الْفضل عَلَيْهِ حَتَّى كتب إِلَيْهِ (أرى ألسن الحساد فِيك كَأَنَّهَا ... سِهَام تهاوى من قسي نصال)

(يَقُولُونَ قد كاتبت عبدوي فِي الَّتِي ... إِذا نالها أولتك شَرّ وبال) (وَقَالُوا وعدت الْقَوْم عِنْد لقائهم ... رُجُوعا عَن الهيجا بِغَيْر قتال) (وَلَيْسَ الَّذِي مناك عبدوي كَائِنا ... فَدَعْهُ وَلَا تركن لقَوْل ضلال) (أَلا إِنَّنِي لم أمس فِيك مُصدقا ... لأقوالهم والصدق خير مقَال) فَلَمَّا وَردت الأبيات على عبد الله علم أَنه أَتَّهِمهُ فَأَجَابَهُ بقوله (لعمرك لَوْلَا مَا أتهمت لما أَتَت ... قوارض أبداهن شَرّ مقَال) (أَظن ابْن روح أنني كنت قَاطعا ... يمينى الَّتِي أسطو بهَا بشمالي) (وهبني تناولت الَّتِي كنت خفتها ... فَكيف أعتذاري فِيك بعد فعالي) (فَلَا تحسبني مُسلما إِن لقيتهم ... لأسيافهم ظَهْري بِغَيْر قتال ( فَقَالَ الْفضل عِنْد قِرَاءَة جَوَابه لَو كَانَ حسادنا يتركون الْبَغي على حَال لتركوه على مثل حَالنَا هَذِه ثمَّ أخرجه إِلَى قتال عبدويه بن الْجَارُود فَهَزَمَهُ عبد الله بن يزِيد ثمَّ عاوده الحدب فَهَزَمَهُ عبدويه وأنصرف عبد الله إِلَى

القيروان مفلولاً فَكَانَ مَعَ ابْن عَمه الْفضل إِلَى أَن تكلب عَلَيْهِ ابْن الْجَارُود ثمَّ قَتله بعد أَن أسترجعه من طَرِيقه وَأطلق عبد الله بن يزِيد وَأمره وأخاه الْمُهلب بن يزِيد وَنصر بن حبيب وجماعتهم بالتجهز وَالْخُرُوج من إفريقية فَخَرجُوا إِلَى الْمشرق 24 - سُلَيْمَان بن حميد الغافقي أَبُو دَاوُود فَارس الْعَرَب قاطبة بالمغرب فِي عصره وَأحسن النَّاس لِسَانا وأبلغهم إِلَى معرفَة بأيام الْعَرَب وأخبارها وَرِوَايَة لوقائعها وَأَشْعَارهَا مَعَ دعابة كَانَت فِيهِ وعبث لَا يَدعه حملت عَنهُ فِي ذَلِك نَوَادِر مستطرفة وحكايات مستملحة وخافه عبد الرَّحْمَن بن حبيب بن أبي عُبَيْدَة بن عقبَة بن نَافِع الفِهري فسجنه وأخاه مُحَمَّدًا وَلم يكن بِدُونِهِ وَكَانَ مُحَمَّد وَهُوَ أكبر من سُلَيْمَان والياً على الأربس فثار على عبد الرَّحْمَن بن حبيب وسرحهما إلْيَاس بن حبيب حِين قتل أَخَاهُ عبد الرَّحْمَن وَولي إفريقية بعده وأستعان بهما فِي ذَلِك وعاش

سُلَيْمَان يزِيد بن حَاتِم المهلبي فقصدوا قسطيلية وَهُوَ الْقَائِل فِي يَوْم أبي زرجونة (وَمَا إِن صُدِدْنَا عَنْهُم خوف بأسهم ... وحاشا لنا أَن نتقي بَأْس بربرا) (وَإِنَّا إِذا مَا الْحَرْب أَسعر نارها ... لنلقى المنايا دارعين وحسرا) (ونغدو بصبر حِين تشتجر القنا ... فلست ترى منا على الْمَوْت أصبرا) (وَلَكِن أردنَا ذل قوم تطاولوا ... علينا وأبدوا نخوة وتكبرا)

25 - عبد الله بن الْجَارُود الْعَبْدي وَيُقَال لَهُ عبدويه لما غلب على القيروان وَأخرج الْفضل بن روح ثمَّ رده وأرداه بعد صيته وأستغلظ أمره وزحف إِلَيْهِ مَالك بن الْمُنْذر الْكَلْبِيّ من مَيْلَة فِي جند حمص ثائرين بِالْفَضْلِ فصرع مَالك بِسَهْم فِي تقاتلهما وَنَجَا ابْن الْجَارُود ثمَّ زحف إِلَيْهِ الْعَلَاء بن سعيد المهلبي من الزاب وَلم تكن لِابْنِ الْجَارُود بِهِ طَاقَة فصادفه قد خرج من القيروان ليلقى خَليفَة هرثمة بن أعين وَقد قدمه بَين يَدَيْهِ وَذَلِكَ مستهل صفر سنة تسع وَسبعين وَمِائَة وَكَانَ الرشيد لما بلغه خبر ابْن الْجَارُود قد وَجه إِلَيْهِ من تلطف بِهِ حَتَّى أقدمه عَلَيْهِ وَكَانَت أَيَّامه سَبْعَة أشهر وَقدم هرثمة بن أعين والياً على إفريقية وَمن شعره عِنْد فتكه بِمُحَمد بن الْفَارِسِي وَكَانَ من أَصْحَابه ثمَّ خرج عَلَيْهِ فِي أهل خُرَاسَان وَمن أطاعه وتناهضا للحرب فمكر ابْن الْجَارُود بِهِ وَدعَاهُ إِلَى الْكَلَام وَأمر شجاعاً من فرسانه إِذا رَآهُ مَعَه أَن يفتك بِهِ فتم ذَلِك وأنهزم أَصْحَابه وَقَالَ ابْن الْجَارُود فِي ذَلِك

(لقد رامني ابْن الْفَارِسِي بكيده ... فَوَافَقَ أمضى مِنْهُ عزماً وأكيدا) (عَشِيَّة أَدْعُوهُ ليسمع منطقي ... فأعجزه إصدار مَا كَانَ أوردا) (فداريته حَتَّى اطْمَأَن جنانه ... وَكنت امْرأ مثلي أغار وأنجدا) (أَشرت إِلَى ذِي نجدة فأنكفا لَهُ ... بأسمر خطى إِذا مَال أقصدا) (فَمَا زَالَ قاب الْقوس إِلَّا وعامل ... من الرمْح دَامَ بَين خضنيه قد بدا) (فَقل للعلاء قد أَصَابَت مُحَمَّدًا ... منية يَوْم فَارْتَقِبْ مثلهَا غَدا)

وَهُوَ الْقَائِل أَيْضا فِي مصرع مَالك بن الْمُنْذر يُخَاطب الْعَلَاء بن سعيد عِنْدَمَا زحف إِلَيْهِ (أَفِي كل يَوْم ثَائِر قتلته ... بِفضل وَمَا يَنْفَكّ للفضل ثَائِر) (قضيت لنَفْسي النّذر فِي قتل مَالك ... وَإِنِّي لَهَا قتل الْعَلَاء لناذر) (فَمَا للعلاء خيرة فِي لقائنا ... وَلَيْسَ لَهُ فِي النَّاس إِن فر عاذر) 26 - مَالك بن الْمُنْذر الْكَلْبِيّ أَبُو عبد الله كَانَ والياً على مَيْلَة فَدَعَاهُ جند حمص وَغَيرهم من الْعَرَب فأمروه لطلب ثأر الْفضل بن روح وأجتمع إِلَيْهِ النَّاس وألتقى هُوَ وَابْن الْجَارُود فأنهزم أَصْحَاب مَالك فترجل عَن فرسه وَشد فِي نفر من أَصْحَابه وَهُوَ يَقُول (يَا موت إِنِّي مَالك بن الْمُنْذر ... أهتك حَشْو الْبيض والسنور) (أقتل من صابر أَو لم يصبر ... كأنني أفعل مَا لم يقدر)

فَخرج إِلَيْهِ بن الْجَارُود وَهُوَ يَقُول (إِلَى فادن مَالك بن مُنْذر ... أَنا الَّذِي قتلت رب الْمِنْبَر) (جرعته كأس الْحمام الْأَحْمَر ... فأصبر ستلقاه وَإِن لم يصبر) فَقتل مَالك بِسَهْم وأنهزم أَصْحَابه 27 - الْعَلَاء بن سعيد بن مَرْوَان المهلبي كَانَ والياً على الزاب فَأقبل مِنْهَا لمحاربة ابْن الْجَارُود وَلما وصل إِلَى الأربس اجْتمع مَعَ أهل الشَّام وَبلغ ذَلِك ابْن الْجَارُود فَقَالَ أَفِي كل يَوْم ثَائِر قد قتلته الأبيات الرائية الْمُتَقَدّمَة وَكتب إِلَيْهِ كتابا مَعَه فجاوبه الْعَلَاء عَنهُ وَقَالَ يخاطبه (لعمرك يَا عبدوي مَا كنت تَارِكًا ... دم الْفضل أَو يكسوني الترب ثَائِر) (نذرت دمي فَأنْظر إِذا مَا لقيتني ... على من بكأسيها تَدور الدَّوَائِر) (ستعلم إِن أنشبت فِيك مخالبي ... إِلَى أَي قرن أسلمتك المقادر) ثمَّ أقبل الْعَلَاء فصادف ابْن الْجَارُود قد خرج إِلَى يحيى بن مُوسَى خَليفَة هرثمة بن أعين فَكَانَ الْعَلَاء يدعى أَنه الَّذِي أخرج ابْن الْجَارُود من إفريقية

28 - إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مزين الأودي أصل سلفه من أكشونبة وَصَارَت بهَا لعقبه رئاسة بعد افْتِرَاق الْجَمَاعَة بقرطبة إِلَى أَن غلب على آخِرهم المعتضد عباد بن مُحَمَّد صَاحب إشبيلية وَسكن إِبْرَاهِيم هَذَا وَهُوَ وَالِد يحيى بن إِبْرَاهِيم بن مزين الْفَقِيه صَاحب تَفْسِير الْمُوَطَّأ قرطبة وَكَانَ يتعاقب مَعَ الْحجاب وَجلة الوزراء والقواد فِي أَيَّام الحكم بن هِشَام ثمَّ ولاه إِمَارَة طليطلة أعواماً مُتَّصِلَة وَكَانَ قد وَليهَا قبله جده إِبْرَاهِيم بن مزين الْكَاتِب وَابْن الفرضي يَجْعَل بني مزين موالى رَملَة بنت عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد هُوَ الْقَائِل (يأبي أَنْت من غزال مليح ... لَيْسَ فِيهِ لمن تَأمل لَوْلَا) (رَوْضَة الْحسن فِيك تزهى وَلَكِن ... كل حول يبْقى ربيعك حولا) 29 - مُحَمَّد بن مقَاتل بن حَكِيم العكى ولاه الرشيد إفريقية بعد هرثمة بن أعين وَكَانَ فِيمَا يُقَال رَضِيع

الرشيد وَكَانَ جَعْفَر بن يحيى شَدِيد الْعِنَايَة بِهِ فَقدم القيروان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة فِي رَمَضَان وَكَانَ أَبوهُ مقَاتل بن حَكِيم من كبار القائمين بالدعوة العباسية وَحضر مَعَ قَحْطَبَةَ بن شبيب حروب المروانية ثمَّ قَتله عبد الله بن عَليّ لما خلع وَادّعى الْأَمر وَلم يلبث مُحَمَّد بن مقَاتل أَن أَضْطَرِب أمره وأختلف عَلَيْهِ جنده وَخرج عَلَيْهِ بتونس تَمام بن تَمِيم التَّمِيمِي وَكَانَ عَامله عَلَيْهَا وَهُوَ جد أبي الْعَرَب مُحَمَّد بن أَحْمد بن تَمِيم بن تَمام صَاحب طَبَقَات إفريقية فزحف إِلَى القيروان فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ فَخرج إِلَيْهِ ابْن العكي فأنهزم وَدخل تَمام القيروان فِي آخر رَمَضَان الْمَذْكُور فَأَمنهُ على دَمه وَمَاله على أَن يخرج عَنْهُم وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب والياً على الزاب فَنَهَضَ مِنْهَا فِي نصْرَة مُحَمَّد بن مقَاتل وَعلم تَمام أَنه لَا طَاقَة لَهُ بِهِ فتخلى عَن القيروان وَرجع إِلَى تونس وَدخل إِبْرَاهِيم القيروان فَبَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ صعد الْمِنْبَر فَخَطب النَّاس وأعلمهم أَن أَمِيرهمْ مُحَمَّد بن مقَاتل وَكتب إِلَيْهِ فَأقبل رَاجعا وَأَرَادَ تَمام أَن يُحَرِّش بَينهمَا فَكتب إِلَى مُحَمَّد بن مقَاتل كتابا فِي آخِره (وَمَا كَانَ إِبْرَاهِيم من فضل طَاعَة ... يرد عَلَيْك الثغر لَكِن لتقتلا) (فَلَو كنت ذَا علم وعقل بكيده ... لما كنت مِنْهُ يَا ابْن عك لتقبلا) (فمهما تشأ يمنعك مِنْهُ ابْن غَالب ... وَمهما يَشَأْ فِيك ابْن أغلب يفعلا)

فجاوبه العكي بنقيض ذَلِك وَكتب فِي أَسْفَل كِتَابه (وَإِنِّي لأرجو إِن لقِيت ابْن أغلب ... غَدا فِي المنايا أَن تفل وتقتلا) (تلاقى فَتى يستصحب الْمَوْت فِي الوغى ... ويحمى بصدر الرمْح عزا مؤثلاً) (كَأَنَّك قد صافحت فِي بطن كَفه ... من الْبيض مَحْمُود المهزة مقصلا) وَأَقْبل تَمام ثَانِيَة فِي عَسْكَر ضخم فَخرج إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم وَابْن العكى وَرَاءه فأنهزم تَمام عِنْد التقائهما وَعَاد ابْن العكى إِلَى القيروان وَاتبعهُ إِبْرَاهِيم إِلَى تونس فَطلب مِنْهُ الْأمان فَأَمنهُ ورحل بِهِ إِلَى القيروان وبعقب هَذَا ورد كتاب الرشيد بعزل ابْن العكى وتولية إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب 30 - الخصيب مولى ابْن العكى قدمه مُحَمَّد بن مقَاتل مَوْلَاهُ لِحَرْب مخلد بن مرّة الْخَارِج عَلَيْهِ قبل تَمام بن تَمِيم وَأمره على الْجَيْش الناهد صحبته فَصبح الْقَوْم آمن مَا كَانُوا

وهم خَمْسمِائَة من أهل خُرَاسَان وَالشَّام وَكَانَ الَّذِي هاج ذَلِك فلاح بن عبد الرَّحْمَن الكلَاعِي فَقتل مخلد بن مرّة أَمِيرهمْ وعدة مِمَّن كَانَ مَعَه وأنهزم أَصْحَابه إِلَى تونس وَمر الخصيب بمنزل فلاح فأحرقه وَأخذ امْرَأَته فأنطلق بهَا وَقَالَ فِي ذَلِك (لَو كنت حرا يَا فلاح صبرت لي ... وحميت عرسك والفتى يحمى) (لَكِن هربت من القراع وَأسْلمت ... كَفاك حرمتهَا على الرغم) (مَا النَّجْم أبعد مِنْك لَو طالبته ... لتناله بيديك من سلمى) 31 - تَمام بن تَمِيم الدَّارمِيّ التَّمِيمِي أَبُو الجهم الْقَائِم على ابْن العكي الْمَذْكُور آنِفا وَهُوَ ابْن عَم إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب قد تقدم من خَبره وشعره مَا أغْنى عَن إِعَادَته هُنَا وَفِي الْكتاب المعرب عَن أَخْبَار الْمغرب تأليف أبي على الْحسن بن أبي سعيد القيرواني أَن تَمامًا هَذَا لما سمع بحركة إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب إِلَيْهِ من الزاب فِي محاربته وَنصر ابْن العكي كتب إِلَيْهِ كتابا يستدعيه ويستعطفه وَكتب فِي أَسْفَله

(أقدم إِبْرَاهِيم علما بفضله ... وَحقّ لَهُ فِي الْأَمر أَن يتقدما) (وَقلت لَهُ فأحكم فحكمك جَائِز ... علينا فقد أَصبَحت فِينَا مقدما) (ورد فِي بِلَاد الزاب مَا شِئْت قَادِرًا ... وَإِن شِئْت ملك الغرب خُذْهُ مُسلما) فجاوبه ابْن الْأَغْلَب بِخِلَاف ذَلِك وَكتب إِلَيْهِ فِي أَسْفَل كِتَابه (دَعَوْت إِلَى مَا لَو رضيت بِمثلِهِ ... لما كنت يَا تَمام فِيهِ مقدما) (سأجعل حكمي فِيك ضَرْبَة صارم ... إِذا مَا علا مِنْك المفارق صمما) (ستعلم لَو قد صافحتك رماحنا ... بكف المنايا أَيّنَا كَانَ أظلما) فَذكر عَن فلاح الكلَاعِي أَنه قَالَ كنت عِنْد تَمام يَوْم قَرَأَ كتاب إِبْرَاهِيم فَذهب لَونه ثمَّ أرتعد حَتَّى سقط الْكتاب من يَده وَكَانَ صَارِمًا شجاعاً ممدحاً وَفِيه يَقُول الْفضل بن النَّهْشَلِي يمدحه من قصيدة (أضحت ومنزلها مصر ومنزلنا ... بالقيروان وَيَا تشواق مغترب) (أَخا بني نهشل دعها فقد نزحت ... وأمدح قريع معد وَاحِد الْعَرَب) (تَمام كَبْش بني عدنان قاطبة ... الدارمى الْكَرِيم الْبَيْت وَالنّسب) (الْفَارِس البطل الحامي حَقِيقَته ... والناعش الرائش الفراج للكرب) (تأوى إِلَيْهِ نزار حِين يدهمها ... ريب الزَّمَان وتخشى سطوة النوب) (أعطف بَنو دارم فِي الْمجد رايتها ... بني المجاشع يَوْم الْفَخر والحسب) قَالَ أَبُو الْعَرَب وَذكر ولَايَة جده تَمام هَذَا إفريقية بعد مُحَمَّد بن مقَاتل العكي تَمام بن تَمِيم هَذَا هُوَ جدنا هُوَ ابْن القادم من الْمشرق قَالَ وَتُوفِّي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة بِبَغْدَاد وَفِي الْكتاب المعرب عَن أَخْبَار الْمغرب أَن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب لما صَار الْأَمر إِلَيْهِ بعث بِهِ وبجماعة مَعَه من وُجُوه الْجند الَّذين كَانَ شَأْنهمْ الْوُثُوب

على الْأُمَرَاء إِلَى الرشيد فَأَما تَمام فَإِنَّهُ حبس إِلَى أَن مَاتَ فِي حَبسه وَحكى أَن الرشيد وعد أَخَاهُ سَلمَة بن تَمِيم إِطْلَاقه وَبلغ ذَلِك إِبْرَاهِيم ابْن الْأَغْلَب فَكتب إِلَى عمته وَهِي بِبَغْدَاد فِي سمه فأشتهى تَمام حوتاً فَسَمتْهُ لَهُ فَمَاتَ من أكله بعد أَن ذهب بَصَره فِي المطبق قبل مَوته بِشَهْر وَعلم الرشيد بذلك فترحم عَلَيْهِ وتوجع لَهُ وَأحسن إِلَى سَلمَة أَخِيه وَصَرفه إِلَى إفريقية 32 - إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب بن سَالم بن عقال أَبُو إِسْحَق ولاه الرشيد إفريقية بعد مُحَمَّد بن مقَاتل العكى فأستقل بملكها وأورث سلطنها بنيه نيفاً على مائَة سنة وَكَانَ فَقِيها عَالما أديباً شَاعِرًا خَطِيبًا ذَا رأى وبأس وحزم وَمَعْرِفَة بِالْحَرْبِ ومكائدها جرىء الْجنان طَوِيل اللِّسَان حسن السِّيرَة لم يل إفريقية أحد قبله من الْأُمَرَاء أعدل فِي سيرة وَلَا أحسن لسياسة وَلَا أرْفق برعية وَلَا أضبط لأمر مِنْهُ وَكَانَ فِي أول حَالَته كثير الطّلب للْعلم والأختلاف إِلَى اللَّيْث بن سعد الْفَقِيه وَاللَّيْث وهب لَهُ جلاجل أم ابْنه زِيَادَة الله فَخرج بهَا حَتَّى وصل الزاب وعَلى إفريقية يَوْمئِذٍ الْفضل بن روح بن حَاتِم فلقى من تعصبه وَسُوء مجاورته عَظِيما وَأقَام أَخُوهُ عبد الله بن الْأَغْلَب بِمصْر وَكَانَ ذَا نعْمَة عَظِيمَة فَلَمَّا توفّي أرتحل بنوه إِلَى إفريقية وَولى الزاب من قبل هَارُون الرشيد وَابْن العكى على إفريقية وَقد تقدم ذكر نصرته لِابْنِ العكى إِلَى أَن صرف بإبراهيم سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة

وَتوجه إِلَى الْمشرق فَلَمَّا بلغ طرابلس دلّس لَهُ كَاتبه دَاوُود القيرواني على لِسَان الرشيد كتابا بِإِقْرَارِهِ على إفريقية وأنصرافه إِلَى عمله فتمشى ذَلِك زَمَانا وَبلغ الرشيد فَغَاظَهُ وأسجل لإِبْرَاهِيم بِولَايَة إفريقية ثَانِيَة فأشتد عِنْد ذَلِك سُلْطَانه وَعظم دون الْمُلُوك الَّذين تقدموه شَأْنه وَخرج ابْن العكى من إفريقية وأعمالها وعَلى هَذِه الْحَال لم يكاف إِبْرَاهِيم على حسن مَا أسلفه فِي جَانِبه إِلَّا بأقبح الْأَفْعَال وَمن فَضَائِل إِبْرَاهِيم المأثورة وجلائل أنبائه المسطورة أَنه عَفا عَن دَاوُود كَاتب ابْن العكى وَأسْقط التثريب عَلَيْهِ وَقبل متابه فَأَمنهُ وأستعمله وَقد ذكرت ذَلِك فِي تأليفي المترجم ب إعتاب الْكتاب وَهُوَ الْقَائِل وَقد خلف أَهله بِمصْر فِي قَصده الزاب (مَا سرت ميلًا وَلَا جَاوَزت مرحلة ... إِلَّا وذكرك يثنى دائباً عنقِي) (وَلَا ذكرتك إِلَّا بت مرتفقاً ... أرعى النُّجُوم كَأَن الْمَوْت معتنقى) الْبَيْت الأول نَظِير قَول يزِيد بن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان فِي زوجه (إِذا سرت ميلًا أَو تغنت حمامة ... دعتني دواعي الشوق من أم خَالِد) وَكَانَ مُحَمَّد بن سِيرِين يَقُول هُوَ أشوق بَيت قالته الْعَرَب وَقَالَ إِبْرَاهِيم وَهُوَ بالزاب فِي قتل ابْن الْجَارُود للفضل بن روح بن حَاتِم وَقد بلغه أَن نصر بن حبيب المهلبي أَشَارَ برد الْفضل من طَرِيقه لِأَنَّهُ خَافَ

أَن يحدث حَدثا فيقتله ابْن الْجَارُود بِسَبَبِهِ (يَا نصر قد أَصبَحت ألأم من مضى ... مِنْكُم وألام حَاضر مَعْلُوم) (لما أَشرت برد فضل بَعْدَمَا ... قطع الْبِلَاد على أقب رسوم) (لم ترض بالخذلان حَتَّى كدته ... لَا زلت مخذولا بِغَيْر حميم) (مَا كنت حِين غَدَوْت تنشر لحية ... فِيهَا لقَوْمك غدرة بكريم) (لَو كَانَ ناداني أجبْت دعاءه ... بِالْخَيْلِ أقحمها بِسَعْد تَمِيم) (خيل بهَا أهْدى المنايا للعدى ... وَبهَا أفرج كربَة المكظوم)

وَقَالَ أَيْضا فِي دُخُوله القيروان قَائِما بنصرة ابْن العكى وهرب تَمام بن تَمِيم أَمَامه (لَو كنت لاقيت تَمامًا لصال بِهِ ... ضرب يفرق بَين الرّوح والجسد) (لكنه حِين شام الْمَوْت يقدمني ... ولي فِرَارًا وخلى لي عَن الْبَلَد) (إِن يستقم نعف عَمَّا كَانَ قدمه ... وَإِن يعد بعْدهَا فِي غدرة نعد) ثمَّ نزل عَن الْمِنْبَر وَكتب إِلَى مُحَمَّد بن مقَاتل يستعيده إِلَى عمله وَقَالَ فِي ذَلِك (أتشكر عَنَّا مَا صنعت بربها ... وردى عَلَيْهَا الثغر أم هِيَ تكفر) (نفيت لَهَا التَّمام بِالسَّيْفِ عنْوَة ... وَلم يغنه فِي الله مَا يتمضر) (فَأقبل إِلَيّ مَا كنت خلفت كَارِهًا ... فقد ذاد سَيفي عَنْك مَا كنت تحذر) وَقَالَ أَيْضا فِي ذَلِك (ألم ترني رددت طريد عك ... وَقد نزحت بِهِ أَيدي الركاب) (أخذت الثغر فِي سبعين منا ... وَقد أوفى على شرف الذّهاب) (هزمت لَهُم بِعدَّتِهِمْ ألوفاً ... كَأَن رعيلهم قزع السَّحَاب) قَالَ إِبْرَاهِيم هَذَا لِأَنَّهُ قصد لنصرة ابْن العكى فِي سبعين فَارِسًا من أهل بَيته وخاصته إقداماً ونجدة فَقَالَ بعض شعراء إفريقية فِي ذَلِك (مَا مر يَوْم لإِبْرَاهِيم نعلمهُ ... إِلَّا وشيمته للجود والباس)

وَلما حَارب تَمامًا وَابْن العكى بالقيروان حمل على الميمنة وَهُوَ يَقُول (أطعنهم وَلَا أرى لي كفوا ... حَتَّى أنال مَا أُرِيد عفوا) (أَو أحسون كأس المنايا حسوا ... ) ثمَّ رَجَعَ إِلَى الميسرة بعد أَن كسر الميمنة وَهُوَ يَقُول (قد علمت سعد وأبناه مُضر ... أَنِّي منعت عزها أَن يعتصر) (وأنني فخارها لمن فَخر ... ) ففضها ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْقلب فَشد عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُول (يَا قلب قد أَبْصرت صاحبيكا ... مَا لقيا مني فَخذ إليكا) (ضربا يمور وقعه عليكا ... كَيفَ ترى دفعي بجانبيكا) وَحمل أَصْحَابه فَكَانَت الْهَزِيمَة على تَمام وَله حِين وَجه بِمن كَانَ يخَاف أَمرهم من وُجُوه الْجند إِلَى الرشيد (مَا سَار كيدي إِلَى قوم وَإِن كَثُرُوا ... إِلَّا رمى شِعْبهمْ بالحزم فأنصدعا) (وَلَا أَقُول إِذا مَا الْأَمر نازلني ... يَا ليته كَانَ مصروفاً وَقد وَقعا) (حَتَّى أجليه قهرا بمعتزم ... كَمَا يجلى الدجى بدر إِذا طلعا) (قوما قتلت وقوماً قد نفيتهم ... ساموا الْخلاف بِأَرْض الغرب والبدعا) (كلا جزيتهم صدعاً بصدعهم ... وكل ذِي عمل يجزى بِمَا صنعا)

وَله أَيْضا وَهُوَ من جيد شعره (ألم ترني أوديت بالكيد راشداً ... وأتى بِأُخْرَى لِابْنِ إِدْرِيس راصد) (تنَاوله عزمي على بِأَيّ دَاره ... بمختومة فِي طيهن المكائد) (وَقد كَانَ يَرْجُو أَن يفوت مكائدي ... كَمَا كَانَ يخشاني على الْبعد رَاشد) (ثَلَاثُونَ ألفا سقتهن لقَتله ... لأصلح بالغرب الَّذِي هُوَ فَاسد) (فأضحى لدينا رَاشد ينتبذنه ... بَنَات المنايا والحسان الخرائد) (فتاه أَخُو عك بمهلك رَاشد ... وَقد كنت فِيهِ ساهراً وَهُوَ رَاقِد) رَاشد هَذَا هُوَ مولى عِيسَى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عَليّ بن أبي طَالب وَكَانَ عَاقِلا شجاعاً أيداً خرج بِإِدْرِيس بن عبد الله أخى مَوْلَاهُ عِنْد انهزامه فِي وقْعَة فخ وَقد تقدم ذكرهَا وأنغمس بِهِ فِي حَاج أهل مصر وَغير زيه وَألبسهُ مدرعة وعمامة غَلِيظَة وصيره كالغلام يَخْدمه وَإِن أمره وَنَهَاهُ أسْرع فِي ذَلِك وتخلص إِلَى إفريقية فِي خبر طَوِيل فَترك دُخُولهَا ثمَّ سَار بِهِ فِي بِلَاد البربر حَتَّى أنْتَهى إِلَى فاس وطنجة فأظهر إِدْرِيس هُنَالك أمره وَأخْبر بنسبه ودعا للبربر إِلَيْهِ فَأَجَابُوهُ وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة فِي السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وَولى ابْنه هِشَام الرِّضَا وَفِي السّنة الثَّانِيَة من خلَافَة هَارُون الرشيد أَقَامَ بَين أظهر البربر ملكا مُطَاعًا وَبلغ الرشيد خَبره فشق عَلَيْهِ وشكا ذَلِك إِلَى يحيى بن خَالِد فَدس إِلَيْهِ من

سمه فِي غَالِيَة وَقيل فِي ذرور أستن بِهِ وَقيل فِي دلاعة قطعهَا بسكين نصفهَا مَسْمُوم وَالثَّانِي غير مَسْمُوم وَقيل فِي بطيخة وهرب هُوَ وَصَاحب لَهُ فَيُقَال إِن راشداً اتبعهما وَقد بعدا فأدركهما وَهُوَ وَحده على فرسه فَشد عَلَيْهِمَا بِسَيْفِهِ فَضرب أَحدهمَا وَفَاتَ الآخر وأنصرف رَاشد وَهلك إِدْرِيس وَيُقَال إِن الَّذِي دس الرشيد إِلَيْهِ ليسمه هُوَ الشماخ اليمامي وَكتب لَهُ إِلَى إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب فوصل إِلَى إِدْرِيس وعرفه أَنه متطبب وَأَنه من أَوْلِيَائِهِمْ فأطمأن إِلَيْهِ وَأنس بِهِ وشكا إِلَيْهِ عِلّة فِي أَسْنَانه فَأعْطَاهُ سنوناً مسموماً وَأمره أَن يستن بِهِ عِنْد طُلُوع الْفجْر وهرب تَحت اللَّيْل فَلَمَّا طلع الْفجْر أستن إِدْرِيس بذلك السنون فَقتله وَطلب الشماخ فَلم يقدر عَلَيْهِ وَقدم

على إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب فَأخْبرهُ فَكتب إِبْرَاهِيم إِلَى الرشيد بذلك فولى الشماخ بريد مصر وَأَجَازَهُ وَقد تقدم عِنْد ذكره أَن الَّذِي سمه سُلَيْمَان بن جرير فِي سَمَكَة مشوية وَقَالَ فِي ذَلِك أَشْجَع السلمى من شعراء الرشيد (أتظن يَا إِدْرِيس أَنَّك مفلت ... كيد الْخَلِيفَة أَو يقيك حذار) (إِن السيوف إِذا انتضاها عزمه ... طَالَتْ وتقصر دونهَا الْأَعْمَار) (هَيْهَات إِلَّا أَن تكون ببلدة ... لَا يَهْتَدِي فِيهَا إِلَيْك نَهَار) وَكَانَت مُدَّة سُلْطَان إِدْرِيس بالمغرب إِلَى أَن مَاتَ بوليلى سنة خمس وَقيل سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة ثَلَاثَة أَعْوَام وَسِتَّة أشهر وَكَانَ قد خرج إِلَى سبتة فِي شَيبَان سنة ثَلَاث وَسبعين وَإِلَى تازا فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَسبعين وَترك حملا من إِحْدَى جواريه فَقَامَ رَاشد بِأَمْر البربر حَتَّى ولدت غلاماا فَسَماهُ باسم أَبِيه إِدْرِيس وكفله إِلَى أَن بلغ الْغُلَام وَعلا أَمر رَاشد وأستفحل وهم بغزو إفريقية لما كَانَ فِيهِ من الْقُوَّة وَكَثْرَة الْجنُود فكاده إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب من الزاب مَوضِع ولَايَته ودس إِلَى أَصْحَابه وبذل لَهُم الْأَمْوَال إِلَى أَن أغتالوه وبعثوا بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ فَبعث بِهِ إِلَى ابْن مقَاتل العكى وَأخْبرهُ بكيده إِيَّاه وتدبيره فِي قَتله فَبعث بِهِ العكى إِلَى هَارُون الرشيد وَنسب ذَلِك إِلَى نَفسه دون إِبْرَاهِيم فَكتب صَاحب بريد الْمغرب إِلَى هَارُون بصنيع إِبْرَاهِيم فِي رَاشد فعلى إِثْر ذَلِك ولي الرشيد إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب إفريقية وَصرف عَنْهَا العكى وَقد قيل إِن الرشيد إِنَّمَا دس إِلَى إِدْرِيس من أغتاله وخاطب إِبْرَاهِيم بِهِ وَهُوَ عَامل لَهُ على إفريقية وَالْأول أصح وَتُوفِّي إِبْرَاهِيم

فِي شَوَّال لثمان لَيَال بَقينَ مِنْهُ سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة وَهُوَ ابْن سِتّ وَخمسين سنة فَكَانَت ولَايَته اثنتى عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَعشرَة أَيَّام 33 - يحيى بن الْفضل بن النُّعْمَان التَّمِيمِي أَبُو الْعَبَّاس كَانَ صَاحب بريد الْمغرب أَيَّام ابْن العكى وَهُوَ الْقَائِل لتَمام بن تَمِيم حِين بلغه إقبال إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب إِلَيْهِ (أتمام لَا تقعد فَإِنِّي نَاصح ... وَخذ مهلة إِن كنت لَا بُد هَارِبا) (وَإِلَّا فعذ من سخطه بأمانه ... فلست بلاق لِابْنِ أغلب غَالِبا) (وَلَا تُحِسُّونَ كأساً فَلَيْسَ بِنَافِع ... تحسيك مَا فِيهَا إِذا كنت شارباً) 34 - خريش بن عبد الرَّحْمَن بن خريش الْكِنْدِيّ ثار بتونس وَكَانَ صهر الْحسن بن حَرْب الْكِنْدِيّ الْمُخَالف على الْأَغْلَب ابْن سَالم وَلم يكن من الْجند وَلكنه من أَبنَاء الْعَرَب الَّذين كَانُوا بإفريقية

قبل المسودة فَخلع المسودة وَأَتَاهُ الْعَرَب والبربر من كل نَاحيَة فَلَمَّا كثر جمعه كتب إِلَى إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب من خريش الْقَائِم بِالْعَدْلِ إِلَى إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب أما بعد فَإِنِّي أَقمت عَن الْخُرُوج قبل يومي هَذَا لِأَنِّي كنت أنْتَظر أَن تفنيكم الْحَرْب فلعمري لقد أرانا الله فِيكُم مَا قوى بِهِ أهل دَعْوَة الْحق عَلَيْكُم فَلَمَّا وليت أَنْت وَعلمت أَنهم مقسومون بَين خوف مِنْك ورجاء لَك عرفت قلَّة طمعهم فِيك وَلَو كَانَ أحد مِمَّن ولي هَذَا الثغر مِمَّن لَا نرى طَاعَته يسْتَحق أَن نرضى بولايته لَكُنْت أَنْت ذَلِك وَقد كَانَ عَليّ بن أبي طَالب رَحْمَة الله عَلَيْهِ يَقُول إِذا ولى عَنْكُم عَدوكُمْ من أهل الْملَّة فَلَا تتبعوهم وَلست أطلبك إِن خرجت عَن الثغر فَلَا ترد أَن تصلى بحربي وَليكن رَأْيك طلب سلمى وَالسَّلَام وَكتب فِي آخر كِتَابه (قل جهرة لأبي إِسْحَاق تنصحه ... هَذَا فراقكم للغرب قد حانا) (فَلَا يعود إِلَيْهِ مِنْكُم أحد ... حَتَّى يعود من الإجداث مَوتَانا) (فأرجع عَن الغرب أَو ألق السوَاد بِهِ ... لَا تخترمك المنايا حِين تلقانا)

(وسوف تعلم أَن الْمَوْت يسمع لي ... إِذا ألتقت بنواحي الفحص خيلانا) فَلَمَّا قَرَأَ إِبْرَاهِيم كِتَابه كتب إِلَيْهِ من إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب إِلَى خريش رَأس الضلال سَلام على من أتبع الْهدى أما بعد (فَإِن مثلك مثل الْبَعُوضَة الَّتِي قَالَت للنخلة إِذْ سَقَطت عَلَيْهَا أستمسكي فَإِنِّي أُرِيد الطيران فَقَالَت النَّخْلَة مَا شَعرت بسقوطك فيكربني طيرانك فَأَما انتظارك فِي الْحَرْب فنَاء فَلَو لم يبْق فِي الْمغرب من أهل الطَّاعَة غَيْرِي مَا وصلت أَنْت فِي من مَعَك بخلافكم إِلَيْهِ ولرجوت أَن أظفر بكم بطاعتي وَنَصره دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ أَطَالَ الله بَقَاءَهُ فَكيف وَعِنْدِي من شيعته وَأَبْنَاء أنصاره من يعلم الله أَنِّي أرجوه أَن ينْتَقم مِنْك على يَدي وَأما مَا ذكرت عَن عَليّ ابْن أبي طَالب رضوَان الله عَلَيْهِ فَذَاك أَمر غَابَ عَنْك وَإِن كَانَ كَمَا ذكرت فلست مِنْهُم لِأَن أهل الْملَّة خلافهم خلاف هدى فِي نقمة على جور وخلافكم خلاف فرقة دين وشق غصا الْمُسلمين ونقمتهم مَا هُوَ لله رضَا وستعلم أَنْت وَأَصْحَابك إِن لقيناكم غَدا أَنا سنتبعكم وَإِن صَبَرْتُمْ أَنا سنفنيكم

وَأما ذكرك الفحص فَإِن تركتك حَتَّى تصير إِلَيْهِ فَأَنا فِي مثل جِلْدك وَكتب إِلَيْهِ (بلغ خريشا بِأَنِّي سَوف أصيحه ... كأساً سيقرع مِنْهَا سنّ حيرانا) (تهدى الطعان لَهُ سمر مثقفة ... تفرى أسنتها فِي الْحَرْب أعدانا) (من كل أَزْرَق يغتال النُّفُوس بِهِ ... يضحى بِهِ من دم الأجواف ملآنا) (وسوف تعلم هَل ألقِي السوَاد إِذا ... أرست إِلَيْك المنايا حِين تلقانا) (إِنِّي سأهدي إِلَيْك الْمَوْت فِي عطب ... فأشرب منيته من كف عمرانا) ثمَّ بعث إِلَى عمرَان بن مجَالد يحضه على قِتَاله ولقائه قبل خُرُوجه من تونس وأوصاه بِمَا يعْمل فَلَقِيَهُ عمرَان بسبخة تونس فأنكشف خريش وَأَصْحَابه وَقتل وَدخل عمرَان تونس يتتبعهم ويقتلهم حَتَّى أفناهم وَكَانَ خُرُوجه سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة 35 - عمرَان بن مجَالد بن يزِيد الربعِي ثار على إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب وَكَانَ قبل ذَلِك فِي طَاعَته ومناصحته وَحضر مَعَه قتال تَمام بن تَمِيم وَخرج نَائِبا عَنهُ لقِتَال خريش بن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور آنِفا وَلما قوى أمره أَتَى بعسكره حَتَّى نزل بَين القيروان وَبَين قصر إِبْرَاهِيم

وَصَارَت القيروان فِي يَده وَبعث إِلَى أَسد بن الْفُرَات ليخرج مَعَه فَأبى أَسد وتمارض فَبعث إِلَيْهِ إِمَّا أَن تخرج وَإِلَّا بعثت من يجر برجلك فَقَالَ أَسد وَالله لَئِن أخرجتني لأنادين فِي النَّاس الْقَاتِل والمقتول فِي النَّار فَتَركه عِنْد ذَلِك وَخَنْدَق إِبْرَاهِيم حول مدينته ودامت الْحَرْب بَينهمَا سنة ثمَّ ضعف عمرَان فهرب إِلَى نَاحيَة الزاب وَسَأَلَ الْأمان هُوَ وَعَمْرو بن مُعَاوِيَة وعامر ابْن المعمر من إِبْرَاهِيم فأجابهم إِلَى ذَلِك وَبَقِي عمرَان بالزاب إِلَى وَفَاة إِبْرَاهِيم ومصير الْأَمر إِلَى ابْنه أبي الْعَبَّاس عبد الله فَكتب إِلَيْهِ عمرَان يسْأَله تَجْدِيد الْأمان فَأَمنهُ وَأَسْكَنَهُ الْقصر مَعَه وَكَانَ يَغْدُو عَلَيْهِ وَيروح إِلَى أَن سعى بِهِ وَقيل لعبد الله هَذَا ثار على أَبِيك وحاله حَاله فَبعث إِلَيْهِ فِي الظهيرة فَلم يشك فِي الشَّرّ وَكَانَ عبد الله قد قَالَ لمولى لَهُ إِذا ورد على وَهُوَ مشتغل بِالنّظرِ فَلَا يشْعر إِلَّا وَقد رميت بِرَأْسِهِ فَكَانَ ذَلِك على مَا حَده وَكَانَ يحيى بن سَلام الْفَقِيه صَاحب التَّفْسِير قد سفر بَينهمَا فِي الْأمان على مَاله وَنَفسه وَولده فَلَمَّا قَتله وجد لذَلِك وَقَالَ لَا أسكن بَلَدا أَخْفَر فِيهِ الْعَهْد على يَدي فَخرج إِلَى مصر ثمَّ مضى إِلَى مَكَّة فحج وَرجع فَلم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى أعتل وَمَات وَدفن بِمصْر سنة مِائَتَيْنِ وَمن شعر عمرَان فِي حَرْب إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب مَعَ تَمام بن تَمِيم وَقد برز من الصَّفّ

(يَا رسل الْمَوْت أَنا عمرَان ... أَنا الَّذِي أَنْتُم لَهُ أعوان) (تصعق من خيفتي الفرسان ... يضْحك عَن أيامنا الزَّمَان) (نَحن ضربنا النَّاس حَتَّى دانوا ... نقْتل أهل النكث حَيْثُ كَانُوا) فَخرج إِلَيْهِ رجل من أَصْحَاب تَمام وَهُوَ يَقُول (أرجع على ظلعك يَا عمرَان ... قد جَاءَك الْمَوْت لَهُ تهتان) (يسقيكه من راحتي سِنَان ... وَالظَّن يجلو شكه العيان) فَشد عَلَيْهِ عمرَان فطعنه فِي ثندؤته فَبَدَا عَامل الرمْح من خَلفه 36 - عَامر بن المعمر بن سِنَان التَّيْمِيّ تيم الربَاب كَانَ على شرطة إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب ثمَّ ثار عَلَيْهِ مَعَ عمرَان بن مجَالد وَعَمْرو بن مُعَاوِيَة والرئاسة مِنْهُم فِي تِلْكَ الثورة لعمران إِلَى أَن أستأمنوا جَمِيعًا إِلَى إِبْرَاهِيم فَأَمنَهُمْ وَكَانَ عَامر على قسطيلية والياً وَهُوَ الْقَائِل فِيمَا وَقع بَين مُحَمَّد بن مقَاتل وَتَمام بن تَمِيم من الْحَرْب وَقيام إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب بنصرته (إِذا كربَة شدت خناق مُحَمَّد ... فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا ابْن أغلب فارج) (أَتَاهُ بِتمَام على بأسه بِهِ ... يُقَاد وَقد ضَاقَتْ عَلَيْهِ المخارج) (وَقد كَانَ بالإسراف ألقِي سوَاده ... وَلم تختلجه فِي الْخلاف الخوالج)

(فعاجله بالكيد حَتَّى استفاده ... وأدركه من بعد مَا قيل خَارج) (وَلَو أَنه يستودع الشَّمْس نَفسه ... إِذا ولجت مِنْهُ عَلَيْهِ الولائج) وَله فِي خُرُوج خريش بن عبد الرَّحْمَن بتونس (لَوْلَا دفاعك يَا ابْن أغلب أَصبَحت ... أَرض الْغُرُوب رهينة لفساد) (ولعمنا ذَاك الْخلاف بفتنة ... تعدو كتائبها بِغَيْر سَواد) (قَالُوا غَدَاة لقائهم لَا ننثنى ... حَتَّى نحل الْخلد من بَغْدَاد) (فمنوا بأشوس مَا تزَال جياده ... تَشْكُو الْوَحْي من غَارة وطراد) (فخرت بِهِ سعد فَأصْبح بَيتهَا ... فَوق الفراقد ثَابت الْأَوْتَاد) وَمن ولد عَامر هَذَا حَمْزَة بن أَحْمد بن عَامر بن المعمر كَانَ أديبا ظريفاً وَأما أَبوهُ المعمر بن سِنَان فَقدم مَعَ يزِيد بن حَاتِم المهلبي فِي ولَايَته إفريقية وَكَانَ زميله فِي طَرِيقه إِذا ركب فِي عماربته لأنسه بِهِ وأستماعه من حَدِيثه وَكَانَ أعلم النَّاس بأيام الْعَرَب وأخبارها ووقائعها وَأَشْعَارهَا وَعنهُ أَخذ أهل إفريقية حَرْب غطفان وَغَيرهَا من وقائع الْعَرَب 37 - حَمْزَة بن السبال الْمَعْرُوف بالحرون أحد رُؤَسَاء القواد وشجعان الأجناد وَكَانَ لَهُ من إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب آثر مَكَان وألطف مَحل لقدم صحبته إِيَّاه وتصرفه مَعَه حَيْثُ تصرفت حَاله فَكَانَ لَا يدانيه عِنْده أَخ وَلَا ولد وَلَا أحد من عشيرته وَكَانَ والياً على طبنة

وَوَجهه إِلَى الرشيد فِي القواد المتوثبين على الْوُلَاة بالقيروان وَلَده ولد إِبْرَاهِيم يتولون لَهُم إِلَى قيادة إِلَى عمالة حَتَّى أنفرضت دولة بني الْأَغْلَب وَمن شعره فِي إِيقَاعه بالمذكورين فِيهِ (سَائل بأبرانس عَنَّا ووقعتنا ... لما صببنا القنا نَحْو ابْن مرداس) (ولي وخلى سعيداً رهن نَافِذَة ... من طعن أروع للأرواح خلاس) (فَإِن يتوبوا فقد ذاقوا وقائعنا ... وَإِن يعودوا نعد أُخْرَى من الراس) وَله فِي حَرْب خريش الْخَارِج على ابْن الْأَغْلَب (إِن غَابَ إِبْرَاهِيم عَنَّا أَو حضر ... فإنني أنصره فِيمَن نصر) (وَالله لَا أرجع إِلَّا بظفر ... لَيْسَ يَمُوت الْمَرْء إِلَّا بِقدر) (وكل من خَالَفنَا فقد كفر ... ) فَجعل مَا يشد على نَاحيَة إِلَّا هدها وبرز فَارس من عَسْكَر تَمام بن تَمِيم فِي خِلَافه وَهُوَ يَقُول (إِن ظَفرت كفي بإبراهيم ... هددت رَأس الْعِزّ من تَمِيم)

فَلَمَّا سَمعه إِبْرَاهِيم نَادَى حَمْزَة يَا حَمْزَة أخرج إِلَى هَذَا الْكَلْب فَخرج إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُول (أَحْلف بالركن وبالحطيم ... مَا فِيكُم كفو لإِبْرَاهِيم) (ليصبحن الْيَوْم كالصريم ... ) ثمَّ شدّ عَلَيْهِ فَقتله 38 - إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الشيعي من أَبنَاء أهل خُرَاسَان ووجوه أَصْحَاب إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب وَكَانَ أقرب النَّاس إِلَيْهِ فِي الداعية أهل خُرَاسَان ثمَّ أهل الشَّام ثمَّ أهل الْبَلَد وأنفذه رَسُولا إِلَى الرشيد وَبعث صحبته برسل بهْلُول بن عبد الْوَاحِد المدغري فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي الْيَوْم الثَّالِث من قدومهم بَغْدَاد وأستأذن الشيعي هَذَا فِي الْكَلَام بعد أَن قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ رَسُول سَيْفك دولتك إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب فَأذن لَهُ على إِثْر هَذَا فَخَطب وَكَانَ

بليغاً مدْركا وَهُوَ الْقَائِل فِي مجْلِس ابْن الْأَغْلَب بالقيروان وبدار الْإِمَارَة مِنْهَا عِنْد قدومه لمحاربة تَمام بن تَمِيم بعد محاورة حَسَنَة (لَوْلَا ابْن الْأَغْلَب أضحى الغرب لَيْسَ بِهِ ... عدل وَلَا لبنى الْعَبَّاس سُلْطَان) (عَم الْخلاف قُلُوب الْقَوْم فأبتدعوا ... إِلَّا خَصَائِص أدتها خُرَاسَان) (جلا ابْن أغلب عَنَّا كل مظْلمَة ... فِيمَا الْمُطِيع بسكر الْخَوْف حيران) (كَادَت شياطين تَمام تردن بِنَا ... بَحر الضَّلَالَة والتمام شَيْطَان) 39 - عَمْرو بن مُعَاوِيَة الْقَيْسِي هُوَ من ولد عُمَيْر بن الْحباب السلمى أحد فرسَان قيس وساداتها الْأَرْبَعَة فِي الْإِسْلَام وهم عبد الله بن حَازِم والجحاف بن حَكِيم وَعُمَيْر بن الْحباب الْمَذْكُور وَزفر بن الْحَرْث وَكَانَ عَمْرو بن مُعَاوِيَة يتَوَلَّى نَاحيَة القصرين من إفريقية وَخرج على إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب مَعَ عمرَان بن مجَالد وَكَانَ وزيره الْغَالِب عَلَيْهِ فِي أُمُوره ثمَّ خرج ثَانِيَة على وَلَده زِيَادَة الله بن إِبْرَاهِيم وَكَانَ قد ولاه القصرين وَمَا إِلَيْهِمَا فتغلب على تِلْكَ النَّاحِيَة وَأظْهر الْخلاف فَلَمَّا ظفر بِهِ زِيَادَة الله قَتله وولديه الْحباب وسكتان ودعا أهل بَيته فَشرب مَعَهم ورؤوسهم بَين يَدَيْهِ فَغَضب لَهُم مَنْصُور بن نصر الْجُشَمِي الْمَعْرُوف بالطنبذي وَكَانَ عَاملا على طرابلس وَتَابعه الْجند فأضطربت إفريقية

على زِيَادَة الله وَحصر فِي قصره وَلم يبْق فِي يَده إِلَّا السَّاحِل وَقَابِس إِلَى أَن قتل مَنْصُور وأستأنس إِلَى زِيَادَة الله وصفت لَهُ إفريقية وأستقامت بعد حروب طَوِيلَة وخطوب جليلة وَمن شعر عَمْرو بن مُعَاوِيَة مَا حكى أَن بعض أَصْحَاب تَمام بن تَمِيم يَوْم التقى هُوَ وَإِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب عِنْد خُرُوج تَمام على ابْن العكى برز من الصَّفّ وَهُوَ يَقُول (الْيَوْم نسقيكم سوى المدام ... بالبيض يهوى حَدهَا بالهام) (حَتَّى تخلوا الغرب للتمام ... ) وبرز إِلَيْهِ عَمْرو وَهُوَ يَقُول (من مبلغ قولي إِلَى التَّمام ... حلفا بِرَبّ الْحل وَالْحرَام) (إِنَّك مَحْمُول على الصمصام ... وَقد تلاقت حلق الحزام) ثمَّ شدّ عَلَيْهِ فأرداه عَن فرسه 40 - بهْلُول بن عبد الْوَاحِد المدغري كَانَ رَئِيسا فِي قومه وَهُوَ قَامَ بِأَمْر إِدْرِيس بن إِدْرِيس الْحسنى صَاحب الْمغرب ثمَّ تغير عَلَيْهِ وفارقه وَرجع إِلَى إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب عِنْد ظُهُوره على إفريقية وَذَلِكَ بتلطف إِبْرَاهِيم فِي إِفْسَاد مَا بَينه وَبَين إِدْرِيس فجرت بَينهمَا مكاتبات كَانَ فِي بَعْضهَا مِمَّا كتبه البهلول إِلَى إِبْرَاهِيم

(لَئِن كنت تَدعُونِي إِلَى الْحق ناصحاً ... لتكشف عَن قلبِي ضمير خلاف) (لقدماً أَتَانَا عَنْك أَنَّك نَاصح ... لمن قَالَ بِالصُّلْحِ الْخلَافَة كَاف) (وَأَنَّك مَحْمُود النقائب عِنْدهم ... تزين مَا تَأتي لَهُم بعفاف) (فَعجل على رد رَأْيِي فإنني ... أرد الْهوى للحق حِين يوافي) فجاوبه إِبْرَاهِيم بقوله (عرضت على البهلول مَا إِن أَصَابَهُ ... تعوض مِنْهُ طَاعَة بِخِلَاف) (ليركب نهج الْحق وَالْحق وَاضح ... ونهج الْعَمى وعر المسالك عاف) (فَلَا تتركن رشد الْهدى لضلالة ... كمستبدل رنق الشَّرَاب بطاف) (وَبَايع لهارون الإِمَام بِطَاعَة ... تَجدهُ على الْإِسْلَام خير مكاف)

المائة الثالثة

الْمِائَة الثَّالِثَة 41 - عبد الرَّحْمَن بن الحكم بن هِشَام الرِّضَا بن عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان أَبُو الْمطرف وَهُوَ عبد الرَّحْمَن الْأَوْسَط وَالرَّابِع من خلفاء بني أُميَّة بالأندلس بُويِعَ لَهُ يَوْم وَفَاة أَبِيه الحكم الْمَعْرُوف بالربضى يَوْم الْخَمِيس لثلاث وَقيل لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ وَكَانَت خِلَافَته إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام وَكَانَ فصيحاً مفوهاً شَاعِرًا مَعَ سَعَة الْعلم والحلم وَقلة الْقبُول للبغى والسعايات وَهُوَ الَّذِي أستكمل فخامة الْملك بالأندلس وكسا الْخلَافَة أبهة الْجَلالَة وَظهر فِي أَيَّامه

الوزراء والقواد وَأهل الكور وشيد الْقُصُور وجلب الْمِيَاه من الْجَبَل وَبنى الرصيف على الْوَادي وَهُوَ الْقَائِل متشوقاً ومفتخراً (فقدت الْهوى مذ فقدي الحبيبا ... فَمَا أقطع اللَّيْل إِلَّا نحيباً) (وَإِمَّا بَدَت لي شمس النَّهَار ... طالعة ذَكرتني طروباً)

(فيا طول شوقي إِلَى وَجههَا ... وَيَا كبداً أورثتها ندوباً) (وَيَا أحسن الْخلق فِي مقلتي ... وأوفرهم فِي فُؤَادِي نَصِيبا) (لَئِن حَال دُونك بعد المزار ... من بعد أَن كنت مني قَرِيبا) (لقد أورث الشوق جسمي الضنى ... وأضرم فِي الْقلب مني لهيبا) (عداني عَنْك مَزَار العدا ... وقودي إِلَيْهِم لهاماً لهيبا) (كأين تخطيت من سبسب ... وجاوزت بعد دروب دروبا) (أُلَاقِي بوجهي حر الهجير ... إِذا كَاد مِنْهُ الْحَصَى أَن يذوبا) (وأدرع النَّقْع حَتَّى لبست ... من بعد نَضرة وَجْهي شحوبا) (أُرِيد بِذَاكَ ثَوَاب الْإِلَه ... وَمن غَيره أبتغيه مثيبا) (أَنا ابْن الهشامين من غَالب ... أشب حروباً وأطفي حروبا) (بِي أدارك الله دين الْهدى ... فأحييته وأصطلمت الصليبا) (سموت إِلَى الشّرك فِي جحفل ... مَلَأت الحزون بِهِ والسهوبا) وَذكر سكن بن إِبْرَاهِيم الْكَاتِب وَغَيره أَنه أَمر

لجارية من حظاياه بِعقد جَوْهَر كَانَت قِيمَته عشرَة أُلَّاف دِينَار فَجعل بعض من حَضَره من وزرائه وخاصته يعظم ذَلِك عَلَيْهِ وَيَقُول إِن هَذَا من الأعلاق المضنون بهَا المدخرة للنائبة فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن وَيحك إِن لابس العقد أنفس خطراً وَأَرْفَع قدرا وَأكْرم جوهراً وَلَئِن راق من هَذِه الْحَصْبَاء منظرها ولطف إفرندها لقد برأَ الله من خلقه البشري جوهراً تعشى مِنْهُ الْأَبْصَار وتتيه الْأَلْبَاب وَهل على الأَرْض من شرِيف جوهرها وسنى زبرجها ومستلذ نعيمها وفاتن بهجتها أقرّ لعين أَو أجمع لزين من وَجه أكمل الله حسنه وَألقى عَلَيْهِ الْجمال بهجته ثمَّ دَعَا بِعَبْد الله بن الاشمر شاعره وجليسه فَذكر لَهُ مَا كَانَ بَينه وَبَين وزيره فِي شَأْن العقد وَقَالَ هَل يحضرك

شَيْء فِي تَأْكِيد مَا أحتججنا بِهِ قَالَ نعم وأطرق بريهة ثمَّ أنشأ يَقُول (أتقرن حَصْبَاء اليواقيت والشذر ... إِلَى من تَعَالَى عَن سنا الشَّمْس والبدر) (إِلَى من برت قدماً يَد الله خلقه ... وَلم يَك شَيْئا غَيره أحد يبرى) (فَأكْرم بِهِ من صِيغَة الله جوهراً ... تضاءل عَنهُ جَوْهَر الْبر وَالْبَحْر) (لَهُ خلق الرَّحْمَن مَا فِي سمائه ... وَمَا فَوق أرضيه وَمكن فِي الْأَمر) فأعجب الْأَمِير عبد الرَّحْمَن ببديهته وتحرك طبعه لِلْقَوْلِ وَأَنْشَأَ يَقُول مناغياً على رويه (قريضك يَا ابْن الشمر عفى على الشّعْر ... وأشرق بالإيضاح فِي الْوَهم والفكر) (إِذا جال فِي سمع يُؤدى بسحره ... إِلَى الْقلب إبداعاً يجل عَن السحر) (وَهل برأَ الرَّحْمَن فِي كل مَا برا ... أقرّ لعين من منعمة بكر) (ترى الْورْد فَوق الياسمين بخدها ... كَمَا فَوق الرَّوْض الْمنور بالزهر) (فَلَو أنني ملكت قلبِي وناظري ... نظمتهما مِنْهَا على الْجيد والنحر) فَقَالَ لَهُ ابْن الشمر يَا ابْن الخلائف شعرك وَالله أَجود من شعري

وثناؤك عَلَيْهِ أفضل من صلتي وَمَا منحتك لي إِلَّا تطولاً مِنْك بِغَيْر إستحقاق مني فأضعف جائزته وَأكْثر الثَّنَاء عَلَيْهِ وَله أَيْضا فِي النسيب (قتلتني بهواكا ... وَمَا أحب سواكا) (من لي بِسحر جفون ... تدبره عيناكا) (وَحُمرَة فِي بَيَاض ... تُكْسَى بِهِ وجنتاكا) (أعطف على قَلِيلا ... وأحيني برضاكا) (فقد قنعت وحسبي ... بِأَن أرى من رآكا) وَحكى ابْن فرج صَاحب كتاب الحدائق أَنه فرق فِي يَوْم فصد لَهُ بَدْرًا على من حَضَره وَعبيد الله بن قرلمان أحد خواصه ومواليه غَائِب فِي باديته فابتدر فَوجدَ أمرا قد نفذ فَكتب إِلَيْهِ بِأَبْيَات مِنْهَا (يَا ملكا حل ذرى الْمجد ... وَعم بالإنعام والرفد) (طُوبَى لمن أسمعته دَعْوَة ... فِي يَوْمك المأنوس بالفصد) (فظل ذَاك الْيَوْم من قصفه ... مستوطناً فِي جنَّة الْخلد) (وَقد عداني أَن أرى حَاضرا ... جد مَتى يحظى الورى يكد) (فأمنن بتنويلي جدا لم يزل ... يعي أهل الْقرب والبعد)

فَوَقع فِي أَسْفَل كِتَابه من آثر التضجع فليرض بحطه من النّوم فجاوبه ابْن قرلمان بِأَبْيَات أَولهَا (لَا نمت إِن كنت يَا مولَايَ محروماً ... ) فَأمر لَهُ بالصلة ورد فِي جَوَابه (لَا غرو أَن كنت مَمْنُوعًا ومحروماً ... إِذْ غبت عَنَّا وَكَانَ الْعرف مقسوماً) (فَلَنْ ينَال امْرُؤ من حَظه أملاً ... حَتَّى يشد على الإجهاد حيزوماً) (فهاك من سيبنا مَا كنت تَأمله ... إِذْ حمت فَوق رَجَاء الْورْد تحويماً) 42 - ابْنه الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الحكم أَبُو عبد الله بُويِعَ لَهُ فِي صَبِيحَة اللَّيْلَة الَّتِي توفّي فِيهَا أَبوهُ وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس غرَّة شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ ابْن ثَلَاثِينَ سنة وَكَانَ أَيمن الْخُلَفَاء بالأندلس ملكا وأسراهم نفسا وَأكْرمهمْ تثبتاً وأناة وَكَانَ السعى عِنْده سَاقِطا يجمع إِلَى هَذِه الْخلال الشَّرِيفَة البلاغة وَالْأَدب وَتُوفِّي يَوْم الْخَمِيس منسلخ صفر وَقيل لليلة بقيت مِنْهُ سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ ابْن خمس وَسِتِّينَ سنة فَكَانَت خِلَافَته أَرْبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَأحد عشر شهرا وَهُوَ الْقَائِل فِي مُنْصَرفه من بعض غَزَوَاته (قفلت فأغمدت السيوف عَن الْحَرْب ... وَمَا أغمدت عني السيوف من الْحبّ) (صدرت وَبِي للبعد مَا بِي فزادني ... إِلَى الشوق أشواقاً رجائي فِي الْقرب) (أحل شدادي فِي السرادق نازلاً ... وللشوق عقد لَيْسَ ينْحل عَن قلبِي) (أقرطبة هَل لي إِلَيْك وفادة ... تقر بعيني أَو تمهد من جَنْبي)

(سقى الْقصر غيث بالرصافة مثله ... وجادت عزاليه كجودي فِي الجدب) (عداني عَدو عَن حبيب فزرته ... بِجَيْش تضيق الأَرْض عَن عرضه الرحب) (إِذا أسود من ليل الدروع تبلجت ... أسنته فِيهِ عَن الأنجم الشهب) (على أنني حصن لجيشي إِذا الْتَقَوْا ... وعزمي بهم أدنى السيوف إِلَى الضَّرْب) وَله (ذكر الصبوح فظل مصطبحا ... يسْتَعْمل الإبريق والقدحا) (مَا زَالَ حَيا وَهُوَ يشْربهَا ... حَتَّى أَمَانَته الكؤوس ضحى) 43 - ابْنه الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد ولي بعد أَخِيه أبي الحكم الْمُنْذر بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن فِي صفر سنة خمس وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَتُوفِّي سنة ثَلَاثمِائَة وَهُوَ ابْن أثنتين وَسبعين سنة فَكَانَت خِلَافَته خمْسا وَعشْرين سنة وَكَانَ أديباً شَاعِرًا بليغاً بَصيرًا باللغة والغريب وَأَيَّام الْعَرَب وَفِي أَيَّامه أضطرمت نَار الْفِتْنَة بالأندلس فتنغص عَلَيْهِ ملكه وَمن مَشْهُور شعره مَا وَقع بِهِ إِلَى الوزراء فِي قصَّة مُوسَى بن حدير وَعِيسَى ابْن أَحْمد بن أبي عَبده إِذا أَرَادَ كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يكون مَجْلِسه فَوق الآخر

فسخا لما كَانَ قد رتبه وَالِده الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن من رفع الموَالِي الشاميين على البلديين (موَالِي قُرَيْش من قُرَيْش فقدموا ... موَالِي قُرَيْش لَا موَالِي معتب) (إِذا كَانَ مَوْلَانَا يساوم عندنَا ... سواهُ فمولانا كآخر أَجْنَبِي) (حول اسْم مغيث إِلَى معتب إغماضاً وأنقياداً للقافية وَله فِي النسيب (يَا كبد المشتاق مَا أوجعك ... وَيَا أَسِير الْحبّ مَا أخضعك) (وَيَا رَسُول الْعين من لحظها ... بِالرَّدِّ والتليغ مَا أسرعك) (تذْهب بالسر وَتَأْتِي بِهِ ... فِي مجْلِس يخفى على من مَعَك) (كم حَاجَة أنجزت موعدها ... تبَارك الرَّحْمَن مَا أطوعك) وَله فِي ذَلِك (ويحى على شادن كحيل ... فِي مثله يخلع العذار) (كَأَنَّمَا وجنتاه ورد ... خالطه النُّور والبهار) قضيب بَان إِذا تثنى ... يُدِير طرفا بِهِ أحورار) (وقف عَلَيْهِ صفاء ودى ... مَا أختلف اللَّيْل وَالنَّهَار)

وَله فِي الزّهْد (يَا من يراوغه الْأَجَل ... حتام يُلْهِيك الأمل) (حتام لَا تخشى الردى ... وَكَأَنَّهُ بك قد نزل) (أغفلت عَن طلب النجَاة ... وَلَا نجاة لمن غفل) (هَيْهَات يشغلك الرَّجَاء ... وَلَا يَدُوم لَك الشّغل) وَله فِي مثله (أرى الدُّنْيَا تصير إِلَى فنَاء ... وَمَا فِيهَا لشَيْء من بَقَاء) (فبادر بالإنابة غير لاو ... على شَيْء يصير إِلَى فنَاء) (كَأَنَّك قد حملت على سَرِير ... وَصَارَ جَدِيد حسنك للبلاء) (فنفسك فابكها أَو نح عَلَيْهَا ... فربتما رحمت على الْبكاء) وَكَانَ بِفضل أدبه رُبمَا أسترسل فَقَالَ بِحَسب ذَلِك أَو تمثل ثمَّ لَا يَدعه كرم الْأَوَائِل وَشرف الشَّمَائِل حَتَّى يدنى من أقصاه ويبدي لمن أَعتب رِضَاهُ قَالَ فِي النَّضر بن سَلمَة الْكلابِي (أَنْت يَا نضر آبده ... لست ترجى لفائده) (إِنَّمَا أَنْت عدَّة ... لكنيف ومائده)

وعَلى ذَلِك استقضاه مرَّتَيْنِ ثمَّ استوزره وأستقضى أَيْضا أَخَاهُ مُحَمَّد بن سَلمَة تقيلا للأخلاق الْحكمِيَّة وجرياعلى الأعراق العبشمية وقرأت فِي تَارِيخ الْحميدِي أَن الْوَزير سُلَيْمَان بن وانسوس وَكَانَ من رُؤَسَاء البربر دخل عَلَيْهِ يَوْمًا وَكَانَ عَظِيم اللِّحْيَة فَلَمَّا رَآهُ مُقبلا جعل الْأَمِير عبد الله ينشد (هلوفة كَأَنَّهَا جوالق ... نكراء لَا بَارك فِيهَا الْخَالِق) (للقمل فِي حافاتها نفائق ... فِيهَا لباغي المتكا مرافق) (وَفِي احتدام الصَّيف ظلّ رائق ... إِن الَّذِي يحملهَا لمائق) ثمَّ قَالَ لَهُ أَجْلِس يَا بربرى فَجَلَسَ وَقد غضب فَقَالَ أَيهَا الْأَمِير إِنَّمَا كَانَ النَّاس يرغبون فِي هَذِه الْمنزلَة ليدفعوا عَن أنفسهم الضيم وَأما إِذْ صَارَت جالبة للذل فغنينا عَنْكُم فَإِن حلتم بَيْننَا وَبَينهَا فلنا دور تسعنا لَا تقدرون على أَن تحولوا بَيْننَا وَبَينهَا ثمَّ وضع يَدَيْهِ فِي الأَرْض وَقَامَ من غير أَن يسلم

ونهض إِلَى منزله فَغَضب الْأَمِير وَأمر بعزله وَرفع دسته الَّذِي كَانَ يجلس عَلَيْهِ وَبَقِي كَذَلِك مُدَّة ثمَّ إِن الْأَمِير عبد الله وجد فَقده لغنائه وأمانته ونصيحته وَفضل رَأْيه فَقَالَ للوزراء لقد وجدت لفقد سُلَيْمَان تَأْثِيرا وَإِن أردْت أسترجاعه ابْتِدَاء منا كَانَ ذَلِك غَضَاضَة علينا ولوددت أَن يبتدئنا بالرغبة فَقَالَ لَهُ الْوَزير مُحَمَّد بن الْوَلِيد بن غَانِم إِن أَذِنت لي فِي الْمسير إِلَيْهِ استنهضته إِلَى هَذَا فَأذن لَهُ فَنَهَضَ ابْن غَانِم إِلَى دَار ابْن وانسوس فَأَسْتَأْذِن وَكَانَت رُتْبَة الوزارة بالأندلس أَيَّام بنى أُميَّة أَلا يقوم الْوَزير إِلَّا لوزير مثله فَإِنَّهُ كَانَ يتلقاه وينزله مَعَه على مرتبته وَلَا يَحْجُبهُ أَولا لَحْظَة فَأَبْطَأَ الْإِذْن على ابْن غَانِم حينا ثمَّ أذن لَهُ فَدخل عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ قَاعِدا فَلم يتزحزح لَهُ وَلَا قَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ابْن غَانِم مَا هَذَا الْكبر عهدي بك وَأَنت وَزِير السُّلْطَان وَفِي أبهة رِضَاهُ تتلقاني على قدم وتتزحزح لي عَن صدر مجلسك وَأَنت الْآن فِي موجدته بضد ذَلِك فَقَالَ لَهُ نعم لِأَنِّي كنت حِينَئِذٍ عبدا مثلك وَأَنا الْيَوْم حر فيئس ابْن غَانِم مِنْهُ وَخرج وَلم يكلمهُ وَرجع إِلَى الْأَمِير فَأخْبرهُ فابتدأ الْأَمِير بِالْإِرْسَال إِلَيْهِ ورده إِلَى أفضل مَا كَانَ عَلَيْهِ 44 - يَعْقُوب ابْن الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن الحكم بن هِشَام ويكنى أَبَا قصى كَانَ أديباً شَاعِرًا مطبوعاً كلفاً بالعلوم جواداً لَا يَلِيق

شَيْئا وَهُوَ الْقَائِل فِي ابْن أَخِيه أبي أُميَّة العَاصِي ابْن الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن من قصيدة (تنادى ماجداً من عبد شمس ... زكى الْفَرْع مفضال الْيَدَيْنِ) (سما للمكرمات فقد حواها ... بهندى وخطار رديني) (وغيثاً حِين يسْكب لَا الثريا ... بِهِ جَادَتْ وَلَا نوءالبطين) مَا أحسن قَول أبي مَرْوَان بن حَيَّان وَذكر ثَنَاء مُعَاوِيَة بن هِشَام الشبينسى على أبي قصي هَذَا أَقُول وَصفه بالطبع فِي الشّعْر ثمَّ لم ينشد لَهُ مَا يصدق وَصفه بل أنْشد لَهُ ثَلَاثَة أَبْيَات من قصيدة مدح بهَا ابْن أَخِيه العَاصِي ابْن الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن لَيست بطائل وَله مِمَّا قَرَأت فِي كتاب الحدائق لِابْنِ فرج (يَا ابْن الخلائف من بني فهر ... الزهر) (يَا أكْرم الْأَمْلَاك كلهم ... مُضْطَر) (إِن الصّيام قد أنقضى وَمضى ... يندى يَديك الْبشر)

45 - أَخُوهُ بشر ابْن الْأَمِير عبد الرَّحْمَن ذكر أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي كتاب جمهرة الْأَنْسَاب أَنه كَانَ شَاعِرًا وَأنْشد لَهُ أَبُو عمر بن فرج صَاحب كتاب الحدائق (عجابك لي عَن الدُّنْيَا حجاب ... وَيَوْم لَا أَرَاك بِهِ عَذَاب) (وَقد كَانَت تضيق الأَرْض عِنْدِي ... إِذا واراك ستر أَو نقاب) (فَكيف أعيش إِذْ واراك عني ... قُصُور دونهَا بَاب فباب) وليعقوب وَبشر هذَيْن إخْوَة جلة مِنْهُم هِشَام وَكَانَ من أهل الْعلم وَالْفضل وَالْبَصَر بِالْعَرَبِيَّةِ وَأكْثر من الرِّوَايَة عَن يحيى بن يحيى وَكَانَ أَبوهُ الْأَمِير عبد الرَّحْمَن الحكم قد نَصبه فِي خِلَافَته للصَّلَاة على جنائز أهل قصره وأكابر رِجَاله كَمَا نصب عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة ابْنه هشاماً وَمِنْهُم أبان وَعُثْمَان على أختلاف فِيهِ وهما ابْنا عبد الرَّحْمَن بن الحكم وَكَانَا أديبين شاعرين وَسَيَأْتِي ذكرهمَا فِي آخر التَّأْلِيف إِن شَاءَ الله تَعَالَى

46 - الْقَاسِم ابْن الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن الحكم أَبُو مُحَمَّد كَانَ من الأدباء الشُّعَرَاء إِلَّا أَنه مقل وَكَانَ أحد الْجَبَابِرَة الموصوفين شَدِيد البأوتياهاً وَقبض عَلَيْهِ أَخُوهُ الْأَمِير عبد الله فَمَاتَ فِي حَبسه مسموماً وَمن شعره وبديهته السائرة فِي النَّاس وَقد دخل دَار أَخِيه عُثْمَان بن مُحَمَّد فأستسقى مَاء فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ غُلَامه لَعَلَّه لم يقبلهَا وَأَنْشَأَ يَقُول (المَاء فِي دَار عُثْمَان لَهُ ثمن ... وَالْخَبَر فِيهَا لَهُ شان من الشان) (فأسلح على كل عُثْمَان مَرَرْت بِهِ ... إِلَّا الْخَلِيفَة عُثْمَان بن عَفَّان) كَذَا قَالَ ابْن حياان وَهُوَ غلط لأخفاء بِهِ وَإِنَّمَا البيتان من قِطْعَة لعبد الْملك بن عبد الرَّحِيم الْحَارِثِيّ أنشدهما أَبُو عمر بن عبد الْبر النمري فِي كتاب بهجة الْمجَالِس من تأليفه وَهِي (يَا أُخْت كِنْدَة جافي شرب عُثْمَان ... وأزمعي لبنى أود بهجران) (يَا أُخْت كِنْدَة سيري سير ساخطة ... كي تنتوى منتوى غَضَبي وغضبان) (المَاء فِي دَار عُثْمَان لَهُ ثمن ... وَالْخبْز فِيهِ لَهُ شَأْن من الشان) (عُثْمَان يعلم أَن الْحَمد ذُو ثمن ... لكنه يَشْتَهِي حمدا بمجان) (وَالنَّاس أَكيس من أَن يحْمَدُوا رجلا ... حَتَّى يرَوا عِنْده آثَار إِحْسَان) (أغسل يَديك بأشنان وأنقهما ... غسل الْجَنَابَة من مَعْرُوف عُثْمَان) (واسلح على كل عُثْمَان مَرَرْت بِهِ ... إِلَّا الْخَلِيفَة عُثْمَان بن عَفَّان)

وَأنْشد لَهُ الْحميدِي وَقَالَ فِيهِ الْقَاسِم غلط مِنْهُ (سكنت من قلبِي الْهوى مَا أمكنا ... وَلَقَد أرَاهُ للصبابة معدناً) (هَذَا هِلَال قد بدا ومدامة ... تجرى براحته وعيش قد هُنَا) وَله أَبْيَات كتب بهَا إِلَى مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْعُتْبِي الأديب لم يجد رصفها فَرَأَيْت حذفهَا 47 - الْمطرف ابْن الْأَمِير مُحَمَّد أَبُو الْقَاسِم (شَقِيق الْقَاسِم الْمَذْكُور آنِفا برع فِي الشّعْر وَهُوَ ابْن عشْرين سنة وَتُوفِّي معتبطاً فِي حَيَاة أَبِيه وَهُوَ ابْن أَربع وَعشْرين وَكَانَ آدب ولد الْأَمِير مُحَمَّد وأشعرهم ذكر ذَلِك ابْن حَيَّان وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي كتاب جمهرة الْأَنْسَاب من تأليفه وَذكر الْمطرف هَذَا كَانَ شَاعِرًا مفلقاً عَالما بِالْغنَاءِ وَكَانَ لَهُ عقب قد أنقرض وَأنْشد لَهُ صَاحب الحدائق يرثى أَخَاهُ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد (أَخ كَانَ إِن لم يمرع النَّاس أَصبَحت ... مواهبه للنَّاس وَهِي مرابع) (كثير عَلَيْك الْحزن من كل جَانب ... كَمَا كثرت من راحتيك الصَّنَائِع) (عَلَيْك سَلام الله إِن الندى لَهُ ... زَوَال وَإِن السَّعْي بعْدك ضائع) وَله فِيهِ (يَا عَابِد الرَّحْمَن مَا ... أوضح فِينَا سبلك)

(أيقظت شعري أبدا ... فَالْقَوْل لي وَالْفِعْل لَك) (مَا الثكل وَالْحَسْرَة ... ) (يَا موت أعجلت فَتى ... فِي الروع قدماً أعجلك) وَله أَيْضا (أشهى من الكاس حَامِل الكاس ... أرعاه مَا طَاف حول جلاسي) (يثقل من أَجله الجليس وَلَو ... كَانَ من النّسك آمن النَّاس) وَكتب إِلَى أَخِيه الْمُنْذر بن مُحَمَّد وَكَانَ مائلا إِلَيْهِ (هَل أتكى مشرفاً على نهري ... أرمي بطرفي إِلَيْهِ من قصري) (عِنْد أَخ لَو دهته حَادِثَة ... أَعْطيته مَا أحب من عمري) (نشرب نحلية فضيلتها ... أتحفت الْخمر ذلة الْخمر) فوعده الْكَوْن عِنْده فَكتب إِلَيْهِ يستنجزه (ولوع النَّفس بالوعد الوفى ... وإنجاز الْمقَال على الْوَلِيّ) (فَإِن أرضاك أَن نغدو ضحاء ... وَإِلَّا كَانَ ذَاك مَعَ العشى) (نَكُون ثَلَاثَة أَنْت المبدى ... وَنحن إِلَيْك ثمَّ أَبُو عَليّ)

وَله فِي الشيب (إِن شيباً وصبوة لمحال ... قد أَنى أَن يكون عَنْهَا زَوَال) (ركب الشيب لمتي خلل الشّعْر ... لوقت حَالَتْ بِهِ الأحواال) (فدع النَّفس عَن مزاح وَلَهو ... تِلْكَ حَال مَضَت وَجَاءَت حَال) ولمحمد بن عبد الْعَزِيز الْعُتْبِي فِيهِ يفضل شعره على أشعار إخْوَته وأقربائه (يُغني مسامعنا لَدَيْهِ حواليا ... بلآلئ من لَفظه وَزَبَرْجَد) (وَالشعر يسْجد نَحْو قبْلَة شعره ... ولغير قبْلَة شعره لم يسْجد) 48 - إِبْرَاهِيم ابْن الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن أخوهما أنْشد لَهُ ابْن فرج فِي كتاب الحدائق (دنوك مني فِي منزلي ... هُوَ الْملك يسره الله لي) (فيكنفنا جَانب وَاحِد ... ويجمعنا الشّرْب من منهل) (وَإِن حَال دُونك بَابا حَدِيد ... وَقصر مشيد من الجندل) هَؤُلَاءِ المروانيون فِي هَذِه الْمِائَة وَمن الحسنيين فِيهَا

49 - الْقَاسِم بن إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبد الله ابْن حسن بن حسن بن عَليّ ولي الْبَصْرَة وطنجة وَمَا يليهما لِأَخِيهِ مُحَمَّد بن إِدْرِيس الْقَائِم بعد أَبِيه سُلْطَان الْمغرب وَكَانَ إِدْرِيس قد ولد مُحَمَّدًا هَذَا وَالقَاسِم وَأحمد وَعبد الله وَعِيسَى وَإِدْرِيس وجعفراً وَيحيى وَحَمْزَة وَعبيد الله وَدَاوُد وَبِه كَانَ يكنى وَعمر وَبَنَات وَلما توفّي إِدْرِيس مسموماً فِي حَبَّة عِنَب سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ كَمَا تقدم ذكره أجتمعت البربر على مُحَمَّد فَبَايع لَهُ إخْوَته جَمِيعًا وأتخذ مَدِينَة فاس قراراً وَفرق بِلَاد الغرب عَلَيْهِم فنكث أَخُوهُ عِيسَى

ابْن إِدْرِيس وَخرج عَلَيْهِ فَكتب مُحَمَّد إِلَى الْقَاسِم يَأْمُرهُ بمحاربته إِذا كَانَ يحاديه فِي ولَايَته فَأبى الْقَاسِم وَكتب إِلَيْهِ معتذراً من توقفه عَمَّا أمره بِهِ (سأترك للراغب الغرب نهباً ... وَإِن كنت فِي الغرب قيلا وندبا) (وأسمو إِلَى الشرق فِي همة ... يعز بهَا رتباً من أحبا) (وأترك عِيسَى على رَأْيه ... يعالج فِي الغرب هما وكرباً)

(وَلَو كَانَ قلبِي عَن قلبه ... لَكُنْت لَهُ فِي الْقَرَابَة قلبا) (وَإِن أحدث الدَّهْر من ريبه ... شقاقاً علينا وأحدث حَربًا) (فَإِنِّي أرى الْبعد سترا لنا ... يجدد شوقاً لدينا وحباً) (وَلم نجن قطعا لأرحامنا ... نلاقي بِهِ آخر الدَّهْر عتباً) (وَتبقى الْعَدَاوَة فِي عقبنا ... وَأكْرم بِهِ حِين نعقب عقباً) (وأوفق من ذَاك جوب الفلاة ... وَقطع المخارم نقباً فنقباً) فَكتب مُحَمَّد إِلَى أَخِيه عمر وَكَانَ على صنهاجة وغمارة يَأْمُرهُ بمحاربة عِيسَى فَأَجَابَهُ وسارع وَخرج يُرِيد عِيسَى بعسكره فَلَمَّا قرب من أحوز فاس كتب إِلَى مُحَمَّد يستمده فَبعث إِلَيْهِ من كَانَ مَعَه وَنفذ فِي أَصْحَابه قبل لحاق المدد فأوقع بِعِيسَى ونفاه عَن عمله وأستولى عَلَيْهِ فَأمره مُحَمَّد بِالْإِقَامَةِ فِيهِ ثمَّ أمره بمحاربة الْقَاسِم فحاربه وتغلب على مَا كَانَ بِيَدِهِ فتخلى الْقَاسِم عَن ذَلِك لمُحَمد وَعمر وتزهد وَبنى مَسْجِدا على سَاحل الْبَحْر بأصيلا وَلَزِمَه فَلَمَّا عاين البربر ذَلِك نهضوا إِلَيْهِ وَهُوَ بمرابطه فصرفوه إِلَى عمله وَرجع إِلَيْهِ كل من صدر إِلَى أَخَوَيْهِ مُحَمَّد وَعمر وَقَالَ الرَّازِيّ وَذكر أَوْلَاد إِدْرِيس بن إِدْرِيس فَأَما مُحَمَّد بن إِدْرِيس فولى مَدِينَة فاس بعد أَبِيه وَقسم عمل أَبِيه على إخْوَته وأخرجهم عمالاً ثمَّ أخلد إِلَى اللَّهْو وأشتهر بالشرب وَالْخلْوَة بِالنسَاء فخلعه إخْوَته وَملك كل وَاحِد مِنْهُم مَا تَحت يَده ثمَّ لم يلبث مُحَمَّد أَن هلك وَلم يعقب فولى أَمر فاس

بعده الْقَاسِم أَخُوهُ وملكها ملك سيادة وَتجمع النَّاس إِلَيْهِ من كل نَاحيَة وَلحق المنفيون عَن ربض قرطبة بهَا وتمدنت وَكثر أَهلهَا

وَمن رجال المروانية 50 - عبد الْكَرِيم بن عبد الْوَاحِد بن مغيث الْحَاجِب أَبُو حَفْص أستحجبه الحكم الربضى وَكَانَ أَبوهُ عبد الْوَاحِد حاجباً لهشام الرِّضَا وَالِد الحكم وَعَن ابْن حَيَّان أَن هشاماً ولى عبد الْكَرِيم هَذَا كورة جيان وَأَنه أغزاه ألبة والقلاع وأغزى أَيْضا أَخَاهُ عبد الْملك وولاه سرقسطة

وَكَانَ عبد الْكَرِيم بليغاً مفوهاً شَاعِرًا وَولى الْكتاب للْحكم إِثْر مُحَمَّد بن أُميَّة وقاد الصوائف وَجَرت على يَدَيْهِ فتوح جسام وعَلى يَدَيْهِ أستأمن أهل الربض وَله رسائل عَن الحكم فِي الهيج ذكر ذَلِك عِيسَى بن أَحْمد الرَّازِيّ قَالَ وَأخرجه الحكم إِلَى عمروس وَكَانَ قد خلع بسرقسطة فأستماله وَقدم بِهِ قرطبة فوصله الحكم وخلع عَلَيْهِ وسجل لَهُ على سرقسطة وتطيلة ووشقه وَصَرفه إِلَى الثغر فَمَاتَ هُنَاكَ وَأنْشد ابْن حَيَّان لعبد الْكَرِيم هَذَا فِي رثاء الحكم بن هِشَام وتهنئة وَلَده الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن الحكم بالخلافة (كَانَ الزَّمَان مرزأ بخليفة ... أودى فكاد نهارنا أَن يظلما) (حَتَّى إِذا قعد الإِمَام لبيعة ... كالغيث شح بوبله ثمَّ أنهمى) (لله أَيَّة بيعَة مَا أعظما ... وَأجل فخراً فِي الْأَنَام وأفخما) أَعْطَتْ قُرَيْش بيعَة مرضية ... لإمامها الْملك الْكَرِيم المنتمي) (وبدا كَمثل الْبَدْر ينصدع الدجى ... عَنهُ ويكشف نوره مَا أبهما) (لله أَنْت أَبُو الْمطرف فِي الوغى ... ولخائف ولمعتف قد أعدما)

51 - هَاشم بن عبد الْعَزِيز الْوَزير أَبُو خَالِد هُوَ أَخُو القَاضِي أسلم بن عبد الْعَزِيز وكبيره وَوَلَاء سلفهما لعُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ هَاشم خَاصّا بالأمير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن يؤثره بالوزارة ويرشحه مَعَ بنيه ومفردا للقيادة والإمارة وولاه كورة جبان فعلى يَده بنيت أبدة وَأكْثر معاقلها المنيعة وَهُوَ أحد رجالات الموَالِي المروانية بالأندلس أجتمعت فِيهِ خِصَال لم تَجْتَمِع فِي سواهُ من أهل زَمَانه إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْبَأْس والجود والفروسية وَالْكِتَابَة وَالْبَيَان والبلاغة وقرض الْأَشْعَار البديعة إِلَى مَاله من الْقَدِيم وَالْبَيْت والسابقة فَلَو لم يعنه سلفه لنهضت بِهِ أدواته هَذِه الرفيعة ونكبه الْمُنْذر بن مُحَمَّد لأشهر من خِلَافَته بعد أَن ولاه الحجابة وَأظْهر عَنهُ الرِّضَا وَذَلِكَ لِأَشْيَاء حقدها عَلَيْهِ فِي خلَافَة أَبِيه مُحَمَّد إِذْ كَانَ يُخرجهُ مَعَه قائداً للجيش وَبعد ذَلِك

وَحكى عِيسَى بن أَحْمد بن مُحَمَّد الرَّازِيّ فِي كتاب الْحجاب للخلفاء بالأندلس من تأليفه أَن الْمُنْذر بن مُحَمَّد أستخلف يَوْم الْأَحَد لثلاث خلون من شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَتَيْنِ بعد وَفَاة أَبِيه بِأَرْبَع لَيَال إِذْ كَانَ غازياً بِنَاحِيَة رية فأغذ السّير وَدخل الْقصر يَوْم الْأَحَد وَصلى على أَبِيه وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْخَمِيس لليلة بقيت من صفر وَدفن وبويع للمنذر بَقِيَّة الْأَحَد وَيَوْم الأثنين بعده وأستحجب هَاشم بن عبد الْعَزِيز إِلَى أَن قَتله قَالَ وَلما قدم الْمُنْذر نزل فِي السَّطْح وَقعد لِلْبيعَةِ فِي ثِيَاب سَفَره وَرُبمَا اتكأ على فرَاشه لما كَانَ أَخذه من النصب وألم السّفر لطيه المراحل فَلَمَّا دخل النَّاس قَامَ هَاشم وَبِيَدِهِ كتاب الْبيعَة فأفتتح قِرَاءَته فَلَمَّا بلغ إِلَى ذكر الإِمَام مُحَمَّد خنقته الْعبْرَة فَلم يبن كَلَامه ثمَّ أستدرك أمره وَرجع من أول الْكتاب حَتَّى إِذا انْتهى إِلَى الْموضع الَّذِي انْتهى إِلَيْهِ أَولا أَخذه أَيْضا الْحصْر فلحظه الْمُنْذر لَحْظَة مُنكرَة وَرَآهَا مِنْهُ هَاشم فَمضى فِي قِرَاءَة الْكتاب حَتَّى أكمله فَلم يشك كل من رأى تِلْكَ اللحظة أَنه قَاتله قَالَ وَلما وضع نعش الإِمَام مُحَمَّد على قَبره ألْقى هَاشم رِدَاءَهُ وقلنسوته وَدخل الْقَبْر وَبكى بكاء شَدِيدا ثمَّ قَالَ متمثلا وَهُوَ يقبر (أعزى يَا مُحَمَّد عَنْك نَفسِي ... معَاذ الله والمنن الجسام) (فَهَلا مَاتَ قوم لم يموتوا ... ودوفع عَنْك لي كاس الْحمام) فَكَانَ ذَلِك مِمَّا أوقد عَلَيْهِ موجدة الْمُنْذر والبيتان لأبي نواس الْحسن ابْن هَانِئ يقولهما فِي مُحَمَّد الْأمين حِين قتل قَالَ الرَّازِيّ وَذكر أَن مُحَمَّد بن جهود وَعبد الْملك بن أُميَّة كَانَا يرفعان عَلَيْهِ ويغريان بِهِ وَأَنه خرج توقيع بِخَط يَد الإِمَام الْمُنْذر فِيهِ وهم فتنفس هَاشم

فَرفع عَنهُ قَالَ وَحدث من كَانَ حَاضرا عِنْد هَاشم يعْنى يَوْم الْقَبْض عَلَيْهِ إِذْ أقبل صَاحب الرسائل مستحثاً لَهُ فَخرج هَاشم وَمَعَهُ عمر ابْنه فَقبض مِنْهُ كتبا كَانَت بِيَدِهِ وَكَانَ فِي رحبة دَاره قوم من أهل لبلة قد أَتَوا لشكر ابْن أَخِيه وَكَانَ عاملهم فَلَمَّا خرج هَاشم انْدَفَعُوا مستهلين بالشكر فأنتهرهم الْفَتى الَّذِي أَتَى فِيهِ وَخرج عَلَيْهِم وَأَغْلظ لَهُم وَقَالَ لَهُم يَا كذبة قَالَ فَرَأَيْت هاشماً قد أَرْبَد وَجهه غير أَنه لم يقارضه بِكَلِمَة وَمضى وَكَانَ تَحْتَهُ فرس رائع أشقر فَلَمَّا أَتَى عِنْد بَاب الْجنان كبا الْفرس بهاشم فأستقل بِهِ ووقف وَقد امتقع لَونه سَاعَة ثمَّ تقدم وَدخل قَالَ فَلم ينفض أهل موكبه حَتَّى خرج رَاجِلا مكبلا فوَاللَّه مَا رَأَيْت يَوْمًا أَكثر باكياً من ذَلِك الْيَوْم وَلَو قلت إِنَّه لم تخل دَار بقرطبة من بكاء على هَاشم يَوْم حبس لما أبعدت ولصدقت فَإِنَّهُ كَانَ رَحْمَة مبسوطة للعامة والخاصة قَالَ وَأمر الْمُنْذر بِحَبْس أكَابِر أَوْلَاده غير فَإِنَّهُ كَانَ عينا

للمنذر عَلَيْهِ يخاطبه بأسراره وَجَمِيع أخباره وَلم يزل عبد الْملك بن أُميَّة يغرى بِهِ وَيرْفَع عَلَيْهِ ويستعين بالسيدة أُخْت الْمُنْذر فِي مُطَالبَته حَتَّى كَانَ من ضربه وَهدم دَاره وإخراجه مِنْهَا وَقَتله مَا كَانَ قَالَ وَأخرج هَاشم صَبِيحَة اللَّيْلَة الَّتِي قتل فِيهَا لَيْلَة الْأَحَد لأَرْبَع بَقينَ من شَوَّال سنة ثَلَاث وَسبعين غطيت جثته وَرَأسه بِثَوْب وَبعث بِهِ إِلَى أَهله وَكَانَ موالده فِي أَيَّام الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن الحكم وَمن شعره وَكتب بِهِ من محبسه إِلَى جَارِيَته عاج (وَإِنِّي عداني أَن أزورك مطبق ... وَبَاب منيع بالحديد مضبب) (فَإِن تعجبي يَا عاج مِمَّا أصابني ... فَفِي ريب هَذَا الدَّهْر مَا يتعجب) (وَفِي النَّفس أشيا أَبيت بغمها ... كَأَنِّي على جمر الغضى أتقلب) (تركت رشاد الْأَمر إِذْ كنت قَادِرًا ... عَلَيْهِ فلاقيت الَّذِي كنت أرهب)

(وَكم قَائِل قَالَ أَنْج وَيحك سالما ... فَفِي الأَرْض عَنْهُم مستراد وَمذهب) (فَقلت لَهُ إِن الْفِرَار مذلة ... وَنَفْسِي على الأسواء أحلى وَأطيب) (سأرضى بِحكم الله فِيمَا ينوبني ... وَمَا من قَضَاء الله للمرء مهرب) (فَمن يَك مَسْرُورا بحالي فَإِنَّهُ ... سينهل فِي كاسي وشيكاً وَيشْرب) وَله وَكتب بِهِ إِلَى وليد بن غَانِم الْوَزير فِي أسره أثْنَاء مُخَاطبَة (فكم غُصَّة بالدمع نهنهت خوف أَن ... يسر بِمَا أبديه شنآن كاشح) (تحاملت عَنهُ ثمَّ نادمت فِي الدجى ... نُجُوم الثريا والدموع سوافح) وَله مِمَّا قَالَه بديهاً وَوَقع بذلك على ظهر رقْعَة لأحد أبنائه خاطبه فِيهَا بِشعر ضَعِيف (لَا تقل إِن عزمت إِلَّا قريضا ... رائقا لَفظه ثقيفا رصينا)

أَو دع الشّعْر فَهُوَ خير من الغث إِذا لم تَجِد مقَالا سميناً وَمَا أحسن قَول عبد الْجَبَّار بن حمديس الصقلى فِي هَذَا الْمَعْنى (حرر لمعناك لفظا كي تزان بِهِ ... وَقل من الشّعْر سحرًا أَو فَلَا تقل) (فالكحل لَا يفتن الْأَبْصَار منظره ... حَتَّى يصير حَشْو الْأَعْين النجل) ولهاشم فِي إلبيرة يذم وُرُوده عَلَيْهَا وَهِي مَكَان أوليته (إِذا نَحن رحنا عَنْك ياشر بَلْدَة ... فَلَا سقيت رباك صوب الرواعد) (وَلَا زَالَ سَوط من عَذَاب منزل ... على قَائِم من ساكنيك وقاعد) فَأَجَابَهُ فَتى من أَهلهَا المتأدبين يعرف بِابْن وجيه (لقد حرم التَّوْفِيق من ذمّ بَلْدَة ... يروح بهَا فِي نعْمَة وفوائد) (وَمن يتَمَنَّى سَوط خزى منزل ... على قَائِم من ساكنيها وقاعد) (فَإِن كُنْتُم لم تحمدوا مَا أختبرتم ... فَكل لكل لائم غير حَامِد) 52 - ابْنه عمر بن هَاشم سجنه الْأَمِير الْمُنْذر بن مُحَمَّد مَعَ إخْوَته لما نكب أباهم ثمَّ أَمر بصلبهم فِي الْغُزَاة الَّتِي توفّي فِيهَا وَولى أَخُوهُ الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد فَعجل الْكتاب بإطلاقهم ثمَّ قدم وَولى عمر هَذَا كورة جيان وأخاه أَحْمد بن هَاشم الوزارة والقيادة وَمن شعر عمر (يَا خَلِيلًا فَضله باد ... على كل خَلِيل) (والمجيد الشّعْر فِي كل ... بسيط وطويل)

(بضروب الضَّرْب والإيقاع ... وَالْقَوْل الْأَصِيل) (لَا تلمني واصفحن عَن ... م ي وَسَهل لي سبيلي) (فِي خلاصي ... الْعذر الْجَمِيل) 53 - تَمام بن عَامر الثَّقَفِيّ الْوَزير أَبُو غَالب هُوَ تَمام بن عَامر بن أَحْمد بن غَالب بن تَمام بن عَلْقَمَة مولى عبد الرَّحْمَن ابْن أم الحكم الثَّقَفِيّ وَأم الحكم بنت أبي سُفْيَان بن حَرْب أُخْت مُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان عرف بهَا ابْنه لشرفها وَدخل تَمام بن عَلْقَمَة أَبُو غَالب الأندلس فِي طالعة بلج وَهُوَ أحد النُّقَبَاء القائمين بدولة عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وَولى لَهُ الحجابة والقيادة وَهُوَ افْتتح طليطلة عنْوَة مَعَ بدر مولى عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة ثمَّ ولى وشقة وطرطوشة وطرسونة وَعمر طَويلا وَتُوفِّي فِي آخر دولة الحكم الربضي وَقد ولد تَمام بن عَامر هَذَا سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَكَانَ غَالب بن تَمام

والياً على طليطلة وَقَتله سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وصلبه وَمثل بِهِ فِي أنتزائه على أَخِيه هِشَام بن عبد الرَّحْمَن الْأَمِير بعد أَبِيهِمَا لى تَمام بن عَامر خطة الوزارة للأمير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وولديه الْأَمِير بن الْمُنْذر وَعبد الله فأنتظمت وزارته لثَلَاثَة من الْخُلَفَاء وَعمر عمرا طَويلا زَائِدا على عمر جده الْأَكْبَر وَكَانَت وَفَاته فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَقد بلغ سِتا وَتِسْعين سنة وَله الأرجوزة الْمَشْهُورَة فِي ذكر افْتِتَاح الأندلس وَتَسْمِيَة ولاتها وَالْخُلَفَاء فِيهَا وَوصف حروبها من وَقت ذخول طَارق بن زِيَاد مفتتحها إِلَى آخر أَيَّام الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن الحكم وَكَانَ عَالما أديباً ذكر ذَلِك ابْن حَيَّان وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ ولد عَامر ابْن أَحْمد تَمامًا ولى الوزارة وَالْخَيْل والقيادة وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ يَعْنِي وَمِائَتَيْنِ ومولده سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة وَمن شعره (يكلفنى العذال صبرا على الَّتِي ... أبي الصَّبْر عَنْهَا أَن يحل محلهَا) (إِذا مَا قرعت النَّفس يَوْمًا فَأَبْصَرت ... سَبِيل الْهدى عَاد الْهوى فأضلها) (وَكم من عَزِيز النَّفس لم يلق ذلة ... أقاد الْهوى من نَفسه فأذلها) (عجبت لمعذول على حب نَفسه ... يكلفه عذاله أَن يملها)

54 - مَنْصُور بن مُحَمَّد بن أبي البهلول دخل الأندلس جده أَبُو البهلول وأسمه مَنْصُور بن صَدَقَة فِي أَيَّام الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة فأستعمله وَكَانَ يكنيه لسنه وفضله ثمَّ تصرف ابْنه مُحَمَّد للأمير الحكم فِي بعض أشغاله وحجب مَنْصُور هَذَا مسلمة بن عبد الرَّحْمَن بن الحكم فِي الكور المجندة دهراً ثمَّ ولى الْعرض للأميرين مُحَمَّد وَابْنه الْمُنْذر بن مُحَمَّد ذكره الرَّازِيّ قَالَ وَكَانَ فِيهِ تصرف وَرِوَايَة غزيرة وَشعر حسن يمدح بِهِ الْخُلَفَاء وَأنْشد لَهُ (كَمَا أَن خير الْعَالمين مُحَمَّد ... براحته عين من الْجُود تنبع) وَله (بِمُحَمد حمد الزَّمَان كَمَا ... بفعاله قد أحسن الذّكر)

(أَيَّامه بيض مهذبة ... لَوْلَا مكارمه انْقَضى الدَّهْر) وَله (كم إِلَى كم أَتَسَلَّى ... لَيْسَ لي صَبر أجل لَا) (بِأبي أَنْت وَأمي ... وَترى قَتْلَى حلا) (حاش لله بِأَن أسلو ... عَن الْحبّ وكلا) 55 - عبيد الله بن مُحَمَّد بن الْغمر بن أبي عَبدة الْوَزير أَبُو عُثْمَان تصرف للأمير عبد الله بن مُحَمَّد فِي الكور وحجابة الْأَوْلَاد وَالْمَدينَة وَالْخَيْل والقيادة ثمَّ فِي الْكِتَابَة الْخَاصَّة والوزارة وَكَانَ مَعَ أفتنانه فِي الْأَدَب وأتصافه بالبلاغة ذَا بَأْس وغناء فِي الحروب وَكَانَت لَهُ فتوح جمة ومقاوم

مَحْمُود وَتُوفِّي خاملا بتحامل بدر الوصيف عَلَيْهِ بعد أَن أَسْتَأْذن لِلْحَجِّ فَأدى فَرْضه وكر إِلَى قرطبة فَلَزِمَ دَاره وَسَيَأْتِي ذكر هَذَا مَعَ نسبه مُسْتَوْفِي عِنْد ذكر ابنيه جهور الْوَزير وَمُحَمّد وَفِيه يَقُول الْعُتْبِي الشَّاعِر وَقد أعتل وَهُوَ يَلِي الْكِتَابَة (لأينع العي مذ أَصبَحت مرتدياً ... ثوب السقام وجفت زهرَة الْكَلم) (وأستوحش الطرس من أنس البديع إِذا ... نشبت فِيهِ وطالت عجمة الْقَلَم) (وَمن شعر عُبَيْدَة الله (صدود لَيْسَ يبلغهُ عِقَاب ... وعتب لَيْسَ يثنيه عتاب) (وإبعاد بِلَا ذَنْب طَوِيل ... وإعراض وهجر وأجتناب) (فَلَا سهر يطيب وَلَا رقاد ... وَلَا طعم يسوغ وَلَا شراب) (فجسمي ناحل والجفن مني ... قريح والفؤاد لَهُ اضْطِرَاب) (وَمَوْت عَاجل أحلى وأشهى ... إِلَى من أَن يطاولني الْعَذَاب) 56 - سوار بن حمدون الْقَيْسِي الْمحَاربي من محَارب بن خصفة بن قيس عيلان ثار بِنَاحِيَة البراجلة من كورة إلبيرة فِي سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَهِي السّنة الثَّانِيَة من ولَايَة الْأَمِير عبد الله

ابْن مُحَمَّد وأنضوت إِلَيْهِ بيوتات الْعَرَب من إلبيرة وجيان ورية وَغَيرهَا عِنْد مَا تميزت الْأَحْزَاب بالعصبية وشبوا نَار الْفِتْنَة وَكَانَ مُبْتَدأ رئاسة سوار هَذَا أَنه كَانَ صاحباً ليحيى بن صقالة أول الخارجين بالبراجلة بِهَذِهِ الدعْوَة عَن أستبصار شَدِيد وحمية فصب على المولدين والعجم مِنْهُ وَمن أَصْحَابه أعظم آفَة إِلَى أَن أَصَابُوا مِنْهُ غرَّة فثاروا بِهِ بَغْتَة وقتلوه فرأس أَصْحَابه بعده سواراً هَذَا فأشتد بِهِ أَمرهم وَقَامَ طَالبا بثأر صَاحبه وَكَانَ شجاعا محرباً فَكثر أَتْبَاعه وأشتدت شوكته وأعتز الْعَرَب بمكانه فلفف جموعها وَحمى ذمارها وسعى لإدراك ثارها وَقصد حصناً أجتمع فِيهِ من المولدين والنصاري نَحْو من سِتَّة أُلَّاف رجل فنازلهم بالعرب حَتَّى قهرهم وَأخرج نابلاً رئيسهم الْمُقِيم

فِيهِ عَنهُ وَملكه وَكَانَ نابل قد أنتزعه من يحيى بن صقالة فأسترده سوار إِلَى ملكه ثمَّ افْتتح حصون المسالمة وَالنَّصَارَى حصناً حصناً وَقتل من ظفر بِهِ وغنم أَمْوَالهم ولقيه جعد بن عبد الغافر عَامل الْأَمِير عبد الله فَهَزَمَهُ سوار وَقتل من أَصْحَابه نَحْو من سَبْعَة أُلَّاف وَأسر جَعدًا فَمن عَلَيْهِ وَأطْلقهُ وأبلغه وأمنه وَغلظ أمره فأستبق حِينَئِذٍ إِلَى حصن غرناطة بِالْقربِ من مَدِينَة إلبيرة وَصعد إِلَيْهِ فتبوأه دَارا أجتمعت إِلَيْهِ فِيهِ عرب كورة إلبيرة وكاتبته عرب النواحي إِلَى حُدُود قلعة رَبَاح وَغَيرهَا وَكَانَت دَار الداخلين إِلَى الأندلس من بكر ابْن وَائِل فصاروا إلبا مَعَه على المولدين وبجح سوار بماتهيأ لَهُ على أعدائه وعلت همته وأملته الْعَرَب وَعلا فِي النَّاس ذكره وَقَالَ الْأَشْعَار الجزلة وَأكْثر الفخار بِنَفسِهِ وَقَومه ذكر ذَلِك ابْن حَيَّان وَحكى أَنه أوقع بأصحاب ابْن حفصون ثَانِيَة وَيُقَال إِن قتلاهم كَانُوا فِيهَا اثنى عشر ألفا وتعرف

ب وقيعة الْمَدِينَة قَالَ وَقد ذكرهَا سعيد بن جودي السَّعْدِيّ صَاحب سوار والوالي رئاسة الْعَرَب بعده فِي شعر لَهُ مِنْهُ (وَلما رأونا رَاجِعين إِلَيْهِم ... توَلّوا سرَاعًا خوف وَقع المناصل) (فسرنا إِلَيْهِم والرماح تنوشهم ... كوقع الصَّيَاصِي تَحت رهج القساطل) (فَلم يبْق مِنْهُم غير عان مصفد ... يُقَاد أَسِيرًا موثقًا فِي السلَاسِل) (وَآخر مِنْهُم هارب قد تضايقت ... بِهِ الأَرْض يهفو من جوى وبلابل) وَمِنْه (لقد سل سوار عَلَيْكُم مهنداً ... يجذ بِهِ الهامات جذ المفاصل) (بِهِ قتل الله الَّذين تحزبوا ... علينا وَكَانُوا أهل إفْك وباطل) (سما لبنى الْحَمْرَاء إِذْ حَان حينهم ... بِجمع كَمثل الطود أرعن رافل) (أدرتم رحى حَرْب فدارت عَلَيْكُم ... لحتف قد أفناكم بِهِ الله عَاجل) (لَقِيتُم لنا ملمومة مستجيرة ... تجيد ضراب الْهَام تَحت العوامل) (بهَا من بني عدنان فتيَان غَارة ... وَمن آل قحطان كَمثل الأجادل) (يقودهم لَيْث هزبر ضبارم ... محش حروب ماجد غير خامل)

(أرومته من خير قيس سما بِهِ ... إِلَى الْمجد قدماً والعلا كل فَاضل) (لَهُ سُورَة قيسية عَرَبِيَّة ... بهَا ذاد عَن دين الْهدى كل جَاهِل) وَهِي طَوِيلَة وَقَالَ فِي ذَلِك (فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَة ثمَّ غودروا ... كَمثل حصيد فَوق ظهر صَعِيد) وَقَالَ أَيْضا قصيدة أُخْرَى ذكر فِيهَا أسر جعد بن عبد الغافر يُخَاطب المولدين (لم تزالوا تَبْغُونَهَا عوجا حَتَّى ... وردتم للْمَوْت شَرّ وُرُود) (فاصطلوا حرهَا وحر سيوف ... تتلظى عَلَيْكُم كالوقود) (قد قتلناكم بِيَحْيَى وَمَا إِن ... كَانَ الحكم الْإِلَه بالمردود) (هجتم يَا بني العبيد ليوثاً ... لم يَكُونُوا عَن ثارهم بقعود)

(جَاءَكُم ماجد يَقُود إِلَيْكُم ... فتية ذادة كَمثل الْأسود) (يطْلب الثار ثار قوم كرام ... آزروا بالعهود بعد العهود) (فأستباح الْحَمْرَاء لم يبْق مِنْهُم ... غير عان فِي قده مصفود) (قد قتلنَا مِنْكُم ألوفا وَمَا يعدل ... قتل الْكَرِيم قتل العبيد) (فلئن كَانَ قَتله غدرة مَا ... كَانَ بالنكس لَا وَلَا الرعديد) يُرِيد يحيى بن صقالة أَمِير الْعَرَب الْقَائِم على المولدين وَقَالَ يحيى بن أخي

يحيى بن صقالة من قصيدة طَوِيلَة يمدح فيهاسوارا وَيذكر وقيعة إلبيرة ويناقض العبلى شَاعِر المولدين وَقيل إِنَّهَا لسَعِيد بن جودي (لسوار على الْأَعْدَاء سيف ... أباد ذوى الغواية فأضمحلوا) (سقاهم كأس حتف بعد حتف ... بهَا نهل العبيد مَعًا وعلوا) (قتلت بِوَاحِد سوار ألفا ... وألفهم بواحدنا يقل) (وَأكْثر قتلنَا لَهُم حَلَال ... بِمَا أرتكبوه ظلما وأستحلوا) (فأوردنا رقابهم سيوفاً ... تشب النَّار مِنْهَا إِذْ تسل) (ورثنا الْعِزّ عَن آبَاء صدق ... وإرثكم بني العبدان ذل) وَأول شعر العبلي (قد أنقصفت قناتهم وذلوا ... وضعضع ركن عزهم الْأَذَل)

(فَمَا طلت دِمَاؤُهُمْ لديهم ... وهاهم عندنَا فِي البير طل) وَمن شعر سوار قَوْله من قصيدة طَوِيلَة (صرم الغواني يَا هنيد مودتي ... إِذْ شَاب مفرق لمتي وقذالي) (وصددن عني يَا هنيد وطالما ... علقت حبال وصالهن حبالي) وَقتل فِي صدر سنة سبع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ فَكَانَ أمده فِي رئاسته نَحْو الْعَام 57 - سعيد بن جودي السَّعْدِيّ أَبُو عُثْمَان هُوَ سعيد بن سُلَيْمَان بن جودي بن أَسْبَاط بن إِدْرِيس السَّعْدِيّ هُوَ من هوَازن من جند قنسرين

ولى جده جودي بن أَسْبَاط الشرطة للأمير الحكم الربضى وَولى أَيْضا قَضَاء بَلَده إلبيرة وَقع ذكر ذَلِك فِي الْمقنع من تأليف ابْن بطال فِي الْأَحْكَام وَلما قتل سوار بن حمدون ذلت الْعَرَب بمقتله وكل حَدهَا بِمَا نزل فِيهِ وَكَانَ قد أُصِيب على يَدي بعض أَصْحَاب ابْن حفصون فَيُقَال إِن جثته مزقها ثكالى نسَاء المولدين قطعا وَأكله كثير مِنْهُنَّ حنقاً عَلَيْهِ لما نالهن بِهِ الْمرة بعد الْمرة من الثكل فِي بعولتهن وأهليهن فَنصبت الْعَرَب لإمارتها بعده سعيد بن سُلَيْمَان بن جودي صَاحبه وعلقت آمالها بِهِ فَلم يسد مَكَانَهُ وَلَا بلغ مداه فِي السياسة على أَنه كَانَ شجاعاً بطلا وفارساً محرباً قد تصرف مَعَ فروسيته فِي فنون الْعلم وَتحقّق بضروب الْأَدَب فاغتدى أديبا تحريرا وشاعراً محسناً تعد لَهُ عشر خِصَال تفرد بهَا فِي زَمَانه لَا يدْفع عَنْهَا الْجُود والشجاعة والفروسية وَالْجمال وَالشعر والخطابة والشدة والطعن وَالضَّرْب والرماية وهابه ابْن حفصون هَيْبَة لم يَهَبهَا أحدا مِمَّن مارسه إِذا لم يلقه قطّ إِلَّا علاهُ وهزمه وَلَقَد دَعَاهُ فِي بعض أيمامهم إِلَى المبارزة فَلم يجبهُ ابْن حفصون إِلَيْهَا وحاد عَنهُ وواجهه يَوْمًا فَألْقى عَلَيْهِ ذراعه وأجتذبه إِلَى الأَرْض فَمَا نجاه مِنْهُ إِلَّا أَصْحَابه

الَّذين انقضوا على سعيد فتنقذوا عمر من يَده وَله زرقة بعيدَة المدى إِلَى بعض القناطر المعتلية مَشْهُورَة النِّسْبَة إِلَيْهِ لم يقدر أحد بعده مِمَّن يتعاطى الشدَّة يبلغ إِلَيْهَا ذكر ذَلِك أَبُو مَرْوَان بن حَيَّان فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي مَوضِع آخر كَانَ مَعَ رئاسته وشجاعته شَاعِرًا مفلقا وخطيباً مصقعاً فصيح اللِّسَان ربيط الْجنان جميل الشارة حسن الْإِشَارَة ثَبت الْأَصَالَة وَاسع الْأَدَب والمعرفة يضْرب فِي صَنْعَة الشّعْر بسهمة وافرة ويتصرف من سبله بِكُل منيعة وَحكى أَن الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد أسجل لَهُ على كورة البيرة لما ظَهرت الْعَرَب على حاضرتها فاتصل قِيَامه بِأَمْر الْعَرَب إِلَى أَن قتل غيلَة بأيدي بعض أَصْحَابه فِي ذِي الْقعدَة من سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ قَالَ وَزَعَمُوا أَن من أقوى الْأَسْبَاب فِي قَتله أبياتاً من الشّعْر قَالَهَا فِي غمص الْأَئِمَّة من بني مَرْوَان مِنْهَا قَالَ لعبد الله (يَا بني مَرْوَان جدوا فِي الْهَرَب ... نجم الثائر من وَادي الْقصب) (يَا بني مَرْوَان خلوا ملكنا ... إِنَّمَا الْملك لأبناء الْعَرَب) ورثاه الْأَسدي شَاعِر الْعَرَب فِي ذَلِك الأوان وَقَالَ فِيهِ مقدم بن معافى يرثيه (من ذَا الَّذِي يطعم أَو يكسو ... وَقد حوى حلف الندى رمس) (لَا اخضرت الأَرْض وَلَا أَوْرَق الْعود ... وَلَا أشرقت الشَّمْس)

(بعد ابْن جودى الَّذِي لن ترى ... أكْرم مِنْهُ الْجِنّ وَالْإِنْس) (دموع عَيْني فِي سَبِيل الأسى ... على سعيد أبدا حبس) وَقَامَ بِأَمْر الْعَرَب بعده مُحَمَّد بن أضحى بن عبد اللَّطِيف الْهَمدَانِي صَاحب حصن الْحمة إِلَى أَن استنزله النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد ولسعيد بن جودى شعر كثير وَقد ذكرنَا مِنْهُ جملَة وَسمع يَوْمًا منشداً ينشد قَول أبي قيس بن الأسلت (قد حصت الْبَيْضَة رَأْسِي فَمَا ... أطْعم نوماً غير تهجاع) (أسعى على جلّ بني مَالك ... كل امري فِي شَأْنه ساع) فَقَالَ مُعَارضا لَهُ على البديهة (الدرْع قد صَارَت شعارى فَمَا ... أبسط حاشاها لتهجاع) (وَالسيف إِن قصره صانع ... طوله يَوْم الوغى باعى) (وَمَا كميتى لي بمستقصر ... إِذا دَعَاني للقا دَاع) (هَذَا الَّذِي أسعى لَهُ جاهداً ... كل امْرِئ فِي شَأْنه ساع) وَله فِي جَارِيَة سَمعهَا بقرطبة تغني للأمير عبد الله بن مُحَمَّد وَذَلِكَ فِي إِمَارَة أَبِيه الْأَمِير مُحَمَّد فهام بهَا وَاشْترى جَارِيَة سَمَّاهَا باسمها جيجان فَلم يَسلهُ ذَلِك عَنْهَا وهام بهَا دهراً (سَمْعِي أبي أَن يكون الرّوح فِي بدني ... فاعتاض قلبِي مِنْهُ لوعة الْحزن) (أَعْطَيْت جيجان روحي عَن تذكرها ... هَذَا وَلم أرها يَوْمًا وَلم ترني)

(كأنني وَاسْمهَا والدمع منسكب ... من مقلتي رَاهِب صلى إِلَى وثن) وَله فِي جَارِيَة حملت إِلَيْهِ من قرطبة فَلَمَّا خلا بهَا أَعرَضت عَنهُ ورمت بطرفها إِلَى الأَرْض خجلا فَقَالَ (أمائلة الألحاظ عني إِلَى الأَرْض ... أَهَذا الَّذِي تبدين وَيحك من بغضي) (فَإِن كَانَ بغضاً لست وَالله أَهله ... ووجهي بِذَاكَ اللحظ أولى من الأَرْض) وَله أَيْضا يهزل ويتغزل (لَا شَيْء أَمْلَح من سَاق على عنق ... وَمن مناقلة كأساً على طبق) (وَمن مُوَاصلَة من بعد معتبة ... وَمن مراسلة الأحباب بالحدق) (جريت جرى جموح فِي الصِّبَا طلقاً ... وَمَا خرجت لصرف الدَّهْر عَن طَلِّقِي) (وَلَا انثنيت لداعي الْمَوْت يَوْم وغى ... كَمَا انثنيت وحبل الْحبّ فِي عنقِي) ومقاصده فِي غزله المشوب بشجاعته تشبه مَقَاصِد أَبى دلف الْقَاسِم بن عِيسَى الْعجلِيّ وَكَانَت لَهُ أَيْضا رئاسة وثورة ولسعيد أَيْضا فِي جَارِيَة جميلَة عرضت لَهُ صباحاً فِي غلالة حَمْرَاء وَهُوَ خَارج إِلَى مَجْلِسه لتأْخذ عَلَيْهِ الطَّرِيق وَهِي تتثنى فِي حركتها فَقَالَ (قضيب من الريحان فِي ورق حمر ... ) ثمَّ أعيته الْإِجَازَة طول نَهَاره وَقد شغل بهَا فكره حَتَّى دخل عَلَيْهِ حَاجِبه فَاسْتَأْذن لعبيديس الشَّاعِر الْكَاتِب وَكَانَ ينتابه هُوَ وَغَيره فساعة دخل عَلَيْهِ ناداه سعيد (قضيب من الريحان فِي ورق حمر ... )

فَأَجَابَهُ من قبل أَن يجلس (وعهدي بالريحان فِي ورق خضر ... ) فسر واجزل صلته وَله يرثى (أمستنصراً بِالصبرِ قد دفن الصَّبْر ... مَعَ الْحسن المأمول إِذْ ضمه الْقَبْر) (فياعجبا للقبر مِنْهُ يضمه ... وَقد كَانَ سهل الأَرْض يخشاه والوعر) (وَمَا مَاتَ ذَاك الْمَاجِد القرم وَحده ... بل الْجُود والإقدام والباس واالصبر) (وَإِن يكن الشَّيْطَان زين حيرة ... لقاتله فِي الْكفْر بل دونه الْكفْر) (فشمس الضُّحَى ترجو لفقدان نوره ... وَبدر الدجى يبكيه والأنجم الزهر) وَله حِين أسره عمر بن حفصون رَأس الْفِتْنَة بالأندلس ومضرم نارها وركن العصبية للعجم والمولدين وَذَلِكَ قبل إِمَارَة سعيد ورئاسته للْعَرَب (خليلي صبرا رَاحَة الْحر فِي الصَّبْر ... وَلَا شَيْء مثل الصَّبْر فِي الكرب للْحرّ) (فكم من أَسِير كَانَ فِي الْقد موثقًا ... فَأَطْلقهُ الرَّحْمَن من حلق الْأسر) (لَئِن كنت مأخوذاً أَسِيرًا وكنتما ... فَلَيْسَ على حَرْب وَلَكِن على غدر) (وَلَو كنت أخْشَى بعض مَا قد أصابني ... حمتني أَطْرَاف الردينية السمر) (فقد علم الفتيان أَنِّي كميها ... وفارسها الْمِقْدَام فِي سَاعَة الذعر)

وَمن هَذِه القصدة (بهمك ألْقى خالقي يَوْم موقفي ... وكربك أقضى لي من الْقَتْل والأسر) (وَإِن لم يكن قبر فَأحْسن موطئاً ... من الْقَبْر للفتيان حوصلة النسْر) 58 - سُلَيْمَان بن وانسوس الْوَزير أَبُو أَيُّوب هُوَ سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن أصبغ بن عبد الله وانسوس المكناسي مولى سُلَيْمَان ابْن عبد الْملك أَصله من البرابر وَله فيهم بَيت شرف بالأندلس وَكَانَ جده أصبغ رَئِيسا بماردة مُطَاعًا ثار فِيهَا على الْأَمِير الحكم بن هِشَام فملكها لنَفسِهِ واتصل خِلَافه فِيهَا سِنِين وَجَرت لَهُ خطوب كبار فِي حَالي الْمعْصِيَة وَالطَّاعَة وتمهد ابْن ابْنه هَذَا مهاد الطَّاعَة من بعد نزوات سلفه وعلق حبال الْخدمَة فتصرف للسُّلْطَان فِي أَعمال كَثِيرَة إِلَى أَن ارْتقى الذرْوَة من خطة الوزارة للأمير عبد الله وَصَارَت لَهُ حظوة وَكَانَ أديباً مفتناً وشاعراً مطبوعاً حسن الْبَيَان بليغاً حصيفاً داهياً وَكَانَ فِي لحيته كوسجاً وَمن شعره يغرى

الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد بجهور بن عبد الْملك البختي وَكَانَ قد صرف عَن عمله بكورة البيرة لتظلم الرّعية (جَاءَ الْحمار حمَار المرج محتشيا ... مِمَّا أَفَادَ من الْأَمْوَال والطرف) (خلى لبيرة قد أودت ماسكنها ... بقبح سيرته والعنف والسرف) (فاحمل على العير حملا يسْتَقلّ بِهِ ... واترك لَهُ سَببا للتبن والعلف) فَلَمَّا قَرَأَ الْأَمِير عبد الله أبياته أَمر بإدخاله إِلَيْهِ فَضَحِك مِنْهُ وَقَالَ لَهُ يَا سُلَيْمَان لَو زدتنا فِي الأبيات لزدنا الْحمار فِي الْغرم وَأمر بإغرامه ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَقد تقدم لِسُلَيْمَان هَذَا خبر مَعَ الْأَمِير عبد الله يدل على شرف ذَاته وعلو همته 59 - عَامر بن عَامر بن كُلَيْب بن ثَعْلَبَة بن عبيد الجذامى أَبُو مَرْوَان ولي أَبُو عَامر طليطلة ثمَّ صرفه عَنْهَا عبد الرَّحْمَن بن الحكم بأَخيه عبد الله بن كُلَيْب وَكَانَ أحد وُجُوه أَصْحَاب السُّلْطَان واختص بِصُحْبَة هَاشم ابْن عبد الْعَزِيز وَكَانَت فِيهِ مَعَ أدبه وبلاغته حِدة ومعارضة للنَّاس وتحكك بالشعراء فَلم يسلم مِنْهُم وَهُوَ الْقَائِل فِي الِاعْتِذَار (عظم الخطاء فَهَل تقيل ... يَا سَيِّدي أَو مَا تَقول) (أَنْت الْعَزِيز بهفوتي ... وَأَنا بهَا العَبْد الذَّلِيل) (وَالله لَو أَنِّي اسْتَطَعْت ... لما بَدَت مني فضول) (وَلما رأى مني الصّديق ... سوى قوام لَا يمِيل)

(ولسان صدق لايزول ... من الصَّوَاب ولاا يحول) (فَأَبت على الكاس إللا ... أَن يداخلني الذهول) 60 - عبد الرَّحْمَن بن وليد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الحميد ابْن غَانِم كَانَ هُوَ وَأَخُوهُ مُحَمَّد وأبوهما وليد فِي بَيت أدب رائع وَكِتَابَة وجلالة وَولى وليد للأمير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن خطتي الوزارة وَالْمَدينَة وقاد جَيش الصائفة الَّذِي قدم عَلَيْهِ ابْنه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وَكَانَ عدده عَظِيما وَولى أَيْضا مُحَمَّد ابْن وليد خطة الْمَدِينَة وَسَيَأْتِي ذكرهمَا وَعبد الرَّحْمَن هُوَ الْقَائِل وَسمع عبيد الله بن يحيى بن يحيى صَاحب مَالك وَقد سُئِلَ عَن النعامة فَفَسَّرَهَا بطير المَاء (ذهب الزَّمَان بصفوة الْعلمَاء ... وَبقيت فِي ظلم وَفِي عمياء) (وأتى طغام رقع من بعدهمْ ... لَا فرق بَينهم وَبَين الشَّاء) (فَإِذا سَأَلت عَن النعام أسدهم ... علما يفسره بطير المَاء)

وهولاء شعراء بنى الْأَغْلَب مُلُوك إفريقية فِي هَذِه الْمِائَة وَفِي آخرهَا انقرض ملكهم حَسْبَمَا يذكر بعد 61 - زِيَادَة الله بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب أَبُو مُحَمَّد ولى بعد أَخِيه أبي الْعَبَّاس عبد الله الْجَمِيل سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ أَبوهُ إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب إِذا قدم عَلَيْهِ أحد من الْأَعْرَاب وَالْعُلَمَاء بِالْعَرَبِيَّةِ وَالشعرَاء أصحبهم ابْنه زِيَادَة الله هَذَا وَأمرهمْ بملازمته فَكَانَ أفضل أهل بَيته وأفصحهم لِسَانا وَأَكْثَرهم بَيَانا وَكَانَ يعرب كَلَامه وَلَا يلحن دون تشادق وَلَا تقعر ويصوغ الشّعْر الْجيد وَلَا يعلم أحد قبله سمى زِيَادَة الله وَلَا هبة الله قبل ولد إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وَولد زِيَادَة الله قبل هبة الله هَذَا بِنَحْوِ من ثَلَاثِينَ سنة وَهُوَ الَّذِي بنى جَامع القيروان بالصخر والآجر والرخام بعد أَن هَدمه وَبنى الْمِحْرَاب كُله بالرخام من أَسْفَله إِلَى أَعْلَاهُ وَهُوَ منقوش بِكِتَاب وَغَيره كتاب ويستدير بِهِ سوار حسان بَعْضهَا مجزعة بأسود ناصعة الْبيَاض شَدِيدَة السوَاد ويقابل الْمِحْرَاب عمودان أَحْمَرَانِ فيهمَا توشيه بحمرة صَافِيَة

دون حمرَة سائرهما يَقُول كل من رآهما من أهل الْمشرق وَالْمغْرب أَنه لم ير مثلهمَا وَقد بذل فيهمَا صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة وزنهما ذَهَبا فَلم يجبهُ النَّاظر لِلْإِسْلَامِ فِي ذَلِك وَأول من بنى هَذَا الْجَامِع الْأَشْرَف عقبَة بن نَافِع الفِهري وَهُوَ الَّذِي اختط مَدِينَة القيروان فِي سنة ثَلَاث وَخمسين من الْهِجْرَة فَلَمَّا ولى حسان بن النُّعْمَان الغساني إفريقية هَدمه حاشى الْمِحْرَاب وبناه بالطوب فَلَمَّا ولى يزِيد بن حَاتِم إفريقية سنة خمس وَخمسين وَمِائَة هَدمه وبناه فَلَمَّا ولى زِيَادَة الله هَذَا هَدمه وبناه مَعَ الْمِحْرَاب كَمَا وصف وَتمّ بُنْيَانه سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَبعد ذَلِك بعام أَو نَحوه توفّي فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَعشْرين ولأبى إِبْرَاهِيم أَحْمد بن مُحَمَّد وَالِد إِبْرَاهِيم بن أَحْمد السفاك زِيَادَة فِي هَذَا الْجَامِع كملت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَهِي عَلَيْهَا إِلَى الْيَوْم

وَمن شعره زِيَادَة الله على أَنه كَانَ يصنعه ويكتمه مَا يرْوى أَن الْمَأْمُون كتب إِلَيْهِ أَن يَدْعُو على منابره لعبد الله بن طَاهِر بن الْحُسَيْن فَأَنف من ذَلِك وَأمر بِإِدْخَال الرَّسُول عَلَيْهِ بعد أَن تملأ من الشَّرَاب وَحل شعره ونار عَظِيمَة بَين يَدَيْهِ فِي كوانين وَقد احْمَرَّتْ عَيناهُ فهال الرَّسُول ذَلِك المنظر ثمَّ قَالَ قد علم أَمِير الْمُؤمنِينَ طَاعَتي لَهُ وَطَاعَة آبَائِي لِآبَائِهِ وَتقدم سلفى فِي دعوتهم ثمَّ يَأْمُرنِي الْآن بِالدُّعَاءِ لعبد خُزَاعَة هَذَا وَالله أَمر لَا يكون أبدا ثمَّ مد يَده إِلَى كيس إِلَى جَانِبه فِيهِ ألف دِينَار فَدفعهُ إِلَى الرَّسُول ليوصله إِلَى الْمَأْمُون وَكَانَت الدَّنَانِير مَضْرُوبَة باسم إِدْرِيس الْحسنى ليعلمه مَا هُوَ عَلَيْهِ من فتْنَة الْمغرب ومناضلة العلويين وَكتب جَوَاب الْكتاب وَهُوَ سَكرَان فِي آخِره أَبْيَات مِنْهَا (أَنا النَّار فِي أحجارها مستكنة ... فَإِن كنت مِمَّن يقْدَح الزند فاقدح) (أَنا اللَّيْث يحمى غيله بزئيره ... فَإِن كنت كَلْبا حَان موتك فانبح) (أَنا الْبَحْر فِي أمواجه وعبابه ... فَإِن كنت مِمَّن يسبح الْبَحْر فاسبح) فَلَمَّا صَحا بعث فِي طلب الرَّسُول ففاته وَكتب كتابا آخر يتلطف فِيهِ فوصل الْكتاب الأول وَالثَّانِي فأعرضوا عَن ذكر الأول وجاوبوه عَن الثَّانِي بِمَا أحب وَصدر الْبَيْت الأول من هَذِه الأبيات وَقع فِي ماا تمثل بِهِ الْمَأْمُون

إِذْ قتل لَيْلًا بالمطبق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن إِبْرَاهِيم الإِمَام بن مُحَمَّد ابْن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس الْمَعْرُوف بِابْن عَائِشَة وَأَصْحَابه فَقَالَ حِين فرغ من ذَلِك (أَنا النَّار فِي أحجارها مستكنة ... مَتى مَا يهجها قَادِح تتضرم) حَكَاهُ المَسْعُودِيّ وَكَانَ زِيَادَة الله يَدْعُو لِلْمَأْمُونِ وَابْن شكْلَة وَهُوَ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي بِبَغْدَاد قد ادّعى الْخلَافَة بعد قتل الْأمين إِلَى أَن قدم الْمَأْمُون بَغْدَاد فكاتبه وشكر لَهُ فعله وَله يُخَاطب أمه جلاجل جَارِيَة اللَّيْث بن سعد وَقد استفحل أَمر الْجند فِي خلافهم عَلَيْهِ وستولوا على إفريقية كلهَا إِثْر وقْعَة على أَصْحَابه شَدِيدَة خَافَ مِنْهَا على ملكه وأيقن بِانْقِطَاع مدَّته وَبلغ ذَلِك مِنْهُ كل مبلغ فَدخلت عَلَيْهِ أمه تصبره وتسهل الْأَمر عَلَيْهِ ففكر سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه وَأنْشد أبياتاً مِنْهَا (أمنت سبيبة كل قرم باسل ... وَمن العبيد جماجماً أبطالاً) (فَإِذا ذكرت مصايباً بسبيبة ... فابكى جلاجل واندبي إعوالا)

(ياويح نَفسِي حِين أركب غادياً ... بالقيروان تخالني مختالاً) (فِي فتية مثل النُّجُوم طوالع ... ويخالني بَين النُّجُوم هلالا) (فاليوم أركب فِي الزعاع وَلَا أرى ... إِلَّا العبيد ومعشراً أنذالا) وَله فِي النسيب (بِاللَّه لَا تقطعن بالهجر أنفاسي ... فَأَنت تملك إنطاقي وإخراسي) (صدود طرفك عَن طرفِي إِذا التقيا ... مجرعى كأس إرغام وإتعاس) (لَو لم أبحك حمى قلبِي ترود بِهِ ... لم تستبح مهجتي يَا أَمْلَح النَّاس) وَله أَيْضا فِي تفاحة (ولابسه ثوب اصفرار بِلَا جسم ... تنم بِأَنْفَاسِ الحبيب لمشتم) (تجمع معشوق لَدَيْهَا وعاشق ... فذو نظر يرنو إِلَيْهَا وَذُو شم) (سأفنيك أَو أفنى عَلَيْك تذكراً ... لمن أَنْت عطر مِنْهُ فِي الرشف واللثم) (فقد هجت فِي قلبِي لظى لتذكري ... وعنوانه فِي مقلتي دمعة تهمي) (كَأَنِّي أدنى حِين أدنيك من بِهِ ... أثرت اشتياقي فِي عنَاق وَفِي ضم)

62 - الْأَغْلَب بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب أَبُو عقال ويلقب بخزر ولى إفريقية بعد إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب ثَلَاثَة من أبنائه لصلبه أَوَّلهمْ أَبُو الْعَبَّاس عبد الله ولى بِعَهْد أَبِيه وَكَانَ عِنْد وَفَاته بطرابلس فَقَامَ أَخُوهُ زِيَادَة الله بِالْأَمر فِي مغيبه وَأخذ لَهُ الْبيعَة على نَفسه وعَلى أهل بَيته وَسَائِر النَّاس فَكَانَ يتحامل عَلَيْهِ فِي ولَايَته ويتنقصه وَهُوَ يظْهر التجمل وَالِاحْتِمَال وعوجل فَلم تطل مدَّته وَلم يُوصف بأدب فنذكره وثانيهم أَبُو مُحَمَّد زِيَادَة الله الْمُتَقَدّم الذّكر وَهُوَ كَانَ أطولهم ولَايَة وأمتنهم بعد أَبِيهِم أدباً وثالثهم أَبُو عقال الْأَغْلَب هَذَا ولى بعد أَخِيه زِيَادَة الله وَهُوَ كَانَ أقصرهم ولَايَة أَقَامَ سنتَيْن وَتِسْعَة أشهر وأياماً غير أَن الْمُلُوك مِنْهُم من عقبه دون أَخَوَيْهِ وكل من ولى بعده من آل الْأَغْلَب إِلَى أَن انقرض ملكهم وَزَالَ سلطانهم من وَلَده وآثاره صَالِحَة أَمن الْجند وَأحسن إِلَيْهِم فَلم يكن فِي أَيَّامه على قصرهَا وتقلصها حروب وَغير مِمَّا أحدث الْعمَّال كثيرا وَقبض أَيْديهم عَن أَمْوَال الرّعية وَقطع النَّبِيذ من القيروان فحمدت سيرته وَظَهَرت فضيلته وانتشر عدله وَكَانَ لَهُ حَظّ من الْأَدَب يصوغ بِهِ مقطعات من الشّعْر فَمِنْهَا قَوْله

(لَهُ مقلة تكفيه حمل سلاحه ... محاربة ألحاظها من تسالمه) (سقى صبه من خمرها فَبَدَا بهَا ... كَمَا تفعل الصَّهْبَاء مَا هُوَ كاتمه) (وَقد سكرت أجفانه فَكَأَنَّمَا ... تسقيه من صهبائها وتنادمه) 63 - ابْنه مُحَمَّد بن الْأَغْلَب بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب أَبُو الْعَبَّاس ولى بعد أَبِيه أبي عقال فِي آخر شهر ربيع الآخر سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَتُوفِّي يَوْم الِاثْنَيْنِ لليلتين خلتا من الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ ابْن سِتّ وَثَلَاثِينَ سنة فَكَانَت ولَايَته خمس عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر واثني عشر يَوْمًا وَكَانَ كوسجاً كَانَ وَجهه وَجه خصي لَيْسَ فِيهِ إِلَّا شَعرَات بسيرة عقيماً لَا يُولد لَهُ مَوْصُوفا بحلم وجود وحاربه أَخُوهُ أَحْمد فظفر بِهِ وَأخرجه إِلَى الْمشرق وَكَانَت فِي أَيَّامه حروب كَثِيرَة نصر فِيهَا وَأما أَخُوهُ الثَّانِي وَيُسمى أَيْضا مُحَمَّدًا ويكنى أَبَا عبد الله فَكَانَ والياً على طرابلس من قبله وَمَات بهَا فِي أَيَّامه سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَمن وَلَده أُمَرَاء بني الْأَغْلَب الْوُلَاة بعد أبي الْعَبَّاس هَذَا

وَأَبُو الْعَبَّاس هُوَ الْقَائِل يفخر فِي مَا نسبه إِلَيْهِ بعض خاصته وَقيل إِنَّه لعبد الرَّحْمَن بن أبي مسلمة قَالَه على لِسَانه عِنْد ظفره بِخَارِج عَلَيْهِ (أَلَيْسَ أَبى وجدي أوطآني ... وجد أَبى وعماي الرقابا) (ورثت الْملك وَالسُّلْطَان عَنْهُم ... فصرت أعز من وطئ الترابا) (وقدمني الخلائف واصطفوني ... فَمن مثلي قَدِيما وانتسابا) (أَنا الْملك الَّذِي أسمو بنفسي ... فأبلغ بالسمو بهَا السحابا) (إِذا نقبت عَن كرمي ومجدي ... وجدتني المصاصة واللبابا) (أَنا الْملك الَّذِي أيدت ملكي ... بسيفي إِذْ كشفت بِهِ الضبابا) (فَأمْضى إِن سردت الجفن عَنهُ ... فأغتصب النُّفُوس بِهِ اغتصابا) (لقد فتح الْمُهَيْمِن لي بسيفي ... وإقدامي إِذا مَا الْجمع هابا) (أتمت بِهِ ابْن حَمْزَة حِين دبت ... عقارب غدره وسعى فخابا)

(أسلت بِهِ دم الْأَوْدَاج مِنْهُ ... فَصَارَ لشيب لحيته خضابا) (أظل عشيرتي بجناح عزى ... وأمنحها الْكَرَامَة والثوابا) (وأصطنع الرِّجَال وأصطفيهم ... وأغفر للمسيء إِذا أنابا) (وأسمو بالخميس إِلَى الأعادي ... فأكسر بالعقاب لَهَا العقابا) (أَنا ابْن الْحَرْب ربتني وليداً ... إِلَى أَن صرت ممتلئاً شبَابًا) ) لعمر أَبِيك مَا أَن عبت قومِي ... وَمَا أخْشَى بقومي أَن أعابا) (بنيت لَهُم مَكَارِم باقيات ... إِذا مَا صَارَت الدُّنْيَا خرابا) 64 - إِبْرَاهِيم بن أبي إِبْرَاهِيم أَحْمد بن أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي عقال الْأَغْلَب وَهُوَ خزر الْمَذْكُور قبل ابْن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب أَبُو إِسْحَاق ولي بعد أَخِيه أَبى عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الَّذِي يعرف بأبى الغرانيق لِكَثْرَة ولوعه بتصيدها وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا قد عقد لِابْنِهِ أَبى عقال الْأَغْلَب ولَايَة عَهده واستحلف إِبْرَاهِيم هَذَا خمسين يَمِينا بِجَامِع مَدِينَة القيروان أَلا ينازعه وَذَلِكَ بِمحضر مشيخه الْأَغْلَب وقضاه القيروان وفقهائها فَلَمَّا هلك أَبُو الغرانيق

لست مضين من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ خلع ابْنه أهل القيروان وَقدمُوا إِبْرَاهِيم بن أَحْمد فِي قصَّة طَوِيلَة فَابْتَلَاهُمْ الله بظلمه وامتحنهم بإسرافه حَتَّى سموهُ الْفَاسِق وَكَانَ أول أمره قد أحسن السِّيرَة فيهم نَحوا من سبع سِنِين ثمَّ ارْتكب من الْعدوان وَسَفك الدِّمَاء مالم يرتكبه أحد قبله وَأخذ فِي قتل أَصْحَابه وَكتابه وحجابه حَتَّى إِنَّه قتل ابْنه أَبَا عقال وَبنَاته وَالْأَخْبَار عَنهُ فِي ذَلِك فظيعة شنيعة وَكَانَ كثير المَال شَدِيد الْحَسَد على اتصافه بالحزم والعزم والضبط للأمور وَلم يكن يُوصف بِعلم بارع وَلَا أدب وَكَانَ رُبمَا صنع من الشّعْر شَيْئا ضَعِيفا فَمن ذَلِك قَوْله (نَحن النُّجُوم بَنو النُّجُوم وجدنَا ... قمر السَّمَاء أَبُو النُّجُوم تَمِيم) (وَالشَّمْس جدتنا فَمن ذَا مثلنَا ... متواصلان كَرِيمَة وكريم) وَحذف هَذَا النّظم الغث أولى من إثْبَاته وليته بعقاب أهل بَيته عُوقِبَ على أبياته وَلم يل إفريقية قبله أطول عمرا مِنْهُ فِي سلطانها ملك تسعا وَعشْرين سنة إِلَّا خَمْسَة أشهر وَثَمَانِية عشر يَوْمًا ليطول بِهِ الِابْتِلَاء وَالله يفعل مَا يَشَاء (وَحكى أَبُو عبيد البكرى فِي كتاب الممالك والمسالك من تأليفه أَن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد هُوَ الَّذِي بنى مَدِينَة رقادة وتخذها وطنا وانتقل إِلَيْهَا من مَدِينَة الْقصر الْقَدِيم وَبنى بهَا قصوراً عَجِيبَة وجامعاً وَلم تزل بعد ذَلِك دَار ملك لبنى الْأَغْلَب إِلَى أَن هرب عَنْهَا زِيَادَة الله أَمَام أَبى عبد الله الشيعي وسكنها عبيد الله الْمهْدي إِلَى أَن انْتقل إِلَى المهدية فَدَخلَهَا الوهن وانتفل عَنْهَا ساكنوها وَلم تزل تخرب شَيْئا بعد شَيْء إِلَى أَن ولى معد بن إِسْمَاعِيل فخرب مَا بَقِي مِنْهُ وَعفى آثارها وَلم يبْق مِنْهَا غير بساتينها قَالَ وَلَيْسَ بإفريقية أعدل هَوَاء وَلَا أرق نسيماً وَلَا أطيب تربة من مَدِينَة رقادة وَذكروا أَن أحد بنى الْأَغْلَب ارق وشرد عَنهُ النّوم أَيَّامًا فعالجه

إِسْحَاق يَعْنِي طبيبهم وَهُوَ الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ إطريفل إِسْحَاق فَلم ينم فَأمره بِالْخرُوجِ وَالْمَشْي فَلَمَّا وصل إِلَى مَوضِع رقاده نَام فسميت رقاده من يَوْمئِذٍ واتخذت دَارا ومسكناً وَمَوْضِع فُرْجَة للْملك قَالَ وَلما بناها إِبْرَاهِيم ابْن أَحْمد منع بيع النَّبِيذ بِمَدِينَة القيروان وأباحه بِمَدِينَة رقادة فَقَالَ بعض ظرفاء أهل القيروان (يَا سيد النَّاس وَابْن سيدهم ... وَمن إِلَيْهِ الرّقاب منقاده) (مَا حرم الشّرْب فِي مدينتنا ... وَهُوَ حَلَال بِأَرْض رقاده) وَمَعَ بعد إِبْرَاهِيم فِي الملكة عَن الإسجاح فقد كَانَ لَا يخل بِنَصِيبِهِ من السماح حكى أَبُو إِسْحَاق الرَّقِيق أَن بكر بن حَمَّاد التاهرتي كَانَ ينتجع هَذَا الطاغية ويمدحه فغدا يَوْمًا بمديح لَهُ على بَلَاغ الْخَادِم فَقَالَ لَهُ الْأَمِير عَنَّا مَشْغُول فِي هَذَا الْيَوْم قَالَ فالطف بِي فِي إِيصَال رقْعَة إِلَيْهِ قَالَ إِنَّه مصطبح فِي الْجنان مَعَ الْجَوَارِي وَلَا يصل إِلَيْهِ أحد فَكتب بكر فِي رقْعَة واحتال بَلَاغ فِي توصيلها مساعدة لَهُ وفيهَا أَبْيَات مِنْهَا

(خُلِقْنَ الغواني للرِّجَال بلية ... فهن موالينا وَنحن عبيدها) (إِذا مَا أردن الْورْد فِي غير حِينه ... أتتنا بِهِ فِي كل حِين خدودها) وَكتب تَحت الأبيات (فَإِن تكن الْوَسَائِل أعوزتني ... فَإِن وسائلي ورد الخدود) فَلَمَّا قَرَأَهَا أنشدها الْجَوَارِي فأظهرن لَهُ سُرُورًا بهَا وشفعن إِلَيْهِ إِلَى أَن خرج بصرة مختومة فِيهَا مائَة دِينَار وَوصل مِنْهُ إِلَى بكر مَال عَظِيم 65 - ابْنه عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد أَبُو الْعَبَّاس ولى بعد أَبِيه إِبْرَاهِيم وَكَانَ شجاعاً بطلاً ذَا بصر بالحروب وَالتَّدْبِير عَاقِلا أديباً عَالما لَهُ نظر فِي الجدل وعناية باللغة والآداب وَكَانَ فِي أَيَّام أَبِيه على خوف شَدِيد مِنْهُ لسوء أخلاقه وقبح أَفعاله وجرأته على قتل من قرب مِنْهُ أَو بعد وَكَانَ يظْهر من طَاعَته والتذلل لَهُ أمرا عَظِيما وَكَانَ أَبوهُ يوجهه إِلَى محاربة كثير مِمَّن يُخَالف عَلَيْهِ ويفضله على سَائِر وَلَده ثمَّ ولاه عَهده وصير إِلَيْهِ خَاتمه ووزارته وَكتب بذلك كتابا تَارِيخه يَوْم الْجُمُعَة لثمان بَقينَ من شهر ربيع الأول سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَفِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا هلك أَبوهُ إِبْرَاهِيم بن أَحْمد وَمن ذَلِك الْوَقْت رمى

بالنجوم فَكَانَت تتناثر كالمطر يَمِينا وَشمَالًا وَكَانَت تؤرخ بِسنة النُّجُوم وَملك عبد الله سنة وَاحِدَة واثنين وَخمسين يَوْمًا وَكَانَت أَيَّامه على قصر مدَّته أَيَّام عدل وَصَلَاح وَحسن سيرة إِلَى أَن قتل لَيْلَة الْأَرْبَعَاء آخر شعْبَان سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ تولى قَتله ثَلَاثَة من خدمه الصقالبة وَهُوَ نَائِم وَأتوا بِرَأْسِهِ ابْنه بِزِيَادَة الله بن عبد الله آخر مُلُوك الأغالبة وَهُوَ مَحْبُوس من قبل أَبِيه وَكَانَ قد صانعهم على ذَلِك فَقَتلهُمْ وصلبهم وَمن شعر عبد الله فِي دَوَاء شربه بصقلية (شربت الدَّوَاء على غربَة ... بَعيدا من الْأَهْل والمنزل) (وَكنت إِذا مَا شربت الدَّوَاء ... تطيبت بالمسك والمندل) (فقد صَار شربي بحار الدِّمَاء ... ونقع الْعَجَاجَة والقسطل) 66 - ابْنه زِيَادَة الله بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد أَبُو مُضر خَاتِمَة مُلُوك الأغالبة عَلَيْهِ انقرض ملكهم وَزَالَ سلطانهم بعبيد الله الْمهْدي أول مُلُوك الشِّيعَة وَلما هزم أَبُو عبد الله الشيعي دَاعِيَة عبيد الله عَسْكَر زِيَادَة الله هَذَا يَوْم السبت لست بَقينَ من جمادي الْآخِرَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ

وَدخلت مَدِينَة الأربس بِالسَّيْفِ وَبلغ الْخَبَر زِيَادَة الله عِنْد صَلَاة الْعَصْر يَوْم الْأَحَد بعده فر على وَجهه وَأسلم الْبِلَاد وَلحق بإطرابلس ميمماً ديار مصر وَذَلِكَ فِي خلَافَة المقتدر بن جَعْفَر بن المعتضد فَكَانَت ولَايَته سِتّ سِنِين إِلَّا شَهْرَيْن وأياماً أتلف جلها فِي اللَّذَّات والبطالة حَتَّى انتقضت دولته وظفر بِهِ عدوه وَكَانَ فراره من مدينه رقاده الَّتِي بناها جده إِبْرَاهِيم بن أَحْمد وأجرى إِلَيْهَا الْمِيَاه واغترس فِيهَا صنوف الثِّمَار الطّيبَة والرياحين وَبنى على الْقُصُور الَّتِي أحدث فِيهَا سوراً وَأحد هَذِه الْقُصُور يُسمى بَغْدَاد وَآخر مِنْهَا يُسمى الْمُخْتَار فَصَارَت أكبر من القيروان وَبَينهمَا سِتَّة أَمْيَال فَلَمَّا ولى زِيَادَة الله هَذَا انْتقل إِلَيْهَا وحفر بهَا حفيراً بناه صهريجاً طوله خَمْسمِائَة ذِرَاع وَعرضه أَرْبَعمِائَة ذِرَاع وأجرى إِلَيْهَا ساقية وَسَماهُ الْبَحْر وَبنى فِيهِ قصراً وَسَماهُ الْعَرُوس على أَربع طَبَقَات أنْفق فِيهِ سوى خسر الْيَهُود والعجم مِائَتي ألف دِينَار واثنين وَثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَكَانَ عبيد الله يَقُول رَأَيْت ثَلَاثَة أَشْيَاء بإفريقية لم أر مثلهَا بالمشرق مِنْهَا هَذَا الْقصر فَبِهَذَا وَأَمْثَاله كَانَ اشْتِغَاله حَتَّى حَالَتْ لأوّل وهلة حَاله ليصدق مَا قَالَه أَبُو الْفَتْح البستي (إِذا غَدا ملك باللهو مشتغلاً ... فاحكم على ملكه بِالْوَيْلِ وَالْحَرب) وَحكى أَبُو إِسْحَاق الرَّقِيق أَنه سَأَلَ مؤنساً المغنى هَل يعلم صَوتا من أصواته لم يسمعهُ مِنْهُ فَقَالَ وَالله يَا مولَايَ مَا علمت غير بَيت وَقد أنسيت أَوله قَالَ هاته فغناه

فقد صرت بعد الْبَين أقنع بالهجر ثمَّ وَجه فِي صَاحب الْبَرِيد عبد الله بن الصَّائِغ وَكَانَ شَاعِرًا مجيداً فَعرفهُ مَا جرى وَقَالَ لَهُ بحياتي إِلَّا زِدْت عَلَيْهِ شَيْئا فَقَالَ ابْن الصَّائِغ (ولى كبد لَوْلَا الأسى لتصدعت ... وقلب أَبى أَن يستريح إِلَى الصَّبْر) (وَقد كنت أخْشَى هجر هم قبل بَينهم ... فقد صرت بعد الْبَين أقنع بالهجر) فأعجبه ذَلِك وَوَقع مِنْهُ أحسن موقع وغنى بِهِ مؤنس فطرب وَأمر لَهُ بخلع نفيسة وكيس فِيهِ ألف دِينَار وَفرس بسرج ولجام محليين وَهَذَا قد كَانَ يحسن مِنْهُ لَوْلَا أنهماكه فِي ملذاته الَّذِي كَانَ فِيهِ هَلَاكه وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُحَمَّد الصولى فِي كتاب الْأَخْبَار المنثورة من تأليفه حَدثنِي أَبُو الْحسن على بن جَعْفَر الْكَاتِب حَدثنِي أبي قَالَ كَانَ لزِيَادَة الله ابْن عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد وَهُوَ زِيَادَة الله الْأَصْغَر وَكَانَ أَمِيرا بإفريقية غُلَام فَحل صبي يدعى خطابا وَهُوَ الَّذِي اسْمه فِي السكَك فسخط عَلَيْهِ وَقَيده بِقَيْد من ذهب فَدخل يَوْمًا من الْأَيَّام صَاحبه على الْبَرِيد وَهُوَ عبد الله بن الصَّائِغ فَلَمَّا رأى الْغُلَام مُقَيّدا تَأَخّر قَلِيلا وَعمل بَيْتَيْنِ وَكتب بهما إِلَى زِيَادَة الله وهما (يأيها الْملك الميمون طَائِره ... رفقا فَإِن يَد المعشوق فَوق يدك) (كم ذَا التجلد والأحشاء راجفة ... أعيذ قَلْبك أَن يَسْطُو على كبدك)

فَأطلق الْغُلَام ورضى عَنهُ وَوصل عبد الله الصَّائِغ بالقيد الذَّهَب وَمن شعر زِيَادَة الله مَا حكى الصولى أَيْضا فِي كتاب الوزراء من تأليفه أَن الْعَبَّاس بن الْحسن لما استوزره المكتفى أَبُو مُحَمَّد على بن أَحْمد المعتضد أَرَادَ أَن يرِيه أَنه فَوق الْوَزير قبله الْقَاسِم بن عبيد الله بن سُلَيْمَان بن وهب فِي التَّدْبِير فاستأذنه فِي مُخَاطبَة بن الْأَغْلَب هَذَا فَفعل فَوجه ابْن الْأَغْلَب إِلَيْهِ برَسُول مَعَه هَدَايَا عَظِيمَة وَمِائَتَا خَادِم وخيل وبز كثير وَطيب وَمن اللبوذ المغربية ألف ومائتان وَعشرَة آلَاف دِرْهَم فِي كل دِرْهَم عشرَة دَرَاهِم وَألف دِينَار فِي كل دِينَار عشرَة دَنَانِير وَكتب على الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم فِي وَجه (يَا سائراً نَحْو الْخَلِيفَة قل لَهُ ... أَن قد كَفاك الله أَمرك كُله) (زِيَادَة الله بن عبد الله سيف ... الله من دون الْخَلِيفَة سَله) وَفِي الْوَجْه الآخر (مَا ينبرى لَك بالشقاق مُنَافِق ... إِلَّا استباح حريمه وأحله) (من لَا يرى لَك طَاعَة فَالله قد ... أعماه عَن طرق الْهدى وأضله)

67 - مُحَمَّد بن زِيَادَة الله بن مُحَمَّد بن الْأَغْلَب بن إِبْرَاهِيم ابْن الْأَغْلَب أَبُو الْعَبَّاس ولى لِابْنِ عَمه إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن مُحَمَّد طرابلس فَكَانَ يشق عَلَيْهِ حسن سيرته وَيكرهُ ذَلِك وَكَانَ عَالما أديبا شَاعِرًا خَطِيبًا مَعَ عشرَة لإخوانه ولين

جَانب لأخذانه لَا ينادم إِلَّا أهل الْأَدَب وَكَانَ أَبوهُ زِيَادَة الله قد ولى إفريقية بعد أَخِيه أَبى إِبْرَاهِيم احْمَد بن مُحَمَّد وَكَانَ مَحْمُود السِّيرَة ذَا رأى ونجدة يرْوى عَن سُلَيْمَان بن عمرَان القَاضِي أَنه قَالَ ماولى لبني الْأَغْلَب أَعقل من زِيَادَة الله الْأَصْغَر سَمَّاهُ الْأَصْغَر لِأَنَّهُ سمى باسم عَم أَبِيه زِيَادَة الله ابْن إِبْرَاهِيم الْمُتَقَدّم ذكره وبعدهما ولى زِيَادَة الله بن عبد الله ثالثهم وَهُوَ آخر ولاتهم وَلم يزل إِبْرَاهِيم بن أَحْمد يحقد على مُحَمَّد هَذَا مَا يُؤثر عَنهُ من جميل إِلَى أَن قَتله وَكَانَ الَّذِي هاجه لذَلِك وَبَعثه عَلَيْهِ مَعَ قدم حسده لَهُ أَنه وَجه رَسُولا إِلَى بَغْدَاد فَكتب إِلَيْهِ يُخبرهُ أَن بعض من سَار إِلَى بَغْدَاد من أهل تونس شكوا إِلَى المعتضد صنع إِبْرَاهِيم فَقَالَ المعتضد عجبا من إِبْرَاهِيم مَا يبلغنَا عَنهُ إِلَّا سوء الثَّنَاء عَلَيْهِ وعامله على طرابلس يبلغنَا عَنهُ خلاف ذَلِك من رفق بِمن ولى عَلَيْهِ وإحسان فَمضى إِبْرَاهِيم قَاصِدا إِلَى طرابلس فَقتله وصلبه بغياً وحسداً وَقتل أَوْلَاده وعاث فِي أصاغرهم عيثه الْمَشْهُور حَتَّى إِنَّه شقّ جَوف بعض نِسَائِهِ عَن جَنِينهَا جرْأَة على الله تَعَالَى وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وقرأت فِي تَارِيخ أَبى إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن الْقَاسِم الْمَعْرُوف بالرقيق أَن المعتضد كتب إِلَى إِبْرَاهِيم من الْعرَاق إِن لم تتْرك أخلاقك فِي سفك الدِّمَاء فَأسلم الْبِلَاد إِلَى ابْن عمك مُحَمَّد بن زِيَادَة الله صَاحب طرابلس فَخرج إِبْرَاهِيم إِلَى طرابلس فِي خُفْيَة وَأظْهر أَنه يُرِيد الْخُرُوج إِلَى مصر حِيلَة مِنْهُ إِلَى أَن ظفر بِهِ فَقتله وصلبه وَكَانَ بَين خُرُوجه ورجوعه خَمْسَة عشر يَوْمًا قَالَ وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا أديباً ظريفاً ألف كتاب رَاحَة الْقلب وَكتاب الزهر وتاريخ بني الْأَغْلَب

وَمن شعره مَا أنْشدهُ لَهُ أَبُو عَليّ حُسَيْن بن أبي سعيد القيرواني صَاحب الْكتاب المعرب عَن الْمغرب (وَمِمَّا شجا قلبِي بتوزر أنني ... تناءيت عَن دَار الْأَحِبَّة وَالْقصر) (غَرِيبا فليت الله لم يخلق النَّوَى ... وَلم يجر بَين بَيْننَا آخر الدَّهْر) وَمن بنى عمهم عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْأَغْلَب بن سَالم أَبُو الْعَبَّاس وَيعرف هُوَ وَأَبوهُ مُحَمَّد وَعَمه الْأَغْلَب بن عبد الله ببني عبد الله وجده عبد الله الَّذين يعْرفُونَ بِهِ هُوَ أَخُو أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب وَكَانَ عَمه الْأَغْلَب مِمَّن أنهض لِحَرْب مَنْصُور بن نصر الطنبذى أَيَّام زِيَادَة الله ابْن إِبْرَاهِيم فجند لَهُ جنده وَانْهَزَمَ وَولى مُحَمَّد بن عبد الله لزِيَادَة الله الْمَذْكُور صقلية سنة سبع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَفتح بهَا فتوحات وَقد كَانَ زِيَادَة الله أغزاه إِلَيْهَا سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ قبل فتحهَا على يَد أَسد بن الْفُرَات بِنَحْوِ من ثَمَانِي سِنِين فسبى مِنْهَا شَيْئا كثيرا وَانْصَرف ثمَّ وَليهَا ابْنه عبد الله بن مُحَمَّد هَذَا لأبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن الْأَغْلَب بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب الْمَعْرُوف بأبى الغرانيق سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ قد ولى قبل ذَلِك بِحِين أطرابلس ثمَّ وَليهَا مرّة أُخْرَى بعد ولَايَة صقيلة وَولى أَيْضا إِمَارَة القيروان وَكَانَ أديباً شَاعِرًا طَالبا للْحَدِيث وَالْفِقْه وَهُوَ الْقَائِل لما أَتَاهُ كتاب عَزله عَن طرابلس يُخَاطب أَبَا هَارُون مُوسَى بن مَرْزُوق صَاحب بريدها وَكَانَ لَهُ صديقا (قد أَتَى فِي الْكتاب مَا قد علمنَا ... من تناء ورحلة وفراق) (وعددنا الْأَيَّام فَهِيَ ثَمَان ... بعد خمس سريعة الإفتراق)

(فَعَلَيْك السَّلَام إِن فراقي ... قد دنا والفراق مر المذاق) وَمن بني أخي الْأَغْلَب بن سَالم 68 - يَعْقُوب بن المضاء بن سوَادَة بن سُفْيَان ابْن سَالم بن عقال التَّمِيمِي كَانَ أَبوهُ من أُمَرَاء بني عَمه الأغالبة وَرغب يَعْقُوب عَن السُّلْطَان وولايته وَانْصَرف إِلَى النّسك وَنزع السوَاد وَأعْرض عَن الدُّنْيَا وَمَال إِلَى الْآخِرَة وَله بنُون يتسبون إِلَيْهِ فَيُقَال لَهُم اليعقوبية وَهُوَ الَّذِي توجه إِلَى الْعَبَّاس مُحَمَّد ابْن الْأَغْلَب الكوسج مَعَ ابْن عَمه خفاجة بن سُفْيَان بن سوَادَة فأصلحا بَينه وَبَين أَخِيه أَحْمد الْقَائِم عَلَيْهِ وأشارا بتأمينه وَقد تفاقم الْخطب بَينهمَا فَقبل ذَلِك مُحَمَّد فِي حَدِيث طَوِيل وَوصل إِلَيْهِ وعاتبه ثمَّ أمره بالتوجه إِلَى الْمشرق فَسَار إِلَى الْعرَاق وَبهَا مَاتَ وَيَعْقُوب هُوَ الْقَائِل (فَإِن تَكُ لمتى كُسِيت بَيَاضًا ... وَبدل لي المشيب من الشَّبَاب) (فقد عمرت ذَا فرع أثيث ... كَأَن سوَاده حنك الْغُرَاب) (فَلَا تعجل رويدك عَن قريب ... كَأَنَّك بالمشيب وبالخضاب) 69 - أَحْمد بن سُفْيَان بن سوَادَة بن سُفْيَان ابْن سَالم بن عقال وعقال هُوَ ابْن خفاجة بن عبد الله بن عباد بن محرث بن سعد بن حزَام

ابْن سعد بن مَالك بن سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم وَسَالم بن عقال هُوَ جد الأغالبة وَهُوَ جد هَؤُلَاءِ ولى أَحْمد هَذَا الزاب ثمَّ ولى طرابلس وأعمالها سِنِين كَثِيرَة وَله بهَا أَخْبَار وآثار ووقائع مَشْهُورَة وَكَانَ من الْجنُود بمَكَان رفيع وَهُوَ أَيْضا مِمَّن قَامَ بنصرة أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن الْأَغْلَب على أَخِيه أَحْمد مَعَ أَخِيه خفاجة بن سُفْيَان وَابْن عَمهمَا يَعْقُوب بن المضاء حَتَّى ظفر بِهِ أَبُو الْعَبَّاس وانحفظ سُلْطَانه وَكَذَلِكَ قَامَ أَبوهُ سُفْيَان بن سوَادَة بِأَمْر زِيَادَة الله بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب فِي حروبه وَكَانَ سَبَب ثبات ملكه وَفِي أَحْمد بن سُفْيَان هَذَا يَقُول بكر بن حَمَّاد التاهرتي من قصيدة لَهُ (وقائلة زار الْمُلُوك فَلم يفد ... فياليته زار ابْن سُفْيَان أحمدا) (فَتى يسْخط المَال الَّذِي هُوَ ربه ... ويرضى العوالي والحسام المهندا) وَكَانَ خفاجة بن سُفْيَان أَخُو أَحْمد هَذَا من رجالات بنى عَمه الأغالبة وَهُوَ أكبر سنامنه وَأجل حَالا وَولى صقلية فَأَقَامَ بهَا مُدَّة وَنصر على الرّوم فَلهُ فيهم فتوحات شهيرة وَمن شعره أَحْمد (قربوا الأبلق إِنِّي ... أعرف الْخَيل العتاقا) (وَعَلَيْهَا أصرع الْأَبْطَال ... طَعنا واعتناقا) (أخبط الْأَرْوَاح والأنفس ... بِالرُّمْحِ صَدَاقا) (وأروى من نجيع الْهَام ... أسيافا رقاقا) (تنقع الْأَعْدَاء فِي النَّقْع ... حميما وغساقا) (فَإِذا مَا دارت السّلم ... بِمَا نبغي وفَاقا)

(وأزحنا كل مَا كَانَ ... شقاقاً ونفاقا) (اصطبحناها سلافاً ... وشربناها اغتباقا) (وأدرنا الكاس بِالرَّاحِ ... على الشّرْب دهاقا) وَله أَيْضا من قصيدة أُخْرَى (إِنَّمَا الأبلق حصنى ... ثمَّ رمحى وحسامي) (فِيهِ عز لعشيري ... وَبِه عَنْهُم أحامي) (وَبِه أشفي من الْأَعْدَاء صَدْرِي بانتقام) (أَنا من سر نزار ... وَابْن سَادَات كرام) (أَنا من سعد تَمِيم ... لست من سعد حذام) (أَنا من قد جال ذكرى ... وَجرى بَين الْأَنَام) (باحتمالي كل ثقل ... فِي الملمات الْعِظَام) (وسدادى كل ثغر ... ثمَّ حزمي وقيامي) (أنجبتني السَّادة الصَّيْد ... همام لهمام) (سَالم قد كَانَ جدى ... ثمَّ سُفْيَان المحامي) (أركب الهول بكراتي ... على الْجَيْش اللهام) (أخطف الْأَرْوَاح كالصقر ... لأرواح الْحمام) (تعرف الأنسر بأسى ... فَهِيَ من فَوقِي حوام)

(ميزت فِي الْحَرْب راياتي ... وأرماحي الدوامى) (فَهِيَ حَولي عاكفات ... وَهِي خَلْفي وأمامي) (ترقب الطّعْم الَّذِي عوم ... دتها يَوْم صدامي) (أبدا تعرف مني ... هَكَذَا فِي كل عَام) (فَإِذا مَا آلت السّلم ... وصرنا للمدام) (أَبْصرت عَيْنَاك منا ... أنجماً تَحت الظلام) (يتلاقى ونبدى ... بتحيات السَّلَام) (وننيل الزائر الْمَعْرُوف ... من قبل الْكَلَام) وَمن رجال الأغالبة 70 - مجبر بن إِبْرَاهِيم بن سُفْيَان كَانَ من أهل الشّرف والثروة وولاه إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الأربس وَغَيرهَا وَكَانَ ينادمه لحذقه الْغناء ثمَّ أخرجه إِلَى صقلية وولاه الْعَسْكَر الَّذِي بمسيني وَأَرْض قلورية بعد وقْعَة ميلاص فَخرج فِي شينى يُرِيد قلورية فأسرته الرّوم وَحمل إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَمَاتَ بهَا وَهُوَ الْقَائِل فِي أسره من قصيدة طَوِيلَة بعث بهَا من محبسه عِنْد الرّوم وَرَوَاهَا فِي أَيَّام بنى الْأَغْلَب أَكثر النَّاس

(ألاليت شعري مَا الَّذِي فعل الدَّهْر ... بإخواننا يَا قيروان ياقصر) (وَنحن فَإنَّا طخطختنا رحى النَّوَى ... فَلم يجْتَمع شَمل لنا لَا وَلَا وفر) (رَأينَا وُجُوه الدَّهْر وَهِي عوابس ... بأعين خطب فِي ملاحظها شزر) وَآخر هَذِه القصيدة (لَعَلَّ الَّذِي نجى من الْجب يوسفاً ... وَفرج عَن أَيُّوب إِذْ مَسّه الضّر) (وخلص إِبْرَاهِيم من نَار قومه ... وَأَعْلَى عَصا مُوسَى فذل لَهُ السحر) (يصبر أهل الْأسر فِي طول أسرهم ... على معضلات الْأسر لَا سلم الْأسر) 71 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن حَمْزَة بن السبال بِالْبَاء بِوَاحِدَة وَاللَّام وَيعرف حَمْزَة بالحرون وَقد تقدم ذكره وَابْنه مُحَمَّد بن حَمْزَة هُوَ الَّذِي وَجهه زِيَادَة الله بن إِبْرَاهِيم للقبض على مَنْصُور الطنبذي بقصره بالمحمدية فكاده وَقتل مُحَمَّد هَذَا فِي وقْعَة سبيبة أَيَّام خلاف مَنْصُور والجند على زِيَادَة الله

وَكَانَ أَحْمد بن مُحَمَّد حاجباً لإِبْرَاهِيم بن أَحْمد ومقدماً عِنْده قد فوض إِلَيْهِ أُمُوره وَولى ابْن عَمه القيروان وَهُوَ من بَيت رئاسة وقيادة مَعَ علم وَاسع وأدب بارع وَمن شعره (لَيْسَ كل الَّذِي يدار علينا ... من أُمُور يُوَافق المقدورا) (قد قضى الله مَا لنا وعلينا ... قبل أَن يبرم الْعَدو الأمورا) 72 - الْحسن بن مَنْصُور بن نَافِع بن عبد الرَّحْمَن بن عَامر ابْن نَافِع بن محمية المسلى الْمذْحِجِي أَبُو عَليّ من بَيت قيادة وإمارة وَكَانَ جد أَبِيه عبد الرَّحْمَن بن عَامر وَابْن عَمه عَامر ابْن إِسْمَاعِيل بن عَامر بن نَافِع مِمَّن قدم مَعَ مُحَمَّد بن الْأَشْعَث الْخُزَاعِيّ من قواد العباسية وَخرج عَمه عَامر بن نَافِع على زِيَادَة الله بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب وَسَيَأْتِي ذكره وعامر بن إِسْمَاعِيل هُوَ الَّذِي قتل مَرْوَان الْجَعْدِي وَكَانَ مقدما عِنْد أبي الْعَبَّاس السفاح وَمن بعده لأجل ذَلِك وَكَانَ الْحسن بن مَنْصُور هَذَا يجمع إِلَى شرف آبَائِهِ وَأهل بَيته علما وَاسِعًا وأدباً كَامِلا وَأَقل مَا تصرف فِيهِ الشّعْر وَكَانَ بَصيرًا باللغة نَافِذا فِي النَّحْو عَالما بأيام الْعَرَب وأخبارها ووقائعها وَأَشْعَارهَا وَهُوَ الْقَائِل يرثى ابْن عَم لَهُ يكنى أَبَا الْفضل من قصيدة طَوِيلَة أَولهَا (حل أَمر لم يغن فِيهِ احتيال ... يقصر الْوَصْف دونه والمقال) (كَانَ من قبله الْبكاء حَرَامًا ... وَهُوَ من بعد للعيون حَلَال)

وَمِنْهَا (يَا أَبَا الْفضل حَملتنِي المنايا ... مِنْك مَالا تقوى عَلَيْهِ الْجمال) (وَكَأَنِّي لما تضمنك اللَّحْد ... يَمِين قد فارقتها الشمَال) وَله (يَا قاتلي ظلما ألم تخش مَا ... جَاءَ بِهِ التَّنْزِيل والآي) (وأيت بالوعد فَمَا ضركم ... لَو صدق الميعاد والواى) (نأيت عني فتبدلتني ... كَذَا لعمري يفعل الناي) (فَإِن يكن هجري من رَأْيكُمْ ... فَلَيْسَ لي فِي هجركم رأى) وَله يُخَاطب ابْن عَمه أَبَا الْعَرَب بن عَامر بن نَافِع (يَا من سما للمكرمات فحازها ... وغذا وَأصْبح للسماح مليكا) (إِن الْإِلَه بمنه وبفضله ... جمع المكارم والمفاخر فيكا) (أشبهت آبَاء كراماً سادة ... بيض الْوُجُوه معظمين ملوكاً) (وَجه إِلَيْنَا بالمسبح إِنَّنِي ... تفديك نَفسِي قد ضمنت الديكا) ولهذه الأبيات قصَّة ذكرهَا صَاحب الْكتاب المعرب عَن أَبنَاء الْمغرب

73 - عبد الله بن الصَّائِغ الْمَعْرُوف بِصَاحِب الْبَرِيد أحد وُلَاة زِيَادَة الله بن عبد الله آخر مُلُوك بنى الْأَغْلَب وَأَصْحَابه المخصوصين بلطف الْمنزلَة عِنْده وَتغَير عَلَيْهِ آخرا فَقتله بطرابلس عِنْد انْتِقَاض دولته وهربه إِلَى مصر أَمَام الشيعي فِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَقد تقدم من خَبره وَمن شعره مَا أغْنى عَن إِعَادَته وَهُوَ االقائل أَيْضا (رَأَيْت دجناً فَقلت الراح أشبه بِي ... فَقُمْ بِنَا أَيهَا المخمور نصطبح) (فَقَامَ يمسح وَجها كُله قمر ... وَقمت ألثمه من شدَّة الْفَرح) وَله (طالعتني طوالع الشوق لما ... أَن بدا الْبَدْر فِي مِثَال طلوعك) (يَا غزالاً أقسى من الصخر قلباً ... لَيْت قلبِي يبيت بَين ضلوعك) (أَنا أرْضى أَن أقبل نعليك ... على قبح مَا بدا من صنيعك) وَله (إِذا قلت زرني قَالَ قَالُوا وشنعوا ... ترى هَكَذَا من كَانَ فِينَا يصدق) (فيا كَبِدِي رقى على الكبد الَّتِي ... أَقَامَت على عهد الْهوى وَهِي تحرق) (كَأَنِّي إِذا مَا اللَّيْل أرْخى سدوله ... بقلبي إِلَى بعض النُّجُوم مُعَلّق)

أول مُلُوك الشِّيعَة االناجمين فِي آخر هَذِه الْمِائَة 74 - عبيد الله الملقب بالمهدي أَبُو مُحَمَّد قَالَ الرَّازِيّ اخْتلف النَّاس فِي نسب عبيد الله فَقَالَ قوم هُوَ عبيد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْبَصْرِيّ من مَدِينَة سلمية وَزعم هُوَ أَنه عبيد الله ابْن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ وَأخْبرنَا الثِّقَة عَن أبي الْقَاسِم أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الرسى الحسني انه قَالَ بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَا عبيد الله منا وَلَا أَقُول هَذَا لما فعل فقد فعل من لَا يشك فِي نسبه أَكثر من فعله وأشنع وَقَالَ أَبُو بكر بن الطّيب الباقلاني وَذكر عبيد الله وبنيه هم أدعياء إِذْ هم بَنو عبيد الله بن مَيْمُون القداح ادعوا إِلَى عَليّ بن أبي طَالب وَذكر لَهُم قصَّة طَوِيلَة وَأهل مصر يصححون نسبهم وَذكر ابْن أبي الطَّاهِر فِي أَخْبَار بَغْدَاد أَن اسْم الْخَارِج بالقيروان عبيد

الله بن عبد الله بن سَالم مولى مكرم بن سندان الْبَاهِلِيّ صَاحب شَرط زِيَاد الْمَنْسُوب إِلَيْهِ عَسْكَر مكرم فانتقل عبد الله بن سَالم إِلَى سلمية وَكَانَ وَكيلا للتجار وَقيل كَانَ يَبِيع الصفر ويتشيع فَلَمَّا خرج القرمطي بِالشَّام أضرّ بِهِ وطالبة فهرب إِلَى مصر ثمَّ إِلَى الْمغرب وَكَانَ يعرف بِابْن الْبَصْرِيّ قَالَ الرَّازِيّ وَدخل مَعَه يَعْنِي القيروان ابْنه مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي الْقَاسِم وَاخْتلفُوا فِي اسْمه وَنسبه فطائفة قَالَت عبد الرَّحْمَن ابْنه وَطَائِفَة قَالَت مُحَمَّد ربيبه وَيُقَال إِن عبيد الله من بني حسن بن عَليّ وَأَن أَبَا الْقَاسِم الْقَائِم بعده من بني الْحُسَيْن بن عَليّ إسماعيلي تزوج عبيد الله أمه وَهِي رُومِية تسمى لعب وَقيل فِي اسْم أبي الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد كَمَا تقدم وَقيل حسن ويكنى أَبَا جَعْفَر خرج بِهِ عبيد الله من الشَّام يتَصَدَّى للسُّلْطَان ويخاطر فِي طلب الْملك قَاصِدا الْمغرب وَعبيد الله إِذْ ذَاك شَاب عِنْد كَمَاله وَخرج مَعَه خاصته وثقات رِجَاله وَلما انْتهى إِلَى مصر أمل أَن يقْصد الْيمن ثمَّ كره ذَلِك فَخرج من مصر فِي زِيّ التُّجَّار وخلص من يَد عاملها فِي قصَّة طَوِيلَة وانْتهى إِلَى سجلماسة فدان لَهُ الْمغرب وَاجْتمعت عَلَيْهِ البربر وزحف داعيته أَبُو عبد الله الشيعي بهم إِلَى زِيَادَة الله الأغلبي فَكسر جَيْشه فِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ حَسْبَمَا ذكر قبل فهرب زِيَادَة الله إِلَى مصر وبويع لِعبيد الله بر قادة يَوْم الْجُمُعَة لتسْع بَقينَ من شهر ربيع الآخر سنة سبع وَتِسْعين وَكَانَ وُصُوله إِلَيْهَا يَوْم الْخَمِيس قبله ودعى لَهُ بِالْإِمَامَةِ وَفِي هَذِه السّنة انقرض ملك بني الْأَغْلَب بعد مائَة سنة واثنتي عشرَة سنة

وَملك بنى مدرار بسجلماسة بعد مائَة سنة وَسِتِّينَ سنة وَملك بني رستم بتاهرت عَن مائَة وَثَلَاثِينَ سنة وَكَثُرت السعايات بِأبي عبد الله الشيعي وَهُوَ الَّذِي مهد لملك عبيد الله وَشد سُلْطَانه مجالداً ومجادلاً فَقتله وأخاه أَبَا الْعَبَّاس يَوْم الثُّلَاثَاء مستهل ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَأمر بدفنهما فِي بُسْتَان الْقصر ثمَّ ابْتَدَأَ بِنَاء المهدية يَوْم السبت لخمس خلون من ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وثلثمائة وارتاد موَاضعهَا وَقصد التحصين بهَا على أهل بَيته لما كَانُوا يتحدثون بِهِ من ظُهُور أَبى يزِيد الْخَارِج عَلَيْهِم وعيثه فِي ملكهم فَكَانَ ذَلِك وَفِي بنائها يَقُول بعض شعراء إفريقية (خطت بأرجاء المغارب دَار ... دَانَتْ لَهَا الْأَمْصَار والأقطار) (لانت بِبرد المَاء لما أيقنت ... أَن الْقُلُوب على الْحُسَيْن حرار) وَكَانَ انْتِقَال عبيد الله إِلَيْهَا فِي شَوَّال سنة ثَمَان وثلاثمائة بعد أَن ملك إفريقية وأعمال الْمغرب وطرابلس وبرقة وصقلية وسير ولى عَهده أَبَا الْقَاسِم إِلَى مصر دفعتين الأولى فِي سنة إِحْدَى وثلاثمائة فَملك الْإسْكَنْدَريَّة والفيوم وجبى خراجهما وخراج بعض أَعمال الصَّعِيد وَعَاد إِلَى الْمغرب فِي سنة اثْنَتَيْنِ وثلاثمائة وَالثَّانيَِة سنة سِتّ وثلاثمائة فَملك الْإسْكَنْدَريَّة أَيْضا وَلم يزل سُلْطَانه يتمهد وظهوره يتزيد إِلَى أَن توفّي منتصف شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلاثمائة فَكَانَت ولَايَته مُنْذُ وصل إِلَى رقادة وبويع بهَا إِلَى يَوْم وَفَاته أَرْبعا وَعشْرين سنة وشهراً وَعشْرين يَوْمًا وَقيل كَانَت خِلَافَته من يَوْم ظُهُوره بسجلماسة فِي أول ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَتِسْعين

وَمِائَتَيْنِ وفيهَا سلم عَلَيْهِ بالخلافة إِلَى يَوْم وَفَاته بالمهدية خمْسا وَعشْرين سنة وَثَلَاثَة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سنة مولده سلمية وَقيل بِبَغْدَاد سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ومولد أبي الْقَاسِم ابْنه سنة تسع وَسبعين وَقيل سنة ثَمَانِينَ وَكَانَ مَعَ نجدته وشهامته مفوها فصيحا عَالما أدبيا قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ لما تغلب عبيد الله الشبعي كتب إِلَى أهل الْمغرب يَدعُوهُم إِلَى الدُّخُول فِي طَاعَته والتدبر بإمامته وَكتب بِمثل ذَلِك إِلَى سعيد بن صَالح وَكَانَ والياً على نكور وَمَا إِلَيْهَا من أَعمال الْمغرب لبنى مَرْوَان وَكتب فِي أَسْفَل كِتَابه أبياتا كَثِيرَة مِنْهَا

(فَإِن تستقيموا أستقم لصلاحكم ... وَإِن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا) (وأعلو بسيفي قاهراً لسيوفكم ... وأدخلها عفوا وأملؤها عدلا) قَالَ فَأَجَابَهُ رجل من شعراء الأندلس من أهل طليطلة يعرف بالأخمش أمره سعيد بن صَالح بذلك (كذبت وَبَيت الله لَا تحسن العدلا ... وَلَا علم الرَّحْمَن من قَوْلك الفصلا) (وَمَا أَنْت إِلَّا جَاهِل ومنافق ... تمثل للجهال فِي السّنة المثلى) (وهمتنا الْعليا لدين مُحَمَّد ... وَقد جعل الرَّحْمَن همتك السُّفْلى) وَكَانَ عبيد الله إِذا رأى ابْنه أَبَا الْقَاسِم وَنظر إِلَيْهِ فسربه يَقُول (مبارك الطلعة ميمونها ... يصلح للدنيا وللدين) 75 - أَبُو عبد الله الشيعي دَاعِيَة عبيد الله الْمهْدي كَانَ مَعَ قوده الجيوش وخوضه الحروب عَالما أديباً شَاعِرًا وَهُوَ الَّذِي حَارب جَيش زِيَادَة الله بن الْأَغْلَب وهزمه نَائِبا عَن عبيد الله وناصراً لمذهبه وداعياً إِلَى دَعوته وزحف إِلَى القيروان ونازلها ونها جُمْهُور أجناد إفريقية فَدَخلَهَا وَاسْتولى على رقادة دَار ملك الأغالبة حِينَئِذٍ وعَلى أَعمال إفريقية

وَقدم عبيد الله بعد ذَلِك من سجلماسة فبويع لَهُ وقوى أمره وَاشْتَدَّ سُلْطَانه وَلم يلبث أَن قَتله وأخاه أَبَا الْعَبَّاس وَكَانَ أكبر مِنْهُ كَمَا تقدم وصف ذَلِك تولى قَتلهمَا عرُوبَة الكتامي ثمَّ قتل عرُوبَة هَذَا منافقاً واستؤصل أهل بَيته فِي أَيَّام عبيد الله وَأَبُو عبد الله الشيعي هُوَ الْقَائِل بعد إِيقَاعه بِجَيْش بنى الْأَغْلَب (من كَانَ مغتبطاً بلين حشية ... فحشيتي وأريكتي سرجى) (من كَانَ يُعجبهُ ويبهجه ... نفر الدفوف وَرَنَّة الصنج) (فَإنَّا الَّذِي لَا شَيْء يُعجبنِي ... إِلَّا اقتحامي لجة الرهج) (سل عَن خميسي إِذْ طلعت بِهِ ... يَوْم الْخَمِيس ضحى على الْفَج) الْبَيْت الأول من هَذِه الْقطعَة كَقَوْل امرىء الْقَيْس (يَا رب غانيه صدمت حبالها ... ومشيت متئداً على رُسُلِي) وأبيات القصيدة كلهَا على خلاف ذَلِك وكقول الآخر وَيسْتَشْهد بِهِ العروضيون

(لمن الديار برامتين فعاقل ... درست وَغير آيها الْقطر) وَهِي من الضَّرْب الأمذ الْمُضمر من ضروب الْعرُوض الأول من أعاريض الْكَامِل وَعَكسه وَهُوَ من الشاذ (ولنعم حَشْو الدرْع أَنْت إِذا ... نهلت من العلق الرماح وعلت)

الْمِائَة الرَّابِعَة 76 - عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد النَّاصِر لدين الله أَبُو الْمطرف هُوَ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الحكم بن هِشَام بن عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان أعظم بني أُميَّة بالمغرب سُلْطَانا وأفخمهم فِي الْقَدِيم والْحَدِيث شانا وأطولهم فِي الْخلَافَة بل أطول مُلُوك الْإِسْلَام قبله مُدَّة وزماناً ولى بقرطبة يَوْم الْخَمِيس مستهل شهر ربيع الأول سنة ثَلَاثمِائَة عِنْد وَفَاة جده الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد وَتُوفِّي فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لليلتين خلتا من شهر رَمَضَان سنة خمسين وثلاثمائة فَكَانَت خِلَافَته خمسين سنة وَسِتَّة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام لم يبلغهَا خَليفَة قبله وقارب أَن يلْحق فِيهَا شأوه الْقَادِر بِاللَّه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن إِسْحَاق بن المقتدر الْمُجْتَمع عَلَيْهِ بالمشرق فِي آخر هَذِه الْمِائَة الرَّابِعَة فَإِنَّهُ بلغ فِي الْخلَافَة ثَلَاثًا وَأَرْبَعين سنة وَقيل أقل ثمَّ ابْنه الْقَائِم بِاللَّه أَبُو جَعْفَر عبد الله بن أَحْمد الْقَادِر بلغ فِي ولَايَته أَرْبعا وَأَرْبَعين سنة وَثَمَانِية أشهر وأياماً وَمن هَؤُلَاءِ العباسيين الْمُتَأَخِّرين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد النَّاصِر لدين الله بن المستضىء

بِاللَّه أَبى مُحَمَّد الْحسن بلغ فِي ولَايَته سبعا وَأَرْبَعين سنة وبويع لَهُ فِي ذِي الْقعدَة سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة وقرأت فِي كتاب أبي الْحُسَيْن بن أبي السرُور الروحي الإسكندري فِي أَخْبَار مُلُوك العبيدية أَن الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَبَا تَمِيم سعد بن عَليّ بن الظَّاهِر بن الْحَاكِم بلغ فِي ولَايَته بِمصْر سِتِّينَ سنة وأشهراً فأربى على هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاء وَتسَمى النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بأمير الْمُؤمنِينَ بعد سِنِين من خِلَافَته لما ضعف سُلْطَان العباسية بالمشرق وغلبت عَلَيْهِم الأتراك وَادعت الشِّيعَة مَا شَاءَت بإفريقية وساعدتهم عَلَيْهِ قبائل الْبر بر وَأصْبح النَّاس فِي الْآفَاق فوضى وَكَانَ من قبله من آبَائِهِ يدعونَ بالأمراء وَظهر لأوّل ولَايَته من يمن طَائِره وسعادة جده واتساع ملكه وَقُوَّة سُلْطَانه وإقبال دولته وخمود نَار الْفِتْنَة على اضطرامها بِكُل جِهَة

وانقياد العصاة لطاعته مَا تعجز عَن تصَوره الأوهام وتكل فِي تحبيره الأقلام وقيض لَهُ من ابْنه وَولى عَهده الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه الْمَدْعُو بأمير الْمُؤمنِينَ بعده من زَان ملكه وَزَاد فِي أبهته وَقَامَ بأَمْره أحسن قيام فكمل جَلَاله وَجل كَمَاله وَكَانَ النَّاصِر على عَلَاء جَانِبه واستيلاء هيبته يرتاح للشعر وينبسط إِلَى أَهله وَيُرَاجع من خاطبه بِهِ من خاصته قَالَ أَبُو عمر أَحْمد بن مُحَمَّد بن فرج صَاحب كتاب الحدائق حَدثنِي أَبُو بكر إِسْمَاعِيل بن بدر أَنه خَاطب أَمِير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر لدين الله عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد رَحمَه الله فِي غزَاة كَانَ آلى أَلا يأنس فِيهَا بمنادمة أحد حَتَّى يفْتَتح معقلاً فَافْتتحَ معقلاً بعد آخر وَتَمَادَى على عزمه فِي العزوف عَن المنادمة فَذكر أَنه كتب إِلَيْهِ (لقد حلت حميا الراح عِنْدِي ... وَطَابَتْ بعد فتحك معقلين) (وآذن كل هم بانفراج ... وَأَن يقْضِي غَرِيم كل دين) قَالَ فَلم يحركه مَا خاطبته بِهِ فعاودته بالمخاطبة فَقلت (يَا ملكا رَأْيه ضِيَاء ... فِي كل خطب ألم داج) (من لي بِيَوْم بِهِ فرَاغ ... لَيْسَ أَخُو حربه بناج)

(بِكُل بَيْضَاء من رَآهَا ... يحسبها شعلة السراج) (لَا تنس مَوْلَاك فِي وغاه ... واذكره فِي حومة الْهياج) فَذكر أَنه جاوبه بقوله (كَيفَ وأنى لمن يناجى ... من لوعة الْهم مَا أناجى) (يطْمع أَن يستريح وقتا ... أَو يقتل الراح بالمزاج) (لَو حمل الصخر بعض شجوى ... عَاد إِلَى رقة الزّجاج) (كنت لما قد علمت الهول ... إِذْ أَنا مِمَّا شَكَوْت نَاجٍ) (فصرت للبين فِي علاج ... طم وأربى على العلاج) (الْورْد مِمَّا يهيج حزنى ... وَيبْعَث السوسن اهتياجي) (أرى ليَالِي بعد حسن ... أقبح من أوجه سماج) (لَا ترج مِمَّا أردْت شَيْئا ... أَو يُؤذن الْهم بانفراج) 77 - ابْنه الحكم بن عبد الرَّحْمَن الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَبُو العَاصِي ولى بعده الْخلَافَة وَهُوَ ابْن سبع وَأَرْبَعين سنة وَقيل ابْن ثَمَان وَأَرْبَعين سنة وشهرين ويومين وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس لثلاث خلون من رَمَضَان سنة خمسين وثلاثمائة وَتُوفِّي لليلتين خلتا من صفر سنة سِتّ وَسِتِّينَ فَكَانَت خِلَافَته خمس عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام استغرقت خلَافَة أَبِيه الطَّوِيلَة عمره حَتَّى كَانَ يَقُول لَهُ فِيمَا يحْكى عَنهُ لقد طولنا عَلَيْك يَا أَبَا العاصى وَكَانَ حسن السِّيرَة فَاضلا عادلاً مشغوفاً بالعلوم حَرِيصًا على اقتناء دواوينها يبْعَث فِيهَا إِلَى الأقطار والبلدان ويبذل فِي أعلاقها ودفاترها أنفس

الْأَثْمَان ونفق ذَلِك لَدَيْهِ فَحملت من كل جِهَة إِلَيْهِ وَالْملك سوق مَا نفق فِيهَا جلب إِلَيْهَا حَتَّى غصت بهَا بيونه وَضَاقَتْ عَنْهَا خزائنه قَالَ ابْن حَيَّان عِنْد ذكر الحكم كَانَ من أهل الدّين وَالْعلم رَاغِبًا فِي جمع الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة من الْفِقْه والْحَدِيث وفنون الْعلم باحثاً عَن الْأَنْسَاب حَرِيصًا على تأليف قبائل الْعَرَب وإلحاق من درس نسبه أَو جَهله بقبيلته الَّتِي هُوَ مِنْهَا مستجلباً للْعُلَمَاء ورواة الحَدِيث من جَمِيع الْآفَاق يُشَاهد مجَالِس الْعلمَاء وَيسمع مِنْهُم ويروى عَنْهُم وَكَانَ أَخُوهُ عبد الله الْمَعْرُوف بِالْوَلَدِ على مثل هَذِه الْحَالة من الْمحبَّة فِي الْعلم وَالْعُلَمَاء وَالرِّوَايَة وَتُوفِّي فِي حَيَاة أَبِيه مقتولاً فتصيرت كتبه إِلَى أَخِيه الحكم وَلم يسمع فِي الْإِسْلَام بخليفة بلغ مبلغ الحكم فِي اقتناء الْكتب والدواوين وإيثارها والتهمم بهَا أَفَاء على الْعلم ونوه بأَهْله وَرغب النَّاس فِي طلبه ووصلت عطاياه وَصلَاته إِلَى فُقَهَاء الْأَمْصَار النائية عَنهُ وَمِنْهُم أَبُو إِسْحَاق مُحَمَّد ابْن الْقَاسِم بن شعْبَان بِمصْر وَأَبُو عمر مُحَمَّد بن يُوسُف بن يَعْقُوب الكندى وَغَيرهمَا جرى ذكر هَذَا فِي كتب تواريخهم وَبعث إِلَى أَبى الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ الْقرشِي المرواني ألف دِينَار عينا ذَهَبا وخاطبه يلْتَمس مِنْهُ نُسْخَة من كِتَابه الَّذِي أَلفه فِي الأغاني وَمَا لأحد مثله

وَوصل بذلك المَال رَحمَه إِذْ كَانَ قسيمه فِي المروانية وَمن ولد مَرْوَان بن مُحَمَّد آخر الْخُلَفَاء الأمويين بالمشرق فَأرْسل إِلَيْهِ مِنْهُ نُسْخَة حَسَنَة منقحة قبل أَن يظْهر الْكتاب لأهل الْعرَاق أَو ينسخه أحد مِنْهُم وَألف لَهُ أَيْضا أَنْسَاب قومه بني أُميَّة موشحة بمناقبهم وَأَسْمَاء رِجَالهمْ فَأحْسن فِيهِ جدا وخلد لَهُم مجداً وَأرْسل بِهِ إِلَى قرطبة وأنفذ مَعَه قصيدة حَسَنَة من شعره وَكَانَ محسناً يمدحه بهَا وَيذكر مجد قومه بني أُميَّة وفخرهم على سَائِر قُرَيْش فجدد لَهُ عَلَيْهِ الصِّلَة الجزيلة وَكَانَ لَهُ وراقون بأقطار الْبِلَاد ينتخبون لَهُ غرائب التواليف وَرِجَال يوجههم إِلَى الْآفَاق عَنْهَا وَمن وراقيه بِبَغْدَاد مُحَمَّد بن طرخان وَمن أهل الْمشرق والأندلس جمَاعَة وَكَانَ مَعَ هَذَا كثير التهمم بكتبه والتصحيح لَهَا والمطالعة لفوائدها وقلما تَجِد لَهُ كتابا كَانَ فِي خزانته إِلَّا وَله فِيهِ قِرَاءَة وَنظر من أَي فن كَانَ من فنون الْعلم يَقْرَؤُهُ وَيكْتب فِيهِ بِخَطِّهِ إِمَّا فِي أَوله أَو آخِره أَو فِي تضاعيفه نسب الْمُؤلف ومولده ووفاته والتعريف بِهِ وَيذكر أَنْسَاب الروَاة لَهُ وَيَأْتِي من ذَلِك بِغَرَائِب لَا تكَاد تُوجد إِلَّا عِنْده لِكَثْرَة مطالعته وعنايته بِهَذَا الْفَنّ وَكَانَ موثوقاً بِهِ مَأْمُونا عَلَيْهِ صَار كل مَا كتبه حجَّة عِنْد شيونج الأندلسيين وأئمتهم ينقلونه من خطه ويحاضرون بِهِ قلت وَقد اجْتمع لي من ذَلِك جُزْء مُفِيد مِمَّا وجد بِخَطِّهِ وَوجدت أَنه يشْتَمل على فَوَائِد جمة فِي أَنْوَاع شَتَّى قَالَ وَكَانَ قد قيد كثيرا من أَنْسَاب أهل بَلَده وكلف أهل كور الأندلس أَن يلْحقُوا كل عَرَبِيّ أخمل ذكره قبل ولَايَته وَأَن يصحح

نسبهم أهل الْمعرفَة بذلك ويؤلف من الْكتب وَيرد كل ذِي نسب إِلَى نسبه وَفرج ذَلِك بِالْعلمِ فتم لَهُ من ذَلِك مَا أَرَادَ ونفع الله بكرم قَصده الْبِلَاد والعباد وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي كتاب جمهرة الْأَنْسَاب من تأليفه وَذكر الحكم اتَّصَلت ولَايَته خَمْسَة عشر عَاما فِي هدوء وعلو وَكَانَ رَفِيقًا بالرعية محباً فِي الْعلم مَلأ الأندلس بِجَمِيعِ كتب الْعُلُوم وَأَخْبرنِي تليد الْفَتى وَكَانَ على خزانَة الْعُلُوم بقصر بني مَرْوَان بالأندلس أَن عدد الفهارس الَّتِي كَانَت فِيهَا تَسْمِيَة الْكتب أَربع وَأَرْبَعُونَ فهرسة فِي كل فهرسة خَمْسُونَ ورقة لَيْسَ فِيهَا إِلَّا ذكر أَسمَاء الدَّوَاوِين فَقَط قَالَ وَلم يعقب إِلَّا هشاماً الْوَالِي بعده وَقد انقرض وَلَا عقب لَهُ وَلَا لِأَبِيهِ وَذكر الْحميدِي فِي تَارِيخه أَن الحكم رام قطع الْخمر من الأندلس فَأمر بإراقتها وتشدد فِي ذَلِك وشاور فِي استئصال شَجَرَة الْعِنَب من جَمِيع أَعماله فَقيل إِنَّهُم يعملونها من التِّين وَغَيره فتوقف عَن ذَلِك وَمن شعره (عجبت وَقد ودعتها كَيفَ لم أمت ... وَكَيف انْثَنَتْ عِنْد الْفِرَاق يَدي معي) (فيا مقلتي العبري عَلَيْهَا اسكبي دَمًا ... وَيَا كَبِدِي الحرى عَلَيْهَا تقطعي)

قَالَ ابْن حَيَّان وعَلى إطباق أهل وقته فِي نزارة جنى أدبه فقد أَنْشدني الْفَقِيه أَبُو عَليّ الْحسن بن أَيُّوب الْحداد لَهُ بَيْتِي شعر ارتجلهما يَوْم ودعته حظيته أم هِشَام لما خرج لغزوته الفذة الْمَعْرُوفَة بشنت اشتبين فَأَكْثَرت من التَّعَلُّق بِهِ والوله لفراقه وَكَانَ شَدِيد الكلف بهَا وَذكر الْبَيْتَيْنِ قلت وَقد قَرَأت فِي مَا يرْوى لمهيار الديلمى (وَمن عجب أَنِّي أحن إِلَيْهِم ... وأسأل شوقاً عَنْهُم وهم معي) (وتبكى دَمًا عَيْني وهم فِي سوادها ... ويشكو الْهوى قلبِي وهم بَين أضلعي) (فيا مقلتي العبرى أفيضي عَلَيْهِم ... وَيَا كَبِدِي الحرى عَلَيْهِم تقطعي) فَلَا أَدْرِي أوافق الحكم فِي بَيته الْأَخير أم سَرقه وَغَيره كَمَا ترى وَقَالَ أَبُو الطَّاهِر مُحَمَّد بن يُوسُف التَّمِيمِي الْمَعْرُوف بالاشتركوني صَاحب

المقامات اللزومية فِي مَا جمع من شعر أبي بكر بن عمار وَزِير بني عباد وَمِمَّا ينْسب إِلَيْهِ وَذكر الْبَيْتَيْنِ (وَمن عجبني أَنِّي أحن إِلَيْهِم ... ) وَالَّذِي بعده لم يزدْ عَلَيْهِمَا وقرأت فِي كتاب الحدائق لِابْنِ فرج قَوْله بعد إِيرَاده جملَة من أشعار الْخُلَفَاء االأموية وهم يجلون عَن الشّعْر أقدارهم كَمَا يرتفعون عَن أَن يرْوى عَنْهُم أَو يُؤْخَذ من أَقْوَالهم وَإِنَّمَا ينبسطون بِهِ فِي سرائرهم فَلَيْسَ يظْهر عَلَيْهِم مِنْهُ إِلَّا الشاذ الْقَلِيل وَلَعَلَّ مَا سقط عَنَّا أفضل مِمَّا سقط إِلَيْنَا فَأَما أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَطَالَ الله بَقَاءَهُ فَهُوَ فرق أَن يعلن بِهِ أَو ينشر اسْمه عَلَيْهِ وَلَعَلَّ لَهُ مِنْهُ مَا لَا نعرفه فَأَما الأدوات الَّتِي يُقَال بهَا بل الَّتِي يحْتَاج كل علم إِلَيْهَا فَهِيَ مَعَه بأزيد مِمَّا كَانَت لأحد قبله أَو تكون لأحد بعده وَهَذَا الَّذِي قَالَ غير مُسلم لَهُ وَلَا مَقْبُول مِنْهُ بل إكثار الْمُلُوك من الشّعْر دَال على قُوَّة عارضتهم وسعة ذرعهم وحاكم بمعانة مادتهم وَتمكن تصرفهم وَلَوْلَا ذَلِك لما فضل ابْن المعتز أهل بَيته بالإبداع فِي أَنْوَاع القريض وَكَذَلِكَ تَمِيم بن الْمعز المتقيل أَثَره فِي الْإِكْثَار والإتيان بِمَا قيد وخلد من بَدَائِع الْأَشْعَار وَلَا أبلغ من الِاحْتِجَاج وأقطع للخصم المتناهى اللجاج مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ مَوْلَانَا من تحبير الغرائب وتسيير الْكَلم الغر أثْنَاء الْمَشَارِق والمغارب وهوالبرهان على رحب المجال وَتَحْصِيل أَسبَاب الْفضل وأشتات الْكَمَال لَا زَالَ سلطنه يبخع لَهُ بِالطَّاعَةِ ويدان وزمانه يشرق بمحاسنه الباهرة ويزدان

78 - عبد الله بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر أَبُو مُحَمَّد قَتله أَبوهُ عبد الرَّحْمَن لمنافسته أَخَاهُ الحكم ولى عَهده وَكَانَ من نجباء أَوْلَاد الْخُلَفَاء محبا فِي الْعلم وَالْعُلَمَاء سمع من جملَة مِنْهُم وَحدث فِي اللف عَنْهُم وَله تواليف تدل على علمه وفهمه وَتشهد بشرف ذَاته وَكَمَال أدواته مِنْهَا كتاب العليل والقتيل فِي أَخْبَار ولد الْعَبَّاس انْتهى بِهِ إِلَى خلَافَة الراضي ابْن المقتدر وَمِنْهَا المسكتة فِي فَضَائِل بقى بن مخلد قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم كَانَ فَقِيها شافعياً شَاعِرًا أخبارياً متنسكاً وَمن شعره (أما فُؤَادِي فكاتم ألمه ... لَو لم يبح ناظري بِمَا كتمه) (مَا أوضح السقم فِي ملاحظ من ... يهوى وَإِن كَانَ كَاتِما سقمه) (ظللت أبكى وظل يعذلني ... من لم يُقَاس الْهوى وَلَا علمه) (إِلَيْك عَن عاشق بَكَى أسفا ... حَبِيبه فِي الْهوى وَإِن ظلمه) (ظلت جيوش الأسى تُقَاتِلهُ ... مذ نذرت أعين الملاح دَمه) وَحكى أَبُو عمر بن عفيف فِي تَارِيخه الَّذِي هذبه ابْن حَيَّان وانتخبه قَالَ وَكَانَ الْأَمِير الحكم بن النَّاصِر لدين الله ولى عهد الْمُسلمين وَأَخُوهُ عبد الله هَذَا يتباريان فِي طلب الْعلم ويتناغيان فِي جمعه ويتبادران إِلَى اصطناع أَهله واختصاص رِجَاله وإدناء مَنَازِلهمْ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم فَكَانَ ابْن عبد الْبر

يَعْنِي أَحْمد بن مُحَمَّد صَاحب التَّارِيخ مِمَّن تميز فِي حزب عبد الله واختص بِهِ حَتَّى لَا يكَاد يُفَارِقهُ فسعي إِلَى ب الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله بِابْنِهِ عبد الله هَذَا وَرفع عَلَيْهِ أَنه يُرِيد خلعة وَيَدْعُو إِلَى الْقيام مَعَه وَأَن جماعات من طَبَقَات النَّاس دخلُوا فِي ذَلِك مَعَه وَأَنَّهُمْ على أَن يثوروا بِهِ فِي يَوْم عبد قد اقْترب إِلَيْهِ فَأرْسل النَّاصِر فِي اللَّيْل بِمن قبض على وَلَده عبد الله وحبسه فَألْقى عِنْده فِي تِلْكَ اللَّيْلَة هَذَا الْفَقِيه أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْبر وفقيهاً آخر من أَصْحَابه يعرف بِصَاحِب الوردة وَهُوَ أَحْمد بن عبد الله بن الْعَطَّار كَانَا بائنين عِنْده فأخذا وحملا إِلَى الزهراء حَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر بِأَسْفَل قرطبة فَأمر بسجنهما وَعرف الوزراء بِخَبَر وَلَده عبد الله وكشف لَهُم عَظِيم مَا أَرَادَ أَن يحدثه عَلَيْهِ وعَلى الْمُسلمين فِيهِ وتبرأ مِنْهُ وأعلمهم بمسارعته إِلَى الْقَبْض عَلَيْهِ ووجدان رسله هذَيْن الفقيهين النطفين بائتين عِنْده وَقَالَ لَهُم مَا أعجب إِلَّا من مَكَان ابْن الْعَطَّار عِنْده مَا الَّذِي أدخلهُ فِي هَذَا مَعَ غباوته وَقلة شَره وَأما ابْن عبد الْبر فَأَنا أعلم أَنه

الَّذِي زين لهَذَا الْعَاق ذَلِك ليَكُون قَاضِي الْجَمَاعَة ويأبى الله ذَلِك فهنأوه بالسلامة ودعوا الله لَهُ وعزم النَّاصِر على أَن يُعَاقب ابْن عبد الْبر يَوْم الْعِيد عيد الْأَضْحَى الَّذِي كَانَ التَّدْبِير عَلَيْهِ فِيهِ فَأصْبح ابْن عبد الْبر يَوْم الْعِيد نَفسه مَيتا فِي السجْن وَأسلم إِلَى أَهله فَدفن بمقبرة الربض وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة 79 - عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر أَبُو الْأَصْبَغ كَانَ أديباً شَاعِرًا ظَهرت مِنْهُ نجابة فِي صغره وَحكى أَن أول لوح كتبه عِنْد دُخُوله الْكتاب بعث بِهِ إِلَى أَخِيه الحكم الْمُسْتَنْصر وَكتب إِلَيْهِ من شعره (هاك يَا مولَايَ خطا ... مطه فِي اللَّوْح مطا) (ابْن سبع فِي سنيه ... لم يطق للوح ضبطا) (دمت يَا مولَايَ حَتَّى ... يُولد ابْن ابْنك سبطا) 80 - مُحَمَّد بن عبد الْملك بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر هُوَ وَالِد الخليفتين فِي الْفِتْنَة أَبى الْمطرف عبد الرَّحْمَن الملقب بالمرتضى

وأبى بكر هِشَام الملقب بالمعتد آخر خلفاء بني أُميَّة بالأندلس على رحيله انقرضوا فَلم يعد ملكهم إِلَى الْيَوْم ولى فِي شهر ربيع الأول سنة ثَمَان عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ أسن من أَخِيه المرتضى بأَرْبعَة أَعْوَام مولده فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَأقَام فِي خِلَافَته متردداً بالثغور ثَلَاثَة أَعْوَام إِلَّا شَهْرَيْن وَدخل قرطبة يَوْم منى ثامن ذِي الْحجَّة سنة عشْرين لم يبْق إِلَّا يَسِيرا حَتَّى قَامَت عَلَيْهِ فرقة من الْجند فَخلع وانقطعت الدعْوَة الأموية من يَوْمئِذٍ وَاسْتولى على قرطبة أَبُو الحزم جهور بن مُحَمَّد بن جهور الْوَزير ثمَّ ابْنه أَبُو الْوَلِيد مُحَمَّد بن جهور وَمن شعر مُحَمَّد بن عبد الْملك قَوْله يفتخر (أَلسنا بنى مَرْوَان كَيفَ تبدلت ... بِنَا الْحَال أَو دارت علينا الدَّوَائِر) (إِذا ولد الْمَوْلُود منا تهللت ... لَهُ الأَرْض واهتزت إِلَيْهِ المنائر) وَقد أنْشد أَبُو مَنْصُور الثعالبي فِي الْيَتِيمَة من تأليفه هَذَا الشّعْر وَنسبه إِلَى الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه وَزعم أَن ذَلِك من قصيدة كتب بهَا إِلَى صَاحب مصر

يفتخر وَهَذَا من أغلاط أبي مَنْصُور وأوهامه الْفَاحِشَة حكى لبعد مَكَانَهُ مَا لم يُحَقّق وروى عَمَّن لَا علم لَهُ بِشَأْنِهِ مَا لم يضْبط وَمثل هَذَا النّظم الْفَائِق لم يكن ليغيب عَن ابْن فرج صَاحب كتاب الحدائق وَلم يكن ليغيب أَيْضا عَن أبي مَرْوَان بن حَيَّان جُهَيْنَة أَخْبَار المروانية ومؤرخ آثارها السُّلْطَانِيَّة فَكيف يَصح ذَلِك وَالْأول مِنْهُمَا كَمَا تقدم ينفى عَنهُ الشّعْر وَالْآخر يثبت لَهُ مِنْهُ النزر على أَن مُحَمَّدًا هَذَا الْمَنْسُوب إِلَيْهِ لَيْسَ فِي أدباء أهل بَيته بِمَشْهُور وعَلى كل حَال فَلَا معنى للفظ أَبى مَنْصُور 81 - عبد الْعَزِيز بن الْمُنْذر بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر وَيعرف بِابْن القرشية كَانَ من ذَوي الْقعدَة فِي بنى مَرْوَان وَأَبوهُ أَبُو الحكم الْمُنْذر هُوَ الَّذِي اشتهرت مَعْرفَته ب ابْن القرشية لِأَن أمه فَاطِمَة بنت الْأَمِير أَبى الحكم الْمُنْذر بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن حظيت بِنِكَاح النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وَولدت لَهُ ابْنه الْمُنْذر فَسَمتْهُ باسم أَبِيهَا فولد عبد الْعَزِيز هَذَا وَكَانَ لَهُ حَظّ وافر من الْأَدَب وَحسن الشّعْر ذكره أَبُو الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بحبيب العامري فِي كِتَابه البديع فِي فصل الرّبيع وَأنْشد لَهُ فِي البهار قَالَ وَهُوَ من التشبيهات العقم

(كَأَن الثرى ستر تمد خلاله ... بأكؤس رَاح راحهن الكواعب) (يسترن من فرط الْحيَاء معاصماً ... بأكمامهن الْخضر عَمَّن يراقب) وَأنْشد لأبي عمر يُوسُف بن هَارُون الرمادى من قصيدة أمأى فِيهَا يمدح ابْن القرشية هَذَا ويصف أزهار الرّبيع (تَأمل بإثر الْغَيْم من زهرَة الثرى ... حَيَاة عُيُون متن قبل التنعم) (كَأَن الرّبيع الطلق أقبل مهدياً ... بطلعة معشوق إِلَى عين مغرم) (تعجبت من غوص الحيا فِي حَشا الثرى ... فأفشى الَّذِي فِيهِ وَلم يتَكَلَّم) (كَأَن الَّذِي يسقى الثرى صرف قهوة ... تنم عَلَيْهِ بالضمير المكتم) (أرى حسنا فِي صفحة قد تَغَيَّرت ... كبشر بدا فِي الْوَجْه بعد التجهم) (أَلا يَا سَمَاء الأَرْض أَعْطَيْت بهجة ... تطالعنا مِنْهَا بِوَجْه مقسم)

(وَإِن قَالَت الأَرْض الْمُنعم روضها ... لي الْفضل فِي فخرى عَلَيْك فسلمى) (فخضرة مَا فِيهَا تفوقك خضرَة ... ونوارها فِيهَا ثواقب أنجم) (وَإِن جِئْتهَا بالشمس والبدر والحيا ... مفاخرة جَاءَت بأسنى وَأكْرم) (بِعَبْد الْعَزِيز ابْن الخلائف وَالَّذِي ... جَمِيع الْمَعَالِي تنتمي حَيْثُ ينتمى) 82 - مُحَمَّد بن الْأَمِير الْمُنْذر بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن الحكم بن هِشَام أَبُو عبد الله كَانَ من أكمل رجال الْبَيْت الأموى خلقا وعقلاً وأدباً تَاما وحظاً من الشّعْر الْجيد وَكَانَت أُخْته لِأَبِيهِ فَاطِمَة عِنْد النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد فحظى بمصاهرته واعتبط فِي خلَافَة النَّاصِر فتوفى لِلنِّصْفِ من ذِي الْقعدَة سنة سِتّ عشرَة وثلاثمائة وَهُوَ الْقَائِل (بنفسي وَأَهلي من بذلت لَهُ ودي ... وملكته رقى على الْقرب والبعد) (وأبغضت فِيهِ كل خذن مناجخ ... وأبديت للعذال فِي عشقه صدى) (وَلم أنصرف فِيهِ إِلَى قَول كاشح ... وأصررت فِي حبيه إِصْرَار ذِي الحقد)

(سقاني بِعَيْنيهِ الْهوى وبكفه ... سلافاً وحياني بهَا نَاقض الْعَهْد) وَله (طَال اشتياق إِلَى من كنت آلفه ... فالعين بالدمع مَا تنفك تذرفه) (اعتضت من قرب من أَهْوى زيارته ... من كنت أكرهه جهدي وأقذفه) (وَصَارَ من كنت أشناه وأبعده ... مَكَان من كنت أهواه وألطفه) (فَالنَّفْس فِي قلق وَالْعين فِي أرق ... وَالْقلب فِي حرق مِمَّا يخلفه) (من رام صرف محب عَن أحبته ... فَإِن قلبِي مِمَّا لست أصرفه) 83 - الحكم بن أَحْمد ابْن الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن الحكم بن هِشَام كَانَ من نبهاء قومه المروانيين بقرطبة وَكَانَ لَهُ طبع معِين فِي قرض الشّعْر وَهُوَ الْقَائِل فِي ابْن مَاتَ لَهُ أنْشدهُ ابْن حَيَّان (عينى تجود بمسكوب ومهراق ... فَالْحَمْد لله مَا للْمَوْت من بَاقٍ) (وَكَيف أبقى بِلَا نور بِلَا بصر ... أم كَيفَ ينْبت لحم زَالَ عَن سَاق) (لَا يبعدنك بنى الله إِنَّك قد ... لاقيت مَا كل من فِي ظهرهَا لَاق)

84 - عمر بن أَحْمد ابْن الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن أَخُو الحكم الْمَذْكُور كَانَ من أهل الْأَدَب وَالشعر وَهُوَ الْقَائِل يرثى أَبَاهُ وَتُوفِّي والناصر غَائِب فِي غزاته سنة خمس عشرَة وثلاثمائة (لفقدك تنهل الْعُيُون وتدمع ... وتنهد أَرْكَان الْمَعَالِي وتخشع) (ويعول من قد كَانَ بالْأَمْس ضَاحِكا ... لِغَفْلَتِه فِي ظلّ نعماك يرتع) (أَلا أَيهَا الْقَبْر الَّذِي ضم جِسْمه ... سقاك من الأنواء هتان ممرع) (ولقى كَرِيمًا فِيك روحاً وَرَحْمَة ... مليك إِذا مَا شَاءَ يعْطى وَيمْنَع) (وَكَانَت لَهُ كف يفِيض نوالها ... مدى الدَّهْر عَن تسكابها لَيْسَ تقلع) (وَكَانَت لَهُ جفن تجافى عَن الْكرَى ... وَنَفس تناجى الله وَالنَّاس هجع) (وَصَوْم وتسبيح وَذكر وخشية ... وَطول صَلَاة أجرهَا لَا يضيع) (بكيتك إشفاقاً عَلَيْك وحسرة ... لَعَلَّ البكا من شدَّة الوجد ينفع) (فلست لشَيْء بعد فقدك فارحاً ... وَلَا لمصاب بعد فقدك أجزع) (عَلَيْك سَلام الله من ذِي مُصِيبَة ... لَهُ مهجة نَحْو المنايا تطلع)

85 - عبد الله بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز ابْن أُميَّة بن الحكم الربضى أَبُو بكر الملقب بِالْحجرِ وَيُقَال لَهُ البطر شكّ بالعجمية وَمَعْنَاهُ الْحجر الْيَابِس

أمره هِشَام الْمُؤَيد فِي بعض الْأَوْقَات وسد بِهِ الثغر وفوض إِلَيْهِ أَمر طليطلة وقلده إِيَّاهَا مَعَ خطة الوزارة فاستقل بمقاومة غَالب أَيَّام فتلته حَتَّى دَعَاهُ إِلَى الْقيام بالخلافة وَكَانَ على مُقَدّمَة الْمَنْصُور بن أبي عَامر فِي غزاته إِلَى جليقية بعد مُنْصَرفه من مقتل غَالب بالثغر فِي أول الْمحرم سنة إِحْدَى وَسبعين وثلاثمائة وَمَعَهُ خيل طليطلة وطبقات الأجناد وَجَمِيع الرجل وفيهَا حصر سمورة وامتنعت عَلَيْهِ قصبتها وَعم بالتدمير كثيرا من نَوَاحِيهَا وَمِنْهَا جِهَة دمر فِيهَا نَحْو ألف قَرْيَة مَعْرُوفَة الْأَسْمَاء كَثِيرَة البيع والديارات وَوصل قرطبة وَمَعَهُ أَرْبَعَة آلَاف سبية وَقد حز قَرِيبا مِنْهَا من رُؤُوس الْكَفَرَة

وَكَانَ عبد الله هَذَا أحد رجالات المروانية عقلا وشهامة وأدباً وغزارة علم وإمتاع حَدِيث وَطيب مجالسة وَمن شعره قَالَ الْحميدِي فِي تَارِيخه أَنْشدني عَنهُ أَبُو عبد الله بن الْمعلم الطليطلي قَالَ أَنْشدني لنَفسِهِ (اجْعَل لنا مِنْك حظاً أَيهَا الْقَمَر ... فَإِنَّمَا حظنا من وَجهك النّظر) (رآك نَاس فَقَالُوا إِن ذَا قمر ... فَقلت كفوا فعندي مِنْهُمَا خبر) (الْبَدْر لَيْلَة نصف الشَّهْر بهجته ... حَتَّى الصَّباح وَهَذَا دهره قمر) (وَالله مَا طلعت شمس وَلَا غربت ... إِلَّا وَجَاءَت إِلَيْك الشَّمْس تعتذر) وَأنْشد لَهُ ابْن أبي الْفَيَّاض فِي تَارِيخه (وَمن لَا أُسَمِّيهِ مَخَافَة عتبَة ... على أَن قلبِي مستهام بحبه) (وَبَعض أُسَمِّهِ حاء وبا ... حُرُوف طواها) (عَلَيْهِ سَلام الله منى مردداً ... سَلام محب جاد فِيهِ بِقَلْبِه) وَله (يَا ظَالِما ظن قَتْلَى فِي الْهوى حسنا ... كن كَيفَ شِئْت فظنى فِيك قد حسنا) (طويت حبك حَتَّى ظلّ ينشره ... دمع جرى فغدا سرى بِهِ علنا) (أفديك من سَاكن فِي الْقلب مَسْكَنه ... وغائب لم تزل نَفسِي لَهُ وطنا) (يَا قُرَّة الْعين قد عذبتها سهراً ... ومنية النَّفس قد قطعتها شجنا)

(مَا بَال قَلْبك يشكو فرط قسوته ... قلب قاسي عَلَيْك البث والحزنا) (أما هَوَاك فَإِنِّي لست ساليه ... وَمن يمت كمداً فِيهِ فَذَاك أَنا) وَأنْشد لَهُ ابْن فرج فِي الحدائق (سقيا لَهُم من ظاعنين حسبتهم ... وسط الهوادج لؤلؤاً مكنونا) (لَو كنت أنصفهم عَشِيَّة ودعوا ... مَا عِشْت بعد نوى الْأَحِبَّة حبنا) (أَغْصَان بَان فَوق كُثْبَان النقا ... فَإِذا لحظنك خلتهن العينا) (أجْرى الزَّمَان ببينهن مدامعاً ... مَا كن من قبل الْهوى يجرينا) وَله مَعَ رِسَالَة حِين ظفر بِهِ الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر فِي شَوَّال سنة خمس وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَكَانَ قد هرب أَمَامه إِلَى بلد الرّوم فسجنه بالمطبق بعد أَن طيف بِهِ على جمل وَهُوَ مُقَيّد (فَرَرْت فَلم يغن الْفِرَار وَمن يكن ... مَعَ الله لَا يعجزه فِي الأَرْض هارب) (وَوَاللَّه مَا كَانَ الْفِرَار لحالة ... سوى حذر الْمَوْت الَّذِي أَنا رَاهِب) (وَلَو أنني ومقت للرشد لم يكن ... وَلَكِن أَمر الله لَا بُد غَالب) (وَقد قادني جراً إِلَيْك برمتي ... كَمَا اجتر مَيتا فِي رحى الْحَرْب سالب)

(وَأجْمع كل النَّاس أَنَّك قاتلي ... وربت ظن ربه فِيهِ كَاذِب) (وَمَا هُوَ إِلَّا الانتقام فتشتفى ... وتركك مِنْهُ وَاجِبا لَك وَاجِب) (وَإِلَّا فعفو يرتضى الله فعله ... ويجزيك مِنْهُ فَوق مَا أَنْت طَالب) (وَلَا نفس إِلَّا دون نَفسك فَلْيَكُن ... على قدرهَا قدر الَّذِي أَنْت واهب) (فَمَا خَابَ من جدواك مذ كنت سَائل ... وَلَا رد دون المبتغى عَنْك رَاغِب) (وَقد منحت كَفاك مَا يعجز الورى ... وعمت عُمُوم الْغَيْث مِنْك الْمَوَاهِب) (وَإِن حم تَأْخِير لنَفْسي فَلْيَكُن ... لمتلفها من حَاجِب الْملك حَاجِب) (فَمَا زَالَ سباقاً إِلَى كل خصْلَة ... يسير بهَا فِي الأَرْض ماش وراكب) (فَلَا أَنْفك لي مولى ألوذ بعزة ... فَيصْرف عني الْخطب والدهر عَاتب) وَله أَيْضا يستشفع بالمظفر عبد الْملك إِلَى أَبِيه الْمَنْصُور (أَلا أَيهَا الْحَاجِب المرتجى ... وَأكْرم من كَانَ أَو من يكون) (دعوتك دَعْوَة مستصرخ ... أحاطت بِهِ واثخنته الْمنون) (فَإِن لم تغثنى فَمن ذَا الَّذِي ... يلوذ بِهِ الْخَائِف المستكين) (جمعت التقى والعلى والذهى ... فَمَال مذال وَعرض مصون) (وتفريج غماء عَن حائن ... يعود بك الْحَيّ وَهُوَ الدفين) (فَقل لي لعا من عثار لَهُ ... أناديك وَالْمَوْت لي مستبين) (وَإِن جلّ ذَنبي فَأَنت الْجَلِيل ... وَهل لَك فِيمَن عَلَيْهَا قرين) وَمن خَبره أَنه أَقَامَ مسجوناً إِلَى أَن مَاتَ الْمَنْصُور وَولى ابْنه المظفر عبد الْملك حجابة هِشَام فَأَطْلقهُ واستحله لِأَبِيهِ وخلع عَلَيْهِ وولاه الوزارة وَخص

بِهِ فَلم تطل حَيَاته وَتُوفِّي غازياً مَعَ عبد الْملك غزاته الأولى سنة ثَلَاث وَتِسْعين بِمَدِينَة لاردة وقبره بمسجدها وَكَانَ جلدا فِي محنته كثير الدُّعَاء والضراعة قد رزق من النَّاس رَحْمَة وَلما أسلمه برمند ملك الجلالقة مُضْطَرّا إِلَى ثِقَات الْمَنْصُور وطيف بِهِ كَانَ قدامه من يُنَادي هَذَا عبد الله بن عبد الْعَزِيز المفارق لجَماعَة الْمُسلمين النازع إِلَى عدوهم الْمظَاهر لَهُ عَلَيْهِم فَكَانَ هُوَ يرد عَلَيْهِ وَيَقُول كذبت بل نفس خَافت ففرت تبغى الْأَمْن من غير شرك وَلَا ردة وَلم يعرض الْمَنْصُور لمنازله وضياعه أطلقها لِبَنِيهِ مُدَّة اعتقاله 86 - مَرْوَان بن عبد الرَّحْمَن بن مَرْوَان بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر أَبُو عبد الْملك هُوَ الطليق وَقيل لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ سجن فِي أَيَّام الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر مُدَّة طَوِيلَة ثمَّ أطلق بعد ذَلِك فَسمى الطليق وَكَانَ فِيمَا قيل يهوى جَارِيَة رباها أَبوهُ مَعَه وَذكرهَا لَهُ ثمَّ إِنَّه اسْتَأْثر بهَا

فاشتدت غيرَة مَرْوَان لذَلِك وانتضى سَيْفا وانتهز فرْصَة فِي بعض خلوات أَبِيه مَعهَا فَقتله وعثر على الْقِصَّة فسجن وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة وَمكث فِي السجْن سِتَّة عشرَة سنة وعاش بعد إِطْلَاقه سِتّ عشرَة سنة وَهَذَا من نَادِر الِاتِّفَاق وَمَات قَرِيبا من سنة أَرْبَعمِائَة وَكَانَ أديباً شَاعِرًا مكثراً وَأكْثر شعره فِي السجْن وَإِنَّمَا ذكرته وَلَيْسَ من شرطى فِي الْإِتْيَان بالأمراء والمتأمرين وَمن قرب إِلَيْهِم دون من بعد من الْبَنِينَ لقَوْل أَبى مُحَمَّد بن حزم أَبُو عبد الْملك هَذَا فِي بني أُميَّة كَابْن المعتز فِي بني الْعَبَّاس ملاحة شعر وَحسن تَشْبِيه فَحَذفهُ من هَذَا الْمَجْمُوع هُوَ الْمُعْتَرض عَلَيْهِ حَقِيقَة لَا إثْبَاته واجتلاب محاسنه وَالْخَطَأ مَعَ الِاجْتِهَاد مَعْفُو عَنهُ ولعلى قد أتيت فِي مَا أثبت بِمَا هُوَ قريب مِنْهُ وَمن شعر الطليق فِي معتقله (أَلا إِن دهراً هادماً كل مَا نَبْنِي ... سيبلى كَمَا يبْلى ويفنى كَمَا يفنى) (وَمَا الْفَوْز فِي الدُّنْيَا هُوَ الْفَوْز إِنَّمَا ... يفور الْفَتى بِالرِّبْحِ فِيهَا مَعَ الْغبن) (يجازى ببؤس عَن لذيذ نعيمها ... ويجنى الردى مِمَّا غَدَتْ كَفه تجنى) (وَلَا شكّ أَن الْحزن يجرى لغاية ... وَلَكِن نفس الْمَرْء سَيِّئَة الظَّن) وَله يصف السجْن (فِي منزل كالليل أسود فَاحم ... داجى النواحي مظلم الأثباج)

(يسود والزهراء تشرق حوله ... كالحبر أودع فِي دَوَاة العاج) وَله فِي النسيب (أَقُول ودمعي يستهل ويسفح ... وَقد هاج فِي الصَّدْر الغليل المبرح) (دَعونِي من الصَّبْر الْجَمِيل فإنني ... رَأَيْت جميل الصَّبْر فِي الْحبّ يقبح) (لقد هيج الْأَضْحَى لنَفْسي جوى أسى ... كريه المنايا مِنْهُ للنَّفس أروح) (كَأَن بعيني حلق كل ذَبِيحَة ... بِهِ وبصدري قَلبهَا حِين تذبح) (فيا لَيْت شعري هَل لمولاي عطفه ... يداوي بهَا مني فؤاد مجرح) (يحن إِلَى الْبَدْر الَّذِي فَوق خَدّه ... مَكَان سَواد الْبَدْر ورد مفتح) (تقنع بدر التم عِنْد طلوعه ... مَخَافَة أَن يسرى إِلَيْهِ فيفضح) (فَقلت لَهُ يَا بدر أَسْفر فقد غَدا ... عَلَيْهِ رَقِيب للعدا لَيْسَ يبرح) (لعمري لذاك الْبَدْر أجمل منْظرًا ... وَأحسن من بدر التَّمام وأملح) وَله من قصيدة فريدة أَولهَا (غُصْن يَهْتَز فِي دعص نقي ... يجتنى مِنْهُ فُؤَادِي حرقا) (باسم عَن عقد در خلته ... سلبته لثتاه العنقا) (سَالَ لَام الصدغ فِي صفحته ... سيلان التبر وافى الورقا) (فتناهى الْحسن فِيهِ إِنَّمَا ... يحسن الْغُصْن إِذا مَا أورقا) (رق مِنْهُ الخصر حَتَّى خلته ... من نحول شفه قد عشقا) (وَكَأن الردف قد تيمه ... فغدا فِيهِ معنى قلقاً) (ناحلا جاور مِنْهُ نَاعِمًا ... كحبيبي ظلّ لي معتنقاً) (عجبا إِذْ أشبهانا كَيفَ لم ... يحدثا هجراً وَلم يفترقا)

وَمِنْهَا يصف الْخمر (رب كأس قد كست جنح الدجى ... ثوب نور من سناها أشرقا) (بت أسقيها رشاً فِي طرفه ... سنة تورث عَيْني أرقا) (خفيت للعين حَتَّى خلتها ... تتقى من لحظه مَا يتقى) (أشرقت فِي ناصع من كَفه ... كشعاع الشَّمْس لَاقَى الفلقا) (وَكَأن الكأس فِي أنمله ... صفرَة النرجس تعلو الورقا) (أَصبَحت شمساً وفوه مغرباً ... وَيَد الساقي المحيي مشرقا) (فَإِذا مَا غربت فِي فَمه ... تركت فِي الخد مِنْهُ شفقا) وَمِنْهَا فِي أَوْصَاف شَتَّى (وغمام هطل شؤبوبه ... نادم الرَّوْض فغنى وَسَقَى) (فَكَأَن الأَرْض مِنْهُ مطبق ... وَكَأن النصب جَان أطبقا) (خلع الْبَرْق على أرجائه ... ثوب وشى مِنْهُ لما برقا) (وَكَأن الْعَارِض الجون بِهِ ... أدهم خلى عَلَيْهِ بلقا) (وَكَأن الرّيح إِذْ هبت لَهُ ... طيرت فِي الجو مِنْهُ عقعقا) (فِي ليل ضل سارى نجمها ... حائراً لَا يستبين الطرقا) (أوقد الْبَرْق لَهَا مصباحه ... فانثنى وَجه دجاها مشرقا) (وشدا لرعد حنيناً فجرت ... أكؤس المزن عَلَيْهِ عرقا) (وغدت تجذبه الشَّمْس وَقد ... ألحفته من سناها نمرقا) (فَكَأَن الشَّمْس تحيى نَفسه ... غرَّة المعشوق تحيى الشيقا)

(وَكَأن الْورْد يعلوه الندى ... وجنة المحبوب تندى عرقا) (يتَّفقَا عَن بهار فَاقِع ... خلته بالورد يطوى ومقا) (كالمحبين الوصولين غَدا ... خجلاً هَذَا وَهَذَا فرقا) (ورنت مِنْهُ إِلَى شمس الضُّحَى ... حدق للنور تصى الحدفا) (وَكَأن الْقطر لما جادها ... صَار فِي الأوراق مِنْهَا زئبقا) وَمِنْهَا فِي الْفَخر (من فَتى مثلي لبأس وندى ... ومقال وفعال وتقى) (شرفي نَفسِي وحليى أدبي ... وحسامي مقولي عِنْد اللقا) (ولساني عِنْد من يُخبرهُ ... أفعوان لَيْسَ يثنيه الرقى) (ويمينى يمن عاف مُعسر ... جمعت حمداً غَدا مفترقا) (جدى النَّاصِر للدّين الَّذِي ... فرقت كَفاهُ عَنهُ الفرقا) (أشرف الْأَشْرَاف نفسا وَأَبا ... حِين يعلوه وَأَعْلَى موتقى) (أَنا فَخر العبشميين وبى ... جد من فَخْرهمْ مَا أخلقا) (أَنا أكسو مَا عفى من مجدهم ... بحلى رونق شعري رونقا) وَله أَيْضا يصف السَّحَاب أنْشدهُ لَهُ أَبُو الْحسن على بن مُحَمَّد بن أبي الْحسن الْقُرْطُبِيّ فِي كتاب الفرائد فِي التَّشْبِيه من الْأَشْعَار الأندلسية من تأليفه (فَكَأَن الْغَمَام صب عميد ... أَن بالرعد حرقة واشتكاء) ((وَكَأن البروق نَار جواه ... والحيا دمعه يسيل بكاء)

وَله أَيْضا (كَأَنَّمَا إِنْسَان أجفانها ... للخمر من تحييرها مدمن) (وَلَيْسَ إنْسَانا وَلكنه ... هاروت فِي مقلتها يسكن) وَله فِي طول اللَّيْل (فَمَا بَال صبحي قد تقَارب خطوه ... فَأَبْطَأَ حَتَّى لَيْسَ يُرْجَى قدومه) (كَأَن نُجُوم اللَّيْل قيدها الدجى ... وأوقفها فِي مَوضِع لَا تريمه) وَله فِي الرسوم (ربع تربصت النُّجُوم لأَهله ... وَرَمَاهُمْ ريب الزَّمَان فقرطسا) (فَكَأَنَّهُ مِمَّا تقادم عَهده ... ربع امرىء الْقَيْس الْقَدِيم بعسعسا) وَله فِي مثل ذَلِك (فَبَقيت فِي العرصات وحدي بعدهمْ ... حيران بَين معاهد مَا تعهد) (فكأنهن ديار مي إِذْ خلت ... وكأنني غيلَان فِيهَا ينشد) وَله (وَكَأن الْمِيَاه فِيهَا ثعابين ... لجين تبعثت فِي السواقي) (وَكَأن الْحَصْبَاء فِي رونق المَاء ... سنا الدّرّ فِي بَيَاض التراقي)

وَمن أَبنَاء الأدارسة الحسنيين 87 - إِبْرَاهِيم بن إِدْرِيس الْحسنى كَذَا قَالَ فِيهِ ابْن حَيَّان وَقَالَ الْحميدِي إِبْرَاهِيم بن إِدْرِيس الْعلوِي الحسني المنبوز بالمؤبل كَانَ أديبا شَاعِرًا وَكَانَ فِي أَيَّام الْمَنْصُور أَبى عَامر مُحَمَّد ابْن أبي عَامر وعاش إِلَى أَيَّام الْفِتْنَة أَصله من الْمغرب وَسكن قرطبة إِلَى أَن سيره ابْن أبي عَامر عَن الأندلس فِيمَن سير من أهل بَيته بعد مقتل حسن بن قنون كَبِيرهمْ وَهُوَ الْقَائِل يُخَاطب المروانية بقرطبة لما رأى غَلَبَة ابْن أبي عَامر على هِشَام الْمُؤَيد واستبداده بِالْأَمر دونه

(فِيمَا أرى عجب لمن يتعجب ... جلت مُصِيبَتنَا وضاق الْمَذْهَب) (إِنِّي لأكذب مقلتي فِيمَا أرى ... حَتَّى أَقُول غَلطت فِيمَا أَحسب) (أَيكُون حَيا من أُميَّة وَاحِد ... ويسوس هَذَا الْملك هَذَا الأحدب) (تمشى عساكرهم حوالي هودج ... أعواده فِيهِنَّ قرد أَشهب) (ابنى أُميَّة أَيْن أقمار الدجى ... مِنْكُم وَمَا لوجوهها تتغيب) هَذَا مَا أورد ابْن حَيَّان فِي أَخْبَار الدولة العامرية من شعره وَقَالَ الْحميدِي فِي كِتَابه رَأَيْت لَهُ قصيدة طَوِيلَة يمدح بهَا مؤيد الدولة هُذَيْل بن خلف بن رزين صَاحب القلاع ويهجو فِي درجها غَيره أَولهَا (للبين فِي تَعْذِيب نَفسِي مَذْهَب ... ولنائبات الدَّهْر عِنْدِي مطلب) (أما دُيُون الحادثات فَإِنَّهَا ... تَأتي لوقت صَادِق لَا تكذب) (والبين مغرى كَيده بِأولى النهى ... طبعا تطبع والطبيعة أغلب) وَمِنْهَا (أيقنت أَنِّي للرزايا مطعم ... ودمى لوافدة المكاره مشرب) (فَأَنا من الْآفَات عرض سَالم ... وجوانح تكوى وعقل يذهب)

وَلم يذكر مِنْهَا سوى هَذِه الأبيات فَيُشبه أَن يكون فِيهَا مَا أنْشد ابْن حَيَّان وَيُشبه أَن يكون قِطْعَة فِي الْمَنْصُور على انْفِرَاد وَالظَّاهِر أَن الْحميدِي تَركهَا وَلم ير إِثْبَاتهَا وَمن رجال المروانية فِي هَذِه الْمِائَة 88 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن أضحى الْهَمدَانِي هُوَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن أضحى بن عبد اللَّطِيف بن خَالِد بن يزِيد بن الشمر من هَمدَان وخَالِد يُقَال لَهُ الْغَرِيب وسمى بذلك لِأَنَّهُ أول مَوْلُود من الْعَرَب الشاميين بكورة إلبيرة كَانَ أَبوهُ مُحَمَّد بن أضحى صَاحب حصن الْحمة من أَعمال إليبرة زمن الْفِتْنَة وَقَامَ بِأَمْر الْعَرَب بعد قتل سعيد بن جودى

وَتمسك بموالاة الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد إِلَى آخر مدَّته وأورث عقبه نباهة ورياسة انسحبت عَلَيْهِم دهراً وثار مِنْهُم القَاضِي أَبُو الْحسن على بن عمر بن مُحَمَّد بن مشرف بن أَحْمد هَذَا بغرناطة فِي الْمِائَة السَّادِسَة وسأذكره هُنَالك إِن شَاءَ الله عز وَجل وَقدم أَحْمد بن مُحَمَّد مَعَ أَبِيه على النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد باخعين بِطَاعَتِهِ داخلين فِي جماعته وَكَانَ من أحسن النَّاس وَجها وأفصحهم لِسَانا وأشهمهم نفسا وأوسعهم أدباً فاجمل النَّاصِر لقاءهما وَأحسن قبولهما وَأَعْلَى منازلهما وأجزل عطاءهما وَقَامَ أَحْمد هَذَا يَوْمئِذٍ بَين يَدَيْهِ خَطِيبًا ثمَّ أنْشد فِي إِثْر خطبَته (أيا ملكا ترمى بِهِ قضب الْهِنْد ... إِذا لمعت فَوق المغافر والسرد) (وَمن بأسه فِي منهل الْمَوْت وَارِد ... إِذا أنفس الْأَبْطَال كفت عَن الْورْد) (وَمن ألبس الله الْخلَافَة نعْمَة ... بِهِ فَاتَت النعمى فَجلت عَن الْعد) (تجلى على الدُّنْيَا فَجلى ظلامها ... كَمَا انجلت الظلماء عَن قمر السعد) (إِمَام هدى زيدت بِهِ الأَرْض بهجة ... ملبسة نورا كموشية الْبرد) (كفاني لَدَيْهِ أَن جعلت وسيلتي ... ذماماً شامى الْهوى مخلص الود) وَأنْشد لَهُ صَاحب الحدائق (هوى كدر الواشون مِنْهُ الَّذِي صفا ... ونموا بأفعى الْإِفْك عني مزخرفاً) (وشوا وأصاخت أذن خلى فَمَا وفوا ... بتبليغه مَا لم أَقَله وَلَا وفى) (وهلا كَمَا أنصفته فِي محبتي ... ثناهم على الأعقاب مِنْهُم فأنصفا) (فَلَا كَانَ واش كَانَ دَاء ضَمِيره ... هوانا فَلَمَّا أَن رأى هجرنا اشتفى) (وَلَا يفزحوا أَن أوقدوا الهجر جاحماً ... فعما قريب ينطفى أَو قد انطفى)

89 - لب بن عبيد الله بن أُميَّة الْمَعْرُوف بِابْن الشالية أَبُو عِيسَى كَانَ أَبوهُ من كبار الثوار فِي أَيَّام الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد سَمَّاهُ ابْن حَيَّان فِي أَعْلَام الْمُخَالفين عَلَيْهِ وَجعله ثَانِيًا لديسم بن إِسْحَاق صَاحب تدمير وَبعده ذكر إِبْرَاهِيم بن حجاج صَاحب إشبيلية وَكَانَ ملك جبل شمنتان وَمَا يَليهَا من كورة جيان وامتد إِلَى حصن قسطلونة وَغَيره وَانْطَلَقت يَده فتبنك النِّعْمَة وَبنى المباني الفخمة وَأظْهر الإذعان وقتا بعد وقيعة جرت عَلَيْهِ وَالْتزم حمل قطيع من المَال فورق عَلَيْهِ عَمَّا فِي يَده فَلَمَّا روخى عَاد إِلَى غيه فنكث ووالى عميد الْمُخَالفين عمر بن حفصون وواصله بالصهر من أَسْفَل فزوج ابْنَته من جَعْفَر ولد ابْن حفصون ونقلها إِلَيْهَا بببشتر وَوصل يَده بِيَدِهِ فاعتز جَانِبه وَكَانَ عبيديس بن مَحْمُود الشَّاعِر الأديب كَاتبا لِعبيد الله ومتصرفاً فِي خدمته مكثراً من مديحة واصفاً لمغازيه ومبانيه وأحواله أَوْصَاف الشُّعَرَاء لأكابر الْمُلُوك يستحسن ذَلِك مِنْهُ ويجزل عطيته عَلَيْهِ فشعره فِي ذَلِك مَشْهُور وَمِنْه قَوْله فِي وصف قصره (قصر الْأَمِير أَبى مَرْوَان منتسخ ... من جنَّة الْخلد بالسراء معمور) (فِيهِ مجَالِس قد شيدت على عمد ... بنيانها مرمر بالتبر مطرور) وَنَازع الْفَتْح بن مُوسَى بن ذِي النُّون عبيد الله حصنا أورثهما حَربًا فغلبه عَلَيْهِ عبيد الله وهزمه وَحَازَ الْحصن دونه وتيمن بِحُضُور ابْنه لب بن عبيد الله مَعَه فِي وَجهه هَذَا فَقَالَ عبيديس فِي ذَلِك شعرًا طَويلا مِنْهُ

(جَاءَ البشير بِمَا عَم السرُور بِهِ ... عَن الْأَمِير أَبى مَرْوَان فِي السّفر) (فَقلت حِين سألناه فَأخْبرنَا ... بِاللَّه قل وَأعد ياطيب الْخَبَر) (بيمن لب أَبى عِيسَى وغزوته ... فَازَ الْأَمِير على الْأَعْدَاء بالظفر) يَقُول فِيهِ (قاد الجيوش إِلَى الْأَعْدَاء مدرعا ... يصلى الوغى بالوغى فِي سنّ مثغر) (من تَحْتَهُ فرس فِي كَفه قبس ... يرْمى الشَّيَاطِين فِي الهيجاء بالشرر) وَعجز الْبَيْت الثَّانِي من هَذِه الأبيات مَنْقُول من قَول أَبى نواس (يَا ذَا الَّذِي عَن جنان ظلّ يخبرنا ... بِاللَّه قل وَأعد يَا طيب الْخَبَر) وَلما غزا النَّاصِر لدين الله عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد غزوته الأولى إِلَى جيان خرج إِلَيْهِ عبيد الله مقالصاً فِي طَاعَته إِيَّاه فَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَأرْسل إِلَى معاقله من ضَبطهَا وَحمل عِيَاله إِلَى قرطبة فَصَارَ فِي الدِّيوَان بهَا فِي أَعلَى الملاحق وَصَرفه النَّاصِر فِي ضروب من خدمته سكن مِنْهُ فِيهَا إِلَى نصاحة وثقة فَصَرفهُ من أجل ذَلِك إِلَى معاقله بشمنتان والياً من قبله لالتياث أحسه من أَهلهَا وَلَا رعية أَجْهَل مِنْهُم فأصلحها عبيد الله وَأقَام بهَا إِلَى أَن صرفه ثَانِيَة عَنْهَا وَأَعَادَهُ إِلَى مصافه وَكَانَ ابْنه لب بن عبيد الله أديباً شَاعِرًا حسن التَّصَرُّف وَهُوَ الْقَائِل

أنْشدهُ لَهُ أَبُو الْحسن بن أبي الْحُسَيْن الْقُرْطُبِيّ فِي كتاب الفرائد من تأليفه فِي التَّشْبِيه (صابحتها وَالرَّوْض يسطع مسكه ... فَكَأَنَّهُ بِاللَّيْلِ بَات مغلقا) (والورد يَبْدُو فِي الغصون كَأَنَّمَا ... أضحى يُقَارب من نِدَاء قرقفا) وَله فِي الخيرى (وكأنما الخيري إِن أبدى النرجس ... أسراره عَن نشر مسك أذفرا) (لص يرائي بِالنَّهَارِ زهادة ... خوفًا وَيقطع ليله متشطرا) وَله (وراهقة عَنْهَا السيوف كَأَنَّهَا ... عُيُون يروع اللَّيْث فِيهَا حسيرها) (إِذا غشيتها الْبيض تعشى بنورها ... كَأَن سناها من أذاها مجيرها) (كَأَن فُؤَادِي فَوق رَأْسِي صلابة ... فَكل حسام ينتحيها كسيرها) يصف بَيْضَة حَدِيد وَمن هَذِه القصيدة فِي وصف ترس (وممتثل قرص الغزالة فِي يَدي ... هجمت بِهِ وَالْخَيْل تدمي نحورها) (تقلب مِنْهُ الْكَفّ مغنطس القنا ... فَلَا آلَة إِلَّا إِلَيْهِ مصيرها) 90 - مُوسَى بن مُحَمَّد بن سعيد بن مُوسَى مولى عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة الْحَاجِب الْوَزير أَبُو الْأَصْبَغ

كَانَ مَعَ رئاسته وجلالته ونباهة سلفه واستعمالهم فِي الكور وسنيات الخطط من أهل الْعلم وَالْأَدب وَالشعر وَأول مَا تصرف فِيهِ للأمير عبد الله خطة الْقطع ثمَّ ولى خطة الْمَدِينَة وعزل عَنْهَا وأعيد إِلَيْهَا وَلما أفضت الْخلَافَة إِلَى النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد أقره على الْمَدِينَة واستوزره يَوْم استخلافه ثمَّ استحجبه عِنْد وَفَاة بدر فِي سنة تسع وثلاثمائة فاضطلع وَاكْتفى وَكَانَ الْوَزير عبد الْملك بن جهور يَقُول مَا رَأَيْت مثل مُوسَى لم يجمعه أَمِير الْمُؤمنِينَ مَعَ أحد إِلَّا كَانَ المستحوذ على الْمجْلس فِي الْجد والهزل وَتُوفِّي لِلنِّصْفِ من صفر سنة عشْرين وثلاثمائة وَقيل فِي آخر سنة تسع عشرَة فَلم يستحجب النَّاصِر بعده أحدا وَكَانَ يَحْجُبهُ عِنْد قعوده لسلام الأجناد ولوفود الْأَطْرَاف ورسل الْأُمَم وَأَصْحَاب الْخَيل وَالْمَدينَة والشرطة الْعليا وَالْوُسْطَى على مرايتهم مَعَ سَائِر الْخدمَة وَمن شعره قَوْله يمدح عبد الرَّحْمَن النَّاصِر وَيذكر هيبته

(إِذا مَا فرجت خلل الستور ... ولاح وَقد تمكن فِي السرير) (ترى الْأَمْلَاك مائلة لَدَيْهِ ... بأعناق إِلَى الغبراء صور) (كَأَنَّهُمْ لهيبته قد أَوْفوا ... من الْمَوْت الزعاف على شَفير) وَله (أَبْطَأت بِالْإِذْنِ على عبدكا ... فعاذ بِالْمَعْرُوفِ من نجدكا) (قد جدت لي بالوعد يَا سَيِّدي ... وَلم تزل تصدق فِي وعدكا) (إِن لم يكن من خدمتي شَافِع ... فالخلف مَا يصلح من عندكا) وَله (مُعظم تحسر الألحاظ من رهب ... عَنهُ وتلحظه الآمال من رغب) (إِذا بدا تضحك الدُّنْيَا لطلعته ... وتتقى الْجِنّ مِنْهُ سُورَة الْغَضَب) (لما ارْتقى فِي سَمَاء الْجُود قاد بِهِ ... إِلَى التبذل فِينَا جَوْهَر الْأَدَب) وَله (كَانَ العزاء ولي الْعَهْد بعد أَمِين ... الله وَالْملك وقف بَين هذَيْن) (فصرت لما نأت عني وُجُوههمَا ... كالصقر أصبح مقصوص االجناحين) (أستودع الله من نَفسِي فداؤهما ... ومليا الْعُمر فِي الدُّنْيَا عزيزين) (تأميل هذَيْن نقد ناجز وَأرى ... تأميل غَيرهمَا كَالدّين بِالدّينِ) (أعد مَا حُزْته من حسن رأيهما ... ملكا أضاهى بِهِ ملك العراقين)

وَحكى ابْن حَيَّان أَن مُوسَى بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن حدير عَم الْحَاجِب مُوسَى هَذَا وَهُوَ الْمَعْرُوف بالزاهد كَانَ مِمَّن يكثر مجالسة الْأَمِير عبد الله ويصل مؤانسته وَكَانَ حَدثا ظريف الْمُشَاهدَة مليح الْعبارَة إخبارياً ممتعاً حفظَة لأخبار دولة موَالِيه بني أُميَّة مفتناً مفوهاً بليغاً يقْرض أبياتاً من الشّعْر حَسَنَة بديهة وروية قَالَ فَشهد مجْلِس مذاكرة الْأَمِير عبد الله يَوْمًا وَهُوَ حافل بِأَهْل الْأَدَب والمعرفة وَقد أفاضوا فِيمَا كَانُوا يفيضون فِيهِ من أَبْوَاب المذاكرة حَتَّى مر ذكر الشيب وذمه وَكَانَ الْأَمِير عبد الله شَدِيد التكره لَهُ فَقَالَ لجلسائه أَي شَيْء تروونه فِي ذمّ الشيب أبلغ فَلم يحضر أحدهم شَيْء إِلَّا مُوسَى بن مُحَمَّد هَذَا فَقَالَ أحسن مَا قيل فِيهِ عِنْدِي قَول الأول (أَقُول لضيف الشيب إِذْ حل مفرقي ... نصيبك منى جفوة وقطوب) (حرَام علينا أَن تنالك عندنَا ... كَرَامَة بر أَو يمسك طيب) فاستحسنهما الْأَمِير وَقَالَ لَهُ اكتبهما يَا مُوسَى وزد فيهمَا إِن كَانَت فيهمَا عنْدك زِيَادَة فَقَالَ لَا وَالله يَا سَيِّدي مَا عِنْدِي فيهمَا مزِيد وتبطأ الوصيف بإحضار الدرج والدواة لمُوسَى بن مُحَمَّد ومُوسَى مطرق أَن يَتَأَتَّى لَهُ القَوْل فِي الزِّيَادَة الَّتِي استمطرها مِنْهُ الْأَمِير فَقَالَ قد جَاءَنِي يَا سَيِّدي بسعدك بعض الَّذِي أردته واندفع فوصل الْبَيْتَيْنِ بقوله

(فياشر ضيف حل بِي وحلوله ... يُخْبِرنِي أَن الْمَمَات قريب) (وَأَن جديدي كل يَوْم إِلَى بلَى ... وَأَنِّي من ثوب الشَّبَاب سليب) (فَمَا طيب عَيْش الْمَرْء إِلَّا شبابه ... وَلَيْسَ إِذا مَا بَان عَنهُ يطيب) (سأقريك يَا ضيف المشيب قرى القلى ... فمالك عِنْدِي فِي سواهُ نصيب) (وأبكى على مَا قد مضى من شبيبتي ... بكاء محب قد جفاه حبيب) (مضى مُسلما لهفي عَلَيْهِ مدى المدى ... فَلَيْسَ إِلَى يَوْم التناد يؤوب) فسر الْأَمِير عبد الله بِمَا أَتَى بِهِ وَأثْنى على قريحته وَأنْشد لَهُ أَبُو عَامر السالمي فِي كتاب حلية اللِّسَان وبغية الْإِنْسَان فِي التشبيهات من تأليفه (لَيْت شعري كَيفَ يفرى لحظه ... من شغَاف الْقلب باللحظ الْأكل) (طرفه سَاج وَفِيه مرض ... كم صَحِيح قد رَمَاه فَقتل)

(من مجيري من رشاً ألحاظه ... إِنَّمَا تذكرني وَقع الأسل) وقرأت فِي تَارِيخ الْحميدِي أَن صُهَيْب بن منيع وَكَانَ قَاضِيا بإشبيلية كَانَ نقش خَاتمه (يَا عليماً كل عيب ... كن رَفِيقًا بصهيب) وَأَنه كَانَ يشرب النَّبِيذ لَعَلَّه كَانَ يذهب مَذْهَب أهل الْعرَاق فَشرب مرّة عِنْد الْحَاجِب مُوسَى بن حدير وَكَانَ من عُظَمَاء الدولة الأموية فَلَمَّا غفل أَمر باختلاس خَاتمه وأحضر نقاشاً فنقش تَحت الْبَيْت الْمَذْكُور (واستر الْعَيْب عَلَيْهِ ... إِن فِيهِ كل عيب) ورد الْخَاتم إِلَيْهِ وَختم القَاضِي بِهِ زَمَانا حَتَّى فطن لَهُ 91 - أَحْمد بن عبد الْملك بن شَهِيد الْوَزير أَبُو عمر هُوَ أَحْمد بن عبد الْملك بن عمر بن مُحَمَّد بن شَهِيد بن عِيسَى بن شَهِيد بن الوضاح الْأَشْجَعِيّ

وَقَالَ الرَّازِيّ إِن جدهم مولى مُعَاوِيَة بن مَرْوَان بن الحكم وَكَانَ الوضاح مَعَ الضَّحَّاك بن قيس يَوْم مرج راهط وشهيد بن عِيسَى هُوَ الدَّاخِل إِلَى الأندلس فِي أَيَّام عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وَتصرف بنوه للخلفاء فِي الخطط السّنيَّة من الْإِمَارَة والحجابة والوزارة وَالْكِتَابَة إِلَى انْقِرَاض الدولة الأموية بالأندلس وَتصرف أَحْمد هَذَا للناصر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد فِي ولَايَة الكور والوزارة وقود الصوائف وغزا البشكنس وَهُوَ أول من سمى ب ذِي الوزارتين وَكَانَ من أهل الْأَدَب البارع حكى الْحميدِي عَن أبي مُحَمَّد بن حزم بِسَنَد ذكره أَن أَحْمد بن عبد الْملك هَذَا زار عبد الْملك بن جهور الْوَزير وَكَانَا جَمِيعًا يخدمان النَّاصِر عبد الرَّحْمَن فوافقه محجوباً وَلم يُمكنهُ الِاجْتِمَاع بِهِ فَكتب إِلَيْهِ (أَتَيْنَاك لَا عَن حَاجَة عرضت لنا ... إِلَيْك وَلَا قلب إِلَيْك مشوق) (ولكننا زرنا بِضعْف عقولنا ... حمارا تولى برنا بعقوق) فَأَجَابَهُ ابْن جهور بقوله (حجبناك لما زرتنا غير تائق ... بقلب عَدو فِي ثِيَاب صديق) (وَمَا كَانَ بيطار الشآم بِموضع ... يُبَاشر فِيهِ برنا بخليق) وَذكرت بقول ابْن شَهِيد قَول عبد الْملك بن سعيد الْمرَادِي الخازن (مَا حمدناك إِذْ وقفنا ببابك ... للَّذي كَانَ من طَوِيل حجابك) (بل ذممنا الزَّمَان فِيك وَقُلْنَا ... أبعد الله كل دهر أَتَى بك)

وَلأبي عمر بن شَهِيد (جريت مَعَ العشاق فِي حلبة الوجد ... ففاتهم وَصلى وَمَا عرفُوا جهدي) (وَمَا نهج العشاق فِي الْحبّ منهجا ... وَلَا سلكوا إِلَّا السَّبِيل الَّتِي أهْدى) (وَمَا اضمر العشاق فِي الوجد غَايَة ... من الشوق إِلَّا وَهِي من بعض مَا أبدى) (وَمَا ضعفوا عَن حمل ثقل ... اضطلعت بِهِ وحدي) (أَنا فاتح الْمِنْهَاج فِي سبل الْهوى ... كَمَا عَابِد الرَّحْمَن فاتحه الْمجد) (وخاتمه العشاق شرقاً ومغرباً ... كَمَا عَابِد الرَّحْمَن خَاتِمَة الرشد) 92 - ابْنه عبد الْملك بن أَحْمد الْوَزير أَبُو مَرْوَان كَانَ على طليطلة لهشام بن الحكم الْمُؤَيد وَمِنْهَا خاطبه مهنئاً بمقتل غَالب الْقَائِد صَاحب مَدِينَة سَالم فِي خلَافَة وَمن شعره

(طلع الْبَدْر علينا ... فحسبناه لبيبا) (والتقينا فرأيناه ... بَعيدا وقريبا) وَله (قصرت عَن شأوى فعاديتني ... أقصر فَلَيْسَ الْجَهْل من شاني) (إِن كَانَ قد أَغْنَاك مَا تحتوي ... بخلا فَإِن الْجُود أغناني) 93 - عبد الْوَهَّاب بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الْوَزير أَبُو وهب هُوَ عبد الْوَهَّاب بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن عبد الرءوف بن عبد السَّلَام بن إِبْرَاهِيم بن يزِيد بن عبد الله بن جَابر بن عمر بن أَيُّوب مولى مَرْوَان بن الحكم

وَكَانَ عبد الله بن جَابر قَاضِيا لعمر بن عبد الْعَزِيز بِالشَّام وَدخل الأندلس من عقبَة عبد السَّلَام بن إِبْرَاهِيم وأخواه أَبُو المفوز وَعقبَة فتناسلوا بهَا وخدموا الْخُلَفَاء وتصرفوا فِي الولايات وَحكى أَبُو بكر الرَّازِيّ أَن عبد السَّلَام ولد اثنى عشر ولدا قَالَ وَكَانَ أَمينا للأمير عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بكورة إلبيرة ويكنى أَبَا الدلهاث وَولى ابْنه عبد الرءوف طليطلة وَمَا والاها للأمير عبد الرَّحْمَن بن الحكم سَبْعَة أَعْوَام وَتصرف فِي كثير من الكور ثمَّ استوزره فِي أخريات أَيَّامه واستوزره أَيْضا الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَتُوفِّي وَهُوَ وَزِير وَولى عبد الْوَهَّاب بن عبد الرءوف الكور المجندة وَغَيرهَا أَيَّام الْأُمَرَاء مُحَمَّد وابنيه الْمُنْذر وَعبد الله وَتُوفِّي بإشبيلية وَهُوَ عَامل عَلَيْهَا وَولى مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب كورة جيان وَمَات بهَا وَتصرف عبد الْوَهَّاب بن مُحَمَّد هَذَا لأمير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد فِي الولايات والأمانات ثمَّ استوزره وَذكره أَبُو بكر الزبيدِيّ فِي كتاب طَبَقَات النَّحْوِيين من تأليفة وَقَالَ كَانَ بَصيرًا بِالْعَرَبِيَّةِ طالع كتاب سِيبَوَيْهٍ وَنظر فِيهِ وَكَانَ ذَا كبر عَظِيم وبأو مفرط وَيظْهر مَعَ ذَلِك زهداً

وَولى الوزارة فَكَانَ لَا يزَال يُورد على أَصْحَابه من الوزراء مسَائِل من عويص النَّحْو حَتَّى برموا بِهِ واسعفوه من ذَلِك وَهُوَ الْقَائِل وَكَانَ سناطاً (لَيْسَ بِمن لَيست لَهُ لحية ... بَأْس إِذا حصلته ليسَا) (وَصَاحب اللِّحْيَة مستقبح ... يشبه فِي طلعته التيسا) (إِن هبت الرّيح تلاهت بِهِ ... وماست الرّيح بِهِ ميسا) وَله (قتلت عَيْنَاك عَبدك ... قبل أَن تقضي وَعدك) (حلت عَن عهد محب ... لم يزل يحفظ عَهْدك) (مَا لأفعالك ... لَا تشبه ندك) وَله (إِذا مَا بدا يعشى الْعُيُون بِسنة ... منافيه تغني عَن الشَّمْس والبدر) (وَوجه إِذا مَا الأنجم الزهر أَبْصرت ... محياه ظنته من الأنجم الزهر) وَله (أحوذى فِي مجده أوحدي ... لَيْسَ يحْكى سناؤه وسناه) (من رَآهُ فقد رأى الْغَيْث وَاللَّيْث ... جَمِيعًا فِي بأسه ونداه) (يستميل الْعُيُون مِنْهُ رواء ... ترتوى من حيائه وحياه)

(إِن بدا خلت أَنه قمر الأَرْض ... وصنواه حوله كوكباه) وَله (ليهنى النَّاس فِي ملكه ... أَن ابْنه التَّاسِع من بعده) (يقوم فِي الْملك مقاماته ... ويحتذى فِيهَا على قَصده) (أُوتى حكما فَاتَ فِيهِ الورى ... فكاد أَن ينْطق فِي مهده) (حمل أعباء العلى فَاكْتفى ... عفوا وَلم يبلغ إِلَى جهده) وَدخل يَوْمًا على عبد الْملك بن جهور الْوَزير فأقعده إِلَى جنبه وَمَال إِلَيْهِ بحَديثه ثمَّ دخل الخروبي فأقعده فَوْقه فَخرج أَبُو وهب مغضباً وَكتب إِلَيْهِ (بلوتك أَسْنَى الْعَالمين وأفضلا ... وأهذب فِي التَّحْصِيل رَأيا وأكملا) (فَقل لي مَا الْأَمر الَّذِي صَار مخملي ... لديك فأضحى مسْقطًا لي مخملا)

(تقدم من أضحى تقدم لومه ... لقد ضل هَذَا من فعالك مُشكلا) (وَمَا كنت أرْضى يعلم الله أنني ... أساويه فِي الفردوس دَارا ومنزلا) (فَإِن كنت قد قصرت بِي عَن محلتي ... صبرت وَمَا زَالَ التصبر أجملا) (ورحت على الدَّهْر المليم ألومه ... فقد هيض أَعْلَاهُ وغودر أسفلا) (وَكنت جَدِيرًا فِي كمالك أَن ترى ... لمثلي نَصِيبا من ودادك أجزلا) فَأَجَابَهُ عبد الْملك بِأَبْيَات مِنْهَا (غدرتك إِلَّا أَن فرط محبتي ... وإخلاص ودي سهلاً لي التدللا) (ظلمتك فِيمَا كَانَ مني مُجملا ... على غير تَحْصِيل وعاتبت مُجملا) (تقربت من قلبِي وَإِن كنت آخرا ... وَأخر عَن قلبِي وَإِن كَانَ أَولا) (وَمَا أَجْهَل الْقدر الَّذِي أَنْت أَهله ... وَلَا شرفاً أضحى عَلَيْك مظللا) (فَإِن عَن تَقْصِير بِغَيْر تعمد ... فغط عَلَيْهِ منعماً متطولا) 94 - أَخُوهُ غَالب بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب أَبُو عبد السَّلَام ولى خطة الْعرض وَكتب للْحكم وَهُوَ ولي عهد فِي حَيَاة أَبِيه النَّاصِر ذكر ذَلِك الرَّازِيّ وَأنْشد لَهُ صَاحب الحدائق

(جفون هَمت مذغاب عَنْهَا حبيبها ... وَنَفس بهَا للشوق نَار تذيبها) (تيقنت إِذْ ودعتها أَن مهجتي ... سيقضي عَلَيْهَا شوقها ونحيبها) (شققت جيوبي يَوْم بَانَتْ وطالما ... أَطَالَ عَذَابي مَا طوته جيوبها) (وللحب حالات تمر خطوبها ... إِذا قرنت بالبين تحلو خطوبها) (معذبتي لَا تأسفي فلعلها ... تعود ليالينا الْقصار وطيبها) (أَلا لَيْت نَفسِي تَسْتَطِيع فداءها ... وياليتها من كل خير نصِيبهَا) (يعيبونها عمدا لأسلو ذكرهَا ... وَمَا عَابَ إِلَّا نَفسه من يعيبها) 95 - جهور بن عبيد الله بن أبي عَبدة الْوَزير أَبُو الحزم قَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى الرَّازِيّ فِي تأليفه فِي الْأَنْسَاب الْمُسَمّى ب الِاسْتِيعَاب الْوَزير جهور بن عبيد الله هُوَ جهور بن عبيد الله بن مُحَمَّد بن الْغمر بن يحيى بن عبد الغافر بن حسان بن مَالك بن عبد الله بن جَابر

وَكَانَ عبد الله مَمْلُوكا لمروان الحكم أبلى يَوْم وقيعة مرج راهط بلَاء حسنا فَأعْتقهُ والداخل من أجداد هَذَا الْوَزير حسان بن مَالك وَهُوَ أَبُو عَبدة وَكَانَ دُخُوله سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَة قبل دُخُول عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بِخمْس وَعشْرين سنة وَولد حسان بالمشرق أَوْلَادًا قتلوا إِلَّا عبد الغافر لصغره فَنَشَأَ مَعَ عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وتأدب مَعَه بالمشرق وَلما قدم بدر مولى عبد الرَّحْمَن بِخَبَرِهِ إِلَى موَالِيه الشاميين استراح بِهِ إِلَى أبي عَبدة فَوجه ابْنه عبد الغافر إِلَيْهِ فَلَمَّا توطد عبد الرَّحْمَن استوزر أَبَا عَبدة واستقوده ثمَّ اسْتَعْملهُ على إشبيلية قائدا بهَا ومضيقا على أهل باجة وَغَيرهَا فَملك الغرب أجمع خَمْسَة أَعْوَام إِلَى أَن توفّي بإشبيلية وقبره بهَا

وَتصرف عبد الغافر فِي الوزارة للْإِمَام عبد الرَّحْمَن وَبرئ إِلَيْهِ بِخَاتمِهِ إِلَى أَن مَاتَ قَالَ وَأما عبيد الله بن مُحَمَّد بن الْغمر فَإِنَّهُ تصرف فِي الكور وحجابة الْأَوْلَاد وَالْمَدينَة وَالْخَيْل وَالْكِتَابَة والقيادة وَقد تقدم ذكر ذَلِك قَالَ وَتصرف جهور بن عبيد الله فِي الكور والأمانات والقيادة وَالْمَدينَة والوزارة للناصر وَقَالَ غَيره كَانَ عبيد الله وَالِد أبي الحزم هَذَا مَعَ تحَققه بالمعرفة وَالْأَدب والبلاغة ذَا بَأْس وشجاعة وغناء فِي الحروب وَله فتوح جمة ومقاوم حميدة وَاسْتَأْذَنَ الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد فِي آخر دولته لقَضَاء فَرِيضَة الْحَج فَأذن لَهُ وَحج ثمَّ انْصَرف إِلَى قرطبة فانقبض عَن السُّلْطَان وأخلد إِلَى الخمول وَأقَام على حَاله تِلْكَ فِي دَاره إِلَى أَن توفّي سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ آخر أَيَّام الْأَمِير عبد الله وَتصرف ابْنه جهور بعده فِيمَا ذكره الرَّازِيّ وَكَانَ شَاعِرًا مكثراً فَمن شعره قَوْله من أَبْيَات فِي تَفْضِيل الْورْد وَكَأَنَّهُ يرد بهَا على ابْن الرُّومِي

(خضعت نواوير الرياض لحسنه ... فتذللت تنقاد وَهِي شوارد) (وَإِذا تبدى الْورْد فِي أغصانه ... ذلت فذاميت وَهَذَا حَاسِد) (وَإِذا أَتَى وَفد الرّبيع مبشراً ... بِطُلُوع صفحته فَنعم الْوَافِد) (لَيْسَ المبشر كالمبشر باسمه ... خبر عَلَيْهِ من النُّبُوَّة شَاهد) (وَإِذا تعرى الْورْد من أوراقه ... بقيت عوارفه فهن خوالد) وَله (يَا عاتبا لي بالصدو ... دألا ذكرت قَبِيح غدرك) (أخليت من قلبِي مَكَانا ... كَانَ معمورا بذكرك) (وَأَنا أحبك لَو وثقت ... وأستديم بَقَاء عمرك) وَله (يَا لائماً وَالظُّلم مِنْهُ ... ظَاهر لي والفظاعه) (كم قد ضرعت وَقد سَمِعت ... فَمَا لويت إِلَى الضراعه) (فلئن رجعت كَمَا علمت ... لأقطعن فِيك الْجَمَاعَة) (وَمَتى لججت على الْأَذَى ... جازيت فعلك فِي صاعه) وَله (أَسَأْت لعمري إِذْ أَسَأْت بِي الظنا ... وألزمتني ذَنبا شغلت بِهِ الذهنا) (تجنيت فِي عذلي كأبى مذنب ... رويدك إِن العذل قد يُوجب الشحنا) (فَلَا تتجن الذَّنب من غير عِلّة ... فَرب تجن يُورث الحقد والضغنا)

(وَإِنِّي امْرُؤ مَحْض الْمَوَدَّة مخلص ... أصافي خليلي بِالَّذِي هُوَ بِي أَسْنَى) (وَإِن زل يَوْمًا فِي ودادي أقلته ... وقارضته فِي ذَاك بالصحبة الحسنا) (وَهل لي فدتك النَّفس دُونك رَاحَة ... وَأَنت شَقِيق النَّفس وَالْأَقْرَب الْأَدْنَى) (فثق بِي وَلَا تعجل على فإنني ... أدين بِمَا ترْضى وأعني بِمَا تَعْنِي) (وَلَا ذَنْب لي فِيمَا علمت وَلم أكن ... لأصغى إِلَى الواشين فِي قيلهم أذنا) وَله (انْظُر إِلَى محن الزَّمَان ... تزدك فِي الدُّنْيَا اعْتِبَارا) (واسمع لنعي الذاهبين ... وَكن كواحدهم حذارا) (واعمل بجد الْخَائِفِينَ ... وَلَا تنم إِلَّا غرارا) (وَاعْلَم بأنك لَاحق ... من قد كرهت لَهُ جوارا) (إِن اللَّيَالِي مَا فتئن ... تكدر الْعَيْش المعارا) (وتفرق الشمل الْجَمِيع ... وتجلب الْأَمر الضرارا) (فحوادث فِيهَا استلبن ... أَخا دعون بِهِ فسارا) (رزء إِلَى جنب اغتراب ... أرثا فِي الْقلب نَارا) (وفجيعة سلفت وَكَانَت ... محنة لي واختبارا) (بِأَخ شَقِيق مَا أُطِيق ... على رزيته اصطبارا)

وَمِنْهَا (اصبر فلست ترى على ... أحد حماه الصَّبْر عارا) (فالصبر أَنْفَع دخرة ... لَو كنت آتيه اخْتِيَارا) أنْشد أَبُو نصر الْفَتْح بن عبيد الله الإشبيلي فِي كتاب مطمح الْأَنْفس ومسرح التأنس فِي محَاسِن أهل الْمغرب والأندلس من تأليفه أَكثر هَذِه الأبيات وَالَّتِي قبلهَا ونسبها لأبي الحزم جهور بن مُحَمَّد بن جهور رَئِيس قرطبة الْمُتَأَخر غَلطا مِنْهُ ووهماً لاخفاء بِهِ وَإِنَّمَا هِيَ لجده جهور بن عبيد الله هَذَا الْمَذْكُور هُنَا ثمَّ أعقب غلطه بغلط آخر أفحش مِنْهُ فأورد ابياتاً لِابْنِ فرج فِيهِ يرثيه وأتى بعد ذَلِك برثاء ابْن زيدون فأفرط وخلط وَألْحق بِالْبَاطِلِ الْحق أما ابْن زيدون فرثاؤه لأبي الحزم الْأَخير صَحِيح غير معترض وَأما ابْن فرج فموته من مولده مقتربان عمرك الله كَيفَ يَلْتَقِيَانِ ولد جهور بن مُحَمَّد سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلاثمائة فِي الْمحرم وَتُوفِّي ابْن فرج إِثْر وَفَاة الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه فِي صفر سنة سِتّ بعْدهَا وللفتح أَيْضا غلط ينضاف إِلَى مَا تقدم فِي نِسْبَة بَيْتَيْنِ لأبي الحزم هَذَا وأنشدهما الْحميدِي لجهور بن مُحَمَّد التجِيبِي أَبى مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الفلو وَهُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ ذكر أَنه شَاهده بالمرية وكتبهما من شعره وهما (قلت يَوْمًا لدار قوم تفانوا ... أَيْن سكانك الْكِرَام علينا) (فأجابت هُنَا أقامواقليلا ... ثمَّ سَارُوا وَلست أعلم أَيّنَا)

وَلم يلق الْحميدِي أَبَا الحزم فِيمَا علمت وَإِن كَانَ عاصره وَلَعَلَّ الْفَتْح من كِتَابه اسْتَفَادَ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ واشتباه الْأَسْمَاء جر هَذَا الْخلَل وَعدم المبالاة بضبط الموالد والوفيات كثيرا مَا يُوجد الزلل وَسَيَأْتِي ذكر أَبى الحزم الأندلسي الْأَخير فِي الْمِائَة الْخَامِسَة مُسْتَوفى إِن شَاءَ الله عز وَجل

96 - أَخُوهُ مُحَمَّد بن عبيد الله هُوَ أسن من أَخِيه جهور وجهور أشهر مِنْهُ وَتصرف مُحَمَّد هَذَا فِي الكور والقيادة قَالَه الرَّازِيّ وَأنْشد لَهُ الْحميدِي يُخَاطب أَبَا عمر ابْن عبد ربه (أعدهَا فِي تصابيها خداعا ... فقد فضت خواتهما نزاعا) (قُلُوب يستخف بهَا التصابي ... إِذا أسكنتها طارت شعاعا) فَأَجَابَهُ (حقيق أَن يصاخ لَك استماعا ... وَأَن يعْصى العذول وَأَن تطاعا) (مَتى تكشف قناعك للتصابي ... فقد ناديت من كشف القناعا) (مَتى يمش الصّديق إِلَى فترا ... مشيت إِلَيْهِ من كرم ذِرَاعا) (فجدد عهد لهوك حِين يبْلى ... وَلَا تذْهب بشاشته ضيَاعًا) 97 - عبد الرَّحْمَن بن بدر بن أَحْمد كَانَ بدر وصيفاً للأمير عبد الله فَأعْتقهُ وَصَرفه فِي الخطط الشَّرِيفَة

ثمَّ وُلَاة النَّاصِر الوزارة والحجابة والقيادة وَالْخَيْل وَالْبرد وَكَانَ ينْفَرد بالولايات فتكنب السجلات فِي دَاره ثمَّ يبعثها للطبع فتطبع وَتخرج إِلَيْهِ فيبعث فِي الْعمَّال وينفذون على يَدَيْهِ وَولى عبد الرَّحْمَن هَذَا الْكِتَابَة والوزارة وَالْعرض والخزانة للناصر وَصَرفه فِي عمَارَة كورة إشبيلية وَمن شعره (لساني كَانَ من أَعدَاء قلبِي ... إِذْ الزمه الذُّنُوب بِغَيْر ذَنْب) (إِلَى من اشْتَكَى عدوي اعتذار ... أَمر مذاقتي طعمي وشربي) (وأسهر مقلتي وأسال دمعي ... لفرط الوجد سكبا بعد سكب) وَله (يَا وردة وسط رَوْضَة سفرت ... لَو رمتها باللحاظ لَا نتثرت) (ودرة فِي الْجمال مفرغة ... لَوْلَا حجاب يكنها بهرت) (دع كَبِدِي فِي الضلوع آمِنَة ... وَخذ جفوني فَإِنَّهَا نظرت)

98 - إِسْمَاعِيل بن بدر بن إِسْمَاعِيل بن زِيَاد أَبُو بكر كَانَ مولى نعْمَة لبني أُميَّة وَولى إشبيلية للناصر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وَكَانَ أثيراً لَدَيْهِ ومنادماً لَهُ وعاش إِلَى أول دوله ابْنه الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه وَقد حمل عَنهُ الحَدِيث لسماعه من بَقِي بن مخلد والخشنى وَمُحَمّد بن وضاح وطبقتهم فَاحْتَاجَ إِلَيْهِ النَّاس ذكره ابْن الفرضى فِي تَارِيخه وَذكر أَن صناعَة الشّعْر غلبت عَلَيْهِ وَهُوَ أحد المكثرين أنْشد لَهُ ابْن فرج فِي كتاب الحدائق من تأليفه (وَذي لجب كالبحر عب عبابه ... فَضَاقَ بِهِ رحب الفلا والتنائف) (قريب الخطى نائى المدى مالئ الملا ... بِجمع ترَاهُ وَاقعا غير وَاقِف) (تركنَا بِهِ أَرض الْعَدو كَأَنَّهَا ... مجاهل للمرتاد غير معارف) (غَدَتْ بعد سحب الْبيض فِيهَا ذيولها ... مجر ذيول الطامسات العواصف) وَله فِي النَّاصِر (لَو كَانَ يعبد دون الله من أحد ... مَا كَانَ غَيْرك فِي الدُّنْيَا بمعبود) (قد فَاتَ قدرك وصف الواصفين فَمَا ... ذكراك إِلَّا بتحميد وتمجيد) (لما ذكرتك يَوْمًا قلت من جذل ... يَا نعْمَة الله فِي أَيَّامه زيدي)

وَله فِي بيعَة الْمُسْتَنْصر بعد وَفَاة أَبِيه النَّاصِر (لَئِن غربت شمس لقد طلعت شمس ... فَمَا فِي صَلَاح الأَرْض ريب وَلَا لبس) (بمستنصر بِاللَّه دَان لملكه ... وأيامه الميمونة الْجِنّ وَالْإِنْس) (تولى أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأَصْبحُوا ... وَمَا بَينهم نجوى بعدوى وَلَا هَمس) (فَلَا سقيت أَرض بِغَيْر سحابه ... بِلَالًا وَلَا سرت لساكنها نفس) (وَإِن شدّ حلْس لَا يكون ثِيَابه ... فلاا نهضت يَوْمًا بِمن شده عنس) وَأنْشد لَهُ الْحميدِي عَن أبي مُحَمَّد بن حزم (أُنَاجِي حسن رَأْيك بالأماني ... وأشكو بالتوهم مَا شجاني) (ولي ب عَسى وَلَو وَلَعَلَّ روح ... ينفس عَن كئيب الْقلب عان) (ومحض هوى بِظهْر الْغَيْب صَاف ... ترى عَيْني بِهِ من لَا يراني) (على ذَاك الزَّمَان وَإِن نقضي ... سَلام لَا يبيد على الزَّمَان) (كفاني يَا مدى أمْلى بعاد ... تمنيت الْمَمَات لَهُ كفاني) وَله يرثي ابْنه (غرست قَضِيبًا زعزعته يَد الردى ... فَخلوا دموع الْعين تبك على غرسي) (وَهَذَا حمام الأيك يبكى هديله ... فَمَا لهديلي لَا تذوب لَهُ نَفسِي) وَله فِيهِ (مَا حزن يَعْقُوب على يُوسُف ... أَشد من حزني على أَحْمد) (أَحْمد ملحود فَهَل نستوى ... وَذَاكَ لم يقبر وَلم يلْحد) (وَكَانَ يرجوه وَهل أرتجى ... هَذَا وَقد غمضته بِالْيَدِ)

وَله فِي توت أهداه (تفاءلت بالتوت التأتي لزورة ... وَذَلِكَ قَالَ مَا علمت صَدُوق) (فأهديته غضا حكى حذق المها ... لَهُ منظر بالْحسنِ مِنْهُ يروق) (وَبَعض حكى الْيَاقُوت مِنْهُ احمراره ... وَمَا مجه للذائقين رحيق) (فَذا سبج فِيمَا يرى لَا سوداده ... وَذَا لَا حمرار اللَّوْن مِنْهُ عقبق) 99 - عبيد الله بن أَحْمد بن يعلى بن وهب ولاه النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد مَا كَانَ بيد أَبِيه أَحْمد بن يعلى قائده الْجَلِيل الْمِقْدَار الحميد الْآثَار من قيادة الْجوف بطليوس وأعمالها حِين نوه بِأَحْمَد الْمَذْكُور وولاه طليطلة وأعمالها من الثغر الْأَدْنَى وَرفع رزقه إِلَى أرزاق الوزراء مَعَ مقَامه على خطته فِي الشرطة الْعليا وسمى قَائِد الأعنة وَذَلِكَ فِي صفر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وثلاثمائة فأغنى عبيد الله فِي قتال الرّوم غناء أَبِيه وتوالت لَهُ فيهم فتوح وَكَانَ أديباً شَاعِرًا وَهُوَ الْقَائِل من قصيدة (ترى الأَرْض فِينَا لَا يقر قَرَارهَا ... إِذا لم يسسها من أُميَّة سائس) (ذَوُو الهضبات الشم والأبحر الَّتِي ... تفيض ملاء والملوك الأشاوس) (هم ذَهَبُوا بالمكرمات وَلم يزل ... لَهُم جبل الْعِزّ الْقَدِيم القوامس) (وهم نزلُوا من خَنْدَق حَيْثُ تلتقى ... رُؤُوس قصى فِي الذرى والمغاطس)

(وهم غمسوا فِي جَفْنَة الطّيب قبل أَن ... يرى أحد من قَومهمْ وَهُوَ غامس) (وهم أوقدوا حَرْب الْفجار حفيظة ... فَقَامَتْ بهَا أعياصهم والعنابس) (بهاليل من إِن يستضيف إِلَيْهِم ... بِمَا شيدوا إِلَّا الْخِصَال النفائس) (إِذا سوجلوا لم يَحْتَمِلهُمْ مساجل ... وَإِن قويسوا لم يستطعهم مقابس) (تطيف بهم ساحات مَكَّة فِي الْعلَا ... وتكنفهم مِنْهَا البطاح الأمالس) وَكَانَ أَخُوهُ يعلى بن أَحْمد أديباً أَيْضا وَسَيَأْتِي ذكره 100 - جَعْفَر بن عُثْمَان المصحفي الْحَاجِب الْوَزير أَبُو الْحسن هُوَ جَعْفَر بن عُثْمَان بن نصر بن قوى بن عبد الله بن كسيلة من برابر بلنسية ينتمي إِلَى قيس بالمخالفة وَذكر ابْن الفرضى فِي تَارِيخه أَبَاهُ عُثْمَان وَقَالَ فِي نسبه بعد نصر ابْن عبد الله بن حميد بن سَلمَة بن عباد بن يُونُس القيسى وَكَانَ قد أدب الحكم وَذَلِكَ أزلف جعفراً عِنْده وَأَدْنَاهُ مِنْهُ فاستخدمه بِالْكِتَابَةِ فِي إمارته وَولى جَزِيرَة ميورقة فِي أَيَّام النَّاصِر ثمَّ تقلد الحكم

الْخلَافَة فاستوزره وأمضاه مَعَ ذَلِك على كِتَابَته الْخَاصَّة وَضم إِلَيْهِ بعد مُدَّة ولَايَة الشرطة وأخدمه ابْنه هشاماً وَأقَام على ذَلِك إِلَى وَفَاة الحكم واستخلاف هِشَام ابْنه فحجبه يَوْم قعوده لِلْبيعَةِ وَذَلِكَ يَوْم الأثنين لخمس خلون من صفر سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَعَن يَمِينه ويساره الفتيان جؤذر وفائق ثمَّ أهل الخطط على مَنَازِلهمْ وَكَانَ الْقَائِد مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي عَامر وَهُوَ إِذْ ذَاك يتَوَلَّى الشرطة الْوُسْطَى وَالسِّكَّة والمواريث وَالْوكَالَة يشرف على عقد الشَّهَادَات فِي نسخ الْبيعَة بَين يَدَيْهِ بعد مَا كَانَ القَاضِي مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن السَّلِيم يَأْخُذهَا على طَبَقَات من شَهِدَهَا من الْأَعْمَام وَأَبْنَائِهِمْ والوزراء وضروب أهل الْخدمَة ورجالات قُرَيْش وأعلام قرطبة حكى ذَلِك عِيسَى بن أَحْمد الرَّازِيّ قَالَ ثمَّ لما كَانَ يَوْم السبت لعشر خلون من صفر المؤرخ قلد هِشَام حجابته جَعْفَر بن عُثْمَان لقدم صحبته لِأَبِيهِ الْمُسْتَنْصر وَكَانَ الْمُسْتَنْصر قد شرفه لتأديب أَبِيه عُثْمَان بن نصر لَهُ وَصَرفه فِي الْأَعْمَال وَقدمه إِلَى الكور ثمَّ اسْتَكْتَبَهُ وَهُوَ ولى عهد وَذكر نَحوا مِمَّا تقدم من خَبره قَالَ ثمَّ قدم هِشَام الْمُؤَيد ابْن أَخِيه هِشَام بن مُحَمَّد بن عُثْمَان إِلَى خطة الْخَيل ثمَّ إِلَى الوزارة وَولى بنيه مُحَمَّدًا وَعُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن وأخاه سعيداً وَابْن أَخِيه مُحَمَّدًا الشرطة الْعليا وَالْوُسْطَى فَلم ينْهض بعبء مَا قَلّدهُ وَخلف على الْمَدِينَة ابْنه مُحَمَّدًا

فأساء السِّيرَة وزكا على الْمحبَّة أَبُو عَامر مُحَمَّد بن أبي عَامر فَبسط الْمُؤَيد يَده وَقبض يَد جَعْفَر بن عُثْمَان فأداله وَابْن أَخِيه وَقَالَ ابْن حَيَّان استطال عَلَيْهِ مُحَمَّد بن أبي عَامر بكفايته ودفاعه الْعَدو المتكالب لأوّل ولَايَة هِشَام ووفاة الحكم وَاسْتظْهر على ذَلِك بمصاهرة غَالب القائدة مولى النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وَقد كَانَ غَالب فِيمَا حكى الرَّازِيّ شَارك جَعْفَر بن عُثْمَان فِي الحجابة وصير فرَاشه فِي الصَّدْر وَعَن يَمِينه جعفروعن يسَاره أَبُو عَامر للوزارتين قَالَ ابْن حَيَّان فَأدى ذَلِك إِلَى الْقَبْض على جَعْفَر وعَلى وَلَده وأسبابه وعَلى أَخِيه هِشَام وَسَائِر أَقَاربه وطولبوا بالأموال وَكَانَ ابْن أبي عَامر يحمل جعفراً مَعَه فِي الْغَزَوَات تعنيتاً وانتقاماً مِنْهُ فَلَمَّا بَان عَجزه وَضعف أقرّ بالمطبق إِلَى أَن هلك فِيهِ سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وثلاثمائة فَأسلم إِلَى أَهله فِي أقبح صُورَة وَقيل قتل خنقاً وَكَانَ مقدما فِي صناعَة الْكِتَابَة مفضلا على طبقته بالبلاغة وَله شعر كثير مدون يدل على تمكنه من الإجادة وتصرفه فِي أفانين الْبَيَان وَهُوَ الْقَائِل (سَأَلت نُجُوم اللَّيْل هِيَ يَنْقَضِي الدجى ... فخطت جَوَابا بِالثُّرَيَّا كخط لَا) (وَكنت أرى أَنِّي بآخر لَيْلَة ... فَأَطْرَقَ حَتَّى خلته عَاد أَولا) (وَمَا عَن هوى سامرتها غير أنني ... أنافسها المجرى إِلَى رتب الْعلَا)

وَله (أما والهوى مَا كنت أعرف مَا الْهوى ... وَلَا مَا دواعي الشوق حَتَّى تكلما) (دَعَاني بِلَفْظ لَو دَعَا يذبلاً بِهِ ... للباه مشتاقاً ووافاه مغرما) وَله ويروى لغيره (كَلَّمتنِي فَقلت در سقيط ... فتأملت عقدهَا هَل تناثر) (وازدهاها تَبَسم فأرتنا ... عقد در من التبسم آخر) وَله (إِن فَاه أشربت الضلوع هوى ... حَتَّى كَأَن جَمِيعهَا أذن) (لَا تنكروا كلف الضلوع بِهِ ... فَحَدِيثه لوجيبها سكن) وقرأت فِي كتاب الفرائد فِي التَّشْبِيه لِابْنِ أبي الْحسن الْقُرْطُبِيّ مَنْسُوبا إِلَيْهِ (بَادر فَإِن نَذِير الْغَيْث قد نذرا ... مجدداً لسرور كَانَ قد دثرا) (أرخت عزاليه واصطرت بعنصره ... ريح الصِّبَا واستدرت دمعه فَجرى) (أوفى فبرد من حر الْقُلُوب كَمَا ... أوفى علينا حبيب طالما هجرا) (فلاقه بكؤوس الراح مترعة ... شكرا لَهُ فكريم الْقَوْم من شكرا)

وَله فِي سوسنة (يَا رب سوسنة قد بت ألثمها ... وَمَالهَا غير طعم الْمسك من ريق) (مصفرة الْوسط مبيض جوانبها ... كَأَنَّهَا عاشق فِي حجر معشوق) وَله فِي الخيال (لَئِن سلبوني شخصه ووصاله ... لما قدرُوا أَن يسلبوني خياله) (إِذا حجبت عني الْحَوَادِث وَجهه ... أَقَامَ الْهوى لي حَيْثُ كنت مِثَاله) وَله (وَكم مهمه لَا يُوجد الركب مشرعاً ... قطعت وبحر شامخ الموج أسفعا) (خضم إِذا استعلت بِهِ الشَّمْس لَا يزل ... يطاولها حَتَّى تمل فتخضعا) (تغيب وتبدو فِيهِ حَتَّى كَأَنَّمَا ... غَدا مغربا تجرى إِلَيْهِ ومطلعا) (إِذا مَا ارتمت أمواجه خلت أَنَّهَا ... ذرى الشم أمتنَا من الْبر نزعا) (تقاذف فِي رحب الْجمال بسيطها ... يرد وقود الرّيح حسرى وظلعا) وَله فِي تفاحة (لعمري لَئِن أهديت نَفسِي وَمَا حوت ... فَأَنت بهَا منى أَحَق وأملك) (ولكنني أهْدى الَّتِي لَا تردها ... يَمِين وَلَا فِيهَا لذِي اللحظ مترك) (تناولتها من غصنها وَكَأَنَّهَا ... من الْحسن ذَاك الناجم المتفلك) وَله فِي سفرجلة (ومصفرة تختال فِي ثوب نرجس ... وتعبق عَن مسك ذكى التنفس) (لَهَا ريح مَحْبُوب وقسوة قلبه ... ولون محب حلَّة السقم مكتس)

(فصفرتها من صفرتي مستعارة ... وأنفاسها فِي الطّيب أنفاس مؤنسى) (فَلَمَّا استتمت فِي الْقَضِيب شبابها ... وحاكت لَهَا الأنواء أبراد سندس) (مددت يَدي باللطف أبغى اقتطافها ... لأجعلها ريحانتي وسط مجلسي) (وَكَانَ لَهَا ثوب من الزغب أغبر ... يرف على جسم من التبر أملس) (فَلَمَّا تعرت فِي يَدي من لباسها ... وَلم تبْق إِلَّا فِي غلالة نرجس) (ذكرت بهَا من لَا أبوح بِذكرِهِ ... فأذبلها فِي الْكَفّ حر تنفسي) وَله وَقد أهديت إِلَيْهِ رامشنة ورد فِي زمن الْبرد فاستغربها وَكتب إِلَى مهديها (لعمرك مَا فِي فطْرَة الرَّوْض قدرَة ... يحِيل بهَا مجْرى الزَّمَان عَن الْقَصْد) (وَلكنهَا أخلاقك الغر نبهت ... بربعك فِي كانون نَائِمَة الْورْد)

وَله فِي الْخمر وَقد أنْشد ذَلِك أَبُو مَنْصُور الثعالبي فِي الْيَتِيمَة (صفراء تطرق فِي الزّجاج فَإِن سرت ... فِي الْجِسْم دبت مثل صل لادغ) (خفيت على شرابها فَكَأَنَّمَا ... يَجدونَ ريا فِي إِنَاء فارغ) (عَبث الزَّمَان بجسمها فتسترت ... عَن عينهَا فِي ثوب نور سابغ) وَله (كم لَيْلَة بت أطويها وأنشرها ... وَلَا أرى فِي الَّذِي أقضى بهَا حرجاً) (فِي فتية نجب صَارُوا بمعترك ... يجرى النَّعيم على الصرعى بهَا خلجا) (والجو ملتحف ... والنجم مكحولة ألحاظه دعجا) (لفوا دجى ليلهم فِي نور كاسهم ... ونفسوا من خناق الزق فانبلجا) وَله (لعينيك فِي قلبِي على عُيُون ... وَبَين ضلوعي للشجون فنون) (لَئِن كَانَ جسمي مخلقاً فِي يَد الْهوى ... فحبك غض فِي الْفُؤَاد مصون) (نَصِيبي من الدُّنْيَا هَوَاك وَإنَّهُ ... عَذَابي وَلَكِنِّي عَلَيْهِ ضنين) وَله (يَا ذَا الَّذِي لم يدع لي حبه رمقاً ... هَذَا محبك يشكو البث والأرقا) (لَو كنت تعلم مَا شوقي إِلَيْك إِذا ... أيقنت أَن جَمِيع الشوق لي خلقا) (لم يبصر الْحسن مجموعاً على أحد ... من لَيْسَ يبصر ذَاك الخد والعنقا) وَله فِي وَفَاة النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وبيعة ابْنه الْمُسْتَنْصر بِاللَّه الحكم ابْن عبد الرَّحْمَن

(أَلا إِن أَيَّام هفت بإمامها ... لجائرة مشتطة باحتكامها) (تَأمل فَهَل من طالع غير آفل ... بِهن وَهل من قَاعد لقيامها) (وعاين فَهَل من عائش برضاعها ... من النَّاس إِلَّا ميت بفطامها) (كَأَن نفوس النَّاس كَانَت بِنَفسِهِ ... فَلَمَّا توارى أيقنت بحمامها) (فطار بهَا يأس الأسى وتقاصرت ... يَد الصَّبْر عَن إعوالها والتدامها) وَمِنْهَا لَهُ (إِمَام تَلَقَّتْهُ الْخلَافَة صبة ... إِلَى نسم مَحْمُولَة عَن إمامها) (فَصَارَت إِلَيْهِ فِي حُدُود تَمَامه ... وَصَارَ إِلَيْهَا فِي حُدُود تَمامهَا) (فَلم ينْتَقل بِالنَّاسِ يَوْم انتقالها ... إِلَيْهِ سَبِيل عَن مَحل قوامها) (أَتَوْهُ فَأَعْطوهُ المواثق عَن هوى ... تمكن فِي أبشارها وعظامها) (وناولهم كفا يطول الْهدى بهَا ... رضَا الله فِي تقبيلها واستلامها) (أناف على الدُّنْيَا بِعَين مُحِيطَة ... وَقَالَ ادخُلُوا فِي أمنها وسلامها) وَله (يطالعنا فِي كل يَوْم بغرة ... بَنو الدّين وَالدُّنْيَا مَعًا يأملونها) (إِذا مَا تراءته الْعُيُون تواضعت ... لإجلاله عَن أَن تقل شؤونها) (عَلَيْهَا من الرَّحْمَن نور جلالة ... يقصر بالألحاظ أَن تستبينها) وَله مِمَّا قَالَه بديهاً بَين يَدي الحكم عِنْدَمَا بشر بِوِلَادَة ابْنه هِشَام (اطلع الْبَدْر من حجابه ... واطرد السَّيْف من قرَابه) (وجاءنا وَارِث الْمَعَالِي ... ليثبت الْملك فِي نصابه)

(بشرنا سيد البرايا ... بِنِعْمَة الله فِي كِتَابه) (لَو كنت أعْطى البشير عمري ... لم أقض حَقًا لما أَتَى بِهِ) وَله فِي نكبته (تَأَمَّلت صرف الحادثات فَلم أزل ... أَرَاهَا توافي عِنْد مقصدها الحرا) (فَللَّه أَيَّام مَضَت لسبيلها ... فَإِنِّي لَا أنسى لَهَا أبدا ذكرا) (تجافت بهَا عَنَّا الْحَوَادِث بُرْهَة ... وأبدت لنا مِنْهَا الطلاقة والبشرا) (ليَالِي لم يدر الزَّمَان مَكَاننَا ... وَلَا نظرت منا حوادثه شزرا) (وماا هَذِه الْأَيَّام إِلَّا سحائب ... على كل حَال تمطر الْخَيْر والشرا) وَله (أجارى الزَّمَان على حَاله ... مجاراة نَفسِي لأنفاسها) (إِذا نفس صاعد شفها ... تَوَارَتْ بِهِ بَين جلاسها) (وَإِن عكفت نكبة للزمان ... عكفت بصدري على رَأسهَا) وَله يستعطف الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر وَكتب إِلَيْهِ بهَا من محبسه (هبني أَسَأْت فَأَيْنَ العفور وَالْكَرم ... إِذْ قادني نَحْوك الإذعان والندم) (يَا خير من مدت الْأَيْدِي إِلَيْهِ أما ... ترثى لشيخ نعاه عنْدك الْقَلَم) (بالغت فِي السخط فاصفح صفح مقتدر ... إِن الْمُلُوك إِذا مَا استرحموا رحموا) هَذِه الأبيات متنازعة ينسبها إِلَى المصحفي جمَاعَة وَقد وَجدتهَا منسوبة إِلَى أبي عمر بن دراج القسطلي وَذكر أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن الْقَاسِم الرَّقِيق فِي

تَارِيخه أَنَّهَا لكاتب إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن الْأَغْلَب وَكِلَاهُمَا أَسَاءَ الرَّد على من قالهاوتمثل بهَا أما إِبْرَاهِيم فَقَالَ لجهله وفظاظته وَقلة رَحمته إِن الْمُلُوك إِذا مَا استرحموا قتلوا وَبعث إِلَيْهِ من قَتله وقرأت فِي كتاب الافتخار لأبي بكر عَتيق بن خلف القيرواني أَن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد لما قَرَأَ رِسَالَة كَاتبه إِلَيْهِ من محبسه قَالَ يكْتب إِلَى هبني أَسَأْت وَهُوَ قد أَسَاءَ وَالله لَو كتب إِلَى بقول الأول (وَنحن الكاتبون وَقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا) لعفوت عَنهُ ثمَّ أَمر بِهِ فَجعل فِي تَابُوت وأحرق بالنَّار وَهُوَ حَيّ وَأما ابْن أبي عَامر فَأمر عبد الْملك بن إِدْرِيس أَن يجاوبه عَن هَذِه الأبيات فَقَالَ

(الْآن يَا جَاهِلا زلت بك الْقدَم ... تبغى التكرم لما فاتك الْكَرم) (أغريت بِي ملكا لَوْلَا تثبته ... مَا جَازَ لي عِنْده نطق وَلَا كلم) (فايأس من الْعَيْش إِذْ قد صرت فِي طبق ... إِن الْمُلُوك إِذا مَا ستنقموا نقموا) (نَفسِي إِذا سخطت لَيست براضية ... وَلَو تشفع فِيك الْعَرَب والعجم) وَيُقَال إِن الأبيات لِابْنِ أبي عَامر وكلتا الفعلتين من أَفعَال الْجَبَابِرَة الَّذين أطغتهم النِّعْمَة ونزعت من قُلُوبهم الرَّحْمَة وللمصحفي لما يئس من الْمَنْصُور وصفحه (لَا تأمنن من الزَّمَان تقلباً ... إِن الزَّمَان بأَهْله يتقلب) (وَلَقَد أَرَانِي والليوث تخافني ... فأخافني من بعد ذَاك الثَّعْلَب) (حسب الْكَرِيم مذلة ونقيصة ... أَلا يزَال إِلَى لئيم يطْلب) (وَإِذا أَتَت أعجوبة فاصبر لَهَا ... فالدهر يَأْتِي بعد مَا هُوَ أعجب) وَله (لي مُدَّة لَا بُد أبلغهَا ... فَإِذا انْقَضتْ أَيَّامهَا مت) (لَو قابلتني الْأسد ضارية ... وَالْمَوْت لم يقدر لما خفت) (فَانْظُر إِلَى وَكن على حذر ... فبمثل حالك أمس قد كنت)

101 - مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي عَامر الْحَاجِب الْمَنْصُور أَبُو عَامر هُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَامر بن أبي عَامر بن الْوَلِيد ابْن يزِيد بن عبد الْملك المعافرى أَمِير الأندلس فِي دولة الْمُؤَيد بِاللَّه هِشَام بن الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه وَالْغَالِب عَلَيْهِ أَصله من الجزيرة الخضراء ولسلفه بهَا قدر ونباهة وَقدم قرطبة شَابًّا فَطلب بهَا الْعلم وَالْأَدب وَسمع الحَدِيث وَكَانَ أَبوهُ أَبُو حَفْص عبد الله قد سمع الحَدِيث أَيْضا وَصَحب أَبَا مُحَمَّد الْبَاجِيّ الراوية فِي الْأَخْذ عَن الشُّيُوخ بقرطبة وَقد ذكرته فِي كتابي الموسوم ب التكملة لكتاب الصِّلَة لِابْنِ بشكوال وَكَانَت للمنصور همة ترمى بِهِ المرامى وَيحدث نَفسه بِإِدْرَاك معالي الْأُمُور وَيزِيد فِي ذَلِك حَتَّى كَانَ يحدث من يخْتَص بِهِ بِمَا يَقع لَهُ من ذَلِك فتم لَهُ مُرَاده وَكَانَ أحد أَعَاجِيب الدُّنْيَا فِي ترقيه وَالظفر بتمنيه تصرف أول أمره فِي الْوكَالَة لصبح أم هِشَام وَالنَّظَر فِي أموالها وضياعها وَالْجد ينْهض بِهِ والأقدار تساعده إِلَى أَن توفّي الحكم وقلد هِشَام الْخلَافَة وَهُوَ صَغِير وَلما انْتقض الْعَدو على إِثْر ذَلِك وَخيف الِاضْطِرَاب وَلم يكن عِنْد المصحفي

غناء وَلَا دفاع ضمن مُحَمَّد بن أبي عَامر لصبح أم هِشَام سُكُون الْحَال وَزَوَال الْخَوْف واستقرار الْملك لابنها على أَن يمد بالأموال وَيجْعَل إِلَيْهِ قَود الجيوش إِلَى مَا كَانَ بِيَدِهِ من الخطط السّنيَّة وَهُوَ بِقُوَّة نَفسه وسعادة جده يعد النَّصْر وَلَا يمترى فِي الظُّهُور ويستعجل الْأَسْبَاب الْمعينَة على الْفَتْح حَتَّى أسعف ولقى الْعَدو فَهَزَمَهُ ووالى غَزْو بِلَاد الرّوم عالي الْقدَم مَنْصُور الْعلم لَا يخْفق لَهُ مسعى وَلَا يؤوب دون مغنم كرة بعد أُخْرَى إِلَى أَن صَار صَاحب التَّدْبِير والمتغلب على جَمِيع الْأُمُور فدانت لَهُ أقطار الأندلس كلهَا وَأمنت بِهِ وَلم يضطرب عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْء أَيَّام حَيَاته لحسن سياسته وَعظم هيبته وَكَانَ رُبمَا أنذر خاصته بِمَا يكون وَرَاءه من الْفِتَن حَتَّى ليكدر عَلَيْهِم مجَالِس أنسه بِمَا يلقى من ذَلِك إِلَيْهِم فَوَقع الْأَمر على مَا توقع وَجرى الْقدر بِمَا قدر على ذَلِك فَمَا زَالَ يبطش بأعدائه وَيسْقط من فَوْقه بقهره واستيلائه إِلَى أَن صَار الْخَلِيفَة حِينَئِذٍ هِشَام بن الحكم لَيْسَ لَهُ من الْأَمر غير الِاسْم خَاصَّة فَمَا ظَنك بِرِجَالِهِ ومواليه الَّذين مِنْهُم كَانَ يرهب وبهم كَانَ يتمرس هَذَا ونصرته على النَّصَارَى مُتَوَالِيَة وغزواته فِي كل صائفة مُتَّصِلَة أَزِيد من خمسين عدهَا ابْن حَيَّان فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الدولة العامرية وَجعله لمن شَاءَ خزله عَن تَارِيخه الْكَبِير أَو ضمه إِلَيْهِ حَتَّى أذعن لَهُ مُلُوك الرّوم وَرَغبُوا فِي مصاهرته تنَاول ذَلِك كُله بتأييد إلهي مُدَّة طَوِيلَة وأورثه بنيه وقتا قَصِيرا فَأَما أَبُو مَرْوَان عبد الْملك المظفر مِنْهُم فَقَامَ بالدولة مقَام أَبِيه وأغنى فِي غَزْو

الْعَدو إِلَّا أَن مدَّته لم تطل وَبَلغت الأندلس فِي أَيَّامه نِهَايَة الْكَمَال وَكَانَ على أَهلهَا أسعد مَوْلُود حكى ابْن حَيَّان عَن زعيم المنجمين على عهد الحكم أَنه نظر فِي مولد عبد الْملك هَذَا وَهُوَ طِفْل فَأَشَارَ من بعد سعادته إِلَى أَمر كَبِير لم يدْرك هُوَ آخِره فَعجب من شَاهده من جودة إِصَابَته وَذَلِكَ أَنه قَالَ لم يُولد قطّ بالأندلس مَوْلُود أسعد مِنْهُ على أَبِيه وعَلى نَفسه وعَلى حَاشِيَته نعم وعَلى أهل الأندلس طراً وعَلى أرْضهَا طراً فضلا عَن ناسها وَإِنَّهَا لَا تزَال كَذَلِك حَال حَيَاته وَإِذا هلك فَمَا أَرَاهَا إِلَّا بالضد فَكَانَ كَذَلِك وَأما أَبُو الْمطرف عبد الرَّحْمَن النَّاصِر أَخُو عبد الْملك فَإِنَّهُ ولى الحجابة بعده فَلم يقم إِلَّا يَسِيرا حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ الْمهْدي مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر فَقتل وصلب وانبعثت الْفِتَن على الْأَثر فَمَا خمدت نارها إِلَّا فِي النَّادِر إِلَى وقتنا هَذَا وَهُوَ سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وَقد استولى الرّوم فِيهِ على الأندلس بأسرها مَعَ الجزائر الشرقية المضافة إِلَيْهَا بَين صلح وعنوة وشؤم عبد الرَّحْمَن النَّاصِر هُوَ الَّذِي جر افْتِرَاق الْجَمَاعَة وجرأ على خلعان الطَّاعَة وعَلى رجله كَانَ الْفساد الْعَام لما استشرف إِلَى الْخلَافَة واستقل خطة الحجابة وَلم يرض إِلَّا بِالْإِمَامَةِ فداخل هشاماً المضعوف وطالبه بِأَن يَجعله ولى عَهده ويلقى إِلَيْهِ بِجَمِيعِ أمره فاستفتى فِي ذَلِك فُقَهَاء قرطبة وعلماءها

حِينَئِذٍ فسوغوا لَهُ مَا طلب وَاحْتَجُّوا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يخرج رجل من قحطان يَسُوق النَّاس بعصاه وَكَانَ ابْن أبي عَامر معافريا قحطانيا فَقَالُوا عَسى أَن يكون الَّذِي وعد بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجد فِي ذَلِك السعى الْخَبيث أَبُو الْعَبَّاس بن ذكْوَان القَاضِي وَأَبُو حَفْص ابْن برد الْكَاتِب حَتَّى قَالَ فيهمَا ابْن أبي يزِيد الْمصْرِيّ

(إِن ابْن ذكْوَان وَابْن برد ... قد ناقضاً الدّين بعد عمد) (وعاندا الْحق إِذْ أَقَامَا ... حفيد شنجه ولى عهد) وَلم يقم كَذَلِك إِلَّا أَرْبَعَة أشهر فِي مَا ذكر الْحميدِي وَغَيره واختل أمره وأسلمته الجيوش فَكَانَ من خَبره مَا تقدم ذكره وَكَانَ مولد الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر سنة سبع وَعشْرين وثلاثمائة وفيهَا كَانَت الْهَزِيمَة الْعَظِيمَة بالخندق على عبد الرَّحْمَن النَّاصِر فاخذ الله بثأر

الْإِسْلَام على يَدي الْمَنْصُور وَكَانَت وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وثلاثمائة خرج غازياً وَقد وَقع فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ فاقتحم جليقية من تِلْقَاء مَدِينَة طليطلة ومرضه يخف وقتا ويثقل أوقاتاً وقويت عَلَيْهِ الْعلَّة بِأَرْض قشتيلة فَاتخذ لَهُ سَرِير من خشب يحمل على أَعْنَاق الرِّجَال قطع بذلك أَرْبَعَة عشر يَوْمًا حَتَّى وصل إِلَى مَدِينَة سَالم فَوجه ابْنه عبد الْملك ليخبر هشاماً بِمَا ترك عَلَيْهِ أَبَاهُ وَتُوفِّي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ لثلاث بَقينَ من شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة قيل وَدفن بِمَدِينَة سَالم وقبره بهَا وَكَانَ عَلَيْهِ مَكْتُوبًا (آثاره تنبيك عَن أخباره ... حَتَّى كَأَنَّك بالعيان ترَاهُ) (تالله لَا يَأْتِي الزَّمَان بِمثلِهِ ... أبدا وَلَا يحمى الثغور سواهُ) وعَلى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الهيبة والرهبة فقد كَانَ لَهُ حلم وَاحْتِمَال مَعَ محبَّة للْعلم وإيثار للأدب وإكرام لمن ينتسب إِلَيْهِمَا يحْكى أَن أَبَا مُحَمَّد الْبَاجِيّ الراوية دخل عَلَيْهِ وَقَالَ أصلحك الله يَا حَاجِب وحفظك ووفقك وَأحسن عونك فَرد عَلَيْهِ ابْن أبي عَامر أجمل رد وبجله ووقره وَأدنى مَكَانَهُ حَتَّى أقعده إِلَى جَانِبه وَقَالَ لَهُ كَيفَ أَنْت الْيَوْم وحالك فَقَالَ لَهُ بِخَير مَا كنت بِهِ ثمَّ قَالَ لَهُ الْبَاجِيّ أَي وَالِد كَانَ لَك رَحْمَة الله عَلَيْهِ كَانَ وَالله

مَا علمت من أهل الْخَيْر والعافية وَالصَّلَاح والعفة والحرص على الطّلب والمعرفة اخْتلف معي إِلَى مُحَمَّد بن عمر بن لبَابَة وَإِلَى أَحْمد بن خَالِد وَإِلَى مُحَمَّد بن فطيس اللبيرى وَغَيرهم وَكَانَ لي خير صديق وَصَاحب أنتفع بِهِ وَينْتَفع بِي وأقابل مَعَه كتبه وكتبي وَلم يكن فضولياً الْبَتَّةَ وَأما أَنْت فَلم تمتثله وأدخلت يدك فِي الدُّنْيَا فانغمست فِي لجها وَطلبت الفضول فَعلمت أَخْبَارًا كَثِيرَة وأوبقت نَفسك وَالله يَا مغرور وَعز على انتشابك فَقَالَ لَهُ ابْن أبي عَامر يَا فَقِيه هَكَذَا صَاحب الدُّنْيَا لَا بُد أَن يخلط خيرا بشر وَيَأْتِي مَعْرُوفا ومنكراً وَالله يَتُوب على من يَشَاء برحمته وَسَأَلَهُ الْبَاجِيّ إِثْر هَذَا رفع الغرامة عَن مَاله بإشبيلية فَأمر بإسقاطها وَوَصله ببدرة دَرَاهِم كَامِلَة ومنديل كسْوَة تشاكله فِيهَا خلعة تَامَّة وَمن شعره يفخر (رميت بنفسي هول كل عَظِيمَة ... وخاطرت وَالْحر الْكَرِيم مخاطر) (وَمَا صَاحِبي إِلَّا جنان مشيع ... وأسمر خطي وأبيض باتر) (وَمن شيمي أبي على كل طَالب ... أَجود بِمَال لَا تقيه المعاذر) (وَإِنِّي لزجاء الجيوش إِلَى الوغى ... أسود تلاقيها أسود خوادر) (لسدت بنفسي أهل كل سيادة ... وكاثرت حَتَّى لم أجد من أكاثر)

(وَمَا شدت بنياناً وَلَكِن زِيَادَة ... على مَا بنى عبد المليك وعامر) (رفعنَا الْمَعَالِي بالعوالي حَدِيثه ... وأورثناها فِي الْقَدِيم معافر) قَالَ ابْن حَيَّان هَذَا لِأَنَّهُ مُحَمَّد بن عبد الله وَنسبه كَمَا تقدم قَالَ وَعبد الْملك جده هَذَا هُوَ الدَّاخِل إِلَى الأندلس مَعَ طَارق بن زِيَاد مولى مُوسَى ابْن نصير فِي أول الداخلين من الْمغرب وَهُوَ فِي قومه وسيط وَقَالَ الْحميدِي قَالَ لي أَبُو مُحَمَّد على بن أَحْمد يَعْنِي ابْن حزم الْفَقِيه كَانَ الْمَنْصُور أَبُو عَامر مُحَمَّد بن أبي عَامر معافري النّسَب من حمير وَأمه تميمية وَهِي بريهة بنت يحيى بن زَكَرِيَّاء التَّمِيمِي الْمَعْرُوف بِابْن برطال وَلذَلِك قَالَ فِيهِ احْمَد بن دراج هُوَ أَبُو عمر القسطلي من قصيدة لَهُ فِيهِ (تلاقت عَلَيْهِ من تَمِيم ويعرب ... شموس تلالا فِي الْعلَا وبدور) (من الحميرين الَّذِي أكفهم ... سحائب تهمى بالندى وبحور) وللمنصور لما اشْتَدَّ سُلْطَانه وتوالى ظفره وَكتب بِهِ إِلَى صَاحب مصر يتوعده (منع الْعين أَن تذوق المناما ... حبها أَن ترى الصَّفَا والمقاما) (لي دُيُون بالشرق عِنْد أنَاس ... قد أحلُّوا بالمشعرين الحراما) (إِن قضوها نالوا الْأَمَانِي وَإِلَّا ... جعلُوا وَزنهَا رقاباً وهاما) (عَن قريب ترى خُيُول هِشَام ... يبلغ النّيل خطوها وَال) وَله (ألم ترني بِعْت الْإِقَامَة بالسرى ... ولين الحشايا بالخيول الضوامر)

(تبدلت بعد الزَّعْفَرَان وطيبه ... صدا الدرْع من مستحكمات المسامر) (أروني فَتى يحمى حماى وموقفي ... إِذا اشتجر الأقران بَين العساكر) (أَنا الْحَاجِب الْمَنْصُور من آل عَامر ... بسيفي أقد الْهَام تَحت المغافر) (تلاد أَمِير الْمُؤمنِينَ وَعَبده ... وناصحه الْمَشْهُود يَوْم المفاخر) (فَلَا تحسبوا أَنِّي شغلت بغيركم ... وَلَكِن عهِدت الله فِي قتل كَافِر) وَأهْدى الْمَنْصُور إِلَى أَبى مَرْوَان عبد الْملك بن أَحْمد بن شَهِيد الْوَزير عقيلة من عقائل الرّوم يكنفها ثَلَاث جوَار وَقد سَأَلَهُ ذَلِك عِنْد صَدره من بعض غَزَوَاته وَكتب إِلَيْهِ مَعَهُنَّ يداعبه (قد بعثنَا بهَا كشمس النَّهَار ... فِي ثَلَاث من المها أبكار) (فاجتهد واتئد فَإنَّك شيخ ... خفى اللَّيْل عَن بَيَاض النَّهَار) (صانك الله عَن كلالك فِيهَا ... فَمن الْعَار كُله المسمار) فافتضهن أجمع فِي ليلته وَكتب إِلَيْهِ (قد فضضنا ختام ذَاك السوار ... واصطبغنا من النجيع الجارى)

(ونعمنا فِي ظلّ أنعم ليل ... ولهونا بالدر أَو بالدراري) (وَقضى الشَّيْخ مَا قضى بحسام ... ذِي مضاء عضب الظبي بتار) (فاصطنعه فَلَيْسَ يجْزِيك كفرا ... واتخذه سيفاعلى الْكفَّار) قَالَ ابْن حَيَّان وَكَانَت حجابة الْمَنْصُور خمْسا وَعشْرين سنة وعمره خمْسا أَو سِتا وَسِتِّينَ سنة 102 - عبد الله بن عَمْرو بن أبي عَامر أَبُو حَفْص كَانَ أَبوهُ عَمْرو وَهُوَ الملقب ب عسكلاجة صَاحب المدينتين فِي أَيَّام هِشَام الْمُؤَيد بِتَقْدِيم ابْن عَمه الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر ثمَّ ولى بِلَاد الْمغرب بعد ذَلِك فَاشْتَدَّ سُلْطَانه هُنَالك واستنزل حسن بن الْقَاسِم العلوى الإدريسي وانفذه إِلَى الأندلس وَكَانَ صَارِمًا مهيباً جباراً قاسيا وَقَتله ابْن عَمه الْمَنْصُور بتنقصه إِيَّاه وغضه مِنْهُ وتسخيه عَلَيْهِ احتجانه الْأَمْوَال دونه

بعد أَن استقدمه من الْمغرب وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة وَمن شعر أبي حَفْص هَذَا يذم المظفر عبد الْملك لما زوج حَبِيبَة بنت ابْن عَمه عبد الله بن يحيى بن عبيد الله بن أبي عَامر وَهِي بنت أُخْته بريهة من عبد الْملك بن قند مَوْلَاهُم (عَرَبِيّ مزوج ... عَبده بنت أُخْته) (قبح الله فعل ذَا ... ورماه بمقته) وَقد قيل إنَّهُمَا لعبد الْملك بن يحيى أخي عبد الله بن يحيى الْمَذْكُور 103 - زِيَاد بن أَفْلح مولى النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد كَانَ من وزراء الدولة العامرية وكبار رجالها وَتُوفِّي فِي أَولهَا سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وثلاثمائة ذكر ذَلِك ابْن حَيَّان فِي تَارِيخه الْكَبِير وَذكر فِي الدولة العامرية أَنه كَانَ على الْمَدِينَة وَأَن جؤذراً الْفَتى الحكمى تحين ركُوب

زِيَاد هَذَا إِلَى دَاره بِطرف الْمَدِينَة حِين توصل إِلَى هِشَام الْمُؤَيد عَازِمًا على الفتك بِهِ عِنْد مداخلته الْجَمَاعَة الَّذين اجْتَمعُوا على خلعة بتدبير عبد الْملك ابْن القَاضِي مُنْذر بن سعيد صَاحب خطة الرَّد فبطش بجؤذر وَقبض عَلَيْهِ بمبادرة

أَحْمد بن مُحَمَّد بن عروس إِلَى تلافي الْأَمر قَالَ ووافى زِيَاد على إِثْر ذَلِك فوبخه ابْن عروس فَأخذ فِي الِاعْتِذَار وتعاونا على النَّازِلَة وَمَا سلم زِيَاد من التُّهْمَة وَحكى أَن عبد الْملك بن مُنْذر فِي هَذِه الْقِصَّة لما أفتى عَلَيْهِ بِآيَة الْحِرَابَة ورد إِلَى الْخَلِيفَة الْأَمر فِيمَا يخْتَار لَهُ من الْعقُوبَة أَشَارَ صَاحب الْمَدِينَة زِيَاد بن أَفْلح هَذَا بِأَن يصلب استبلاغاً فِي الْمثلَة يَبْغِي بذلك التَّقَرُّب إِلَى ابْن أبي عَامر وَنفى التُّهْمَة عَنهُ فَعمل بِرَأْيهِ وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَزِيَاد هُوَ الْقَائِل (وأصبحت الدُّنْيَا بأوبتك الرِّضَا ... لَدَى وصل صافع لقفا الصد) (وَلم لَا ودهري كُله بك مونق ... أرق إِذا مَا شِئْت من طرف برد) 104 - فَرِحُونَ بن عبد الله يعرف بِابْن الوبلة وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْوَاحِد ويشهر بفرحون كَانَ والياً على شنترين بغرب الأندلس فِي أَيَّام الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَو ابْنه هِشَام الْمُؤَيد بِاللَّه وَقدم عَلَيْهِ أَبُو عَمْرو يُوسُف بن هَارُون الرَّمَادِي منتجعاً فَأمر بإنزاله فقصر بِهِ متولى ذَلِك فَكتب إِلَيْهِ الرمادى (أَيهَا الْعَارِض وَالْمهْدِي ... لمستسقيه وَبلا) (حِين لَا يهدى إِذا مَا أستسقى ... الْعَارِض طلا)

(قائدا أفنت مغازيه ... العدا سبيا وقتلا) (إِن ضيفا قَاصِدا قلت لَهُ ... أَهلا وسهلا) (قد توسعت لَهُ فِيمَا ... يسر الضَّيْف نزلا) (مَا لَهُ فرش على الأَرْض ... سوى وَجه مصلى) (فَأَنا لَوْلَا اصطبار ... رد مِنْهُ الوعر سهلا) (لم تَجِد عَيْني لنوم ... بمبيت السوء كحلا) فوردت الأبيات على فَرِحُونَ وَهُوَ خَارج إِلَى الْغَزْو فَخَجِلَ من ذَلِك وَأمر لَهُ بِمَا طلب وَقرن ذَلِك بِجَارِيَة وَكتب إِلَيْهِ معتذراً من التَّقْصِير (أَيهَا السَّيِّد أَهلا ... بِالَّذِي أهديت أَهلا) (مَا يناويك مناو ... إِن وصلت القَوْل وصلا) (شَاعِرًا ندبا نبيلاً ... محسناً جدا وهزلا) (مَا تولى الشّعْر إِلَّا ... رد مِنْهُ الوعر سهلا) (شعره سح ووبل ... إِذْ يكون الشّعْر طلا) (مُحكم غض بديع ... لَا يكَاد الدَّهْر يبْلى) (فَلهُ مَا قلت أَهلا ... ثمَّ رحباً ثمَّ سهلا) (أَيهَا السَّيِّد مهلا ... بأخيك الْمَحْض مهلا) (إِن شكواك إِلَيْنَا ... ولدت فِي النَّفس خبلا) (ونفت نومي فَلَمَّا ... تكتحل عَيْنَايَ كحلا)

(مَا على عمد ولكنما ... جهلنا الْأَمر جهلا) (وظننا بالعكازى ... إِنَّه أكْرم بذلا) (فابسطن عُذْري وَإِن لم ... أك للأعذار أَهلا) (يَا أخي أَنْت وَمولى ... وَقَلِيل لَك مولى) (قد بعثنَا بفراش ... فاهجرن وَجه الْمصلى) (ووصلناه بغيداء ... كبدر يتجلى) (فتفضل بِقبُول ... لَا عدمت الدَّهْر فضلا) (وورا ذَلِك منى ... سترى فضلا وفضلا) وَله أَيْضا (يَا رَسُولي أبلغ إِلَيْهَا شكاتي ... واستنلها وَلَو بَقَاء حَياتِي) (قل لَهَا قد قضى هَوَاك عَلَيْهِ ... فَهُوَ ميت أَو مُؤذن بالممات) (فالحظية ترى إِذا شِئْت مَيتا ... كَانَ يحيا بأيسر اللحظات) (واعجبي أَن تكون لَحْظَة عين ... مِنْك تهدى الْحَيَاة للأموات) 105 - على بن ودَاعَة بن عبد الْوَدُود السلمى أَبُو الْحسن قَالَ فِيهِ الْحميدِي أَمِير كَانَ قَرِيبا من الأربعمائة وَقَالَ ابْن بسام وَذكر صاعداً اللّغَوِيّ انْتَهَت بِهِ الْحَال إِلَى أَن أغرم فاستغاث على بن ودَاعَة أحد الفرسان الْأَبْطَال ونبهاء الدولة كَانَ فِي ذَلِك الأوان قَالَ وَمن شعره فِيهِ

(أَبَا حسن ربيعَة من سليم ... سِنَان زَان عالية الرماح) (وَإِنِّي عَائِذ بك من هناة ... تحش دعائمي تَحت القداح) (فكر على ابْن عمك وانتشله ... فَلَيْسَ حمى ابْن عمك بالمباح) (فَإِن الْجَار عنْدك بَين جَنْبي ... عِقَاب الدجن كاسرة الْجنَاح) (نظنك طالعاً يَبْنِي سليم ... عَلَيْهَا عِنْد مفتضح الصَّباح) (إِذا ساورت قرنك فِي مكر ... جعلت لَهُ ذراعك كالوشاح) وَمن شعر ابْن أبي ودَاعَة (زار الحبيب فمرحباً بالزائر ... أَهلا ببدر فَوق غُصْن ناضر) (قبلت من فرحى تُرَاب طَرِيقه ... ومسحت أَسْفَل نَعله بمحاجري) (وخشيت أَن ينْقد إخمص رجله ... من رقة فبسطت أسود ناظري)

106 - يعلى بن أَحْمد بن يعلى كَانَ أَبوهُ من رُؤَسَاء الدولة الأموية وقوادها الجلة وَكَانَ يعلى هَذَا فِي دولة الْمَنْصُور أبي عَامر مُحَمَّد بن أبي عَامر وَمن شعره وَقد بعث إِلَيْهِ بورد مبكر (بعثت من جنتي بورد ... غض لَهُ منظر بديع) (قَالَ أنَاس رَأَوْهُ عِنْدِي ... أعجله عامنا المريع) (قلت أَبُو عَامر الْمُعَلَّى ... أَيَّامه كلهَا ربيع) وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلاثمائة وَله يرثى أَبَا عَليّ الْبَغْدَادِيّ من أَبْيَات (أمات الْعلم موت أَبى على ... منار الْعلم وَالْفضل الرضى) (سأبكى بعده سرا وجهراً ... كَمَا يبكى الولى على الولى) (وَلَو لم أبكه حزنا ووجداً ... إِذا مَا كنت بِالرجلِ الوفى) (إِذا قلب خلا من حب ميت ... فقلبي لَيْسَ عَنهُ بالخلى) وَله (إِنِّي هجرت الغانيات جَمِيعًا ... ونزعت عَن كلفي بِهن نزوعاً) (ورفضت لذاتي فصرت لناصح ... بعد الإباية سَامِعًا ومطيعاً) (وَنهى النَّهْي قلبِي فأقصر وارعوى ... واعتاض بعد الْكِبْرِيَاء خشوعاً)

(وَرَأَيْت رشدي وَاضحا بعد الْعَمى ... فنكصت عَن غي الضلال رُجُوعا) (يَا حسرة ساعاتها مَا تَنْقَضِي ... كَيفَ النجَاة وَقد أَسَأْت صنيعاً) وَمن مُلُوك إفريقية ورجالهم فِي هَذِه الْمِائَة 107 - مُحَمَّد الْقَائِم أَبُو الْقَاسِم بن الْمهْدي عبيد الله قد تقدم الِاخْتِلَاف فِي نسب عبيد الله إِلَى الْحُسَيْن بن عَليّ رضوَان الله عَلَيْهِ فَمن مُسلم مَا ادَّعَاهُ وَمن دَافع لَهُ فِيمَا حَكَاهُ وَهُوَ الْأَكْثَر وَهُوَ الْأَصَح وَالْأَظْهَر وَاخْتلف أَيْضا فِي اسْم الْقَائِم هَذَا فَقيل عبد الرَّحْمَن وَقيل حسن وَقيل مُحَمَّد وَبِهَذَا الِاسْم كَانَ يذكر فِي الأمداح قَالَ عَليّ بن مُحَمَّد الْإِيَادِي التّونسِيّ (أعجب بأسطول الإِمَام مُحَمَّد ... وبحسنه وزمانه المستغرب) (لبست بِهِ الأمواج أحسن منظر ... يَبْدُو لعين النَّاظر المتعجب) وَتقدم أَيْضا ذكر وُرُوده الْمغرب مَعَ أَبِيه وَمَا قيل فِي تبنيه وَهُوَ يَوْمئِذٍ

حدث ثمَّ بُويِعَ لَهُ بالخلافة بعد عبيد الله لِلنِّصْفِ من شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلاثمائة وأخفى الْقَائِم مَوته سنة وَكَانَ فِي حَيَاة أَبِيه على الْخلاف فِيهِ أظهر مِنْهُ على فِي خِلَافَته ومصير الْأَمر إِلَيْهِ غزا قبل ذَلِك الْإسْكَنْدَريَّة فِي عَسْكَر عَظِيم فملكها مغ الفيوم وَصَارَ فِي يَدَيْهِ أَكثر خراج مصر وضيق على أَهلهَا وحاربه مؤنس الْخَادِم بهَا وَكَانَ خُرُوجه من رقاده فِي سنة إِحْدَى وثلاثمائة وَلست بَقينَ من جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاثمِائَة وَصله جَيش حباسة بن يُوسُف صَاحب الْمهْدي فِي مِائَتي مركب فَنزل فسطاط مصر والإسكندرية وَقَوي على مؤنس بِالرِّجَالِ وَالْأَمْوَال وشخص لحربه فَكَانَت بَينهمَا وقْعَة قتل فِيهَا خلق من الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ انْصَرف حباسة وَمن مَعَه الْإسْكَنْدَريَّة رَاجِعين إِلَى الْمغرب بعد هزيمَة وَقعت على المغاربة

ثمَّ غزا فِي حَيَاة أَبِيه ثَانِيَة وَعند وُصُوله إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثمائة خرج عَامل المقتدر عَنْهَا وَدخل الجيزة من أَرض مصر فِي خلق عَظِيم وَكتب الْقَائِم إِلَى مَكَّة وَإِلَى من حولهَا يَدعُوهُم إِلَى طَاعَته ويعدهم الْجَمِيل وَقَالَ نَحن أهل بَيت الرَّسُول وَمن أَحَق بِهَذَا الْأَمر منا وَضمن الْكتاب أبياتاً يَقُول فِيهَا (أيا أهل شَرق الله زَالَت حلومكم ... أم اصدعت من قلَّة الْفَهم وَالْأَدب) (فويحاً لكم خالفتم الْحق وَالْهدى ... وَمن حاد عَن أم الْهِدَايَة لم يصب) (فيا معرضًا عني وَلَيْسَ بمنصفي ... وَقد ظهر الْحق الْمُبين لمن رغب) (ألم ترني بِعْت الرفاهة بالسرى ... وَقمت بِأَمْر الله حَقًا وَقد وَجب) فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم الْكتاب بعثوا بِهِ إِلَى المقتدر فَأرْسل إِلَى أبي بكر الصولي بعد قِرَاءَته الرسَالَة وَالشعر فَدفع إِلَيْهِ الشّعْر وَقَالَ لَهُ جاوبه عَنهُ فَكتب إِلَيْهِ (عجبت وَمَا يَخْلُو الزَّمَان من الْعجب ... لقَوْل امرىء قد جَاءَ بالمين وَالْكذب)

(وَجَاء بملحون من الشّعْر نَاقص ... فسحقاً لَهُ من مُدع أفضل النّسَب) (فَمن أَنْت يَا مهْدي السفاهة والخنا ... فقد قُمْت بِالدّينِ الْخَبيث وبالريب) فَلم يُجِيبُوهُ وَهِي قصيدة طَوِيلَة مِنْهَا فِي ذكر الْخُلَفَاء من بني الْعَبَّاس (ومعتمد من بعده وموفق ... يردد من إِرْث الْخلَافَة مَا ذهب) (نوازلهم فِي كل فضل وسؤدد ... وَإِن لم يكن فِي الْعد مِنْهُم لمن حسب) أنشدهما أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن تَمِيم القيرواني الحصري فِي كتاب زهر الْآدَاب وثمر الْأَلْبَاب من تأليفه وَقد أجْرى ذكر الْمُوفق أَبى أَحْمد بن المتَوَكل ومدح ابْن المعتز لَهُ قَالَ ويلقب بالناصر وبالموفق كَانَت حَاله قد ترقت فِي أَيَّام الْمُعْتَمد إِلَى غَايَة لم يبلغهَا الْخَلِيفَة وَقد ذكره الصولي فِي قصيدته لصَاحب الْمغرب وَقد اقْتصّ خلفاء بني الْعَبَّاس من أَوَّلهمْ وَذكر الْبَيْتَيْنِ والموفق هَذَا هُوَ الَّذِي قتل صَاحب الزنج الْقَائِم بِالْبَصْرَةِ بعد مواقعات كَثِيرَة ومحاربات شَدِيدَة وَفِي ذَلِك يَقُول ابْن الرُّومِي فِي قصيدته الطَّوِيلَة الجليلة (أَبَا أَحْمد أبليت أمة أَحْمد ... بلَاء سيرضاه ابْن عمك أَحْمد) (حصرت عميد الزنج حَتَّى تخاذلت ... قواه واودى زَاده المتزود) (فظل وَلم تقتله يلفظ نَفسه ... وظل وَلم تأسره وَهُوَ مُقَيّد) (فَمَا رمته حَتَّى اسْتَقل بِرَأْسِهِ ... مَكَان قناة الظّهْر أسمر أجرد)

وَكَانَ صَاحب الزنج يدعى الانتماء إِلَى بَيت على رَضِي الله عَنهُ ومنحاه نحا العبيديون بعده وينال من بنى الْعَبَّاس نيل هَؤُلَاءِ مِنْهُم وَفِي ذَلِك يَقُول (لهف نَفسِي على قُصُور بِبَغْدَاد ... وَمَا قد حوته من كل عَاص) (وخمور هُنَاكَ تشرب جَهرا ... وَرِجَال على الْمعاصِي حراص) (لست لِابْنِ الفواطم الغر إِن لم ... أجل الْخَيل بَين تِلْكَ العراص) وقرأت فِي كتاب أبي الْحسن على بن بَحر بن أبي السرُور الروحي الإسكندري أَن الْمهْدي عبيد الله سير ولى عَهده أَبَا الْقَاسِم ابْنه إِلَى مصر دفعتين الأولى فِي سنة إِحْدَى وثلاثمائة قَالَ وَعَاد فِي سنة اثْنَتَيْنِ وثلاثمائة وَالثَّانيَِة سنة سِتّ وثلاثمائة وَحكى انه ملك الْإسْكَنْدَريَّة فيهمَا وَقَالَ غَيره فِي أَيَّام عبيد الله بَطل الْحَج وَأخذ الْحجر الْأسود أَخذه القرامطة وَأقَام عِنْدهم اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة إِلَّا شهرا وَقتل المقتدر بِبَغْدَاد وَأظْهر عبيد الله عِنْدَمَا بلغه الْخَبَر أَن دعاته قَتَلُوهُ بأَمْره وَجلسَ لذَلِك مَجْلِسا وَحكى الصولى أَن الَّذِي قَتله رجل من أهل الْمغرب بربرى يُقَال لَهُ عليون الصنهاجي رَمَاه بِحَرْبَة وَهُوَ على فرسه يصلح بَين الْجند فِي ظَهره فَخرجت من صَدره وَوَقع مَيتا وَكَانَ الْقَائِم فِي حَيَاة عبيد الله الْقَائِم بالأمور والدولة فَلَمَّا أفضت

الْخلَافَة إِلَيْهِ ظهر أَبُو اليزيد الْخَارِجِي مخلد بن كيداد عَلَيْهِ فعجز عَن مقاومته وَلم يسْتَقلّ بمدافعته فتغلب على الْبِلَاد فِي جموع البربر الملتفة عَلَيْهِ إِلَى أَن حصره فِي المهدية وَأَبُو يزِيد من بني يفرن وَيُقَال إِن الَّذِي قتل فِي فتنته أَرْبَعمِائَة ألف وللإنذار بِهِ والتحدث بِخُرُوجِهِ بنى المهدية عبيد الله وَجعلهَا دَار ملكه وقرار سُلْطَانه وَقَالَ بعد تحصينها وَعند انْتِقَاله إِلَيْهَا الْيَوْم أمنت على الفواطم يُرِيد حرمه وَكَانَ قيام أبي يزِيد فِي آخر خلَافَة الْقَائِم سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة وَتُوفِّي الْقَائِم يَوْم الْأَحَد لثلاث عشرَة خلت من شَوَّال سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة وَكَانَ الْقَائِم ولى ابْنه إِسْمَاعِيل عَهده وفوض إِلَيْهِ أمره وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَأدْخل عَلَيْهِ جمَاعَة من وُجُوه كتامة وَرُؤَسَائِهِمْ فَقَالَ هَذَا مولاكم وَولى عهدي والخليفة من بعدِي وَهُوَ صَاحب هَذَا الْفَاسِق وقاتله يَعْنِي أَبَا يزِيد وَقَالَ ابْن حَيَّان فِي تَارِيخه المقتبس من أنباء أهل الأندلس وَفِي الْعشْر الْأَوَاخِر من ذِي الْحجَّة مِنْهَا يَعْنِي سنة أَربع وثلاثمائة قدم مُحَمَّد بن مُحَمَّد ابْن كُلَيْب من القيروان فَحكى أَن أَبَا الْقَاسِم بن عبيد الله الشيعي صَاحب المهدية

هلك فِيهَا وَهُوَ مَحْصُور من قبل أَبى يزِيد مخلد بن كيداد اليفرنى ب النكارى الْمَعْرُوف بِصَاحِب الْحمار الْقَائِم عَلَيْهِ فِي جموع البرابرة وَأَن شيعته قدمت إِسْمَاعِيل وَلَده وَأَنه فَارس شُجَاع أَبى النَّفس أقدم على أبي يزِيد وجموعه ولاقاه بِمَدِينَة سوسة فَانْهَزَمَ أَبُو يزِيد قدامه إِلَى القيروان ثمَّ إِلَى سبيبه زَاد غير ابْن حَيَّان وَمَا زَالَ يتبعهُ إِلَى أَن ظفر بِهِ حَيا وقيذاً بالجراح فَمَاتَ مِنْهَا وَهُوَ فِي أسره فَأمر بِهِ فسلخ وطيف بِهِ وَإِسْمَاعِيل الْمَنْصُور هَذَا أَبُو الطَّاهِر وَابْنه أَبُو تَمِيم معد بن إِسْمَاعِيل الْمعز لدين الله كَانَا خطيبين مفوهين وَلم أَقف لَهما على شعر أكتبه فِي هَذَا الْمَجْمُوع وَسَيَأْتِي ذكرهمَا بعد إِن شَاءَ الله وَكَانَت خلَافَة الْقَائِم اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَسَبْعَة أشهر وَتُوفِّي وَهُوَ ابْن خمس وَخمسين سنة ومولده بسلمية 108 - تَمِيم بن معد بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عبيد الله أَبُو عَليّ شَاعِر أهل بَيت العبيديين غير مُنَازع وَلَا مدافع وَكَانَ فيهم كَابْن المعتز فِي بني الْعَبَّاس غزارة علم ومعانة أدب وَحسن تَشْبِيه وإبداع تخييل وَكَانَ يقتفي آثاره ويصوغ على مناحيه فِي شعره أشعاره ولاه أَبوهُ الْمعز لدين الله معد بن إِسْمَاعِيل الْمَنْصُور عَهده وَبِه كَانَ يكنى فَخلع بِرَأْي جَوْهَر الصّقليّ لِأَنَّهُ كَانَ عقيماً لَا يُولد لَهُ وَولى أَخُوهُ عبد الله فتوفى فِي حَيَاة أَبِيه ثمَّ ولى الْعَهْد أَخُوهُ أَبُو الْمَنْصُور نزار الْعَزِيز بِاللَّه وانتقلا من إفريقية إِلَى مصر بانتقال أَبِيهِمَا معد ابْن إِسْمَاعِيل فِي آخر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَشعر تَمِيم مدون ومحاسنه كَثِيرَة وتصرفاته بديعة وَوَقع مِنْهُ فِي كتابي

الحصري زهر الْآدَاب وثمر الْأَلْبَاب وَنور الطّرف وَنور الظّرْف كل نَادِر غَرِيب وَكَانَ تَمِيم لما اسْتَقر بِمصْر وَتُوفِّي أَبوهُ فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَولى أَخُوهُ نزار يمدحه ويداريه طلبا للسلامة مِنْهُ لِأَنَّهُ لم يكن يَأْمَن عاديته بِسَبَب انخلاعه عَن الْعَهْد وَكَذَلِكَ كَانَ ابْن المعتز يُدَارِي المعتضد والمكتفي ابْنه ويمدحهما ويمدح عَمه الْمُوفق رَغْبَة فِي التَّخَلُّص مِنْهُم لِأَنَّهُ كَانَ أَهلا للخلافة فعصمه الله بذلك من هَؤُلَاءِ وَقدر أَن طاح على يَدي المقتدر بعد أَن بُويِعَ لَهُ من اللَّيْلَة الَّتِي قبض عَلَيْهِ فِي صبيحتها ولقب بالراضي بِاللَّه وَقيل بالمنتصف بِاللَّه وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس لليلتين خلتا من شهر ربيع الآخر سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَمن شعر تَمِيم فِي أَخِيه نزار (يَا ابْن الوصى المرتضى يَا ابْن الإِمَام ... الْمُجْتَبى يَا ابْن النَّبِي الْمُرْسل) (مَا بَال مَالك لَيْسَ يرميه الندى ... إِلَّا يُوَافق مِنْهُ مَوضِع مقتل) (أَنْت المحصل فِي زمَان أَصبَحت ... أملاكه كالقول غير مُحَصل) (لَو لم تكن فِي جحفل لغدوت من ... عَزمَات رَأْيك وَحدهَا فِي جحفل) (عجبا لأبصار تراك وَلَو درت ... مِقْدَار فضلك كن عَنْك بمعزل)

وَهِي قصيدة طَوِيلَة وَمِنْهَا فِي وصف فرس لَهُ يدعى السرُور (نعم الْمعِين على الوغى فِي مأزق ... لبست بِهِ الْأَبْطَال نقع القسطل) (فرس أَشمّ الْمَنْكِبَيْنِ مُقَابل ... يرْمى الجنادل من يَدَيْهِ بجندل) (تنبيك عَن أنسابه أعضاؤه ... حسنا وَعَن أخراه عتق الأول) (وكأنما مبيض أَعلَى وَجهه ... وجبينه ضوء الصَّباح الْمقبل) (وَكَأن دفة سَرْجه ولجامه ... شدا على ظهر السماك الأعزل) (ويسابق الْبَرْق المثار بخطوه ... وَيزِيد فِيهِ على الصِّبَا والشمأل) (صافي الصهيل كَأَن فِي ترجيعه ... غرد يُغني فِي الثقيل الأول) (ذُو قونس مَالَتْ نواحي عرفه ... مستشرف الْأَعْلَى رحيب الْأَسْفَل) (وكأنما فلق الصَّباح بِوَجْهِهِ ... مَاء بدا مترفقاً فِي جدول)

وَله يمدح أَخَاهُ (أَلسنا بنى بنت النَّبِي الَّذِي بِهِ ... تخلص من زيغ الْعَمى الثَّقَلَان) (أَلَيْسَ أَبونَا خدنه ووصيه ... وفارسه فِي كل يَوْم طعان) (فكفوا بنى الْعَبَّاس عَنَّا جماحكم ... فقد طالما خنتم بِكُل مَكَان) (مَتى لم تَكُونُوا دُوننَا وتسابقوا ... بصالحنا فِي كل يَوْم رهان) (بِمن نصر الْإِسْلَام فِي يَوْم خَيْبَر ... وَيَوْم حنين والقنا متدان) (أَلَيْسَ على كَانَ كاشف غمها ... وَمَا كَانَ للْعَبَّاس ثمَّ يدان) (وَمن فرج الغماء عَن وَجه أَحْمد ... بِمَكَّة لما ريع كل جنان) (فَبَاتَ على ظهر الْفراش بديله ... يَقِيه ردى الْأَعْدَاء غير جبان) (وَكم مثلهَا من مفخر وفضيلة ... حواها على وَهُوَ لَيْسَ بوان) (وَإِن قُلْتُمْ إِنَّا جَمِيعًا لهاشم ... فَمَا تستوى فِي الجثة العضدان) (فَلم تدفعون الْحق وَالْحق وَاضح ... دنا مِنْكُم مَا كَانَ لَيْسَ بدان) (أُميَّة كَانَت قبلكُمْ فِي اغتصابها ... أَحَق فبادت وارتدت بهوان)

(أَخَذْتُم بِغَصب إرثنا وصعدتم ... مَنَابِر مَا كَانَت لكم بأماني) (وجئتم بأسماء يروق استماعها ... وألفاظ حسن مَا لَهُنَّ معَان) (رشيد وَلم يرشد وهاد وَمَا هدى ... لحق ومأمون بِغَيْر أَمَان) (ومعتصم لم يعتصم بإلهه ... ومقتدر لم يقتدر بِبَيَان) (ومعتضد بالإفك خَابَ اعتضاده ... ومنتصر بالبغي غير معَان) (أصيخوا فقد قَامَ الْعَزِيز الَّذِي لَهُ ... تذل خطوب الدَّهْر بعد حران) (كَأَن رواق الْعِزّ من نور وَجهه ... سَمَاء بدا فِي أفقها القمران) (أغر كنصل السَّيْف يمْضِي اعتزامه ... بِكُل رَقِيق الشفرتين يمَان) (كَأَن المنايا والعطايا نوافل ... يجود بهَا من منصل وبنان) (حويت أَبَا الْمَنْصُور كل فَضِيلَة ... وأمسكتها دون الورى بعنان) (كَأَنَّك فِي سيماك إِذْ قُمْت خاطباً ... وأعيننا طراً إِلَيْك روان) (شَبيه نَبِي الله جدك أَحْمد ... وَيُشبه فرع البانة الغصنان) (وَكم علوى فاطمي مفضل ... وَلَكنهُمْ مَا فيهم لَك ثَان) (وَمن يدعى مِنْهُم مَكَانك فِي الْعلَا ... فقد جَاءَ بالبهتان والهذيان) (إِذا مَا كَفاك الله مَا أَنْت متق ... شفاني مِمَّا اتَّقى وكفاني) (وَإِنِّي لسهم من سهامك ماطر ... على كل من عاداك سم سِنَان) (أَرَاك بِعَين النصح فِي كل حَالَة ... على كل مَا فِيهِ اعتقدت تراني)

(وَمن ذَا الَّذِي يرعاك رعياً توده ... على كل غيث أَو بِكُل عيان) (أَخ وَولى مُشفق وَابْن وَالِد ... شفيق ومداح بِكُل لِسَان) وَكَانَ الْعَزِيز يوالي إكرامه ويجزل عطاءه ويعامله بِمَا قَتله علما من صدق وده وإخلاصه فِي مدحه ويحكى أَنه تنزه إِلَى بركَة الْحَبَش فَلَمَّا قرب من قُصُور أَخِيه تَمِيم سَأَلَ عَنهُ فأسرع إِلَيْهِ من عرفه فَخرج رَاجِلا حافياً حَتَّى لقِيه فَسلم عَلَيْهِ بالخلافة وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد وَجَبت على عَبدك الضِّيَافَة قَالَ نعم وَدخل إِلَى بستانه وَقد أَمر بجنيبة من الجنائب الَّتِي كَانَت بَين يَدَيْهِ وَأقسم على تَمِيم أَن يركبهَا ويسايره فَلَمَّا توَسط الْبُسْتَان نظر إِلَى ثَمَر يلوح الذَّهَب عَلَيْهِ فتعجب مِنْهُ واستطرفه ودنا من شَجَرَة فَأخذ مِنْهَا ليمونة وَاحِدَة فقرأها وَإِذا عَلَيْهَا مَكْتُوب بِالذَّهَب (أَنا الليمون قد غذيت عروقي ... بِبرد المَاء فِي حرز حريز) (حسنت فَلَيْسَ يحسن أَن يحيى ... بأمثالي سوى الْملك الْعَزِيز) فَجَعلهَا فِي كمه وَقَالَ هَذِه ضيافتي عنْدك وَانْصَرف إِلَى قصره فَبعث إِلَى أبي جَعْفَر بن مهذب صَاحب بَيت المَال فَقَالَ لَهُ مَا عنْدك من الدَّنَانِير ضرب هَذِه السّنة وَكَانَ ذَلِك فِي أَولهَا فَقَالَ لَهُ مائَة ألف وَسِتُّونَ

ألفا فَأمره بحملها من سَاعَته إِلَى الْأَمِير تَمِيم مَعَ رَاشد العزيزي وَقَالَ لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام وَيَقُول لَك اسْتَعِنْ بِهَذَا على مؤونتك فَقبل الأَرْض وَبعث إِلَيْهِ من الْغَد قصيدة حَسَنَة يمدحه فِيهَا ويشكره وَكَانَت أَيَّام الْعَزِيز بِمصْر أعياداً رفاهية ودعة وتمهداً فَكَانَ تَمِيم إِذا جَاءَ اللَّيْل أَمر مِائَتي فَارس من عبيده بحراسة النَّاس الخارجين فِي أَيَّام النيروز والميلاد والمهرجان وَعِيد الشعانين وَغير ذَلِك من أَيَّام اللَّهْو الَّتِي كَانُوا ينحون فِيهَا على أَمْوَالهم رَغْبَة وَيخرجُونَ إِلَيّ بركَة الْحَبَش متنزهين فيضربون عَلَيْهَا الْمضَارب الجليلة والسرادقات والقباب وَمِنْهُم من يخرج بالقيان والمسمعات والمخدرات وخيل تَمِيم تحرسهم فِي كل لَيْلَة إِلَى أَن ينصرفوا ويركب تَمِيم فِي عشاري تتبعه أَرْبَعَة زوارق وَأكْثر مَمْلُوءَة فَاكِهَة وَطَعَامًا ومشروباً فَإِن كَانَت اللَّيَالِي مُقْمِرَة وَإِلَّا كَانَ مَعَه من الشمع مَا يعود بِهِ اللَّيْل نَهَارا فَإِذا مر على طَائِفَة وَاسْتحْسن من غنائهم صَوتا أَمرهم بإعادته وسألهم عَمَّا ينقصهم فيعطيهم وَرُبمَا رَغِبُوا إِلَيْهِ أَن يسمعهم من غنائه فيقف عَلَيْهِم وَيَأْمُر من يُغني لَهُم وينتقل عَنْهُم إِلَى غَيرهم فيفعل هَذَا عَامَّة ليله ثمَّ ينْصَرف إِلَى قصوره وبساتينه على هَذِه الْبركَة فَلَا يزَال على هَذِه الْحَال حَتَّى تنقضى هَذِه الْأَيَّام ويفترق النَّاس ولتميم يفخر

(لَا تبطر السَّرَّاء لي خلقا وَلَا ... أغدو على ضرائها متخشعاً) (لي فِي الْمَشَارِق والمغارب جَوْلَة ... يَغْدُو بهَا قلب الزَّمَان مصدعاً) وَله (لِيهن الْمَعَالِي أنني أَنا رَبهَا ... وَأَنِّي إِذا مارمت صعباً تيسرا) (غذتني مذ كنت النُّبُوَّة وَالْهدى ... فحسبي أَن كَانَا هما لي عنصرا) وَله (وَإِنِّي لألقى كل خطب بمهجة ... يهون عَلَيْهِ مِنْهُ مَا يتصعب) (وأستصحب الْأَهْوَال فِي كل موطن ... ويمزج لي السم الزعاف فأشرب) (فَمَا الْحر إِلَّا من تدرع حزمه ... وَلم يَك إِلَّا بالقنا يتنكب) (خليلي مَا فِي أكؤس الراح راحتي ... وَلَا فِي المثاني لذتي حِين تضرب) (ولكنني للمدح أرتاح والعلا ... وللجود والإعطاء أصبو وأطرب) (وَمن بَين جَنْبَيْهِ كنفسي وهمتي ... يُرْجَى لَهُ فَوق الْكَوَاكِب مركب) وَله فِي التَّشْبِيه (عللاني بهَا فقد أقبل اللَّيْل ... كلون الصدود من بعد وصل)

(وانجلى الْغَيْم بعد مَا أضْحك الرَّوْض ... بكاء السَّحَاب فِيهِ بوبل) (عَن هِلَال كصولجان نضار ... فِي سَمَاء كَأَنَّهَا جَام ذبل) وَله (رب صفراء عللتني بصفراء ... وجنح الظلام مرخى الْإِزَار) (وَكَأن الدجى غدائر شعر ... وَكَأن النُّجُوم فِيهَا مداري) وَله (وانجلى الْغَيْم عَن هِلَال تبدى ... فِي يَد الْأُفق مثل نصف سوار) وَله (كَأَن السَّحَاب الغر أصبحن أكؤسا ... لنا وَكَأن الراح فِيهَا سنا الْبَرْق) (إِلَى أَن رَأَيْت النَّجْم وَهُوَ مغرب ... وَأَقْبل رايات الصَّباح من الشرق) (كَأَن سَواد اللَّيْل وَالصُّبْح طالع ... بقايا مجَال الْكحل فِي الْأَعْين الزرق) وَله (مَا ترى اللَّيْل كَيفَ رق دجاه ... وبدا طيلسانه ينجاب)

(وَكَأن الصَّباح فِي الْأُفق باز ... والدجى بَين مخلبيه غراب) وَله (أَلا سقنيها قهوة ذهبية ... فقد ألبس الْآفَاق جنح الدجى دعجٌ) (كَأَن الثريا والظلام يحفها ... فصوص لجين قد أحَاط بهَا سبج) (كَأَن نُجُوم اللَّيْل تَحت سوَاده ... إِذا جن زنجى تَبَسم عَن فلج) وَله (كَأَن كؤوس الشّرْب وَهِي دوائر ... قطائع مَاء جامد تحمل اللهب) (فبتنا نسقى الشَّمْس وَاللَّيْل راكد ... ونقرب من بدر السَّمَاء وَمَا قرب) وَقد حجب الْغَيْم الْهلَال كَأَنَّهُ ... ستارة شرب خلفهَا وَجه من نحب) (كَأَن الثريا تَحت حلكة لَيْلهَا ... مداهن بلور من الْأُفق تضطرب) وَله (خُذْهَا إِلَيْك ودع لومي مشعشعة ... من كف أحوى أسيل الخد مذْهبه) (وَانْظُر إِلَى اللَّيْل كالزنجي مُنْهَزِمًا ... وَالصُّبْح فِي إثره يعدو بأشهبه) (والبدر منتصف مَا بَين أنجمه ... كَأَنَّهُ ملك فِي صدر موكبه) وَله (أوفى فأشرقت الْبِلَاد لنوره ... حسنا وَأرْسل بالشفاء رَسُولا

(مَا كنت أَحسب أَن بَدْرًا قبلهَا ... نقل الخطى كرما وَعَاد عليلاً) (يَا عِلّة زار الحبيب من أجلهما ... لله أَنْت لقد شفيت غليلا) وَله وَهُوَ من مُخْتَار شعره فِي النسيب (أأعذل قلبِي وَهُوَ لي غير عاذل ... وأعصى غرامي وَهُوَ مَا بَين أضلعي) (وَمن لي بصبر أستزيل بِهِ الجوى ... وَلَا جلدي طوعى وَلَا كَبِدِي معي) (نأوا والأسى عني بهم غير منتأ ... وودعتهم وَالْقلب غير مُودع) وَله (يَا معطشي من وصال كنت وارده ... هَل فِيك لي رَحْمَة إِن صحت واعطشى) (أَنْت الْحَيَاة الَّتِي تحيا النُّفُوس بهَا ... حَقًا فَإِن فقدتك النَّفس لم تعش) توفّي تَمِيم فِي خلَافَة أَخِيه الْعَزِيز سنة أَربع وَسبعين وَتُوفِّي الْعَزِيز سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة

109 - خَلِيل بن إِسْحَاق بن ورد أَبُو الْعَبَّاس مولده بطرابلس وَهُوَ من أَبنَاء جندها وَكَانَ فِي أول أمره يطْلب الْعلم وَالْأَدب ويصحب الصُّوفِيَّة ويبيت فِي الْمَسَاجِد إِلَى أَن خَالف أهل طرابلس بَلَده سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ فَكَانَ هُوَ الْمُتَوَلِي لعذابهم وَأخذ أَمْوَالهم وَذَلِكَ فِي أول دولة عبيد الله الْمهْدي وَاتبع الْقَائِم أَبَا الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبيد الله الْمهْدي فِي مسيره إِلَى محاربة أهل مصر وَهُوَ إِذْ ذَاك ولى عهد فَلحقه بالإسكندرية وَكَانَ المتولى لجباية الْأَمْوَال وَالنَّظَر فِيهَا وَانْصَرف إِلَى المهدية فَقدم على خيل إفريقية وَكَانَ أَمر جندها إِلَيْهِ مَعَ النّظر فِي الْبَحْر وَخرج إِلَى صقلية والياً على أَهلهَا فأهلكهم جوعا وقتلا وهرب كثير مِنْهُم إِلَى بلد الرّوم وَكَانَ يَقُول بعد وُصُوله إِلَى إفريقية مفتخراً المكثر يَقُول إِنِّي قتلت وأهلكت ألف ألف والمقلل يَقُول سِتّمائَة ألف وَكَانَ خُرُوجه إِلَيْهَا فِي أول دولة الْقَائِم سنة خمس وَعشْرين وثلاثمائة وَقد كَانَ الْمهْدي عبيد الله سخط عَلَيْهِ فِي آخر دولته فخاف وَلما توفّي أَمنه الْقَائِم وَاسْتَعْملهُ فجار أَشد الْجور ونعوذ بِاللَّه من الْحور بعد الكور (ثمَّ إِن الْقَائِم صرفه عَن صقلية واستقدمه مِنْهَا وَقدمه لِحَرْب أَبى يزِيد الْخَارِجِي وَأخرجه إِلَى مَدِينَة القيروان فِي ألف فَارس من وُجُوه العبيد فأساء معاملتهم حَتَّى أضغنهم ودبروا عَلَيْهِ وقصده أَبُو زيد فَدخل القيروان وحصره بداره إِلَى أَن أَخذه وَأَصْحَابه فاعتقلهم ثمَّ قَتلهمْ جَمِيعًا بِبَاب أَبى الرّبيع وَأمر بهم فصلبوا

وَمن شعره يمدح الْمهْدي ويناقض مَرْوَان بن أَبى حَفْصَة (قف بالمنازل واسألن أطلالها ... مَاذَا يَضرك إِن أردْت سؤالها) (هَل أَنْت أول من بَكَى فِي دمنة ... درست وغيرت الْحَوَادِث حَالهَا) (يَا دَار زَيْنَب هَل تردين البكا ... عَن مقلة سفحت عَلَيْك سجالها) (بدلت بالإنس الخرائد كالدمى ... وَحش الفلاة ظباءها ورئالها) (وَلَقَد عهِدت لآل زَيْنَب حبرَة ... فِيهَا وَدُنْيا أَقبلت إقبالها) (بَيْضَاء ناعمة يجول وشاحها ... وتهز دقة خصرها أكفالها) (وَلها قوام كالقضيب وفوقه ... جعد يُصَافح كَفه خلْخَالهَا) (وَكَأن فِي فِيهَا بعيد رقادها ... عسلاً أصَاب من السَّمَاء زلالها) (وَلَقَد عصيت عواذلي فِي حبها ... وَالنَّفس تعصى فِي الْهوى عذالها) وَمِنْهَا (صلى الْإِلَه على النَّبِي مُحَمَّد ... وعَلى الإِمَام وزاده أَمْثَالهَا) (إِن الإِمَام أَقَامَ سنة جده ... للْمُسلمين كَمَا حذوت نعالها) (أَحْيَا شرائعها وَقوم كتبهَا ... وفروضها وحرامها وحلالها) (وَهدى بِهِ الله الْبَريَّة بَعْدَمَا ... طلب الغواة الظَّالِمُونَ ضلالها) (إِن الْخلَافَة يَا ابْن بنت مُحَمَّد ... حطت إِلَيْك عَن النَّبِي رِحَالهَا) وَله وَقد اقتصد الْقَائِم (قل للطبيب الَّذِي أوصى ليقصده ... رفقا وَلَا زلت بالإسعاد ترتفق) (كَيفَ اسْتَطَعْت ترى بِاللَّه طلعته ... وَمن سنا نوره مَا يشرق الْأُفق) (أم كَيفَ تخرج من كف تقبلهَا ... دَمًا وَمِنْهَا بحار الْجُود تندفق)

(إِنِّي لأعجب من كف مسست بهَا ... خير الورى كَيفَ لم ينْبت بهَا الْوَرق) وَله عِنْد توديع الْقَائِم فِي خُرُوجه إِلَى القيروان وَكتب بهَا إِلَيْهِ (وَمَا ودعت خير النَّاس طرا ... وَلَا فارقته عَن طيب نفس) (وَكَيف تطيب نَفسِي عَن حَياتِي ... أفارقها وَعَن قمري وشمسي) (وَلَكِنِّي طلبت رِضَاهُ جهدي ... وعفو الله يَوْم حُلُول رمسى) (فَعَاشَ مملكاً مَا لَاحَ شمس ... على الثقلَيْن من جن وإنس) وَبعد وُرُوده القيروان كَانَ من قَتله وصلبه مَا كَانَ وَمَا أفظع مصرع من احتقب الْإِثْم والعدوان 110 - جَعْفَر بن فلاح الكتامي أَبُو الْفضل هَذَا من رجال الدولة العبيدية وَلم يَقع إِلَى من خبْرَة مَا أذكرهُ هَاهُنَا سوي امتداح أبي الْقَاسِم بن هانىء إِيَّاه وحسبه بذلك نباهة وَكَفاهُ وَذكر ابْنه إِبْرَاهِيم مَعَه فِي مدحه وَفِي بعض النّسخ الَّتِي وقفت عَلَيْهَا من شعر ابْن هانىء

أَن الممدوح إِبْرَاهِيم بن جَعْفَر لَا أَبوهُ جَعْفَر وَوجدت مَنْسُوبا إِلَيْهِ (وَيَوْم كَأَن الْغَيْم تَحت سمائه ... حكى مقلتي سَحا وَلم يحكني ضنا) (كَأَن الغوادي بالمثاني نضحنه ... وألبسنه ثوبا من الْخَزّ أدكنا) 111 - يحيى بن عَليّ بن حمدون الجذامي بن الأندلسي وَله ولأبيه ولأخيه جَعْفَر بن عَليّ رئاسة مَعْرُوفَة ونباهة فِي أَيَّام العبيدية مَذْكُورَة وعَلى بن حمدون هُوَ الَّذِي بنى المسيلة من بِلَاد الزاب الْأَكْبَر وسكنها ابْنه جَعْفَر فَعظم شَأْنه وَلأبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن هانىء الأندلسي فِيهِ وَفِي أَخِيه يحيى مدائح شهيرة وَكَانَ لما خرج من الأندلس إِلَى بني على هَؤُلَاءِ وَقع وإليهم قصد إِلَى أَن أعلقوه بالمعز معد بن إِسْمَاعِيل فاستفرغ فِيهِ شعره وَقصر عَلَيْهِ مدحه

وهرب جَعْفَر إِلَى الأندلس بعد مقتل زيري بن مُنَاد الصنهاجي وَلحق بِهِ أَخُوهُ يحيى فأقاما مكرمين عِنْد الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه إِلَى أَن سعى بهما إِلَيْهِ فسخط عَلَيْهِمَا وَأمر بإزعاجهما وَمن مَعَهُمَا رجالة من مَنَازِلهمْ إِلَى المطبق بِمَدِينَة الزهراء والنداء عَلَيْهِم بِمَا كفرُوا من النِّعْمَة وَظهر من شهامة يحيى وتجلده فِي هَذِه المحنة مَا شهر فَكَانَ يُنَادي على نَفسه مُعَارضا للمنادى لَا بل جَزَاء من آثر بني مَرْوَان على ولد فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونميت فِي الْوَقْت إِلَى معد بن إِسْمَاعِيل وَهُوَ فِي القيروان فأرضته وعطفته على آل على بن الأندلسي ثمَّ إِن الحكم عَفا عَنْهُمَا بسعى عبد الْملك بن القَاضِي مُنْذر بن سعيد البلوطي صَاحب خطة الرَّد وتلطفه فِي الاستشفاع بِهِشَام بن الحكم فيهمَا وَهُوَ إِذْ ذَاك طِفْل فأطلقا من معتقلهما وتراجعت حَالهمَا وحظى جَعْفَر فِي أَيَّام هِشَام عِنْد الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر بعد وَفَاة الحكم وَخص بِهِ ثمَّ قتل فِي طَرِيقه إِلَى قصر الْعقَاب حَسْبَمَا يذكر فِي آخر هَذَا الْمَجْمُوع بحول الله فرجم النَّاس فِيهِ الظنون وَأظْهر ابْن أبي عَامر الْحزن عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُتَّهم بِهِ

ودعا يحيى بن عَليّ أَخَاهُ وألهاه إِلَى أَن قَالَ لِابْنِ أبي عَامر أول لقية لقِيه غب قتل أَخِيه قد علمنَا من قَتله وَهَذَا جَزَاء مثله وَلَا مقَام بأرضك بعده فَقَالَ لَهُ ابْن أبي عَامر لَوْلَا أَن صدق ظَنك فِي أَخِيك لألحقتك بِهِ فَاخْرُج إِلَى لعنة الله غير مكلوء وَلَا مصاحب ووكل بِهِ من أزعجه فَخرج إِلَى العدوة وَسبق الْإِخْبَار عَنهُ حذرا من بلقين بن زيرى بن مُنَاد فَصَارَ إِلَى سجلماسة ثمَّ ركب الصَّحرَاء إِلَى مصر فَقبله الْعَزِيز بِاللَّه أَبُو الْمَنْصُور نزار وَهُوَ يَوْمئِذٍ الْخَلِيفَة بهَا وَأدْخلهُ فِي يَوْم زِينَة ثمَّ جعل يعْتَرف بالزلة وَيسْأل الصفح وَالْإِقَالَة فَقَالَ لَهُ نزار كلمتك بالزهراء قد أَتَت على ذَلِك كُله وَعلم بلقين واسْمه يُوسُف ويكنى أَبَا الْفتُوح نُفُوذ يحيى إِلَى مصر فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْقِيَامَة وعثر على ابْن لَهُ عَامر تخلف عَنهُ بالمغرب فَقبض عَلَيْهِ

وَقَتله وَلم تطل بِهِ المسرة بعد قتل جَعْفَر حَتَّى فاجأته الْمنية فَهَلَك فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وثلاثمائة وَمن شعر يحيى بن عَليّ وأنشده أَبُو عَامر السالمي فِي كتاب التشبيهات من تأليفه قَوْله يصف فرسا (ومتمماً فِي خلقه لم يبخس ... عارى الْأَدِيم من الملاحة مكتس) (صلت إِلَيْهِ الْخَيل فَهُوَ إمامها ... وَهُوَ الْمُقدم عِنْدهَا فِي الْأَنْفس) (وَكَأن لون أديمه من سوسن ... وَكَأن لون لجامه من نرجس) تمّ بعون الله الْجُزْء الأول من كتاب الْحلَّة السيراء ويليه الْجُزْء الثَّانِي وأوله تَرْجَمَة سُلَيْمَان بن الحكم بن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر المستعن بِاللَّه أبي أَيُّوب

المائة الخامسة

الْمِائَة الْخَامِسَة 112 - سُلَيْمَان بن الحكم بن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر المستعين بِاللَّه أَبُو أَيُّوب قَدمته البرابرة عِنْد قتل عَمه هِشَام بن سُلَيْمَان بن النَّاصِر الْقَائِم على الْمهْدي مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر باعث الْفِتْنَة بالأندلس وموقد نارها الخامدة وشاهر سيفها المغمد وَكَانَ الْمهْدي حاقداً على الْعَامِرِيين قَتلهمْ أَبَاهُ هشاماً فِي دولة المظفر عبد الْملك ابْن الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر لاتهامهم إِيَّاه بمبالأة الْوَزير عِيسَى بن سعيد القطّاع قَتِيل عبد الْملك فَقَامَ على هِشَام الْمُؤَيد فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَتِسْعين

وثلاثمائة وخلعه وحبسه عِنْد وزيره الْحُسَيْن بن حَيّ وَقتل عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أبي عَامر وَهُوَ الملقب بالناصر وصلبه وَأدْركَ بِهِ ثَأْره وَأقَام بقرطبة مدعوّاً لَهُ على منابرها وَسَائِر مَنَابِر الأندلس إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ فِي آخر شَوَّال من السّنة هِشَام بن سُلَيْمَان الْمَذْكُور وحاربه فظفر بِهِ الْمهْدي وَعجل قَتله فهرب سُلَيْمَان المستعين بِاللَّه وَأهل بَيته خُفْيَة من الْمهْدي واضطربوا فِي نواحي قرطبة فالتف البربر على سُلَيْمَان هَذَا وقدموه خَليفَة وأصفقوا على بيعَته لانحرافهم عَن الْمهْدي وأضطغانهم عَلَيْهِ قتل عبد الرَّحْمَن بن أبي عَامر وتعجل سُلَيْمَان بهم النهوض إِلَى الثغر مستجيشاً بالنصارى على محاربة الْمهْدي ثمَّ عَاد فَالْتَقوا جَمِيعًا بقنتيش فَكَانَت الْوَقْعَة الْمَشْهُورَة على أهل قرطبة قتل فِيهَا نَيف على عشْرين ألفا ذكر ذَلِك الْحميدِي وَغَيره

وَدخل سُلَيْمَان قصر قرطبة وبويع لَهُ بالخلافة لِلنِّصْفِ من شهر ربيع الأول سنة أَرْبَعمِائَة وَتسَمى حِينَئِذٍ ب الظافر بحول الله مُضَافا ذَلِك إِلَى لقب المستعين بِاللَّه واستتر المهديّ بعد انهزامه إِلَى أَن لحق بطليطلة والثغور بَاقِيَة على طَاعَته ودعوته من طرطوشة قاصية شَرق الأندلس إِلَى الأشبونة من غربها فاستجاش هُوَ أَيْضا النَّصَارَى وَأَقْبل بهم إِلَى قرطبة فَخرج إِلَيْهِ سُلَيْمَان فَهَزَمَهُ المهديّ بِموضع يعرف بعقبة الْبَقر وَدخل قرطبة كرة أُخْرَى والياً ومستولياً على الْخلَافَة فَلم يلبث أَن وثب عَلَيْهِ العبيد العامريون مَعَ وَاضح الصقلبي فَقَتَلُوهُ وصرفوا هشاماً الْمُؤَيد وَسليمَان المستعين أثْنَاء ذَلِك يجوس خلال الأندلس وَرِجَاله وَمن مَعَهم من البربر ينهبون وَيقْتلُونَ ويقفزون الْمَدَائِن والقرى بِالسَّيْفِ وينهبون كل مَا يَجدونَ من الْأَمْوَال إِلَى أَن دخلُوا مَعَه قرطبة عنْوَة فِي صدر شَوَّال سنة ثَلَاث وَأَرْبَعمِائَة فاستباحوها وَقتلُوا أَهلهَا وغيّب سُلَيْمَان هشاماً الْمُؤَيد فَلم يره أحد بعد ذَلِك وَكَانَ لدته ولدا جَمِيعًا فِي لَيْلَة وَاحِدَة ثمَّ تقاربا فِي الْوَفَاة وَأقَام سُلَيْمَان والياً إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ عليّ بن حمود الْعلوِي الإدريسي وَكَانَ فِي جملَة جنده فَقتله بِيَدِهِ يَوْم الْأَحَد لثمان بَقينَ من الْمحرم سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة وَقتل مَعَه أَبَاهُ حكم بن سُلَيْمَان وأخاه عبد الرَّحْمَن وَادّعى أَن هشاماً الْمُؤَيد عهد إِلَيْهِ بِالْأَمر من بعده

وَفِي ذَلِك الْيَوْم انقرض ملك بني مَرْوَان بالأندلس على رَأس مِائَتي سنة وثمان وَسِتِّينَ سنة وَثَلَاثَة وَأَرْبَعين يَوْمًا محصاة من يَوْم الْأَضْحَى الَّذِي تقدم فِيهِ عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة إِلَى مقتل سُلَيْمَان هَذَا ثمَّ عَاد بعد ذَلِك سِنِين يسيرَة وانقرض على الْأَثر فَلم يعد إِلَى الْيَوْم وَكَانَ سُلَيْمَان المستعين من أهل الْعلم والفهم أديباً فصيحاً شَاعِرًا لَهُ رسائل وأشعار بديعة وَهُوَ الْقَائِل فِيمَا أَخْبرنِي بِهِ القَاضِي أَبُو الْخطاب أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن وَاجِب الْقَيْسِي مناولة ببلنسية عَن القَاضِي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ إجَازَة عَن أبي بكر مُحَمَّد بن طرخان عَن أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي نصر الْحميدِي وَأَخْبرنِي أَيْضا القَاضِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي جَمْرَة فِي كِتَابه من مرسية مرَّتَيْنِ عَن القاضيين أبي بكر بن الْعَرَبِيّ الْمَذْكُور وَأبي الْحسن شُرَيْح بن مُحَمَّد الرعيني وَأَخْبرنِي أَيْضا قَاضِي قُضَاة الْمغرب أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن يزِيد بن بَقِي فِي كِتَابه إليّ من قرطبة عَن أبي الْحسن شُرَيْح بن مُحَمَّد بن شُرَيْح كِلَاهُمَا عَن الْفَقِيه أبي مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن حزم قَالَ الْحميدِي مِنْهُمَا أَنْشدني أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد قَالَ أَنْشدني فَتى من ولد إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق المنادى الشَّاعِر وَكَانَ يكْتب لأبي جَعْفَر أَحْمد بن سعيد الدب قَالَ أَنْشدني أَبُو جَعْفَر قَالَ أَنْشدني أَمِير الْمُؤمنِينَ سُلَيْمَان الظافر لنَفسِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد هُوَ ابْن حزم وأنشدنيها قَاسم بن مُحَمَّد المرواني قَالَ أنشدنيها وليد بن مُحَمَّد الْكَاتِب لِسُلَيْمَان الظافر

(عجبا يهاب اللَّيْث حدّ سناني ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان) (وأقارع الْأَهْوَال لَا متهيباً ... مِنْهَا سوى الْإِعْرَاض والهجران) (وتملّكت نَفسِي ثَلَاث كالدّمى ... زهر الْوُجُوه نواعم الْأَبدَان) (ككواكب الظلماء لحن لناظر ... من فَوق أَغْصَان على كُثْبَان) (هذي الْهلَال وَتلك بنت الْمُشْتَرى ... حسنا وهذى أُخْت غُصْن البان) (حاكمت فيهنّ السّلوّ إِلَى الْهوى ... فَقضى بسُلْطَان على سلطاني) (فأبحن من قلبِي الْحمى وثنينى ... فِي عزّ ملكي كالأسير العاني) (لَا تعذلوا ملكا تذلّل للهوى ... ذلّ الْهوى عز وَملك ثَان) (مَا ضرّ أَنِّي عبدهن صبَابَة ... وَبَنُو الزَّمَان وهنّ من عبداني) (إِن لم أطع فِيهِنَّ سُلْطَان الْهوى ... كلفاً بِهن فلست من مَرْوَان) (وَإِذا الْكَرِيم أحبّ أمّن إلفه ... خطب القلى وحوادث السّلوان) (وَإِذا تجارى فِي الْهوى أهل الْهوى ... عَاشَ الْهوى فِي غِبْطَة وأمان) قَالَ الْحميدِي وَهَذِه الأبيات مُعَارضَة للأبيات الَّتِي تنْسب إِلَى هَارُون الرشيد أنشدنيها لَهُ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عُثْمَان بن مَرْوَان الْعمريّ وَهِي (ملك الثَّلَاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبِي بِكُل مَكَان) (مَالِي تطاوعني الْبَريَّة كلّها ... وأطيعهن وهنّ فِي عصياني) (مَا ذَاك إِلَّا أنّ سُلْطَان الْهوى ... وَبِه قوين أعزّ من سلطاني) قلت وَقد صرح الرشيد بأسماء هَؤُلَاءِ الْجَوَارِي الثَّلَاث فِي قَوْله (إِن سحرًا وضياء وخنث ... هنّ سحر وضياء وخنث)

(أخذت سحر وَلَا ذَنْب لَهَا ... ثُلثي قلبِي وترباها الثُّلُث) وَقَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن سعيد بن أبي الفيّاض الْمَعْرُوف بِابْن الغشّاء فِي كتاب العبر من تأليفه وَذكر سُلَيْمَان هَذَا لَهُ قصائد طَوِيلَة فِي فنون كَثِيرَة مَعَ الْمعَانِي العجيبة والألفاظ الغريبة إِلَّا أَنه تقلد فِي قِيَامه بِالْملكِ عَظِيما وَحمل إِلَى عُنُقه من دِمَاء الْمُسلمين جسيماً وَكَانَ قبل الْخلَافَة رُبمَا امتدح من خدمَة السُّلْطَان المستخدمين أخْبرت عَن الْوَزير ابْن صاعد أَنه امتدحه أَيَّام ولَايَته على جيّان وَكَانَ يبرّه فِي ضَيْعَة لَهُ وَلَا يكلفه عَلَيْهَا عشوراً وَلَا حشداً قَالَ وَكَأَنِّي أرَاهُ قَائِما بَين يَدي ابْن عَمه المهديّ الْقَائِم على بني أبي عَامر والمهديّ جَالس على مقْعد الْخلَافَة وَهُوَ أَمَامه قد لبس ثوب خزّ وَعَلِيهِ طاق خَز ملون وأخروف وشي وَقد رمى بثيابه على عَاتِقه وَبِيَدِهِ

سيف وَهُوَ ينشد شعر طَويلا يهنيه فِيهِ بالخلافة ويمتّ إِلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ أَوله (الْحَمد لله حمداً لَا نقلّله ... هَذَا السرُور الَّذِي كُنَّا نؤمله) وَهِي قصيدة كَبِيرَة رائقة واختراعاته فِيهَا فائقة مَعَ الْمعَانِي الجزلة وَرفع إِلَيْهِ بعض خدمته معتذراً فوقّع لَهُ على ظهر كِتَابه (قَرَأنَا مَا كتبت بِهِ إِلَيْنَا ... وعذرك وَاضح فِيمَا لدينا) (وَمن يكن القريض لَهُ شَفِيعًا ... فَترك عتابه فرض علينا) قَالَ ابْن أبي الفيّاض وَأَخْبرنِي أحد إخْوَانِي قَالَ كتب إِلَيْهِ الْوَزير يُوسُف بن أَحْمد الْبَاجِيّ يذكرهُ بِزَمَانِهِ مَعَه ويمتّ بخدمته لَهُ ويسأله تَجْدِيد العارفة لَدَيْهِ ونظم أبياتاً أَولهَا (قل للْإِمَام المستعين ... وَرَسُول رب الْعَالمين) فوقّع لَهُ سُلَيْمَان (أَنْت المصدّق عندنَا ... بِصَرِيح ودّ مستبين) (فاربع عَلَيْك فهّمنا ... توطيد أَمر الْمُسلمين) (فَإِذا توطد واستقام ... وخاب ظن الحاسدين) (أَصبَحت من دنياك فِي ... أَعلَى مَحل الآملين) قَالَ وَكتب إِلَيْهِ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن مِقْدَام يشكو إِلَيْهِ ضيق حَاله وَكَانَ مَعَه فِي تجوله مَعَ البربر بِشعر أَوله (أهل ترْضى لعبدك أَن يذالا ... وَأَن يبْقى على الدُّنْيَا عيالا) فَبعث إِلَيْهِ بصلَة وَكِسْوَة ووقّع لَهُ على ظهر كِتَابه

(معَاذ الله أَن تبقى عيالا ... وَأَن ترْضى لمثلك أَن يذالا) (وَكَيف وَأَنت مُنْقَطع إِلَيْنَا ... وَقد علقت يداك بِنَا حِبَالًا) (ودونك من نوافلنا يسير ... وَلَكنَّا انتقيناه حَلَالا) وَلما نَهَضَ إِلَى قرطبة بعد تغلبه عَلَيْهَا وَأَخذه إِيَّاهَا عنْوَة بالفتكة الْأَخِيرَة الْقَاهِرَة خرج أَهلهَا إِلَيْهِ متلقين لَهُ ومسلمين عَلَيْهِ فَأَنْشد متمثلاً (إِذا مَا رأوني طالعاً من ثنيّة ... يَقُولُونَ من هَذَا وَقد عرفوني) (يَقُولُونَ لي أَهلا وسهلاً ومرحباً ... وَلَو ظفروا بِي سَاعَة قتلوني) فَكَانَ بهما فِي هَذَا الموطن أَحَق من قَائِلهَا 113 - عبد الرَّحْمَن بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار ابْن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر أَبُو الْمطرف المستظهر بِاللَّه أَخُو أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن هِشَام الْمهْدي بُويِعَ لَهُ بالخلافة بقرطبة فِي رَمَضَان سنة أَربع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة بعد ذهَاب دولة بني حمود وانقراضها من قرطبة وَهُوَ ابْن ثَلَاث أَو اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة ثمَّ ثار عَلَيْهِ ابْن عَمه المستكفي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبيد الله بن النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد فِي طَائِفَة من أراذل الْعَوام فَقتل المستظهر لثلاث بَقينَ من ذِي الْقعدَة من السّنة فَكَانَت خِلَافَته سَبْعَة وَأَرْبَعين يَوْمًا وَلم يعقّب

قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم الْفَقِيه كَانَ المستظهر فِي غَايَة الْأَدَب والبلاغة والفهم ورقة النَّفس وَقَالَ ابْن حيّان لم يكن فِي بَيته يَوْمئِذٍ أبرع مِنْهُ وَكَانَ قد نقّلته المخاوف وتقاذفت بِهِ الْأَسْفَار فتحنّك وتخرّج وتمرن وَكَاد يستولي على الْأَمر لَو أَن المنايا أنسأته وَقَالَ فِي مَوضِع آخر وَكَانَ فَتى أيّ فَتى لَو أخطأته المتالف وَكَانَ قد أخرج رسله إِلَى جمَاعَة الرؤساء بالأندلس يلْتَمس الْبيعَة ويستنفر الكافة وَيَدْعُو إِلَى كرّة الدولة فأخفق مَا طلبه وعوجل وَلما تقتض الْأَجْوِبَة رسله واضمحل أمره والبقاء لله وَحده قَالَ وَكَانَت سنه يَوْم قتل ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وَكَانَ على حُدُوث سنه يقظاً أديباً حسن الْكَلَام جيد القريحة مليح البلاغة يتَصَرَّف فِي مَا شَاءَ من الْخطاب بديهة وروية ويصوغ قطعا من الشّعْر مستجادة وَهُوَ الْقَائِل يُخَاطب شنف زوج سُلَيْمَان المستعين عِنْدَمَا خطب ابْنَتهَا مِنْهُ الْمُسَمَّاة حَبِيبَة وتكنّى أمّ الحكم فلوته وسوفته

(وجالية عذرا لتصرف رغبتي ... وتأبى الْمَعَالِي أَن تجيز لَهَا عذرا) (يكلفها الأهلون ردي جَهَالَة ... وَهل حسن بالشمس أَن تمنع البدرا) (وماذا على أم الحبيبة إِذْ رَأَتْ ... جلالة قدري أَن أكون لَهَا صهرا) (ربيبة ملك ... حبه نكرا) (جعلت لَهَا شرطا عليّ تعبّدي ... وسقت إِلَيْهَا فِي الْهوى مهجتي مهْرا) (تعلّقتها من عبد شمس غريرة ... مخدرة من صيد آبائها غرّا) (حمامة بَيت العبشميّين رفرفت ... فطرت إِلَيْهَا من سراتهم صقرا) (تقلّ الثريا أَن تكون لَهَا يدا ... ويرجو الصَّباح أَن يكون لنا نحر) (لقد طَال صَوْم الْحبّ عَنْك فَمَا الَّذِي ... يَضرك مِنْهُ أَن تَكُونِي لَهُ فطرا) (وَإِنِّي لأستشفي لما بِي بداركم ... هدوءاً وأستسقي لساكنها القطرا) (وألصق أحشائي بِبرد ترابها ... لأطفىء من نَار الأسى بكم جمرا) (فَإِن تصرفيني يَا ابْنة الْعم تصرفي ... وعيشك كفوا مد رغبته سترا) (وَإِنِّي لأرجو أَن أطوّق مفخري ... بملكي لَهَا وَهِي الَّتِي عظمت فخرا) (وَإِنِّي لطعّان إِذا الْخَيل أَقبلت ... جرائدها حَتَّى ترى جونها شقرا) (ومكرم ضَيْفِي حِين ينزل ساحتي ... وجاعل وفري عِنْد سائله وفرا) (وَإِنِّي لأولى النَّاس من قَومهَا بهَا ... وأنبههم ذكرا وأرفعهم قدرا) (وَعِنْدِي مَا يصبى الحليمة ثَيِّبًا ... وَيُنْسِي الفتاة الخود عذرتها البكرا) (جمال وأداب وَخلق موطّأ ... وَلَفظ إِذا مَا شِئْت أسمعك السحرا)

وَله وَقد لمحها يَوْمًا وَأَوْمَأَ بِالسَّلَامِ فَلم ترد عَلَيْهِ خجلا (سَلام على من لم يجد بِكَلَامِهِ ... وَلم يُربي أَهلا لردّ سَلَامه) (سَلام على الظبى الَّذِي كلما رمى ... أصَاب فُؤَادِي عَامِدًا بسهامه) (بنفسي حبيب لم يجد لمحبه ... بطيف خيال زائر فِي مَنَامه) (ألم تعلمي يَا عذبة الإسم أنني ... فَتى فِيك مخلوع عذار لجامه) (وَإِنِّي وفيّ حَافظ لأذمّتي ... إِذا لم يقل غَيْرِي بِحِفْظ ذمامه) (يبشّر ذَاك الشّعر شعري أَنه ... سيوصل حبلي بعد طول انصرامه) (وَمَا شكّ طرفِي أَن طرفك مسعدي ... ومنقذ قلبِي من خبال غرامه) (عَلَيْك سَلام الله من ذِي تَحِيَّة ... وَإِن كَانَ هَذَا زَائِدا فِي اجترامه)

وَله أَيْضا فِيهَا (تبسّم عَن درّ تنضّد فِي الورس ... وأسفر عَن وَجه يَنُوب عَن الشَّمْس) (غزال براه الله من نور عَرْشه ... لتقطيع أنفاسي وَلَيْسَ من الْإِنْس) (وهبت لَهُ روحي وملكي ومهجتي ... وَنَفْسِي وَلَا شَيْء أعز من النَّفس) وَله (طَال عمر اللَّيْل عِنْدِي ... مذ تولعت بصدي) (يَا غزالا نقض الْعَهْد ... وَلم يوف بعهدي) (أنسيت الْعَهْد إِذْ بتنا ... على مفرش ورد) (واجتمعنا فِي وشاح ... وانتظمنا نظم عقد) (وتعانقنا كغصنين ... وقدانا كقدّ) (ونجوم اللَّيْل تحكي ... ذَهَبا فِي لازورد) وَرفع إِلَيْهِ شَاعِر مِمَّن هنأه بالخلافة يَوْم بيعَته شعرًا فِي رقّ مبشور وَاعْتذر من ذَلِك بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ (الرّقّ مبشور وَفِيه بِشَارَة ... ببقا الإِمَام الْفَاضِل المستظهر)

(ملكا أعَاد الْعَيْش غضّاً شخصه ... وَكَذَا يكون بِهِ طوال الأدهر) فأجزل صلته وَوَقع على ظهر رقعته بِهَذِهِ الأبيات (قبلنَا الْعذر فِي بشر الْكتاب ... لما أحكمت من فصل الْخطاب) (وجدنَا بالجزا مِمَّا لدينا ... على قدر الْوُجُود بِلَا حِسَاب) (فَنحْن المنعمون إِذا قَدرنَا ... وَنحن الغافرون أَذَى الذناب) (وَنحن المطلعون بِلَا امتراء ... شموس الْمجد من فلك التُّرَاب) وَله يَوْم الْوُثُوب عَلَيْهِ (يَا أَيهَا الْقَمَر الْمُنِير ... كن نَحْو شبهك لي سفير) (بِتَحِيَّة أودعتها ... شوقاً بنيات الصُّدُور) 114 - أَبُو الْحسن بن هَارُون قَرَأت فِي تَارِيخ أبي بكر بن عِيسَى بن عِيسَى بن مزين أَن أَبَا جَعْفَر

أَحْمد بن سعيد الْمَعْرُوف بالدّب وَزِير سُلَيْمَان المستعين بِاللَّه وكاتبه الْخَاص بِهِ وَلما تحركت فتْنَة عَليّ بن حمود الْعلوِي بعث إِلَى شنتمريّة الغرب وَهِي مرسى أكشونبة مِمَّا يَلِي الْبَحْر الْمُحِيط الغربي ذَا الوزارتين أَبَا عُثْمَان سعيد بن هَارُون الماردي الدَّار وَكَانَت بَينهمَا مصاهرة قَالَ فَلم تطل الْمدَّة حَتَّى قتل الدّب ثمَّ قتل سُلَيْمَان فَملك ابْن هَارُون مَا بِيَدِهِ إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة أَربع أَو خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فورث حَاله ابْنه مُحَمَّد بن سعيد وَحكى أَنه سمى بالمعتصم إِلَى أَن أخرجه عباد بن مُحَمَّد يَعْنِي المعتضد فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين فَصَارَت فِي يَده ثمَّ فِي يَد ابْنه مُحَمَّد بن عباد وَقَالَ ابْن بسام وَذكر أَبَا الْحسن بن هَارُون هَذَا وَلم ينْسبهُ وَهُوَ عليّ ابْن مُحَمَّد بن سعيد بن هَارُون جدّه لأمه أَبُو الْحسن بن الإستجّي فَأَما سلفه من قبل أَبِيه فقد انخدع لَهُم الزَّمَان بريهة وهينم بِأَسْمَائِهِمْ السُّلْطَان هنيهة بشنتمرية الغرب إِلَى أَن نبّه الدَّهْر الغافل على أَمرهم وأسكت عَن ذكرهم على يَدي المعتضد عباد بن مُحَمَّد مخلي الأوطان وملحق بالأقران

وَمن شعره (عَادَتْ إِلَى أذنابها هيف ... واطرد الْإِسْرَاف والحيف) (وَامْتنع الإصبع من وصلنا ... وَزَاد حَتَّى امْتنع الطيف) (شنتمريّ الْقطر غربيّه ... وَرُبمَا حنّ لَهُ الْخيف) (ذُو لَحْظَة إِن لم تكن فِي الحشا ... رمحاً وَإِلَّا فَهِيَ السَّيْف) وَله (يَا لَيْلَة الْعِيد عدت ثَانِيَة ... وَعَاد إحسانك الَّذِي أذكر) (إِذا أقبل النَّاس ينظرُونَ إِلَى ... هلالك النّضو ناحلاً أصفر) (وَفِيهِمْ من أحبه وأنما ... أنظرهُ فِي السَّمَاء إِذْ ينظر) (فَقلت لَا مُؤمنا بِقَوْلِي بل ... معرضًا للْكَلَام لَا أَكثر) (أثّر شهر الصّيام فِيك أَبَا ... مُحَمَّد قَالَ لي وَمَا أثّر) (بل أثّر الصَّوْم فِي هلالكم ... هَذَا الَّذِي لَا يكَاد أَن يظْهر) أحسن من هَذَا قَول أبي الْحسن بن الزّقّاق

(وَشهر أدرنا لارتقاب هلاله ... جفوناً إِلَى نَحْو السَّمَاء موائلا) (إِلَى أَن بدا أحوى المدامع أحور ... يجر لأذيال الشَّبَاب ذلاذلا) (فَقلت لَهُ أَهلا وسهلاً ومرحباً ... ببدر حوى طيب الشُّمُول شمائلا) (أتطلبك الْأَبْصَار فِي الجو نَاقِصا ... وَأَنت هُنَا تمشي على الأَرْض كَامِلا) وَذكرت بقول ابْن هَارُون مَا حكى أَن عبد الصَّمد بن المعذّل رأى مخنثاً لَيْلَة الرَّابِع عشر من رَمَضَان وَهُوَ مُضْطَجع على ظَهره يُخَاطب الْقَمَر وَهُوَ يَقُول لَا أماتني الله مِنْك بحسرة أَو تقع فِي السّلّ فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْيَوْم السَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ رأى عبد الصَّمد الْهلَال فَقَالَ (يَا قمراً قد صَار مثل الْهلَال ... من بعد مَا صيّرني كالخيال) (الْحَمد لله الَّذِي لم أمت ... حَتَّى أرانيك بِهَذَا السّلال) وَلابْن هَارُون (وحديقة شَرقَتْ بعدّ نميرها ... يَحْكِي صفاء الجو صفو غديرها) (تجْرِي الْمِيَاه بهَا أسود أحكمت ... من خَالص العقيان فِي تصويرها) (فَكَأَنَّهَا أَسد الشّرى فِي شكلها ... وكأنّ وَقع الماءصوت زئيرها)

وَمن أُمَرَاء إفريقية فِي هَذِه الْمِائَة 115 - الْمعز بن باديس بن الْمَنْصُور بن بلقين ابْنه تَمِيم بن الْمعز أَبُو الطَّاهِر ولاه أَبوهُ المعزّ بن باديس المهدية سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَعشْرين سنة وَقد استفحل أَمر الْعَرَب بعد هزيمتهم إِيَّاه واستشرى شرهم وجدّوا فِي تخريب القيروان إِلَى أَن تمّ لَهُم ذَلِك ثمَّ تخلى أَبوهُ عَن القيروان وَخرج من المنصورية لائذاً بالمهدية فَنزل قصرهَا وَتَمِيم الْقَائِم بِالْأَمر فِي حَيَاة أَبِيه إِلَى أَن هلك سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة

فاستبد تَمِيم بالمملكة وَدخل إِلَيْهِ الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء ووجوه القواد والأجناد وَقد برز إِلَيْهِم من الطاق فعزّوه عَن الْمعز وهنّوه بِالْملكِ وأنشده الشُّعَرَاء فِي ذَلِك فأجزل جوائزهم وَأكْثر عطاياهم وَأقَام إِلَى أَن توفّي منتصف رَجَب سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة وَهُوَ ابْن تسع وَسبعين سنة مولده بالمنصورية يَوْم الِاثْنَيْنِ لثلاث عشرَة خلت من رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة فَكَانَت مُدَّة ولَايَته بعد أَبِيه سبعا وَأَرْبَعين سنة غير أَرْبَعِينَ يَوْمًا وخلّف من الْوَلَد مَا جَاوز عَددهمْ الْمِائَة وطالت إمارته فتمهد سُلْطَانه وَعلا شانه وانتجع حَضرته جمَاعَة من شعراء الْمغرب والأندلس مِنْهُم أَبُو إِسْحَاق بن خفاجة فِي صباه وَعبد الله بن عبد الْجَبَّار الطرطوشي وَأَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الْعَزِيز الْحلَبِي الْمَعْرُوف بالفكيك وَغَيرهم وخدمه بالشعر من أهل إفريقية جمَاعَة أَيْضا مِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن بن خصيب وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن عَليّ القفصي الْأَعْمَى وَأَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْحداد الأقطع ومدحه قبل هَؤُلَاءِ من شعراء الْمعز أَبِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن شرف وَأَبُو عَليّ حسن بن رَشِيق وَفِيه يَقُول

(أصحّ وَأقوى مَا رَأَيْنَاهُ فِي النّوى ... من الْخَبَر الْمَأْثُور مُنْذُ قديم) (أَحَادِيث تمليها السُّيُول عَن الحيا ... عَن الْبَحْر عَن جود الْأَمِير تَمِيم) وَلأبي الْحُسَيْن عبد الْكَرِيم بن فضّال الْمَعْرُوف بالحلواني فِيهِ (عرّسا بِي فَذا مناخ كريم ... هَذِه جمّة وَهَذَا تَمِيم) (هَذِه الْجنَّة الَّتِي وعد الله ... وَهَذَا صراطه الْمُسْتَقيم) وَكَانَ تَمِيم حَلِيمًا جواداً ممدحاً هجاه ابْن الْحداد الأقطع وَمِمَّا قَالَ فِيهِ (الرّوم أحسن عِنْدِي ... إِذا اختبرت الأمورا) (من أَن يكون تَمِيم ... على الثغور أَمِيرا) فَطَلَبه ثمَّ استتر ثمَّ حبّر قصيدة يستعطفه بهَا وأنشده إِيَّاهَا فصفح عَنهُ وَأحسن إِلَيْهِ ذكر ذَلِك أَبُو الصَّلْت أُميَّة بن عبد الْعَزِيز بن أبي الصَّلْت فِي تَارِيخه قَالَ وَكَانَ يعْتَرض الشُّعَرَاء وينتقد عَلَيْهِم ألفاظهم فَلَا يتَخَلَّص مِنْهُ إِلَّا الماهر أنْشدهُ بَعضهم فِي وَقت هرج (تثبّت لَا يخامرك اضْطِرَاب ... إِلَيْك تمدّ أعينها الرّقاب) فَقَالَ لَهُ أرأيتني وَيحك طرت خفَّة ورميت بنفسي من هَذَا الْعُلُوّ قلقاً واضطراباً وسكّته فَلم يسمع من قصيدته غير هَذَا الْبَيْت وَكَانَ ابْنه يحيى بن تَمِيم وَأَبوهُ الْمعز بن باديس وَالْحسن بن عَليّ بن يحيى بن تَمِيم شعراء وَسَيَأْتِي ذكر كل وَاحِد مِنْهُم فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمن شعر تَمِيم (بكرّ الْخَيل دامية النحور ... وقرع الْهَام بالقضب الذُّكُور) (لأقتحمنّها حَربًا عواناً ... يشيب لهولها رَأس الصَّغِير)

(فإمَّا الْملك فِي شرف وعزّ ... عليّ التَّاج فِي أَعلَى السرير) (وَإِمَّا الْمَوْت بَين ظَبْي العوالي ... فلست بِخَالِد أَبَد الدهور) وَله (سأسكت صبرا واحتساباً فإنني ... أرى الصَّبْر سَيْفا لَيْسَ فِيهِ فلول) (عداني أَن أَشْكُو إِلَى النَّاس أنني ... عليل وَمن أَشْكُو إِلَيْهِ عليل) (وَإِن امْرأ يشكو إِلَى غير نَافِع ... ويسخو بِمَا فِي نَفسه لجهول) وَله فِي غُلَام من موَالِيه اسْمه مدام وَهُوَ من مَشْهُور شعره ويغني بِهِ (مدام يطوف بكأس المدام ... فَلم أدر أيّهما أشْرب) (فَهَذَا الصّديق وَهَذَا الرَّحِيق ... وَهَذَا الْهلَال وَذي الْكَوْكَب) (وَهَذَا يمدّ بألحاظه لي ... وهذي بألبابنا تلعب) (وَمَا الْبَدْر والنجم من ذَا وَذَاكَ ... وَلكنه مثل يضْرب) وَله (قَامَ بكأس فَقلت غُصْن ... عَلَيْهِ آس وجلّنار) (كَأَنَّمَا الْفَرْع مِنْهُ ليل ... وَالْوَجْه من تَحْتَهُ نَهَار) (يَا غُصْن بَان على كثيب ... لبّده الْغَيْم والقطار) (هَل من نوال لمستهام ... جَانِبه النّوم والقرار) (لَيْسَ لَهُ فِي السّلوّ رَأْي ... مَا اخْتلف اللَّيْل وَالنَّهَار) وَله وَهُوَ مِمَّا يستحسن لَهُ (لَهَا نهدان قد نجما ... كنابي فيل شطرنج) وَله

(إِلَى كم أقاسي الحبّ والشوق والوجدا ... وَمَا أجملت جمل وَلَا أسعدت سعدى) (وُجُوه كأقمار قمرن تجلّدى ... على كلّ قدّ قدّ منى الحشا قدّا) (وَكَانَ ابْتِدَاء الحبّ هزلا وَلم أكن ... علمت بِأَن الْهزْل قد يبْعَث الجدّا) وَله (هم عرّضوني للصّبابة والهوى ... وهم قطعُوا حبلي وهم صرفُوا رُسُلِي) (جفوني جنت قَتْلَى عليّ صبَابَة ... وَلم أر مقتولا بألحاظه قبلي) وَله (وَلما افترقنا وَسَارُوا ضحى ... شققنا لوشك الْفِرَاق الجيوبا) (وَلَو كَانَ فِينَا وَفَاء لَهُم ... شققنا مَكَان الْجُيُوب القلوبا) وَله (أَقبلت بدر تَمام ... بَعْدَمَا لاحت هلالاً) (غادة ذَات محيّا ... فِيهِ نور يتلالا) (كتب الْحسن عَلَيْهِ ... صَنْعَة الله تَعَالَى) وَله (لَو كنت حليا لَكُنْت عقدا ... أَو كنت طيبا لَكُنْت ندّا) (أَو كنت وقتا لَكُنْت صبحاً ... أَو كنت نجماً لَكُنْت سَعْدا) (أَو كنت غصناً لَكُنْت آساً ... أَو كنت زهراً لَكُنْت وردا) (وَكم طلبت السلو جهدي ... لم أجد من هَوَاك بدّا) وَله (أَقُول لَهَا وَقد عرضت ... فَكَانَت مُنْتَهى أملي)

(لَئِن أَصبَحت لاهية ... فَإِنِّي مِنْك فِي شغل) (وَلَا شغل سوى مَطْلِي ... وليّ الْوَعْد بالعلل) وَله يصف بركَة مَاء (بركَة بِالْمَاءِ تطّرد ... للصبا فِي متنها زرد) (بَات فِي أحشائها قمر ... مثل قلب الصبّ يرتعد) 116 - إِدْرِيس بن يحيى الْعلوِي الحمّودي أَبُو رَافع ويلقب بالعالي هُوَ إِدْرِيس بن يحيى بن عَليّ بن حمود بن أبي الْعَيْش مَيْمُون بن أَحْمد بن عَليّ بن عبد الله بن عمر بن إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عَليّ بن أبي طَالب أخرج من قرطبة مَعَ أَبِيه يحيى بعد خِلَافَته الأولى عِنْدَمَا خلعه البربر سنة ثَلَاث عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَاسْتقر فِي مالقة حَتَّى بُويِعَ لَهُ بالخلافة بمالقة

بعد أَبِيه يحيى المعتلي وَتسَمى بأمير الْمُؤمنِينَ وتلقب بالعالي ثمَّ خَلفه ابْن عَمه مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن عَليّ بن حمود واعتقله ثمَّ عَاد ثَانِيَة إِلَى مالقة وَفِي ولَايَته يَقُول أَبُو مُحَمَّد غَانِم بن وليد المَخْزُومِي الأديب من أَبْيَات (واستقبل الْملك إِمَام الْهدى ... فِي أَربع بعد ثلاثينا) (خلَافَة الله سمت نَحوه ... وهوابن خمس بعد عشرينا) (إِنِّي لأرجو يَا إِمَام الْهدى ... أَن تملك الدُّنْيَا ثمانينا) (لَا رحم الله امْرأ لم يقل ... عِنْد دعائي لَك آمينا) وَفِيه يَقُول أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن مقانا الأشبوني من قصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِي يتداولها القوّالون لعذوبة ألفاظها وسلاستها

(وَكَأن الشَّمْس لما أشرقت ... وانثنت عَنْهَا عُيُون الناظرين) (وَجه إِدْرِيس بن يحيى بن عَليّ ... بن حمود أَمِير الْمُؤمنِينَ) (خطّ بالمسك على أبوابه ... ادخلوها بِسَلام آمِنين) (ملك ذُو هَيْبَة لكنه ... خاشع لله رب الْعَالمين) (وَإِذا مَا رفعت راياته ... خَفَقت بَين جناحي جبرئين) (وَإِذا أشكل خطب معضل ... صرع الشكّ بمفتاح الْيَقِين) (وَإِذا رَاهن فِي السَّبق أَتَى ... وبيمناه لِوَاء السَّابِقين) (يَا بني أَحْمد يَا خير الورى ... بأبيكم كَانَ رفد الْمُسلمين) (نزل الْوَحْي عَلَيْهِ فاحتبى ... فِي الدجى فَوْقهم الرّوح الْأمين) (خلقُوا من مَاء عدل وتقى ... وَجَمِيع النَّاس من مَاء وطين) وَأول هَذِه القصيدة (ألبرق لائح من أندرين ... ذرفت عَيْنَاك بالدمع الْمعِين) (لعبت أسيافه عَارِية ... كمخاريق بأيدي اللاعبين) وَمِنْهَا (ومصابيح الدّجى قد أطفئت ... فِي بقايا من سَواد اللَّيْل جون) (وَكَأن الطّلّ مسك فِي الثرى ... وَكَأن النّور درّ فِي الغصون) (والندى يقطر من نرجسه ... كدموع أسلمتهنّ الجفون) (والثريا علّقت فِي أفقها ... كقضيب زَاهِر من ياسمين)

وَهَذَا من أحسن مَا قيل فِي تَشْبِيه الثريا وَكَانَ إِدْرِيس هَذَا متناقض الْأُمُور كَانَ أرْحم النَّاس قلباً كثير الصَّدَقَة يتَصَدَّق كلّ يَوْم جُمُعَة بخمسائة دِينَار وردّ المطرودين إِلَى أوطانهم وَصرف إِلَيْهِم ضياعهم وأملاكهم وَلم يسمع بغياً فِي أحد من الرّعية وَكَانَ أديب اللِّقَاء حسن الْمجْلس يَقُول من الشّعْر الأبيات الحسان وَمَعَ هَذَا فَكَانَ لَا يصحب وَلَا يقرّب إِلَّا كل سَاقِط نذل وَلَا يحجب حرمه عَنْهُم وكل من طلب مِنْهُم حصناً أعطَاهُ إِيَّاه وسلّم وزيره ومدبر إِمَامَته وَصَاحب أَبِيه وجده مُوسَى بن عَفَّان إِلَى أَمِير صنهاجة فَقتله وَكَانَ الصنهاجي سَأَلَ ذَلِك مِنْهُ وَكتب إِلَيْهِ فِيهِ فَمَا أخبر إِدْرِيس مُوسَى بن عَفَّان بذلك وَبِأَنَّهُ لابد من تَسْلِيمه إِلَيْهِ قَالَ لَهُ افْعَل مَا تُؤمر ستجدني إِن شَاءَ الله من الصابرين وَهُوَ الْقَائِل بديهاً وَقد غنّى مَا لم يرضه فِي مدحه فَقَالَ للْمُغني أعد الصَّوْت وَقل (إِذا ضَاقَتْ بك الدُّنْيَا ... فعرّج نَحْو إدريسا) (إِذا لاقيته تلقى ... رَئِيسا لَيْسَ مرءوساً) (إِمَام ماجد ملك ... يزِيل الغمّ والبوسا) هَؤُلَاءِ خَاتِمَة الأدباء من الْمُلُوك العلوية والمروانية لذهاب سلطانهم وانقراض ملكهم بالأندلس وَالْمغْرب فِي هَذِه الْمِائَة الْخَامِسَة واستيلاء الثوار على الأقطار وفيهَا أَيْضا كَانَ انْقِرَاض الدولة العبيدية بإفريقية على يَدي الْمعز بن باديس الصنهاجي وافترقت الْجَمَاعَة بالأندلس على رَأسهَا إِلَى وقتنا هَذَا وتسلّط العدوّ أثْنَاء ذَلِك فتحيّفها ثمَّ وَإِلَى مغاره وخساره حَتَّى أتلفهَا ونظمها فِي هَذِه الفترة ملك الْمغرب أَحْيَانًا وانفردت بالثائرين فِيهَا أَحْيَانًا وَفِي كل ذَلِك لم تقم

لَهَا قَائِمَة وَلَا أغنت عَنْهَا وَارِدَة وَلَا حائمة وَمَا بَرحت تخل بهَا وتؤذن بعطبها فَاتِحَة من فتنتها وخاتمة ونعود إِلَى ذكر أُمَرَاء الْفِتْنَة 117 - جهور بن مُحَمَّد بن جهور بن عبيد الله أَبُو الحزم رَئِيس قرطبة قد تقدم ذكر جدّه أبي الحزم جهور بن عبيد الله وَالرَّفْع فِي نسبه وَكَانَ جدهم أَبُو أُميَّة عبد الغافر بن أبي عَبدة من وزراء عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وَسَماهُ عِيسَى بن أَحْمد الرَّازِيّ فِي حجّاب هِشَام الرضي بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة قَالَ وَكَانَ من أهل الْخَيْر وَالدّين وَالْفضل وَهُوَ صَاحب الْخَاتم للْإِمَام هِشَام ولابنه الحكم يَعْنِي الرّبضي وسمّى أَيْضا فِي حجاب الحكم هَذَا عبد الْعَزِيز أَبَا عَبدة أَخا عبد الغافر وَمَا زَالَ هَؤُلَاءِ الجهاورة يتعاقبون على الخطط السّنيَّة الشَّرِيفَة من الحجابة والوزارة والقيادة وَالْكِتَابَة إِلَى أَن وَقعت الْفِتْنَة الْعُظْمَى بالأندلس وَأول من أرّث نارها وأورث شنارها مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار الْمهْدي فتناوب قصر قرطبة جمَاعَة من الأموية والعلوية فِي الْمدَّة الْقَرِيبَة آخِرهم هِشَام بن مُحَمَّد ابْن عبد الْملك بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر المعتدّ لم يكن عِنْدهم غناء وَلَا فقد بتوليتهم التواء وَلَا عناء وَحِينَئِذٍ استولى على الْأَمر بقرطبة دَار الْخلَافَة وقرارة الْملك أَبُو الحزم هَذَا الْأَخير زَمَانا الأول سُلْطَانا وَإِن كَانَ مَا فَارق رسم الوزارة وَلَا تحول عَن دَاره إِلَى قُصُور الْخُلَفَاء لَا تصافه بالرجاحة والدهاء

قَالَ ابْن حَيَّان وَذكر اجْتِمَاع الْمَلأ من أهل قرطبة على تَقْدِيمه أعْطوا مِنْهُ قَوس السياسة باريها وولوا من الْجَمَاعَة داهيتها فاخترع لَهُم لأوّل وقته نوعا من التَّدْبِير حملهمْ عَلَيْهِ فاقترن صَلَاحهمْ بِهِ وأجاد السياسة فانسدل بِهِ السّتْر على أهل قرطبة مدَّته وحصّل كل مَا يرْتَفع من الْبَلَد بعد إِعْطَاء مقاتلته وصيّر ذَلِك فِي أَيدي ثِقَات من الْخدمَة مشارفا لَهُم بضبطه فَإِن فضل شَيْء تَركه بِأَيْدِيهِم مثقفاً مشهوداً عَلَيْهِ لَا يتلبس لَهُم بِشَيْء مِنْهُ وَمَتى سُئِلَ قَالَ لَيْسَ لي عَطاء وَلَا منع هُوَ للْجَمَاعَة وَأَنا أمينهم وَإِذا رابه أَمر عَظِيم أَو عزم على تَدْبِير أحضرهم وشاورهم وَإِذا خُوطِبَ بِكِتَاب لَا ينظر فِيهِ إِلَّا أَن يكون باسم الوزراء فَأعْطى السُّلْطَان حَقه من النّظر وَلم يخل مَعَ ذَلِك من نظره لمعيشته حَتَّى تضَاعف ثراؤه وَصَارَ لَا تقع عينه على أغْنى مِنْهُ حاط ذَلِك كلّه بالبخل الشَّديد وَالْمَنْع الْخَالِص اللَّذين لولاهما مَا وجد عائبه فِي طَعنا ولكمل لَو أَن بشرا يكمل قَالَ وَكَانَ مَعَ براعته ورفعة قدره وتشييده لقديمه بحَديثه من أَشد النَّاس تواضعاً وعفة وأشبههم ظَاهرا بباطن وأولا بآخر لم تخْتَلف بِهِ حَال من الفتاء إِلَى الكهولة وَاسْتمرّ فِي تَدْبيره قرطبة فأنجح سَعْيه بصلاحها ولمّ شعثها فِي الْمدَّة

الْقَرِيبَة وأثمر الثَّمَرَة الزكية ودب دَبِيب الشِّفَاء فِي السقام فنعش مِنْهَا الرفات وألحفها رِدَاء الْأَمْن ومانع عَنْهَا من كَانَ يطْلبهَا من أُمَرَاء البرابرة المتوزعين أسلابها بخفض الْجنَاح ومعاملة الرِّفْق حَتَّى حصل على سلمهم واستدرار مرافق بِلَادهمْ ودارى القاسطين من مُلُوك الْفِتْنَة حَتَّى حفظوا حَضرته وأوجبوا لَهَا حُرْمَة بمكابدته الشدائد حَتَّى ألانها بضروب احتياله فرخت الأسعار وَصَاح الرخَاء بِالنَّاسِ أَن هلموا فلبّوه من كل صقع فَظهر تزيّد النَّاس بقرطبة من أول تَدْبيره لَهَا وغلت الدّور وحرّكوا الْأَسْوَاق وتعجب ذَوُو التَّحْصِيل للَّذي أرى الله فِي صَلَاح النَّاس من الْقُوَّة ولمّا تعتدل حَال أَو يهْلك عَدو أوتقو جباية وَأمر الله تَعَالَى بَين الْكَاف وَالنُّون وَقَالَ الْحميدِي لم يدْخل فِي أُمُور الْفِتَن قبل ذَلِك وَكَانَ يتصاون عَنْهَا فَلَمَّا خلاله الجو وأمكنته الفرصة وثب عَلَيْهَا يَعْنِي قرطبة فَتَوَلّى أمرهَا واستضلع بحمايتها وَلم ينْتَقل إِلَى رُتْبَة الْإِمَارَة ظَاهرا بل دبرهَا تدبيراً لم يسْبق إِلَيْهِ وَجعل نَفسه ممسكاً للموضع إِلَى أَن يَجِيء مُسْتَحقّ يتَّفق عَلَيْهِ فَيسلم إِلَيْهِ ورتّب البوابين والحشم على أَبْوَاب تِلْكَ الْقُصُور على مَا كَانَت عَلَيْهِ أَيَّام الدولة وَلم يتَحَوَّل من دَاره إِلَيْهَا وَجعل مَا يرْتَفع من الْأَمْوَال السُّلْطَانِيَّة بأيدي رجال رتّبهم لذَلِك وَهُوَ المشرف عَلَيْهِ وصيّر أهل الْأَسْوَاق جنداً وَجعل أَرْزَاقهم رُؤُوس أَمْوَال تكون بِأَيْدِيهِم محصاة عَلَيْهِم يَأْخُذُونَ ربحها فَقَط ورؤوس الْأَمْوَال بَاقِيَة مَحْفُوظَة يؤخذون بهَا ويراعون فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت

كَيفَ حفظهم لَهَا وفرّق السِّلَاح عَلَيْهِم وَأمرهمْ بتفريقه فِي الدكاكين وَفِي الْبيُوت حَتَّى إِذا دهم أَمر فِي ليل أَو نَهَار كَانَ سلَاح كل وَاحِد مَعَه وَكَانَ يشْهد الْجَنَائِز وَيعود المرضى جَارِيا فِي طَريقَة الصَّالِحين وَهُوَ مَعَ ذَلِك يدبر الْأَمر بتدبير السلاطين المتغلبين وَكَانَ مَأْمُونا وقرطبة فِي أَيَّامه حريماً يَأْمَن فِيهِ كل خَائِف من غَيره إِلَى أَن مَاتَ فِي صفر وَقَالَ ابْن حيّان لَيْلَة الْجُمُعَة السَّادِسَة من محرم ثمَّ اتفقَا سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَمن شعره وَكتب بِهِ إِلَى الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر (متع الله سَيِّدي بالسرور ... وتولاه فِي جَمِيع الْأُمُور) (وهنيئاً لَهُ بعزة دهر ... تتوالي بظلّ تِلْكَ الْقُصُور) (دَعْوَة أقبل الضَّمِير بنجواه ... عَلَيْهَا لصفو مَا فِي الضَّمِير) هَكَذَا وجدت هَذِه الأبيات منسوبة إِلَى جهور بن مُحَمَّد فِي كتاب مطمح الْأَنْفس لِلْفَتْحِ بن عبيد الله وَقد بيّنت غلطه فِيمَا نسب إِلَيْهِ مِمَّا ثَبت أَنه لجده جهور بن عبيد الله وَلغيره وَلَا يبعد أَن يهنيء الْمَنْصُور فِي آخر دولته لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ بل عَام وَفَاته كَانَ يشارف الثَّلَاثِينَ فِي سنّه وَلَعَلَّ هَذِه الأبيات على ضعفها لِأَبِيهِ أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن جهور بن عبيد الله الْوَزير فَإِنَّهُ كَانَ خاصّاً بالمنصور وَهُوَ الَّذِي أطلعه على أَمر جَعْفَر بن عَليّ الأندلسي صَاحب المسيلة وَاخْتِلَاف البربر إِلَيْهِ بقصر الْعقَاب وَاسْتَأْذَنَ على الْمَنْصُور فِي وَقت لم يكن يصل فِيهِ إِلَيْهِ أحد فَكسر رَائِحَة النَّبِيذ عَنهُ ووارى الْحرم وأصغى إِلَيْهِ وَقبل نصيحته فَقتل جَعْفَر على أثر ذَلِك

وَتوفى أَبُو الْوَلِيد سنة ثَلَاث وَسبعين وثلاثمائة ذكر ذَلِك ابْن حَيَّان فِي تَارِيخه الْكَبِير وصدّر بِهِ المتوفين فِي الدولة العامرية من الوزراء والخواصّ وَلم ينشد الْحميدِي لأبي الحزم الْأَخير شعرًا وَأنْشد لِأَبِيهِ أبي الْوَلِيد هَذَا (أبلغت فِي حبك أسماعي ... فصرت لَا أصغي إِلَى الدَّاعِي) (من صمم أورثنيه الأسى ... وحرقة تشعل أوجاعي) (كلفتني الصَّبْر وأنّى بِهِ ... وَكَيف بِالصبرِ لمرتاع) (جزعت فِي الْحبّ على أنني ... فِي الْخطب جلد غير مجزاع) وَسَيَأْتِي ذكر أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن جهور بن مُحَمَّد الَّذِي خلف أَبَاهُ فِي رئاسة قرطبة وتدبير أمرهَا إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى 118 - مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عبد اللَّخْمِيّ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم قَالَ أَبُو رَافع الْفضل بن عَليّ بن أَحْمد بن حزم فِي كِتَابه الموسوم بالهادي إِلَى معرفَة النّسَب الْعَبَّادِيّ هُوَ أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد ذِي الوزارتين أبي الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن قُرَيْش بن عباد بن عَمْرو بن أسلم بن عَمْرو بن عطاف بن نعيم وعطاف وَضَبطه بِكَسْر الْعين وَتَخْفِيف الطَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ عَن غير أبي رَافع هُوَ الدَّاخِل مِنْهُم بالأندلس فِي طالعة بلج بن بشر الْقشيرِي وَقيل إِن عطافاً ونعيماً هما الداخلان مَعًا إِلَى الأندلس وَكَانَ عطاف من أهل حمص من صقع الشَّام لخميّ النّسَب صَرِيحًا وموضعه من حمص

الْعَريش والعريش فِي آخر الجفار بَين مصر وَالشَّام وَنزل بالأندلس بقرية يَوْمَيْنِ من إقليم طشانة من أَرض إشبيلية وعَلى ضفة نهرها الْأَعْظَم وَقَالَ غير أبي رَافع إِنَّهُم من ولد النُّعْمَان بن الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء وَبِذَلِك كَانُوا يفخرون ويمدحون وَهَذَا ابْن اللبانة يَقُول (من بني الْمُنْذرين وَهُوَ انتساب ... زَاد فِي فخره بَنو عباد) (فتية لم تَلد سواهَا الْمَعَالِي ... والمعالي قَليلَة الْأَوْلَاد) وَقَالَ ابْن حيّان إِسْمَاعِيل بن عباد قاضيهم الْقَدِيم الْولَايَة وَرجل

الغرب قاطبة الْمُتَّصِل الرِّئَاسَة فِي الْجَمَاعَة والفتنة وَكَانَ أيسر من بالأندلس وقته ينْفق من مَاله وغلاّته لم يجمع درهما قطّ من مَال السُّلْطَان وَلَا خدمه وَكَانَ وَاسع الْيَد بالمشاركة آوى صنوف الجالية من قرطبة عِنْد احتدام الْفِتْنَة وَكَانَ مَعْلُوما بوفور الْعقل وسبوغ الْعلم والزكانة مَعَ الدهاء وَبعد النّظر وإصابة القرطسة فَأَما ذُو الوزارتين أَبُو الْقَاسِم ابْنه فَأدْرك متمهلاً وسما بعد إِلَى بُلُوغ الْغَايَة فخلّط مَا شَاءَ وَركب الجرائم الصعبة وَكَانَ الْقَاسِم بن حمود قد اصطنعه بعد مهلك أَبِيه إِسْمَاعِيل ورد عَلَيْهِ مِيرَاثه من قَضَاء بَلَده بعد بعده عَنهُ مُدَّة وَحصل مِنْهُ بِمَنْزِلَة الثِّقَة فخانه تخوّن الْأَيَّام عِنْد إدبارها عَنهُ إيثاراً للحزم وطلباً للعافية وصدّه عَن إشبيلية بَلَده لما قَصده من قرطبة مفلولا وَكَانَ الَّذِي وطّد لَهُ ذَلِك نفر من أكابرها المرتسمين بالوزارة مناغين فِي ذَلِك لوزراء قرطبة على تحميلهم لِابْنِ عباد كبر ذَلِك لإنافته عَلَيْهِم فِي الْحَال

وسعة النِّعْمَة وإحصائهم عَلَيْهِ ملك ثلث إشبيلية ضَيْعَة وغلة يخادعونه بذلك عَن نشبه إبْقَاء مِنْهُم على نعمهم وَهُوَ يَشْتَرِي بذلك أنفسهم وَلَا يَشْعُرُونَ إِلَى أَن وَقَعُوا فِي الهوة وَكَانُوا جمَاعَة مِنْهُم ولد أبي بكر الزبيدِيّ النَّحْوِيّ وَبَنُو يريم وَغَيرهم رَاض بهم الْأُمُور واستمال الْعَامَّة فَمَا توطأت لَهُ قبض أَيدي أَصْحَابه هَؤُلَاءِ وسما بِنَفسِهِ وَأسْقط جَمَاعَتهمْ قَالَ وسلك سيرة أَصْحَاب المماليك الَّذين بالأندلس لأوّل وقته وَقَامَ بأصح عزم وَأَيْقَظَ جدّ واخترع فِي الرِّئَاسَة وُجُوهًا تقدم فِيهَا كثيرا مِنْهُم وامتثل رستم ابْن يعِيش صَاحب طليطلة من بَينهم فِي تمسكه بخطة الْقَضَاء وارتسامه

بهَا وأفعاله على ذَلِك أَفعَال الْجَبَابِرَة وَأَقْبل يضم الْأَحْرَار من كل صنف وَيَشْتَرِي العبيد وَالْجد يساعده والأمور تنقاد لَهُ إِلَى أَن سَاوَى مُلُوك الطوائف وَزَاد على أَكْثَرهم بكثافة سُلْطَانه وَكَثْرَة غلمانه فنفع الله بِهِ كَافَّة رَعيته ونجاهم من ملك البرابرة وَتوفى لليلة بقيت من جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ الْقَائِل يفخر (وَلَا بُد يَوْمًا أَن أسود على الورى ... وَلَو رد عَمْرو للزمان وعامر) (فَمَا الْمجد إِلَّا فِي ضلوعي كامن ... وَلَا الْجُود إِلَّا من يَمِيني ثَائِر) (فجيش الْعلَا مَا بَين جَنْبي جائل ... وبحر الندى مَا بَين كفى زاخر) وَله (محبّ مَا يساعده الحبيب ... رأى وَجه الْإِنَابَة لَو ينيب) (ويبكي للصّبا إِذْ زَالَ عَنهُ ... فيضحك فِي مفارقه المشيب) (وَكم أحيت حشاشته أَمَان ... يباعد بَينهَا الْأَجَل الْقَرِيب) وَله فِي الياسمين (وياسمين حسن المنظر ... يفوق فِي المرأى وَفِي الْمخبر) (كَأَنَّهُ من فَوق أغصانه ... دَرَاهِم فِي مطرف أَخْضَر)

وَله فِيهِ (يَا حبذا الياسمين إِذْ يزهر ... فَوق غصون رطيبة نضّر) (قد امتطى للجمال ذروتها ... فَوق بِسَاط من سندس أَخْضَر) (كَأَنَّهُ والعيون ترمقه ... زمرد فِي خلاله جَوْهَر) وَله فِي الظيان (ترى نَاظر الظّيان فِي لون ... إِذا مرّ مَاء السحائب يغتذي) (وحفّت بِهِ أوراقه فِي رياضه ... وَقد قدّ بعض مثل بعض وَقد حذى) (كصغر من الْيَاقُوت يلمعن بالضحى ... منضّدة من فَوق قضب الزمرد) وَله فِيهِ (كَأَن لون الظيّان حِين بدا ... نوّاره أصفراً على ورقه) (لون محبّ جفاه ذُو ملل ... فاصفرّ من سقمه وَمن أرقه) وَله فِي النيلوفر (يَا حسن منظر ذَا النيلوفر الأرج ... وَحسن مخبره فِي الفوج والأرج) (كَأَنَّهُ جَام درّ فِي تألّقه ... قد أحكموا وَسطه فصّا من السّبج) 119 - ابْنه عباد بن مُحَمَّد المعتضد بِاللَّه أَبُو عَمْرو قَالَ ابْن بسام فِي كِتَابه الموسوم ب الذَّخِيرَة فِي محَاسِن أهل الجزيرة تسمّى أَولا بفخر الدولة ثمَّ بالمعتضد قطب رحى الْفِتْنَة ومنتهى غَايَة المحنة

من رجل لم يثبت لَهُ قَائِم وَلَا حصيد وَلَا سلم عَلَيْهِ قريب وَلَا بعيد جَبَّار أبرم الْأَمر وَهُوَ متناقض وَأسد فرس الطّلى وَهُوَ رابض متهور تتحاماه الدهاة وجبار لَا تأمنه الكماة متعسف اهْتَدَى ومنبت قطع فَمَا أبقى ثار وَالنَّاس حَرْب وكل شَيْء عَلَيْهِ ألب فَكفى أقرانه وهم غير وَاحِد وَضبط شانه بَين قَائِم وقاعد حَتَّى طَالَتْ يَده واتسع بَلَده وَكثر عديده وعدده افْتتح أمره بقتل وَزِير أَبِيه حبيب طعنة فِي ثغر الْأَيَّام ملّك بهَا كفّه وجباراً من جبابرة الْأَنَام شرّد بهَا من خَلفه فاستمر يفري ويخلق وَأخذ يجمع وَيفرق لَهُ فِي كل نَاحيَة ميدان وعَلى كل رابية خوّان حربه سم لَا يبطىء وَسَهْم لَا يخطىء وَسلمهُ شَرّ غير مَأْمُون ومتاع إِلَى أدنى حِين وَذكره ابْن حَيَّان فَقَالَ وَقد نعي إِلَيْهِ بقرطبة وعشيّ يَوْم الْأَحَد لستّ خلت لجمادى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ يَعْنِي وَأَرْبَعمِائَة طرق قرطبة نعى المعتضد عباد زعيم جمَاعَة أُمَرَاء الأندلس فِي وقته أَسد الْمُلُوك وشهاب الْفِتْنَة وراحض الْعَار ومدرك الأوتار وَذُو الأنباء البديعة والجرائر الشنيعة والوقائع المبيرة والهمم الْعلية والسطوة الأبية فَرَمَاهُ الله بِسَهْم من مراميه المصمية أمدّ مَا كَانَ فِي اعتلائه وأرقى مَا كَانَ إِلَى سمائه وأطمع مَا كَانَ فِي الاحتواء على الجزيرة محتفزاً لَهَا عِنْد تشميره الذيل بفتنة لَا كفاء

لَهَا فتوفاه الله على فرَاشه من عِلّة ذبحة قَصِيرَة الأمد وحية الإجهاض اتّفقت الحكايات على أَنَّهَا كَانَت شبه البغت وَكَانَت ولَايَته بعد موت أَبِيه يَوْم الِاثْنَيْنِ غرَّة جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَقضى نحبه يَوْم السبت الثَّانِي من جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَدفن عشيّ يَوْم الْأَحَد بعده تغمد الله خطاياه فَلَقَد حمل عَنهُ على مر الْأَيَّام فِي بَاب فرط الْقَسْوَة وَتجَاوز الْحُدُود والإبلاغ فِي الْمثلَة وَالْأَخْذ بالظّنة والإخفار للذمة حكايات شنيعة لم يبد فِي أَكْثَرهَا للْعَالم بصدقها دَلِيل يقوم عَلَيْهَا فَالْقَوْل ينشاع فِي ذكرهَا وَمهما برىء من مغبتها فَلم يبرأ من فظاعة السطوة وَشدَّة الْقَسْوَة وَسُوء الاتهام على الطَّاعَة سجايا من جبلّته لم يحاش فِيهِنَّ ذَوي رحم وَلَا غلبهن بحيلة وَقد كَانَ تقيّل سيرة أحد بن أبي أَحْمد بن المتَوَكل آخر أشداء خلائف العباسيين الَّذِي ضمّ نشر المملكة بالمشرق وسطا بالمنتزين عَلَيْهَا وبفقده انْهَدَمت الدولة فَحمل عبّاد سمته المعتضدية وطالع بِفضل نظره أخباره السياسية الَّتِي أضحت عِنْد أهل النّظر أَمْثِلَة هادية إِلَى الاحتواء على أمد الرِّئَاسَة فِي صلابة الْعَصَا وشناعة السّطا فجَاء مِنْهَا بمهولات تذْعَر من سَمعهَا فضلا عَمَّن عاينها نسبوا إِلَى هَذَا الْأَمِير الشهم عبار امتثالها من غير دلَالَة وَلم يقصر فِي دولته الَّتِي مهدها فَوق أَطْرَاف الأسنة وصيرا أَكثر شغله فِيهَا شبّ الحروب وكياد الْمُلُوك وانهراج الْبِلَاد وإحراز التّلاد من توفّر حَظه من الْأُمُور الملوكية وَالْعدَد السُّلْطَانِيَّة والآلات الرياسية

وَمن نَادِر أخباره المتناهية فِي الغرابة أَن نَالَ بغيته وَأهْلك تِلْكَ الْأُمَم العاتية وَإنَّهُ لغَائِب عَن مشاهدتها مترفه عَن مكابدتها مدبّر فَوق أريكته منفذ لحيلها من جَوف قصره مَا مَشى إِلَى عدوّ أَو مغلوب من أَمْثَاله غير مرّة أَو مرَّتَيْنِ ثمَّ لزم عريسته يدبر داخلها أُمُوره جرّد نَهَاره لإبرام التَّدْبِير وأخلص لَيْلَة لتملّي السرُور فَلَا يزَال تدار عَلَيْهِ كؤوس الراح ويحيا عَلَيْهِ بِقَبض الْأَرْوَاح لَهُ فِي كل شان شوين وعَلى كل قلب سمع وَعين مَا إِن سبر أحد من دهاة رِجَاله غوره وَلَا أدْرك قَعْره وَلَا أَمن مكره لم يزل ذَلِك دأبة مُنْذُ ابْتِدَائه إِلَى انتهائه قَالَ وَكَانَ عباد أُوتى من جمال الصُّورَة وَتَمام الْخلقَة وفخامة الهيأة وسباطة الْبُنيان وثقوب الذِّهْن وَحُضُور الخاطر وَصدق الْحس مَا فاق أَيْضا على نظرائه وَنظر مَعَ ذَلِك فِي الْأَدَب قبل ميل الْهوى بِهِ إِلَى طلب السُّلْطَان أدنى نظر بأذكى طبع حصل مِنْهُ لثقوب ذهنه على قِطْعَة وافرة علقها من غير تعهد لَهَا وَلَا إمعان فِي غمارها وَلَا إكثار من مطالعتها وَلَا مُنَافَسَة فِي اقتناء صحائفها أَعطَتْهُ نتيجتها على ذَلِك مَا شَاءَ من تحبير الْكَلَام وقرض قطع من الشّعْر ذَات طلاوة فِي معَان أمدّته فِيهَا الطبيعة وَبلغ مِنْهَا الْإِرَادَة واكتتبها الأدباءللبراعة جمع هَذِه الْخلال الظَّاهِرَة والباطنة إِلَى جود كفّ باري السَّحَاب وأخبار عبّاد فِي جَمِيع أَفعاله وضروب أنحائه عالناته وخافياته غَرِيبَة بعيدَة

وَكَانَ على تجرّده فِي إحكام التَّدْبِير لسلطانه ذَا كلف بِالنسَاء فاستوسع فِي اتخاذهن وخلّط فِي أجناسهن فَانْتهى فِي ذَلِك إِلَى مدى لم يبلغهُ أحد من نظرائه فَقيل إِنَّه خلف من صنوفهن السّريريّات خَاصَّة نَحوا من سبعين جَارِيَة إِلَى حرّته الحظيّة لَدَيْهِ الفذّة من حلائله بنت مُجَاهِد العامري أُخْت عَليّ بن مُجَاهِد أَمِير دانية فَفَشَا نسل عباد لتوسّعه فِي النِّكَاح وقوته عَلَيْهِ وَقَالَ غير ابْن حيّان افتض ثَمَانمِائَة بكر وَفِي موت المعتضد يَقُول أَبُو الْوَلِيد بن زيدون وَلم يظهره سُرُورًا بذلك واستراحة مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ غير مَأْمُون على الدِّمَاء وَلَا حَافظ لحُرْمَة الْأَوْلِيَاء (لقد سرّني أنّ النّعيّ موكّل ... بطاغية قد حمّ مِنْهُ حمام) (تجانب صوب الْغَيْث عَن ذَلِك الصدا ... ومرّ عَلَيْهِ المزن وَهُوَ جهام) وَمن شعره وَقد جمعه ابْن أَخِيه إِسْمَاعِيل فِي ديوَان (حميت ذمار الْمجد بَال // بيض والسّمر ... وقصّرت أَعمار العداة على قسر) (ووسّعت سبل الْجُود طبعا وصنعة ... لِأَشْيَاء فِي العلياء ضَاقَ بهَا صَدْرِي) (فَلَا مجد للْإنْسَان مَا كَانَ ضدّه ... يُشَارِكهُ فِي الدَّهْر بِالنَّهْي وَالْأَمر) وَله (رعى الله حالينا حَدِيثا وماضيا ... وَإِن كنت قد جردت عزمي مَاضِيا) (فَمَا لليالي لَا تزَال ترومني ... ويرمين مني صائب السهْم قَاضِيا) (وَقد علمت أنّ الخطوب تطوعني ... وَمَا زلت من لبس الدنيّات عَارِيا) (أجدد فِي الدُّنْيَا ثيابًا جَدِيدَة ... يجدد مِنْهَا الْجُود مَا كَانَ بَالِيًا)

(فَمَا مرّ بِي بخل يخاطر مهجتي ... وَلَا مرّ بخل النَّاس قطّ بباليا) (أَلا حبذا فِي الْمجد إِتْلَاف طارفي ... وبذلي عِنْد الْحَمد نَفسِي وماليا) وَله (لقد بسط الله المكارم من كفيّ ... فلست على العلات عَنْهَا أَخا كفّ) (تنادي بيُوت المَال من فرط بذلها ... يَمِيني قد أسرفت ظالمتي كفّي) (فتغري يَمِيني بالسّماح فتنهمي ... وَلَا تَرْتَضِي خلاّ يَقُول لَهَا: يَكْفِي ... لعمرك مَا الْإِسْرَاف فيّ طبيعة ... ولكنّ طبع الْبُخْل عِنْدِي كالحتف) وَله (يصبّرني أهل الْمَوَدَّة دائبا ... وَإِن فُؤَادِي والإله صبور) (أغار على مغنى الرِّئَاسَة إِنَّنِي ... على كلّ حسن فِي الزَّمَان غيور) (أصرّف ذهني فِي أُمُور جليلة ... وَأعلم أنّ الدائرات تَدور) وَله (أقوم على الْأَيَّام خير مقَام ... وأوقد فِي الْأَعْدَاء شرّ ضرام) (وَأنْفق فِي كسب المحامد مهجتي ... وَلَو كَانَ فِي الذّكر الْجَمِيل حمامي) (وأبلغ من دنياي نَفسِي سؤلها ... وأضرب فِي كلّ الْعلَا بسهامي) (إِذا فَضَح الْأَمْلَاك نقصا فَإِنَّهُ ... يبيّنه عِنْد الْأَنَام تمامي) وَله (عَن الْقَصْد قد جاروا وَمَا جرت عَن قصدي ... إِذا خفيت طرق الفرائس عَن أَسد) (إِذا اعْترضُوا للبخل أَعرَضت عَنْهُم ... وَإِن منّ أَقوام كتمت الَّذِي أسدى)

(فَللَّه مَا أُخْفِي من الْعدْل والنّدى ... وَللَّه مَا أبدي من الْفضل وَالْمجد) (وَلَا ألتقي ضَيْفِي بِغَيْر بشاشة ... إِذا فَجحدت الله مَعْرُوفَة عِنْدِي) وَله (أَنَام وَمَا قلبِي عَن الْمجد نَائِم ... وإنّ فُؤَادِي بالمعالي لهائم) (وَإِن قعدت بِي عِلّة عَن طلابها ... فإنّ اجتهادي فِي الطلاب لدائم) (يعز على نَفسِي إِذا رمت رَاحَة ... براح فتثنيني الطباع الكرائم) (وأسهر ليلِي مفكراً غير طاعم ... وغيري على العلات شبعان نَائِم) (يُنَادي اجتهادي إِن أحسّ بفترة ... أَلا أَيْن يَا عبّاد تِلْكَ العزائم) (فتهتز آمالي وتقوي عزيمتي ... وتذكرني لذاتهنّ الهزائم) وَله (زهر الأسنة فِي الهيجا غَدَتْ زهري ... غرست أشجارها مستجزل الثّمر) (مَا إِن ذكرت لَهَا من معرك جلل ... إِلَّا تجلّلته بالصارم الذّكر) (حَتَّى غَدَوْت وأعدائي تخاطبني ... يَا قَاتل النَّاس بالأجناد والفكر) وَله (هذي السَّعَادَة قد قَامَت على قدم ... وَقد جَلَست لَهَا فِي مجْلِس الْكَرم) (فَإِن أردْت إلهي بالورى حسنا ... فملكني زمَان الْعَرَب والعجم) (فإنني لَا عدلت الدَّهْر عَن حسن ... وَلَا عدلت بهم عَن أكْرم الشيم) (أقارع الدَّهْر عَنْهُم كلّ ذِي طلب ... وَأطْرد الدَّهْر عَنْهُم كلّ مَا عدم)

وَله (وَإِذا توعّرت المسالك لم أرد ... فِيهَا السّرى إِلَّا بِرَأْي مقمر) (وَإِذا طلبت عَظِيمَة فمفاتحي ... فِيهَا الْعَزِيمَة والسّنان السّمهري) وَله (لعمرك إِنِّي بالمدامة قوّال ... وَإِنِّي لما يهوي النّدامى لفعّال) (قسمت زماني بَين كدّ وراحة ... فللرأي أسحار وللطّيب آصال) (فأمسي على اللَّذَّات وَاللَّهْو عاكفاً ... وأضحي بساحات الرِّئَاسَة أختال) (وَلست على الإدمان أغفل بغيتي ... من الْمجد إِنِّي فِي الْمَعَالِي لمحتال) وَله يُخَاطب أَبَاهُ القَاضِي أَبَا الْقَاسِم وَقد عتب عَلَيْهِ (أطعتك فِي سري وجهري جاهداً ... فَلم يَك لي إِلَّا الملام ثَوَاب) (وأعملت جهدي فِي رضاك مشّمراً ... وَمن دون أَن أفضي إِلَيْهِ حجاب) (وَمَا كبا جدّي إِلَيْك وَلم يسغْ ... لنَفْسي على سوء الْمقَام شراب) (وقلّ اصْطِبَارِي حِين لَا لي عنْدكُمْ ... من الْعَطف إِلَّا قسوة وعتاب) (فَرَرْت بنفسي أَبْتَغِي فُرْجَة لَهَا ... على أَن حُلْو الْعَيْش بعْدك صاب) (وَمَا هزني إِلَّا رَسُولك دَاعيا ... فَقلت أَمِير الْمُؤمنِينَ مجاب) (فَجئْت أغذّ السّير حَتَّى كَأَنَّمَا ... يطير بسرجي فِي الفلاة عِقَاب) (وَمَا كنت بعد الْبَين إِلَّا موطناً ... بعزمي على أَن لَا يكون إياب) (وَلَكِنَّك الدُّنْيَا على حَبِيبَة ... فَمَا عَنْك لي إِلَّا إِلَيْك ذهَاب) (أصب بِالرِّضَا عني مسرّة مهجتي ... وَإِن لم يكن فِيمَا أتيت صَوَاب) (وفضلك فِي ترك الملام فَإِنَّهُ ... وحقّك فِي قلبِي ظَبْي وحراب) (إِذا كَانَت النّعمى تكدّر بالأذى ... فَمَا هِيَ إِلَّا محنة وَعَذَاب) (وَلَا تقبضن بِالْمَنْعِ كفي فَإِنَّهُ ... وجدّك نقض للعلا وخراب)

(فكلّ نوال لي إِلَيْك انتسابه ... وَأَنت عَلَيْهِ بالثناء مثاب) (بقيت مكين الْأَمر مَا ذرّ شارق ... وَمَا لَاحَ فِي أفق السَّمَاء ربَاب) وَله إِلَى صهره مُجَاهِد العامري (عرفت عرف الصّبا إِذْ هبّ عاطره ... من أفق من أَنا فِي قلبِي أشاطره) (أَرَادَ تَجْدِيد ذكرَاهُ على شحط ... وَمَا تيقّن أَنى الدَّهْر ذاكره) (قصاره قَيْصر ان قَامَ مفتخراً ... لله أَوله مجداً وَآخره) (خلّى أَبَا الْجَيْش هَل يقْضى اللِّقَاء لنا ... فيشتفي مِنْك طرف أَنْت ناظره) (شطّ المزار بِنَا وَالدَّار دانية ... يَا حبذا الفال لَو صحّت زواجره) وَله أَيْضا (أَتَرَى اللِّقَاء كَمَا نحب يوفّق ... فنظل نصبح بالسرور وتغبق) (أفدي أَبَا الْجَيْش الموفّق إِنَّه ... للمكرمات ميسّر وموفّق) (باهي بِهِ الزَّمن البهيّ كَأَنَّهُ ... بشر على وَجه الزَّمَان ورونق) (ملك إِذا فَهُنَا بِطيب ثنائه ... ظلت لَهُ أفواهنا تتمطّق) (حسب الرِّئَاسَة أَن عدت مزادنة ... بسناه فَهُوَ التَّاج وَهِي المفرق) وَله فِي النسيب (يجور على قلبِي هوى وَيُجِير ... ويأمرني إِن الحبيب أَمِير) (أغار عَلَيْهِ من لحاظي صِيَانة ... وأكرمه إِن المحبّ غيور) (أخفّ على لقيا الحبيب وإنني ... لعمرك فِي جلّى الْأُمُور وقور) وَله (رعى الله من يُصَلِّي فُؤَادِي بحبه ... سعيراً وعيني مِنْهُ فِي جنَّة الْخلد)

(غزاليّة الْعَينَيْنِ شمسيّة السّنا ... كثيبيّة الرّدفين غصنيّة الْقد) (شَكَوْت إِلَيْهِ حبّها بمدامعي ... وأعلمتها مَا قد لقِيت من الوجد) (فصادف قلبِي قَلبهَا وَهُوَ عَالم ... فأعدي وَذُو الشوق المبرّح قد يعدي) (فجادت وَمَا كَادَت على بخدها ... وَقد يَنْبع المَاء النمير من الصّلد) (فَقلت لَهَا هَاتِي ثناياك إِنَّنِي ... أفضّل نوّار الأقاحي على الْورْد) (وميلي على جسمي بجسمك فانثنت ... تعيد الَّذِي أمّلت مِنْهَا كَمَا تبدي) (عنَاقًا ولثماً أرّثاً الشوق بَيْننَا ... فُرَادَى ومثنى كالشرار من الزّند) (فيا سَاعَة مَا كَانَ أقصر وَقتهَا ... لديّ تقضّت غير مذمومة الْعَهْد) وَله (تنام ومدنفها يسهر ... وتصبر عَنهُ وَلَا يصبر) (لَئِن دَامَ هَذَا وَهَذَا بِهِ ... سيهلك وجدا وَلَا يشْعر) وَله (يَا قمراً قلبِي لَهُ مطلع ... وشادناً فِي مهجتي يرتع) (وَالله مَا أطمع فِي الْعَيْش مذ ... أَصبَحت فِي وصلك لَا أطمع) (لَيْت كَمَا يرتع فِي مهجتي ... أَنى فِي ريقته أكرع)

وَله (يطول عليّ الدَّهْر مَا لم ألاقها ... وَيقصر إِن لاقيتها أطول الدَّهْر) (لَهَا غرّة كالبدر عِنْد تَمَامه ... ، صدغا عبير نمّقا صفحة الْبَدْر) (وقدّ كَمثل الْغُصْن مَالَتْ بِهِ الصِّبَا ... يكَاد لفرط اللين ينقدّ فِي الخصر) (وَمَشى كَمَا جَاءَت تهادى غمامة ... وَلَفظ كَمَا انحلّ النظام عَن الدّرّ) وَله، وَهُوَ من جيد شعره (شربنا وجفن اللَّيْل يغسل كحله ... بِمَاء الصَّباح والنسيم رَقِيق) (معتّقة كالتّبر أما بخارها ... فضخم وَأما جسمها فدقيق) وَله فِي الياسمين (كَأَنَّمَا ياسميننا الغضّ ... كواكب فِي السَّمَاء تبيضّ) (والطّرق الْحمر فِي جوانبه ... كخد عذراء مَسّه عضّ) وَله وَأنْشد على مِنْبَر مالقة ودعي لَهُ بهَا وبخمسة وَعشْرين حصناً من حصونها جُمُعَة وَاحِدَة (عتادي أجر مَا أوليت فيهم ... من الفتكات بكر أَو عوان) (وحسبي فِي سَبِيل الله موت ... يكون ثَوَابه دَار الْجنان) وَهَذَا مثل قَوْله عِنْدَمَا ظفر بحصن رندة من أَبْيَات كَانَ يعجب بهَا وَيَأْخُذ النَّاس بحفظها (سأفنى مُدَّة الْأَعْدَاء ... إِن طَالَتْ بِي المدّة) (وتبلى بِي ضلالتهم ... لِيَزْدَادَ الْهدى جده)

(فكم من عدَّة قتلت ... مِنْهُم بعْدهَا عدّة) (نظمت رؤوسهم عقدا ... فحلّت لبة الشده) وَكَانَت لَهُ خزانَة أكْرم لَدَيْهِ من خزانَة جَوْهَر فِي جَوف قصره أودعها هام الْمُلُوك الَّذين أبادهم بِسَيْفِهِ مِنْهَا رَأس مُحَمَّد بن عبد الله البرزالي ورؤوس الحجّاب ابْن خزرون وَابْن نوح وَغَيرهم الَّذين قرن الله رؤوسهم بِرَأْس إمَامهمْ الْخَلِيفَة يحيى بن عَليّ بن حمّود وَكَانَ الَّذِي يغريه بطلبهم أَن بعض الراصدين مولده أخبر أَن انْقِضَاء دولته يكون على أَيدي قوم يطرأون على الجزيرة من غير سكانها فَكَانَ لَا يشك أَنهم تِلْكَ البرازلة الطارئون عَلَيْهَا على عهد

ابْن أبي عَامر فأعمل فِي نكالهم وُجُوه سياسته وَاتفقَ أَن دخل عَلَيْهِ يَوْمًا بعض وزرائه وَبَين يَدَيْهِ كتاب قد أَطَالَ فِيهِ النّظر فَإِذا كتاب سقّوت المنتزي

يَوْمئِذٍ بسبتة يذكر أَن الملثمين المدعوين بالمرابطين قد وصلت مقدمتهم رحبة مراكش فَأخذ الْوَزير يهون أَمرهم ويخبر أَن دونهم اللّجج والمهامة فَقَالَ لَهُ المعتضد هُوَ وَالله الَّذِي أتوقعه وأخشاه وَإِن طَالَتْ بك حَيَاة فستراه اكْتُبْ إِلَى فلَان يعْنى عَامله على الجزيرة بِحِفْظ جبل طَارق حَتَّى يَأْتِيهِ أَمْرِي فَقضى أَن خلعوا وَلَده وقرضوا أمره 120 - ابْنه مُحَمَّد بن عباد الْمُعْتَمد على الله ويلقب أَيْضا بالظافر وبالمؤيدأبو الْقَاسِم بُويِعَ لَهُ بالإمارة بعد أَبِيه المعتضد إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة قَالَ ابْن حيّان وَذكر المعتضد عباد بن مُحَمَّد هَلَكت لَهُ بنت أثيرة لَدَيْهِ أبدى لَهَا حزنا شَدِيدا امتثله أهل مَمْلَكَته فِي إِظْهَاره وَحضر خواصّهم شُهُود جنازتها بداخل قصره عَشِيَّة الْجُمُعَة غرَّة جُمَادَى الأولى يَعْنِي من سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فاستنفروا فِي تعزيته فَلَمَّا انفضّوا شكا ألماً بِرَأْسِهِ من زكام ثقيل انصبّ عَلَيْهِ فهدّه وأحضر لَهُ طبيبه وَقد ازْدَادَ

قلعة وَأنكر نَفسه فغصّ عَلَيْهِ بهجمة من دَمه وَأَشَارَ بتسريح شَيْء مِنْهُ فَرَأى تَأْخِير ذَلِك إِلَى غَد يَوْمه وَأمسى لَيْلَة السبت وَقَضَاء الله قد حاق بِهِ بخنق مزعج أغصّه بريقه وَمنعه الْكَلَام فَقضى نحبه يَوْم السبت وَعلا النوح من قصره بحينه فَلم ينكتم مَوته حينا لشهود خَلِيفَته وقائد جيوشه وحامل كَلمته المرشح لمكانه مُحَمَّد بن عباد المتسمي الظافر الْمُؤَيد بِاللَّه فاستقرت دولته ليومها وَأَلْقَتْ مراسيها وَقَامَ فِي جهاز وَالِده ومواراته فدفنه بداخل قصره وَفِي تربة أَبِيه القَاضِي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَتَوَلَّى الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي جمَاعَة الأشهاد من أهل مَمْلَكَته وَذَلِكَ عشيّ يَوْم الْأَحَد لثلاث خلون من جُمَادَى الْأَخِيرَة وأفضى الْأَمر إِلَى وَلَده وَهُوَ فِي ريعان شبابه وَكَمَال جماله ابْن تسع وَعشْرين سنة وشهرين وَأَيَّام زَائِدَة مولده فِي الْعشْر الْأُخَر من شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي الْوَلِيد بن زيدون مولده سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بكر بن اللبّانة قَالَ ابْن حيّان وَكَانَت سنّ عبّاد سبعا وَخمسين سنة وَثَلَاثَة شهور وَتِسْعَة أَيَّام تأقيتاً من مولده يَوْم الثُّلَاثَاء لسبع بَقينَ من صفر سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة إِلَى وَفَاته يَوْم السبت لليلتين خلتا من جُمَادَى الْأَخِيرَة وَمُدَّة إمارته مِنْهَا من يَوْم بيعَته بوفاة وَالِده يَوْم الِاثْنَيْنِ غرَّة جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة ويومان ويحكى عَن المعتضد خبر غَرِيب فِي تطيّره عِنْد انصرام أَيَّامه وَبَين يَدي هجوم حمامه وَهُوَ انْعِقَاد نِيَّته على استحضار مغن يَجْعَل مَا يَبْتَدِئ بِهِ فألا فِي

أمره وَقد استشعر انْقِرَاض ملكه وحلول هلكه فَأرْسل فِي الصّقلّي الْمُغنِي وَكَانَ قد قدم عَهده بِهِ فأجلسه وأنّسه وَأمره بِالْغنَاءِ فغنى (نطوي اللَّيَالِي علما أَن ستطوينا ... فشعشعيها بِمَاء المزن واسقينا) غنّى من ذَلِك خَمْسَة أَبْيَات ولخمسة أَيَّام مَاتَ وَفِي وَفَاة المعتضد عبّاد وَقيام ابْنه الْمُعْتَمد مُحَمَّد يَقُول أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الْغَنِيّ الحصري الكفيف (مَاتَ عباد وَلَكِن ... بقى الْفَرْع الْكَرِيم) (فكأنّ الْمَيِّت حيّ ... غير أنّ الضَّاد مِيم) وَكَانَ الْمُعْتَمد من الْمُلُوك الْفُضَلَاء والشجعان الْعُقَلَاء والأجواد الأسخياء المأمونين عفيف السَّيْف والذيل مُخَالفا لِأَبِيهِ فِي الْقَهْر والسفك وَالْأَخْذ بِأَدْنَى سِعَايَة رد جمَاعَة مِمَّن نفى أَبوهُ وسكّن وَمَا نفّر وَأحسن السِّيرَة وَملك فَأَسْجِحْ إِلَّا أَنه كَانَ مُولَعا بِالْخمرِ منغمساً فِي اللَّذَّات عاكفاً على البطالة مخلداً إِلَى الرَّاحَة فَكَانَ ذَلِك سَبَب عطبه وأصل هَلَاكه وَمِمَّا يُؤثر من فضائله ويعد فِي زهر مناقبه استعانته على الرّوم بِملك الْمغرب

حِينَئِذٍ وَهُوَ يُوسُف بن تاشفين وسعيه فِي استقدامه وجده فِي ملاقاة الطاغية ملك النَّصَارَى والإيقاع بِهِ بالموضع الْمَعْرُوف بالزلاّقة فِي رَجَب سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وبدخول اللمتونيين إِذْ ذَاك الأندلس تسببوا إِلَى خلعه مَعَ مَعْرفَته بحسدهم لَهُ وانعكاس نَصرهم إِيَّاه خذلاناً وقهراً وتنبيه وزرائه على مَا كَانَ مِنْهُم قبل استجاشتهم والاسنتصار بهم فآثر الدّين على الدُّنْيَا وأنف لِلْإِسْلَامِ من الاصطلام وَتمّ فِيهِ قَضَاء الله فخلعوه بعد حصاره مُدَّة يَوْم الْأَحَد لإحدى وَعشْرين لَيْلَة خلت من رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَاحْتَمَلُوهُ وَأَهله إِلَى الْمغرب وأسكنوه أغمات وَبهَا مَاتَ والمقدور كَائِن وَكَانَت وَفَاته فِي شهرربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ على حَال يوحش سماعهَا فضلا عَن مشاهدتها وَهَذَا بعد أَن خلع عَن ثَمَانمِائَة امْرَأَة أُمَّهَات الْأَوْلَاد وجواري مُتْعَة وإماء تصرّف ورزق من النَّاس حبّاً وَرَحْمَة فهم يبكونه إِلَى الْيَوْم وَكَانَ لَهُ فِي الْأَدَب بَاعَ وسباع ينظم وينثر وَفِي أَيَّامه نفقت سوق الأدباء فتسابقوا إِلَيْهِ وتهافتوا عَلَيْهِ وشعره مدوّن مَوْجُود بأيدي النَّاس وَلم يَك فِي مُلُوك الأندلس قبله أشعر مِنْهُ وَلَا أوسع مَادَّة وَهُوَ الْقَائِل فِي صباه بديهة وَقد سمع الْأَذَان لبَعض الصَّلَوَات (هَذَا الْمُؤَذّن قد بدا بأذانه ... يَرْجُو الرِّضَا وَالْعَفو من رحمانه) (طُوبَى لَهُ من نَاطِق بِحَقِيقَة ... إِن كَانَ عقد ضَمِيره كلسانه) وَله يصف ترسا لازوردي اللَّوْن مطوقاً بِالذَّهَب فِي وَسطه مسامير مذهبَة وَيُقَال إِن أَبَاهُ المعتضد أمره بوصفه فَقَالَ بديها

(مجنّ حكى صانعوه السَّمَاء ... لتقصر عَنهُ طوال الرماح) (وصاغوا مِثَال الثريا عَلَيْهِ ... كواكب تقضى لنا بالنجاح) (وَقد طوّقوه بذوب النّضار ... كَمَا جلّل الْأُفق ضوء الصَّباح) وَله يستعطف أَبَاهُ المعتضد لما فرّط فِي أَمر مالقة وخذله أَصْحَابه فَأخْرج مِنْهَا ولجأ إِلَى رندة فَأَقَامَ بهَا مُدَّة تَحت موجدة أَبِيه (سكّن فُؤَادك لَا تذْهب بك الْفِكر ... مَاذَا يُعِيد عَلَيْك البثّ والحذر) (وازجر جفونك لَا ترض الْبكاء لَهَا ... واصبر فقد كنت عِنْد الْخطب تصطبر) (فَإِن يكن قدر قد عَاق عَن وطر ... فَلَا مردّ لما يَأْتِي بِهِ الْقدر) (وَإِن تكن خيبة فِي الدَّهْر وَاحِدَة ... فكم غزوت وَمن أشياعك الظّفر) (إِن كنت فِي حيرة عَن جرم مجترم ... فَإِن عذرك فِي ظلمائها قمر) (فوّض إِلَى الله فِيمَا أَنْت خائفة ... وثق بمعتضد بِاللَّه يغْتَفر) (وَلَا يروعنك خطب إِن عدا زمن ... فَالله يدْفع والمنصور ينتصر) (واصبر فَإنَّك من قوم أولى جلد ... إِذا أَصَابَتْهُم مَكْرُوهَة صَبَرُوا) (من مثل قَوْمك من مثل الْهمام أبي ... عَمْرو أَبِيك لَهُ مجد ومفتخر)

(سميدع يهب الآلاف مبتدئاً ... ويستقلّ عطاياه ويحتقر) (لَهُ يَد كلّ جَبَّار يقبّلها ... لَوْلَا نداها لقلنا إِنَّهَا الْحجر) (يَا ضيغماً يقتل الْأَبْطَال مفترساً ... لَا توهننّي فَإِنِّي الناب والظّفر) (وفارساً تحذر الأقران صولته ... صن حدّ عَبدك فَهُوَ الصارم الذّكر) (هُوَ الَّذِي لم تشم يمناك صفحته ... إِلَّا تأتّي مُرَاد وانقضى وطر) (قد أخلفتني ظروف أَنْت تعلمهَا ... وغال مورد آمالي بهَا كدر) (فَالنَّفْس جازعة وَالْعين دامعة ... وَالصَّوْت منخفض والطّرف منكسر) (قد حلت لوناً وَمَا بالجسم من سقم ... وشبت رَأْسا وَلم يبلغنِي الْكبر) (ومت إِلَّا ذماء فيّ يمسِكهُ ... أَنِّي عهدتك تَعْفُو حِين تقتدر) (لم يَأْتِ عَبدك ذَنبا يسْتَحق بِهِ ... عتباً وَهَا هُوَ قد ناداك يعْتَذر) (مَا الذَّنب إِلَّا على قوم ذَوي دغل ... وَفِي لَهُم عفوك الْمَعْهُود إِذْ غدروا) (قوم نصيحتهم غشّ وحبهم ... بغض ونفعهم إِن صرّفوا ضَرَر) (تميز الغيظ فِي الْأَلْفَاظ إِن نطقوا ... وتعرف الحقد فِي الألحاظ إِن نظرُوا) (إِن يحرق الْقلب نبز من مقالهم ... فَإِنَّمَا ذَاك من نَار القلى شرر) (أجب نِدَاء أخي قلب تملّكه ... أسى وَذي مقلة أودي بهَا سهر) (لم أوت من زمني شَيْئا ألذّ بِهِ ... فلست أعرف مَا كأس وَلَا وتر) (وَلَا تملّكني دلّ وَلَا خفر ... وَلَا تمرّس بِي غنج وَلَا حور)

(رضاك رَاحَة نَفسِي لَا فجعت بِهِ ... فَهُوَ العتاد الَّذِي للدهر أدّخر) (وَهُوَ المدام الَّتِي أسلو بهَا فَإِذا ... عدمتها وقدت فِي قلبِي الْفِكر) (أجل ولي رَاحَة أُخْرَى كلفت بهَا ... نظم الكلى فِي القنا والهام تبتدر) (كم وقْعَة لَك فِي الْأَعْدَاء وَاضِحَة ... تفنى اللَّيَالِي وَلَا يفنى بهَا الْخَبَر) (سَارَتْ بهَا العيس فِي الْآفَاق فانتشرت ... فَلَيْسَ فِي كل حيّ غَيرهَا سمر) (مَا تركى الْخمر عَن زهد وَلَا ورع ... فَلم يُفَارق لعمري سنّي الصّغر) (وَإِنَّمَا أَنا ساع فِي رضاك فَإِن ... أخفقت فِيهِ فَلَا يفسح لي الْعُمر) (إِلَيْك رَوْضَة فكري جاد منبتها ... ندى يَمِينك لَا ظلّ وَلَا مطر) (جعلت ذكرك فِي أرجائها زهراً ... فَكل أَوْقَاتهَا للمجتنى سحر) وَذكر أَبُو بكر مُحَمَّد بن عِيسَى بن مُحَمَّد اللَّخْمِيّ الداني الْمَعْرُوف بِابْن اللبانة أَن رجلا من أهل إشبيلية كَانَ يحفظ هَذَا الشّعْر فِي ذَلِك الأمد ثمَّ خرج مِنْهَا لنِيَّة مِنْهُ إِلَى أقْصَى حيّ فِي الْعَرَب فأوى إِلَى خيمة من خيماتهم ولاذ بِذِمَّة رَاع من رعاتهم فَلَمَّا توَسط الْقَمَر فِي بعض اللَّيَالِي وهجع السامر تذكر الدولة العبّادية ورونقها فَطَفِقَ ينشد القصيدة بِأَحْسَن صَوت وأشجاه فَمَا أكملها حَتَّى رفع رواق الْخَيْمَة الَّتِي أَوَى إِلَيْهَا عَن رجل وسيم ضخم تدل سِيمَا فَضله على أَنه سيد أَهله قَالَ يَا حضريّ حيّاك الله لمن هَذَا الْكَلَام الَّذِي أعذوذب مورده واخضوضل منبته وتحلّت بقلادة الْحَلَاوَة بكره وهدر بشقشقة

الجزالة بكره فَقَالَ هُوَ لملك من مُلُوك الأندلس يعرف بِابْن عبّاد فَقَالَ الْعَرَبِيّ أَظن هَذَا الْملك لم يكن لَهُ من الْملك إِلَّا حَظّ يسير وَنصِيب حقير ممثل هَذَا الشّعْر لَا يَقُوله من شغل بشئ دونه فعرّفه الرجل بِعظم رئاسته وَوصف لَهُ بعض جلالته فتعجب العربيّ من ذَلِك ثمَّ قَالَ وَمِمَّنْ الْملك إِن كنت تعلم فَقَالَ الرجل هُوَ فِي الصميم من لخم والذؤابة من يعرب فَصَرَخَ الْعَرَبِيّ صرخة أيقظ الحيّ بهَا من هجعته ثمَّ قَالَ هلموا هلموا فتبادر الْقَوْم إِلَيْهِ ينثالون عَلَيْهِ فَقَالَ معشر قومِي اسمعوا مَا سمعته وعوا مَا وعيته فَإِنَّهُ لفخر طَلَبكُمْ وَشرف تلاصق بكم يَا حضري أنْشد كلمة ابْن عمنَا فأنشدهم القصيدة وعرّفهم العربيّ بِمَا عرّفه الرجل بِهِ من نسب الْمُعْتَمد فخامرتهم السّراء وداخلتهم الْعِزَّة وركبوا من طربهم متون الْخَيل وَجعلُوا يتلاعبون عَلَيْهَا بَاقِي اللَّيْل فَلَمَّا رسل اللَّيْل نسيمه وشق الصَّباح أوكاد أديمة عمد زعيم الْقَوْم إِلَى عشْرين من الْإِبِل فَدَفعهَا إِلَى الرجل وَفعل الْجَمِيع مثل مَا فعل فَمَا كَانَ رأد الضُّحَى إِلَّا وَعِنْده هنيدة من الْإِبِل ثمَّ خلطوه بِأَنْفسِهِم وجعلوه مقرّ سرورهم وتأنّسهم وللمعتمد أَيْضا يستعطف أَبَاهُ المعتضد (مولَايَ أَشْكُو إِلَيْك دَاء ... أصبح قلبِي بِهِ جريحاً) (إِن لم يرحه رضاك عني ... فلست أَدْرِي لَهُ مريحاً) (سخطك قد زادني سقاماً ... فَابْعَثْ إليّ الرِّضَا مسيحاً) (واغفر ذُنُوبِي وَلَا تضيّق ... عَن حملهَا صدرك الفسيحا) (لَو صوّر الله للمعالي ... جسماً لأصبحت فِيهِ روحا) وَله فِي النسيب (دَاري الغرام ورام أَن يتكتما ... وأبى لِسَان دُمُوعه فتكلما)

(رحلوا وأخفى وجده فأذاعه ... مَاء الشؤون مصرّحاً ومجمجما) (سايرتهم وَاللَّيْل غفل ثَوْبه ... حَتَّى ترَاءى للنواظر معلما) (فوقفت ثمَّ محيرا وتسلبت ... منى يَد الإصباح تِلْكَ الأنجما) وَله (أكثرت هجري غير أَنَّك رُبمَا ... عطفتك أَحْيَانًا عليّ أُمُور) (فَكَأَنَّمَا زمن التهاجر بَيْننَا ... ليل وساعات الْوِصَال بدور) وَله (عَفا الله عَن سحر على كلّ حَالَة ... وَلَا حوسبت عني بِمَا أَنا وَاجِد) (أَسحر ظلمت النَّفس واخترت فرقتي ... فَجمعت أحزاني وَهن شوادر) (وَكَانَت شجوني باقترابك نزحا ... فهاهن لما أَن نأيت شَوَاهِد) (فَإِن تستلذّي برد مَا بك بَعدنَا ... فبعدك مَا نَدْرِي مَتى مَا المَاء بَارِد) وَله (قَامَت لتحجب قرص الشَّمْس قامتها ... عَن ناظري حجبت عَن نَاظر الْغَيْر) (علما لعمرك مِنْهَا أَنَّهَا قمر ... هَل تحجب الشَّمْس إِلَّا غرَّة الْقَمَر) وناولته إِحْدَى جواريه كأس بلور مترعة خمرًا ولمع الْبَرْق فارتاعت فَقَالَ (ريعت من الْبَرْق وَفِي كفها ... برق من القهوة لمّاع) (يَا لَيْت شعري وَهِي شمس الضُّحَى ... كَيفَ من الْأَنْوَار ترتاع) وَله ويغني بِهِ (تظنّ بِنَا أمّ الرّبيع سآمة ... أَلا غفر الرَّحْمَن ذَنبا تواقعه)

(أأهجر ظَبْيًا فِي فُؤَادِي كناسه ... وَبدر تَمام فِي ضلوعي مطالعه) (وروضة حسن أجتنيها وبارداً ... من الظّلم لم تحظر عليّ شرائعه) (إِذا عدمت كفّي نوالا تفيضه ... على معتفيها أَو كميّاً تقارعه) وَله فِيهَا وضمّن أَوَائِل الأبيات حُرُوف اسْمهَا (أغائبة الشَّخْص عَن ناظري ... وحاضرة فِي صميم الْفُؤَاد) (عَلَيْك السَّلَام بقدرالشجون ... ودمع الشؤون وَقدر السّهاد) (تملّكت مني صَعب المرام ... وصادفت من سهل القياد) (مرادي أعياك فِي كلّ حِين ... فياليت أَنِّي أعْطى مرادي) (أقيمي على الْعَهْد فِي بَيْننَا ... وَلَا تستحيلي لطول البعاد) (دسست اسْمك الحلو فِي طيّه ... وألّفت فِيك حُرُوف اعْتِمَاد) وإليها يُشِير بقوله فِي رثاء ابنيه الْمَأْمُون والراضي بعد خلعه (معي الْأَخَوَات الهالكات عَلَيْكُمَا ... وأمّكما الثكلى المضرّمة الصَّدْر) (تبكّي بدمع لَيْسَ للغيث مثله ... وتزجرها التَّقْوَى فتصغي إِلَى الزّجر) (تذللها الذكرى فتفزغ للبكا ... وتصبر فِي الأحيان شحّاً على الْأجر) (أَبَا خَالِد أورثتني البثّ خَالِدا ... أَبَا النَّصْر مذ ودّعت ودّعني نصري) (وقبلكما مَا أودع الْقلب حسرة ... تجدّد طول الدَّهْر ثكل أبي عَمْرو)

يَعْنِي ابْنه سراج الدولة أَبَا عَمْرو عباد بن مُحَمَّد قَتِيل ابْن عكاشة بقرطبة وَأَبُو خَالِد هُوَ ابْنه يزِيد الملقب بالراضي وَهُوَ الَّذِي قَتله قرور اللّمتوني غدراً برندة وَأَبُو نصر هُوَ ابْنه الْفَتْح الملقب بالمأمون وَقتل أَيْضا بقرطبة فِي آخر دولتهم وإخوتهم أَبُو الْحُسَيْن عبيد الله الملقب بالرشيد حمل مَعَ أَبِيه إِلَى العدوة وَأَبُو بكر عبد الله الملقب بالمعتدّ وَأَبُو سُلَيْمَان الرّبيع تَاج الدولة وَأَبُو هَاشم المعلّى زين الدولة وَكلهمْ لجاريته هَذِه الحظية عِنْده الْغَالِبَة عَلَيْهِ اعْتِمَاد وَهِي أم الرّبيع وتعرف بالسيدة الْكُبْرَى وتلقب بالرّميكيّة نِسْبَة لمولاها رميك ابْن حجاج وَمِنْه ابتاعها الْمُعْتَمد فِي أَيَّام أَبِيه المعتضد وَكَانَ مفرط الْميل إِلَيْهَا حَتَّى تلقّب بالمعتمد لينتظم اسْمه حُرُوف اسْمهَا وَهِي الَّتِي أغرت سَيِّدهَا بقتل أبي بكر ابْن عمار لذكره إِيَّاهَا فِي هجائه الْمُعْتَمد الَّذِي أَوله

(أَلا حَيّ بالغرب حَيا حَلَالا ... أناخو جمالاً وحازوا جمالا) يَقُول فِيهِ (تخيّرتها من بَنَات الهجين ... رميكيّة مَا تَسَاوِي عقَالًا) وَهُوَ شعر أقذع فِيهِ وَقد قيل إِنَّه منحول اليه ومقول عل لِسَانه فَالله أعلم وَتوفيت أمّ الرّبيع هَذِه بأغمات قبل الْمُعْتَمد سَيِّدهَا لم ترقأ لَهَا عِبْرَة وَلَا فارقتها حسرة حَتَّى قَضَت أسفا وَهَلَكت حزنا رَحمهَا الله ومحاسن الْمُعْتَمد فِي أشعاره كَثِيرَة وخصوصا مراثيه لأبنائه وثفجعه لزوَال سُلْطَانه وَحكى أَن بعض بني عبّاد أنْشد فِي النّوم قبل حُلُول الفاقرة بهم هَذِه الأبيات (مَا يعلم الْمَرْء وَالدُّنْيَا تمرّ بِهِ ... بأنّ صرف ليَالِي الدَّهْر مَحْذُور) (بَينا الْفَتى متردّ فِي مسرّته ... وافي عَلَيْهِ من الْأَيَّام تَغْيِير)

(وفر من حوله تِلْكَ الجيوش كَمَا ... تَفِر عَايَنت الصَّقْر العصافير) (وخرّ خسراً فَلَا الْأَيَّام دمن لَهُ ... وَلَا بِمَا وعد الْأَبْرَار محبور) (من بعد سبع كأحلام تمرّ وَمَا ... يرقى إِلَى الله تهليل وتكبير) (يحلّ سوء بِقوم لَا مردّ لَهُ ... وَمَا تردّ من الله الْمَقَادِير) وَكَذَلِكَ حكى أَيْضا عَن آخر أَنه رأى فِي مَنَامه كَأَن رجلا صعد مِنْبَر جَامع قرطبة واستقبل النَّاس ينشدهم (ربّ ركب قد أناخوا عيسهم ... فِي ذرى مجدهم حِين بسق) (سكت الدَّهْر زَمَانا عَنْهُم ... ثمَّ أبكاهم دَمًا حِين نطق) فَلَمَّا سمع الْمُعْتَمد ذَلِك أَيقَن أَنه نعى لملكه وإعلام بِمَا انتثر فِي سلكه فَقَالَ (من عزا الْمجد إِلَيْنَا قد صدق ... لم يلم من قَالَ مهما قَالَ حقّ) (مَجدنَا الشَّمْس سناء وسنا ... من يرم ستر سناها لم يطق) (أَيهَا الناعي إِلَيْنَا مَجدنَا ... هَل يضرّ الْمجد أَن خطب طرق) (لَا نرع للدمع فِي آماقنا ... مزجته بِدَم أَيدي الحرق) (حنق الدَّهْر علينا فسطا ... وَكَذَا الدَّهْر على الحرّ حنق) (وقديماً كلف الْملك بِنَا ... وَرَأى من شموساً فعشق) (قد مضى منا مُلُوك شهروا ... شهرة الشَّمْس تجلّت فِي الْأُفق)

(نَحن أَبنَاء بني مَاء السما ... نحونا تطمح ألحاظ الحدق) (وَإِذا مَا اجْتمع الدّين لنا ... فحقير مَا من الدُّنْيَا افترق) وَمِنْهَا فِي ذكر مُدَّة إمارتهم (حجَجًا عشرا وَعشرا بعْدهَا ... وَثَلَاثِينَ وَعشْرين نسق) (أشرقت عشرُون من أَنْفسهَا ... وَثَلَاث نيّرات تأتلق) وَكَانَ ملك بني عباد ثَلَاثًا وَسبعين سنة للمعتمد مِنْهَا ثَلَاث وَعِشْرُونَ وَله (لما تماسكت الدُّمُوع ... وتنبّه الْقلب الصديع) (وتناكرت هممي لما ... يستامها الْخطب الفظيع) (قَالُوا الخضوع سياسة ... فليبد مِنْك لَهُم خضوع) (وألذّ من طعم الخضوع ... على فمي السّمّ النقيع) (إِن تستلب عني الدّنا ... ملكي وتسلمني الجموع) (فالقلب بَين ضلوعه ... لم تسلم الْقلب الضلوع) (لم أستلب شرف الطباع ... أيسلب الشّرف الرفيع) (قد رمت يَوْم نزالهم ... أَلا تحصنني الدروع) (وبرزت لَيْسَ سوى الْقَمِيص ... على الحشا شَيْء دفوع) (وبذلت نَفسِي كي تسيل ... إِذا يسيل بهَا النّجيع)

(أَجلي تأخّر لم يكن ... بهواي ذليّ والخشوع) (مَا سرت قطّ إِلَى الكماة ... وَكَانَ من أملي الرُّجُوع) (شيم الأولى أَنا مِنْهُم ... وَالْأَصْل تتبعه الْفُرُوع) وَله (لَك الْحَمد من بعد السيوف كبول ... بساقيّ مِنْهَا فِي السجون حجول) (وَكُنَّا إِذا حانت لِحَرْب فَرِيضَة ... وَنَادَتْ بأوقات الصَّلَاة طبول)

(شَهِدنَا فكبّرنا فظلّت سُيُوفنَا ... تصلّي بهامات العدا فتطيل) (سُجُود على إِثْر الرُّكُوع متابع ... هُنَاكَ وأرواح الكماة تسيل) وعَلى هَذِه الْحَال من الاعتقال كَانَ الشُّعَرَاء ينتجعونه ويمتدحونه فيصل بِمَا لَدَيْهِ من يفد عَلَيْهِ أَو يوجّه بِشعرِهِ إِلَيْهِ وتعرّض لَهُ أَبُو الْحسن الحصري فِي طَرِيقه إِلَى أغمات بعد الْقَبْض عَلَيْهِ بِشعر يمدحه فِيهِ فوجّه إِلَيْهِ بِسِتَّة وَثَلَاثِينَ مِثْقَالا لم يكن عِنْده سواهَا وأدرج قِطْعَة شعر طيّها معتذراً من قلتهَا وتسامع الشُّعَرَاء بذلك فقصدوه من كل نَاحيَة فَقَالَ (شعراء طنجة كلّهم وَالْمغْرب ... ذَهَبُوا من الإغراب أبعد مَذْهَب) (سَأَلُوا العسير من الْأَسير وإنّه ... بسؤالهم لأحقّ فاعجب واعجب) (لَوْلَا الْحيَاء وَعزة لخميّة ... طيّ الحشا ناغاهم فِي الْمطلب) (قد كَانَ إِن سُئِلَ الندى يجزل وَإِن ... نَادَى الصَّرِيخ بِبَابِهِ اركب يركب) وَله فِي الزّهْد (أرى الدُّنْيَا لَا تواني ... فأجمل فِي التصرّف والطّلاب) (وَلَا يغررك مِنْهَا حسن برد ... لَهُ علمَان من ذهب الذّهاب) (فأوّلها رَجَاء من سراب ... وَآخِرهَا رِدَاء من تُرَاب)

أَبنَاء الْمُعْتَمد رَحمَه الله 121 - عبيد الله بن مُحَمَّد الرشيد أَبُو الْحسن ذكر أَبُو بكر بن اللبانة أَن كبار أَوْلَاد الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عبّاد عبيد الله الرشيد هَذَا ثمَّ المعتدّ أَبُو بكر عبد الله ثمَّ الْمَأْمُون أَبُو نصر الْفَتْح ثمَّ الراضي أَبُو خَالِد يزِيد هَكَذَا أسماهم وَقد قيل إِن المعتدّ أَصْغَرهم وَإِنَّمَا أَرَادَ بعد أبي عَمْرو عباد بن مُحَمَّد سراج الدولة قَتِيل ابْن عكاشة بقرطبة وَإِلَّا فَهُوَ بكر أَوْلَاده والمسمّى باسم أَبِيه المعتضد قَالَ وَولد للرشيد سَبْعَة وَأَرْبَعُونَ ولدا وَكَانَ دمثاً رَقِيق حَاشِيَة الطَّبْع طالع شَيْئا من الْعُلُوم الرياضية وكشف لَهُ عَن غيب الأغاني حَتَّى قيل إِنَّه يجيد ضرب الْعود وَكَانَ لَهُ أدب وَشعر وَذكر غَيره أَن أَبَاهُ الْمُعْتَمد ولاه عَهده وَأَنه قدّمه أَيْضا إِلَى خطة الْقَضَاء بإشبيلية مُحَافظَة على رسم سلفه فِي ذَلِك فَكَانَ يجلس للْأَحْكَام جُلُوسًا عامّاً يَوْم الْخَمِيس ويحضر عِنْده أَعْيَان الْفُقَهَاء وَأهل الْعلم وثقات الشُّهَدَاء وتتجاذب عِنْده النَّوَازِل فَيحكم فِيهَا ويستفتي الْفُقَهَاء ويمضي من ذَلِك مَا يجب على مَذْهَب مَالك وَأَصْحَابه وتنعقد عَلَيْهِ السجلات بِالْأَحْكَامِ وَكَانَ الَّذِي يتَوَلَّى الْقَضَاء للرشيد الْفَقِيه المشاور أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن جَابر اللّخمي ثمَّ صرف عَن ذَلِك وَولى أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن مَنْظُور الْقَيْسِي وَلما نقل بَنو عبّاد إِلَى الْمغرب أسكن الرشيد مِنْهُم بقلعة مهْدي وَكَانَ هُنَالك إِلَى أَن توفّي فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَقد نَيف على السّبْعين فِي سنه وَمن شعره يُخَاطب أمّ ابْنه الْمُعَلَّى عِنْد وِلَادَتهَا إِيَّاه

(أهنيك بل نَفسِي أهنّي فإنني ... بلغت الَّذِي كَانَ اقتراحي على الدَّهْر) (خلاصك من أَيدي الْمنون وغرة ... بَدَت للمعلّى مثل دَائِرَة الْبَدْر) (كأنّي بِهِ عَمَّا قريب مملّكاً ... زِمَام الْمَعَالِي نَافِذ النهى وَالْأَمر) (يَقُود إِلَى الهيجاء كلّ غضنفر ... وَيضْرب من ناواه بالبيض والسّمر) (فقرّت بِهِ عَيْني وعينك فِي الْعلَا ... وَلَا زَالَ أسمي فِي المحلّ من الغفر) وَجرى بِمَجْلِس أَبِيه قسيم فِي صفة الْقبَّة الْمُسَمَّاة بِسَعْد السُّعُود وَهِي قبَّة بِالْقصرِ الزاهي فعجز من حضر من الشُّعَرَاء عَن إِجَازَته فَقَالَ الرشيد مرتجلاً (سعد السُّعُود يتيه فَوق الزاهي ... وَكِلَاهُمَا فِي حسنه متناه) (وَمن اغتدى وطناً لمثل مُحَمَّد ... قد جلّ فِي علياه عَن أشباه) (لَا زَالَ يخلد فيهمَا مَا شاءه ... ودهت عداهُ من الخطوب دواه) وَله (قَالُوا غَدا يَوْم الرحيل فأمطرت ... عَيْنَايَ دمعاً واكف العبرات) (لم لَا وأنأي عَن أحبه مهجتي ... كرها فقلبي دَائِم الحسرات) (من كلّ بَيْضَاء الْعَوَارِض طفلة ... مثل البدور تضيء فِي الظُّلُمَات) (لَوْلَا الرَّجَاء بِأَن يعجّل بَيْننَا ... وَشك التلاقي لاشتهيت مماتي) وعتب عَلَيْهِ أَبوهُ الْمُعْتَمد فِي طَرِيقه من مكناسة إِلَى أغمات عتباً أفرط فِيهِ فَكتب إِلَيْهِ يستعطفه (يَا حَلِيف الندى وربّ السّماح ... وحبِيب النُّفُوس والأرواح)

(من تَمام النّعمى عليّ التماحي ... لمحة من جبينك الوضاح) (قد غنينا ببشره وسناه ... عَن ضِيَاء الصَّباح والمصباح) (ذَاك حظي من الزَّمَان فَإِن جاد ... بِهِ لي بلغت كلّ اقتراحي) فَأَجَابَهُ الْمُعْتَمد (كنت حلف الندى وربّ السماح ... وحبِيب النُّفُوس والأرواح) (إِذْ يَمِيني للبذل يَوْم العطايا ... ولقبض الْأَرْوَاح يَوْم الكفاح) (وشمالي لقبض كلّ عنان ... يقحم الْخَيل فِي مجَال الرماح) (وَأَنا الْيَوْم رهن أسر وفقر ... مستباح الْحمى مهيض الْجنَاح) (لَا أُجِيب الصَّرِيخ إِن حضر الباس ... وَلَا المعتفين يَوْم السماح) (عَاد بشرى الَّذِي عهِدت عبوسا ... شغلتي الأشجان عَن أفراحي) (فالتماحي إِلَى الْعُيُون كريه ... وَلَقَد كَانَ نزهة اللّماح) 122 - يزِيد بن مُحَمَّد الراضي أَبُو خَالِد ولاه أَبوهُ الجزيرة الخضراء وَكَانَ بهَا عِنْد إجَازَة عَسَاكِر ابْن تاشفين اللمتوني الْبَحْر واشتراطه إِيَّاهَا فنقله إِلَى رندة وَهُوَ شَقِيق عبّاد وَالْفَتْح وَعبيد الله المعتدّ بني الْمُعْتَمد أمّهم اعْتِمَاد وَقد تقدم ذكر ذَلِك وَذكر حظوتها لَدَيْهِ وَقيل إِن المعتضد غاظه مَا بلغه من غلبتها على الْمُعْتَمد أول مَا اشْتَرَاهَا

فَتوجه إِلَيْهِ عَازِمًا على عِقَابه ومعتقداً التنكيل بِهِ وَالْمُعْتَمد إِذْ ذَاك بشلب عَامل لَهُ وَقد ولدت مِنْهُ أكبر أَوْلَاده سراج الدولة عباداً فَأمرهَا أَن تتلقاه بِهِ لتعطفه رُؤْيَته عَلَيْهَا فَكَانَ ذَلِك كَذَلِك ورقّ لَهُ المعتضد وفتر عزمه على الْإِيقَاع بِهِ وَكَانَ الراضي من أهل الْعلم وَالْأَدب كلفاً بالمطالعة والدراسة قَرَأَ كتب القَاضِي أبي بكر بن الطّيب وأشرف على مَذْهَب أبي مُحَمَّد بن حزم الظَّاهِرِيّ فمهر فِي الْأُصُول وَذهب إِلَى النّظر وَالِاخْتِيَار قَالَ ابْن اللبانة ولد الراضي سَبْعَة من الْبَنِينَ وَهُوَ أقل بني عباد الرؤساء ولدا وَكَانَ عالي الهمة عَالما بالشرعيات وَاقِفًا على الطبيعيات ذَاكِرًا للْعَرَب وأنسابها حَافِظًا للغاتها وآدابها قَالَ وَهُوَ شَاعِر بني عبّاد بعد أَبِيه على أَنه أقوى عارضة مِنْهُ وَأَبوهُ ألطف طبعا وأرق صنعا واستنزل الراضي من رندة عِنْد خلع أَبِيه وَبعد مخاطبته إِيَّاه بذلك على عهود أخفرت ومواثيق نقضت فَقتل صبرا فِي رَمَضَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ الْقَائِل فِي النسيب (مرّوا بِنَا أصلا من غير ميعاد ... فأوقدوا نَار شوقي أيّ إيقاد) (وأذكروني أَيَّامًا لهوت بهم ... فِيهَا ففازوا بإيثاري وإحمادي) (لَا غرو أَن زَاد فِي وجدي مرورهم ... فرؤية المَاء تذكي غلّة الصادي) وَله يُخَاطب أَبَاهُ وَقد أنهض جمَاعَة من اخوته دونه وَبعث بهَا مَعَ بعض بنيه

(أعينك أَن يكون بِنَا خمول ... ويطلع غَيرنَا وَلنَا أفول) (حنانك إِن يكن جُرْمِي قبيحاً ... فَإِن الصفح عَن جُرْمِي جميل) (وَإِن عثرت بِنَا قدم سفاهاً ... فَإِنِّي من عثاري مستقيل) (وَأحسن مَا سَمِعت بِهِ عَزِيز ... يُنَادِيه فيرحمه ذليل) (وهأنذا أناديكم فَهَل لي ... إِلَى قرب من الرّحمى سَبِيل) (وَأَنت الْملك تَعْفُو عَن كثير ... فمالك ظلت يغضبك الْقَلِيل) (أَلَسْت بفرعك الزاكي وماذا ... يرجّى الْفَرْع خانته الْأُصُول) (بعثت برقعتي هَذِه رَسُولا ... صَغِير السّنّ لَيْسَ لَهُ حويل) (لترحمه وأفراخاً إِذا مَا ... عتبت عليّ عَاد لَهُم عويل) (بقيت لَهُم على عتب وعتبي ... فإنّ حياتك الظلّ الظليل) وَله يخاطبه أَيْضا مسلّياً عَن هزيمَة جَيش لَهُ بِنَاحِيَة لورقة كَانَ عَلَيْهِ ابْنه المعتدّ (لَا يكرثنّك خطب الْحَادِث الْجَارِي ... فَمَا عَلَيْك بِذَاكَ الْخطب من عَار) (مَاذَا على ضيغم أمضى عزيمته ... أَن خانه حدّ أَنْيَاب وأظفار) (من يوقظ الْحَرْب لَا يُنكر حوادثها ... قد تحرق النَّار يَوْمًا موقد النَّار) (لَئِن أتوك فَمن جبن وَمن خور ... قد ينْهض العير نَحْو الضيغم الضاري) (عَلَيْك للنَّاس أَن تسْعَى لنصرهم ... وَمَا عَلَيْك لَهُم إسعاد أقدار) (لَو يعلم النَّاس مَا فِي أَن تدوم لَهُم ... بكوا لأنّك من ثوب الصّبا عَار) (وَلَو أطاقوا انتقاصاً من حياتهم ... لم يتحفوك بِشَيْء غير أَعمار)

وَهِي طَوِيلَة وَجل شعره فِي استعطاف أَبِيه الْمُعْتَمد لطول موجدته عَلَيْهِ والاعتذار فِي كل حِين إِلَيْهِ وَمن ذَلِك قَوْله (سجية ذِي الدُّنْيَا عَدَاوَة ذِي الْفضل ... ورومك نقل الطَّبْع من أعظم الْجَهْل) (فصبراً على ضيقاتها فلعلّها ... تفرّج يَوْمًا والعقود إِلَى حلّ) (وَلَا تضمرنّ الثّكل إِن كنت ذَا حجا ... فَلَيْسَ لبيباً من يبيت على ثكل) (سأشكو إِلَى مشكي فُؤَادِي بعتبه ... وَمن عجب شكوى الجريح إِلَى النّصل) (أمعتمد الْأَمْلَاك دَعْوَة آمل ... رضاك فَلَا ضَاقَتْ إِلَى غَيره سبلي) (وَلست وَإِن أضحي بَعيدا بيائس ... فَإِن دموع المزن تهوي إِلَى سفل) (لَك الْخَيْر لم أعلم بأنك مُنكر ... إِذا الشَّمْس آذتني فراري إِلَى الظلّ) (فَإِن كنت ذَا ذَنْب فحسبي عفوكم ... وقلبي مَا زلّ الرِّجَال ذَوُو الْعقل) (وَكم حقن الْأَمْلَاك قبلك من دم ... وَكَانَ لديهم سفكه كجني النَّحْل) (يؤرّقني ظَنِّي بجدّي ونقصه ... ويرقدني علمي بِمَا لَك من فضل) (لعمري لَئِن كنت الجدير بزلفة ... لديك فَهَذَا الْفَرْع من ذَلِك الأَصْل) وَله من قصيدة (مَالِي أرى ذَا السَّيْف عنْدك عاطلاً ... وَهُوَ المصمم إِن سواهُ تبلدا) (مَا لي حرمت رضاك لي وَهُوَ الَّذِي ... قد كنت أرهب من زمَان أنكدا) (إِنِّي وحقّك وَاجِد بَين الحشا ... من أجل سخطك مثل حزّ بالمدى) (إِن كَانَ لي ذَنْب فعفوك وَاسع ... أَو إِن يكن بغض فقد بَان الرّدى) (قد كَانَ من حَقي لعمرك أَن أرى ... من بَين أَبنَاء الْمُلُوك محسّداً) (فَأَنا الْجواد مَتى أجئ فِي حلبة ... فَاتَت عُيُون الناظرين لي المدى)

(لَا تنحلوا شعري سواي تشكّكاً ... فالسّقط قد يعشي الْعُيُون إِذا بدا) وَقَوله يصف نكد أَيَّامه (هِيَ الدَّار غادرة بِالرِّجَالِ ... وقاطعة لحبال الْوِصَال) (وكل سرُور بهَا نَافِذ ... وكلّ مُقيم بهَا لارتحال) (وموعدها أبدا كَاذِب ... فَإِن أنجزته فَبعد المطال) (فَمن رام مِنْهَا وَفَاء يَدُوم ... ومكثاً لَهَا رام عين الْمحَال) (خلقنَا نياماً وظلّت خيالا ... وأوشك شَيْء فِرَاق الخيال) (نعذّب مِنْهَا بِغَيْر اللذيذ ... ونشرق مِنْهَا بِغَيْر الزلَال) (ونزداد مَعَ ذَاك عشقا لَهَا ... أَلا إِنَّمَا سعينا فِي ضلال) وَقَوله فِي مثل ذَلِك (يحلّ زمَان الْمَرْء مَا هُوَ عَاقد ... ويسهر فِي إهلاكه وَهُوَ رَاقِد) (ويغري بِأَهْل الْفضل حَتَّى كَأَنَّهُمْ ... جناة ذنُوب وَهُوَ للكلّ حاقد) (سينهدّ مبنيّ ويقفر عَامر ... ويصفر مَمْلُوء ويخمد رَاقِد) (ويفترق الآلاف من بعد صُحْبَة ... وَكم شهِدت مِمَّا ذكرت الفراقد) وَله فِي قصيدة يُجَاوب بهَا أَبَاهُ وَقد خاطبه طاعناً عَلَيْهِ وهازئا بِهِ (أَتُرِيدُ مني أَن أكون ... كمن غَدا فِي الدَّهْر نَادِر)

(هَيْهَات ذَلِك مطمع ... أعيا الْأَوَائِل والأواخر) (لَا تنس يَا مولَايَ قولة ... ضارع لَا قَول فَاجر) (ضبط الجزيرة عِنْدَمَا ... نزلت بعقوتها العساكر) (هبني أَسَأْت كَمَا أَسَأْت ... أما لهَذَا العتب آخر) (هَب زلّتي لبنوتي ... واغفر فَإِن الله غَافِر) وَأول قصيدة أَبِيه (الْملك فِي طيّ الدفاتر ... فتخلّ عَن قَود العساكر) (طف بالسرير مُسلما ... وارجع لتوديع المنابر) (واطعن بأطراف اليراع ... نصرت فِي ثغر المحابر) (وَاضْرِبْ بسكين الدواة ... مَكَان ماضي الحدّ باتر) (أولست رسطاليس إِن ... ذكر الفلاسفة الأكابر) (وكذاك إِن ذكر الْخَلِيل ... فَأَنت نحويّ وشاعر) (وَأَبُو حنيفَة سَاقِط ... فِي الرَّأْي حِين تكون حَاضر) (من هرمس من سِيبَوَيْهٍ ... من ابْن فورك إِذْ تناظر) (هَذِه المكارم قد حويت ... فَكُن لمن حاباك شَاكر) (واقعد فَإنَّك طاعم ... كاس وَقل هَل من مفاخر)

123 - يحيى بن مُحَمَّد الْمَدْعُو بشرف الدولة أَبُو بكر قَرَأَ فِي حَيَاة أَبِيه على أبي عبد الله مَالك بن وهيب وَأبي الْحسن بن الْأَخْضَر بإشبيلية وَنَشَأ خاملاً وتعيّش من كتب الوثائق بمرّاكش وَهُوَ الْقَائِل وَقد دَعَاهُ الْمُقدم للحسبة من قبل القَاضِي أبي مُحَمَّد بن أبي عرجون ليكتب لَهُ وَكَانَ أميّاً جَاهِلا (عجبا لدهر كلّ مَا فِيهِ عجب ... فدم سما وَنبيه قوم قد رسب) (لَا تَنْفَع الْآدَاب فِيهِ وَإِن غَدَتْ ... تعزى إِلَى ذِي همة عالي النّسَب) (أوليس من نكد الزَّمَان بِأَن أرى ... أدعى لأكتب صاغراً للمحتسب)

(خسف أسام بِهِ وتأبى همة ... لخمية إِلَّا الصيانة للحسب) أَرَادَ بالمحتسب مَفْتُوح السِّين أَنه لفدامته كالميت الَّذِي احتسب 124 - حكم بن مُحَمَّد الْمَدْعُو بذخر الدولة أَبُو المكارم قَرَأَ أَيْضا على ابْن وهيب وتأدب بِهِ وَمَال إِلَى الهحاء فِي خمولة فتحومي لِسَانه وتجول بأقطار الْمغرب ثمَّ اسْتَقر بِمَدِينَة فاس يكْتب الوثائق كأخيه الْمَذْكُور قبله إِلَى أَن توفّي وَكتب إِلَيْهِ بعض أَصْحَابه (تتسامى الحكم ... مذ وشاها حكم) (فَخر الطّرس بِهِ ... وتباهى الْقَلَم) (وزهت لخم بِهِ ... فَهُوَ فِيهَا علم) (من صَنَادِيد علا ... بِالثُّرَيَّا خيّموا) (آل عباد وَقل ... آل أمجاد هم) (إِن سَطَا الدَّهْر بهم ... فَكفى مجدهم) فجاوبه بقوله (مَا لمجد علم ... وَالزَّمَان حكم) (وقضاياه غَدا ... جورها يحتكم) (رائد الشؤم بِهِ ... محبر أَو قلم) (وَنبيه فطن ... بَيت شعر ينظم)

(درس الْفضل بِهِ ... وتفانى الْكَرم) (وَغدا كلّ أَخ ... ودّه يتّهم) (غير خلّ ماجد ... فَضله مُنْتَظم) (سفرت عَنهُ لنا ... كلم بل حكم) (عظمت إِذْ نظمت ... مجد قوم عدموا) (صَاح إِنَّا عرب ... ملكتها عجم) (كلّ فضل وَنهى ... عدم عِنْدهم) (آه من دهر غَدا ... جرّه يهتضم) (آل عباد بِهِ ... غائر بحمهم) (لعب الدَّهْر بهم ... ومحا رسمهم) (لَيْت شعري والمنى ... خلّب أَو حلم) (هَل إِلَى أندلس ... نظرة تغتنم) 125 - مُحَمَّد بن معن بن صمادح التّجيبي المعتصم بِاللَّه الواثق بِفضل الله أَبُو يحيى هُوَ مُحَمَّد بن معن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن صمادح بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن المُهَاجر بن عميرَة الدَّاخِل إِلَى الأندلس ابْن المُهَاجر بن سريح بن حَرْمَلَة بن تَمِيم وَفِي عبد الرَّحْمَن بن

عبد الله يَجْتَمعُونَ مَعَ مُحَمَّد بن هَاشم وَأهل بَيته التجيبيين وُلَاة سرقسطة

وأمرائها فِي الْفِتْنَة وَقبلهَا وَأمه بريهة بنت النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن الْمَنْصُور مُحَمَّد ابْن أبي عَامر وَكَانَ جده أَبُو يحيى مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن والياً على وشقة وَهِي وَمَا والاها دَار هَؤُلَاءِ التّجيبيين من الثغر الشَّرْقِي بالأندلس وَلما أخرج مِنْهَا فِي الْفِتْنَة صَار إِلَى أبي الْحسن عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي عَامر صَاحب بلنسية ويلقّب بالمنصور فَأكْرمه وأوطنه بَلَده وصاهر ابنيه مَعنا أَبَا الْأَحْوَص وصمادحاً أَبَا عتبَة زوّجهما أختيه ثمَّ رأى اللحاق بالمشرق فَهَلَك غرقاً فِي الْبَحْر وَكَانَ اليمّ أقْصَى أَثَره وَبَقِي ابْنه معن فِي كنف صهره عبد الْعَزِيز ابْن أبي عَامر فقدّمه على المريّة لما صَارَت من عمله بعد مقتل زُهَيْر العامري بِمدَّة قريبَة وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَقيل ثَلَاث وَثَلَاثِينَ فاستبد بضبطها إِلَى أَن هلك سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين فأجلس بَنو عَمه وَرِجَاله ابْنه أَبَا يحيى مُحَمَّد بن معن هَذَا وَهُوَ لم يستكمل ثَمَان عشرَة سنة وَقد كَانَ أَبوهُ أَخذ الْبيعَة لَهُ فِي حَيَاته وَأحكم أمرهَا بعد أَن عرضهَا على أَخِيه أبي عتبَة صمادح فَدَفعهَا وأبى قبُولهَا فتمت لَهُ الْإِمَارَة بعد أَبِيه وسمّى نَفسه ب معز الدولة فَلَمَّا تلقب سَائِر أُمَرَاء الأندلس بِالْأَلْقَابِ الخلافية تلقب هُوَ أَيْضا ب المعتصم بِاللَّه والواثق بِفضل الله لقبين من ألقاب خلفاء بني الْعَبَّاس مناغاة لصَاحب إشبيلية عباد بن مُحَمَّد لما تلقب ب المعتضد بِاللَّه الْمَنْصُور بِفضل الله

وَكَانَ حسن السِّيرَة فِي رَعيته وجنده وقرابته فانتظمت أَيَّامه واتصلت دولته واستقامت أُمُوره وَقَالَ أَبُو عَامر مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَامر السالمي فِي تَارِيخه وَذكر المعتصم هَذَا كَانَ رحب الفناء جزيل الْعَطاء حَلِيمًا عَن الدِّمَاء والدهماء فطافت بِهِ الآمال واتسع فِيهِ الْمقَال وأعملت إِلَى حَضرته الرّحال قَالَ وَلم يكن من فحولة مُلُوك الأندلس بل أخلد إِلَى الدعة وَاكْتفى بالضيق من السعَة وَاقْتصر على قصر يبنيه وعلق يعنيه وَكَانَت بَينه وَبَين أَصْحَابه مُلُوك الطوائف فتن مبيرة غلبوه عَلَيْهَا وأخرجوه من سجيته مكْرها إِلَيْهَا قَالَ وصاهر المعتصم إقبال الدولة على بن مُجَاهِد العامري وأنكحه ابْنَته وخاطب عَنهُ أَبُو مُحَمَّد بن عبد الْبر من دانية يَعْنِي عِنْد زفافها إِلَيْهِ برسالة بديعة وَقَالَ غَيره كَانَ المعتصم سَاكن الطَّائِر مَأْمُون الْجَانِب حصيف الْعقل طَاهِرا معنيّاً بِالدّينِ وَإِقَامَة الشَّرْع يعْقد الْمجَالِس بقصره للمذاكرة وَيجْلس يَوْمًا فِي كل جُمُعَة للفقهاء والخواص فيتناظرون بَين يَدَيْهِ فِي كتب التَّفْسِير والْحَدِيث وَلزِمَ حَضرته فحول من الشُّعَرَاء كَأبي عبد الله بن الْحداد

وَفِيه استفرغ شعره وكابن عبَادَة وَابْن ملك والأسعد بن بلّيطة وَأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن قَاسم الْمُحدث رغم اتصافه بِكَثْرَة الْجُبْن وَقلة الْجُود وعَلى ذَلِك قَصده الْعلمَاء والأدباء وصدمته خيل المرابطين فِي آخر دولته وَهُوَ عليل علته الَّتِي مَاتَ مِنْهَا فحاصروه وقاتلوه من مقَامه فِي قَصَبَة المرية وَهُوَ يعالج الْمَوْت وَيَقُول أثْنَاء

ذَلِك نغص علينا كل شَيْء حَتَّى الْمَوْت إِلَى أَن هلك بعد ذهَاب المرابطين عَنهُ وَقيل توفّي وهم يحاصرونه فِي شهر ربيع الآخر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَكَانَت مُدَّة إمارته بالمرية أَرْبَعِينَ سنة أشبه فِي ذَلِك خَاله عبد الْعَزِيز بن الْمَنْصُور صَاحب بلنسية فَإِنَّهُ ولّى سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمن شعر المعتصم وَقد توفيت إِحْدَى كرائمة فَركب من قصره وَأمر بمواراتها (لما غَدا الْقلب مفجوعاً بأسوده ... وفضّ كلّ ختام من عَزَائِمه) (ركبت ظهر جوادي كي أسلّيه ... وَقلت للسيف كن لي من تمائمه) وَله وَكتب بِهِ إِلَى بعض حرمه فِي رقْعَة طيرها إِلَيْهَا فِي جنَاح حمامة (وحمّلت ذَات الطوق مني تَحِيَّة ... تكون على أفق المرية مجمراً) (تبلّغ من ودّي إِلَيْكُم رسائلاً ... بأعبق من نشر العبير وأعطرا) وَكتب إِلَى ذِي الوزارتين أبي بكر بن عمار مراجعاً ومعاتباً (وزهّدني فِي النَّاس معرفتي بهم ... وَطول اختباري صاحباً بعد صَاحب) (فَلم ترني الْأَيَّام خلاًّ تسرّني ... مباديه إِلَّا سَاءَنِي فِي العواقب)

(وَلَا قلت أرجوه لدفع ملمة ... من الدَّهْر إِلَّا كَانَ إِحْدَى النوائب) وَكتب إِلَيْهِ ابْن عمار يسْأَله السراح وَهُوَ ضيف عِنْده (يَا واثقا فَضَح السَّحَاب ... الْجُود فِي معنى السماح) (ومطابقا يَأْتِي وُجُوه ... الجدّ من طرق المزاح) (أسرفت فِي برّ الضيوف ... فَخذ قليلاّ فِي السّراح) فَرَاجعه المعتصم بقوله وَهُوَ أشعر مِنْهُ فِي الْجَواب (يَا فَاضلا فِي شكره ... أصل الْمسَاء مَعَ الصَّباح) (هلا رفقت بمهجتي ... عِنْد التَّكَلُّم فِي السّراح) (إِن السماح ببعدكم ... وَالله لَيْسَ من السّماح) وَله فِي جدول (انْظُر إِلَى حسن هَذَا المَاء فِي صببه ... كَأَنَّهُ أَرقم قد جدّ فِي هربه) كَذَا قَالَ هَذَا الْبَيْت فَردا وَقد تقدم ذكر الْخلاف فِي مثله هَل هُوَ شعر أم لَا وَكَانَ الَّذِي بَينه وَبَين الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد غير صَالح فَكتب إِلَيْهِ الْمُعْتَمد وَقد اتهمه بالسعي عَلَيْهِ عِنْد يُوسُف بن تاشفين أَمِير الْمغرب (يَا من تمرس بِي يُرِيد مساءتي ... لَا تقرضنّ فقد نصحت لمندم) (من غرّه مني خلائق سهلة ... فالسّم تَحت ليان مسّ الأرقم) ثمَّ تحرّك ابْن تاشفين من العدوة بعد وقيعة الزلافة وَأَجَازَ الْبَحْر إِلَى الأندلس وتقدمه سير بن أبي بكر فَلم يخرج إِلَيْهِ الْمُعْتَمد لبطالة كَانَ فِيهَا منغمساً وَكَانَت أول وَحْشَة وَقعت بَينهمَا ثمَّ توجهوا جَمِيعًا إِلَى حصن

ألييط من أَعمال لورقة وَقد تغلب عَلَيْهِ النَّصَارَى فَخرج المعتصم ليلقاهم وينزلهم مُؤديا حقّ ابْن تاشفين وَمن مَعَه فأخجله الْمُعْتَمد بتياسره عَن طَرِيق لِقَائِه فَكتب إِلَيْهِ (يَا بَعيدا وَإِن دنا ... كم تمنيت قربكا) (أَنْت حسبي من المنى ... لَيْتَني كنت حسبكا) وتلاقيا بعد ذَلِك عِنْد ابْن تاشفين فِي تِلْكَ الْغَزْوَة والمعتصم قد تزيى بِحمْل

الْعِمَامَة وَلبس الْبُرْنُس يتَقرَّب بذلك على عزمه فَنظر إِلَيْهِ الْمُعْتَمد وَفهم المعتصم أَنه يهزأ بِهِ وَانْصَرف فضاحك الْمُعْتَمد فِي ذَلِك من جالسه من وزرائه وَأهْدى ذُو الوزارتين أَبُو الْحسن بن اليسع مِنْهُم عشيّ ذَلِك الْيَوْم منّ نرجس فَكتب إِلَيْهِ الْمُعْتَمد معرّضاً بِابْن صمادح (أزف الصّيام وزار نور النّرجس ... فَلَقِيت زورته بحثّ الأكؤس) (فِي لَيْلَة دارت عليّ نجومها ... حَتَّى سكرت بكفّ قوت الْأَنْفس) (خود تملّكت الْفُؤَاد فريدة ... بندى الثنايا والمحيّا المشمس) (وَجعلت نقلي ذكر موصل زفرتي ... فَجمعت أشتات المنى فِي مجلسي) (وَلَقَد ذكرت فَزَاد عَيْني قرّة ... هون السّبال وخزي ربّ الْبُرْنُس) وَحكى أَبُو بكر بن اللبانة أَن المعتصم كتب إِلَى الْمُعْتَمد (شكري لبرّك شكر الرَّوْض للمطر ... ونفح بشرى بِهِ أذكى من الزّهر) (وَجَاءَنِي مخبر عَنهُ فَقلت لَهُ ... بِاللَّه قل وَأعد يَا طيّب الْخَبَر) (يَا وَاحِدًا علما فِي كلّ منقبة ... جلّت وَيَا ثَالِثا للشمس وَالْقَمَر) (لَئِن حرمت لِقَاء مِنْك أشكره ... لقد حللت سَواد الْقلب وَالْبَصَر) فَرَاجعه الْمُعْتَمد (أنفحة الرَّوْض رقّت فِي صبا السّحر ... من بعد مَا بَات والأنداء فِي سمر) (لَا بل تَحِيَّة مَحْض الودّ بلّغها ... برّ شرِيف الْمَعَالِي ماجد النّفر) (أما لعمر أبي يحيى لقد وصلت ... من بره صلَة أحلى من الظّفر) (يَا من وَردت الْوَفَاء الْغمر مرتويا ... من عهد إِذْ يساقي النَّاس بالغمر) (أحرزت سرو السجايا ثمَّ قارنه ... ظرف اللِّسَان اقتران الكأس بالوتر)

(إِذا اعْتبرت من الْأَخْلَاق أَنْفسهَا ... كنت المنافس فِيهِ السَّامِي الْقدر) (عَلَيْك مني سَلام لَا يزَال لَهُ ... فرض تُؤَدِّيه آصال إِلَى بكر) وقصده أَبُو الْوَلِيد النّحلي فِي أسمال دنسة وَالنَّاس بالمريّة قد لبسوا الْبيَاض فَكتب إِلَيْهِ (أيا من لَا يُضَاف إِلَيْهِ ثَان ... وَمن فتح الْعلَا بَابا فبابا) (أيجمل أَن تكون سَواد عَيْني ... وَأبْصر دون مَا أبغي حِجَابا) (وَيَمْشي النَّاس كلهم حَماما ... وأمشي بَينهم وحدي غرابا) فوصله المعتصم وكساه وَكتب إِلَيْهِ مراجعاً (وَردت ولليل البهيم مطارف ... عَلَيْك وهذي للصباح برود) (وَأَنت لدينا مَا بقيت مقرب ... وعيشك سلسال الجمام برود) 126 - ابْنه عبيد الله عز الدولة أَبُو مَرْوَان كَانَ أَبوهُ المعتصم قد أنفذه فِي آخر دولته رَسُولا إِلَى يُوسُف بن تاشفين عِنْد كَونه بغرناطة فاعتقل وَقيد فَكتب إِلَى أَبِيه (أبعد السّنا والمعالي خمول ... وَبعد ركُوب المذاكي كبول)

(وَمن بعد مَا كنت حرّاً عَزِيزًا ... أَنا الْيَوْم عبد أَسِير ذليل) (حللت رَسُولا بغرناطة ... فحلّ بهَا بِي خطب جليل) (وثقّفت إِذْ جِئْتهَا مُرْسلا ... وَقد كَانَ يكرم قبلي الرَّسُول) (فقدت المرية أكْرم بهَا ... فَمَا للوصول إِلَيْهَا سَبِيل) فَرَاجعه أَبوهُ (عَزِيز عليّ ونوحي ذليل ... على مَا أقاسي ودمعي يسيل) (لقطّعت الْبيض أغمادها ... وشقّت بنود وناحت طبول) (لَئِن كنت يَعْقُوب فِي حزنه ... ويوسف أَنْت فَصَبر جميل) ثمَّ لم يزل المعتصم يتحيّل فِي تخليصه حَتَّى أَخذ من حراسه وهرب بِهِ على الْبَحْر فَوَافى المرية وهنىء أَبوهُ بخلاصه وبعقب ذَلِك توفّي المعتصم وَقد حاصره اللمتونيون وبارزوه بالعداوة وَكَانَ ابْنه معز الدولة أَحْمد وليّ عَهده والمرشح لمكانه من بعده فعهد إِلَيْهِ أَن يلْحق بِبِلَاد ابْن حَمَّاد من شَرْقي العذوة إِذا سمع بخلع ابْن عباد فامتثل ذَلِك لأشهر من وَفَاة أَبِيه وَذكر أَبُو عَامر السالمي عَن معز الدولة مثل هَذَا وَأَنه ولى بعد أَبِيه المعتصم

وَبَقِي بالمرية إِلَى وَقت الْقَبْض على الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد ثمَّ ركب الْبَحْر على وَجهه فِي قطع أعدّها لفراره وَأسلم المرية وأعمالها وَذَلِكَ فِي رَمَضَان من سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقد قيل فِي شعْبَان قَالَ وليوم آخر دَخلهَا أَصْحَاب ابْن تاشفين وَكَانَ إِذْ ذَاك يحاصر مندوشر على عشْرين ميلًا مِنْهَا وَقصد معز الدولة بجاية فَأَقَامَ فِيهَا تَحت رِعَايَة الْمَنْصُور بن النَّاصِر بن علناس ابْن حَمَّاد بن بلقين بن زيري بن مُنَاد الصّنهاجي وَفِي كنفه وَقد كَانَ مَا بَينهمَا قبل ذَلِك جميلاً وَيُقَال إِن الْمَنْصُور أنزلهُ بتنس من أَعماله الغربية قَالَ السالمي وَعز الدولة أَبُو مَرْوَان عبيد الله بن المعتصم كَانَ رَسُول أَبِيه إِلَى ابْن تاشفين وَذكر اعتقاله والأبيات الَّتِي خَاطب بهَا أَبَاهُ ومراجعته إِيَّاه وَوصف خلاصه كَمَا تقدم قَالَ وبقى إِلَى أَن فرّ أَخُوهُ يَعْنِي معز الدولة إِلَى بجاية ولجأ هُوَ إِلَى أحد المرابطين لأذمّة كَانَت بَينهمَا إِلَى أَن انقرض أمده بَين آس وكاس قَالَ وَحضر مَعَ الْأَمِير يحيى بن أبي بكر غزوته إِلَى طليطلة

فَلَمَّا شارفها وَضرب بساحتها أخبيته سقط أحد ألويته من يَد حامله وانكسر الرمْح فتطير قوم وتفاءل آخَرُونَ فَقَالَ عز الدولة (لم ينكسر عود اللِّوَاء لطيرة ... يخْشَى عَلَيْك بهَا وَأَن تتأوّلا) (لَكِن تحقّق أَنه يندقّ فِي ... نحر الْعَدو لَدَى الوغى فتعجّلا) وَنَظِير هَذَا مَا ذكر عَن أبي الشّمقمق فِي خُرُوجه مَعَ خَالِد بن يزِيد بن مزِيد الشَّيْبَانِيّ إِلَى الْموصل عِنْدَمَا قلّدها فَلَمَّا دَخلهَا وَمر بِأول درب مِنْهَا اندق اللِّوَاء فَاغْتَمَّ خَالِد لذَلِك وَعظم عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو الشمقمق بديهاً يسليه عَن ذَلِك وأجاد مَا أَرَادَ (مَا كَانَ مندقّ اللِّوَاء لريبة ... تخشى وَلَا أَمر يكون مزيّلا) (لَكِن هَذَا الرمْح أَضْعَف مَتنه ... صغر الْولَايَة فاستقلّ الموصلا) فسرّ خَالِد بِمَا صدر مِنْهُ فِي الْحِين وسرّى عَنهُ وَأحسن إِلَيْهِ وقرأت فِي بعض مَا طالعته من أَخْبَار مُلُوك الطوائف بالأندلس أَن أَبَا بكر ابْن اللبانة كتب إِلَى عز الدولة هَذَا لما توفّي أَبوهُ المعتصم وخلع هُوَ وَسَائِر إخْوَته وَقد وافاه منتجعاً (يَا ذَا الَّذِي هزّ أمداحي بحليته ... وعزّه أَن يهزّ الْمجد والكرما) (واديك لَا زرع فِيهِ كنت تبذله ... فَخذ عَلَيْهِ لأيام المنى سلما) فَوجه إِلَيْهِ بِمَا أمكنه وَكتب مَعَه

(الْمجد يخجل من يفديك فِي زمن ... ثناه عَن وَاجِب الْبر الَّذِي علما) (فدونك النّزر من مصف مودّته ... حَتَّى يوفيك أَيَّام المنى السّلما) 127 - أَخُوهُ رفيع الدولة بن المعتصم ذكره أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن عَليّ بن الإِمَام فِي كِتَابه الموسوم ب سمط الجمان وَسقط الأذهان وَلم يسمّه وكنّاه أَبَا يحيى وَكَذَلِكَ كنّاه أَبُو عَامر السالمي فِي تَارِيخه وكنّاه صَاحب المطمح أَبَا زَكَرِيَّا وَلم يكن فِي بني صمادح أشعر مِنْهُ إِلَّا أَن الخمول أخنى على محاسنه وَبَقِي إِلَى آخر دولة اللمتونيين وَذكر أَبُو عَليّ حسن بن عبد الله الأشيري فِي كتاب نظم اللآلي فِي فتوح الْأَمر العالي من تأليفه أَن رفيع الدولة هَذَا كَانَ بتلمسان أثيراً عِنْد واليها حِينَئِذٍ أبي بكر بن مزدلي وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة والموحدون

أعزهم الله إِذْ ذَاك بِالْجَبَلِ الْمَعْرُوف بِمَا بَين الصخرتين يحاصرونها وَحكى أَن ابْن أَخِيه أَبَا يحيى بن عز الدولة كَانَ مَعَه وأنهما قَالَا شعرًا فِي ذَلِك شاركهما فِيهِ ابْن الأشيري وَسَيَأْتِي بعد بحول الله عِنْد ذكر ابْن عز الدولة فِي الْمِائَة السَّادِسَة وَمِمَّا أنْشدهُ السالمي لرفيع الدولة هَذَا (سَطَا ظَبْي الخميلة يَا لقومي ... على أَسد العرينة واستطالا) (فأوتر قَوس حَاجِبه اختيالاً ... وفوّق من لواحظه نبالا) وَله (وأهيف لَا يلوي على عتب عَاتب ... وَيَقْضِي علينا بالظنون الكواذب) (يحكّم فِينَا أمره فنطيعه ... ونحسب مِنْهُ الحكم ضَرْبَة لازب) وَله (مَالِي وللبدر لم يسمح بزورته ... لَعَلَّه ترك الْإِجْمَال أَو هجرا)

(إِن كَانَ ذَاك لذنب مَا شَعرت بِهِ ... فَأكْرم النَّاس من يعْفُو إِذا قدرا) وَله (هذي دِيَارهمْ الَّتِي ذكّرنني ... عهد الصِّبَا وَحَدِيثه المعسولا) (مَا كَانَ أجمل عَهدهم وفعالهم ... لَو كَانَ فعلك يَا زمَان جميلا) وَله (حبيب إِذا ينأى عَن الْعين شخصه ... يكَاد فُؤَادِي أَن يطير من الْبَين) (ويسكن مَا بَين الضلوع إِذا بدا ... كأنّ على قلبِي تمائم من عَيْني) وَله (أَلا أَيهَا الظبي الَّذِي راق وَجهه ... ورقّت حَوَاشِيه وناهيك من حسن) (يظنّ أنَاس أنني بك مغرم ... لعمر الْهوى مَا أَخطَأ الْقَوْم فِي الظنّ) وَله (وعلقته حُلْو الشَّمَائِل مَاجِنًا ... خنث الْكَلَام مرنّح الأعطاف) (مَا زلت أنصفه وَأوجب حقّه ... لكنه يَأْبَى من الْإِنْصَاف) وَله وَقد رويت لغيره (سل الركب عَن نجد فَإِن تَحِيَّة ... لساكن نجد قد تحمّلها الركب) (وَإِلَّا فَمَا بَال المطيّ على الوجا ... خفافاً وَمَا للريح حرجفها رطب) وَله (أَبَا الْعَلَاء كؤوس الراح مترعة ... وللنّدامى سرُور فِي تعاطيها)

(وللغصون تثنّ فَوْقهَا طَربا ... وللحمائم سجع فِي أعاليها) (فَاشْرَبْ على النَّهر من صهباء صَافِيَة ... كَأَنَّمَا عصرت من خد سَاقيهَا) وَله (باكر إِلَى القصف أَبَا عَامر ... فَإِنَّمَا نجح الْفَتى فِي الْبكر) (من قبل أَن يمسح كفّ الصّبا ... دمع الغوادي من خدود الزّهر) هَذَا الْبَيْت مثل قَول عبد الْجَبَّار بن حمديس الصّقليّ فِي قصيدة يمدح بهَا الرشيد عبيد الله بن الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد أَولهَا (قُم هَاتِهَا من كفّ ذَات الوشاح ... فقد نعى اللَّيْل بشير الصَّباح) (واحلل عرى نومك عَن مقلة ... تمقل أحداقاً مراضاً صِحَاح) (خلّ الْكرَى عَنْك وَخذ قهوة ... تهدي إِلَى الرّوح نسيم ارتياح) (هَذَا صبوح وصباح فَمَا ... عذرك فِي ترك صبوح الصّباح) (بَادر إِلَى اللَّذَّات واركب لَهَا ... سوابق اللَّهْو ذَوَات المراح) (من قبل أَن ترشف شمس الضُّحَى ... ريق الغوادي من ثغور الأفاح) أردْت هَذَا الْبَيْت ولرفيع الدولة يعْتَذر عَن وسيم فِي إِنْسَان عينه مَا يشينه (قَالُوا حبيتك فِي إِنْسَان مقلته ... مثل الحبابة إِذا تطفو على الراح) (فَقلت بَينهمَا فِي ذَلِكُم شبه ... كلتاهماتبعثان السّكر للصاحي) وَله (لَئِن منعُوا عني زِيَارَة طيفهم ... وَلم ألف فِي تِلْكَ الديار مقيلا) (فَمَا منعُوا ريح الصّبا سوق عرفهم ... وَقد بكرت تندى عليّ بليلا)

وَلَا مَنَعُونِي أَن أعلّ بذكرهم ... فؤاداً بِمَا يجني الصدود عليلا) وَله يُعَاتب (أفدي أَبَا عَمْرو وَإِن كَانَ جانياً ... عليّ ذنوباً لَا تعدّد بالعتب) (فَمَا كَانَ ذَاك الودّ إِلَّا كبارق ... أَضَاء لعَيْنِي ثمَّ أظلم عَن قرب) وَله فِي الْمَدْح (تزهى إِذا علقت أسيافه علقا ... كَأَنَّهُ فِي خدود الْبيض توريد) (يَهْتَز عطفاك فِي يَوْم الوغى طَربا ... كَأَن وَقع سيوف الْهِنْد تغريد) (تَعْنِي بذكرك أزمان وألسنة ... كَأَن ذكرك إِيمَان وتوحيد) وَله (إِذا مَا الْأَمر أخفق فِيهِ سعي ... وضاق مرامه من كلّ بَاب) (فَلَا تقنط فَإِن الله يَأْتِي ... بِفَتْح لم يكن لَك فِي حِسَاب) 128 - المتَوَكل بن المظفر بن الْمَنْصُور أَبُو مُحَمَّد عمر بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مسلمة التجِيبِي بن الْأَفْطَس قَالَ ابْن حَيَّان كَانَ عبد الله بن مسلمة رجلا من مكناسة وَكَانَ سَابُور العامري أحد صبيان فائق الْخَادِم فَتى الحكم يَعْنِي الْمُسْتَنْصر بِاللَّه قد انتزى ببطليوس وثغر الغرب فصحبه عبد الله وَظَاهره وَرمى إِلَيْهِ بأموره فدبّر أَعماله وتزيّد فِي الْغَلَبَة عَلَيْهِ حَتَّى صَار كالمستبد بِهِ فَلَمَّا هلك سَابُور

ورث سُلْطَانه بعده فاستولى على الْأُمُور وتلقب بالمنصور ثمَّ أفْضى الْأَمر لِابْنِهِ مُحَمَّد وتلقب بالمظفر وَلابْن حَيَّان أَيْضا قَول أبسط من هَذَا فِي أوّلية بني الْأَفْطَس يَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ وَمن النَّادِر الْغَرِيب انتماؤه فِي تجيب وبهذه النِّسْبَة مدحته الشُّعَرَاء إِلَى آخر وقته مِنْهُم ابْن شرف القيرواني حَيْثُ يَقُول (يَا ملكا أمست تجيب بِهِ ... تحسد قحطان عَلَيْهَا نزار) (لولاك لم تشرق معدّ بهَا ... جلّ أَبُو ذرّ فجلّت غفار) وَكَانَت وَفَاة المظفر سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فولى بعده ابْنه يحيى بطليوس وَتسَمى بالمنصور وَكَانَ أَخُوهُ عمر المتَوَكل بيابرة وَمَا إِلَيْهَا من الثغر الغربي

ثمَّ استوثق لَهُ الْأَمر بِمَوْت أَخِيه يحيى بعد مُنَافَسَة طَوِيلَة بَينهمَا كَادَت تفْسد حَالهمَا واحتل حَاضِرَة بطليوس وَجعل ابْنه الْعَبَّاس عمر بيابرة وَصَارَ اليه أَمر طليطة وقتا وجلّ شَأْنه وَلما عظم عيث الطاغية أذفونش بن فرذلند وتطاول إِلَى الثغور وَلم يقنع بضرائب المَال انتدب للتطوّف على أُولَئِكَ الرؤساء القَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ يندبهم إِلَى لم الشعث ومدافعة الْعَدو وَيَطوف عَلَيْهِم وَاحِدًا وَاحِدًا وَكلهمْ يصغي إِلَى وعظه وازدلف خلال ذَلِك إِلَى سبتة أَمِير الْمغرب حِينَئِذٍ أَبُو يَعْقُوب يُوسُف ابْن تاشفين اللمتوني حسبَة ورغبة فِي الْجِهَاد وَقد دَانَتْ لَهُ بِلَاد العدوة وَسَأَلَ من سقّوت بن مُحَمَّد صَاحب سبتة أَن يُبِيح لَهُ فرض الْإِجَازَة إِلَى الأندلس فَأبى وتمنع من ذَلِك فَأفْتى الْفُقَهَاء بقتاله لصده عَن سَبِيل الله فَقتل هُوَ وَابْنه فِي خبر طَوِيل وَفتح الله على ابْن تاشفين سبتة وَأمكنهُ الْحُصُول على مُرَاده بذلك وَعلم الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد تصميمه على نِيَّته فخاطب جاريه صَاحب

بطليوس وَصَاحب غرناطة فِي تَحْرِيك قاضييها إِلَى حَضرته للاجتماع بقاضي الْجَمَاعَة بقرطبة فوصل من بطليوس قاضيها أَبُو إِسْحَاق بن مقانا وَمن غرناطة قاضيها القليعي واجتمعا فِي إشبيلية بِالْقَاضِي أبي بكر بن أدهم وانضاف إِلَيْهِم الْوَزير أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي الْوَلِيد أَحْمد بن عبد الله بن زيدون وتوجهوا جَمِيعًا إِلَى ابْن تاشفين على شُرُوط لَا تتعدى إِلَى غَيرهَا ووصلوا إِلَى الجزيرة الخضراء وَعَلَيْهَا يزِيد بن الْمُعْتَمد الملقب بالراضي ثمَّ أَجَازُوا الْبَحْر مِنْهَا واجتمعوا بِابْن تاشفين مرّة بعد مرّة وتفاوضوا فِي مَكَان تنزله العساكر فَأَشَارَ ابْن زيدون بجبل طَارق وَسُئِلَ الجزيرة الخضراء فَلم يُوجد سَبِيلا إِلَيْهَا فَمَا قوبل بشكر وَلَا لوم وأصدر هُوَ وَأَصْحَابه دون علم بالمراد ومشاورة الْفُقَهَاء من ابْن تاشفين تستتب وفتواهم لَا تغب فَلم يرع إِلَّا الشُّرُوع فِي الْإِجَازَة وَلم يشْعر إِلَّا والجزيرة الخضراء فِي مثل حَلقَة الْخَاتم من الجيوش الكثيفة

وَفتحت لَهُم أَبْوَابهَا وأخرجت إِلَيْهِم مرافقها فطيّر الراضي حَماما إِلَى أَبِيه بذلك فأذنه بِتَرْكِهَا والارتحال عَنْهَا إِلَى رندة فَفعل واطردت الْإِجَازَة ثمَّ تحركت العساكر إِلَى إشبيلية وردفهم ابْن تاشفين وَنزل بظاهرها وبلغه على أثر ذَلِك موت ابْنه أبي بكر فحيّره حَتَّى لهمّ بالانصراف عَن وَجهه ثمَّ آثر الْجِهَاد وأنفذ مزدلي إِلَى مراكش وَبعد قراره بِظَاهِر إشبيلية لحق صَاحب غرناطة فِي نَحْو ثَلَاثمِائَة فَارس وَأَخُوهُ تَمِيم من مالقة فِي نَحْو مِائَتَيْنِ فَنزلَا على ضفة النَّهر الْأَعْظَم ثمَّ لحق لصَاحب المرية عدد من الْخَيل صُحْبَة وَلَده وَتقدم ابْن تاشفين مستعجلاً فِي حركته إِلَى بطليوس وَابْن عباد وَرَاءه فَخرج إِلَيْهِم المتَوَكل وأوسعهم برّاً وتضييفاً وتلومت العساكر بظاهرها فِي الْمضَارب أَيَّامًا إِلَى أَن قصدهم أذ فونش وتلاقوا

بالزّلاّقة على مقربة من بطليوس يَوْم الْجُمُعَة فِي رَجَب سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فَكَانَ الظُّهُور للْمُسلمين وَفِي ذَلِك يَقُول ابْن جُمْهُور أحد أدباء إشبيلية (لم تعلم الْعَجم إِذْ جَاءَت مصممة ... يَوْم الْعرُوبَة أَن الْيَوْم للْعَرَب) وَنكل المتَوَكل يَوْمئِذٍ وَغَيره من الرؤساء وَكَانَ فِيهِ للمعتمد ظُهُور مَشْهُور ثمَّ صدر ابْن تاشفين ظافراً وَأَجَازَ الْبَحْر إِلَى العدوة صادراً وتحرك إِلَى الأندلس بعد مُجَاهدًا لأعدائها وناظراً فِي خلع رؤسائها وَالْمُعْتَمد إِذْ ذَاك أعظمهم شَوْكَة وأشهرهم نجدة فَلَمَّا قبض عَلَيْهِ لم تقم لسائرهم قَائِمَة ومزّقوا كل ممزّق وَفِي ذَلِك يَقُول ذُو الوزارتين أَبُو الْحسن جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن الْحَاج اللورقي

(كم بالمغارب من أشلاء مخترم ... وعاثر الجدّ مصبور على الْهون) (أَبنَاء معن وَعباد ومسلمة ... والحميرّيين باديس وَذي النُّون) (راحوا لَهُم فِي هضاب الْعِزّ أبنية ... وَأَصْبحُوا بَين مقبور ومسجون) وَكَانَ سير بن أبي بكر أحد رُؤَسَاء اللمتونيين هُوَ الَّذِي حاصر إشبيلية حَتَّى استولى عَلَيْهَا وَقبض على الْمُعْتَمد وتقلد إمارتها بعده دهراً ثمَّ تولى محاصرة بطليوس إِلَى أَن دخلت عنْوَة يَوْم السبت لثلاث بَقينَ من الْمحرم سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقيل يَوْم السبت السَّابِع من صفر وَقيل فِي شهر ربيع الأول مِنْهَا وَقبض على المتَوَكل فقيد وأهين بِالضَّرْبِ فِي اسْتِخْرَاج مَا عِنْده ثمَّ أزعج عَنْهَا وَقتل هُوَ وابناه الْفضل وَالْعَبَّاس على مقربة مِنْهَا ذبحا وَكَانَ ذَلِك مِمَّا نعي على ابْن تاشفين وَقيل إِنَّه رغب فِي تَقْدِيم ولديه هذَيْن بَين يَدَيْهِ ليحتسبهما ثمَّ قَامَ بعد قَتلهمَا ليُصَلِّي فبادره الموكلون بِهِ وطعنوه برماحهم حَتَّى فاضت نَفسه وغربت شمسه وَقد رثاهم أَبُو مُحَمَّد عبد الْمجِيد بن عبدون بقصيدة فريدة أنشدناها شَيخنَا أَبُو الرّبيع بن سَالم الكلَاعِي

بحاضرة بلنسية مرَارًا قَالَ أنشدناها القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعيد بن زرقون فِي مَسْجده بإشبيلية قَالَ أنشدناها الْوَزير الْكَاتِب أَبُو مُحَمَّد بن عبدون وأولها (الدَّهْر يفجع بعد الْعين بالأثر ... فَمَا الْبكاء على الأشباح والصور) يَقُول فِي آخرهَا (وَيْح السّماح وويح الباس لَو سلما ... وَالْمجد وَالدّين وَالدُّنْيَا على عمر) (سقت ثرى الْفضل وَالْعَبَّاس هامية ... تعزى إِلَيْهِم سماحاً لَا إِلَى الْمَطَر) وأنشدني أَبُو الرّبيع شَيخنَا وحَدثني لفظا قَالَ حَدثنِي الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعيد شَيخنَا يَعْنِي ابْن زرقون عَن الْوَزير أبي بكر ابْن القبطورنة أَنه حَدثهُ أَنه دخل على نجم الدولة سعد بن المتَوَكل وَهُوَ

مَحْبُوس فِي سجن الملثّمة بعد غلبتهم على أَبِيه المتَوَكل وقتلهم إِيَّاه وابنيه الْعَبَّاس وَالْفضل فَلَمَّا رَآهُ أجهش باكياً ثمَّ أنْشدهُ (بأبيك قدّس روحه وضريحه ... يَا سعد ساعدني وَلست بَخِيلًا) (واسفح على دموع عَيْنك سَاعَة وامنت بهَا حمراً تفيض همولا) (إِن يصبح الْفضل الْقَتِيل فإنني ... أمسيت من كمد عَلَيْهِ قَتِيلا) (كم قد وقيتكم الْحمام بمهجتي ... وحميت شول علائكم معقولا) (قدمت نَفسِي للمنايا دونكم ... بَدَلا فَلم ترد الْمنون بديلا) وَمن شعر المتَوَكل وَكتب بِهِ إِلَى أَخِيه يحيى الْمَنْصُور من يابرة مَعَ نثر وَقد بلغه أَنه قدح فِيهِ بمجلسه (فَمَا بالهم لَا أنعم الله بالهم ... ينوطون بِي ذمّاً وَقد علمُوا فضلي) (يسيئون فيّ القَوْل جهلا وضلّة ... وَإِنِّي لأرجو أَن يسوءهم فعلي)

(طغام لئام أم كرام برغمهم ... سواسية مَا أشبه الْحول بالقبل) (لَئِن كَانَ حَقًا مَا أذاعوا فَلَا خطت ... إِلَى غَايَة العلياء من بعْدهَا رجْلي) (وَلم ألق أضيافي بِوَجْه طلاقة ... وَلم أمنح العافين فِي زمن الْمحل) (وَكَيف وراحي درس كلّ غَرِيبَة ... وَورد التّقى شمّي وَحرب العدا نقلي) (ولي خلق فِي السّخط كالشّرى طعمه ... وَعند الرِّضَا أحلى جنى من جنى النَّحْل) (وَإِنِّي وَإِن كنت الْأَخير زَمَانه ... لآت بِمَا أعي الصناديد من قبلي) (وَمَا أَنا إِلَّا الْبَدْر تنبح نوره ... كلاب عدا تأوى اضطراراً إِلَى ظلّي) (فيا أَيهَا الساقي أَخَاهُ على النَّوَى ... كؤوس القلى مهلا رويدك بالعلّ) (لتطفئ نَارا أضرمت فِي صدورنا ... فمثلي لَا يقلى وَمثلك لَا يقلي) (أَلَسْت الَّذِي أصفاك قدماً وداده ... وَألقى إِلَيْك الْأَمر فِي الكثر والقلّ) (وصيّرك الذّخر الغبيط لدهره ... وَمن لي ذخْرا غَيْرك الْيَوْم لَا من لي) (وَقد كنت تشكيني إِذا جِئْت شاكياً ... فَقل لي لمن أَشْكُو صنيعك بِي قل لي) (فبادر إِلَى الأولى وَإِلَّا فإنني ... سأشكوك يَوْم الْحَشْر للْملك الْعدْل) وَله وَقد ارتقب قدوم أَخِيه عَلَيْهِ من شنترين يَوْم الْجُمُعَة فوفد عَلَيْهِ يَوْم السبت

(تخيّرت الْيَهُود السبت عيداً ... وَقُلْنَا فِي الْعرُوبَة يَوْم عيد) (فَلَمَّا أَن طلعت السبت فِينَا ... أطلت لِسَان محتجّ الْيَهُود) وَمن مليح مَا فِي هَذَا الْمَعْنى (وحبّب يَوْم السبت عِنْدِي أنني ... ينادمني فِيهِ الَّذِي أَنا أَحْبَبْت) (وَمن أعجب الْأَشْيَاء أَنِّي مُسلم ... حنيف وَلَكِن خير أيامي السبت) وَكتب أَبُو مُحَمَّد بن عبدون إِلَى المتَوَكل وَقد انسكب الْمَطَر إِثْر قحط خيف قبل ذَلِك وَاتفقَ أَن وافي بطليوس حِينَئِذٍ مغنّ محسن يعرف بِأبي يُوسُف (ألمّ أَبُو يُوسُف والمطر ... فياليت شعري مَا ينْتَظر) (وَلست بآب وَأَنت الشَّهِيد ... حُضُور نديّك فِي من حضر) (وَلَا مطلعي وسط تِلْكَ السَّمَاء ... بَين النُّجُوم وَبَين الْقَمَر) (وركضي فِيهَا جِيَاد المدام ... محثوثة بسياط الْوتر) فَبعث إِلَيْهِ المتَوَكل مركوباً وَكتب مَعَه (بعثت إِلَيْك جنَاحا فطر ... على خُفْيَة من عُيُون الْبشر) (على ذلل من نتاج البروق ... وَفِي ظلل من نَسِيج الشّجر) (فحسبي عمّن نأى من دنا ... فَمن غَابَ كَانَ فدا من حضر) وَتوجه إِلَى شنترين وَمَعَهُ أَبُو مُحَمَّد بن عبدون فَتَلقاهُ ابْن مقانا قاضى

حَضرته وأنزله وَقدم طَعَاما ثمَّ قعد بِبَاب الْمجْلس ملازماً لَهُ إِلَى اللَّيْل والمتوكل محتشم مِنْهُ فَخرج أَبُو مُحَمَّد لمّا أبرمه إِلَى بعض أَصْحَابه وَقد أعد لَهُ مجْلِس أنس فَقعدَ يشرب مَعَه وَقد وجّه من يرقب انْفِصَال ابْن مقانا فَلَمَّا عرّفه بذلك بعث إِلَى المتَوَكل بقطيع خمر وطبق ورد وَكتب مَعَهُمَا (إليكهما فاجتلها منيرة ... وَقد خبا حَتَّى الشهَاب الثاقب) (واقفة بِالْبَابِ لم تَأذن لَهَا ... إِلَّا وَقد كادلب ينَام الْحَاجِب) (فبعضها من المخاف جامد ... وَبَعضهَا من الْحيَاء ذائب) فقبلها وَكتب إِلَيْهِ (قد وصلت تِلْكَ الَّتِي زففتها ... بكرا وَقد شابت لَهَا ذوائب) (فهبّ حَتَّى نستردّ ذَاهِبًا ... من أنسنا إِن استردّ الذَّاهِب) وقرأت فِي كتاب الذَّخِيرَة لِابْنِ بسام أَخْبرنِي الْوَزير أَبُو طَالب بن غَانِم قَالَ لَا أنسى وَالله خطّ المتَوَكل بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي ورقة بقلة الكرنب وَقد كتب إليّ بهما من بعض الْبَسَاتِين (انهض أَبَا طَالب إِلَيْنَا ... واسقط سُقُوط الندى علينا) (فَنحْن عقد بِغَيْر وسطي ... مَا لم تكن حَاضرا لدينا) وَحكى غَيره أَنه كتبهما بِطرف غُصْن وروى الْبَيْت الأول (أقبل أَبَا طَالب إِلَيْنَا ... وَقع وُقُوع الندى علينا)

129 - عبد الْملك بن هُذَيْل بن رزين ذُو الرياستين حسام الدولة أَبُو مَرْوَان ولى بعد أَبِيه الْحَاجِب عز الدولة أبي مُحَمَّد هُذَيْل بن عبد الْملك بن خلف ابْن لب بن رزين شنتمرية الشرق مَوضِع إِمَارَة سلفه وَكَانَ ظُهُورهمْ فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعمِائَة أول افْتِرَاق الْجَمَاعَة وانبعاث الْفِتْنَة ويعرفون ببني الأصلع وانتماؤهم فِي هوّارة وَقد ذكر ابْن حيّان طرفا من خبرهم فَقَالَ وَأَبُو مُحَمَّد هُذَيْل بن خلف ابْن لب بن رزين الْمَعْرُوف بِابْن الأصلع صَاحب السّهلة موسطة مَا بَين الثغر الْأَعْلَى والأدنى لقرطبة كَانَ من أكَابِر برابر الثغر ورث ذَلِك عَن سلفه ثمَّ سما لأوّل الْفِتْنَة إِلَى اقتطاع عمله والإمارة لجماعته والتقيّل لجاره إِسْمَاعِيل بن ذِي النُّون فِي الشرود عَن سُلْطَان قرطبة فَاسْتَوَى لَهُ من ذَلِك مَا أَرَادَ هُوَ وَغَيره من جَمِيع من انتزى فِي الْأَطْرَاف وتمرس بِهِ الْحَاجِب مُنْذر بن يحيى مدرجاً لَهُ فِي طيّ من استتبعه واشتمل عَلَيْهِ من أصاغر أُمَرَاء

الثغر فَأَبت نَفسه البخوع لَهُ والانضمام إِلَيْهِ فَرد أمره وحدده وَصَارَ ندّه وَأَجَارَهُ مَنْعَة معقله قَالَ وَلَيْسَ فِي ذَلِك الثغر أخصب بقْعَة من سهلته المنسوبة إِلَى بني رزين فِي اتِّصَال عمارتها فَكثر مَاله وَكَانَ مَعَ ذَلِك شَابًّا جميل الْوَجْه صَار إِلَيْهِ أَمر وَالِده منبعث الْفِتْنَة وَهُوَ فَتى مَعَ الْعشْرين من سنه وَأطَال ابْن حَيَّان فِي وَصفه بالقسوة والفظاظة ورفعة الهمة فاقتصرت من ذَلِك على مَا أثبتّ وهذيل هَذَا هُوَ عَم هُذَيْل وَالِد أبي مَرْوَان الْمَذْكُور وَبعده ولى أَخُوهُ عبد الْملك بن خلف أَبُو مَرْوَان وَيعرف بعبود ثمَّ ولى ابْنه هُذَيْل ثمَّ ابْنه عبد الْملك ثمَّ ابْنه يحيى وَعَلِيهِ انقرض ملكهم

وَكَانَ أَبُو مَرْوَان مَعَ شرفه وأدبه متعسفاً على الشُّعَرَاء ومتعسراً بمطلوبهم من ميسور الْعَطاء وَضَعِيف منظومه أَكثر من قَوِيَّة وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَقد صَار إِلَيْهِ من أَعمال بلنسية بَعْضهَا وَولى بعده ابْنه فَأَقَامَ يَسِيرا وتغلّب على مَا بِيَدِهِ ابْن تاشفين بعد أَن أَقَامَ هُوَ وَأَبوهُ فِي أَعمالهَا وَمن شعره يفخر (أَنا ملك تجمّعت فيّ خمس ... كلّها للأنام مُحي مميت) (هِيَ ذهن وَحِكْمَة ومضاء ... وَكَلَام فِي وقته وسكوت) وَله مجاوباً (رغبتم وأرغبناكم وَهِي الْخمر ... فَمن لم يكن سَكرَان فَلْيَكُن السّكر) (إِلَيْكُم فَإِنِّي فِي الوغى والندى فَتى ... هُوَ الْبَحْر إِن أعْطى وَإِن صال فالدهر)

وَله (شأوت أهل رزين غير محتفل ... وهم على مَا علمْتُم أفضل الْأُمَم) (قوم إِذا حوربوا أفنوا وَإِن سئلوا ... أغنوا وَإِن سوبقوا حازوا مدى الْكَرم) (جادوا فَمَا يتعاطى جود أنملهم ... مدّ الْبحار وَلَا هطّالة الدّيم) (وَمَا ارتقيت إِلَى الْعليا بِلَا سَبَب ... هَيْهَات هَل أحد يسْعَى بِلَا قدم) (فَمن يرم جاهداً إِدْرَاك منزلتي ... فليحكني فِي الندى وَالسيف والقلم) وَله (من كثّر الْجهد يرى سعده ... يصعد حَتَّى يَنْتَهِي حدّه) (وَمن أذلّ المَال عزّت بِهِ ... أَيَّامه وانصرفت جنده) (فاهدم بِنَاء الْبُخْل وَارْفض بِهِ ... من هدم الْبُخْل بني مجده) (لَا عَاشَ إِلَّا جائعاً نائعاً ... من عَاشَ فِي أَمْوَاله وَحده) وَله يصف روضاً (وَروض كَسَاه الطلّ وشياً مجدّداً ... فأضحى مُقيما للنفوس ومقعدا) (إِذا صافحته الرّيح ظلت غصونه ... رواقص فِي خضر من العصب ميّدا) (إِذا مَا انسياب المَاء عَايَنت خلته ... وَقد كسّرته رَاحَة الرّيح مبردا) (وَإِن سكنت عَنهُ حسبت صفاءه ... حساماً صقيلاً صافي الْمَتْن جردا) (وغنت بِهِ وزق الحمائم حولنا ... غناء ينسّينا الْغَرِيض ومعبدا)

(فَلَا تجفونّ الدَّهْر مَا دَامَ مسعداً ... ومدّ إِلَى مَا قد حباك بِهِ يدا) (وخذها مداماً من غزال كَأَنَّهُ ... إِذا مَا سعى بدر تحمّل فرقدا) وَله (أدرها مداماً كالغزالة مرّة ... تبين لرائيها وتأبى على اللَّمْس) (وتبدو إِلَى الْأَبْصَار دون تجسّم ... على أَنَّهَا تخفى على الذِّهْن والحسّ) (إِذا شعشعت فِي الكأس خلت حبابها ... لآلىء قد رفّعن فِي لبّة الشَّمْس) (موكلة بالهمّ تهزم جَيْشه ... بِجَيْش الْأَمَانِي والمسرة والأنس) (فَإِن شِئْت قل فِيهَا أرق من الْهوى ... وَإِن شِئْت قل فِيهَا أرق من النَّفس) وَله فِي النسيب (أنحى على جسمي النحول فَلم يدع ... متوهمّاً من رسمه الْمَعْلُوم) (عبثت بِهِ أَيدي الصِّبَا فَكَأَنَّهُ ... سرّ خفيّ فِي ضمير كتوم) وَله (يزهدني فِي الزّهْد عين مَرِيضَة ... يمرّضني من لحظها مَا أعلّني) (وَلم يبْق نَفسِي غير عطفة شادن ... عسابي أفديه بهَا ولعلّني) (شَكَوْت إِلَى فِيهِ الَّذِي بِي من الظما ... فأنهلني عذب الرّضاب وعلّني) وَله (دع الدمع يفن الجفن لَيْلَة ودّعوا ... إِذا انقلبوا بِالْقَلْبِ لَا كَانَ مدمع) (سروا كاغتداء الطير لَا الصَّبْر بعدهمْ ... جميل وَلَا طول الندامة ينفع)

(أضيق بِحمْل الفادحات من النَّوَى ... وصدري من الأَرْض البسيطة أوسع) (وَإِن كنت خلاّع العذار فإنني ... لبست من العلياء مَا لَيْسَ يخلع) (إِذا سلّت الألحاظ سَيْفا خَشيته ... وَفِي الْحَرْب لَا أخْشَى وَلَا أتوقع) وَله (برح السقم بِي فَلَيْسَ صَحِيحا ... من رَأَتْ عينه عيُونا مراضا) (إنّ للأعين المراض سهاماً ... صيّرت أنفس الورى أغراضا) وَله فِي شمعة (ربّ صفراء تردّت ... برداء العاشقينا) (مثل فعل النَّار فِيهَا ... تفعل الْآجَال فِينَا) وحَدثني القَاضِي أَبُو عَامر نَذِير بن وهب بن نَذِير الفِهري وَدَار سلفه شنتمرية المنسوبة إِلَى بني رزين غير مرّة بِلَفْظِهِ قَالَ حَدثنِي أبي أَنه كَانَ بشنتمرية معلم كتاب يؤدبهم ويؤمّ فِي مسجدين أَحدهمَا يُصَلِّي فِيهِ نَهَارا وَالثَّانِي لَيْلًا فَكتب إِلَى الْحَاجِب ذِي الرئاستين أبي مَرْوَان عبد الْملك بن الْحَاجِب ذِي المجدين عز الدولة أبي مُحَمَّد هُذَيْل بن رزين يسْأَله التَّقْدِيم فِي الْمَسْجِد الْجَامِع للصَّلَاة فِي دولة مَعَ سَائِر الْأَئِمَّة فوقّع لَهُ فِي مكتوبه

(أيطيق تأديباً وَعقد إِمَامَة ... فِي مسجدين وجامع إِنْسَان) (اثْبتْ على إِحْدَى الْمَرَاتِب لَا تزد ... فَمن الزِّيَادَة يتّقى النّقصان) وَحكى لي غَيره أَن أَبَا مَرْوَان هَذَا كَانَت لَهُ نجدة وصرامة وإقدام قرّب جنده من نَفسه وتحبب إِلَيْهِم وَاخْتَلَطَ بهم حَتَّى كَانَ لَا يمتاز مِنْهُم فِي مركب وَلَا ملبس وَوَقَائعه فِي الثغر مَشْهُورَة وَجرى عَلَيْهِ خطب كَبِير فِي صغر سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة قبل وَفَاته بِيَسِير دبّر عَلَيْهِ صهره عبيد الله الْقَائِم بأذكون وَأَرَادَ اغتياله مَعَ طَائِفَة من رِجَاله ليرث مَكَانَهُ وَكَانَ قد أحضرهُ لدَعْوَة

احتفل فِيهَا مَعَ جمَاعَة مِنْهُم أَبُو عِيسَى بن لبّون صَاحب مربيطر فَلَمَّا أمكنتهم الغرّة فِيهِ بِأخذ الشَّرَاب مِنْهُ وَثبُوا عَلَيْهِ وخبطوه بسيوفهم حَتَّى أنخنوه جراحاً وَاتفقَ أَن كَانَت أُخْته حَاضِرَة وَهِي زوج عبيد الله هَذَا فَصَعدت إِلَى علّيّة هُنَاكَ وصرخت واقتيلاه فتبادر النَّاس لتعرّف الْقِصَّة ودخلوا على أبي مَرْوَان وَبِه رَمق فأرادوا قتل قاتلية بأجمعهم فَأَمرهمْ بترك صهره وَابْنه وَالْقَبْض عَلَيْهِمَا وَلم يزل يعالج من جراحه إِلَى أَن برىء وصحّ وَقد غيّرت من شكله وشانت وَجهه فَأمر بصهره فَقطعت يَدَاهُ وَرجلَاهُ وسملت عَيناهُ وصلب وَأمر بِقطع رجل ابْنه وخلّى سَبيله

130 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِسْحَاق بن زيد بن طَاهِر الْقَيْسِي أَبُو عبد الرَّحْمَن قَرَأت فِي تَارِيخ أبي بكر مُحَمَّد بن عِيسَى بن مزين الْكَاتِب وَأَبوهُ عِيسَى هُوَ مخلوع المعتضد عباد بن مُحَمَّد من شلب وَكَانَ صهره أَن ابْن طَاهِر يَعْنِي أَبَا بكر أَحْمد بن إِسْحَاق وَالِد أبي عبد الرَّحْمَن كَانَ من أَعْلَام تدمير وبياضها فاستبد بهَا إِلَّا أَنه لم يعد اسْم الوزارة فِيهَا والمظالم إِلَى أَن مَاتَ وَخَلفه ابْنه أَبُو عبد الرَّحْمَن مُحَمَّد فتمادت حَاله على رسم أَبِيه ووسمه فِي الْمَظَالِم إِلَى أَن أخرجه عَنْهَا أَبُو بكر بن عمار فِي قصَص طَوِيلَة سنة إِحْدَى وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وقرأت بخطّ القَاضِي أبي الْقَاسِم بن حُبَيْش فِي بعض معلقاته من تَارِيخ أبي مَرْوَان بن حيّان خَافَ زُهَيْر يَعْنِي الصقلبي صَاحب المرية ومرسية انْتِقَاض أبي عَامر بن خطاب رَئِيس عَلَيْهِ مرسيه إِن تَركه خَلفه لصغوه إِلَى

مُجَاهِد يَعْنِي العامري مناوئه فأسكنه مَعَه المرية دون أَن يغيّر لَهُ حَالا وَلَا نعْمَة وَترك بمرسية ابْن طَاهِر ندّ ابْن خطاب ومناوئه بعد أَن انْطلق ابْن طَاهِر وَمن يَد مُجَاهِد بفدية غَلِيظَة وَعَاد إِلَى حَاله وَنعمته وأعانه زُهَيْر على لم شعثه وَفِي بعهده فاطمأنت قدمه بمرسية فِيمَا بعد وَارْتَفَعت حَاله وَبعد عَنْهَا عدوّه ابْن خطاب آخر الْأَيَّام فَلم يقْض لَهُ رُجُوع إِلَيْهَا إِلَى أَن مضى لسبيله قَالَ وَفِي صدر شهر رَمَضَان يَعْنِي من سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة بلغت قرطبة وَفَاة الشَّيْخ أبي بكر أَحْمد بن طَاهِر المتأمرّ قَدِيما بِبَلَدِهِ مرسية بعد طول علته الفالجية وَكَانَ من آخر من أنظر إِلَى هَذِه الْمدَّة من بقايا رُؤَسَاء الكور فَكَانَ يعْتد بعد انْقِرَاض دولة الصقالبة الْعَامِرِيين فِي جملَة الْمَنْصُور عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن بن أبي عَامر وَولده عبد الْملك على استبداده عَلَيْهِمَا وامتناعه من تَنْفِيذ مَالا يُوَافقهُ من أَمرهمَا وإرساله إِلَيْهِمَا من خلال ذَلِك مُفَارقَته عَمَّا فِي يَده من بَلَده وقيامه بِالْإِنْفَاقِ على من ينزله من جنده وتفرّده بقود جند الْبَلَد وجباية مَاله يُرْسل من فَضله إِلَى كل مِنْهُمَا فِي وقته مَا فَارقه عَلَيْهِ فَلَا يمكنهما خِلَافه لقُوَّة مَنْكِبه ووفور مَاله واجتماع أهل بَلَده على طَاعَته واعترافهم بِحقِّهِ قد أصلح الله بِهِ على جَمَاعَتهمْ وعمرت بِلَادهمْ بجميل سيرته ثمَّ اتسعت مكاسبه حَتَّى صَار نصف بَلَده ضَيْعَة لَهُ وَأحسن ارتباط الْجند بإنصافهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم فَأَحبُّوهُ وناصحوه فاستقام أمره وضخمت نعْمَته وعضده ابْن صدق لَهُ نجيب لَبِيب يُسمى مُحَمَّدًا ويكنى أَبَا عبد الرَّحْمَن

سلك سَبيله وَاتبع سيرته وَزَاد عَلَيْهِ بِفضل علم وأدب فحجبه أَيَّام تعطله وسدّ مسدّه فَلَمَّا مضى لسبيله قعد مَكَانَهُ وجبر ثلمه واستقام النَّاس لَهُ كَأَنَّهُمْ مَا فقدوا أَبَاهُ وَهلك هَذَا الشَّيْخ عَن نَحْو تسعين سنة قَالَ وَآل طَاهِر ذَوُو بَيت عَامر وَعدد وافر يفخرون بالعروبية وينتمون فِي قيس عيلان انْتهى كَلَام ابْن حيّان وَهَذَا خلاف معتقده فِي بني خطاب وَسَيَأْتِي ذكر ذَلِك إِن شَاءَ الله وَكَانَ أَبُو عبد الرَّحْمَن من أهل الْعلم وَالْأَدب البارع يتَقَدَّم رُؤَسَاء عصره فِي الْبَيَان والبلاغة ويماثل الصاحب إِسْمَاعِيل بن عباد وَأَمْثَاله فِي الْكتب عَن نَفسه ورسائله مدونة وَلأبي الْحسن بن بسام فِيهَا تأليف سَمَّاهُ ب سلك الْجَوَاهِر من ترسيل ابْن طَاهِر وروى الحَدِيث عَن أبي الْوَلِيد بن ميقل وَقد أَخذ عَنهُ واستجازه أَبُو عَليّ بن سكّرة لِابْنِهِ وَذكره أَبُو الْقَاسِم بن بشكوال فِي تَارِيخه وحَدثني الْمُقْرِئ المعمر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن

سَعَادَة الشاطبي عَن الْخَطِيب أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عريب عَن أبي عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر بِجَمِيعِ رِوَايَته عَن ابْن ميقل وَكَانَت فِيهِ دعابة غالبة عَلَيْهِ لَا يَدعهَا بِحَال وأجود رسائله مَا اشْتَمَل على الْهزْل لميل طبعه إِلَيْهِ وَكَانَ على ذَلِك جواداً ممدحاً ينتجعه الشُّعَرَاء ويقصده الأدباء وَقد انتجعه أَبُو بكر بن عمار أَيَّام خموله ثمَّ قضى أَن خلعه عَن سُلْطَانه فَلهُ مَعَه نَوَادِر مَذْكُورَة مِنْهَا قَوْله بعد خُلَاصَة من اعتقاله وانخلاع ابْن عمار عَن مرسية واجتماعهما عِنْد الْوَزير الْأَجَل أبي بكر بن عبد الْعَزِيز أَيَّام رياسته ببلنسية أَبَا العيناء لَا أَنْت وَلَا أَنا وَكَانَ ابْن عمار أخفش وَمِنْهَا وَقد أرسل إِلَيْهِ وَقت الْقَبْض عَلَيْهِ يخيره فِي خلعة يلبسهَا فَقَالَ لرَسُوله لَا أخْتَار

من خلعه أعزه الله إِلَّا فَرْوَة طَوِيلَة وغفارة ضئيلة فعرفها ابْن عمار واعترف بهَا وَقَالَ نعم إِنَّمَا عرض بزيى يَوْم قصدته وبهيئتي حِين أنشدته وَقد جرى لَهُ مَعَ أبي بكر بن عبد الْعَزِيز فِي معنى الدعابة والمطايبة مَا احتمله لَهُ بِفضل رجاحته وَأَبُو بكر حَرَكَة فَذكر الفول وَكَانَ أَبُو عبد الرَّحْمَن مُولَعا بِهِ ومكثراً لأكله فَعرض لَهُ هُوَ بل صرّح بِمَا كَانَ فِي لِسَانه من عقلة وَهُوَ إِذْ ذَاك ضَيفه وَخبر خلعه وَذكر ابْن بسام وَغَيره وقرأت فِي تَارِيخ الْكَاتِب أبي بكر مُحَمَّد بن يُوسُف بن قَاسم الشلبي تلميذ الْكَاتِب أبي بكر ابْن القصيرة وَأحد كتاب الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد قَالَ كَانَ ابْن عمار قد نزل ضيفاً على ابْن طَاهِر فِي صُعُوده إِلَى ابْن ريمند صَاحب برشلونة فاستبان ضعفه فداخل أَعْيَان مرسية مخبّلاً ومخذّلاً ثمَّ وصل ذَلِك عِنْد اجتماعه بريمند بمعاقدته على أَن يُعينهُ فِي محاصرته وبذل لَهُ عَن ذَلِك عشرَة آلَاف مِثْقَال

على أَن ينحدر بعسكره إِلَى مرسية وَيَأْتِي هُوَ فِي عَسْكَر ابْن عباد ويرهن كلّ وَاحِد مِنْهُمَا معاقدة مَا يَثِق بِهِ فرهن البرشلوني ابْن عَمه وأصعد ابْن عباد ابْنه الْمُسَمّى بالرشيد فِي جَيش إشبيلية وَابْن عمار مَعَه فاجتمعا بريمند عَلَيْهَا على ميعاد عيّناه وحاصرا مرسية وشنّا الغارات عَلَيْهَا فَلم ينالوا مِنْهَا أَكثر من ذَلِك وَكَانَ ابْن عمار عِنْد فصوله من إشبيلية قد قدّر أَن ينظر لَهُ فِي المَال الْمَذْكُور وَيلْحق بِهِ وَذَلِكَ لأجل ضربه البرشلوني فانصرم الْأَجَل وَلم يصل المَال وتحرك الْمُعْتَمد إِلَى قرطبة ثمَّ إِلَى جيّان وَمَعَهُ الرهينة على عَادَته من التؤدة والالتواء وَأَبْطَأ على ريمند مَا عوقد عَلَيْهِ واعتقد أَن ابْن عمار مكر بِهِ فَقبض عَلَيْهِ وعَلى الرشيد وقيدهما وانقلب عَسْكَر إشبيلية مفلولا وَالْمُعْتَمد قد فصل من جيّان وشارف

عمل شقورة فَلَمَّا وصل إِلَى وَادي آنة لم يُمكنهُ خوضه لمدّة بالسيول فَأَقَامَ على شاطئه الغربي وَإِذا سرعَان فلّ الْعَسْكَر قد أطلوا على الشاطىء الشَّرْقِي فاقتحمه مِنْهُم فارسان أجازا إِلَيْهِ وأخبراه بالنبأ الكريه فَسقط فِي يَده ونكص على عقبه وَقد استوثق من الرهينة وَرجع إِلَى جيّان وَقد كَانَ ابْن عمار أوصى إِلَيْهِ مَعَ هذَيْن الفارسين أَن يُقيم لَعَلَّه يلْحق بِهِ فورد عَلَيْهِ بعد تَمام عشرَة أَيَّام وَنزل على وَادي بلّون وَكتب كتابا وطواه وَبعث بِهِ أحد فرسَان عبيده إِلَى جيّان وَفِيه شعر يَأْتِي ذكره بعد وأوله (أصدّق ظنى أم أصيخ إِلَى صحبي ... ) فجاوبه الْمُعْتَمد عَنهُ بِمَا أنّسه فوصل إِلَيْهِ وَبكى بَين يَدَيْهِ ثمَّ اعْترف بالْخَطَأ فِي السالف وتوافق مَعَه على إِطْلَاق رهينة البرشلوني مَعَ المَال لينطلق الرشيد بصولهما من الاعتقال فَكَانَ ذَلِك وَانْصَرف البرشلوني إِلَى بِلَاده وَعَاد الرشيد إِلَى إشبيلية وَحكى غَيره أَن ابْن عباد سعى فِي خلاص الرشيد حَتَّى فدَاه بِثَلَاثِينَ ألفا ضربهَا زُيُوفًا وَلحق الرشيد بِأَبِيهِ الْمُعْتَمد

قَالَ ابْن الْقَاسِم الْمَذْكُور فِي تَارِيخه وَعَاد لِابْنِ عمار فِي مرسية رَأْيه الدبرى ولج بِهِ ميلانه فَذكر للمعتمد أَو زوّر أَن أهل مرسية قد داخلوه وخاطبوه وَأظْهر لَهُم كتبا ذكر أَنهم كتبوها إِلَيْهِ زَاد غَيره وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَسبعين قَالَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ بتجهيز عَسْكَر ثَان يتقلده فَلم يُخَالِفهُ يَعْنِي الْمُعْتَمد وَفصل عَن إشبيلية بعسكرها وَوصل إِلَى قرطبة وَعَلَيْهَا الْفَتْح ابْن الْمُعْتَمد وَهُوَ يَوْمئِذٍ حَاجِب أَبِيه فضم خيل قرطبة إِلَى عَسْكَر إشبيلية وسهر فِي اجتيازه هَذَا لَيْلَة عِنْد الْفَتْح إِلَى أَن شَارف الصُّبْح فَقَالَ أحد الخصيان قد انصدع الْفجْر فَأَنْشَأَ ابْن عمار يَقُول (إِلَيْك عني فليلي كُله صبح ... وَكَيف لَا وسميري الْحَاجِب الْفَتْح) قَالَ ثمَّ تقدم ابْن عمار إِلَى مرسية واجتاز فِي طَرِيقه على حصن بلج وعامله يَوْمئِذٍ عبد الله بن رَشِيق وَهَكَذَا سَمَّاهُ ابْن قَاسم الشلبي هَذَا وَغَيره يَقُول فِيهِ عبد الرَّحْمَن وَهُوَ الصَّحِيح قَالَ فَلَمَّا سمع بِهِ ابْن رَشِيق خرج إِلَيْهِ على أَمْيَال من الْحصن وَرغب إِلَيْهِ فِي النُّزُول عِنْده فَأَجَابَهُ ابْن عمار إِلَى ذَلِك واحتفل ابْن رَشِيق فِي إنزاله احتفالاً استطرفه ابْن عمار وَآل بِهِ إِلَى أَن قدمه على جَيْشه وَلم يعلم أَنه يحمل مِنْهُ الداهية الدهياء والداء العياء فوصل إِلَى مرسية وضايقها مُدَّة غدر لَهُ فِي أَثْنَائِهَا حصن مولة فَاسْتعْمل عَلَيْهِ ابْن

رَشِيق وَترك مَعَه جملَة من الْخَيل وَصدر إِلَى إشبيلية وَقد برّح بمرسية تكرّر الْحصار وَانْقِطَاع الْموَاد بانخزال مولة عَنْهَا وَمَا زَالَ ابْن رَشِيق يغاديها ويراوحها بالغارات ويداخل أَهلهَا فِي الْقيام على ابْن طَاهِر ويمنيهم الحظوة حَتَّى لَان قيادهم وصرحوا لَهُ بالانحياز ووصلت كتبهمْ على يَدَيْهِ إِلَى ابْن عمار وَهُوَ بإشبيلية قَالَ ابْن قَاسم وَلَقَد شهِدت ابْن عمار فِي الْقصر بإشبيلية يقْرَأ هَذِه الْكتب وَكَانَت أَزِيد من عشْرين فَلَمَّا استوفاها قَالَ لنا كأنكم بِفَتْح مرسية من غَد إِلَى بعد غَد فَكَانَ كَذَلِك وَلما تمّ لأهل مرسية تدبيرهم مَعَ ابْن رَشِيق تحرّك من مولة نحوهم على وَقت معِين فَلَمَّا وصل إِلَى ظَاهرهَا صرخوا بدعوة ابْن عبّاد وفتحوا أَبْوَابهَا لذَلِك الميعاد فَدخل ابْن رَشِيق فِي أنصاره بشعاره وَأخرج ابْن طَاهِر من دَاره إِلَى السجْن وَكتب من قصر مرسية وَقد تَملكهَا وَأخذ لِابْنِ عباد بيعَة أَهلهَا وَحكى غَيره أَن ابْن طَاهِر لما قبض عَلَيْهِ اعتقل بحصن منت أقوط إِلَى أَن ورد كتاب الْمُعْتَمد بتسريحه فلحق بِأبي بكر بن عبد الْعَزِيز ببلنسيّة لسعيه فِي ذَلِك وشفاعته فِيهِ وَقد قيل إِن ابْن طَاهِر هرب من معتقله بإعانة ابْن عبد الْعَزِيز وتنبيهه على الْوُجُوه الميسّرة لخلاصه

قَالَ ابْن بسام فِي كتاب الذَّخِيرَة من تأليفه وَمد لأبي عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر هَذَا فِي الْبَقَاء حَتَّى تجَاوز مصَارِع جمَاعَة الرؤساء وَشهد محنة الْمُسلمين ببلنسية على يَدي الطاغية الَّذِي كَانَ يدعى الكنبيطور وَحصل لَدَيْهِ أَسِيرًا سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ يَعْنِي وَأَرْبَعمِائَة كَذَا قَالَ ابْن بسام وَإِنَّمَا دخل الكنبيطور بلنسية سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتُوفِّي أَبُو عبد الرَّحْمَن ببلنسية وَصلى عَلَيْهِ بقبلة الْمَسْجِد الْجَامِع مِنْهَا إِثْر صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْأَخِيرَة سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة ثمَّ سير بِهِ إِلَى مرسية وَدفن بهَا وَقد نَيف على الثَّمَانِينَ وعَلى مَكَانَهُ من البراعة والبلاغة فِي الرسائل فَلم أَقف لَهُ على شعر سوى قَوْله فِي مقتل الْقَادِر يحيى بن إِسْمَاعِيل بن الْمَأْمُون يحيى بن ذِي النُّون على يَدي أبي أَحْمد جَعْفَر بن عبد الله بن جحاف الْمعَافِرِي عِنْد انتزائه ببلنسية وانتقاله من خطة الْقَضَاء إِلَى خطة الرِّئَاسَة وَكَانَ أخيف (أَيهَا الأخيف مهلا ... فَلَقَد جِئْت عويصا)

(إِذْ قتلت الْملك يحيى ... وتقمّصت القميصا) (رب يَوْم فِيهِ تجزى ... لم تَجِد عَنهُ محيصا) فَقضى الله أَن تسلط عَلَيْهِ الطاغية الكنبيطور بعد أَن أَمنه فِي نَفسه وَمَاله عِنْد دُخُوله بلنسية صلحا وَتَركه على الْقَضَاء نَحوا من عَام ثمَّ اعتقله وَأهل بَيته وقرابته وَجعل يطلبهم بِمَال الْقَادِر بن ذِي النُّون وَلم يزل يسْتَخْرج مَا عِنْدهم بِالضَّرْبِ والإهانة وغليظ الْعَذَاب ثمَّ أَمر بإضرام نَار عَظِيمَة كَانَت تلفح الْوُجُوه على مَسَافَة بعيدَة وجىء بِالْقَاضِي أبي أَحْمد يُوسُف فِي قيوده وَأَهله وَبَنوهُ حوله فَأمر بإحراقهم جَمِيعًا فَضَجَّ الْمُسلمُونَ وَالروم وَقد اجْتَمعُوا وَرَغبُوا فِي ترك الْأَطْفَال والعيال فأسعفهم بعد جهد شَدِيد واحتفر للْقَاضِي حُفْرَة وَذَلِكَ بولجة بلنسية وَأدْخل فِيهَا إِلَى حجزته وسوّى التُّرَاب حوله وضمت النَّار نَحوه فَلَمَّا دنت مِنْهُ ولفحت وَجهه قَالَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَقبض على أقباسها وَضمّهَا إِلَى جسده يستعجل الْمنية فَاحْتَرَقَ رَحمَه الله وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَيَوْم الْخَمِيس منسلخ جُمَادَى الأولى من السّنة قبلهَا كَانَ دُخُول الكنبيطور الْمَذْكُور بلنسية

ثمَّ ملكهَا الرّوم ثَانِيَة بعد أَن حاصرها الطاغية جاقم البرشلوني من يَوْم الْخَمِيس الْخَامِس من شهر رَمَضَان سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة إِلَى يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع عشر من صفر سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَفِي هَذَا الْيَوْم خرج أَبُو جميل زيان ابْن مدافع بن يُوسُف بن سعد الجذامي من الْمَدِينَة وَهُوَ يَوْمئِذٍ أميرها فِي أهل بَيته ووجوه الطّلبَة والجند وَأَقْبل الطاغية وَقد تزيّي بِأَحْسَن زِيّ فِي عُظَمَاء قومه من حَيْثُ نزل بالرصافة أول هَذِه المنازلة فتلاقيا بالولجة واتفقا على أَن يتسلم الطاغية الْبَلَد سلما لعشرين يَوْمًا ينْتَقل أَهله أثناءها بِأَمْوَالِهِمْ وأسبابهم وَحَضَرت ذَلِك كُله وتوليت العقد عَن أبي جميل فِي ذَلِك وابتدئ بضعفة النَّاس وسيّروا فِي الْبَحْر إِلَى نواحي دانية واتصل انْتِقَال سَائِرهمْ برّاً وبحراً وصبيحة يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر الْمَذْكُور كَانَ خُرُوج أبي جميل بأَهْله من الْقصر فِي طَائِفَة يسيرَة أَقَامَت مَعَه وَعند ذَلِك استولى عَلَيْهَا الرّوم أحانهم الله

131 - أَحْمد بن رَشِيق الْكَاتِب أَبُو الْعَبَّاس كَانَ أَبوهُ من موَالِي بني شَهِيد وَنَشَأ بمرسية وانتقل إِلَى قرطبة وَطلب الْأَدَب فبرز فِيهِ وبسق فِي صناعَة الرسائل مَعَ حسن الْخط الْمُتَّفق على نهايته وشارك فِي سَائِر الْعُلُوم وَمَال إِلَى الْفِقْه والْحَدِيث وَبلغ من رياسة الدُّنْيَا أرفع منزلَة وَقدمه الْأَمِير أَبُو الْجَيْش مُجَاهِد بن عبد الله العامري على كل من فِي دولته وولاة جَزِيرَة ميورقة فَكَانَ ينظر فِيهَا نظر الْعدْل والسياسة ويشتغل بالفقه والْحَدِيث وَيجمع الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ ويؤثرهم وَيصْلح الْأُمُور جهده وَهُوَ آوى الْفَقِيه أَبَا مُحَمَّد بن حزم حِين نعى عَلَيْهِ بقرطبة وَغَيرهَا خلَافَة مَذْهَب مَالك وَبَين يَدَيْهِ تناظر هُوَ وَالْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ قَالَ الْحميدِي فِي تَارِيخه وَأكْثر خَبره عَنهُ مَا رَأينَا من أهل الرِّئَاسَة من يجْرِي مجْرَاه مَعَ هَيْبَة مفرطة وتواضع وحلم عرف بِهِ مَعَ الْقُدْرَة وَله رسائل مَجْمُوعَة متداولة وَذكر أَنه مَاتَ بعيد الْأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة عَن سنّ عالية وَهُوَ الْقَائِل يُرَاجع أَبَا الْحسن ابْن سَيّده الضَّرِير معتذراً عَن صلَة وَجه بهَا إِلَيْهِ من ميورقة وَكَانَ قد كتب إِلَيْهِ من دانية يستمنحه (أدأب دهري وَلَو تطاول لي ... فِي حطّ ثقل من الغرامة بِي) (أحدثه لي تصاون وَهوى ... فِي عفة من دميم مكتسب)

(فَمن رَآنِي وظاهري لغنى ... فباطني قلَّة على رتب) (أسْتَغْفر الله بل لَهُ نعم ... وَهِي بذنبي إِلَيْهِ لم تجب) 132 - مُحَمَّد بن مَرْوَان بن عبد الْعَزِيز الْكَاتِب أَبُو عبد الله أَصله من قرطبة وَسكن بلنسية وَيعرف بِابْن روبش وَسَيَأْتِي ذكر نسبه عِنْد ذكر ابْنه الْوَزير الْأَجَل أبي بكر أَحْمد بن مُحَمَّد وَكَانَ أَبُو عبد الله هَذَا قد رَأس فِي آخر دولة الْمَنْصُور عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أبي عَامر صَاحب بلنسية فَلَمَّا توفّي الْمَنْصُور وَملك ابْنه المظفر عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز تمشّت حَاله مَعَه على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي حَيَاة أَبِيه وَكَانَ عبد الْملك ضَعِيفا فخلعه صهره الْمَأْمُون يحيى بن إِسْمَاعِيل بن ذِي النُّون صَاحب طليطلة فِي سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَفِي ليله عَرَفَة لتسْع خلون من ذِي الْحجَّة مِنْهَا وَملك بلنسية وَمَا إِلَيْهَا من بِلَاد الشرق فاستخلف عَلَيْهَا أَبَا عبد الله بن عبد الْعَزِيز هَذَا وَجعل إِلَيْهِ تَدْبِير أمرهَا ثمَّ انْتقل ذَلِك عِنْد وَفَاته إِلَى أبي بكر ابْنه فتناهت فِيهَا حَاله بعد موت الْمَأْمُون بن ذِي النُّون واستبد بالرئاسة وَجرى على أَحْمد سنَن من السياسة ذكر هَذَا الْخَبَر أَبُو بكر مُحَمَّد بن عِيسَى بن مزين فِيمَا وَقعت عَلَيْهِ من تأليف لَهُ مُخْتَصر فِي التَّارِيخ وَأما ابْن حَيَّان فَذكر هَذَا المخلوع عبد الْملك وأساء الثَّنَاء عَلَيْهِ وَحكى أَنه كَانَ فِي مصير ملك أَبِيه إِلَيْهِ قد تخلى عَن أَمر الْإِمَارَة أجمعه وفوضه إِلَى وزيره أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْمَاضِي لعبد الْملك مَكَانَهُ عِنْد توليه

وَأَشْبع الْكَلَام فِي صفة خلع عبد الْملك وَنسب محاولته إِلَى أبي بكر دون أَبِيه فَدلَّ ذَلِك على وَفَاته قبلهَا وَالله أعلم وَمن شعر أبي عبد الله بن عبد الْعَزِيز مَا جاوب بِهِ الْوَزير أَبَا عَامر بن عَبدُوس وَقد كتب إِلَيْهِ (يَا أطيب النَّاس أغصاناً وأعراقاً ... وأعذب الْخلق آداباً وأخلاقاً) (وَيَا حَيا الأَرْض لم نكّبت عَن سُنَنِي ... وسقت نحوي إرعاداً وإبراقا) (وَيَا سنا الشَّمْس لم أظلمت فِي بَصرِي ... وَقد وسعت بِلَاد الله إشراقا) (من أَي بَاب سعت عين الزَّمَان إِلَى ... رحيب صدرك حَتَّى قيل قد ضاقا) (قد كنت أحسبني فِي حسن رَأْيك لي ... أَنِّي أخذت على الْأَيَّام ميثاقا) (فَالْآن لم يبْق لي بعد انحرافك مَا ... آسى عَلَيْهِ وأبدي مِنْهُ إشفاقا) (قد كنت أوليك إحساناً وإشفاقا ... وأنثني عَنْك مهما غبت مشتاقا) (وَمَا ألوتك نصحاً لَو جزيت بِهِ ... وَلم يكن من ذميم الْغدر مَا عاقا) (وَكَانَ من أملي أَن أقتنيك أَخا ... فأخفق الأمل المأمول إخفاقا) (وَقلت غرس من الإخوان أكلؤه ... حَتَّى أرى مِنْهُ إثمارا وإيراقا) (فَكَانَ لما انْتهى إزهاره ودنا ... إثماره خنظلا مرّاً لمن ذاقا)

(فَالْآن أخلق مَا بيني وَبَيْنك من ... ثوب الوداد لسوء الْفِعْل إخلاقا) (وَلست أول إخْوَان سقيتهم ... صفوي وأعلقتهم بِالنَّفسِ إعلاقا) (فَمَا جزوني بِإِحْسَان وَلَا عرفُوا ... قدري وَلَا حفظوا عهدا وميثاقا) 133 - مُحَمَّد بن عمار بن الْحُسَيْن بن عمار الْمهرِي ذُو الوزارتين أَبُو بكر أَصله من قَرْيَة بشلب تعرف بشنّبوس وَنَشَأ خاملاً ينتجع بِشعرِهِ وَيَطوف على مُلُوك الطوائف عصره وَقد تقدم ذكر اعترافه بِقصد ابْن طَاهِر ب 93 فِي الْهَيْئَة الَّتِي عرّض لَهُ بهَا فِي نادرته وَتعلق فِي أول أمره بالمعتمد مُحَمَّد بن عباد حِين وَجهه أَبوهُ المعتضد مُحَاربًا لشلب فَنزع إِلَيْهِ وَبلغ من الْمنزلَة لَدَيْهِ أَن غلب عَلَيْهِ ثمَّ صَحبه بإشبيلية وَكَانَ يحضرهُ مجَالِس أنسه ويستدعيه إِلَيْهَا ويؤثره على خاصته ويستريح إِلَيْهِ بسره وَمن ذَلِك قَوْله وَكتب بِهِ إِلَيْهِ (قد زارنا النرجس الذكيّ ... وحان من يَوْمنَا العشيّ) (وَنحن فِي مجْلِس أنيق ... وَقد عطشنا وثمّ ريّ) (ولي خَلِيل غَدا سمي ... ياليته ساعد السمي)

فَأَجَابَهُ واصلاً وقائلاً (لبيْك لبيْك من مُنَاد ... لَهُ الندى الرحب والنديّ) (هَا أَنا بِالْبَابِ عبد قنّ ... قبلته وَجهك السنيّ) (شرّفه والداه باسم ... شرّفته أَنْت والنبيّ) وسرى إِلَى ابْن عمار أَن الْمُعْتَمد كتب من قرطبة إِلَى بعض كرائمه شعرًا يعْتَذر فِيهِ من اللحاق بهَا آخِره إِن شَاءَ رَبِّي أَو شَاءَ ابْن عمار فَقَالَ (مولَايَ عِنْدِي لما تهوى مساعدة ... كَمَا تتَابع خطف البارق الساري) (إِن شِئْت فِي الْبَحْر فاركب ظهر سابحة ... أَو شِئْت فِي الْبر فاركب ظهر طيار) (حَتَّى تحلّ وَحفظ الله يكلؤنا ... ساحات قصرك واتركني إِلَى دَاري) (وَقبل خلع نجاد السَّيْف فاسع إِلَى ... ذَات الوشاح وَخذ للحب بالثار) (ضماّ ولثماً يغنّي الحلى بَيْنكُمَا ... كَمَا تجاوب أطيار بأسحار) كَمَا حكى أَبُو الطَّاهِر التَّمِيمِي السَّرقسْطِي فِي ديوَان شعر ابْن عمار من جمعه عِنْد إِيرَاد هَذِه الْقطعَة وَقَالَ ابْن بسام فِي كتاب الذَّخِيرَة ذكر أَن الْمُعْتَمد أَقَامَ بُرْهَة بقرطبة يرفع بعض الْأُمُور السُّلْطَانِيَّة فسئم طلقه وتذكر على عَادَته خلقه ودعته دواعي نَفسه إِلَى قَيْنَته وكأسه فَاسْتَشَارَ يَوْمئِذٍ ابْن عمار وَكَانَ خاطبه فِي ذَلِك بِشعر وَظن عِنْده أهبة إِذْ كَانَت عَلَيْهِ مِنْهُ بعض الرَّقَبَة فَوَجَدَهُ

أهتك سترا وأقلّ عَن اللَّذَّات صبرا وَأَشَارَ عَلَيْهِ بتعطيل الثغر وإضاعة الْأَمر وجاوبه على ذَلِك بِهَذَا الشّعْر وَذكر الأبيات ووجّه الْمُعْتَمد أَبَا بكر بن عمار إِلَى شلب متفقداً لأعمالها فَلَمَّا ودعه أنْشدهُ وَقد اهتاج شوقه إِلَيْهَا وتذكر معاهد صباه وعهوده فِيهَا إِذْ كَانَ والياً من قبل أَبِيه المعتضد عَلَيْهَا (أَلا حيّ أوطاني بشلب أَبَا بكر ... وسلهن هَل عهد الْوِصَال كَمَا أَدْرِي) (وسلّم على قصر الشّراجب عَن فَتى ... لَهُ أبدا شوق إِلَى ذَلِك الْقصر) (منَازِل آساد وبيض نواعم ... فناهيك من غيل وناهيك من خدر) (وَكم لَيْلَة قد بتّ أنعم جنحها ... بمخصبة الأرداف مُجْدِبَة الخصر) (وبيض وَسمر فاعلات بمهجتي ... فعال الصّفاح الْبيض والأسل السّمر) (لَيَال بسدّ النَّهر لهواً قطعتها ... بِذَات سوار مثل منعطف الْبَدْر) (نضت بردهَا عَن غُصْن بَان منعّم ... نضير كَمَا انْشَقَّ الكمام عَن الزهر) واتصل بالمعتمد فِي بعض سفاراته عَنهُ إِلَى جليقية أَن الطاغية أذفونش ثقفه هُنَالك ثمَّ ورد الْخَبَر بعد بضدّ ذَلِك فَلَمَّا قدم ابْن عمار كتب إِلَيْهِ الْمُعْتَمد (لما نأيت نأى الْكرَى عَن ناظري ... وصرفته لما انصرفت عَلَيْهِ) (طلب البشير بِشَارَة يحظى بهَا ... فَوهبت قلبِي واعتذرت إِلَيْهِ) إِلَى غير مَا أوردت من الدَّلَائِل على لطف الْمنزلَة وَتمكن الحظوة وتضاعف الأثرة وَحب الرِّئَاسَة فِي رَأسه يَدُور إِلَى أَن نفذ بمصرعه على يَدَيْهِ الْمَقْدُور وَمن بديع صَنِيع ابْن عمار إِتْلَاف أشعاره المقولة فِي الامتياح وقصائده

94 - ب المصوغة فِي الانتجاع ومحو آثارها فَمَا يُوقف مِنْهَا الْيَوْم على شَيْء سوى أمداحه فِي المعتضد عباد وَمَا لَا اعْتِبَار بِهِ لنزوره وَقد ألّف أَبُو الطَّاهِر مُحَمَّد بن يُوسُف التَّمِيمِي شعره ورتبه على حُرُوف المعجم وَلَا شكّ أَنه بحث عَنهُ فِي مظانّه واستفرغ جهده فِي جمعه فَلم يَقع لَهُ على غير تقريظ المعتضد وَأرى ذَلِك خدمَة مِنْهُ لِابْنِهِ الْمُعْتَمد وَكَانَ ابْن عمار شَاعِر الأندلس غير مدافع وَلَا مُنَازع إِلَّا أَن مساوئ أَفعاله ذهبت بمحاسن أَقْوَاله أدمن الْخمر وهوّن على نَفسه الْغدر فأداه ذَلِك إِلَى رداه وَكَانَ كَالَّذي نفخ فوه وأوكت يَدَاهُ قَالَ ابْن بسام وَلما خبط أَبُو بكر بن عمار سمُرَات مُلُوك الأندلس بعصاه وَتردد ينتجعهم بمكائده ورقاه وَإِنَّمَا كَانَ يطْلب سُلْطَانا ينثر فِي يَده سلكه وملكاً يخلع على نَفسه ملكه جعل أَبَا عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر موقع همّه وَوجه أمّه وَلما ألْقى الْمُعْتَمد لِابْنِ عمار مَا بِيَدِهِ بَعثه على حَرْب ابْن طَاهِر بغاء لنَفسِهِ وَبِنَاء على أسّه فأقبله وُجُوه الْجِيَاد وَأخذ عَلَيْهِ بالثغور والأسداد حَتَّى فتّ فِي عضده وانتزع سُلْطَانه من يَده وَلما قَالَ عزمه وَفعل وَقَامَ وزن أمره واعتدل مد يَده وبسطها وَكفر نعْمَة ابْن عباد وغمطها وانتزى لَهُ من

حِينه على مرسية وَقعد بهَا مقْعد الرؤساء وخاطب سُلْطَانه مُخَاطبَة الْأَكفاء مستظهراً على ذَلِك بجر الأذيال وإفساد قُلُوب الرِّجَال مُعْتَقدًا أَن الرِّئَاسَة كأس يشْربهَا وملاءة مجون يسحبها فقيض لَهُ يَوْمئِذٍ من عبد الرَّحْمَن بن رَشِيق عدوّ فِي ثِيَاب صديق من رجل مدره ختر وجذيل خديعة ومكر فَلم يزل يطلع عَلَيْهِ من الثنايا والشّعاب حَتَّى أخرجه من مرسية لَا كالشهاب قَالَ فَصَارَ ابْن عمار مَعَ ابْن رَشِيق تَحت الْمثل أنفقت مَالِي وحجّ الْجمل وَقد تقدم ذكر السَّبَب فِي اعتقال الرشيد بن الْمُعْتَمد وحصوله مَعَ ابْن عمار بأيدي الرّوم وانهزام عسكره المحاصر لمرسية قَالَ ابْن بسام وَفِي أثْنَاء تِلْكَ الْحَال الَّتِي أفضت بالرشيد إِلَى الاعتقال كتب يَعْنِي ابْن عمار إِلَى الْمُعْتَمد بِهَذِهِ الأبيات (أصدّق ظَنِّي أم أصيخ إِلَى صحبي ... وأقضي غريمي أم أَعْوَج مَعَ الركب) (إِذا انقدت فِي رَأْيِي مشيت مَعَ الْهوى ... وَإِن أتعقبه نكصت على عَقبي) (وَإِنِّي لتثنيني إِلَيْك مَوَدَّة ... يغيّرها مَا قد تعرّض من ذَنبي)

(فَمَا أغرب الْأَيَّام فِيمَا قَضَت بِهِ ... تريني بعدِي عَنْك آنس من قربي) (أخافك للحق الَّذِي لَك فِي دمي ... وأرجوك للحب الَّذِي لَك فِي قلبِي) قَالَ وَهَذَا الْبَيْت على سهولة مبناه من أحسن مَا قيل فِي مَعْنَاهُ وبمثله فلتخدع الْأَلْبَاب وتستعطف الْأَعْدَاء للأحباب إِلَّا أَن المصراع الأول كَأَنَّهُ شَيْء تكهّنه من شانه وطيرة أَلْقَاهَا الله على لِسَانه وَصدق كَانَ لَهُ فِي عُنُقه ربق وَفِي دَمه حق حَتَّى احتال لَهُ فناله والمرء يعجز لَا المحالة وفيهَا يَقُول (وَكم قد فرت يمناك بِي من ضريبة ... وَلَا غرو يَوْمًا أَن يفلّل من غربي) (وَأعلم أَن الْعَفو مِنْك سجية ... فَلم يبْق إِلَّا أَن تخفّف من عتبي) (ولي حَسَنَات لَو أمتّ بِبَعْضِهَا ... إِلَى الدَّهْر لم يرتع لنائبة سربي) فَأَجَابَهُ الْمُعْتَمد بقوله (تقدم إِلَى مَا اعْتدت عِنْدِي من الرحب ... ورد تلقك العتبى حِجَابا عَن العتب) (مَتى تلقني تلق الَّذِي قد بلوته ... صفوحاً عَن الْجَانِي رؤوفاً عَن الصحب) (سأوليك مني مَا عهِدت من الرِّضَا ... وأصفح عَمَّا كَانَ إِن كَانَ من ذَنْب) (فَمَا أشعر الرَّحْمَن قلبِي قسوة ... وَلَا صَار نِسْيَان الأذمّة من شعبي) (تكلّفته أبغي بِهِ لَك سلوةً ... وَكَيف يعاني الشّعْر مُشْتَرك اللب) فَلم يزده جواد حواب الْمُعْتَمد إِلَّا توحشاً ونفاراً وتوقفاً عَن اللحاق بِهِ وازوراراً هَذَا مَا أورد ابْن بسام من خبر ابْن عمار فِي هَذِه الْقَضِيَّة وَابْن قَاسم الشّلبي فِي تَارِيخه الْمَجْمُوع فِي أَخْبَار الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد أمتن علما بهَا وَأحسن سرداً لَهَا وَقد مضى من ذَلِك وَيَأْتِي مَا يَصح بِهِ قولي إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَأما أَبُو الطَّاهِر التَّمِيمِي فَحكى أَن ابْن عمار كتب إِلَى الْمُعْتَمد بِحَال أوجبت إيحاشاً (أصدّق ظَنِّي أم أصيخ إِلَى صحبي ... ) الأبيات الْمُتَقَدّمَة إِلَى آخرهَا وَزَاد فِيهَا بَيْتا وَهُوَ (وَلَا بُد مَا بيني وَبَيْنك من نَثَا ... يطبّقها مَا بَين شَرق إِلَى غرب) وَأورد جَوَاب الْمُعْتَمد عَنْهَا كَمَا تقدم ثمَّ قَالَ بعقب ذَلِك وَقَالَ أَيْضا وَكتب بهَا إِلَيْهِ يَعْنِي الْمُعْتَمد وَقد ارْتهن زعيم برشلونة ابْنه الرشيد لمَال توقّف لَهُ عَنهُ وَظن بِابْن عمار فِي ذَلِك سعي قَالَ وَذَلِكَ فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة (أأركب قصدي أَو أَعْوَج مَعَ الركب ... فقد صرت من أَمْرِي على مركب صَعب) (وأصبحت لَا أَدْرِي أَفِي الْبعد راحتي ... فأجعله حظي أم الْخَيْر فِي الْقرب) (على أنني أَدْرِي بأنك مُؤثر ... على كل حَال مَا يزحزح من كربي) (أيظلم فِي عَيْني كَذَا قمر الدجى ... وتنبو بكفي شفرة الصارم العضب) (حنانيك فِيمَن أَنْت شَاهد جده ... وَلَيْسَ لَهُ حاشا انتصاحك من حسب) (وَمَا جِئْت شَيْئا فِيهِ بغى بطالب ... يُضَاف بِهِ رَأْيِي إِلَى الضعْف والخب)

سوى أنني أسلمتني لملمة فللت بهَا حدي وكسّرت من غربي أما إِنَّه لَوْلَا عوارفك الَّتِي جرت فِي جري المَاء فِي الْغُصْن الرطب لما سمت نَفسِي مَا أسوم من الْأَذَى وَلَا قلت إِن الذَّنب فِي مَا جرى ذَنبي سأستمنح الرحمى لديك ضراعة وأسأل سقيا من تجاوزك العذب وَإِن نفحتني من سمائك وحرجف سأهتف يَا برد النسيم على قلبِي فَأَجَابَهُ الْمُعْتَمد لديّ لَك العتبى تزاح عَن العتب وسعيك عِنْدِي لَا يُضَاف إِلَى ذَنْب وأعزز علينا أَن تصيبك وَحْشَة وأنسك مَا تدريه فِيك من الْحبّ فدع عَنْك سوء الظنّ بِي وتعدّه إِلَى غَيره فَهُوَ الممكّن فِي الْقلب قريضك قد أبدى توحّش جَانب فجاوبت تأنيساً وعلمك بِي حسبي تكلّفته أبغي بِهِ لَك سلوة وَكَيف يعاني الشّعْر مُشْتَرك اللب هَكَذَا أَتَى بالقطعتين وجوابهما على نسق وَترْجم فِي الثَّانِيَة بالتفرقة بَينهمَا وَبَين الأولى فَخَالف ابْن قَاسم وَابْن بسام كَمَا ترى وَيحْتَمل أَن تَكُونَا فِي قصَّة وَاحِدَة قَالَ أَبُو الطَّاهِر وَقد كَانَ خَاطب أَبَا الْوَلِيد بن زيدون فِي أول تعلقه يَعْنِي بالسطان بِأَبْيَات استعاد بَعْضهَا فِي هَذِه الْقطعَة وَهِي

(تَأَمَّلت مِنْك الْبَدْر فِي لَيْلَة الْخطب ... ونلت لديك الخصب فِي زمن الجدب) (وجرّدت من محروس جاهك مرهفاً ... تولّت بِهِ خيل الْحَوَادِث عَن حَرْبِيّ) (وَمَا زلت من نعماك فِي ظلّ لَذَّة ... تذكّرني أَيَّامهَا زمن الْحبّ) (إِذْ الْعَيْش فِي أفياء ظلك بَارِد ... فَمن مرتع خصب إِلَى مورد عذب) (أحين سقى صوب اعتنائك ساحتي ... فنعّمها واهتزّ روضي فِي تربي) (ثنيت لعطف قد ثنيت مدائحي ... عَلَيْهِ وسرب قد بدلت بِهِ سربي) (أما إِنَّه لَوْلَا عوارفك الَّتِي ... جرت فِي جري المَاء فِي الْغُصْن الرطب) (لما ذدت طير الودّ عَن شجر القلى ... وَلَا صنت وَجه الْحَمد عَن كلف العتب) (وَلَكِن سأكني بِالْوَفَاءِ عَن الجفا ... وأرضى ببعد بعد مَا كَانَ من قرب) (وَإِن لفحتني من سمائك حرجف ... سأهتف يَا برد النسيم على قلبِي) (وَإِنِّي إِذا قلدت جاهك مطلبي ... وأخفقت فِيهِ قلت يَا زمني حسبي) (أيظلم فِي عَيْني كَذَا قمر الدجى ... وتنبو بكفي شفرة الصارم العضب) وَهَذَا أَيْضا مِمَّا نبّهت عَلَيْهِ قبل وعَلى وُقُوعه نَادرا حَتَّى لَا تعتل صِحَة المحكي عَنهُ من ضيَاع منظوماته فِي الانتجاع على أَن حكم العتاب خَارج عَن هَذَا الْبَاب وَأما قصائده الشهيرة فِي الْمُعْتَمد وبنيه فلتوفيه حق الاصطناع وتعفيه مَا أوقعه فِي الارتياع وَدفعه إِلَى الاستعطاف والاستشفاع وَإِن أطلت 96 ب بِحَسب الِاضْطِرَار الْكَلَام واستسهلت فِي دَعْوَى الِاخْتِصَار الملام فلغرابة هَذِه الْأَخْبَار وبراعة مَا يتخللها من الْأَشْعَار

ونعود إِلَى خبر ابْن رَشِيق مَعَ ابْن عمار وَمَا آل إِلَيْهِ أمره بعد ذَلِك ذكر أَبُو بكر مُحَمَّد بن يُوسُف بن قَاسم الشلبي مَا تلخيصه وإيجازه مَعَ زيادات تخيرتها وَبَعضه على الْمَعْنى دون اللَّفْظ أَن ابْن رَشِيق لما قرئَ كِتَابه المتضمن دُخُوله مرسية بإشبيلية ارْتَاحَ ابْن عمار وأعمل نظره فِي اللحاق بهَا وَأَشَارَ على الْمُعْتَمد بذلك فَمَا خَالفه فواقاً فَلم يتْرك ابْن عمار بإشبيلية فِي ملك سُلْطَانه وَلَا ملك أحد من معارفه فرسا عتيقاً وَلَا مَطِيَّة وَلَا زاملةً إِلَّا استخرج ذَلِك من أَيْديهم رَغْبَة وَرَهْبَة حَتَّى لاجتمع لَهُ مائَة جنيبة وَمِائَة زاملة وأحضر لَهُ التُّجَّار مَا بِأَيْدِيهِم على اخْتِلَاف بضائعهم من الديباج والخز إِلَى مَا دون ذَلِك من نَفِيس الكسا ليعمّ بذلك أهل مرسية على قدر مَنَازِلهمْ عِنْده وَلم يخف عَن ابْن عباد وَجه مُرَاده فَلَمَّا سلم عَلَيْهِ مودعاً قَالَ لَهُ سر إِلَى خيرة الله وَلَا تظن أَنِّي مخدوع فَقَالَ لست بمخدوع وَلَكِنَّك مُضْطَر فحلم عَنهُ وَخرج من إشبيلية على بَاب مقرانة وَأقَام بظاهرها أَرْبَعَة أَيَّام يَسْتَوْفِي أغراضه ثمَّ رفع ألويته وقرع طبوله وَسَار لَا يمر بِبَلَد من أَعمال ابْن عباد إِلَّا استخرج مِنْهُ كل ذخيرة حَتَّى وصل إِلَى مرسية فَدَخلَهَا فِي يَوْم مَشْهُور وَابْن رَشِيق بَين يَدَيْهِ قد برز لَهُ وَخرج يزفه إِلَى الْقصر وَجلسَ فِي الْيَوْم الثَّانِي مجْلِس التهنئة للخواص والعوام فسجعت الشُّعَرَاء بأمداحه وَقد تزييّ بزيّ

ابْن عباد فِي حمل الطّويلة على رَأسه وَحَكَاهُ فِي التَّعْبِير وَكتب ينفذ هَذَا إِن شَاءَ الله فِي أَسْفَل قرطاسه وتحتّم فِي كلتا يَدَيْهِ وبلغه أَن ابْن عبد الْعَزِيز عَابَ ذَلِك عَلَيْهِ فَكتب إِلَيْهِ (قل للوزير وَلَيْسَ رَأْي وَزِير ... أَن يتبع التنزير بالتندير) (إِن الوزارة لَو سلكت سَبِيلهَا ... وقف على التعزيز والتوقير) (وَأرى الفكاهة جلّ مَا تَأتي بِهِ ... رحماك فِي التَّعْجِيز والتصدير) (وصلت دعابتك الَّتِي أَهْدَيْتهَا ... فِي خَاتم التَّأْمِين والتأمير) (وأظنها للطاهريّ فَإِن تكن ... فخليقة التَّقْدِيس والتطهير) (وَلَعَلَّ يَوْمًا أَن يصيّر نَعته ... فِي طِينَة التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير) (وَترى بلنسية وَأَنت قدارها ... سينالها التّدمير من تدمير)

وَحكى غَيره أَن ابْن طَاهِر هُوَ الَّذِي غمز على رَسُول ابْن عمار الْمعلم بخاتميه وَأَنه نسب أَحدهمَا للمؤتمن بن هود وَالثَّانِي لأذفونش بن فردلند وَترْجم أَبُو الطَّاهِر التَّمِيمِي على هَذِه الْقطعَة فِي مَجْمُوعَة من شعر ابْن عمار قَالَ وَله للوزير الْأَجَل أبي بكر بن عبد الْعَزِيز وَقد ندّر فِيهِ حِين بلغه أَن أذفونش ملك الرّوم أعطَاهُ خَاتمًا عِنْد اجتماعه بِهِ ولياذه فِرَارًا من الوحشة الْوَاقِعَة بَينه وَبَين ابْن عباد وتخوفاً مِنْهُ فَقَالَ أخاتم التأمير أم خَاتم التَّأْمِين فَقَالَ ابْن عمار واعتقد إنفاذها إِلَيْهِ وَذكر الأبيات وَزَاد فِي آخرهَا (فرسا رهان أَنْتُمَا فتجاريا ... لنقول فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير) قَالَ ابْن بسام وَاسْتعْمل ابْن عمار خساس عبيده على الْحُصُون وأقطعهم الضّيَاع وَأعْرض عَن النصيح وَأَقْبل على الغبوق والصّبوح وَابْن رَشِيق فِي خلال ذَلِك يسْتَبْدل أُولَئِكَ الأوباش ببني أخوته وأخواته وَكَانُوا جمَاعَة حَتَّى إِذا صَارَت عَن آخرهَا فِي ضَبطه وَعلم أَن أَمر ابْن عمار قد نقل لِابْنِ عباد

قطع عَنهُ تِلْكَ الْموَاد وأغرى الأجناد بِطَلَب أَرْزَاقهم مِنْهُ فأيقظته الضَّرُورَة من سنة البطالة وَفِي مُدَّة إقباله على سفاهته كَانَ ابْن عباد يستلطفه بأعيان الْأَصْحَاب فيذكّرونه بالأذمّة ويوعدونه على وجاهر بِهِ وَكتب إِلَيْهِ الْمُعْتَمد (تغيّر لي فِيمَن تغير حَارِث ... وَرب خَلِيل غيرته الْحَوَادِث) (أحارث إِن شوركت فِيك فطالما ... نعمنا وَمَا بيني وَبَيْنك ثَالِث) فجاوبه ابْن عمار (لَك الْمثل الْأَعْلَى وَمَا أَنا حَارِث ... وَلَا أَنا مِمَّن غيرته الْحَوَادِث) (وَلَا شاركتك الشَّمْس فيّ وَإنَّهُ ... لينأى بحظي مِنْك ثَان وثالث) (فديتك مَا للبشر لم يسر برقه ... وَلَا نفحت تِلْكَ السجايا الدمائث) (أَظن الَّذِي بيني وَبَيْنك أذهبت ... حلاوته عني الرِّجَال الأخابث) (تنكّرت لَا أَنِّي لفضلك ناكر ... لديّ وَلَا أَنِّي لعهدك ناكث) (وَلَكِن ظنون ساعدتها نمائم ... كَمَا ساعدت صَوت المثاني المثالث) (أبعد انقضا خمس وَعشْرين حجَّة ... تجافت لنا عَنْهَا الخطوب الكوارث) (مَضَت لم ترب مني أُمُور شوائب ... وَلَا تليت عني مساع خبائث)

(حللت يدا بِي هَكَذَا وتركتني ... نهاباً وللأيام أيد عوابث) (وَهل أَنا إِلَّا عبد طَاعَتك الَّتِي ... إِذا مت عَنْهَا قَامَ بعدِي وَارِث) (أعد نظرا لَا توهن الرَّأْي إِنَّه ... قَدِيما كبا هاف وَأدْركَ رائث) (ستذكرني إِن بَان حبلي وأصبحت ... تَئِنُّ بكفيك الحبال الرثائث) (وتطلبني إِن غَابَ للرأي حَاضر ... وَقد غَابَ مني للخواطر باعث) (أعوذ بِعَهْد نطته بك أَن ترى ... تحل عراه العاقدات النوافث) وَذكر ابْن بسام هَذَا الشّعْر بعد أَن قَالَ وأفضت الْحَال بالرشيد إِلَى الاعتقال بأيدي نَصَارَى الإفرنجة فِي جملَة من المَال كَانُوا أَكْثرُوا بهَا فَحَسبُوا الرشيد بِسَبَبِهَا إِلَى أَن افتكّه أَبوهُ الْمُعْتَمد فِي خبر طَوِيل وَابْن عمار صَاحب ذَلِك الرحيل والملوم فِي الْمَعْلُوم من أمره والمجهول وَفَسَاد حَاله عِنْد الْمُعْتَمد يتزايد وتدابره يتساند وَفِي أثْنَاء مَا وَقع من تَدْبِير تِلْكَ الْأُمُور ونجوم ذَلِك الاستيحاش والتغيير خاطبه الْمُعْتَمد عاتباً متمثلاً بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَقد كَانَ خرج عَنهُ وأوردهما وَجَوَاب ابْن عمار إِلَى آخِره

قَالَ ابْن قَاسم فَكَانَ لَا ينثني عَن هَوَاهُ وَلَا يزلّ عَن مرقاة حَتَّى قَالَ لَهُ من كَانَ يعصيه من نصّاحه تعرف الْحصن الْفُلَانِيّ قَالَ نعم أَلَيْسَ صَاحبه فلَان من عَبِيدِي فَيَقُول لَهُ لَا وَالله مَا فِيهِ إِلَّا فلَان ابْن أخي ابْن رَشِيق أَو ابْن أُخْته وَجعل يعدد لَهُ المعاقل وَيذكر خُرُوجهَا من أَيدي ثقاته وَرِجَاله فَسقط فِي يَده وفر على وَجهه من مرسية إِلَى جليقية لاحقاً بأذفونش بن فردلند وشاكياً إِلَيْهِ غدر ابْن رَشِيق رَجَاء إعدائه عَلَيْهِ لم يذكر ابْن قَاسم مروره ببلنسّية فِي خُرُوجه من مرسية وَهُوَ صَحِيح وَفِي ذَلِك يَقُول يُخَاطب ابْن عبد الْعَزِيز صَاحبهَا وَقد أخرج إِلَى لِقَائِه رجلا استجهله (تناهيتم فِي برنا لَو سمحتم ... بِوَجْه صديق فِي اللِّقَاء وسيم) (وسلسلتم رَاح البشاشة بَيْننَا ... لَو أَنكُمْ ساعدتم بنديم) (سألتمس الْعذر الْجَمِيل عَن الْعلَا ... وأحتال للفضل احتيال كريم) (وأثني على روض الطلاقة بالجني ... وَإِن لم أفز من نشره بنسيم)

(بخلتم بأعيان الرِّجَال على النَّوَى ... فَلم تصلونا مِنْهُم بزعيم) (وَلَكِن سأستعدي الْوَفَاء وأقتضي ... سماحك بالأنس اقْتِضَاء غَرِيم) وَحكى ابْن بسام فِي أَخْبَار ابْن عمار من تأليفه أَنه قَالَ هَذَا الشّعْر فِي بعض رسالاته عَن الْمُعْتَمد واجتيازه ببلنسية لَا عِنْد فراره من مرسية قَالَ ابْن الْقَاسِم وَقد كَانَ ابْن رَشِيق قدّم الحزم فاستمال أذفونش بألطافه وهداياه وغيّره على ابْن عمار فَانْصَرف خائباً وَيُقَال إِنَّه قَالَ لَهُ بِلِسَانِهِ يَا ابْن عمار مثلك مثل السَّارِق سرق السّرقَة فضيّعها حَتَّى سرقت مِنْهُ وَعند ذَلِك عدل إِلَى سرقسطة بِظَاهِر الْخدمَة لواليها المؤتمن أبي عمر يُوسُف بن المقتدر بن هود والنيابة عَنهُ بالوزارة فَأمر لَهُ بدار تحمله وَمن مَعَه وأدرّ عَلَيْهِ من الإجراء مَا وسعهم ووسعه وتجافى عَنهُ مَعَ ذَلِك فَأَقَامَ على البطالة مُقبلا وَفِي ذَلِك يَقُول وَقد عذل عَن الإدمان (نقمتم عليّ الراح أدمن شربهَا ... وقلتم فَتى لَهو وَلَيْسَ فَتى مجد) (وَمن ذَا الَّذِي قاد الْجِيَاد إِلَى الوغى ... سواي وَمن أعْطى كثيرا وَلم يكد) (فديتكم لم تفهموا السرّ إِنَّمَا ... قليتكم جهدي فأبعدتكم جهدي) وَحكى غَيره أَنه سئم تِلْكَ الْحَالة فَرَحل إِلَى صَاحب لاردة المظفر حسام الدولة أبي عمر يُوسُف بن سُلَيْمَان المستعين وَكَانَ أكبر أَوْلَاده وَالَّذِي يحادّ المقتدر لما كَانَ عَلَيْهِ من الشجَاعَة وَالْأَدب الْمفضل بِهِ على أهل بَيته فَأكْرمه

وأنزله ثمَّ وكرّ عَائِدًا إِلَى سرقسطة وبلاردة قَالَ قصيدته الفريدة الَّتِي أَولهَا (عليّ وَإِلَّا مَا بكاء الغمائم ... وفيّ وَإِلَّا مَا نياح الحمائم) وأنفذها إِلَى الْمُعْتَمد وَهِي تنيف على تسعين بَيْتا مر لَهُ فِيهَا إِحْسَان كثير وَمن فَاحش الْغَلَط قَول ابْن بسام أَن ابْن عمار قَالَ هَذِه القصيدة لما خَافَ من المعتضد لغلبته على ابْنه الْمُعْتَمد ففر من إشبيلية وَلحق بشرق الأندلس وَتمكن من المؤتمن بن هود قَالَ وَمن هُنَالك خاطبه بهَا فَلَمَّا قرعت سمع الْمُعْتَمد وجّه عَن ابْن عمار على التَّرْغِيب والتمكين واستوزره عدَّة سِنِين إِلَى الْمِيقَات الْمَضْرُوب وَالْأَجَل الْمَكْتُوب حكى ذَلِك فِي كتاب الذَّخِيرَة وَفِي أَخْبَار ابْن عمار من تأليفه وَلَا أَدْرِي كَيفَ غَابَ عَنهُ أَن مَا ادَّعَاهُ لوصح كَانَ قبل السِّتين أَو الْخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَولَايَة المؤتمن فِي جمادي الأول سنة أَربع وَسبعين وَلقَائِل أَن يَقُول لَعَلَّ ابْن عمار صَحبه فِي حَيَاة أَبِيه المقتدر وَهُوَ إِذْ ذَاك مرشح لمكانه فَيلْزمهُ أَن يَأْتِي على مقاله بِمَا يؤمنّه من إِبْطَاله والمتعارف أَن ابْن عمار لم يصحب المؤتمن بسرقسطة إِلَّا عِنْد فراره من مرسية فغلط ابْن بسام لَا خَفَاء بِهِ وَلَا امتراء فِيهِ قَالَ ابْن قَاسم وَاتفقَ أَن انتزى عَام لِابْنِ هود يَعْنِي المؤتمن

فِي معقل منيع من أَعماله وَكَانَت بَينه وَبَين ابْن عمار معرفَة فضمن لَهُ استنزاله وَسَار إِلَيْهِ فَلَمَّا نزل بساحته تشوّف ذَلِك الْعَامِل إِلَى برّه وَلم ير بَأْسا فِي إرقائه إِلَى قَصَبَة حصنه فِي رجلَيْنِ من جملَته فأوعز ابْن عمار إِلَى الصاعدين مَعَه أَن صبا سيفكما عَلَيْهِ إِذا رأيتماني أماشيه ويدي فِي يَده وَلَو قتلتماني وإياه ففعلا ذَلِك وفر أَصْحَابه عِنْد قَتله وألقوا بِأَيْدِيهِم إِلَى ابْن عمار متطارحين عَلَيْهِ ومستشفعين بِهِ إِلَى المؤتمن فضمن لَهُم تأمينه إيَّاهُم وصفحه عَن جنايتهم وخاطبه بذلك فورد جَوَابه بإمضاء مَا ألتزمه عَنهُ من الإغضاء ولطف محلّه عِنْده واستأنف الاعتناء بشؤونه فخاطب الْمُعْتَمد فِي تَسْرِيح عِيَاله وأبنائه الَّذين بإشبيلية فَلم يبعد لَهُ عَن الْإِسْعَاف على أَنه كتب فِي أثْنَاء مُرَاجعَته يحذرهُ مِنْهُ (وَالشَّيْخ لَا يتْرك أخلاقه ... حَتَّى يواري فِي ثرى رمسه) (إِذا ارعوى عَاد إِلَى ضِدّه ... كذى الضّنى عَاد إِلَى نكسه) قَالَ وَكَانَ إقبال الدولة عليّ بن مُجَاهِد صَاحب دانية قبل غَلَبَة ابْن هود عَلَيْهِ يَعْنِي المقتدر وَذَلِكَ فِي شعْبَان من سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة قد اسْتعْمل ابْنه سراج الدولة على معقل شقورة فَلَمَّا استولى المقتدر على دانية وَاحْتمل أَبَاهُ إِلَى سرقسطة انْفَرد هُوَ بشقورة وضبطها ثمَّ مَاتَ حتف أَنفه وَخلف على حرمه وَولده فِي قصبتها عَبْدَيْنِ أَبوهُمَا عبد لِأَبِيهِ من سبى سردانية هما إِبْرَاهِيم وَعبد الْجَبَّار ابْنا سُهَيْل فرأيا أَنَّهُمَا لَا يستقلان بضبط المعقل فَجعلَا يساومان بِهِ الرؤساء المحيطين بهما حَتَّى وصلت إشارتهما إِلَى المؤتمن بن هود فللذي اتّفق لِابْنِ عمار قبل مَعَ عَامل المؤتمن المنتزى عَلَيْهِ

سَوَّلت لَهُ نَفسه الخائنة إِعْمَال تِلْكَ الْحِيلَة فِي ابْني سُهَيْل أَو استنزالهما بالإرغاب فِي الثّمن فضمن لِابْنِ هود أَمرهمَا وَطلب مِنْهُ تَجْهِيزه فِي عَسْكَر يَسْتَعِين بِهِ على محاولته فأسعفه وَلما وصل إِلَى حضيض شقورة لم يقدّم شَيْئا على الصعُود إِلَيْهِمَا مَعَ صَاحِبيهِ الملازمين لَهُ وهما جَابر وهاد اللَّذَان يَقُول فيهمَا من كلمة لَهُ (عطّلت من حلي الرّكاب جيادي ... وسلبت أَعْنَاق الرِّجَال صعادي) (فَإِذا كسرت فثمّ خدن جَابر ... وَإِذا ضللت فثم آخر هاد) كَذَا أنْشد ابْن قَاسم وَلَا يعرف هَذَا الْبَيْت فِي قصيدته وَهِي شهيرة جليلة يُرَاجع بهَا أَبَا عِيسَى بن لبّون أَو أَخَاهُ أَبَا مُحَمَّد وَالْبَيْت الأول يرويهِ أَبُو الطَّاهِر التَّمِيمِي (عطّلت من حلي السُّرُوج جيادي ... وسلبت أَعْنَاق الْمطِي صعادي) قَالَ وَلما انْتهى ابْن عمار من مصعدها إِلَى درج لَا يتخطاه الصاعد حَتَّى يجذب بضبعه تقدم هُوَ فَرفع بِالْأَيْدِي وأشير على صَاحِبيهِ فولّيا منحدرين وَاحْتمل هُوَ إِلَى ذرْوَة القصبة فَشد وثَاقه وَانْصَرف عَسْكَر سرقسطة وَكَانَ ابْن عمار قد أحقد هذَيْن الْعَبْدَيْنِ حِين كتب أَيَّام رئاسته بمرسية إِلَيْهِمَا بِشعر أَوله (شمخت بكم فشمختم الأجبال ... تستنزل الْأَفْعَال) وَبعد قبضهما عَلَيْهِ طلبا بَيْعه من رُؤَسَاء الأندلس فتثاقلوا جَمِيعًا عَن ذَلِك وخفّ ابْن عباد إِلَيْهِ فأنفذ نَحْوهمَا بِكُل مَا سألاه ابْنه يزِيد الْمُسَمّى بالراضي فَنزلَا على حكمه وأسلماها إِلَيْهِ وإياه إِلَيْهِ فقدّم على الْحصن وَانْصَرف إِلَى أَبِيه

الْمُعْتَمد وَهُوَ بقرطبة وَابْن عمار بَين يَدَيْهِ مُقَيّد بَين عدلي تبن على هجن زوامل الْعَسْكَر وميل بِهِ إِلَى سجن قد أعد لَهُ وَعند قدوم الراضي شقورة لتسلمه كتب إِلَيْهِ (قَالُوا أَتَى الراضي فَقلت لَعَلَّهَا ... خلعت عَلَيْهِ من صِفَات أَبِيه) (فال جرى فَعَسَى الْمُؤَيد واهباً ... لي من رِضَاهُ وَمن أَمَان أَخِيه) (قَالُوا نعم فَوضعت خدي فِي الثرى ... شكرا لَهُ وتيمّناً ببنيه) (يَا أَيهَا الراضي وَإِن لم تلقني ... من صفحة الراضي بِمَا أدريه) (هبك احْتَجَبت لوجه عذر بيّن ... بذل الشَّفَاعَة أيّ عذر فِيهِ) (سهل على يدك الْكَرِيمَة أحرفاً ... فِي من أسرت فتنثني تفديه) وَلما قَارب قرطبة قَالَ يُخَاطب الْمَأْمُون الْفَتْح بن الْمُعْتَمد مستشفعاً بِهِ (هلا سَأَلت شَفَاعَة الْمَأْمُون ... أَو قلت مَا فِي نَفسه يَكْفِينِي) (مَا ضرّ لَو نبّهته بِتَحِيَّة ... يسري النسيم بهَا على دارين) يَقُول فِيهَا (بيد من الْمَأْمُون أوثق عصمَة ... لَو أَن أَمْرِي فِي يَد الْمَأْمُون)

(أَمْرِي إِلَى ملك إِلَيْهِ أمره ... وَكَفاهُ من فَوق كَفاهُ وَدون) (يَا فتح جرّدها عناية فَارس ... درب على نصر الوليّ أَمِين) (واقرن شفاعتك الْكَرِيمَة عِنْده ... بتواضع عَن عزة لَا هون) (فِي شكة من هَيْبَة وسكينة ... وبضجة من رَحْمَة وحنين) (يَا فتح إِن نازلته مستنزلاً ... فاهنأ بِفَتْح من رِضَاهُ مُبين) (وليخلصنّ إِلَيْك من أنفاله ... علق يشد عَلَيْهِ كفّ ضنين) وَكتب إِلَى الرشيد بن الْمُعْتَمد يستشفع بِهِ (قل لبرق الْغَمَام ظَاهر بريدي ... قَاصِدا بِالسَّلَامِ قصر الرشيد) (فتقلّب فِي جوّه كفؤادي ... وتناثر فِي صحنه كالفريد)

(وانتحب فِي صلاصل الرَّعْد تحكي ... ضجّتي فِي سلاسلي وقيودي) (فَإِذا مَا اجتلاك أَو قَالَ مَاذَا ... قلت إِنِّي رَسُول بعض العبيد) (بعض من أبعدته عَنْك اللَّيَالِي ... فاجتني طَاعَة الْمُحب الْبعيد) ثمَّ قَالَ يُخَاطب الْمُعْتَمد وَهُوَ بقرطبة (سجاياك إِن عافيت أندى وأسمح ... وعذرك إِن عَاقَبت أجلى وأوضح) (وَإِن كَانَ بَين الخطّتين مزية ... فَأَنت إِلَى الْأَدْنَى من الله أجنح) (حنانيك فِي أخذي بِرَأْيِك لَا تُطِع ... وشاتي وَلَو أثنوا عليّ وأفصحوا ... وإنّ رجائي أنّ عنْدك غير مَا ... يَخُوض عدوي الْيَوْم فِيهِ ويمرح) (وَلم لَا وَقد أسلفت ودّاً وخدمة ... يكرّان فِي ليل الْخَطَايَا فَيُصْبِح) (وهبني قد أعقبت أَعمال مُفسد ... أما تفْسد الْأَعْمَال ثمّت تصلح) (أَقلنِي بِمَا بيني وَبَيْنك من رضَا ... لَهُ نَحْو روح الله بَاب مفتّح) (وعفّ على آثَار جرم جنيته ... بهبّة رحمى مِنْك تمحو وتمصح) (وَلَا تستمع زور الوشاة وإفكهم ... فَكل إِنَاء بِالَّذِي فِيهِ يرشح) (سيأتيك فِي أَمْرِي حَدِيث وَقد أَتَى ... بزور بني عبد الْعَزِيز موشّح) (تخيّلتهم لَا درّ لله درّهم ... أشاروا تجاهي بالشمات وصرحوا)

(وَمَا ذَاك إِلَّا مَا علمت فإنني ... إِذا ثَبت لَا أَنْفك آسو وأجرح) (وَقَالُوا سيجزيه فلَان بِذَنبِهِ ... فَقلت وَقد يعْفُو فلَان ويصفح) (أَلا إِن بطشاً للمؤيد يرتمي ... وَلَكِن عفوا للمؤيد يرجح) (وَبَين ضلوعي من هَوَاهُ تَمِيمَة ... ستنفع لَو أَن الْحمام يجلّح) (وماذا عَسى الْأَعْدَاء أَن يتزيدوا ... سوى أَن ذَنبي ثَابت متصحّح) (نعم لي ذَنْب غير أَن لحلمه ... صفاة يزلّ الذَّنب عَنْهَا فيفصح) (سَلام عَلَيْهِ كَيفَ دَار بِهِ الْهوى ... إليّ فيدنو أَو عليّ فينزح) (ويهنيه إِن متّ السّلوّ فإنني ... أَمُوت وَبِي شوق إِلَيْهِ مبرّح) وكل مَا صدر عَن ابْن عمار فِي نكبته فَمن حرّ كَلَامه وَكفى بِهَذِهِ القصيدة حسن براعة ولطف ضراعة وَقد كَانَ خَاطب الْمُعْتَمد قبل ذَلِك من معتقله بِأَبْيَات مِنْهَا (وَالله مَا أَدْرِي إِذا ... قَالُوا غَدا يَوْم اللِّقَاء) (مَا أقتل الْحَالين لي ... إِن كَانَ خوفي أَو حيائي) فَمَا أصغي إِلَيْهِ وَلَا أُبْقِي عَلَيْهِ وَحكى أَبُو مُحَمَّد عبد الْملك بن أَحْمد بن صَاحب الصَّلَاة الْبَاجِيّ عَن بعض الكتّاب أَنه ماشى أَبَا جَعْفَر بن عَطِيَّة الْوَزير فِي صَدره عَن الأندلس

إِلَى مراكش وَقد أحس بالتغير عَلَيْهِ وتمكّن أعدائه مِنْهُ فِي مغيبه وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة قَالَ فرأيته مستوحشاً قلقاً فاستدناني واستنشدني قَول ابْن عمار (سجاياك إِن عافيت أندى وأسجح ... وعذرك إِن عَاقَبت أجلى وأوضح) فَأَنْشَدته القصيدة إِلَى آخرهَا فَلَمَّا أكملتها قَالَ لقد كَانَ ابْن عباد قاسي الْقلب وَقَول ابْن عمار فِيهَا سيأتيك فِي أَمْرِي حَدِيث الْبَيْت أَرَادَ بِهِ الْوَزير الأجلّ أَبَا بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز وَكَانَ وَاحِد وقته رفْعَة وجلالة وضدّ ابْن عمار صِيَانة وأصالة فتولّع بانتقاصه وغرى بذمّه فَكَانَ لَا يصدر عَنهُ مجتاز بِهِ إِلَّا أبلغه قدحه وَلَا يرد عَلَيْهِ شَاعِر إِلَّا ألزمهُ ثلبه وَلَا يحضرهُ ضيف إِلَّا أسمعهُ استراحته فِيهِ تعرّض المشروف للشريف حَتَّى لخاطب أهل بلنسية يغريهم بِهِ ويحضهم على الْقيام عَلَيْهِ وَقيل إِنَّمَا قَالَ ذَلِك حِين غدره ابْن عبد الْعَزِيز فِي حصن جملّة من أَعمال مرسية (خبّر بلنسية وَكَانَت جنَّة ... أَن قد تدلّت فِي سَوَاء النَّار) (غدرت وفياًّ بالعهود وقلما ... عثر الوفيّ سعى إِلَى الغدّار) (يَا أَهلهَا من غَائِب أَو حَاضر ... وقطينها من راسخ أَو طَار)

(جازوا بني عبد الْعَزِيز فَإِنَّهُم ... جرّوا إِلَيْكُم أَسْوَأ الأقدار) يَقُول فِيهَا (جَاءَ الْوَزير بهَا يكشّف ذيله ... عَن سوءة سوءي وعار عَار) (نكث الْيَمين وجار عَن سنَن التقى ... وَقضى على الإقبال بالإدبار) (آوى لينصر من نبا المثوى بِهِ ... ودهاه خذلان من الْأَنْصَار) (مَا كُنْتُم إِلَّا كأمةٍ صَالح ... فرماكم من طَاهِر بقدار) (هَذَا وخصّكم بأشام طَائِر ... وَرمى دِيَاركُمْ بألام جَار) وَفِي هَذِه القصيدة (كَيفَ التفلّت بالخديعة من يَدي ... رجل الْحَقِيقَة من بني عمار) فذيّله الْمُعْتَمد لما اتَّصل بِهِ هَذَا الشّعْر بقوله معرّضاً بِابْن عمار وزارياً عَلَيْهِ (الْأَكْثَرين مسوّداً ومملّكاً ... ومتوجاً فِي سالف الْأَعْصَار) (والمؤثرين على الْعِيَال بزادهم ... والضاربين لهامة الْجَبَّار) (الناهضين من المهود إِلَى الْعلَا ... والمنهضين الْغَار بعد الْغَار) (إِن كوثروا كَانُوا الْحَصَى أوفوخروا ... فَمن الأكاسر من بني الْأَحْرَار) (يُضحي مؤمّلهم يؤمّل سيبه ... ويبيت جارهم عَزِيز الْجَار)

(تبْكي عَلَيْهِم شنّبوس بعبرة ... كأتيّها المتدافع التيار) يَقُول فِيهَا (يَا شمس ذَاك الْقصر كَيفَ تخلّصت ... فِيهِ إِلَيْك طوارق الأقدار) (لما تنلك شعوب حَتَّى جَاوَزت ... غلب الرّقاب وسامي الأسوار) يُرِيد بشمس أمّ ابْن عمار وبشنّبوس قَرْيَة أَوَائِله من نواحي شلب فاهتاج ابْن عمار لذَلِك واستوحش وَبَلغت أَبْيَات الْمُعْتَمد إِلَى ابْن عبد الْعَزِيز فطار بهَا سُرُورًا وأحدثت لَهُ فِي نَفسه على ابْن عمار مكيدة وَذَلِكَ أَنه دس إِلَى مرسية نبيلاً من يهود الشرق لابس ابْن عمار حَتَّى اطْمَأَن إِلَيْهِ وأحله محلى الرِّوَايَة لأشعاره فِي هجاء ابْن عباد وَمن ذَلِك قَوْله (أَلا حيّ بالغرب حياًّ حَلَالا ... أناخوا جمالاً وحازوا جمالا) (وعرّج بيومين أمّ الْقرى ... ونم فَعَسَى أَن ترَاهَا خيالا)

(لتسأل عَن ساكنيها الرماد ... وَلم تَرَ للنار فِيهَا اشتعالا) وفيهَا إقذاع وَمِنْهَا (سأكشف عرضك شَيْئا فَشَيْئًا ... وأهتك سترك حَالا فحالا) ويومين اسْم قَرْيَة مِنْهَا أوّليّة بني عباد فَلَمَّا حصل الْيَهُودِيّ مِنْهَا وَهِي بِخَط يَده على بغيته طَار بهَا صادراً إِلَى ابْن عبد الْعَزِيز فطيّرها مدرجة طيّ كِتَابه إِلَى الْمُعْتَمد فَكَانَ ذَلِك مِمَّا أحنقه على ابْن عمار وأحفظه وَلما أَتَاهُ بِهِ ابْنه يزِيد الراضي أَقَامَ بقرطبة عدَّة لَيَال يحضرهُ فِي كل لَيْلَة مِنْهَا راسفاً فِي قيوده فيقرره على غدره ويوبخه بِفِعْلِهِ ويوقفه على أشعاره المدرجة إِلَيْهِ طيّ كتاب ابْن عبد الْعَزِيز ثمَّ انحدر بِهِ إِلَى إشبيلية فسجنه فِي بَيت خامل من بيُوت الْقصر أَيَّامًا ثمَّ قَتله بِيَدِهِ وَكَانَ أسره بشقورة لست بَقينَ من شهر ربيع الأول سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وقدوم الراضي بِهِ على قرطبة يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس من رَجَب فِيهَا وَقيل إِن القادمين بِهِ مَعَ الراضي لما سلموه إِلَى الْقصر دعوا ذَلِك الْيَوْم بعد الْعَصْر فِي سلَاح شَاك وتعبئة ظَاهِرَة ليصحبوه إِلَى إشبيلية فأقاموا على ذَلِك إِلَى اللَّيْل ينتظرون تَسْلِيمه إِلَيْهِم ثمَّ لم يرعهم إِلَّا خُرُوج الْمُعْتَمد والشمع بَين يَدَيْهِ وَالْحرم حواليه وَابْن عمار بَينهُنَّ على بغل وَهن يهزأن بِهِ ويتضاحكن مِنْهُ فأعربت حَاله يَوْمئِذٍ بمبادئها عَن سوء الْعَاقِبَة فِيهَا وَورد على الْمُعْتَمد غير مَا خطاب فِيهِ بالشفاعة فسدّ الْبَاب فِي ذَلِك وشدّ صفاده هُنَالك

وَحدث أَبُو بكر المنجم أَن ابْن عمار استدعى سحاءة ودواة فِي اعتقاله بقصر إشبيلية فَبعث الْمُعْتَمد إِلَيْهِ بِزَوْج كاغد فَكتب إِلَيْهِ شعرًا بستعطفه بِهِ فعطف عَلَيْهِ وأحضره ليلته تِلْكَ ووعده الْعَفو عَنهُ فخاطب ابْن عمار الرشيد بن الْمُعْتَمد بذلك فلمح المخاطبة وزيره عِيسَى ابْن الْأُسْتَاذ أبي الْحجَّاج الأعلم فأشاع الحَدِيث وَبلغ ذَلِك أَبَا بكر بن زيدون وَكَانَ شَدِيد الْعَدَاوَة لِابْنِ عمار فتخلّف عَن الرّكُوب إِلَى الْقصر حَتَّى وجّه فِيهِ الْمُعْتَمد فعرّفه أَن مَجْلِسه مَعَ ابْن عمار وصل إِلَيْهِ فازداد الْمُعْتَمد حنقاً عَلَيْهِ وحرّك ذَلِك من ضغنه وَقَالَ لأحد المجابيب سل ابْن عمار كَيفَ وجد السَّبِيل مَعَ الترقيب إِلَى إفشاء مَا أخذت مَعَه البارحة فِيهِ فسلك سَبِيل الْإِنْكَار ثمَّ قَالَ إِنِّي خاطبت الرشيد وأعلمته بِمَا وَعَدَني بِهِ مَوْلَانَا من الْعَفو فاتقّد الْمُعْتَمد وَقَامَ من فوره وَأخذ زَعَمُوا طبرزيناً وَدخل إِلَيْهِ فَفَزعَ

كَمَا كَانَ فِي قيوده إِلَى تَقْبِيل رجلَيْهِ فَضَربهُ بِهِ ثمَّ أَمر فأجهز عَلَيْهِ وَمِمَّا يشْهد أَنه بَاشر قَتله قَول عبد الْجَلِيل بن وهبون يرثيه بِبَيْت مُفْرد وَهُوَ (عجبا لمن أبكيه ملْء مدامعي ... وَأَقُول لَا شلت يَمِين الْقَاتِل) وَأخْبر ذُو الوزارتين صَاحب الْمَدِينَة أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سَلام بتَخْفِيف اللَّام الشّلبي وَكَانَ من صميم إخْوَان ابْن عمار قَالَ إِنِّي لفي أَرْجَى مَا كنت لإقالة ابْن عمار وَقد هيأت لِخُرُوجِهِ مَجْلِسا من أحسن مجَالِس دوري يُقيم فِيهِ ريثما تخلى لَهُ دوره إِذا رَسُول الْمُعْتَمد بستدعيني فَمَا شَككت فِي تَمام مَا كنت أريده لِابْنِ عمار فَلَمَّا وصلت فصيل الْقصر إِذا هُوَ متشحّط فِي دمائه ممرّغ فِي ثِيَابه طريح فِي قَيده فَقَالَ لي الفتيان يَقُول لَك السُّلْطَان هَذَا صديقك الَّذِي كنت أَعدَدْت لَهُ سر بِهِ وأنزله فَأمرت من حضرني من الحرس بسحبه فِي أسماله طوراً على وَجهه وَتارَة على قذاله إِلَى أساس جِدَار قريب من سواقي الْقصر فَطرح فِي حَوْض محتفر للجيّار وَهدم عَلَيْهِ شفيره قَالَ ابْن قَاسم الشّلبي وَأكْثر خبر ابْن عمار عَنهُ إِلَى مَا تخلله من الزِّيَادَات المفيدة عَن ابْن بسام وَغَيره وَوجد لَهُ فِي قرَابه بعد قَتله بِخَط يَده

(يَقُول قوم إِن الْمُؤَيد قد ... أحَال فِي فديتي على نَقده) (فَقلت مَاذَا الشِّرَاء ثَانِيَة ... ترى لِمَعْنى يريب من عِنْده) (أوحشني والسماح عَادَته ... سماحه بِالْعَلَاءِ فِي عَبده) (الْحَمد لله إِن يكن حرجاً ... فَلَيْسَ فِي مثلهَا سوى حَمده) (وحيلة إِن وصلت حَضرته ... أجعلها رَغْبَة إِلَى جنده) (لَو سامحوا فِي الفرند أرمقه ... من طرفه لم أخفه من غمده) (لَكِن على الغرب عَارض زجل ... مرتمياً بالشرار من زنده) (أَخْضَر يفترّ من جوانبه ... كالبحر فِي جزره وَفِي مدّه) (يَا ربّ بشّر برحمة وَحيا ... يُونُس من برقه وَمن رعده) ويحكي عَن الْمُعْتَمد فِي قتل ابْن عمار خبر طريف من الْحدثَان تلخيصه أَنه كَانَ أَيَّام مقَامه بشلب قد أَخذ عَلَيْهِ وَأمره إِذا دَعَا أَصْحَابه أَن يكون أول دَاخل وَآخر خَارج ليأنس بِهِ ويتمتع بأدبه فَكَانَ يجده ينفر من ذَلِك وَيكثر التسلل من مَجْلِسه فَتقدم لَيْلَة إِلَى أَصْحَاب سدّته بترقّبه وَمنعه بعد وَعِيد شَدِيد وَقَامَ ابْن عمار على عَادَته فَلم يحفل الْمُعْتَمد بذلك حَتَّى إِذا انفضّ من كَانَ عِنْده طلبه فَمَا وجده فأحضر الموكلين بترقبه وَأخذ فِي تعنيفهم فَأخْبرُوا أَنهم لم يعاينوه وَلَا خرج عَلَيْهِم فراب الْمُعْتَمد أمره وَشهر سَيْفه وَجعل يَطْلُبهُ والشمع بَين يَدَيْهِ فَلَمَّا انْتهى إِلَى بعض الدهاليز إِذا بحصير مطويّ وَابْن عمار فِيهِ أغمض من سر خفيّ عُرْيَان كَأَنَّهُ أفعوان فَأمر بِحمْلِهِ وَجعل يعجب من

فعله وَلابْن عمار بكاء وروع مفرط فَلَمَّا أفرخ روعه ورقأ دمعه سَأَلَهُ عَن شَأْنه فَأخْبر أَنه كلما أخذت مِنْهُ الشُّمُول سمع كَأَن قَائِلا يَقُول هَذَا يقتلك فينفر عِنْد ذَلِك وينفر وَيحمل نَفسه على الْقَرار فَلَا تقر حَتَّى أمضى الله عَليّ يَدَيْهِ مَا كتب من ذَلِك عَلَيْهِ والمقدر كَائِن أتيت بِخَبَر ابْن عمار على الْكَمَال فكثيراً مَا يتشوف إِلَيْهِ وَلَا يُوقف عَلَيْهِ وَمَا أعلم أحد سَاقه هَذَا المساق وَلَعَلَّ عذر الإفادة يُقَاوم لوم الإطالة وَمن شعره فِي غير مَا تقدم أهْدى إِلَى الْمُعْتَمد ثوب صوف بحري يَوْم نيروز وَكتب مَعَه (لما رَأَيْت النَّاس يحتشدون فِي ... إتحاف يَوْمك جِئْته من بَابه) (فَبعثت نَحْو الشَّمْس شبه أياتها ... وكسوت متن الْبَحْر بعض ثِيَابه) فوجّه إِلَيْهِ الْمُعْتَمد بمكبّة فضَّة فِيهَا خَمْسمِائَة دِينَار وَقيل خَمْسَة آلَاف دِينَار ذَهَبا وَكتب مَعهَا (هبة أتتك من النضار ألوفها ... فاغنم جزيل المَال من وهّابه)

(فَلَو أَن بَيت المَال يحوي قفله ... أضعافها لكسرته عَن بَابه) (وملأت مِنْهُ يَديك لَا مستأثراً ... فِيهِ عَلَيْك لكَي ترى أولى بِهِ) (فالبحر يطفح جوده لَك زاخراً ... لما كسوت الْبَحْر بعض ثِيَابه) وَأهْدى أَيْضا تفاحاً وإجّاصاً إِلَى بعض أَصْحَابه وَكتب مَعهَا (خُذْهَا كَمَا سفرت إِلَيْك خدود ... أَو أوجست فِي راحتيك نهود) (درراً من التفاح تنثر بَيْننَا ... وَلها بأجياد الغصون عُقُود) (خُذْهَا وناولها النّدام فَإِنَّهَا ... رَاح دهاها فِي الشتَاء جمود) (وشفعت بالإجاص قصدا إِنَّه ... وشكل الْجمال وحدّه الْمَحْدُود) (عذرا إِلَيْك فَإِنَّمَا هِيَ أوجه ... بيض تقارنها عُيُون سود) وأهدي أَيْضا خمرًا طبقًا فِيهِ تفاحتان ورمانتان وَكتب مَعهَا (خذوها مِثْلَمَا استهديتموها ... عروساً لَا تزفّ إِلَى اللئام) (ودونكم بهَا ثديى فتاة ... أضفت إِلَيْهِمَا خدّي غُلَام) وَله فِي الخرشف (وَنبت مَاء وترب جودها أبدا ... لمن يرجّيه فِي ثوب من الْبُخْل) (كَأَنَّهَا فِي جمال وَامْتِنَاع ذري ... خود من الرّوم فِي درع من الأسل)

وَله فِي طبق من الْفضة مذهّب الْبَاطِن (وسماء من الْغنى قد أسالت ... ذَهَبا فِي قرارة من لجين) (فاجتنت حولهَا الْعُيُون بلطف ... زهر الْحسن من بنان الْيَدَيْنِ) وَله فِي زورق (وَجَارِيَة مثل الْهلَال ألفتها ... على نهر مثل السَّمَاء رَقِيق) (تجلّى لنا الإصباح وَهُوَ زمرد ... فَأَلْقَت عَلَيْهِ الشَّمْس ثوب عقيق) وَله وضمّن أَوَائِل الأبيات اسْم قينة (نَفسِي وَإِن عذبتها تهواك ... ويهزها طرب إِلَى لقياك) (عجبا لهَذَا الْوَصْل أصبح بَيْننَا ... متعذراً ومناي فِيهِ مناك) (مَا بَال قلبِي حِين رامك لم ينل ... وَلَقَد ترومك مقلتي فتراك) (الله أعلم مَا أَزور لحَاجَة ... ذَاك المحلّ لغير أَن أَلْقَاك) (لَيْت الرَّقِيب إِذا الْتَقَيْنَا لم يكن ... فأنال رياًّ من لذيذ لماك) (متنزهاً فِي روض خدك شارباً ... كأس الفتور تديرها عَيْنَاك) (حكت الغصون جمال قدك فانثنت ... وَالْفضل للمحكىّ لَا للحاكي) (لَا تعزبي يَا رَوْضَة ممطورة ... حَتَّى أمدّ يَدي إِلَى مجناك) وَله (أَنا ابْن عمار لَا أُخْفِي على بشر ... إِلَّا على جَاهِل بالشمس وَالْقَمَر) (وَبَين طبعي وذهني كلّ سَابِقَة ... كالسهم يبعد بَين الْقوس وَالْوتر) (إِن كَانَ أخّر فِي دهري فَلَا عجب ... فَوَائِد الْكتب يستلحقن فِي الطّرر)

لم أجد هَذِه الأبيات الثَّلَاثَة فِي مَا جمع أَبُو الطَّاهِر التَّمِيمِي من شعر ابْن عمار فأضفتها إِلَيْهِ وكتبتها فِي نُسْخَتي مِنْهُ وَقد وَقعت فِي بعض نسخه وَكَذَلِكَ قَوْله مبتدهاً فِي المعتصم مُحَمَّد بن معن بن صمادح وَقد مرّ بقصره وَحَوله جمَاعَة من الشُّعَرَاء كَانُوا قد مدحوه وَأَبْطَأ عَنْهُم عطاؤه وَتعذر عَلَيْهِم القَوْل فِي استنجازه فارتجل على ألسنتهم (يَا أَيهَا الْملك الَّذِي شاد الْعلَا ... معن أَبوهُ وخاله الْمَنْصُور) (بِفنَاء قصرك عصبَة أدبية ... لَا زَالَ وَهُوَ بِجَمْعِهِمْ معمور) (زفّوا إِلَيْك بَنَات أفكار لَهُم ... واستبطأوك فَهَل لَهُنَّ مُهُور) 134 - أَبُو مُحَمَّد بن هود الجذامى ذُو الوزارتين لم أَقف على اسْمه وَهُوَ أحد النجباء الأدباء من أهل بَيته مُلُوك سرقسطة والثغر الْأَعْلَى وَنبت بِهِ دَرَاهِم فتجوّل بموسطة الأندلس وغربها قَاصِدا رؤساءها واختص مِنْهُم بالمتوكل عمر بن مُحَمَّد بن الْأَفْطَس فولاه مَدِينَة الأشبونة من أَعماله ثمَّ صرف عَنْهَا وَصدر مَحْمُود السِّيرَة مَعْرُوف النزاهة وَهُوَ الْقَائِل فِي خُرُوجه من سرقسطة يُخَاطب قومه (ضللتم جَمِيعًا آل هود عَن الْهدى ... وضيّعتم الرَّأْي الْمُوفق أجمعا) (وشنتم يَمِين الْملك بِي فقطعتم ... بِأَيْدِيكُمْ مِنْهَا وبالغدر إصبعا) (وَمَا أَنا إِلَّا الشَّمْس غير غياهب ... دجت فَأَبت لي أَن أنير وأسطعا) (وَإِن طلعت تِلْكَ البدور أهلة ... فَلم يبْق إِلَّا أَن أغيب وأطلعا) (وَلَا تقطعوا الْأَسْبَاب بيني وَبَيْنكُم ... فأنفكم مِنْكُم وَإِن كَانَ أجدعا)

وَله وَقد احْتَرَقَ بَيته أَيَّام مقَامه بطليطلة (تركت محلي جنَّة فَوَجَدته ... على حكم أَيدي الحادثات جهنما) (لتصنع بِي الْأَيَّام مَا شئن آخرا ... فَمَا صنعت بِي أَولا كَانَ أعظما) وَله فِي المتَوَكل أَيَّام سُلْطَانه بيابرة ( ... ... ... ... ... . . ... ... . . فَالَّذِي يخْشَى من الحذر) ( ... ... ... ... ... . ... ... ... بِالْخَيرِ) وَله مِمَّا نقش على رئاس سيف المتَوَكل (لَا تخش ضيماً وَلَا تصبح أَخا فرق ... إِذا رياسى فِي يمني يَديك بَقِي) (أَصبَحت أمضي من الْحِين المتاح فصل ... على الكماة وَبِي عِنْد الوغى فثق) (لَوْلَا فتور بألحاظ الظباء إِذا ... لَقلت إِنِّي أمضي من ظَبْي الحدق) وَله وَقد سُئِلَ عَمَّا اكْتَسبهُ فِي ولَايَته (وَسَائِل لي لما ... صدرت عَمَّا وليت) (مَا نلْت قلت ثَنَاء ... يبْقى معي مَا بقيت) (فَإِن أمت كَانَ بعدِي ... مخلداً لَا يَمُوت) (عفت الفضول لعلمي ... أَن لَيْسَ يعْدم قوت) (وصنت قدري عَنْهَا ... مُجملا فغنيت)

135 - أَبُو عِيسَى بن لبّون ذُو الوزارتين هُوَ لبّون بن عبد الْعَزِيز بن لبّون وَكَانَ من جملَة أَصْحَاب الْقَادِر يحيى

ابْن ذِي النُّون وَرَأس بمربيطر من أَعمال بلنسية ثمَّ تخلّى عَنْهَا لأبي مَرْوَان عبد الْملك بن رزين صَاحب شنتمريّة الشرق أَيَّام تغلب رذريق الْمَعْرُوف بالكنبيطور على بلنسية وإحرافه لرئيسها أبي أَحْمد بن جحاف وَسَار مَعَه إِلَى شنتمريّة ثمَّ نَدم بعد ذَلِك واستقل مَا كَانَ يجْرِي عَلَيْهِ فَقَالَ (ذروني أجب شَرق الْبِلَاد وغربها ... لأشفي نَفسِي أَو أَمُوت بدائي) (فلست ككلب السوء يرضيه مربض ... وَعظم وَلَكِنِّي عِقَاب سَمَاء) (تحوم لكيما يدْرك الخصب حومها ... أَمَام أَمَامِي أَو وَرَاء ورائي) (وَكنت إِذا مَا بَلْدَة لي تنكرت ... شددت إِلَى أُخْرَى مطي إبائي) (وسرت وَلَا ألوي على مُتَعَذر ... وصممت لَا أصغي إِلَى النصحاء) (كشمس تبدت للعيون بمشرق ... صباحا وَفِي غرب أصيل مسَاء) وَله من أُخْرَى فِي مثل ذَلِك (خليلي مَا بالي على صدق عزمتي ... أرى من زماني وَنِيَّة أَو تعذرا) (وَوَاللَّه مَا أَدْرِي لأي جريمة ... تجنى وَلَا عَن أَي ذَنْب تغيرا) (وَلم أك عَن كسب المكارم عَاجِزا ... وَلَا كنت فِي نيل أنيل مقصرا) (لَئِن شان تمزيق الزَّمَان لدولتي ... لقد رد عَن جهل كثير وبصرا) (وَأَيْقَظَ من نوم الغرارة نَائِما ... وَكسب علما بِالزَّمَانِ وبالورى)

وَكَانَ أَبُو عِيسَى معدوداً فِي الأجواد مَوْصُوفا بتجويد القريض وطالت إِقَامَته فِي كنف ابْن رزين إِلَى أَن توفى هُنَالك وَقيل بل توفى بسرقسطة وَأما أَخُوهُ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن لبون فَكَانَ واليا على لورقة وَتوفى بهَا بعد وقيعة الزلاقة بِيَسِير وَسَيَأْتِي ذكره فَقَالَ أَبُو عِيسَى يرثيه وَيذكر أَخَوَيْهِ المتوفيين قبله أَبَا وهب عَامِرًا وَكَانَ ضابطا لقصر بلنسية وَأَبا شُجَاع أَرقم وَكَانَ واليا على وبذة من سنت ابرية وَكَانَ إِبْرَاهِيم أَبُو الْأَصْبَغ من كبار أَصْحَاب الْمَأْمُون بن ذى النُّون وَهُوَ الَّذِي اسْتخْلف على بلنسية فِي خُرُوجه لتملك شاطبة (قل لصرف الْحمام لم ذَا التناهي ... فِي تلقيك لي بهذى الدَّوَاهِي) (كَانَ فِي عَامر وأرقم مَا يَكْفِي ... فَهَلا أبقيت عبد الْإِلَه) (فبه بعد كنت أستدفع الْخطب ... وأسطو على العدا وأباهي) (أَي شمس وافي عَلَيْهَا أفول ... فل غربي عزائمي ونواهي) وَله يُخَاطب أَبَا اليسع كَاتب أَخِيه وَالَّذِي خَلفه بعد على لورقة (لَو كنت تشهد يَا هَذَا عشيّتنا ... والمزن يمسك أَحْيَانًا وينحدر) (وَالْأَرْض مصفرة بالقطر كاسية ... أَبْصرت تبراً عَلَيْهِ الدرّ ينتثر) وَهَذَا كَقَوْل الأسعد بن بلّيطة وأجاد مَا أَرَادَ (لَو كنت شاهدنا عَشِيَّة أمسنا ... والمزن يبكينا بعيني مذنب)

(وَالشَّمْس قد مدت أَدِيم شعاعها ... فِي الأَرْض تجنح غير أَن لم تغرب) (خلت الرذاذ برادة من فضَّة ... قد غربلت من فَوق نطع مَذْهَب) وَلابْن لبّون (سقى أَرضًا ثووها كلّ مزن ... وسايرهم مُرُور وارتياح) (فَمَا ألوي بهم هلك وَلَكِن ... صروف الدَّهْر وَالْقدر المتاح) (سأبكي بعدهمْ حزنا عَلَيْهِم ... بدمع فِي أعنّته جماح) وَله (يَا لَيْت شعري وَهل فِي لَيْت من أرب ... هَيْهَات لَا تبتغي من لَيْت آرَاب) (أَيْن الشموس الَّتِي كَانَت تطالعنا ... والجو من فَوْقه لِليْل جِلْبَاب) (وَأَيْنَ تِلْكَ اللَّيَالِي إِذْ تلمّ بِنَا ... فِيهَا وَقد نَام حرّاس وحجّاب) (تهدي إِلَيْنَا لجيناً حشوه ذهب ... أنامل العاج والأطراف عنّاب) وَله (قُم يَا نديم أدر عليّ القرقفا ... أَو مَا ترى زهر الرياض مفوّفا) (فتخال محبوباً مدلاًّ وردهَا ... وتظن نرجسها محباًّ مدنفا) (والجلّنار دِمَاء قَتْلِي معرك ... والياسمين حباب مَاء قد طفا) وَله (يَا رب ليل شربنا فِيهِ صَافِيَة ... حَمْرَاء فِي لَوْنهَا تَنْفِي التباريحا)

(ترى الْفراش على الأكواس سَاقِطَة ... كَأَنَّمَا أَبْصرت مِنْهَا مصابيحا) وَله يُعَاتب (لحا الله قلبِي كم يحنّ إِلَيْكُم ... وَقد بعتم حظي وَضاع لديكم) (إِذا نَحن أنصفناكم من نفوسنا ... وَلم تنصفونا فالسلام عَلَيْكُم) وَله فِي زهده وإقلاعه والتزامه بَيته عِنْد انخلاعه (نفضت كفي من الدُّنْيَا وَقلت لَهَا ... إِلَيْك عني فَمَا فِي الْحق أغتبن) (من كسر بَيْتِي لي روض وَمن كتبي ... جليس صدق على الْأَسْرَار مؤتمن) (أَدْرِي بِهِ مَا جرى فِي الدَّهْر من خبر ... فَعنده الْحق مسطور ومختزن) (وَمَا مضى بِي سوى موتِي ويدفنني ... قوم وَمَا لَهُم علم بِمن دفنُوا) 136 - أَبُو عَامر بن الْفرج ذُو الوزارتين كَانَ من بَيت رئاسة تصرّف آباؤه وَقَومه مَعَ بني ذِي النُّون مُلُوك طليطلة وَإِلَى أبي سعيد مِنْهُم وَهُوَ وَال على كونكة توجّه المظفر عبد الْملك ابْن الْمَنْصُور عبد الْعَزِيز بن أبي عَامر حِين خلعه الْمَأْمُون بن ذِي النُّون من

بلنسية فِي ذِي الْحجَّة سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَأَبُو عَامر هَذَا هُوَ الْقَائِل يَسْتَدْعِي أَبَا مُحَمَّد الْمصْرِيّ إِلَى مجْلِس أنس (أَنا قد أهبت بكم وكلّكم هوى ... وأحقّكم بالشكر مني السَّابِق) (وَالشَّمْس أَنْت وَقد أطلّ طُلُوعهَا ... فَاطلع وَبَين يَديك فجر صَادِق) وَله يعْتَذر (مَا تخلّفت عَنْك إِلَّا لعذر ... ودليلي فِي ذَاك حرصي عليكا) (هبك أَن الْفِرَار عَن غير عذر ... أتراه يكون إِلَّا إليكا) وَله إِلَى وسيم من معارفه يَسْتَدْعِي مِنْهُ خمرًا لعلاج ابْنه (أرسل بهَا مثل ودّك ... أرقّ من مَاء خدك) (شَقِيقَة النَّفس فانضح ... بهَا جوى ابْني وَعَبْدك) 137 - أَبُو الْحسن بن اليسع الْكَاتِب ذُو الوزارتين كتب لأبي مُحَمَّد بن لبّون صَاحب لورقة وَخَلفه عَلَيْهَا بعد وَفَاته واستبد

بضبطها دون بنيه إِلَى أَن تخلى عَنْهَا للمعتمد مُحَمَّد بن عباد وَنَدم عَلَيْهِ بقرطبة وَحضر غَزْوَة الزّلاّقة مَعَه وَذكر أَبُو بكر بن قَاسم الشّلبي فِي تَارِيخه الْمَجْمُوع فِي أَخْبَار ابْن عمّار مَا يُخَالف هَذَا وَسَيَأْتِي نَصه بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى كَانَ ابْن اليسع مَاجِنًا صَاحب بطالة وراحة أديباً شَاعِرًا وَهُوَ الْقَائِل يُخَاطب أَبَا بكر ابْن اللبانة (تشرق آمالي وسعيى يغرّب ... وتطلع أوجالي وأنسي يغرب) (سريت أَبَا بكر إِلَيْك وَإِنَّمَا ... أَنا الْكَوْكَب الساري تخطاه كَوْكَب) (فبالله إِلَّا مَا منحت تَحِيَّة ... تكرّ بهَا السّبع الدراري وَتذهب) (وَبعد فعندي كلّ علق تصونه ... خلائق لَا تفني وَلَا تتقلب) (كتبت على حَالين بعد وعجمة ... فيا لَيْت شعري كَيفَ ندنو فنعرب) وَكَانَ فِي لَيْلَة الشَّك من شعْبَان بِخَارِج قرطبة إِذْ قدم على الْمُعْتَمد فِي لمّة من أعيانها مِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن بن سراج وَقد غلبوه على الْمسير مَعَهم فَخرج مكْرها وغرضه الاسْتِرَاحَة وَكَانَ تَحْتَهُ فرس عَتيق فَأخذ مَعَهم فِي أمره حِيلَة فِي إجرائه والانفصال عَنْهُم على تِلْكَ الْحَال وركضه موليا عَنْهُم وراجعاً إِلَى منزله ليخلو براحته فَمَا انصرفوا إِلَّا وهلال رَمَضَان ظَاهر فَكتب إِلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْن ابْن سراج (عمري أَبَا حسن لقد جِئْت الَّتِي ... عطفت عَلَيْك ملامة الإحوان) (لما رَأَيْت الْيَوْم ولّى عمره ... وَاللَّيْل مقتبل الشبيبة دَان) (وَالشَّمْس تنفض زعفراناً بالرّبى ... وتفتّ مسكتها على الْغِيطَان)

(أطلعتها شمسا وَأَنت عُطَارِد ... وخففتها بكواكب النّدمان) (وأتيت بدعاً فِي الْأَنَام مخلداً ... فِيمَا قرنت ولات حِين قرَان) (ولهيت عَن خلّي صفاء لم يكن ... يلهيهما عَنْك اقتبال زمَان) (غَنِيا بذكرك عَن رحيق سلسل ... وَحَدَائِق خضر وعزف قيان) (ورضيت فِي دفع الْمَلَامَة أَن ترى ... مُتَعَلقا بالعذر من حسّان) فَرَاجعه بقوله (وَأَنا أَسَأْت فَأَيْنَ عفوك مُجملا ... هبني عصيت الله فِي شعْبَان) (لَو زرتني والآن تحمد زورتي ... كنت الْهلَال أَتَى بِلَا رَمَضَان) وَله فِي أبي بكر بن القبطورنة يستهدي مشروباً وَهُوَ ببطليوس فِي غزَاة الزلاّقة (عطشت أَبَا بكر وكفّك دِيمَة ... وذبت اشتياقاً والمزار قريب) (فخفّف وَلَو بعض الَّذِي أَنا وَاجِد ... فَلَيْسَ بحقّ أَن يضاع غَرِيب) (ووفّر لنا من تِلْكَ حظاًّ نرى بِهِ ... نشاوي وَبعد الْغَزْو سَوف نتوب) فوجّه إِلَيْهِ مَطْلُوبه وتضييفاً مَعَه وَكتب إِلَيْهِ (أَبَا حسن مثلي بمثلك عَالم ... وَمثلك بعد الْغَزْو لَيْسَ يَتُوب) (فَخذهَا على مَحْض الصفاء كَأَنَّهَا ... سنا مَالهَا بعد الْحساب ثؤوب) وَله إِلَى أبي بكر بن عمار (لما دَنَوْت وَعِنْدِي ... حَظّ من الشوق واف) (قدّمت قلبِي قبلي ... فصنه حَتَّى أوافي) وَلما تحرّك الْمُعْتَمد إِلَى لورقة فِي الْجَيْش الَّذِي ترك عِنْده ابْن تاشفين

بعد غَزْوَة الزلافة وغرضه التَّمَكُّن من ابْن رَشِيق لتمنّعه عَلَيْهِ بمرسية كتب إِلَيْهِ أَبُو الْحسن بن اليسع وَقد قرب مِنْهُ (هذي سماؤك فلتصعد إِلَى أمل ... أمنيتي مِنْهُ رعيي فِي كواكبها) (منعتها وملوك الْوَقْت تطلبها ... سعياً لملكك فلتهنأ بِهِ وَبهَا) وَقصد الْمُعْتَمد مرسية فِي هَذِه الْحَرَكَة فَلم يظفر مِنْهَا بطائل وخدعه ابْن رَشِيق وداخل الواصلين مَعَه من المرابطين على جَيش ابْن تاشفين فَانْصَرف إِلَى إشبيلية وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة حرك الْمُعْتَمد ابْن تاشفين للغزو بعد أَن أجَاز إِلَيْهِ الْبَحْر ولقيه على وَادي سبوا وبمنعطف مِنْهُ يعرف بالدّخلة فقصدوا جَمِيعًا حصن ألييط وَبَينه وَبَين لورقة اثْنَا عشر ميلًا وَالروم يعيثون مِنْهُ فِيمَا حوله وَابْن رَشِيق يعينهم وَعلم الطاغية أذفونش بذلك فَتحَرك لغياث الْحصن والدفاع عَن أَهله فَوَقع الانزعاج واستراب ابْن تاشفين وتحيز إِلَى لورقة وَأقَام هُنَاكَ أَيَّامًا وَيُقَال إِن جَيش الطاغية فِي حركته هَذِه نيّف على ثَمَانِيَة عشر ألفا بَين خيل وَرجل فأهلكهم الله بالوباء وَلم ينْصَرف إِلَّا فِي أقل من خَمْسَة آلَاف وَلما فصلت جيوش الْمُسلمين مَعَ ابْن تاشفين وَقد صَار أَمر مرسية إِلَى الْمُعْتَمد وَكَانَ ابْن رَشِيق فِي قَبضته ترك ابْن اليسع على لورقة والياً وَترك ابْن رَشِيق مسجوناً عِنْده فَقَالَ فِي ذَلِك أَبُو الْحسن جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم بن الْحَاج اللورقي

(قل لي ابْن لي هَل تأملتها ... أَو هَل تدبرت لَهَا عاقبه) (بالْأَمْس أعيتك رشيقية ... وَالْيَوْم أحدثت لَهَا صَاحبه) هَذَا خبر ابْن الشّلبي مَعَ مَا انضاف إِلَيْهِ من غَيره 138 - حريز بن حكم بن عكّاشة صحب أَبوهُ حكم أَبَا الْحسن إِبْرَاهِيم بن يحيى الْمَعْرُوف بِابْن السّقاء وَزِير أبي الْوَلِيد بن جهور رَئِيس قرطبة فسجن عِنْد قَتله مَعَ أَصْحَاب الجرائم

إِلَى أَن هرب من محبسه وَلحق بالمأمون بن ذِي النُّون فنصح لَهُ وَكَانَ شهماً صَارِمًا فولاه بعض الْحُصُون الْمُجَاورَة لقرطبة فَدَخلَهَا بعد خلع بني جهور فِي خبر طَوِيل وَقتل أميرها حِينَئِذٍ عبّاداً الملقب بسراج الدولة بن الْمُعْتَمد مُحَمَّد ابْن عباد وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَأْمُون وَهُوَ ببلنسية وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فورد الْمَأْمُون قرطبة وَأقَام بهَا نَحوا من سِتَّة أشهر تمّ توفّي فِي ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَاحْتمل إِلَى طليطلة فَدفن بهَا وَبَقِي حكم ابْن عكاشة بقرطبة نَائِبا عَن الْقَادِر يحيى بن إِسْمَاعِيل بن الْمَأْمُون بن ذِي النُّون بعد أَن جددت لَهُ الْبيعَة بهَا وَبلغ ذَلِك الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد فَأقبل فِي جموعه طَالبا بثأر ابْنه عباد وَعلم ابْن عكّاشة أَنه لَا طَاقَة لَهُ بِهِ فهرب عِنْد ذَلِك وَأسلم قرطبة فَدَخلَهَا الْمُعْتَمد وَأتبعهُ خيلاً لحقته فَقتل وَجِيء لَهُ بِهِ فصلب مَعَ كلب وَولى ابْنه حريز هَذَا قلعة رَبَاح للقادر بن ذِي النُّون وَهُوَ الَّذِي

امتحن أَبَا الْحسن بن السّيد البطليوسي لما اتهمه وكاتبه بمداخلة المتَوَكل بن الْأَفْطَس صَاحب بطليوس فبطش بالكاتب وأفات نَفسه وَحبس أَبَا الْحسن فِي بَيت ضيق وَكَانَ يجْرِي عَلَيْهِ رغيفا لَا شَيْء مَعَه إِلَّا أَن ضعف وَهلك وَقتل حريز فِي سنة ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة على حصن مسطاسة وَقد كَانَ

أهل فحص البلوط أسروه وسيق إِلَى الْمُعْتَمد فمنّ عَلَيْهِ وَأطْلقهُ وَمن شعره مَا حكى الْفَتْح بن عبيد الله فِي كتاب مطمح الْأَنْفس من تأليفه أَن الْوَزير أَبَا مَرْوَان بن مثنى كتب إِلَيْهِ (يَا فريداً دون ثَان ... وهلالاً فِي العيان) (عدم الراح فَصَارَت ... مثل دهن البلسان) فَبعث بمطلوبه وجاوبه بقوله (جَاءَ من شعرك روض ... جاده صوب الْبَيَان) (فبعثناها سلافاً ... كسجاياك الحسان) (يَا فريداً لَا يجاري ... بَين أَبنَاء الزَّمَان)

139 - عبد الله بن عبد الْعَزِيز الْبكْرِيّ أَبُو عبيد الْوَزير هُوَ عبد الله بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن أَيُّوب بن عَمْرو من أَبنَاء الْأُمَرَاء يكنى أَبَا عبيد الله ولى أَبُو زيد مُحَمَّد بن أَيُّوب ولبة وشلطيش وَمَا بَينهمَا من الثغر الغربي وأصلهم من لبلة

وَكَانَ أَيُّوب بن عَمْرو قد ولى خطة الردّ بقرطبة وَولى أَيْضا الْقَضَاء بِبَلَدِهِ وَسَماهُ ابْن حيّان فِي الَّذين سمعُوا من هِشَام الْمُؤَيد مَا أَمر بعقده للمنصور مُحَمَّد بن أبي عَامر مجدّداً للألفة وسمّى مَعَه مُحَمَّد بن عَمْرو وأخاه وتاريخ هَذَا العقد شهر صفر سنة سبع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَذكر أَبُو الْقَاسِم بن بشكوال أَيُّوب بن عَمْرو الْمَذْكُور فِي تَارِيخه قَالَ ابْن حَيَّان لما تولى الْوَزير أَبُو الْوَلِيد بن جهور الْإِصْلَاح بَين ابْن الْأَفْطَس والمعتضد بعد امتداد شأوهما فِي الْفِتْنَة وسنى الله السّلم بَينهمَا فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين يَعْنِي وَأَرْبَعمِائَة اعْتدى إِثْر ذَلِك المعتضد على جَارِيَة ابْن يحيى أَمِير لبلة وَأبي زيد الْبكْرِيّ أَمِير شلطيش وولبة فأخرجهما عَن سلطانهما الْمَوْرُوث وَحصل لَهُ عملهما بِلَا كَبِير مؤونة وضمه إِلَى سَائِر عمله العريض وازداد بذلك المعتضد سُلْطَانا وَقُوَّة وَذَلِكَ أَنه لما خلا وَجهه من المظفر بن الْأَفْطَس فرغ لِابْنِ يحيى بلبلة وصمّم فِي قَصده بِنَفسِهِ فَنزل لَهُ عَن لبلة وَخرج عَن الْبَلَد وانزعج إِلَى قرطبة مسلوب الْإِمَارَة لائذاً بكنف ابْن جهور سادّ الخلّة ومأوى الطريد وَكَانَ من الْغَرِيب النَّادِر أَن شَاركهُ المعتضد بِقِطْعَة من خيله وصّلته إِلَى مأمنه بقرطبة ثمَّ سقط إِلَيْنَا النبأ بعد بامتداد يَده إِلَى الْبكْرِيّ بولبة وشلطيش وَكَانَ

هَذَا الْفَتى وَارِث ذَلِك الْعَمَل لِأَبِيهِ وَكَانَ أَبوهُ من بَيت الشّرف والحسب والجاه وَالنعْمَة والاتصال الْقَدِيم بسُلْطَان الْجَمَاعَة وَكَانَ لَهُ ولسلفه إِلَى إِسْمَاعِيل بن عبّاد جدّ المعتضد وَسَائِل وأذمّة خلّفاها فِي الأعقاب اغترّ بهَا عبد الْعَزِيز الْبكْرِيّ فبادر الْبعْثَة إِلَى المعتضد سَاعَة دخل لبلة يهنئه بِمَا تهَيَّأ لَهُ مِنْهَا وذكّره بالذّمام الْمَوْصُول بَينهمَا واعترف بِطَاعَتِهِ وَعرض عَلَيْهِ التخلي عَن ولبة وَإِقْرَاره بشلطيش إِن شَاءَ فَوَقع ذَلِك من المعتضد موقع إِرَادَة ورد الْأَمر إِلَيْهِ فِيمَا يعزم عَلَيْهِ وَأظْهر الرَّغْبَة فِي لِقَائِه وَخرج نَحوه يَبْغِي ذَلِك فَلم يطمئن عبد الْعَزِيز إِلَى لِقَائِه وتحمّل بسفنه جَمِيع مَاله إِلَى جَزِيرَة شلطيش وتخلى للمعتضد عَن ولبة فحازها حوزه للبلة وَبسط الْأمان لأَهْلهَا وَاسْتعْمل عَلَيْهَا ثِقَة من رِجَاله ورسم لَهُ الْقطع بالبكري وَمنع النَّاس طراًّ من الدُّخُول إِلَيْهِ فَتَركه محصوراً وسط المَاء إِلَى أَن ألْقى بِيَدِهِ من قرب وَلم يعزب عَنهُ الحزم فَسَأَلَ المعتضد أَن ينْطَلق انطلاق صَاحبه فأمّنه وَلحق بقرطبة وبوشر مِنْهُ رجل سريّ عَاقل عفيف أديب يفوت صَاحبه ابْن يحيى خلالاً وخصالاً إِلَى زِيَادَة عَلَيْهِ بِبَيْت السرو والشرف وبابن لَهُ من الفتيان بذّ الأقران جمالاً وبهاء وسرواً وأدباً وَمَعْرِفَة يكنى أَبَا عبيد وتحدث النَّاس من حزم عبد الْعَزِيز يَوْمئِذٍ أَنه لما احتل شلطيش علم أَنه لَا يُقَاوم عبّاداً فَأخذ بالحزم أَولا وتخلى لَهُ عَنْهَا بِشُرُوط وفى لَهُ بهَا فَبَاعَ مِنْهُ

سفنه وأثقاله بِعشْرَة آلَاف مِثْقَال واحتل قرطبة فِي كنف ابْن جهور الْمَأْمُون على الْأَمْوَال والأنفس وصفت لعبّاد تِلْكَ الْبِلَاد لَو أَن شَيْئا يَدُوم صفاؤه وَالْملك الْبَاقِي لله وَحده وَحكى غَيره أَن الْبكْرِيّ فِي قَصده قرطبة اجتاز بإقليم البصل وطلياطة وَقد أعدّ المعتضد لَهُ النزل والضيافة هُنَالك ومذهبه الْقَبْض عَلَيْهِ وعَلى نعْمَته فقدّم إِلَى صَاحب قرمونة مُحَمَّد بن عبد الله البرزالي يُعلمهُ باجتيازه عَلَيْهِ وَبِأَنَّهُ لَا يَأْمَن غائلة عبّاد وَسَأَلَهُ مشاركته وخفارته فعجّل لَهُ

قِطْعَة من خيل مُجَرّدَة لَقيته بِموضع اتفقَا عَلَيْهِ وَلم يلو الْبكْرِيّ على مَوضِع النزل وحث حمولته حَتَّى لفيته خيل ابْن عبد الله فوصل مَعهَا إِلَى قرمونة ثمَّ توجه مِنْهَا إِلَى قرطبة وَنَجَا من حبائل المعتضد قَالَ وَكَانَت مُدَّة البكرتيين بشلطيش وَمَا إِلَيْهَا إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة فِي أول هَذَا الْخَبَر عَن ابْن حَيَّان ذكر ابْن يحيى وَأبي زيد الْبكْرِيّ وَأَبُو زيد إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّد بن أَيُّوب وَالِد عبد الْعَزِيز وَلم يدْرك المعتضد زَمَانه وَأما عبد الْعَزِيز فكنيته أَبُو المصعب وَكَانَ جواداً ممدحاً وَفِيه يَقُول أَبُو عَليّ إِدْرِيس بن الْيَمَانِيّ من قصيدة فريدة وَكَانَ إِدْرِيس هَذَا مقدما فِي فحول شعراء الأندلس (فدى للَّتِي لم يثن لين فؤادها ... على كبد جَار الْفِرَاق فآدها) (من الْبيض ريا فِي رِدَاء ذوائب ... يباري سَواد الْعين مِنْهَا سوادها) يَقُول فِيهَا

( ... ... ... . الرَّوْض ... ... . ... سَقَاهَا الصِّبَا السلسال حَتَّى أنادها) (تقود بِلَا رفق خُيُول مدامعي ... لتورد هيجاء الملام ورادها) (وَمَا أنصفتها حِين ضنت بجودها ... عَلَيْهَا وحثّت بالطّراد جيادها) (أفدت غَدَاة الْبَين مِنْهَا التماحة ... شكرت صَنِيع الْبَين بِي إِذْ أفادها) (أعيدي سقِِي مثواك ألعس أشنب ... إِذا مَرضت أَرض الْأَحِبَّة جادها) (يضوع بواديك الأغنّ أغانياً ... مَتى مَا يعدها لم تملّ معادها) (إِذا مَا أجادت كفّه حول رَوْضَة ... حَسبنَا جدي عبد الْعَزِيز أجادها) ثمَّ تصرف فِي المديح تصرفه فِي النسيب وَأحسن وأبدع وَابْن يحيى هُوَ يحيى بن أَحْمد بن يحيى اليحصبيّ من أهل لبلة استولى عَلَيْهَا أَحْمد أَبوهُ فِي بضع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وملكها نَحوا من عشْرين سنة إِلَى أَن مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ فوليها بعده وَكَانَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ من مفاخر الأندلس وَهُوَ أحد الرؤساء الْأَعْلَام وتواليفه قلائد فِي أجياد الْأَيَّام ذكره ابْن بشكوال فِي تَارِيخه وَحكى أَنه كَانَ يمسك كتبه فِي سنباني الشّرب وَغَيرهَا إِكْرَاما لَهَا قَالَ وَجمع كتابا فِي إِعْلَام

نبوة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذه النَّاس عَنهُ وَتُوفِّي فِي شَوَّال سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَحكى الْفَتْح بن عبيد الله فِي مَا وجد بِخَط ابْن حيّان على زَعمه أَن أَبَا عبيد صَار إِلَى مُحَمَّد بن معن صَاحب المرية فاصطفاه لصحبته وآثر مُجَالَسَته والأنس بِهِ وَرفع مرتبته ووفر طعمته وَمن شعره يُخَاطب أَبَا الْحسن إِبْرَاهِيم ابْن مُحَمَّد بن يحيى الْمَعْرُوف بِابْن السّقاء وَزِير أبي الْوَلِيد بن جهور بقرطبة وَقد خرج رَسُولا إِلَى باديس بن حبّوس بغرناطة أنشدها لَهُ ابْن حيّان فِي تَارِيخه الْكَبِير ونقلتها من خطّ أبي الْوَلِيد بن الدّباغ المحدّث (كَذَا فِي بروج السعد ينْتَقل الْبَدْر ... وتحسن حَيْثُ احتلّ آثاره الْقطر) (وتقتسم الأَرْض الحظوظ فبقعة ... لَهَا وافر مِنْهَا وَأُخْرَى لَهَا نزر) (لذلّ مَكَان غَابَ عَنهُ مملّكي ... وعزّ مَكَان حلّه ذَلِك الْبَدْر) (فَلَو نقلت أَرض خطاها لأقبلت ... تهنيه بَغْدَاد بقربك أَو مصر) وَله فِي الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد عِنْد إِجَازَته الْبَحْر مستجيراً بِيُوسُف بن تاشفين يهون علينا مركب الْفلك أَن يرى ... محيي الْعلَا لما نبا مركب الجدّ

(فجزت أجاج الْبَحْر تبغي زلاله ... وذقت جني الْأَهْوَال تبغي جني الشهد) (يذكرنَا ذَاك الْعباب إِذا طما ... ندى كفك الهامي على الْقرب والبعد) وَمِنْهَا (مُحَمَّد يَا ابْن الأكرمين أرومة ... لِيَهنك تشييد المكارم وَالْمجد) (فَلَو خلّد الْإِنْسَان بالمجد والتّقى ... وآلائه الْحسنى لهنّئت بالخلد) وَله (أجدّ هوى لم يأل شوقاً تجدداً ... ووجداً إِذا مَا أتهم الحبّ أنجدا) (وَمَا زَالَ هَذَا الدَّهْر يلحن فِي الورى ... فيرفع مجروراً ويخفض مبتدا) (وَمن لم يحط بِالنَّاسِ علما فإنني ... بلوتهم شَتَّى مسوداً وَسَيِّدًا) وَله وَكَانَ مُولَعا بِالْخمرِ منهمكا فِيهَا (خليلي إِنِّي قد طربت إِلَى الكاس ... وتقت إِلَى شم البنفسج والآس) (فَقومُوا بِنَا نَلْهُو ونستمع الْغِنَا ... ونسرق هَذَا الْيَوْم سراًّ من النَّاس) (فَلَيْسَ علينا فِي التّعلّل سَاعَة ... وَإِن وَقعت فِي عقب شعْبَان من باس)

المائة السادسة

الْمِائَة السَّادِسَة 140 - يحيى بن تَمِيم بن الْمعز الصنهاجي أَبُو عَليّ أَمِير إفريقية ملك بعد أَبِيه تَمِيم فِي منتصف رَجَب سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي ثَانِي عيد الْفطر سنة سبع وَخَمْسمِائة وتخلف من الْوَلَد الذُّكُور نيفاً وَثَلَاثِينَ وَلم يطلّ أمد ولَايَته استغرقت عمره إِمَارَة أَبِيه فَلم يَرث سُلْطَانه إِلَّا وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَأَرْبَعين وَسَبْعَة أشهر إِلَّا أَيَّامًا مولده بالمهدية لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْقعدَة سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وبرز للنَّاس رَاكِبًا ثمَّ عَاد إِلَى قصره فَخلع على وزرائه خلعاً نفيسة ووهب للأجناد وَالْعَبِيد أَمْوَالًا جمة وَمِمَّا أنْشد فِي ذَلِك الْيَوْم (سقى الْغَيْث قبراً ضم أكْرم مَفْقُود ... يعزّي بِهِ فِي النَّاس أفضل مَوْجُود) (مضى فائزاً بالخلد أفضل وَالِد ... وشرّف هَذَا الْملك أشرف مَوْلُود) (وأحياه يحيى من ردى كل ملحد ... وولّى تَمِيم عَنهُ أكْرم ملحود) (فقد طابت الدُّنْيَا بِأَعْلَى مؤيّد ... كَمَا فازت الْأُخْرَى بأكرم موءود) (أرى النشأة الأولى أُعِيدَت فَأَقْبَلت ... بِملك سُلَيْمَان وفقدان دَاوُود) وليحيى هَذَا شعر ضَعِيف مِنْهُ قَوْله

(أَلا يَا مُنْتَهى طربى ... وَمن لم يعدها أربي) (إِذا مَا كنت حَاضِرَة ... شربت الراح بالنّخب) (وَمهما غبت عَن بَصرِي ... فواحزني وواحربي) (فجودي بالوصال على ... شرِيف الْقدر والحسب) (وسقّيه معتّقة ... لَهَا تَاج من الحبب) (مليك ملّكت كَفاهُ ... رقّ الْعَجم وَالْعرب) وَله (أَلا حبذا يَوْمنَا بالحمى ... وَقد قَارن الْقَمَر المُشْتَرِي) (وَجَاء الحبيب إِلَى منزلي ... برياّ القرنفل والعنبر) (وغنت لنا قينة حلوة ... بنظم من الشّعْر كالجوهر) (إِذا كَانَ حبي حذا ناظري ... شربت المدام وَلم أسكر) قَالَ أَبُو الصَّلْت وَكُنَّا بَين يَدَيْهِ فِي يَوْم من شعْبَان شَدِيد الْبرد فَقَالَ بديهاً (أما ترى القرّ قد وافت عساكره ... فادفعه منتصراً بالفرو والشّرر) (وقهوة عتّقت فِي الدّنّ صَافِيَة ... يصفو بهَا عَيْش حاسيها من الكدر) وَقَالَ لي ولبعض كِتَابه أجيزا فعملنا على جِهَة الِاشْتِرَاك وجلّه لِلْكَاتِبِ (يَا من حلاه جمال الْكتب والسّير ... وَمن ندى يَده مغن عَن الْمَطَر) (ذعرت عبديك لما قلت مرتجلا ... ضربا من الشّعْر يعيي أشعر الْبشر) أما ترى القرّ قد وافت عساكره الْبَيْت وَالَّذِي بعده (فطاوعاك وَقَالا تابعين وَمن ... يجار سحبان لَا يَأْمَن من الْحصْر)

(تسْعَى عَلَيْك بهَا هيفاء ناعمة ... تسبي الْعُقُول بِحسن الدّلّ والحور) (كَأَن غرتها الغراء شمس ضحى ... تبدو لعينك فِي ليل من الشّعر) 141 - رشيد الدولة أَبُو يحيى مُحَمَّد بن عز الدولة أبي مَرْوَان عبيد الله بن المعتصم مُحَمَّد بن معن بن صمادح ذكره أَبُو عَامر السالمي فِي تَارِيخه وَقَالَ نَشأ بعد انْقِرَاض ملكهم فكلف بالآداب وبرز فِيهَا ثمَّ تاق إِلَى الرِّئَاسَة فقيّد فَمن قَوْله فِي السجْن (أحبّتنا الْكِرَام بغوا علينا ... وبغى الْمَرْء معطبة ونار) (وَقَالُوا الهجر لمّا يعلموه ... وهجر القَوْل منقصة وعار) (صبرت على مقارعة الدَّوَاهِي ... وطبع الحرّ صَبر وائتجار) (وَقلت لَعَلَّهَا ظلم ألمّت ... وَحَال اللَّيْل آخرهَا النَّهَار) (فَإِن يكن الردى يكن اصطبار ... وَإِن تكن المنى يكن اغتفار) وَله فِي ذَلِك (صبرا على نائبات الدَّهْر إنّ لَهُ ... يَوْمًا كَمَا فتك الإصباح بالظّلم) (إِن كنت تعلم أَن الله مقتدر ... فثق بِهِ تلق روح الله من أُمَم) (وقلما صَبر الْإِنْسَان محتسباً ... إِلَّا وَأصْبح فِي فضفاضة النّعم)

وَذكر أَبُو عَليّ بن الأشيري أَنه كَانَ مَعَ أبي يحيى هَذَا وعمّه رفيع الدولة بن المعتصم بداخل تلمسان فِي حصارها سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وتاشفين ابْن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين فِي ذَلِك الْوَقْت بظاهرها فِي محلاته وجموعه قَالَ فورد على الْمُوَحِّدين أعزهم لله فتح ضربوا لَهُ طبولهم فَقَالَ رفيع الدولة وَكَانَ مسناًّ لِابْنِ أَخِيه أبي يحيى لَوْلَا كبر سني وضعفي لَكُنْت عِنْدهم حرصاً عَلَيْهِم ونظراً لنَفْسي فَقَالَ أَبُو يحيى تعال نقل شعرًا نجعله عدّة فَقَالَ رفيع الدولة وَكَانَ ذَا بديهة (لعبد الْمُؤمن الْملك ... يَدُور السعد فِي الْفلك) فَقَالَ أَبُو يحيى (همام نور غرّته ... كضوء الْبَدْر فِي الحلك) فَقَالَ ابْن الأشيري (فيمّمه تَجِد ملكا ... عَلَيْهِ سكينَة الْملك) (وَلَا تجزع فَلَيْسَ لَهُ ... على القصاد من دَرك) قَالَ وشاعت هَذِه الأبيات وَإِلَى تلمسان وَبَلغت أَبَا بكر بن مزدلي فخاف قائلوها وَكَانَ رفيع الدولة إِذْ ذَاك مقدّماً على بُنيان سور الرّبص مِنْهَا بحيلة قَالَ ابْن الأشيري وَكنت أرى فِي النّوم من يَقُول

.. . بِهِ ... سفر فارغة فَذكرت ذَلِك لأبي يحيى بن صمادج ... من خصّه بِالنعَم السابغة ... فَجرى الْقدر بذلك ... فيسير والربرتير هَذَا علج لبني تاشفين من كبار قوادهم وأبطال رِجَالهمْ كَانَت لَهُ

فِي الحروب مقاوم شهيرة وَكَانَ مقتل تاشفين لَيْلَة سبع وَعشْرين من شهر رَمَضَان من سنة تسع وَثَلَاثِينَ الْمَذْكُورَة وجّه ابْنه إِبْرَاهِيم وليّ عَهده إِلَى مراكش خوفًا عَلَيْهَا فِي شعْبَان وَسَار كَاتبا مَعَه أَبُو جَعْفَر بن عَطِيَّة وَاسْتقر هُوَ

بوهران ولجأ إِلَى حصن شرع فِي بُنْيَانه فِي تِلْكَ الْأَيَّام فقصده الموحدون وأضرموا النَّار حوله فَلَمَّا رأى ذَلِك ودع أَصْحَابه لَيْلًا واقتحم وَالنَّار محتدمة بَاب الْحصن فَوجدَ من الْغَد مَيتا لَا أثر فِيهِ لضربة وَلَا طعنة وَيُقَال إِن فرسه صرعه وسيق فصلب وَقَالَ غير ابْن الأشيري كَانَ مهلك تاشفين بِخَارِج مَدِينَة وهران تردى بِهِ فرسه فِي الْبَحْر فَهَلَك وتكسّرا جَمِيعًا وَكَانَ قصد الرّباط بِخَارِج وهران على الْبَحْر فِي قِطْعَة من أَصْحَابه ليقوم بِهِ لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَمَضَان الْمَذْكُور فنبّه عَلَيْهِ الموحدون أعزهم الله فطرقوهم لَيْلًا فِي جمع وافر وَأَحْدَقُوا بالرّباط وَفِيهِمْ أَمِير الْأُمَرَاء والمخصوص بنصر الْأَوْلَوِيَّة ونجح الآراء الشَّيْخ الْمُعظم الْمُجَاهِد الْمُقَدّس المرحوم أَبُو حَفْص عمر بن يحيى رضوَان الله عَلَيْهِ وراث الممالك ومورثها ومطفئ نَار الْفِتَن والتجسيم مؤرّثها الَّذِي كَانَت الْفتُوح تنثال عَلَيْهِ وتتلاقي لَدَيْهِ وكتائب النَّصْر والرعب تسير خَلفه وَبَين يَدَيْهِ فَلَمَّا علم تاشفين بهم ركب وَخرج هُوَ وَأَصْحَابه مستميتين فَوَقع تاشفين على من يَلِيهِ

من محاربيه وَظن الأَرْض مُتَّصِلَة فهوى بِهِ فرسه وتمزق بِأَسْفَل المهوى وَانْهَزَمَ عسكره وَذَلِكَ بعد مكنه فِي الْحَرْب خَمْسَة أَعْوَام إِلَّا أشهراً ثَلَاثَة مَا آوى إِلَى بلد وَلَا عرّج على أهل وَلَا ولد وَمن يحارب أَمر الله محروب واتصل مَقْتَله بِابْن أَخِيه يحيى بن أبي بكر بن عَليّ بن يُوسُف وَهُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الصّحراوية وَكَانَ بتلمسان فَخرج مِنْهَا فِي أَصْحَابه وأسلمها وَخرج أَبُو يحيى بن صمادح وَابْن الأشيري مُهَاجِرين فَقبلا وَلأبي يحيى مِنْهُمَا قصائد مطولات فِي مدح الْأَمر العالي وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن ابْن الصحراوية كَانَ بتلمسان وَقد تقدم عَن ابْن الأشيري أَن أَبَا بكر بن مزدلي كَانَ والياً عَلَيْهَا فِي هَذِه السّنة الْمَذْكُورَة فَلَعَلَّهُ ولى بعده أَو كَانَ مدَدا لَهُ فِي تِلْكَ الْمدَّة

142 - أَحْمد بن الْحُسَيْن بن قسيّ أَبُو الْقَاسِم أول الثائرين بالأندلس عِنْد اختلال دولة الملثمين وَهُوَ رومي الأَصْل من بادية شلب نَشأ مشتغلاً بِالْأَعْمَالِ المخزنية ثمَّ تزهد بِزَعْمِهِ وَبَاعَ مَاله وَتصدق بِثمنِهِ وساح فِي الْبِلَاد وَلَقي أَبَا الْعَبَّاس بن العريف بالمرية قبل إشخاصه إِلَى مراكش ثمَّ انْصَرف إِلَى قريته وَأَقْبل على قِرَاءَة كتب أبي حَامِد الْغَزالِيّ فِي الظَّاهِر وَهُوَ يستجلب أهل هَذَا الشَّأْن محرضاً على الْفِتْنَة وداعياً إِلَى الثورة فِي الْبَاطِن ثمَّ ادّعى الْهِدَايَة مخرقة وتمويهاً على الْعَامَّة وَتسَمى بِالْإِمَامِ وَطلب فاستخفى وَقبض على طَائِفَة من أَصْحَابه فأزعجوا إِلَى إشبيلية

وَلما دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة أَشَارَ من مَوضِع استخفائه على أَصْحَابه المريدين أَن يَسِيرُوا مَعَ مُحَمَّد بن يحيى الشّلطيشي الْمَعْرُوف بِابْن الْقَابِلَة وَكَانَ يُسَمِّيه بالمصطفى لاختصاصه الْكُلِّي بكتابته واطلاعه على أُمُوره ثمَّ قَتله بعد ذَلِك وَأمرهمْ أَن يغدروا قلعة ميرتلة وَهِي إِحْدَى القلاع المنيعة بغرب الأندلس فِي وَقت رسمه لَهُم من هَذِه السّنة القارضة ملك اللمتونيين بمقتل تاشفين أَمِيرهمْ فِي رَمَضَان مِنْهَا فكمنوا فمكنوا بالرّبض وهم نَحْو من سبعين رجلا وتغلبوا عَلَيْهَا سحر لَيْلَة الْخَمِيس الثَّانِي عشر من صفر مِنْهَا بعد أَن قتلوا بوّاب القلعة وأعلنوا بدعوة ابْن قسيّ وَأَقَامُوا على ذَلِك إِلَى أَن وصلهم فِي غرَّة شهر ربيع الأول فِي جمع وافر من المريدين شعارهم التهليل وَالتَّكْبِير فَصَعدَ إِلَى قصبتها واحتل بقصرها وَشرع فِي مُخَاطبَة أَعْيَان الْبِلَاد مخبّباً وللفتنة محزباً فَاسْتَجَاب لَهُ كثير مِنْهُم وأولهم أهل يابرة

ثمَّ أهل شلب واتسع على المرابطين خرق لم يرفعوه وهجم عَلَيْهِم حَادث طالما توقعوه وآلت الْحَال بِابْن قسيّ إِلَى أَن خلع بميرتلة ثمَّ أُعِيد وَمِنْهَا هَاجر إِلَى الْمُوَحِّدين أعزهم الله فَقدم عَلَيْهِم بسلا متبرئاً من دعاويه وتائباً مِمَّا أسلفه من مساويه فِي ربيع الآخر سنة أَرْبَعِينَ ثمَّ انْصَرف فِي الْمحرم سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين صُحْبَة الْجَيْش الَّذِي افْتتح جَزِيرَة طريف ثمَّ الجزيرة الخضراء

وَلما فتحت شلب ترك ابْن قسيّ عَلَيْهَا والياً وَمِنْهَا كَانَ قدومه فِي شهر رَمَضَان من السّنة مهنئاً بِفَتْح إشبيلية وَكَانَ فتحهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّالِث عشر من شعْبَان وَبعد عوده إِلَى شلب ظهر مِنْهُ غير مَا فورق عَلَيْهِ إِلَى أَن صرّح بِالْخِلَافِ وداخل الطاغية ابْن الرّيق صَاحب قلنبرية فِي إعانته وإمداده فأظهر إجَابَته إِلَى مُرَاده وَبعث إِلَيْهِ بفرس وَسلَاح فَأنْكر ذَلِك أهل شلب وفتكوا بِهِ فِي قصر الشّراجب مِنْهَا مَوضِع سكناهُ فِي قصَّة طَوِيلَة ونصبوا مَكَانَهُ ابْن الْمُنْذر الْأَعْمَى معلنين بدعوة الْمُوَحِّدين وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى من سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَمن شعر ابْن قسيّ بَين يَدي ثورته (إِذا صفر الأصفار جَاءَ فَإِنَّمَا ... يَجِيء بِأَمْر لَا يمرّ وَلَا يحلي) (وشهرا ربيع فيهمَا كلّ آيَة ... وَعند جُمَادَى يَنْقَضِي أمد الخبل) وَله (وَمَا تدفع الْأَبْطَال بالوعظ عَن حمى ... وَلَا الْحَرْب تطفي بالرّقي والتمائم) (وَلَكِن ببيض مرهفات وذبل ... مواردها مَاء الطّلي والغلاصم) (وَلَا صلح حَتَّى نطعن الْخَيل بالقنا ... ونضرب بالبيض الرّقاق الصوارم) (وَنحن أنَاس قد حمتنا سُيُوفنَا ... عَن الظُّلم لما جرم بالمظالم)

وَكَانَ أَبُو عمر أَحْمد بن عبد الله بن حربون الشلبي من كتّابه وَفِيه يَقُول (اهرب إِلَى الله وابرأ ... من أَحْمد بن قسيّ) (أَو فاتخذه إِمَامًا ... واكفر بِكُل نبيّ) وَكتب إِلَيْهِ يمدحه (لم أر جوداً لمستماح ... علّمني صَنْعَة امتداح) (قد خلق الله راحتيه ... من طِينَة الْبَأْس والسماح) (ألْقى على الْجُود نور بشر ... فجَاء كالغيث فِي الصَّباح) (راش إِمَام الْهدى جناحي ... وَلَيْسَ فِي الْحق من جنَاح) (أريتني الْيَوْم كَيفَ أوري ... وَكنت أصلدت فِي اقتداحي) (تبَارك الله أيّ جدّ ... أفرغ فِي قالب المزاح) فَقَالَ ابْن قسيّ يجِيبه (جددت جداًّ بِلَا مزاح ... ورضت مُعْتَادَة الجماح) (حليته من نتاج فكر ... حوليّه ثقفة القداح) (دهماء قد لطمت بلَيْل ... وخوضت لجة الصَّباح) (إِن سوبقت بالرياح جَاءَت ... بلقاء فِي مقدم الرِّيَاح) (أَهْدَيْتهَا وَالزَّمَان باد ... صَلَاحه لِذَوي الصّلاح) (فَكَانَت الزّهر لانتسام ... وَكَانَت الزّهر لالتماح) (فَأَقْبَلت بِي على اغتباق ... لَيْلًا وَيَوْما على اصطباح) (وَكنت أعتدّ أنّ رُمْحِي ... فِي الطعْن من أثقف الرماح)

(حَتَّى طلعتم لَدَى عجاج ... كالليل غشّى من النواحي) (فَمن لموح من العوالي ... وَمن لموع من الصّفاح) (فثم كسّرت من صعادي ... وَثمّ ألقيت بِالسِّلَاحِ) (وَبعد يَا من أعَار خلقي ... حلى من أخلاقه السّماح) (فها أَنا الْيَوْم فِي بساطي ... هزل وجدّ من امتداح) (أعطي إِلَى الْجد صفح رسم ... بَاقٍ وللهزل صفح ماح) (فأعقب المزح حَال جدّ ... والجدّ أولى من المزاح) 143 - مُحَمَّد بن عمر بن الْمُنْذر أَبُو الْوَلِيد أحد أَعْيَان شلب ونبهائها من بَيت قديم فِي المولّدين وَكَانَ من أحسن النَّاس وَجها ولازم التَّعَلُّم بإشبيلية فِي صغره حَتَّى تميز بالمعارف الأدبية والفقهية وَولى خطة الشورى بِبَلَدِهِ ثمَّ تزهد وانزوى ورابط على سَاحل الْبَحْر فِي

رِبَاط الرّيحانة وَتصدق بِمَالِه وَصَاحب أَحْمد بن قسيّ الدّعي وامتحن من أَجله ثمَّ خلص من ذَلِك واتّبعه عِنْد ثورته وَقَامَ فِي بَلَده بدعوته مستعيناً على ذَلِك بِأبي مُحَمَّد سيدراي بن وَزِير الثائر بيابرة قبله وَكَانَت بَينهمَا قيل صُحْبَة وصداقة ثمَّ سَار إِلَى حصن مرجيق من أَعمال شلب وَقد ضَبطه الملثمون فتغلب عَلَيْهِم وقتلهم وسرى خبرهم إِلَى من كَانَ مِنْهُم بباجة فطلبوا من أَهلهَا تأمينهم على أَن يلْحقُوا بإشبيلية وإثرخروجهم مِنْهَا دَخلهَا ابْن الْمُنْذر فِي الْعَسْكَر الَّذِي أمده بِهِ ابْن وَزِير وَعَلِيهِ أَخُوهُ أَحْمد وخاله عبد الله بن عَليّ بن الصّميل ثمَّ قدم هُوَ وَأَبُو مُحَمَّد بن وَزِير على ابْن قسيّ فِي أول شهر ربيع الآخر من سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَقد اسْتَقر بقلعة مبرتلة قبل ذَلِك بِشَهْر فسلما عَلَيْهِ بالإمارة وأذعنا لَهُ بِالطَّاعَةِ فَأقر ابْن وَزِير على باجة وَمَا والاها أَمِيرا وَابْن الْمُنْذر على شلب وَمَا والاها كَذَلِك ثمَّ انْصَرف ابْن وَزِير وتلوّم ابْن الْمُنْذر بميرتلة أَيَّامًا وَقد أبدى مُنَافَسَة ابْن وَزِير وحسادته ثمَّ لحق بِبَلَدِهِ حَتَّى إِذا اجْتمع عَسْكَر أكشونبة

إِلَى من عِنْده من الشّلبيين وَأَصْحَابه المريدين قدم على ابْن قسيّ ثَانِيَة يظْهر الْجد فِي نصرته وَالْعَمَل على نشر دَعوته فسرّ بمقدمه وجدد لَهُ عَهده على مَا بِيَدِهِ وسّماه الْعَزِيز بِاللَّه ثمَّ عبر وَادي آنة مُتَقَدما فِي جمعه إِلَى ولبة فَدَخلَهَا وامتد مِنْهَا إِلَى لبلة فقاتلها حَتَّى ملكهَا بمعاونة يُوسُف بن أَحْمد البطروجي أحد مَرَدَة الثوار من هَؤُلَاءِ المريدين وَأنزل من تمنع فِي بروجها من الملثمين وطمح بِهِ الاغترار إِلَى إشبيلية وَقد نمى إِلَيْهِ أَنَّهَا حِينَئِذٍ دون أَمِير يضبطها فَتحَرك من لبلة نَحْوهَا وَدخل حصن الْقصر وطلياطة من أَعمال شرفها وَقد كثف جمعه وَكثر حشده فَانْتهى إِلَى الْحصن الزَّاهِر ودخله

وبظاهر اطريانة انْكَشَفَ أَصْحَابه أَمَام طَائِفَة من جَيش أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عَليّ بن غانية

وَكَانَ لما بلغه أَمر لبلة وبلاد الغرب قد بَادر من قرطبة بِالْخرُوجِ لغزو أَهلهَا فَوَافى إشبيلية وَابْن الْمُنْذر يعيث فِي نَوَاحِيهَا فعيّن من أَصْحَابه لاتّباعهم وعبور الْوَادي نحوهم من هَزَمَهُمْ وطردهم وَقتل عدد وافر مِنْهُم فَأسْرى ابْن الْمُنْذر لَيْلَة إِلَى لبلة وَأقَام بهَا يَوْمَيْنِ يحصنها ثمَّ لحق بشلب وَترك يُوسُف البطروجي بهَا فنازله ابْن غانية فِي جيوشه ثَلَاثَة أشهر وَذَلِكَ فِي كلب الشتَاء وحدّته إِلَى أَن بلغه قيام ابْن حمدين بقرطبة فَانْصَرف عَنْهَا إِلَى إشبيلية وَقد تغير على النَّاس وَاشْتَدَّ حذره مِنْهُم فجرت لَهُ مَعَهم وَلَهُم مَعَه قصَص طَوِيلَة وَلما سمع ابْن قسيّ بِقِيَام ابْن حمدين أَمر ابْن الْمُنْذر هَذَا أَن يعسكر ويسير هُوَ وَمُحَمّد بن يحيى الْمَعْرُوف بِابْن الْقَابِلَة كَاتب ابْن قسيّ وَصَاحبه إِلَى قرطبة طَمَعا فِي دُخُولهَا وخاطب مَعَهُمَا أَهلهَا يرغبهم فِي أمره ويحرضهم على الْقيام بدعوته وَكَانَ بالرّبض الشَّرْقِي من لَهُ حرص عَلَيْهِ ورغبة فِيهِ كَأبي الْحسن ابْن مُؤمن وَغَيره فَتحَرك ابْن الْمُنْذر وَصَاحبه بعسكر شلب ولبلة فوجدوا أَحْمد بن عبد الْملك بن هود سيف الدولة قد جَاءَ بِهِ أهل قرطبة من بعض ثغورها الْمُجَاورَة لَهَا وملكوها عَلَيْهِم وطردوا ابْن حمدين فانحاز إِلَى الْحصن

الْمَعْرُوف بفرنجولش وَمِنْهَا أعادته الْعَامَّة لما قَامَت على ابْن هود وَقتلت وزيره ابْن شمّاخ وفر هُوَ بعد اثْنَي عشر يَوْمًا من دُخُولهَا وَلم يعد إِلَيْهَا بعد وَانْصَرف أَصْحَاب ابْن قسيّ خائبين وَبعد وصولهم إِلَيْهِ استدعى أَبَا مُحَمَّد سيدراي بن وَزِير للاجتماع بِهِ فتوقف وارتاب لما كَانَ من قَبضه عَلَيْهِ بقصبة مبرتلة وخلعه ثمَّ صرفه إِلَى حَاله أثْنَاء مغيب ابْن الْمُنْذر فِي قصد إشبيلية وَلما يئس مِنْهُ ابْن قسيّ أَمر ابْن الْمُنْذر بمحاربته فَهَزَمَهُ ابْن وَزِير وَقبض عَلَيْهِ واعتقله بِمَدِينَة باجة ثمَّ تذكر يَوْمًا خَاله وَقد صَارَت إِلَيْهِ بطليوس وأعمالها إِلَى مَا كَانَ بِيَدِهِ من بِلَاد الغرب فَأمر خَاله عبد الله بن الصّميل الْمَذْكُور قبل بِأَن يسير إِلَى باجة ويستخرج ابْن الْمُنْذر من سجنه ويسمل عَيْنَيْهِ فَفعل ذَلِك وَأقَام فِي معتقله إِلَى أَن فتح الموحدون أعزهم الله باجة وَسَائِر بِلَاد الغرب فأنقذه الله على أَيْديهم وَعَاد إِلَى شلب وَكَانَ يُجَالس ابْن قسيّ فِي ولَايَته عَلَيْهَا من قبل الْمُوَحِّدين إِلَى أَن خلع دعوتهم وانسلخ من طاعتهم وداخل النَّصَارَى فاستراح ابْن الْمُنْذر إِلَى وُجُوه بَلَده بِمَا كَانَ عِنْده من بَاطِن أُمُوره ودبر مَعَهم وَهُوَ ذَاهِب الْبَصَر قَتله فتم ذَلِك كَمَا تقدم ذكره وَخَلفه فِي ولَايَته قَائِما بالدعوة المهدية خلّدها الله وَذَلِكَ فِي جمادي الأولى سنة سِتّ وَأَرْبَعين مخيف مِنْهُ أَن يثور ثَالِثَة فَنقل إِلَى إشبيلية بعد أَن خلعه ابْن وَزِير وَملك شلب دونه فِي خبر ذكره ابْن صَاحب

الصَّلَاة فِي كتاب ثورة المريدين من تأليفه وَبعد ذَلِك أجَاز الْبَحْر إِلَى سلا فَتوفي بهَا سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة وَمن شعره يُخَاطب ابْنَته وَتوفيت بعد خلعه وسمل عَيْنَيْهِ (أواحدتي قد كنت أرجوك خلفة ... لعينيّ أختيك اللَّتَيْنِ سبا الدَّهْر) (رضيت بِحكم الله فِيمَا أصابني ... إِذا لم يكن يسر فيا حبذا الْعسر) وَله وَبعث بِهِ إِلَى أبي بكر بن المنخّل فِي نكبته وَكَانَ قد استوزره فِي ولَايَته (يَا واحدي من ذَا الورى بولاته ... ووحيدهم إِن ناظروا بذكائه) (أما الْكَلَام فقد ملكت زَمَانه ... نوعا فنوعاً فَانْفَرد بلوائه) (إِن شِئْت فانظم درّ لفظ رائق ... يحْكى حمام الأيك حَال غنائه) (أَو شِئْت فانثر من كلامك جوهراً ... تغلو بِهِ الأرباح عِنْد شِرَائِهِ) (يَا طَالبا علم الْكَلَام تحققاً ... أبشر فقد أَدْرَكته بلقائه) (إِن كنت تبغي كشف غامضه فقد ... أنجحت فَانْزِل وارتبط بفنائه) (واسمع إِذا ألقِي إِلَيْك معلما ... والقن هديت الحقّ من إلقائه) (من كَانَ يرتاد الشِّفَاء لنَفسِهِ ... فلديه مِنْهُ مَا يَفِي بشفائه) (مَا إِن يناظر حائراً فِي دينه ... إِلَّا اهْتَدَى وشفاه من أدوائه)

(وَإِذا تخطّ يَمِينه فِي مهرق ... أهْدى لنا الْحسنى بِحسن رُوَائِهِ) (إبه أَبَا بكر وماذا من أَخ ... ناديت غَيْرك لم يجب لندائه) (عثرت بِي الدُّنْيَا فَأصْبح معرضًا ... عني كَأبي لم أدن بإخائه) (ومنحته ودي وصنت إخاءه ... من نائبات الدَّهْر حَال بلائه) (ورعيت ظهر الْغَيْب حقّ جواره ... وحفظته من خَلفه وورائه) (فَعدا عليّ وَلم أظنّ ببغيه ... وَأَنا بِحَال من أَمَان عدائه) (لَو أنني مِمَّن تسوء ظنونه ... مَا نالني مَا نَالَ من تلقائه) (مَا سَاءَ فعلي مرّة فيسوء بِي ... ظنّ بِمن قدمتّ لي بولائه) فَأَجَابَهُ بقصيدة مِنْهَا (يَا ملبسي النّعمى بِحسن ثنائه ... ومميّزي نَقْدا بِصدق ولائه) (ألْقى عليّ مديحه فلبسته ... بردا وردّ عليّ فضل رِدَائه) (وأعارني من خلقه وَصِفَاته ... فسحبت ذيل الوشي من صنعائه) (لبيْك من دَاع تيم حبّه ... قلبِي فصيّره إِلَى سودائه) (إِن كَانَ أَبنَاء الزَّمَان تشبهوا ... بأبيهم مَا أَنْت من أبنائه) (فذر الحسود لما بِهِ فدواؤه ... فِي مَوته وحياته من دائه) (لله درّك من فَتى عبثت بِهِ ... أَيدي الزَّمَان فأخلفت بعلائه) (أفديه من حرّ جفاه زَمَانه ... لَو كَانَ يسمح دَهْرنَا بفدائه) (قد كَانَ مثل السهْم ينفذ فِي الوغى ... والنصر مَعْقُود بِرَأْس لوائه)

(شهماً إِذا دجت الخطوب تبلّجت ... لعقولنا الأقمار من لألائه) (شيم كأزهار الرّبيع وَرَاءَهَا ... همم تحطّ النَّجْم من غلوائه) (وَإِذا ترقّى منبراً لملمة ... عطف الْقُلُوب على مناهج رائه) (كَانَت لياليه نُجُوم زَمَاننَا ... فتناثرت حمماً على ظلمائه) وَله إِلَى ابْن المنخّل أَيْضا (لَئِن غضّ مِنْك الدَّهْر يَوْمًا بأزمة ... فحسبك أَن تلقى وَأَنت صبور) (فَلَيْسَ أسى يبْقى وَإِن جلّ مثل مَا ... على كل حَال لَا يَدُوم سرُور) (أيوجد فِي الدُّنْيَا من النَّاس صَاحب ... إِذا أَعرَضت أبقى لذاك عسير) (طلبت عَزِيزًا لَا ينَال فَإِن يكن ... فَإِن أَبَا بكر بِذَاكَ جدير) (رضيت بِهِ حظاًّ من النَّاس كلهم ... فَمَا بعده حرّ إِلَيْهِ نشِير) فَأَجَابَهُ بقوله (تجاف عَن الدُّنْيَا وَعَن برد ظلّها ... فإنّ بروداً لَا يَدُوم حرور) (فديتك لَا تأسف لدُنْيَا تقلّصت ... وأوحش يَوْمًا مِنْبَر وسرير) (وَإِن عريت جرد المذاكي وذلّلت ... أسود فَلم يسمع لَهُنَّ زئير) (وغودرت الرَّايَات تهفو كَأَنَّهَا ... جوابح من ذعر عَلَيْك تطير) (وَكَانَت وَلم تذْعَر عَلَيْك كَأَنَّهَا ... إِذا رفرفت يَوْم الْهياج نسور) (طلبت وَفَاء وَالْوَفَاء سجية ... وَلكنهَا أمّ الْوَفَاء نزور) (رَأَيْتُك تبغي مثل نَفسك فِي الْعلَا ... طلاب لعمري مَا أردْت عسير) (وَمن ذَا الَّذِي يسمو سمّوك للعلا ... وَيَعْفُو عَن الزلات وَهُوَ قدير)

وَلابْن المنخّل فِيهِ يرثيه من قصيدة (بأيّ حسام أدفَع الْخطب بعد مَا ... فقدت الحسام المنذريّ اليمانيا) (وَمن لي بِمثل المنذريّ مُحَمَّد ... صديقا صَدُوقًا أَو خَلِيلًا مصافياً) (وَقد كنت أستدني الْبعيد بِرَأْيهِ ... فَيَأْتِي على حكم الْإِرَادَة دانيا) 144 - عَليّ بن عمر بن أضحى الْهَمدَانِي أَبُو الْحسن هُوَ عَليّ بن عمر بن مُحَمَّد بن مشرّف بن أَحْمد بن أضحى بن عبد اللَّطِيف بن غَرِيب بالغين الْمُعْجَمَة ابْن يزِيد بن الشّمر من هَمدَان فِي ذؤابة شرفها وصميم بيوتاتها وَقد تقدم ذكر نباهة سلفه وَقيام مُحَمَّد بن أضحى بِأَمْر الْعَرَب بعد سعيد بن جوديّ السّعديّ فِي خلَافَة الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد وَلم سميّ وَالِد عبد اللَّطِيف غَرِيبا حَتَّى غلب عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اسْمه خَالِد وَيزِيد بن الشّمر أَبوهُ هُوَ الدَّاخِل إِلَى الأندلس وَولد أَبُو الْحسن على بن عمر هَذَا بالمريّة فِي شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَولى قضاءها بعد أبي عبد الله مُحَمَّد بن يحيى بن الفرّا الزَّاهِد ثمَّ صرف بِعَبْد الْمُنعم بن سمجون وأعيد بعده ثَانِيَة وَلما انْقَضتْ دولة الملثمين فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة ودعا ابْن حمدين

لنَفسِهِ بقرطبة خَاطب أَبَا الْحسن بن أضحى يحضه على اتّباعه وَهُوَ إِذْ ذَاك بغرناطة وقاضيها أَبُو مُحَمَّد بن سماك فَقَامَ بدعوة ابْن حمدين وَتَابعه أهل بَلَده وأخرجوا الملثمين من الْمَدِينَة فَتَحَصَّنُوا بالقصبة ونشب الْقِتَال بَين الطَّائِفَتَيْنِ فاتصل ذَلِك مُدَّة وَذكر أَبُو مُحَمَّد بن صَاحب الصَّلَاة أَن الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ ابْن أضحى من الملثمين هُوَ على بن أبي بكر الْمَعْرُوف بِابْن فنوا وَهِي أُخْت عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين كَانَ أَمِيرا عَلَيْهَا بعد أبي زَكَرِيَّاء بن غانية قَالَ واستصرخ يَعْنِي ابْن أضحى بِابْن حمدين بقرطبة وبابن جزيّ قَاضِي جيّان فوجّه إِلَيْهِ ابْن حمدين ابْن أَخِيه عليّ بن أبي الْقَاسِم أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن أم الْعِمَاد فِي عَسْكَر قرطبة وَعلم بذلك سيف الدولة أَحْمد بن هود فعجّل وَدخل مَدِينَة غرناطة وَانْصَرف ابْن أم الْعِمَاد خائباً

وتعاون ابْن هود مَعَ ابْن أضحى على قتال الملثمين وحصارهم بالقصبة أشهراً وَفِي أثْنَاء ذَلِك جرحوا ولد ابْن هود وأسروه وأدخلوه القصبة فَمَاتَ من جراحه فغسلوه وكفنوه وجعلوه فِي نعش ودفعوه إِلَى أَبِيه فدفنه قَالَ ثمَّ مَاتَ القَاضِي ابْن أضخى وَتقدم ابْنه مُحَمَّد بعده مَعَ الرّعية فِي معاونة ابْن هود ثمَّ إِن ابْن أبي جَعْفَر قَاضِي مرسية الثائر بهَا جَيش لمعونة أهل غرناطة فَلَمَّا وصل إِلَى مَا يقرب مِنْهَا وَهُوَ فِي ألفى فَارس من أهل الشرق خرج الملثمون إِلَيْهِ فهزموه وقتلوه وَكَثِيرًا مِمَّن كَانَ مَعَه وَدفن هُوَ بغرناطة وَعجز ابْن هود ففر إِلَى جيّان وَكَانَ قد ترك بهَا ابْن عَمه نَائِبا عَنهُ وَابْن مشرف البراجلي

فوفيا لَهُ وتغلب الملثمون على مَدِينَة غرناطة وفر مُحَمَّد بن عَليّ بن أضحى إِلَى المنكّب ثمَّ مِنْهَا إِلَى حصن بني بشير وَحكى غَيره أَن ابْن أضحى لما دَعَا لِابْنِ حمدين فِي رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ تمنع الملثمون بقصبة غرناطة وَكَانُوا جمَاعَة أهل بَأْس ونجدة فيهم بَقِيَّة أمرائهم ونقاوة أبطالهم فحاربوه ثَمَانِيَة أَيَّام إِلَى أَن وصل من جيّان بعض قواد الثغر مدَدا لِابْنِ أضحى فاضطربت محلته بالمصلى وانضاف إِلَيْهِ من غرناطة جمع وافر فَخرج إِلَيْهِم الملثمون من الْغَد وهزموهم أقبح هزيمَة وَقتلُوا مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة ثمَّ عَادوا إِلَى القصبة وضيقوا على ابْن أضحى وَأهل الْبَلَد ومنعوهم الْمرَافِق ودامت الْحَرْب بَين الطَّائِفَتَيْنِ بداخل الْمَدِينَة وخارجها إِلَى أَن ورد ابْن أبي جَعْفَر الْقَائِم بمرسية فِي جموع وافرة يُقَال إِنَّهُم كَانُوا اثْنَي عشر ألفا بَين خيل وَرجل فَخرج إِلَيْهِ الملثمون مستميتين وَقد اشتدت شوكتهم وكثفت جَمَاعَتهمْ فهزموه وَقتل ابْن أبي جَعْفَر وَلم ينج من عسكره إِلَّا الْقَلِيل وَانْصَرف الملثمون إِلَى معقلهم ظَاهِرين على عداتهم ظافرين فِي حركاتهم ثمَّ قدم ابْن هود وَدخل غرناطة من بَاب مورور وَمَعَهُ ابْنه عماد الدولة فَخرج إِلَيْهِ ابْن أضحى رَاجِلا وَسلم عَلَيْهِ وأنزله واستسقى ابْن هود فأمرله ابْن أضحى بقدح زجاج فِيهِ مَاء معدّ لإتلاف من يشربه فَعِنْدَ إِخْرَاجه صاحت بِهِ الْعَامَّة لَا تشربه يَا سُلْطَان وحذّرته الْعَاقِبَة فَخَجِلَ ابْن أضحى وَتَنَاول الْقدح وعبّ فِيهِ يَنْفِي الظّنّة بذلك عَنهُ فَمَاتَ من ليلته وَنزل ابْن هود بعض الْبَسَاتِين بِظَاهِر غرناطة وَأقَام هُنَالك عشرَة أَيَّام

ثمَّ انْتقل إِلَى القصبة الْحَمْرَاء والقتال بَين الملثمين وَأهل الْمَدِينَة مُتَّصِل وَفِي بعض تِلْكَ الْأَيَّام أثخنوا ابْنه جراحاً وأسروه فَمَاتَ من ليلته فدفعوه إِلَى أهل الْبَلَد مكفناً ليدفنوه أَو يحملوه وَلم يقم ابْن هود بعد ذَلِك إِلَّا نَحْو شهر فِي مظالم وتنويع مغارم حَتَّى لهمّ بِهِ أهل غرناطة فانخزل عَنْهُم لَيْلًا وفر إِلَى مرسية وَقيل إِلَى جبان وَقَامَ بعده بِأَمْر غرناطة أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي الْحسن بن أضحى وَذَلِكَ فِي أول سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة وَأقَام ثَمَانِيَة أَيَّام يغادي ويراوح بِالْقِتَالِ حَتَّى هرب من لَيْلَة الْجُمُعَة الْقَابِلَة إِلَى المنسكب وَعند هربه تصالح أهل الْمَدِينَة والملثمون وأميرهم عَليّ بن فنّو قد توفّي فخلفه مَيْمُون بن يدّر بن وَرْقَاء وَقيل بل دَخلهَا عنْوَة على أبي عَليّ الْمَنْصُور بن مُحَمَّد بن الْحَاج فِي نيابته عَن يحيى بن عَليّ ابْن غانية وَأقَام إِلَى أَن أسلمها إِلَى الْمُوَحِّدين أعزهم الله سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة وَكَانَ أَبُو الْحسن بن أضحى فِي حداثته وَبعدهَا أبي النَّفس عَليّ الهمة فَقِيها يناظر عَلَيْهِ أديباً صَاحب بديهة قَرَأت بِخَط أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي عمر يُوسُف بن عبد الله بن عبّاد البلنسيّ وحَدثني الْحَافِظ أَبُو الرّبيع ابْن سَالم عَنهُ وأنشدني ذَلِك غير مرّة قَالَ قَالَ أبي أنشدنا صاحبنا أَبُو بكر بن الغفائري ببلنسيّة وكتبها لي بِخَطِّهِ قَالَ أَنْشدني الشَّيْخ الْمُحدث

أَبُو حَفْص عمر بن مُحَمَّد بن عمر الْيحصبِي قَالَ أَنْشدني القَاضِي أَبُو الْحسن بن أضحى لنَفسِهِ وَقد دخل مجْلِس عليّ بن يُوسُف بمراكش فَلم يهتبل بِهِ أحد وَنزل حَيْثُ انْتهى بِهِ الْمجْلس فحضره هَذَانِ البيتان فَاسْتَأْذن الْأَمِير فِي إنشادهما فَأذن لَهُ فَقَالَ (نَحن الأهلّة فِي ظلام الحندس ... حَيْثُ احتللنا ثمّ صدر الْمجْلس) (إِن يبخل الزَّمن الخؤون بعزّنا ... ظلما فَلم يذهب بعزّ الْأَنْفس) فَأمر بترفيعه فِي الْمجْلس لَو قَالَ يذهب مَكَان يبخل لَكَانَ أَجود وَله (يَا سَاكن الْقلب رفقا كم تقطّعه ... الله فِي منزل قد ظلّ مثواكا) (يشيّد النَّاس للتحصين منزلهم ... وَأَنت تهدمه بالعنف عيناكا) (وَالله وَالله مَا حبي لفاحشة ... أعاذني الله من هَذَا وعافاكا) وَله (أزف الْفِرَاق وَفِي الْفُؤَاد كلوم ... ودنا الترحّل وَالْحمام يحوم) (قل للأحبة كَيفَ أنعم بعدكم ... وَأَنا أسافر والفؤاد مُقيم) (قَالُوا الْوَدَاع يهيج مِنْك صبَابَة ... ويثير مَا هُوَ فِي الْهوى مَكْتُوم) (قلت اسمحوا لي أَن أفوز بنظرة ... ودعوا الْقِيَامَة بعد ذَاك تقوم) وَله (روحي لديك فردّية إِلَى جَسَدِي ... من لي على فَقده بِالصبرِ وَالْجَلد) (بِاللَّه زوري كئيباً لَا عزاء لَهُ ... وشرّفيه ومثواه غَدَاة غَد)

(لَو تعلمين بِمَا أَلْقَاهُ يَا أملي ... بايعتني الودّ تصفيه يدا بيد) (عَلَيْك مني سَلام الله مَا بقيت ... آثَار عَيْنَيْك فِي قلبِي وَفِي كَبِدِي) وَله (وشمعة يحملهَا شادن ... يستر وَجها قمريا بهَا) (فَكَانَ كَالشَّمْسِ على نورها ... يكسف مِنْهَا الْبَدْر حَيْثُ انْتهى) وَله وَكتب بِهِ إِلَى ذِي الوزارتين أبي جَعْفَر بن أبي الْقُرْطُبِيّ معتذراً (ومستشفع عِنْدِي الورى بِخَبَر عِنْدِي ... وأولاهم بالشكر مني وبالحمد) (وصلت فَلَمَّا لم أقِم بجزائه ... لففت لَهُ رَأْسِي حَيَاء من الْمجد) وَله فِي الزّهْد يُخَاطب (عليّ قد آن أَن تَتُوبَا ... مَا أقبح الشيب والعيوبا) (شبت وَمَا تبت من بعيد ... سَوف ترى نَادِما قَرِيبا) (تركب للهو والمعاصي ... صعباً وتستهل الذنوبا)

145 - مَرْوَان بن عبد الله بن مَرْوَان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان ابْن عبد الْعَزِيز أَبُو عبد الْملك لما انْتهى إِلَى بلنسية الْخَبَر بِقِيَام أبي جَعْفَر حمدين بن مُحَمَّد بن حمدين وبيعته بقرطبة وبجامعها الْأَعْظَم فِي يَوْم السبت الْخَامِس من شهر رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وبانصراف ابْن غانية عَن لبلة وَقد أعجزه أمره وَتعذر عَلَيْهِ فتحهَا اضْطربَ أهل بلنسية وواليها حِينَئِذٍ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ ابْن أخي أبي زَكَرِيَّاء بن غانية وقاضبها أَبُو عبد الْملك هَذَا ولاه تاشفين بن عَليّ بن يُوسُف فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فاجتمعا فِي الْحِين على مُنَافَسَة كَانَت بَينهمَا فِي الْبَاطِن واتفقا على الائتلاف وَترك الْخلاف وَحضر النَّاس بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع فَقَامَ فيهم مَرْوَان خَطِيبًا يذكّر بجهاد اللمتونيين للروم ونصرهم للجزيرة واستنقاذهم بلنسية من أَيْديهم ويحض على التَّمَسُّك بدعوتهم وَالْوَفَاء لَهُم ثمَّ قَامَ عبد الله بن مُحَمَّد الْوَالِي وَتكلم بِمَا حَضَره فِي هَذَا الْمَعْنى وَذكر النَّاس بِمَا انتظم بَينهم وَبَين عَمه من الصُّحْبَة وانفصلوا

فنمى إِلَى عبد الله من القَوْل عَن القَاضِي وَغَيره مَا أزعجه وَلَيْلَة يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن عشر من رَمَضَان أنفذ عِيَاله وأثقاله إِلَى شاطبة وَأصْبح هُوَ بالولجة فدار بَينه وَبَين الْجند مَا أوجب تمزيق خبائه وللفوز أَخذ فِي الْفِرَار مَعَ قومه فَلَمَّا استقروا بشاطبة أغارت خيله على جِهَات بلنسية فاكتسحت مَا وجدت وتظلم النَّاس إِلَى ابْن عبد الْعَزِيز وَرغب إِلَيْهِ الْجند وَالْعرب ووجوه أهل الْبَلَد فِي التأمر عَلَيْهِم فَأبى وَقَالَ اخْتَارُوا من شيوخكم من تقدّمونه فاتفقوا على بعض اللّمتونيين البَاقِينَ ببلنسية بعد فرار عبد الله ابْن مُحَمَّد وتمشّت الْحَال على هَذَا أَيَّامًا وَأَرَادَ هذاا لمجتمع عَلَيْهِ من لمتونة أَن يقبض على ابْن عبد الْعَزِيز فَلم يسْتَطع ثمَّ خامره الروع فلحق بشاطبة هُوَ وَالْبَاقُونَ مَعَه من أشياعه وَحِينَئِذٍ وَقع الْإِجْمَاع على ابْن عبد الْعَزِيز فاستخفى إِلَى أَن انْفَرد بِهِ أَبُو مُحَمَّد عبد الله ابْن عِيَاض قَائِد الثغر وَعبد الله بن مردنيش وَقَالا لَهُ هَذَا الْأَمر لابد لَك مِنْهُ والرأي الْمُبَادرَة فَقبل ذَلِك وَتمّ أمره والبيعة لَهُ يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّالِث من شَوَّال وولّى عبد الله بن عِيَاض الثغر وَمَا وَالَاهُ وَضم إِلَى نظره مَا كَانَ بأيدي أصهاره بني مردنيش قبل ظُهُورهمْ والملثمون أثْنَاء ذَلِك يغيرون على جِهَات ويعيثون فِيمَا يجاورهم من البسائط والمعاقل فاستدعى ابْن عبد الْعَزِيز أجناد الثغر ونهض بهم إِلَى منازلة شاطبة فانحدر الملثمون من قصبتها إِلَى الْمَدِينَة

ونبهوا الديار وَسبوا النِّسَاء وَقدم ابْن عبد الْعَزِيز على هَذِه الْحَال يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن عشر من شهرشوال فَكَانَت بَينه وَبينهمْ مواقفات ظهر فِيهَا عَلَيْهِم حَتَّى لجأوا إِلَى القصبة منهزمين وَوصل أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي جَعْفَر بعسكر مرسية فِي آخر شَوَّال فأقاما على حِصَار شاطبة متفقين فِي الظَّاهِر مُخْتَلفين فِي الْبَاطِن وكل وَاحِد مِنْهُمَا يرى أَنه أولى بهَا واضطربت مرسية إِثْر ذَلِك فَتوجه إِلَيْهَا ابْن أبي جَعْفَر مصلحاً ومسكّناً ثمَّ عَاد إِلَى حِصَار شاطبة وَوصل ابْن عِيَاض بِأَهْل الثغر معينا لأميره ابْن عبد الْعَزِيز فَلم يجد عبد الله بن مُحَمَّد بداًّ من الْفِرَار وَلحق بالمريّة فِي خبر طَوِيل وَمِنْهَا ركب الْبَحْر إِلَى أَبِيه مُحَمَّد بن عَليّ وَهُوَ بميورقة قد ملكهَا وَاسْتقر فِيهَا بِرَأْي أَخِيه أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عَليّ عِنْد ثورة الْعَامَّة بإشبيلية منصرفة من حِصَار لبلة وَلما هرب عبد الله من قَصَبَة شاطبة استولى عَلَيْهَا ابْن عبد الْعَزِيز صلحا فحصّنها وعيّن لَهَا ضابطاً وَصدر إِلَى بلنسية فَيُقَال إِنَّه دَخلهَا رَاكِبًا على جمل فِي زِيّ الْجند وجددت لَهُ الْبيعَة يَوْم قدومه وَذَلِكَ فِي صفر سنة أَرْبَعِينَ وَانْصَرف ابْن أبي جَعْفَر إِلَى مرسية ثمَّ قتل على إِثْر ذَلِك بِجِهَة غرناطة فانضافت لقنت وأعمال شاطبة إِلَى ابْن عبد الْعَزِيز

وَعند استقلاله بالرئاسة خانه الْجند وَلم تف الجباية بالواجبات فتعللوا عَلَيْهِ بذلك وعزموا على خلعه وخاطبوا ابْن عِيَاض يستعجلونه فِي الْوُصُول إِلَيْهِم من مرسية وَكَانَ قد ملكهَا بمداخلة أَهلهَا وخلع أَبَا عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر مِنْهَا فِي الْعَاشِر من جمادي الأول من سنة أَرْبَعِينَ الْمَذْكُورَة فَلم يرع ابْن عبد الْعَزِيز إِلَّا إحداق الْجند بقصره يَوْم الثُّلَاثَاء السَّادِس وَالْعِشْرين من شهر جُمَادَى الأولى الْمَذْكُور وَحكى ابْن صَاحب الصَّلَاة أَن ذَلِك كَانَ فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين مِنْهُ فَخرج رَاجِلا متنكراً وتدلّى من سور بلنسية لَيْلًا واعتسف الطَّرِيق دون دَلِيل حَتَّى لحق بجبال المريّة وَاجْتمعَ بالقائد مُحَمَّد بن مَيْمُون فَقبض عَلَيْهِ وَقَيده وَفَاء لبني غانية وَأقَام عِنْده إِلَى أَن دَفعه إِلَى عبد الله بن مُحَمَّد عدوّ ابْن عبد الْعَزِيز وطريده من بلنسية وشاطبة وَقد ورد على المرية فِي قطع

ميورقة برسم اتّباع الْعَدو فعفّ عبد الله عَن دَمه واحتمله مَعَه مُقَيّدا ونقم النَّاس على ابْن مَيْمُون فعله وَيُقَال إِن عبد الْعَزِيز لما غدر بِهِ الْجند فر إِلَى قلييرة ثمَّ رَجَعَ إِلَى بلنسية مستتراً وَدخل دَاره الْقَدِيمَة فعثر على خَبره وَطلب حَتَّى أحرق بعض دوره فَخرج ثَانِيَة مستخفياً إِلَى مرسية واقتفى أَثَره يُوسُف بن هِلَال إِلَى مقربة مِنْهَا ففاته وَأقَام هُوَ بمرسية ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ خرج مِنْهَا إِلَى المرية فَقبض عَلَيْهِ ابْن مَيْمُون وَلما خلعه الْجند قدّموا عبد الله بن مُحَمَّد بن سعد بن مردنيش نَائِبا عَن ابْن عِيَاض وأسكنوه قصر بلنسية وَقدم ابْن عِيَاض فِي آخر جُمَادَى الأولى وَقد وافته بيعَة أَهلهَا فِي طَرِيقه إِلَيْهَا فَأَقَامَ بهَا نَاظرا فِي أمورها ومصلحاً لثغورها ثمَّ عَاد إِلَى مرسية وَترك صهره أَبَا مُحَمَّد بن سعد ببلنسية أَمِيرا عَلَيْهَا من قبله وَهُوَ عمّ أبي عبد الله بن سعد أَمِير الشرق بعد ذَلِك وَالْمَعْرُوف

بِصَاحِب الْبَسِيط لِأَنَّهُ اسْتشْهد فِيهِ مَعَ سيف الدولة بن هود وَقبض أهل

الثغر على أبي جَعْفَر أَحْمد بن جُبَير وَهُوَ وَالِد أبي الْحُسَيْن الأديب الزَّاهِد وَاحْتَمَلُوهُ مُقَيّدا إِلَى حصن مطرنيش وَهُوَ من أمنع معاقل بلنسية وسجن فِيهِ إِلَى أَن فدى نَفسه بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار إِلَى مَا نهب لَهُ من دفاتر وذخائر فسرّح وَتوجه إِلَى شاطبة واتخذها دَارا

واستطالت الْأَيْدِي على سَائِر أَصْحَاب ابْن عبد الْعَزِيز وانتهب الْقصر أَيَّامًا وَعند إشخاصه مَقْبُوضا عَلَيْهِ إِلَى ميورقة سجن فِي بَيت مظلم مطبق كَانَ لَا يعرف النَّهَار فِيهِ من اللَّيْل وَترك أوقاتاً دون غذَاء وَلَا مَاء وَأقَام مسجوناً نَحوا من عشرَة أَعْوَام وَقيل اثْنَي عشر عَاما وَفِي سجنه ذَلِك قَالَ قصيدة يُعَارض بهَا أَبَا مَرْوَان الجزيري أَولهَا (يَا نفس دُونك فاجزعي أَو فاصبري ... طلع الزَّمَان بِوَجْهِهِ المتنمّر) وَهِي طَوِيلَة ضَعِيفَة لم يمر لَهُ فِيهَا كَبِير إِحْسَان فَلذَلِك تركتهَا ثمَّ إِنَّه تخلص من معتقله بسعي أبي جَعْفَر بن عَطِيَّة الْوَزير فِي ذَلِك حَتَّى خُوطِبَ إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن عَليّ بتسريحه وَقد ولى ميورقة بعد قتل أَبِيه مُحَمَّد وأخيه عبد الله فِي سنة سِتّ بل سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وجنح إِلَى الْمُوَحِّدين أعزهم الله فامتثل إِسْحَاق ذَلِك ووجّه بِهِ إِلَى بجاية وَمِنْهَا توجّه إِلَى مراكش

فسعى لَهُ ابْن عَطِيَّة فِي حُضُور الْمجْلس السلطاني وَلما طُولِبَ قَالَ يغري بِهِ ويحرض عَلَيْهِ غامطاً حقّه وكافراً يَده (قل للْإِمَام أَطَالَ الله مدَّته ... قولا تبين لذِي لبّ حقائقه) (إِن الزّراجين قوم قد وثرتهم ... وطالب الثأر لَا تؤمن بوائقه) (وللوزير إِلَى أربابهم ميل ... لذاك مَا كثرت فيهم علائقه) (فبادر الحزم فِي إخماد نارهم ... فَرُبمَا عَاق عَن أَمر عوائقه) (الله يعلم أَنِّي نَاصح لكم ... وَالْحق أَبْلَج لَا تخفي طرائقه) (هم العدوّ وَمن ولاهم كهم ... فاحذر عدوّك وَاحْذَرْ من يصادفه) فَكَانَت هَذِه الأبيات من أقوى الْأَسْبَاب فِي قتل ابْن عَطِيَّة رَحمَه الله وَله أَيَّام خموله بالمغرب يصف حَاله (أفّ لدُنْيَا تقلّبت بِي ... تقلّب المسي والغدوّ) (قد كنت فِيمَا مضى عَزِيزًا ... مسامي النَّجْم فِي العلوّ) (فحالي الْآن لَو رَآهَا ... بَكَى لَهَا رَحْمَة عدوّي) وَتُوفِّي بمراكش سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة ومولده سنة خمس وَخَمْسمِائة

146 - مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن ابْن طَاهِر الْقَيْسِي أَبُو عبد الرَّحْمَن لأهل بَيته فِي قدم الرِّئَاسَة وكرم السياسة ذكر مأثور وَأثر مَذْكُور وَقد أوردت كَلَام أبي مَرْوَان بن حيّان فِي أوّليتهم وَكَانَ أَبُو عبد الرَّحْمَن الأول مِنْهُم فِي الرسائل كَأبي عبد الرَّحْمَن الْأَخير فِي عُلُوم الْأَوَائِل ذَلِك للْبَيَان والتشقيق وَهَذَا للنَّظَر وَالتَّحْقِيق وَأول من ثار بمرسية بعد انْقِرَاض الدولة اللمتونية أَبُو مُحَمَّد بن الْحَاج اللورقي وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم قدّمه أهل مرسية فَدَعَا لِابْنِ حمدين أَيَّامًا من شَهْري رَمَضَان وشوال سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَهِي السّنة الَّتِي كثر فِيهَا الثوار بشرق الأندلس وغربها من الْقُضَاة وَغَيرهم ثمَّ أظهر التبرم بِمَا حمّل وَأحب الانخلاع مِمَّا قلّد وَاتفقَ أَن وجّه سيف الدولة بن هود قائداً من قواده يعرف بِعَبْد الله بن فتوح الثّغري إِلَى مرسية فَأخْرج ابْن الْحَاج مِنْهَا لِلنِّصْفِ من شَوَّال الْمَذْكُور ودعا لِابْنِ هود ثمَّ أخرج

وقدّم أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي جَعْفَر الْخُشَنِي الْفَقِيه فِي آخر شَوَّال هَذَا فَتَوَلّى بِالتَّدْبِيرِ بَقِيَّة الْعَام وأشهراً من سنة أَرْبَعِينَ وَكَانَ يَقُول فِي قِيَامه بالإمارة لَيست تصلح لي وَلست لَهَا بِأَهْل وَلَكِنِّي أُرِيد أَن أمسك النَّاس بَعضهم عَن بعض حَتَّى يَجِيء من يكون لَهَا أَهلا وَتوجه إِلَى شاطبة يعين أَبَا عبد الْملك مَرْوَان بن عبد الْعَزِيز على محاصرة من بهَا من الملثمين ثمَّ خرج غازياً إِلَى غرناطة ومعيناً للْقَاضِي أبي الْحسن بن أضحى فِي جَيش ضخم وَجمع كثيف يحْكى أَنه بلغ اثْنَي عشر ألفا من خيل وَرجل وَقد اشتدت شَوْكَة الملثمين بقصبتها وانضاف إِلَيْهِم من قَومهمْ خلق كثير فبالغوا فِي التَّضْيِيق على مدينتها وَأَكْثرُوا الْقَتْل فِي أَهلهَا وَلما سمعُوا بمسير ابْن جَعْفَر نحوهم تأهبوا لَهُ وبرزوا لدفاعه وَيُقَال إِن عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن غانية كَانَ فيهم قبل لحاقه بِأَبِيهِ وقدومه عَلَيْهِ ميورقة إِلَى أَمْثَاله من الْأَعْيَان ولاتهم ومشاهير حماتهم فهزموا ذَلِك الْجمع بمقربة من غرناطة وَقتل ابْن أبي جَعْفَر وَذكر ابْن صَاحب الصَّلَاة أَن عبد الله الثّغري كَانَ قائداً بكونكة فَلَمَّا سمع بِقِيَام ابْن حمدين خرج إِلَيْهِ وَأقَام لَدَيْهِ وَاتفقَ أَن وصلته مُخَاطبَة أهل

مرسية يذكرُونَ تقديمهم أَبَا مُحَمَّد بن الْحَاج وَأَنه استعفى من ذَلِك فأنفذ إِلَيْهِم الثّغري والياً وقدّم أَبَا جَعْفَر بن أبي جَعْفَر قَاضِيا قَالَ فورد يَوْم الثُّلَاثَاء منتصف شَوَّال سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَظهر من أبي جَعْفَر حبّ الرِّئَاسَة فحشد النَّاس لقِتَال الملثمين بأوريولة وغدر بهم عِنْد نزولهم على الْأمان فَقَتلهُمْ ثمَّ دَاخل أهل بَلَده مرسية فِي أَن يؤمّروه ويتقدم للْقَضَاء أَبُو الْعَبَّاس بن الحلاّل ولقيادة الْخَيل عبد الله الثغري فَلم يخالفوه وَبعد انْعِقَاد الْبيعَة لَهُ نبذ طَاعَة ابْن حمدين ودعا لنَفسِهِ وَاقْتصر لقبه على الْأَمِير النَّاصِر لدين الله وَأسْقط مِنْهُ الدَّاعِي لإِمَام الْمُسلمين وَقبض على الثغري فسجنه وصهريه ابْني مسلوقة وصيّر قيادة الْخَيل لزعنون أحد وُجُوه الْجند

ثمَّ توجّه إِلَى شاطبة معينا لِابْنِ عبد الْعَزِيز فِي حِصَار الملثمين الممتنعين بقصبتها وَرَئِيسهمْ إِذْ ذَاك عبد الله بن مُحَمَّد بن غانية فثارت الْعَامَّة بمرسية عِنْد مغيب ابْن أبي جَعْفَر عَنْهَا وسرّحوا الثّغري وصهريه من معتقلهم فلحق بهَا وأطفأ تِلْكَ النائرة وهرب الثّغري إِلَى كونكة وَعَاد هُوَ إِلَى حِصَار شاطبة إِلَى أَن هرب عبد الله بن غانية مِنْهَا فَأتبعهُ ابْن أبي جَعْفَر خيلاً سلبت مَا تجمّل من المَال وأفلت هُوَ فلحق بالمرية وَلما تغلب ابْن عبد الْعَزِيز على شاطبة عَاد ابْن أبي جَعْفَر إِلَى مرسية وَذَلِكَ فِي صفر سنة أَرْبَعِينَ ثمَّ توجه بعد ذَلِك إِلَى غرناطة مغيثاً أَهلهَا فَلَقِيَهُ الملثمون بخارجها فهزموا جموعه وقتلوه وَعند انصراف الفلّ إِلَى مرسية أجمع أَهلهَا على تأمير أبي عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر هَذَا وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر شهر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فانتقل إِلَى الْقصر ودعا لِابْنِ هود ثمَّ لنَفسِهِ بعده وقدّم أَخَاهُ أَبَا بكر على الْخَيل وَكَانَ ابْن حمدين قد وجّه ابْن أَخِيه وَهُوَ الْمَعْرُوف بِابْن أم الْعِمَاد بعسكر فَرد خائباً ثمَّ أعَاد تَوْجِيه عَسْكَر آخر مَعَ ابْن عَمه الْمَعْرُوف بالفلفلي صُحْبَة أبي مُحَمَّد ابْن الْحَاج وَابْن سوّار وَغَيرهمَا من الواصلين من أهل مرسية إِلَيْهِ فصد عَن دُخُولهَا وطولب المائلون إِلَيْهِ وَأقَام ابْن طَاهِر فِي إمرته أَيَّامًا ريمثا خُوطِبَ أَبُو مُحَمَّد بن عِيَاض بتعجيل الْوُصُول إِلَيْهِم فَعجل الْمسير نحوهم وتلقاه زعنون وَهُوَ وَال على أوريولة

فبرىء مِنْهَا إِلَيْهِ وملّكه إِيَّاهَا وَلحق بِهِ الَّذين خاطبوه من مرسية يحرضونه على قَصدهَا وَلَا علم لِابْنِ طَاهِر بذلك بل تَمَادى على تَحْسِين الظَّن بالذين قدمُوا من لِقَاء ابْن عِيَاض وَقد برز النَّاس إِلَى لِقَائِه ثمَّ دخل الْقصر الْكَبِير لَا يدافعه عَنهُ أحد وَذَلِكَ فِي الْعَاشِر من جُمَادَى الأولى من السّنة وانتقل ابْن طَاهِر إِلَى الدَّار الصُّغْرَى ثمَّ خَافَ على نَفسه فَتَركهَا وانتقل إِلَى دَاره وعفّ ابْن عِيَاض عَن دَمه لعلمه بضعفه وَكَانَ مَعَ شهامته حسن السِّيرَة وَفِي هَذَا الشَّهْر خلع الْجند مَرْوَان بن عبد الْعَزِيز ببلنسية واستدعوا ابْن عِيَاض فأمّروه وَأقَام أَمِيرا على شَرق الأندلس دَاعيا لِابْنِ هود إِلَى أَن قتل بالبسيط وداعياً بعد ذَلِك لنَفسِهِ وَخَالفهُ عبد الله الثّغري إِلَى مرسية فِي بعض أَسْفَاره مِنْهَا فَدَخلَهَا وانتزى فِيهَا وَكَانَ قد أنفذه رَسُولا إِلَى الطاغية أذفونش ليعقد مَعَه السّلم ويمالئه على صَاحب برشلونة فَعَاد من سفارته هَذِه وَزعم أَن أذفونش أمّره على مرسية واستعان على دُخُولهَا بطَائفَة من أهل الْفساد كَانُوا يشايعونه فتم ذَلِك وهرب مُحَمَّد بن

سعد بن مردنيش نَائِب بني عِيَاض فِيهَا فلحق بلقنت وَذَلِكَ فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة من سنة أَرْبَعِينَ ثمَّ قتل الثّغري سَابِع رَجَب سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَاسْتولى ابْن عِيَاض ثَانِيَة على مرسية وَسَائِر بِلَاد الشرق إِلَى أَن قضى نحبه من سهم رمي بِهِ فِي بعض حروبه مَعَ الرّوم يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين فَكَانَت ولَايَته عَاما وَتِسْعَة أشهر وَعشْرين يَوْمًا وَحمل إِلَى بلنسية فَدفن بهَا وَمُحَمّد بن سعد إِذْ ذَاك وَال عَلَيْهَا فَقَامَ بمواراته وَعلم أَهلهَا بِعَهْد ابْن عِيَاض إِلَيْهِ بالإمارة من بعده فَبَايعُوا لَهُ وَيُقَال بل نَصبه أَهلهَا لذَلِك دون عهد وَأما أهل مرسية فأمضوا نِيَابَة عليّ بن عبيد عَن ابْن عِيَاض بعد وَفَاته إِلَى أَن تخلى هُوَ فِي أَوَاخِر جُمَادَى الأولى من السّنة عَمَّا بِيَدِهِ لأبي عبد الله مُحَمَّد بن سعد ابْن مُحَمَّد بن سعد الجذامى بن مرذنيش وجدّه هُوَ الْمَعْرُوف بذلك

فقوى سُلْطَانه وَعظم شَأْنه وَاشْتَدَّ حذر ابْن طَاهِر هَذَا مِنْهُ لما كَانَ يسمع ويبصر من شهامته وحزامته وَرُبمَا عرض لَهُ ابْن سعد بِمَا يزِيدهُ حذرا مِنْهُ وانقباضاً عَنهُ فَأخذ فِي التلون وَأَقْبل على الانهماك والإدمان وزهد فِي الْإِمَارَة وَطلب السَّلامَة من غائلتها وَقطع مَعَه مدَّته خَائفًا إِلَى أَن توفّي ابْن سعد منسلخ رَجَب سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة فأفرخ روعه ورسخ بِالدُّخُولِ فِي الدعْوَة المهدية أَمَنَة وَتُوفِّي بمراكش سنة أَربع وَسبعين أَكثر هَذَا الْخَبَر المنسوق عَن ابْن صَاحب الصَّلَاة وجلّه مَعَ مَا اندرج فِيهِ زِيَادَة عَن غَيره مستفادة

وَمن شعر ابْن طَاهِر (تأيّد على الشطرنج إِن كنت لاعباً ... ) (فَمَا أمره مِمَّا يعز وَإِنَّمَا ... يعزّ علينا فِيهِ نقض القرائح) وَله وَقد جرى ذكر سُلْطَان الْمغرب بَينه وَبَين قينة فِي مَجْلِسه فَقَالَ (إِمَام تناهى فِي الْأَئِمَّة فَضله ... فَأصْبح منا النَّوْع يفخر بالشخص) وَقَالَت الْقَيْنَة (تَكَامل حَتَّى جلّ عَن وصف واصف ... وَأبْدى لنا مَا فِي الْأَنَام من النَّقْص) ولابنه أبي مُحَمَّد عبد الْحق بن أبي عبد الرَّحْمَن وهولبنت القَاضِي أبي مُحَمَّد عبد الْحق بن غَالب بن عَطِيَّة الْمحَاربي وباسمه وكنيته سمى وكنى (اختر مَكَان الْعِزّ فاحلله وَلَو ... عوّضت مِنْهُ شقاوة بنعيم) (هَذَا الحبيب وَفِيه أفضل أُسْوَة ... وَهُوَ المفدّى عِنْد كل كريم) (لم يرض عضوا للمحب يحله ... غير الْفُؤَاد وَفِيه نَار جحيم) وَله يمدح (لما وجدت الْعَالمين تقسموا ... قسمَيْنِ من حزب وَمن أَعدَاء) (قسّمت عدلك فيهمو قسمَيْنِ قد ... شملاهم من نعْمَة وشقاء) (لِلْأجرِ جاهدتم عداة الدّين لَا ... أَن العداة لكم من الْأَكفاء) وَله من قصيدة

(هجرت من الدُّنْيَا لذيذ نعيمها ... لِأَنَّك لَا ترضاه إِلَّا مخلّدا) (وقضّيت شهر الصَّوْم بِالنِّيَّةِ الَّتِي ... رقيت بهَا فِي رُتْبَة الْقُدس مصعدا) (وودّع عَن شوق إِلَيْك مبرّح ... فَلَو كَانَ ذَا جفن لبات مسهّدا) يَقُول فِيهَا (تفقّد بِحسن الرَّأْي عبدا مؤمّلا ... دَعَاهُ رَجَاء الْفَوْز أَن يتعبدا) (وَإِن كَانَ عظم الذَّنب صغّر قدره ... فَإِن سليماناً تفقد هدهدا) وَهَذَا نَحْو مَا أنشدنا الْأُسْتَاذ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْجَبَّار بن مُحَمَّد الرعيني بِحَضْرَة تونس حرسها الله قَالَ أنشدنا أَبُو البركات الْوَاعِظ الْمصْرِيّ الْمَعْرُوف بالزيزاري وَقد رَأَيْت أَنا أَبَا البركات هَذَا وَسمعت وعظه بِجَامِع بلنسية فِي سنة ثَمَان وسِتمِائَة (وَمن عَادَة السادات أَن يتفقدوا ... أصاغرهم والمكرمات مصائد) (سُلَيْمَان فِي ملك تفقد هدهداً ... وأصغر مَا فِي الطائرات الهداهد) وكل مَا عثرت عَلَيْهِ من منظوم عبد الْحق هَذَا ومنثوره مَنْصُوص فِي كتابي المترجم ب إيماض الْبَرْق فِي أدباء الشرق 147 - عبد الله بن خِيَار الجياني أَبُو مُحَمَّد عداده فِي المتوثبين وَكَانَ عَاملا على مَدِينَة فاس فِي دولة الملثمين ثمَّ استبد بهَا يَسِيرا فِي قِيَامه عَلَيْهِم بالدعوة المهدية وعَلى يَدَيْهِ كَانَ فتحهَا والموحدون

أعزهم الله إِذْ ذَاك بمكناسة فَأَسْرعُوا الْوُصُول إِلَيْهَا وأمنوا أَهلهَا عِنْد دُخُولهَا عصر يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع عشر من ذِي قعدة سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة وَقيل عِنْد الْفجْر مِنْهُ وَذَلِكَ أَن واليها يحيى بن أبي بكر بن عَليّ بن يُوسُف الْمَعْرُوف بِابْن الصحراوية أعرس تِلْكَ اللَّيْلَة بِامْرَأَة من قومه فَشَغلهُ ابْن خِيَار بِكَثْرَة مَا أهْدى إِلَيْهِ عَن النّظر لنَفسِهِ وَقد وَاعد الْمُوَحِّدين تمكينهم من الْبَلَد لما أمكنته الفرصة فَدَخَلُوا عِنْد الْفجْر وَلم يكن ليحيى محيص عَن الْفِرَار والنجاة بِنَفسِهِ فِيمَن خفّ مَعَه من أَصْحَابه وانتهوا إِلَى طنجة ثمَّ أَجَازُوا الْبَحْر مِنْهَا إِلَى الأندلس

وجلّت حَال ابْن خِيَار هَذَا بعد وَكَانَت لَهُ من الدولة الْعلية مكانة سنية وَهُوَ الْقَائِل فِي محاولته (لنا فِي جناب الدّين وَالْخَيْر أمال ... تكنّفها سعد عتيد وإقبال) (نحوز بهَا فوزاً ونحرز غِبْطَة ... فَعِنْدَ الإِمَام الْعدْل صفح وإفضال) (وَإِنِّي لأرجو أَن أفوز بليلة ... فيشرق عسّال ويشبع عَسَّال) وَفِيه يَقُول أَبُو بكر يحيى بن سهل اليكّي عِنْد تناهي حَاله فِي الحظوة والوجاهة (أيا ابْن خِيَار بلغت المدى ... وَقد يكسف الْبَدْر عِنْد التَّمام) (فَأَيْنَ الْوَزير أَبُو جَعْفَر ... وَأَيْنَ المقرّب عبد السَّلَام)

يُرِيد أَبَا جَعْفَر أَحْمد بن جَعْفَر بن عَطِيَّة الْوَزير الْكَاتِب ونكب فِي صفر من سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة وَفِيه قتل هُوَ وَأَخُوهُ أَبُو عقيل عَطِيَّة بِخَارِج مراكش وَلأبي جَعْفَر إِذا ذَاك سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة مولده سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة ولأخيه ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة وأصلهما من قمرلة قَرْيَة بطرطوشة من شَرق الأندلس ونسبهما فِي قضاعة وَيُرِيد بالمقرّب عبد السَّلَام بن مُحَمَّد الكومي وَهُوَ أَخُو بندة لأمها وتقلد الوزارة بعد أبي جَعْفَر بن عَطِيَّة وَكَانَ كثير السّعَايَة بِهِ شَدِيد الْحَسَد لَهُ لَا يُطيق الصَّبْر عَلَيْهِ وَلَا إمهاله فِيمَا وصل إِلَيْهِ فَلَمَّا صَارَت إِلَيْهِ الوزارة أدل بِقُرْبِهِ وقرابته واستبد بالأموال وَكثر التظلم من عماله فسجن بتلمسان

عِنْد الِانْصِرَاف من غَزْوَة المهدية فِي سنة خمس وَخمسين إِلَى أَن سم فِي طَعَامه فَهَلَك وَقيل إِنَّه قتل بالأرجل وَمن بَين مَا قَرَأت فِي بعض المعلقات أَن عبد السَّلَام هَذَا قَصده جمَاعَة من أهل سلا فِي وزارته فَقعدَ عَن برّهم وَلم يقْض حَاجتهم فَكتب إِلَيْهِ أحدهم (يَا من يرى خيبة الراجين تكرمة ... ونيل مَا أمّلوا عَجزا وتقصيرا) (مهلا فَإنَّك خام فِي يَدي زمن ... وَقد أعدّ لَهُ كمداً وتقصيرا) فَقتل فِي الْيَوْم الثَّانِي من دفع الرقعة إِلَيْهِ بالأرجل وَاتفقَ أَيْضا مثل هَذَا لأبي الْعلَا إِدْرِيس بن أبي إِسْحَاق بن جَامع فِي

وزارته قَصده بعض معارفه الناشئين مَعَه فَلم يرفع بِهِ رَأْسا فَكتب إِلَيْهِ (شغلت بِخِدْمَة السُّلْطَان عَنَّا ... وَلم تدر العدوّ من الصّديق) (رويدك عَن طَرِيق أَنْت فِيهَا ... فَإِن النائبات على الطَّرِيق) فنكب بعد ذَلِك بِيَوْم وَهَذَا من طريف مُوَافقَة الشُّعَرَاء فِي زجرهم للْقَضَاء وَكَانَت نكبة أبي الْعلَا هَذَا فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة بعد أَن

اسْتكْمل فِي وزارته خمس عشرَة سنة وشهراً وَعشْرين يَوْمًا واعتقل هُوَ وَابْنه يحيى وَأَقَامَا مغرّبين بِجِهَة إشبيلية سِتَّة أَعْوَام وَثَلَاثَة أشهر وَثَمَانِية عشر يَوْمًا إِلَى أَن صفح عَنْهُمَا وَقت الِانْصِرَاف من غَزْوَة شنترين سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة 148 - أخيل بن إِدْرِيس الرّندي الْكَاتِب أَبُو الْقَاسِم كتب فِي أول أمره للملثمين ثمَّ اسْتَكْتَبَهُ أَبُو جَعْفَر حمدين بن مُحَمَّد بن حمدين فِي إمارته ورعى لَهُ صحبته إِيَّاه أَيَّام قَضَائِهِ فَلَمَّا دخل ابْن غانية قرطبة وَأخرج ابْن حمدين لحق أخيل برندة بَلَده واستبد بضبطها مديدة

فحسده أَهلهَا وداخلوا أَبَا الْغمر بن السَّائِب بن غرّون فِي التَّمْكِين مِنْهَا وَهُوَ يَوْمئِذٍ قَائِم بدعوة ابْن حمدين فِي شريش وأركش فتم ذَلِك وَاسْتولى أَبُو الْغمر على قَصَبَة رندة الشهيرة المنعة دون قتال وَلَا نزال لركون أخيل إِلَيْهِ وثقته بِهِ فنجا بِنَفسِهِ وَمَا كَاد وَنهب أَبُو الْغمر ديار أَصْحَابه وخلع طَاعَة ابْن حمدين ودانت لَهُ المعاقل الْمُتَّصِلَة بِهِ فأمن أمره وَقيل بل سجن أخيل ثمَّ سرّحه فَكَانَ عِنْد أبي الحكم بن حسّون بمالقة وَمِنْهَا توجه إِلَى مراكش فأوطها واتصل بِأبي جَعْفَر بن عَطِيَّة الْوَزير وعَلى يَدَيْهِ أُعِيد مَاله وَلم يزل هُنَاكَ مكرماً وَفِي طبقته مقدما إِلَى أَن ولى قَضَاء قرطبة ثمَّ قَضَاء إشبيلية وَكَانَ سَمحا جواداً بليغاً مدْركا وَحكى لي أَنه لما أَرَادَ الِانْفِصَال من مراكش لقى أَبَا جَعْفَر بن عَطِيَّة فأنشده (يَا من يعز علينا أَن نفارقهم ... وجداننا كلّ شَيْء بعدكم عدم)

فَأَجَابَهُ أخيل (إِذا ترحّلت عَن قوم وَقد قدرُوا ... أَلا تفارقهم فالراحلون هم) وَتُوفِّي بإشبيلية سنة سِتِّينَ أَو إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَمن يُرَاجع بعض الأدباء (وفاؤك قد رضيت بِهِ حبيباً ... ورأيك قد قنعت بِهِ نَصِيبا) (وودّك لَا أُرِيد بِهِ بديلاً ... وبرّك لَا أقوم بِهِ مثيبا) (مَكَارِم مِنْك قد عبّت عبابا ... على العافين وانهالت كثيبا) (وطبعك لَو نفحت بِهِ هشيما ... لعاد الرَّوْض مطلولا خصيبا) (وعهدك كالشباب وَلَيْسَ مِمَّا ... يكون مآل نضرته المشيبا) (وَذَاكَ الشّعر أم سحر حَلَال ... فتنت بِهِ المساكت والمجيبا) وَله أَيْضا (إِلَيْك أخذت حبال الذّمام ... وفيك تعلمت نظم الْكَلَام) (فأرسلته جائلاً كالرماح ... وصلت بِهِ ثائراً كالحسام) (وَمَا كنت مِنْهُ وَلكنهَا ... أياد تفجّر صمّ السَّلَام) (تروم الإصارة فِي كل يَوْم ... فنلت الْإِصَابَة من كل رام)

(وتثنى الغصون على هزة ... كَأَن بهَا سَكَرَات المدام) (وكلّ تهنّأ إقباله ... وَلَا كإياب الْأَمِير الْهمام) (فَتى المكرمات تصدّى لَهَا ... بِحكم الكهول وَسن الْغُلَام) (فأغنى تعشر مَضَت من سنيه ... وأبلغ فِي النائبات العقام) (وسَاق إِلَى الْمُسلمين الَّتِي ... أنارت لَهُم فِي اعتكار الظلام) (وشوّق أَضْعَاف مَا اشتاقه ... وَلَوْلَا التصبر كَانَ الغرام) (وقاسي ليتّدع الْمُسلمُونَ ... وأنكى ليهلك أهل اللثام) (ونافر مِنْهُم أفاعي الرِّجَال ... تبْعَث من ضغنها بالسّمام) (وجاراهم طلق المكرمات ... فَكَانَ على الرغم مِنْهُم إِمَام) (وأعشاهم فِي سَمَاء الْعلَا ... بِنور هِلَال كبدر التَّمام) وَوجدت مَنْسُوبا إِلَيْهِ وَالصَّحِيح أَن ذَلِك لأبي جَعْفَر عبد الله بن مُحَمَّد ابْن جرج الْقُرْطُبِيّ وَهُوَ عِنْدِي بِالْإِسْنَادِ إِلَيْهِ (أما ذكاء فَلم تصفرّ إِذْ جنحت ... إِلَّا لفرقة ذَاك المنظر الْحسن) (ربى تروق وقيعان مزخرفة ... وسائح مدّ بالهطّالة الهتن) (وللنسيم على أرجائه حبب ... يكَاد من رقة يجلى على الْغُصْن)

149 - أَحْمد بن يُوسُف بن هود الجذامي أَبُو جَعْفَر هُوَ أَحْمد بن حسام الدولة أبي عَامر يُوسُف بن عضد الدولة أبي أَيُّوب سُلَيْمَان ابْن المؤتمن أبي عَامر وَيُقَال فِي كنيته أَبُو عمر يُوسُف بن المقتدر بِاللَّه أبي جَعْفَر أَحْمد بن المستعين بِاللَّه أبي أَيُّوب سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن هود الجذامي

وَكَانَ آباؤه وَأهل بَيته أُمَرَاء سرقسطة والثغر الشَّرْقِي غلبت عَلَيْهِم دون مُلُوك الطوائف الشجَاعَة والشهامة وقبضوا أَيْديهم فقلّت أمداحهم وَترك الشُّعَرَاء انتجاعهم إِلَّا فِي الغبّ والنادر على سَعَة مملكتهم ووفور جبايتهم وَأول مُلُوكهمْ أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن مُحَمَّد المتلقّب من الألقاب السُّلْطَانِيَّة بالمستعين بِاللَّه صَاحب لاردة وَصَارَ إِلَيْهِ ملك سرقسطة وَمَا مَعهَا بعد مقتل مُنْذر بن يحيى بن مُنْذر بن يحيى التجِيبِي الْأَخير فتك بِهِ ابْن عَم لَهُ يُسمى عبد الله بن حكم وحز رَأسه وسط قصره وَذَلِكَ غرَّة ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة ودعا لِابْنِ هود أول أمره ثمَّ ثار بِهِ أهل سرقسطة فلحق بحصن روطة الْيَهُود أحد معاقلها المنيعة وَقد كَانَ أعده لنَفسِهِ وَنَجَا بفاخر مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من ذخائر آل مُنْذر وَنهب الْعَوام قصر سرقسطة إِثْر خُرُوجه حَتَّى قلعوا مرمره

وطمسوا أَثَره لَوْلَا تَعْجِيل سُلَيْمَان بن هود فَملك الْبَلَد فِي الْمحرم سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وأورثه بنيه حِين توفّي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وحظي بولايته دون إخْوَته ابْنه أَبُو جَعْفَر أَحْمد الملقب بالمقتدر وَكَانَ أقواهم سُلْطَانا وَهُوَ الَّذِي اسْترْجع مَدِينَة بربشتر وافتتحها على النَّصَارَى

عنْوَة وخلع إقبال الدولة عليّ بن مُجَاهِد من دانية وسيّره إِلَى سرقسطة دَار ملكه وهنالك هلك سنة أَربع وَسبعين وفيهَا توفّي المقتدر وَولى بعده ابْنه أَبُو عَامر يُوسُف بن أَحْمد الملقب بالمؤتمن فَلم تطل مدَّته وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَسبعين وَولى بعده ابْنه أَبُو جَعْفَر أَحْمد الملقب بالمستعين بِاللَّه وَاسْتشْهدَ على مقربة من تطيلة يَوْم الِاثْنَيْنِ أول رَجَب من سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة وَولى بعده ابْنه الْحَاجِب عماد الدولة أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن أَحْمد وَشرط عَلَيْهِ أهل سرقسطة أَلا يستخدم الرّوم وَلَا يلابسهم فنقض بعد أَيَّام يسيرَة ذَلِك لما استشعر من ميل النَّاس إِلَى الملثمين وَأقَام بحصن روطة واستدعى أهل سرقسطة مُحَمَّد بن الْحَاج اللمتوني وَالِي بلنسية فوافاهم صَبِيحَة يَوْم السبت الْعَاشِر من ذِي قعدة سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة فأمكنوه من الْبَلَد وَجَرت قصَص طَوِيلَة أفضت إِلَى تغلب الرّوم على سرقسطة فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع من شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَقد كَانَ عبد الْملك هَذَا وجّهه أَبوهُ المستعين أَحْمد بن يُوسُف المؤتمن إِلَى يُوسُف بن تاشفين فِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة بهدية سنية من جُمْلَتهَا أَرْبَعَة عشر ربعا من آنِية الْفضة مطرزة باسم جدّه المقتدر وَالِد جدّه المؤتمن فقبلها

ابْن تاشفين وَأمر بضربها قراريط فرقت لَيْلَة عيد النَّحْر فِي أطباق على رُؤَسَاء قومه وَهُوَ إِذْ ذَاك بقرطبة وَقد أَشَارَ إِلَى بيعَة ابْنه عَليّ بن يُوسُف بالعهد فَحَضَرَ عبد الْملك ذَلِك وَلما توفّي بروطة فِي شعْبَان سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة ولى بعده ابْنه أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن عبد الْملك سيف الدولة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه ويلقب أَيْضا بالمستعين بِاللَّه وَهُوَ آخر بني هود ملكا فَأَقَامَ بروطة إِلَى أَن تخلى عَنْهَا للطاغية أذفونش بن رمند الْمَعْرُوف بالسّليطين وعوضه مِنْهَا بِنصْف مَدِينَة

طليطلة وَذَلِكَ فِي شهر ذِي قعدة سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَار مَعَه فأنزله بهَا وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ أخذت دولة الملثمين فِي الانتقاض والانقراض

فَخرج سيف الدولة هَذَا تأثرا بالثغور الجوفيّة وَمِنْهَا ورد على قرطبة فَدَخلَهَا بمداخلة أَهلهَا إِيَّاه وممالأة ملإها على ذَلِك وانزعج ابْن حمدين أَمَامه فلحق بالمعقل الْمَعْرُوف بفرنجولش ثمَّ خرج مِنْهَا بعد اثْنَي عشر يَوْمًا ناجياً بِنَفسِهِ وَقد ثارت بِهِ الْعَامَّة وَقتلت وزيره ابْن شمّاخ وَطَائِفَة من أَصْحَابه فقصد جيان وَقد ثار بهَا قاضيها ابْن جزيّ فتغلب عَلَيْهِ وملكها ثمَّ سَار إِلَى غرناطة فملكها واضطربت عَلَيْهِ بهَا الْأُمُور فأسلمها وَعَاد إِلَى جيّان فداخله أهل مرسية واستدعوه فورد عَلَيْهِم ودخلها يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن عشر من رَجَب سنة أَرْبَعِينَ وَلم يستكمل فِي جَمِيعهَا حولا وَاحِدًا وَقد كَانَ ابْن عِيَاض تأمّر بمرسية ودعا لِابْنِ هود هَذَا فوجّه إِلَيْهِ ابْنه أَبَا بكر فبرز للقائه وَأظْهر الاحتفاء بمقدمه وَسَار بِهِ إِلَى بلنسية حِين أمّره أَهلهَا وخلعوا مَرْوَان بن عبد الْعَزِيز قاضيها ثمَّ ولاه دانية وَبلغ ابْن عِيَاض وُرُود ابْن هود وحلوله بقصر مرسية فَعجل بِهِ اللحاق وَقدم يَوْم الْأَحَد الموفّى عشْرين من رَجَب مظْهرا طَاعَته وممتثلاً أمره وَنزل الْقصر الصَّغِير فَألْقى إِلَيْهِ ابْن هود بالأمور كلهَا وَخَصه باسم الرِّئَاسَة وَبعد لَيَال قَلَائِل توجها جَمِيعًا إِلَى شاطبة وَقد سبقهما إِلَيْهَا عبد الله بن سعد بعسكر بلنسية فِي اتّباع الرّوم المغيرين على نَوَاحِيهَا أَصْحَاب الطاغية أذفونش فاستشهد ابْن هود وَابْن سعد لما التقى الْجَمْعَانِ وَنَجَا ابْن عِيَاض وَكَانَت هَذِه الوقيعة الْكُبْرَى على الْمُسلمين بالموضع الْمَعْرُوف

باللّجّ وبالبسيط على مقربة من جنجالة يَوْم الْجُمُعَة الموفّى عشْرين لشعبان من سنة أَرْبَعِينَ وَقيل يَوْم السبت بعده وَأَبُو جَعْفَر بن حسام الدولة هُوَ الْقَائِل يمدح من قصيدة (عَلَوْت فَمَا تسمو لمقدارك الشّهب ... وَقد قصّرت فِي مَا تسطّره الْكتب) (وَأَنت إِذا وجهت جيشك رائداً ... تقدّمه من بعض أنصارك الرعب) (أَقمت لنا الدّين الحنيفيّ ماثلاً ... كأنّا نرى المهديّ مَا ضمّه التّرب) (إِذا خلصت نفس الوليّ لربّه ... فَغير عَجِيب أَن يوفقه الربّ) وَله (يَا باكياً عمر الطلول بدمعه ... أسفا على ذَاك الدَّم المطلول) (أودت بلبّك لوعة صديت لَهَا ... صفحات ذَاك الخاطر المصقول) وَله (لَيْت شعري وَنحن بالمغرب الْأَقْصَى ... مَتى تزجر الفلاة الأمون) (بفلاة ترى الرِّيَاح بهَا الهوج ... عرتهنّ فَتْرَة وَسُكُون) (وتلوح البروق مثل سيوف الْهِنْد ... فِيهَا أجفانهن الجفون) (والسراب الرقراق فِي صفحة الْبَيْدَاء ... يغشى الهضاب مَاء معِين) (تتبدّى لَك الظعائن فِيهِنَّ ... فَقل أينق بهَا أَو سفين) (خطرت خطرة الغرام عَليّ الْقلب ... وَحسب الْفَتى لَهَا يستكين) (أذكرتني بلجاء ورق تجاوبن ... بِنَجْد حديثهن شجون) (أطربتني أصواتهن على الأيكة ... قد يطرب الحزين الحزين)

وَمِنْهَا (يامة الْقَوْم والمنى يطْمع الْمَرْء ... إِذا مَا اسْتَقل يَوْمًا قطين) (إِن تَكُونِي قد اسْتَقر بك الرّبع ... فقلبي مَعَ الرفاق رهين) (أَو تَكُونِي سلوت عَنَّا فَلَا وَالله ... لم تسلك الظباء الْعين) (أَيْن للشمس أَن تنَال محياك ... وتعزي لمعطفيك الغصون) (غرر لحن من دجي الشّعر بيض ... مَا تجلّت عَن مِثْلهنَّ الدّجون) 150 - أَحْمد بن قَامَ الْكَاتِب أَبُو الْعَبَّاس دَار سلفه بياسة وَكَانَت لَهُم بهَا فِي الْفِتْنَة رئاسة وَذكر أَبُو عَمْرو بن

الإِمَام فِي كتاب سمط الجمان وَسقط الأذهان من تأليفه أَن أَبَا الْعَبَّاس هَذَا رَحل عَن الأندلس لبأو كَانَ فِيهِ استهواه وزهو جَاوز بِهِ غَايَته ومداه قَالَ وَكَثِيرًا مَا كَانَ يلحظ الجزيرة بِعَين الاحتقار وينزلها وَأَهْلهَا منزلَة الصّغار ويأنف أَن تكون لَهُ دَار قَرَار فَلَا يمتثل إِلَّا (أَنا فِي أمة تداركها الله ... غَرِيب كصالح فِي ثَمُود) حَتَّى قوّض عَنْهَا خيامه وَمَشى مَا مَشى ظلّه أَمَامه فَمَا عرف أَيْن صقع وَلَا فِي أَي الْبَوَار وَقع وَهُوَ الْقَائِل من أَبْيَات (هم وصلوا لبلي بلَيْل ابْن حندج ... وَقد كَانَ لَوْلَا بَينهم ليل متبج) (ليَالِي لَا نجم الزجاجة آفل ... هُنَاكَ وَلَا بدر النّديّ بمدلج) (أردد طرفِي بَين برق مدامة ... وبرقة ثغر مِنْهُ تحمى بأدعج) (فأرشفة من تياك ريقة سلسل ... وأرشف من ذياك ريقة أفلج) (وَلَا شدو إِلَّا صَوت حلي بلبّة ... وَلَا نقل إِلَّا ورد خدّ مضرج) (ووجنة تفاح وألحاظ نرجس ... وأصداغ ريحَان وخال بنفسج) أَرَادَ بلَيْل ابْن حندج ليل امْرِئ الْقَيْس حَيْثُ يَقُول (وليل كموج الْبَحْر أرْخى سدوله ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي)

وَأَشَارَ بلَيْل منبج إِلَى قَول عبد الْملك بن صَالح الْهَاشِمِي حَيْثُ سَأَلَهُ الرشيد عَن دارة منبج فَكَانَ من وَصفه لَهَا أَن قَالَ لَيْلهَا سحر كُله وَله فِي الْمَدْح (رصانة حلم سفهت كلّ أحنف ... وديمة جود بخّلت كلّ حَاتِم) (وفطنة علم تحتهَا إِن دجا الوغى ... جَهَالَة رمح أَو سفاهة صارم) 151 - مُحَمَّد بن حمدين بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز ابْن حمدين التغلبي أَبُو الْحسن هُوَ ابْن عَم أبي جَعْفَر حمدين بن مُحَمَّد بن عَليّ بن حمدين الثائر بقرطبة والمدعوّ لَهُ بِأَكْثَرَ قَوَاعِد الأندلس وَيعرف مُحَمَّد هَذَا بالفلفلي فِي أهل بَيته وللمنصور مُحَمَّد بن أبي عَامر عَلَيْهِ ولادَة وَكَانَ ابْن عَمه قد ولاه مرسية بعد مقتل ابْن أبي جَعْفَر بِنَاحِيَة غرناطة وَبَعثه بعسكر مَعَ طَائِفَة من أَعْيَان مرسية فَلَمَّا دنا مِنْهَا صدّ عَنْهَا وقاتله الْعَرَب الَّذين كَانُوا بهَا فَانْهَزَمَ جمعه وَانْصَرف مفلولا وأمير مرسية حِينَئِذٍ أَبُو عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر مخلوع أبي مُحَمَّد بن عِيَاض بعد خمسين يَوْمًا أَو نَحْوهَا من ولَايَته وَذَلِكَ كلّه فِي سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ سكن ابْن حمدين هَذَا مراكش مجاوراً لأبي عبد الْملك مَرْوَان بن

عبد الْعَزِيز وَبني سيدراي بن وَزِير رُؤَسَاء الغرب قَالَه ابْن صَاحب الصَّلَاة وَحكى أَنهم باتوا لَيْلَة فِي أنس جمعهم فِيهَا انقلاب الزَّمَان وَابْن حمدين غَائِب عَنْهُم فَلَمَّا حضر كتبُوا إِلَيْهِ معرّفين بذلك فجاوب ابْن وَزِير مِنْهُم بِأَبْيَات مِنْهَا (يَا وَاحِد الْفضل والسماح ... وَيَا فَتى الجدّ والمزاح) (سَأَلت مستفهماً رَسُولا ... فهزّ مني عطف ارتياح) (وَلَيْلَة الْأنس لَو أُعِيدَت ... أصبح عِنْدِي من الصَّباح) (شربت فِيهَا السرُور صرفا ... وَأَنت ريحانتي وراحي) (فهاج حبي ولذّ شربي ... بِغَيْر إِثْم وَلَا جنَاح) (إيه وقلتم فِي وصف ظَبْي ... يبسم عَن درّ أَو أفاح) (جديب خصر خصيب ردف ... ينْهض عَن مثقل رداح) (شَكَوْت مِنْهُ وَرب شكوى ... أليمة من هوى الملاح) (وَمن رأى اللَّيْث فِي محلّ ... يَقُودهُ جائل الوشاح) (يَا فَارس الْخَيل إِذْ تلاقى ... فِي مأزق الْبَأْس والكفاح) (إنّ صفاح الحسان أنكى ... فِي الْقلب قرحاً من الصّفاح) (أشفار ألحاظها شفار ... تندقّ مِنْهَا سمر الرماح)

(أيّ الْقُلُوب الصّحاح يبْقى ... على جفون مرضى صِحَاح) (أفديك من عاشق عفيف ... غير مُبِيح سوى الْمُبَاح) (ينقاد للبر والمراضي ... وَهُوَ عَن النكر ذُو جماح) (فانعم هَنِيئًا قرير عين ... مَا اهتزت القضب بالرياح) 152 - أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد الوقّشيّ الْوَزير أَبُو جَعْفَر أحد الكفاة الأمجاد والدهاة الأنجاد وَهُوَ من بَيت القَاضِي أبي الْوَلِيد هِشَام بن أَحْمد الوقّشيّ وَهِي قَرْيَة بنواحي طلبيرة مُشَدّدَة الْقَاف

وَأرَاهُ ابْن أَخِيه ونسبهم فِي كنَانَة قَامَ بِأَمْر أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن همشك ضابطاً لأعماله ومصلحاً لأحواله وَلما هزم ابْن سعد وَابْن همشك مَعَه بغرناطة صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين لرجب سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة وَهِي وقيعة السّبيكة إِثْر هزيمَة مرج الرقاد

عزم على استئصال ابْن همشك ومنازلة بِلَاده فلاذ بالفرار وَأسلم جيّان لوزيره الأخصّ أبي جَعْفَر هَذَا فنازلها الموحدون أعزهم الله وَهُوَ بضبطها مستبد وَإِلَى مؤمّره عَلَيْهَا مُسْتَند إِلَى أَن صدورا عَنْهَا لعمارة قرطبة ودخلوها ضحوة يَوْم الْأَحَد الثَّانِي عشر من شَوَّال من السّنة وَبهَا إِذْ ذَاك فِيمَا حكى نَحْو من ثَمَانِينَ رجلا قد أكلتهم الْفِتْنَة وشردتهم المجاعة من طول إلحاح ابْن همشك عَلَيْهِم بالحروب وَشن الغارات مَعَ الشروق والغروب رَجَاء انتظامها مَعَ جيّان وَسَائِر بِلَاده فنفّس عَن أبي جَعْفَر وَقد نَاب أحسن مناب وَحل من صَاحبه آثر مَحل

وَلم يزل بعد ذَلِك يحسن الضَّبْط لبلاده وَيظْهر الْكِفَايَة فِي كَافَّة محاولاته إِلَى أَن اعتلق ابْن همشك بالدعوة المهدية خلدها الله ونابذ صهره مُحَمَّد بن سعد وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ بعد الوقيعة الْعُظْمَى بفحص الجلاّب على مقربة من مرسية وَكَانَت يَوْم الْجُمُعَة سَابِع ذِي الْحجَّة من سنة سِتِّينَ ووجّه وزيره أَبَا جَعْفَر هَذَا وافداً عَنهُ إِلَى مراكش ومستصرخاً على صهره ابْن سعد وَكَانَ قد وطئ أَعماله ودوخها وتغلب على كثير من معاقله وَكَانَت تَحْتَهُ بنت ابْن همشك فَطلقهَا ثمَّ نَدم وَهدم رحى الوقّشيّ بولجة بلنسية فَقَالَ فِي ذَلِك (أَلا أبلغا عني الشّريق وَأَهله ... بِأَنِّي لَا أثني عناناً عَن الغرب) (لأجلبها خزر الْعُيُون ضوامراً ... وأوطئها أجسادكم بدل التّرب) (هدمتم رحى من لَا يزَال بسعيه ... وأفكاره يحني عَلَيْكُم رحى الْحَرْب)

(رحى شدّ مَا يفني الرِّجَال بطحنها ... وَلَيْسَ لَهَا قطب سوى الطعْن وَالضَّرْب) (ألم أجلب الْجَيْش العرمرم نحوكم ... وصيّرتكم فِي مَا علمْتُم من الكرب) (وَإِنِّي مليّ أَن أكدّر مَا صفا ... لكم بعد هَذَا فِي الْبِلَاد من الشّرب) (فَإِن يَك عَن أوطانكم عمر نأى ... فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ على قرب) وَله فِي وفادته على مراكش سنة أَربع وَسِتِّينَ يهنىء بعيد الْفطر من قصيدة طَوِيلَة (تحنّ إِلَيْكُم وافدات المواسم ... فتهدى إِلَى كفيّكم ثغر باسم) (ومنهن عيد الْفطر جَاءَ مسلّماً ... عَلَيْك فحيّا مِنْك أفضل طاعم) (وَمن قبله وافي الصّيام بشهره ... على خير أواب وَأفضل صَائِم) يَقُول فِيهَا (تقبّلت أَخْلَاق الكهولة ناشئاً ... فَلم تدر يَوْمًا مَا منَاط التمائم) (وَلَو لم تشأ وَطْء التُّرَاب بإخمس ... لسرت على هام الْمُلُوك الخضارم) وَله وَقد أحضر لمعاينة قتل أَسد هائل المنظر يصفه من كلمة (جهم المحيّا إِن تبسّم هِبته ... وَمن الْعَجَائِب هَيْبَة المتبسّم) (وَيُقَال كل الصَّيْد فِي جَوف الفرا ... وَأرى الْفراء لَدَيْهِ بعض الْمطعم) (وكأنما هُوَ نَاظر عَن زئبق ... وكأنما هُوَ كاشر عَن مخدم) (وَكَأن لبدته بَقِيَّة فَرْوَة ... قصرت على طول الزَّمَان الأقدم) (لما تمرد فِي العرينة فتّحت ... أَبْوَابهَا فانساب مثل الأرقم) (وَعلا زئير مِنْهُ حَتَّى خلته ... كالفحل يهدر عِنْد شول هيّم)

(وظننت أَن الرَّعْد من حَيْثُ الحيا ... حَتَّى سَمِعت الْيَوْم رعداً من فَم) (وتناولت زرق الأسنة زرقه ... حَتَّى بدا فِي شكله كالشيهم) ولي فِي هَذَا الْمَعْنى من كلمة قلتهَا عِنْد وفادتي على حَضْرَة تونس أيدها الله رَسُولا عَن وَالِي بلنسية ودانية أبي جميل بن سعد وَقد أحضرت لمثل ذَلِك فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة (تحنّ إِلَى ملعب للظباء ... بكثبان رامة أَو غرّب) (فهلاّ إِلَى ملعب للأسود ... سعدت بمنظره المعجب) (يُقَام الْجِهَاد بِهِ والجلاد ... لكلّ فَتى مدره محرب) (ويضري على الفتك بالضاريات ... فَإِن غَالب الْقرن لم يغلب) (ضوار ضوارب أظفارها ... تعير الظّبي رقة المضرب) (فَمن أَسد شرس محنق ... وَمن نمر حرد مغضب) (أثيرت حفائظها فانبرت ... تسابق فِي شأوها الأرحب) (تصم المسامع من زأرها ... عوادي كالضّمّر الشّزّب) (وتنبو الْعُيُون لإقدامها ... مذربة الناب والمخلب) (كواشر عَن مرهفات حداد ... مَتى تصدع الْهَام لَا تنشب) (نيوب نبتن من النائبات ... وأزرين بالصارم المقضب) (تنوء ثقالاً وَلكنهَا ... أخفّ وثوباً من الجندب) وَمِنْهَا فِي وصف ملاعب لَهَا من أهل الثقافة وَكَانَت فِي ذَلِك الْيَوْم الْمُبَارك أَرْبَعَة آساد ونمرين يدحرج إِلَيْهَا كرة مُتَّصِلَة من خشب محكمَة الصَّنْعَة تحجبه

من بأسها وَهِي رابضة وَبِيَدِهِ حدائد طوال فِي نِهَايَة الإرهاف معدة لَهَا فَإِذا أحسّت بِهِ وَثَبت على الكرة فألقم أفواهها تِلْكَ الحدائد ودحرج الكرة فتباعدت عَنهُ تمجّ الدَّم وَأَحْيَانا يُجهز بهَا عَلَيْهَا إِذا لم يَأْمَن عاديتها وَقد حفر بمجالها الرحب لآخرين مهاو تسع جثثهم وَلها أَبْوَاب صغَار يطبقونها عَلَيْهِم فَإِذا ربضت على بعد صِيحَ بأحدهم فَفتح بَاب تِلْكَ الهوة وهجهج بهَا وَرُبمَا ألمع لَهَا بِمَا يكون فِي يَده فَمَا هُوَ إِلَّا أَن ترَاهُ فيكاد وثوبها إِلَيْهِ يعجله عَن إطباق الْبَاب عَلَيْهِ ثمَّ تَنْصَرِف عَنهُ يائسة مِنْهُ وَقد اشْتَدَّ حنقها وَعظم زئيرها فيعاين من ذَلِك آنق منظر وأبدع مرأى (ومقتحم غَمَرَات الرّدى ... إِذا مَا ادّعى الباس لم يكذب) (يلاعبها حَيْثُ جد الْحمام ... فتفرغ مِنْهُ إِلَى مهرب) (يكرّ عَلَيْهَا وَلَا جنّة ... سوى كرة سهلة المجذب) (يدحرجها مَاشِيا ثنيها ... على حذر مشْيَة الأنكب) (عجبت لَهَا أحجمت رهبة ... وأقدم بَأْسا وَلم يرهب) (وقته الأواقي على أنّه ... تسنّمها صعبة الْمركب) (وثاو بمطبقة فَوْقه ... مَتى تطف هامته ترسب) (يهجهج بالليث كَمَا يهيج ... ويأوي إِلَى الْكَهْف كالثعلب) (كَذَلِك حَتَّى هوت نَحْوهَا ... عِقَاب الْمنية من مرقب) (وعاجت عَلَيْهَا قواسي القسيّ ... فعبّت من الْحِين فِي مشرب) (وشالت هُنَاكَ بأذنابها ... لياذاً من الْعقر كالعقرب) (فيا لقساور قد صيّرت ... فرائس للأسهم الصيب)

وللوقّشيّ تحقق بِالْإِحْسَانِ وَتصرف فِي أفانين الْبَيَان وكتابي الْمُؤلف فِي أدباء الشرق المترجم بإيماض الْبَرْق مُشْتَمل على كثير من شعره ومدحه أَبُو عبد الله الرّصافي بِمَا ثَبت فِي ديوانه وأعرب عَن جلالة شانه وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ وَأَبُو جَعْفَر بن عَطِيَّة من مفاخر الأندلس وَكَانَا متعاصرين وَفِي الْكِفَايَة متكافئين وَلذَلِك فِي النثر مزية هَذَا فِي الشّعْر وَله يصف الزرافة من أَبْيَات (لبست من الصّفر الأنيق ملاءة ... مرقومة الجنبات بالعقيان) (وَكَأَنَّهَا قد قسّمت فِي خلقهَا ... فأتتك بَين الْخَيل والبقران) (وَكَأن قرينها إِذا شالتهما ... قلمان قلّم مِنْهُمَا الطرفان) (طَالَتْ قَوَائِمهَا وَطَالَ تليلها ... حَتَّى لقد أوفى على الجدران) (وتفاوتت فِي سمكها فوارؤها ... ثلث لَهَا وأمامها ثلثان) وَله فِي حفظ السِّرّ (ومستودع عِنْدِي حَدِيثا يخَاف من ... إذاعته فِي السّر أَن ينْفد الْعُمر) (فَقلت لَهُ لَا تخش مني فضيحة ... لسرّ غَدا مَيتا وصدري لَهُ قبر)

(على أَن من فِي الْقَبْر يُرْجَى نشوره ... وسرّك مَا يُرْجَى لَهُ أبدا نشر) وَله مِمَّا استفدته من أبي رَحمَه الله وأنشدنيه (أَلا قرّب الله الديار وَأَهْلهَا ... وَمن حلّ فِي شقّ من الغرب نازح) (أعانق صَدْرِي فِي الْخَلَاء تشوّقاً ... لكَوْنهم مَا بَين طيّ الجوانح) وَبَينهمَا بَيت ثَالِث ذهب من حفظي وَله فِي النسيب أَيْضا (لعلّ فِي الظاعنين سارا ... من كَانَ لي بالعقيق جارا) (إِن صَحَّ هَذَا خُذُوا بذحلي ... من بَينهم حادي المهارى) يَقُول فِيهَا (مَا بَال عينيّ مُنْذُ بنتم ... لم تطعما للكرى غرارا) (وَمَا لورد بوجنتيكم ... أنبت فِي وجنتي بهارا) (أيا نديميّ أخبراني ... فَإِن فِيمَا أرى اعْتِبَارا) (أبصرتما قبلهَا قَضِيبًا ... قد أثمر اللَّيْل والنهارا) (أَو وجنة وَهِي جسم مَاء ... تعود إِثْر الْحيَاء نَارا) وَله فِي الشقائق (وشقائق لاحت على الأغصان ... مثل الخدود تزان بالخيلان) (يهفو النسيم مَعَ الأصائل وَالضُّحَى ... فيهز مِنْهَا معطف النّشوان) فَكَأَنَّهَا قضب الزّمرّد ألصقت ... بالمسك فِيهَا أكؤس العقيان)

وَله فِي غُصْن منّور بيد حبشِي طلع بِهِ وَهُوَ فِي مجْلِس أنسه مَعَ ندمائه (وزنجيّ ألمّ بِغُصْن نور ... وَقد زفّت لنا بنت الكروم) (فَقَالَ فَتى من الندماء صفه ... فَقلت اللَّيْل أقبل بالنجوم) وَقد أنشدنيهما صاحبنا أَبُو عَليّ بن سُلَيْمَان الْأمين الشّريشي بمنزلي من حَضْرَة تونس قَالَ أنشدنيهما الْأُسْتَاذ أَبُو عَليّ عمر بن عبد الْمجِيد الرّندي بمالقة لأبي عبد الله الرّصافي وَحكى لي عَنهُ أَنه كَانَ بِظَاهِر مالقة مَعَ طَائِفَة من أَصْحَابه على أنس فَصَعدَ غُلَام أحدهم إِلَى شَجَرَة لوز منورّة فاقتطع غصناً مِنْهَا وأتاهم بِهِ فَسَأَلُوهُ وَصفه فَقَالَ بديهاً (وزنجيّ ألمّ بِنور لوز ... وَفِي كاساتنا بنت الكروم) وَمَا بعده كَمَا تقدم إِلَّا أَنه قَالَ من الفتيان مَكَان قَوْله من الندماء وَغلط أَبُو مَرْوَان بن صَاحب الصَّلَاة الإشبيلي فنسبها فِي تَارِيخه إِلَى بعض الْأُمَرَاء وَزعم أَنه قَالَهَا فِي حبشيّ بِيَدِهِ شمعة وَلَا يَلِيق هَذَا التَّشْبِيه بذلك وَتُوفِّي أَبُو جَعْفَر الوقّشيّ بمالقة صادراً عَن مراكش فِي سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة

وحَدثني شَيخنَا أَبُو الرّبيع بن سَالم أَنه اجتاز ببقيع مالقة فَاسْتحْسن مَا رأى من زخرفة الْقُبُور بِهِ واغتراس الْأَشْجَار ذَات النواوير والأزهار أثناءها فتمنى أَن يدْفن هُنَالك فوفت الأقدار بأمنيته عِنْد موافاة منيته وَكَانَت وَفَاة أبي إِسْحَاق بن همشك قبله بمكناسة فِي صفر سنة ثِنْتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة 153 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن سُفْيَان المَخْزُومِي أَبُو بكر صحب أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن معدّ الأقليشيّ الزَّاهِد وَمَال إِلَى طَرِيقَته وَأنْفق فِي أَبْوَاب الْخَيْر وَالْمَعْرُوف أَمْوَالًا جليلة سَمِعت شَيخنَا أَبَا الْخطاب بن وَاجِب وَغَيره يذكرُونَ ذَلِك وَكَانَ يعرف بالعابد لِكَثْرَة إيثاره وَطول صحبته الْفُقَرَاء وإكبابه على الْأَعْمَال الصَّالِحَة وداره جَزِيرَة شقر من أَعمال بلنسية وبيته شهير النباهة

وَلما ضعف أَمر أبي عبد الله مُحَمَّد بن سعد بشرق الأندلس وانسلخ من طَاعَته أَبُو إِسْحَاق بن همشك صهره بجيّان وَمَا إِلَيْهَا ثمَّ ابْن عَمه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سعد بالمريّة واستوحش حَتَّى من نَفسه أخرج أهل بلنسية مِنْهَا وأسكنهم ظَاهرهَا وشحنها بالروم وأتباعهم وَنوى ذَلِك فِي غَيرهَا فخاف أَبُو بكر بن سُفْيَان هَذَا أَن يُخرجهُ من بَلَده وَكَانَ فِيهَا متّبعاً فَدَعَا للموحدين أعزهم الله وخلع ابْن سعد وَرَأس بموضعه ومالأ جِيرَانه فأنفذ إِلَيْهِ الرئيس أَبُو الحجاح يُوسُف بن سعد قائداً من كبار أَصْحَابه فِي جملَة من خيله ورسم لَهُ حصاره والتضييق عَلَيْهِ فَبَدَأَ بمنازلة منتصف شَوَّال من سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَأقَام على ذَلِك إِلَى منتصف ذِي الْحجَّة وَابْن سُفْيَان يقاومه وَيقوم بتدبير بَلَده والأمداد تتلاحق فِي كل حِين وتحدق بِهِ وَابْن سعد وَأَخُوهُ أَبُو الْحجَّاج قد اكتنفاه فِي الجموع الكثيفة حَتَّى خيف من الوهن فاقتحم الْبَلَد ذُو الوزارتين أَبُو أَيُّوب بن هِلَال مقوياً عزائم أَهله وضامناً لَهُم الِاسْتِقْلَال بضبطه فتخلى ابْن سُفْيَان لَهُ عَنهُ رَاضِيا فِي الظَّاهِر متبرماً فِي الْبَاطِن وَتَوَلَّى ابْن هِلَال من المصابرة فِي تِلْكَ المحاصرة والمحاولة لتِلْك المصاولة مَا أبقاه أثرا مَشْهُورا وخبراً تداولته الألسن دهوراً واعتل ابْن سعد خلال ذَلِك فلحق بمرسية وألزم أَخَاهُ مُلَازمَة الْبَلَد فتنفس الخناق ثمَّ انتعشت بوفاته الأرماق وَلابْن سُفْيَان حَظّ من النّظم قصره على الزّهْد وَهُوَ الْقَائِل من أَبْيَات (كلّ عَطاء فَإلَى عِلّة ... لَا شكّ يُفْضِي ولوجه السّقم) (إِلَّا الَّذِي مِنْك بِلَا عِلّة ... يَا خَالق الْعَرْش ومجري الْقَلَم)

(كلّ الورى لابس ثوب الدجى ... لَوْلَا سنا مِنْك يجلّي الظّلم) وَأما ابْنه أَبُو الْمطرف مُحَمَّد فقويّ الْعَارِضَة معِين الطَّبْع حسن التَّصَرُّف وَله عَن أَبِيه وَسَائِر أهل بَلَده عِنْد اشتداد الْحصار وتمادي المضايقة رِسَالَة حَسَنَة فِي الاستصراخ والاستنصار أودعها أبياتاً مِنْهَا (تدارك أَمِير الْمُؤمنِينَ دماءنا ... فَإنَّك لِلْإِسْلَامِ وَالدّين نَاصِر) (ووجّه إِلَى استنقاذنا بكتيبة ... يهاب الردى مِنْهَا العدوّ المحاصر) (تنفّس من ضيق الخناق بقطرنا ... فتدرك آمال وترعى أواصر) (إِذا مَا انكفى بالخزي وارتد خائباً ... فمطمحه عَن نيلها متقاصر) (فليت ابْن سعد إِذْ تألف مَا نعت ... فَلم تتمخص عَن قواه العناصر) (ستذهب أنوار الْخلَافَة ظلمه ... وتلفظه بعد الْخُيُول المقاصر) (ويهدم مَا قد أسس الْكفْر عِنْده ... كريم السّنا تثني عَلَيْهِ الخناصر) (فَهَذَا الَّذِي يَبْنِي الْمَسَاجِد أمره ... وَأمر ابْن سعد أَن تشاد المعاصر) (وَذَا الْملك آيَات المثاني تهزّه ... وَذَاكَ بِأَصْوَات المثاني البناصر) (بقيت أَمِير الْمُؤمنِينَ مخلّداً ... وكلّ الورى عَن كنه وصفك قَاصِر) وَمَاله عِنْدِي ولأخويه أبي مُحَمَّد عبد الله وَأبي جَعْفَر أَحْمد وَكَانُوا جَمِيعًا أدباء نجباء فِي كتاب إيماض الْبَرْق من تأليفي مُسْتَوْفِي وَالْحَمْد لله

154 - نَفِيس بن مُحَمَّد الرّبعي الْبَغْدَادِيّ أَبُو الْفضل يعرف بِابْن قمّونة وَنسبه صَرِيح فِي ربيعَة وَقدم على الْمغرب فَتلقى بِالْقبُولِ وَولى الجزيرة الخضراء وَكَانَ أديباً فصيحاً وَهُوَ الْقَائِل فِي مقتل عمر الْمَعْرُوف بالرشيد سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة (فَللَّه درّك من عَادل ... أقرّ عيُونا وأذكى عيُونا) (سَطَا بالرشيد فَكَانَ الرشيد ... وَلَو فَاتَهُ الحزم كَانَ الأمينا) وَله (لَوْلَا خِيَانَة حيّون لَقلت لكم ... هُوَ الْأَمَانَة مِمَّا فِيهِ من ثقل) (هُوَ الطَّوِيل وَفِي معروفه قصر ... كَأَنَّهُ ليل مشتاق بِلَا أمل) 155 - عبد الرَّحِيم بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الخزرجي الغرناطي أَبُو الْقَاسِم الْمَعْرُوف بِابْن الْفرس ثار بِنَاحِيَة مرّاكش من الْمغرب واشتملت عَلَيْهِ طوائف من البربر ثمَّ غدر بِهِ بَعضهم فَقتل وحز رَأسه وسيق إِلَى مراكش وَذَلِكَ فِي نَحْو الستمائة وَهُوَ الْقَائِل فِي ثورته وَكَانَ شَاعِرًا مطبوعاً (قُولُوا لأبناء عبد الْمُؤمن بن عَليّ ... تأهبوا لوُقُوع الْحَادِث الجلل) (أَتَاكُم خير قحطان وعالمها ... وَصَاحب الْوَقْت والغلاّب للدول)

(وَالنَّاس طوع عَصَاهُ وَهُوَ قائدهم ... بِالْأَمر وَالنَّهْي نَحْو الْعلم وَالْعَمَل) (فبادروا أمره فَالله ناصره ... وَالله خاذل أهل الزّيغ والزلل) وَهِي طَوِيلَة وَله أَيْضا (عَسى عطفة من جَانب الْقُدس تسمح ... وبارقة من جَانب اللطف تلمح) (عَسى الله يدنيني إِلَى ساحة الرِّضَا ... فأقرع أَبْوَاب الغيوب فتفتح) (وَمَا زَالَ فضل الله يغمر ساحتي ... وَيظْهر لي من حَيْثُمَا أتلمّح) (إِلَى الملإ الْأَعْلَى سموت بهمتي ... كَذَلِك شَأْن الشّكل للشكل يجنح) 156 - مُحَمَّد بن سيدراي بن عبد الْوَهَّاب ابْن وَزِير الْقَيْسِي أَبُو بكر كَانَ أَبوهُ أَبُو مُحَمَّد سيدراي أَمِيرا بغرب الأندلس فِي الْفِتْنَة وتغلب على أبي الْقَاسِم بن قسيّ فِي شعْبَان سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ نظمته الدعْوَة المهدية مَعَ رُؤَسَاء الأندلس وَحضر حِصَار إشبيلية هُوَ وَابْن قسيّ فِي العساكر المحيطة بهَا مَعَ الأساطيل براًّ وبحراً إِلَى أَن فتحت يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّانِي عشر من شعْبَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وفر الملثمون عصر ذَلِك الْيَوْم إِلَى قرمونة وتخلى أَبُو مُحَمَّد الْمَذْكُور عَن شلب سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين فملكت مَعَ قلعة ميرتلة وَكَانَ من رجالات الأندلس رجامه وشهامة وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنه أَبُو بكر

هَذَا وَولى قصر الْفَتْح الْمَنْسُوب إِلَى أبي دانس عِنْد استرجاعه من أَيدي

الرّوم فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَكَانُوا قد تغلبُوا عَلَيْهِ سنة خمس وَخمسين وَأقَام والياً عَلَيْهِ سامي الرُّتْبَة نامي الحظوة إِلَى أَن توفّي فِي صدر الْمِائَة السَّابِعَة بعد حُضُوره بوقيعة الْعقَاب وَكَانَت يَوْم الِاثْنَيْنِ منتصف صفر سنة تسع وسِتمِائَة وَهُوَ الْقَائِل فِي حَرْب ظهر فِيهَا على الرّوم (وَلما تلاقينا جرى الطعْن بَيْننَا ... فمنا وَمِنْهُم طائحون عديد) (وجال غرار الْهِنْد فِينَا وَفِيهِمْ ... فمنا وَمِنْهُم قَائِم وحصيد) (فَلَا صدر إِلَّا فِيهِ صدر مثقّف ... كِلَانَا على حرّ الطعان جليد) (وَلَكِن شددنا شدَّة فتبلّدوا ... وَمن يتبلّد لَا يزَال يحيد) (فولّوا وللبيض الرقَاق بهامهم ... صليل وللسّمر الطوَال وُرُود) وَله فِي النسيب (ومرنّح الأعطاف تحسب أَنه ... متعلّل أبدا بِصَرْف مدامه) (خنث المحاجر والجفون كَأَنَّمَا ... يسري فتور جفونه لكَلَامه) (فَضَح الْهلَال بِوَجْهِهِ ولربما ... فَضَح الْقَضِيب بلينه وقوامه) (وَغدا شَقِيق سميّه فِي حسنه ... وَغدا العنا وَقفا على لوّامه) وَله (وبتنا جَمِيعًا مثل مَا لّفت الصّبا ... قضيبين من نَوْعَيْنِ ذاو وناضر) (فطوراً أمصّ الشهد من جَوْهَر اللّمى ... وَيَا عجبا للشهد بَين الْجَوَاهِر) (وطوراً عنَاقًا لَا تنفس بَيْننَا ... وَلَكِن نتاجينا بسر الضمائر)

(أَقُول أما للصبح من متنفّس ... وَعِنْدِي أنّ اللَّيْل لمحة نَاظر) وَله وَقد فصدت أم وَلَده وَكَانَت غالبة عَلَيْهِ (يَا من علا فحلا فِي النَّفس موقعه ... وَمن هُوَ الْقلب أوفى الْقلب مرتعه) (لم تملإ الطّست لما أَن فصدت دَمًا ... وَإِنَّمَا الصّبّ ذَابَتْ فِيهِ أدمعه) (فَلَا تخف بعْدهَا من حَادث نبأ ... فَالله والفلك الْمَأْمُور يَدْفَعهُ) وَمَا أحسن قَول الْحُسَيْن بن عبد السَّلَام فِي هَذَا الْمَعْنى وَقد فصدت محبوبته (مَا أَنْت شاكية حَقًا أَنا الشاكي ... عافاني الله مِمَّا بِي وعافاك) (حللت مني فؤاداً حشوه لَهب ... فَإِن حممت فَهَذَا أصل حماك) (قَالُوا مددت إِلَى الحجّام جارحة ... وَمَوْضِع الفصد مِنْهَا عين مضناك) (أسأَل من فضَّة بَيْضَاء فِي ذهب ... ياقوتة هِيَ دمع المشفق الباكي) وَلأبي بكر فِي كلب صيد وَطئه فرس لَهُ حول خبائه فَهَلَك وَهُوَ من جيد شعره (يَا مجهد النَّفس فِي إِدْرَاك مطلوبي ... ومسعدي حِين إدلاجي وتأويبي) (وحارسي ورداء اللَّيْل مُشْتَمل ... من كل مستلب فِي زيّ مسلوب) (وَيَا وفياًّ بِمَا خَان الرِّجَال بِهِ ... وراثة عَن مطاويع مناجيب) (كنت المصيخ لأمري والمطيع لَهُ ... وَإِن تعرّض فِيهِ كلّ مرهوب) (ففاجأتك المنايا حَيْثُ تأمنها ... من طَالب لم تفته عين مَطْلُوب) (لَئِن طوتك اللَّيَالِي طيّ بردتها ... لقد طوت فِيك أنسي طيّ مَكْتُوب) (وأودعتني سراًّ من سجيّتها ... بأنّ رغبتها نكل لمرغوب)

(فكم غنينا وَقد رحنا إِلَى قنص ... بِبَعْض حضرك عَن قرع الظنابيب) (وناب نابك فِي مَا كنت تفرسه ... من الظباء عَن الصمّ الأنابيب) (قد كنت تولي الرّدى من حَان موعده ... حَتَّى أَتَاك لوعد غير مَكْذُوب) وَمِمَّنْ كَانَ بإفريقية فِي آخر هَذِه الْمِائَة من رجال الدعْوَة المهدية خلّدها الله 157 - عمر بن جَامع أَبُو عَليّ هُوَ ابْن أخي أبي العلى إِدْرِيس بن أبي إِسْحَاق بن جَامع الْوَزير وَكَانَ بإفريقية فطال مكثه بهَا وحنّ إِلَى بنيه فاستدعاهم من مراكش وَقَالَ فِي ذَلِك شعرًا خطه فِي رقْعَة ثمَّ نشأت لَهُ قبل وصولهم غزَاة إِلَى سليم من الْعَرَب فَقتل فِيهَا وَوجدت الرقعة فِي جيبه وَمن أبياتها (سقتنا بعدكم أَيدي الْفِرَاق ... كؤوساً طعمها مرّ المذاق) (فأضرمت الحشا نَارا وأجرت ... دموعاً تستهلّ من المآقي) (فلولا النَّار متّ غريق دمع ... وَلَوْلَا الدمع متّ من احتراق) (وَلَكِن حِين حمّ النأى عَنْكُم ... وَأَعْلَى صَوته حادي الرفاق) (خشيت خُرُوج قلبِي من ضلوعي ... وَخفت بُلُوغ نَفسِي للتراقي) (وَلَكِن لَا احتكام على اللَّيَالِي ... وَهل مِمَّا قَضَاهُ الله واق)

158 - عبد الْوَاحِد بن عبد الله أَبُو مُحَمَّد الْمَعْرُوف بوامجور ولى تونس وَكَانَ شهماً صَارِمًا سفاكاً للدماء ونكب بعد محاصرة قفصة وَالظفر بهَا وبالثائرين فِيهَا بدعوة عليّ بن غانية وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَمَات بنواحي بجاية فِي طَرِيقه إِلَى الْمغرب مسخوطاً عَلَيْهِ وينسب إِلَيْهِ أَنه قَالَ فِي محبسه (نصحت فَلم أَفْلح وخانوا فأفلحوا ... فأنزلني نصحي بدار هوان) (فَإِن عِشْت لم أنصح وَإِن متّ فالعنوا ... ذَوي النصح من بعدِي بكلّ لِسَان) وَهَذَا عِنْدِي كَمَا ينْسب إِلَى أبي بكر بن إِبْرَاهِيم المسّوفي الْمَعْرُوف بِابْن تافلويت وَالِي سرقسطة فِي صدر هَذِه الْمِائَة سنة ثَمَان والمتوفى بهَا فِي رَجَب

سنة إِحْدَى عشرَة مِنْهَا أَنه قَالَ فِي سيف ووقفت على ذَلِك من وُجُوه (هززت حساماً فشبهّته ... غديراً من المَاء لَكِن جمد) (وَمهما بدا لي مِنْهُ فرند ... لهيباً من النَّار لَكِن خمد) (فلولا الجمود وَلَوْلَا الخمود ... لَسَالَ لَدَى الهز أَو لاتقد) وكما ينْسب أَيْضا إِلَى يحيى بن إِسْحَاق بن غانية المسّوفي أَنه قَالَ (وَإِذا تجيش النَّفس قلت لَهَا قرى ... فموت يريحك أَو ركُوب الْمِنْبَر) (مَا قد قضى لابد أَن تلقينه ... وَلَك الْأمان من الَّذِي لم يقدر) وَهَذَا الشّعْر الْأَخير إِنَّمَا هُوَ لأبي الْحسن التّهامي وَهُوَ مَوْجُود فِي ديوانه وَالَّذِي قبله يروي لِابْنِ المعتز وَلغيره وَالظَّاهِر أَنهم يتمثلون بِمَا يحفظون فيتوهم سامعهم أَن ذَلِك لَهُم وَإِلَّا فرفعة الْحَال تنزههم عَن الانتحال وَلَو أَنِّي اجْتنبت مَا اجتلبت من هَذَا وَشبهه لأوجدت للمعترض سَبِيلا إِلَى الْمقَال

المائة السابعة

الْمِائَة السَّابِعَة نبدأ بالذين يبْدَأ بهم الذّكر الْجَمِيل أَو يخْتم وَمن منثور حكمهم ومنظومها ينثر فِي أوصافهم وينظم أهل الْبَيْت الْمُبَارك الحفصي المستولي بِأَدْنَى السَّعْي على الأمد القصيّ بَيت الْخلَافَة السعيدة والإمارة التليدة ذَات المحاتد

الظَّاهِرَة والمحامد المتظاهرة لَا زَالَت منحها صوراً مجلوة ومدحها سوراً متلوة فأوّلهم وأولاهم بالتقديم للاشتراك فِي شرف الْأُبُوَّة والانفراد بكرم الأخوّة 159 - أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْن الشَّيْخ الْمُجَاهِد المقدّس أبي مُحَمَّد ولى بعد أَبِيه رضوَان الله عَلَيْهِ إفريقية فِي غرَّة الْمحرم سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة وإثر دَفنه فِي الْيَوْم الَّذِي توفّي فِيهِ وَذَلِكَ ضحى يَوْم الْخَمِيس منسلخ شهر ذِي الْحجَّة من السّنة قبلهَا فَكَانَ لَهُ الْأَثر الحميد والصيت الْبعيد وَبلغ فِي السماح والبأس مَا لَيْسَ عَلَيْهِ مزِيد ثمَّ صرف وانتقل إِلَى الْمغرب وَولى بطليوس وثغورها بالأندلس وَلحق بمرّاكش بعد ذَلِك فاستشهد هُنَالك سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَهُوَ الْقَائِل من قصيدة فِي شكاية أَصَابَت أَبَاهُ لَا زَالَ صوب الْغَمَام يسْقِي ثراه (يَا دهر مَالك ضَاحِكا وعبوساً ... أتعيرنا بعد النَّعيم البوسا) (وَلَقَد عهدتك ضَاحِكا متهللاً ... تهدي الْقبُول وتبذل التأنيسا) (أتراك تجزع من شكاية ماجد ... أضحى لزهر النيّرات جَلِيسا) (ملك تدرّع من عناية ربّه ... درعاً غَدَتْ للْعَالمين لبوسا) (لَو جَاءَهُ عِيسَى بزيّ معالج ... قصدا لأفحم بالتوكّل عِيسَى) (سَاس الزَّمَان فَكَانَ من عبدانه ... والصعب منقاد إِذا مَا سيسا)

(ناهيك من متبرّع متورّع ... كسر الصَّلِيب وأفحم الناقوسا) (ملك حمى إفريقية وذمارها ... لما غَدا ليثاً وتونس خيسا) (لَا يرتضي العضب المهنّد خَادِمًا ... إِلَّا إِذا اقتحم الكماة وطيسا) (فإليه تستبق الْجَوَارِي شرعا ... وَإِلَيْهِ تحتث الحداة العيسا) وَله أَيْضا من قصيدة (هَل الْمجد إِلَّا مَا تجرّ العزائم ... وَإِن ريع يَوْمًا فالسيوف تمائم) (وَإِن لَاحَ من وَجه الزَّمَان تجهم ... فوجهك وضاح وثغرك باسم) وَمِنْهَا (سأفري أَدِيم الأَرْض فِي طلب الْعلَا ... وأركب عزماً لم تقده العزائم) (وأخطب آمالي بِمَا هُوَ مطلبي ... وَلَو منعتني الفاتكات الصوارم) (وحسبي عضب صَادِق الْعَزْم صارم ... ألدّ إِذا كَانَ الزَّمَان يُخَاصم) (أَشْيَم بِهِ الْبَرْق اليمانيّ موهناً ... وأهدي بِهِ السارين وَاللَّيْل عاتم) وَله أَيْضا (أيا حمام هَل لَك من ضلوعي ... زفير أَو لَك الدمع السّفوح) (فقد أشبهتني مَاء وَنَارًا ... وهيهات المعنّى والسريح)

160 - أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْن الشَّيْخ المكرّم أبي مُوسَى كَانَ بقرطبة فِي إياله عَمه الشَّيْخ المكرّم أبي الْعَبَّاس وَبعد ذَلِك صَار إِلَى مرّاكش عِنْد انبعاث الْفِتْنَة المبيرة بالمغرب فَهَلَك هُنَالك وَكَانَ لِدَة أَخِيه الْمَذْكُور بعده ولدا جَمِيعًا سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة وَهُوَ الْقَائِل فِي وسيم شاكّ السِّلَاح وأجاد مَا أَرَادَ (يَكْفِيك يَا معتقل السّمهري ... مَا نالنا من طرفك الأحور) (إِن كنت من جندك فِي قلَّة ... فَأَنت من لحظك فِي عَسْكَر) 161 - أَخُوهُ أَبُو عَليّ عمر ولى بالأندلس جيّان وَغَيرهَا وَكَانَ فِي سنتي ثَمَان عشرَة وتسع عشرَة وسِتمِائَة على خيل بلنسية فِي إيالة عَمه الشَّيْخ المكرّم أبي سعيد رضوَان الله على جَمِيعهم ثمَّ ولى فِي هَذِه الدولة الْمُبَارَكَة الَّتِي بهَا انتصار الْإِسْلَام وافتخار الْأَيَّام مَدِينَة بجاية وقتا وَهُوَ على قَاعِدَة المهدية من شهر الله الْأَصَم رَجَب سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة إِلَى وقتنا هَذَا وَهُوَ شهر الله الْمحرم من سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَفِي شهر ولَايَته ثمَّ فِي يَوْم الْخَمِيس الثَّانِي مِنْهُ كَانَت الْبيعَة الْمُبَارَكَة بِولَايَة الْعَهْد الْكَرِيم لمولانا الْأَمِير الْأَجَل الأسعد الْمُبَارك الأرصي الأمجد أبي يحيى أيد الله مقَامه وَقصر على نظم الْفتُوح ونثر المنوح ظعنه ومقامه وَكَانَ لأبي عليّ هَذَا وصل الله علاءه فِي ذَلِك الْيَوْم الْأَعَز الْأَغَر مقَام مَحْمُود ومقال مَحْمُول

ولعبدهم المقتصر على خدمَة مجدهم بِمَا لَا يقصّر فِيهِ من تحبير مدحهم وتحرير حمدهم كلمة إِذْ ذَاك يَرْجُو لِأَن يَتَجَدَّد لَهُ بهَا قبُول ويسعد مأمول بمأمول أَولهَا (أشاد بهَا الدَّاعِي المهيب إِلَى الرّشد ... فهبّ لَهَا أهل السَّعَادَة بالخلد) (ولَايَة عهد أنْجز الحقّ وعده ... بتقليدها من أَهله الصَّادِق الْوَعْد) (وبيعة رضوَان تبلّج صبحها ... عَن الْقَمَر الوضّاح فِي أفق الْمجد) (تجلّت وجلّت عزة فليومها ... من الدَّهْر تفويف الطّراز من الْبرد) (وحلّت بِسَعْد الأسعد الشَّمْس عِنْدهَا ... فأيّد فِي أَثْنَائِهَا السعد بالسعد) (وَلما أَتَت بَين التهاني فريدة ... تخيّرها التَّوْفِيق فِي رَجَب الْفَرد) وَمِنْهَا (أَبى الدّين وَالدُّنْيَا وُلَاة سوى بني ... أبي حَفْص الأقمار والسّحب والأسد) (وَإِن ضايقت فِيهَا الْمُلُوك وعّددت ... مَنَاقِب تحكي الشّهب فِي الظّلم الرّبد) (فَإِن كتاب الله يفضل كلّه ... وَقد فضلته بَينهَا سُورَة الْحَمد) (وَفِي شجرات الرَّوْض طيب معطّر ... صباه وللأترجّ مَا لَيْسَ للرّند) (وكلّ سلَاح الْحَرْب باد غناؤه ... وَلَكِن لِمَعْنى أوثر الصارم الْهِنْدِيّ) (على زكريّاء بن يحيى التقى الرّضا ... كَمَا الْتَقت الأنداء صبحاً على الْورْد) (على المرتضى بن المرتضى فِي أرومة ... نمت صعداً بالنّجل وَالْأَب والجدّ) (على المكتفي والمقتفي نهج قَصده ... ومشبهه فِي الْبَأْس والجود والجدّ)

وَشعر أبي عليّ أعزه الله كثير وَقد وقفت على ديوانه وَسمعت مِنْهُ غير قصيدة وَقطعَة بِلَفْظِهِ وَمن ذَلِك كلمة بعث بهَا إِلَى قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُحْبَة الْحَاج أبي بكر بن الْعَرَبِيّ الإشبيلي أوّلها وأنشدني جَمِيعهَا (أصبح من صبره على أمل ... قسّم بَين الْوُجُود والعدم) (إِلَيْك ألْقى بِعُذْر محتشم ... مرتحل الْقلب سَاكن الْقدَم) (يتبع ركب الْهوى إِلَيْك أسى ... مَا شَاءَ من حسرة وَمن نَدم) (برح شوق بِهِ إِلَيْك فَمَا ... يَنْفَكّ مَا لم يزرك فِي ضرم) (ألوي بِهِ عَن بُلُوغ نِيَّته ... حكم زمَان عَلَيْهِ محتكم) (فعزمة تلتوي على عقب ... وهمة ترتمي إِلَى أُمَم) وَمِنْهَا (يَا خير من تعْمل المطيّ لَهُ ... عُذْري فِي اللّّبْث غير متّهم) (عَبدك لَو يَسْتَطِيع جاب إِلَيْك ... القفر فِي غيهب من الظّلم) (يمسح مَا بَين حمص مِنْهُ إِلَى ... يثرب مرّاً بوجنة وفم) (ولي ذنُوب وقصنني ثقلاً ... لَوْلَا أَذَى ثقلهن لم أقِم) (يرجوك يَا شَافِع الْبَريَّة أَن ... تشفع فِيهَا لبارئ النّسم) (عَسى قبُول لديك يلحقني ... بقبرك المستنير وَالْحرم) (وصاحبيك اللَّذين خصّهما ... بِنِعْمَة الْقرب مِنْك ذُو النعم) (فقد توسلت بِالَّذِي لَك عِنْد ... الله من رفْعَة وَمن عظم)

(صلى عَلَيْهِ الْإِلَه مَا اتصفت ... أَوْصَافه بالجلال وَالْكَرم) وَله فِي وصف سيف (يسيل إِذا مَا سلّ مَاء ويلتظي ... لهيباً على الْإِتْلَاف يأتلفان) (كَأَن جدولاً مُسْتَقْبلا شفق الدجى ... فَلَا يققٌ مِنْهُ الْعباب وقان) وَله فِي صناب أهْدى إِلَيْهِ وألغز بوصفه من أَبْيَات (بعثت بِمَا يَشْتَهِي يَا ابْن عمّ ... فدمت ودامت عَلَيْك النّعم) (بأبيض كالمخض لكنه ... بِهِ شدَّة تستثير القرم) (طفاوته تحتهَا لجة ... بِلَا ضرم دهرها تضطرم) (كثير الحرافة مستعذب ... عَلَيْهَا وللملح فضل علم) (لسورته سطوة بالأنوف ... وَلَيْسَ لعمرك مِمَّا يشمّ) (شِفَاء ولكنّ نعم الشِّفَاء ... لمن ظلّ يشكو بداء البشم) (وَقد يجتزي الجفلى باليسير ... مِنْهُ وَلَيْسَ لأمر يذمّ) وَكتب إليّ مَعَ تمر أهداه حرس الله سناه وسنّاه (أتتك خليقات بِحسن الْخَلَائق ... بهَا غنية عَن كل مَا فِي الحدائق) (سليلات جَبَّار حكى وسط دوحه ... خوافق بالمرّان فَوق الفيالق) (حوامل لم تعلم مَوَاقِيت حملهَا ... وَلَا حمّلت من فَم حكم طَالِق) (تجود إِذا مَا الْجُود عمّ بعزّه ... وسحّ من الخضراء سحّ بوادق) (ممنّعة فِي سامق مَا ارتقت لَهَا ... بنان وَلَا بَانَتْ بهَا يَد سَارِق)

(عثاكلها مثل الشذور تذلّلت ... بسالفة الغيداء أَو كالقراطق) (فللنضر مِنْهَا حسن لون لناظر ... وللزّهو مِنْهَا طيب طعم لذائق) (كَأَن بِمَا تبدي وتضمر أنسبت ... شمائلها من مُؤمن ومنافق) (لَهَا جسم أوّاه شحوباً وَمن نوى ... فؤاد حكى من قسوة قلب فَاسق) (وَمَا ضرّها إِذْ قد أَبَاحَتْ لطاعم ... حلاوتها أَلا تفوح لناشق) وَمِنْهَا (فصفحاً عَن الْمهْدي ومهدي ورقعة ... أتتك بعجز لَا بإعجاز خارق) (وَيَرْمِي إِذا يَرْمِي القوافي بصائب ... من الْفِكر لم يصحب بفوق مُوَافق) (وَقد كَانَ يصمي حِين يَرْمِي كَأَنَّمَا ... لَهُ خاطر أفكاره من جلاهق) (سري دهره فِي نشره فتفرقت ... شبيبته إِذْ لَاحَ شيب المفارق) فراجعته بِأَبْيَات مِنْهَا (أمولاي حق العَبْد تَقْرِير عذره ... إِذا هُوَ لم يلق الْحُقُوق بلائق) (منائح أسدتها مناح كَرِيمَة ... تفوّف للأحداق مثل الحدائق) (وتبريّة الأكمام شهديّة الجنى ... حلت وتحلّت زاكيات الْخَلَائق) (لَهَا عجم فِي الْعَرَب ولّد منجباً ... وحسبك مِنْهَا بالسّوامي السّوامق) كأنّ بِأَعْلَاهَا إِذا احمرّ بشرها ... مشاعل تهدي فِي الدجى كلّ طَارق (كَأَن بهَا الماذي يجمد تَارَة ... ويقطر من راقي المكانة رائق) (كأنّ الَّذِي تهديه من تمرها اغتذى ... بريقة موموق ورقة وامق)

(مننت بهَا منثورة وشفعتها ... بمنظومة كالعقد فِي نحر عاتق) (من الْكَلم اللائي انتمين إِلَى الْعلَا ... وشرّفن بالتسديد بيض المهارق) فَكتب مجاوباً وللتشريف المنيف واهباً (أَتَت فخبا من نورها نور شارق ... ولاحت فَلم يلمح وميض لبارق) (وَجَاءَت موشاة من أقلامك الَّتِي ... بريقتها راقت صفاح المهارق) (فَمَا شِئْت من لفظ لمعناه حَافظ ... وخطّ لَهُ حظّ من الْحسن فائق) (فروض بنان فاتن حسن زهره ... وَروض بَيَان مثمر بالحقائق) (جلوتهما فِي رقْعَة فأرت لنا ... محلّ محلاّة وأوراق رائق) (وكالخمر إطراباً ولكنّ سكرها ... تحوّل شكرا للمدير الْمُوَافق) (كأنّ بريق الحبر فِي صفحاتها ... يريق على رأد الضّحى ريق عاشق) (غَدَتْ باحورار تستبي كلّ مقلة ... وتغري بتبريح الْهوى كلّ رامق) (تميس برِيح الْحسن زهواً سطورها ... كَمَا مَاس خوط البان وسط الحدائق) (من اللُّؤْلُؤ المنظوم لفظا تعطلت ... بلألائه لألاء درّ المخانق) (تبدّت فأسلت عَن هوى كلّ عاشق ... وأغرى بصمت قَوْلهَا كلّ نَاطِق) (مطرزة مَا الْبرد مِنْهَا وَإِنَّهَا ... لمنه وَمَا سبق العصور بلائق) (لَهَا نَغمَة تهدي بهَا أكؤس الطّلا ... وتحدي المهاري بَين سَاق وسائق) (كَأَن بهَا نَارا تشعشع للقرى ... فيعشو إِلَيْهَا كلّ سَار وطارق) (أهبت بهَا سراًّ فلبّت مجيبة ... بهزّة معشوق وَطَاعَة عاشق)

(فَجَاءَت كَمَا شَاءَت وشئت مُقِيمَة ... وخافقة بالْحسنِ فِي كلّ خافق) (وَجئْت بهذي مثل هاد وصائد ... وَقد شاف أظلال الْعقَاب بباشق) (وَمن يقتحم مَا لَا يُطيق اقتحامه ... يلاق الَّذِي بِالْحرِّ لَيْسَ بلائق) فَكتبت إِلَيْهِ ممتدحا مستمنحاً (لمن كلم كَاللُّؤْلُؤِ المتناسق ... لَهَا فضل موصوفاتهنّ البواسق) (نفائس كالأعلاق تجتذب النّهى ... لفتنتها من حسنها بعلائق) (جلائل أَلْفَاظ إِذا مَا قرأتها ... قريت معينا من معَان دقائق) (يَجِيش بهَا بَحر من الْعلم والندى ... حبا كلّ أفق من حلاه بفائق) (ملاكيّة سيقت لتشريف سوقة ... وَحسب الْأَمَانِي من مسوق وسائق) (مطهرة الأعراق لَيْسَ لمعبد ... بأبياتها شدو وَلَا لمخارق) (نمتها الْمَعَالِي وَالْهِدَايَة والتّقى ... فَجَاءَت لعادات القريض بخارق) (أَلا بِأبي مِنْهَا هديّ بلاغة ... تناغى المهى محجوبة فِي المهارق) (شَقِيقَة روض الْحزن باكره الحيا ... فحيّا بغضّى نرجس وشقائق) (أطالع من قرطاسها كلّ غارب ... محَاسِن تَلقانِي بطلعة شارق) (وألثم من أسطارها كلّ فاتن ... بِمَا يجتلي من رقمها كلّ رامق) (ولوعاً بيمنى نمنمتها حديقة ... تزهّد أحداق الورى فِي الحدائق) (كَأَنِّي مِنْهَا فِي نسيم نوافح ... تهبّ أصيلاً أَو شميم نوافق) (تدانت رحيباً شأوها وَتَبَاعَدَتْ ... فَضَاقَ نطاقاً عِنْدهَا كل نَاطِق)

(رشفت بهَا مثل الثغور عذوبة ... فأقصرت عَن ذكر العذيب وبارق) (وملت إِلَيْهَا والفصاحة ملؤُهَا ... صحيفَة ضخم السّرو ضخم السّرادق) (يشقق أَطْرَاف الْكَلَام لِسَانه ... فيثني الفحول اللّسن خرس الشّقاشق) (وقور فَإِن هزّته نَغمَة صادح ... رَأَيْت قَضِيبًا مِنْهُ أثْنَاء شَاهِق) (سما بِأَبِيهِ حِين سمّوه باسمه ... فَللَّه من سامي الْمَرَاتِب سامق) (ميمّم مرضاة الإِمَام بِسَيْفِهِ ... وموضح خافي الْهدى فِي كلّ خافق) (سميّ الَّذِي استسقى بعم نبيه ... فأخمد برد الودق حرّ الودائق) (وَوَافَقَ فِي عهد الرسَالَة ربّه ... وناهيك من توفيق ذَاك الْمُوَافق) (من الصفوة الْأَبْرَار صيغوا وصوروا ... لمَوْت أعَاد أَو حَيَاة أصادق) (إِذا حقّ أَو حاف اضطهاد بِأمة ... تخلصها مِنْهُم حماة الْحَقَائِق) (أمولاي إغضاء فللفكر نبوة ... وَلَا نبو إِلَّا لاعتراض الْعَوَائِق) (على أَنَّهَا الغايات أعيا لحاقها ... فَلَا سبق فِيهَا للوجيه وَلَا حق) (إِلَى الْعَجز يلوي بعد لأي عنانه ... وَإِن عدّ صَدرا فِي الْعتاق السوابق) (وأنّي لمثلي أَن يساوق مثلهَا ... وَمَا قس البراسا من مسَاوٍ مساوق) (ولكنني فِيهَا على نهج خدمَة ... لأنعم من أرفاقها بمرافق) (سَلام عَلَيْهَا ساحة مولوية ... ملم لهاها الْبيض غير مفارق) (تجود بِوَضْع الدّين من سَعَة الندى ... وتضرب صفحاً عَن تقاضي المضايق)

فراجع مشرّفاً عَنْهَا بقصيدة مباركة مِنْهَا (أَتَت كَثْرَة كالجحفل المتضايق ... وَقد سَالَ مِنْهَا كلّ شعب وشاهق) (وفاض على شهب المهارق سيبها ... كَمَا فاض بعد الْفجْر نور الْمَشَارِق) (كأنّ بصيص الحبر فَوق اسوداده ... مذاب زجاج إثمديّ المعالق) (جرى فَوْقه دهن فخطّت بِمَا جرى ... وَمَا ذاب فِي القرطاس أَقْلَام ماشق) (وَلَا عيب فِيهِ غير أَن رقومه ... تلوح احوراراً فِي لحاظ المهارق) (وتبلغ سرّ العاشقين وَلم يغب ... رَقِيب فيشقى من تنعم عاشق) (غَدَتْ كغصون الشوك شعثاً سطوره ... وَفِي ضمنهَا مَا ضم زهر الحدائق) (وَمَا هِيَ إِلَّا معجزات تظاهرت ... لتعجيز ذِي دَعْوَى وتصديق صَادِق) (أتيت بِمَا لَا يُسْتَطَاع تحدياً ... وَجئْت ببدع للعوائد خارق) (فتبنا من الدَّعْوَى وَلَا من معاند ... وثبنا لإيمان وَمَا من مُنَافِق) وَله أعزه الله وَكتب إليّ بِهِ مُلْتَزما فِيهِ مَا لَا يلْزم (أنفذت نظمي قبل تَنْقِيح لَهُ ... فئوت بِهِ أَذَى مليّاً تعرك) (وأخو البديهة لَيْسَ يَخْلُو قَوْله ... مِمَّا يعوّض عَنهُ أَو يسْتَدرك) (وأصحّ حَال فِيهِ مَا روّيته ... وَرَأَيْت وقتا فِيهِ وقتا يُشْرك) (فلئن كَفَفْت عَن القريض فَصَالح ... وَلَئِن تركت الكفّ عَنهُ لأنرك) (وَأرى الْإِصَابَة كالهديّ وروحها ... طوراً تهيم بِهِ وطوراً تفرك) (إِن البديع لمدرك لكنه ... مَعَ ذَاك مَا فِي كلّ وَقت يدْرك)

وَله فِي حلواء (خُذْهَا إِلَيْك شَقِيقَة لسجية ... لَك طالما سرّت فِرَاق فريقها) (تتحلب الأفواه عِنْد مذاقها ... طيبا تحلّبها لرشف رحيقها) (وافتك فِي أفق الخوان وَقد حكت ... للشمس عِنْد غُرُوبهَا وشروقها) (تعزى إِلَى عذب المجاجة مِثْلَمَا ... نفث البلاغة قَائِم بحقوقها) (من كل خافقة الْجنَاح لتجتني ... زهر الخمائل من أعالي نيقها) (تنمي لآل الْوَحْي آيَة سنخها ... فتسلّم اللهوات فِي تصديقها) (لَا غرو فِي بشر الطباع لوقدها ... فَالنَّفْس تأنس بالتماح رفيقها) (وترقّ إِذْ يشدي لَهَا بنسيمها ... كالنحل تلهج إِذْ يجاء بريقها) وَله من أَبْيَات فِي المجبّنات (وربّ زائرة معسولة الْخلق ... تعزى لزهر الرّبى والوابل الغدق) (جَاءَت وَفصل الرّبيع الطلق يحفزها ... كالطيف يطْرق من أغفى على قلق) (محمرة اللَّوْن وَالْفضل الْمُبين لَهَا ... على الغرالة إِذْ تبدو على الْأُفق) (كَأَنَّهَا هِيَ إِلَّا أَن بَينهمَا ... مَا بَين مَحْض النَّعيم العذب والحرق)

(كَأَنَّهَا وبنان الْقَوْم يغمزها ... بدر تشقّق عَنهُ حمرَة الشَّفق) وَهَؤُلَاء خَاتِمَة الشُّعَرَاء من الْأُمَرَاء وَأَبْنَائِهِمْ على الشَّرْط الَّذِي لَا يسوغ معنى الْتِزَامه لفظ أسمائهم وَلَو نسئت بالأندلس إيالة الْإِسْلَام لنسقت على الْعَادة محَاسِن الْكَلَام وَلَكِن فِي هَذِه الْمِائَة الْأَخِيرَة أدْرك مرامهم الرّوم فِي الجزيرة واستحكمت إبارتهم لَهَا بِحكم الْفِتْنَة المبيرة حَتَّى ملكوها وجزائرها بَين الصُّلْح والعنوة وَغَايَة أَهلهَا إِلَى هَذِه الْغَايَة أَن يتساقطوا على العدوة وكل مِنْهُم مفلت بجريعة الذّقن ومسلّم لعَدوه الْكَافِر مَحْبُوب الوطن كم تركُوا من جنّات يدوسون غلالها وديار يجوسون خلالها وعيون يفجر تغويرها الْعُيُون دَمًا وزروع مَا عدا وجودهَا أَن عَاد عدماً ثمَّ لَا انتصار بِغَيْر العبرات وَلَا اقْتِصَار إِلَّا على الزفرات والحسرات وَلم يبْق الْآن إِلَّا إشبيلية أمّ الْقَوَاعِد والمدائن ومأمّ الركائب والسّفائن وَقد أشفت على الذّهاب واستوفت على الخراب فِي حسن المصابرة ورزؤها خَاتم الأرزاء وثكلها الدَّافِع فِي صدر العزاء نَعُوذ بِاللَّه من بأسه وتنكيله ونعود إِلَى مَا كُنَّا بسبيله

162 - إِبْرَاهِيم بن إِدْرِيس بن أبي إِسْحَاق ابْن جَامع أَبُو إِسْحَاق ولى سبتة إِلَى أشغال بحرها فِي آخر وزارة أَخِيه أبي الْحسن عَليّ بن أبي الْعلَا وَأول الْفِتْنَة المنبعثة صدر سنة إِحْدَى وَعشْرين وَفِي ذَلِك الْعَام صرفا جَمِيعًا وَقتل عليّ مِنْهُمَا بِجَزِيرَة طريف فِي رَمَضَان سنة سِتّ وَعشْرين وَتُوفِّي إِبْرَاهِيم فِيمَا أَحسب قبل ذَلِك وَكَانَ فِي بَيته الْمَخْصُوص بالوزارة مَوْصُوفا بِحسن الإدارة على أَن جَمِيعهم لأشتات السّرو جَامع وَمَا مِنْهُم إِلَّا لَهُ حلم أصمّ وجود

سامع أبقت على بقاياهم الدولة الحفصية فَأَصْبَحت أيامهم العصية وأكثبت آمالهم القصية وَهَا هم قد نهضوا بالأعباء وانفردوا بالمحاباة فِي الأحبّاء حَتَّى جرى الْأَبْنَاء مجْرى الْآبَاء وَلأبي إِسْحَاق هَذَا امتياز بِفضل أدب واعتلاق مِنْهُ بِسَبَب وَهُوَ الْقَائِل يُخَاطب أَبَا بكر بن يزِيد بن مُحَمَّد بن صقْلَابٍ عَامل المريّة (يَا نازحاً حبّه وَكيد ... وَمن تراعى لَهُ العهود) (حللت مني مَحل نَفسِي ... فَأَنت دَان مني بعيد) (إِن قَالَ إلْف قد ملّ إلفي ... وودّه نَاقص يبيد) (قلت لَهُ زارياً عَلَيْهِ ... يزِيد فِي حبّه يزِيد) فَكتب إِلَيْهِ مَعَ نثر بِأَبْيَات مِنْهَا (قدك اتّئب أَيهَا الحسود ... دارت على راحتي السُّعُود) (واهتز عطف الزَّمَان لينًا ... وَكم عسا للزمان عود) (أجني يَدي بعد مَا تجنّى ... زهر الْأَمَانِي كَمَا أُرِيد) (فمسرحي ممرع جميم ... ومشرعي سلسل برود) (وكل ليل عليّ صبح ... وكل يَوْم لدىّ عيد)

163 - سُلَيْمَان بن الْحَاج عبد الله ابْن ويفتن أَبُو الرّبيع عَامل إفريقية وَكَانَ قبل ذَلِك والياً على قابس وَغَيرهَا واستنيب على حَضْرَة تونس أيدها الله وَمن شعره يُخَاطب بعض الْمُلُوك وَقد قَصده فحجبه وأنشدني ذَلِك لَهُ من سَمعه مِنْهُ (يَا أَيهَا الْملك الَّذِي ... ضنّت بِهِ حجب الجلاله) (جد لي بِإِحْدَى الحسنيين ... من الرَّسُول أَو الرسَالَة) 164 - عبد الله بن مُحَمَّد بن وَزِير أَبُو مُحَمَّد قد تقدم ذكر أَبِيه أبي بكر فِي آخر الْمِائَة السَّادِسَة وَأَنه كَانَ والياً على قصر الْفَتْح وَمَا إِلَيْهِ من الثغر الغربي وَبعد وَفَاته ولى عبد الله ذَلِك وَكَانَ أكبر بنيه وَالْوَارِث دون إخْوَته أدبه ورتبه وَلم تطل ولَايَته وَلَا كَادَت تتبين كِفَايَته حَتَّى نازله الإفرنج وتغلبوا عَلَيْهِ فِي جُمَادَى الأولى سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة بعد وقيعة هُنَالك فقد فِيهَا آلَاف من الْمُسلمين بتخاذل رُؤَسَائِهِمْ يَوْم التقى الْجَمْعَانِ وَهِي إِحْدَى الكوائن المنذرة حِينَئِذٍ بِمَا آل إِلَيْهِ أَمر الأندلس الْآن وَأسر عبد الله هَذَا وَمن كَانَ مَعَه ثمَّ تخلص من تِلْكَ الْحَال بحيلة تَوَجَّهت لَهُ

وَاسْتعْمل بعد وفادته على مرّاكش إِثْر خلاصه وقبضت عَلَيْهِ الْعَامَّة بإشبيلية بَلَده بتحريك مُحَمَّد بن يُوسُف بن هود الملقب بالمتوكل إِيَّاهَا عَلَيْهِ وعَلى أهل بَيته وسيق إِلَيْهِ فَقتله وأخاه أَبَا عَمْرو عبد الرَّحْمَن مُنْصَرفه من الوقيعة الْعُظْمَى عَلَيْهِ بماردة من الثغر الجوفيّ فِي سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة وَهُوَ الْقَائِل فِي عُثْمَان بن نصر أَمِير قومه الرّياحييّن عِنْد الصفح عَنهُ بعد الْقَبْض عَلَيْهِ

(قَالُوا عَفا الْأَمِير عَن عُثْمَان قلت لَهُم ... سيوسع الْملك الْإِحْسَان والصّفدا) (مَا كَانَ أولاه من عَفْو وأوقعه ... لَو أَن ذَلِك فِي الْيَوْم الَّذِي وردا) (لكِنهمْ لحظوا لحظ الرءوف أما ... يُؤَدب الْوَالِد المستصلح الولدا) (كالبحر لَا تقذف المرجان لجته ... إِلَّا إِذا قذفت أمواجه الزبدا) وحدّثت أَن أَبَاهُ أَبَا بكر مرّ فِي بعض أَسْفَاره بوادي الْحمام وَهُوَ مَا بَين أركش وَبَين مَدِينَة ابْن السّليم فَسمع غناء حمامة فَقَالَ (أحمامة ناحت على وَادي الْحمام ... خلّى ادّعاء جوى المشوق المستهام) (أَيْن الدُّمُوع وَأَيْنَ لبس الْحزن أم ... أَيْن التلذّذ بَين أثْنَاء الْخيام) (أحللت أَنْضَرُ أيكة تهفو على ... وَاد تصفّق إِذْ خلوت من الغرام) (وصدحت بالكف الخضيب كموقع ... ببنانه يَتْلُو بهَا نغم الْكَلَام) وَزَعَمت أَنَّك هَامة لليوم أَو ... غده وشأنك يَا حمام سوى الْحمام) (أَنا ذَاك لي جسم عَفا بالسّقم إِذْ ... وفّى لعلوة غير مَذْمُوم الذمام) (مَا كنت أعلم قبله أنّ الجوى ... يبري الجسوم كَمثل مَا يبري الحسام)

ثمَّ إِن عبد الله ابْنه هَذَا مرّ بِهِ بعد حِين فَتذكر قَول أَبِيه فِيهِ فَقَالَ (أحمامة الْوَادي أخفت من الْحمام ... فشكوت مَا تلقين شكوى المستهام) (كذب الْحمام فَأَيْنَ دَعْوَى مظهر ... أشجانه من ذِي خَفَاء واكتتام) (شهِدت دموعي والجوى وَلَو أنني ... خَاصَمت بالجسم السقيم كفى السّقام) (بل قد عذرتك يَا حمام فَلم تطق ... عوناً يبين عَن الَّذِي بك من أوام) (مَا باختيارك خضّبت كف وَلَا ... قلّدت طوقاً مَا لَهُ عَنْك انفصام) (أَو مَا ترى الكحلاء طبعا تَشْتَكِي ... ثكلاً وناظرها يدل على اتهام) (ردي الهديل فإنني أشجي بِهِ ... يَا لَيْتَني لم أدر يَوْمًا مَا الغرام) وَوجدت مَنْسُوبا إِلَيْهِ (بدا محيّا جَابر ... وَاللَّيْل ملق أزره) (والبدر قد قابله ... وَالْمُشْتَرِي والزّهره) (فَقلت ذَا أَضْوَأ من ... تِلْكَ الثَّلَاث النيّرة) (فَقَالَ صحبي كلّهم ... إِي وَالَّذِي قد صورّه) وَهَذِه الأبيات قد أنشدنيها أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحَاج أبي عَامر مُحَمَّد بن حسن ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الفِهري ببلنسيّة بعد سنة عشر وسِتمِائَة لشَيْخِنَا أبي الْحسن بن حريق وحَدثني أَنه سَمعهَا مِنْهُ عِنْد ارتجاله إِيَّاهَا فِي شبيبة أبي

الْحسن قَالَ وَكَانَ يمِيل إِلَى وسيم يعرف بِجَعْفَر الخضري فَقعدَ وَأَنا مَعَه فِي إِحْدَى اللَّيَالِي المقمرة بَين العشاءين ومعنا طَائِفَة من أترابنا ترتقب وُصُول جَعْفَر هَذَا فَلَمَّا أطل قَالَ ذَلِك وَأول الأبيات (بدا محيا جَعْفَر ... ) إِلَى آخرهَا إِلَّا أَنه قَالَ فَقلت ذَا أجمل مَكَان أَضْوَأ وَهِي بِابْن حريق أولى مَعَ أَنِّي لم أَجدهَا فِي ديوَان شعره إِذْ قرأته عَلَيْهِ وَلَا أَدْرِي كَيفَ نسبت إِلَى ابْن وَزِير 165 - إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن صنانيد الْأنْصَارِيّ أَبُو إِسْحَاق كَانَ أَبوهُ والياً على جيّان وَقد وَليهَا هُوَ بِآخِرهِ وَتصرف قبل ذَلِك بثغر بطليوس وهنالك صاحبته وَمِنْه خاطبني وخاطبته وأصل أوّليتّه من شقورة

وَكَانَت لِأَبِيهِ نكايات فِي العداة وعنايات بالعفاة حَتَّى لدوّنت أمداحه وَشهر بأسه وسماحه وَأما ابْنه هَذَا فغلب الْأَدَب عَلَيْهِ وانتسب السّرو إِلَيْهِ وَإِلَّا يكن مَعَه بَأْس أَبِيه ومضاؤه فمعه معروفه الْمَعْرُوف وسخاؤه حَدثنِي شَيخنَا أَبُو الْحسن بن حريق أَنه أَيَّام اشْتِغَاله بِجِهَة جيّان وتردده عَلَيْهَا فِي صدر هَذِه الْمِائَة لقى أَبَا إِسْحَاق هَذَا فأفهمه بِمُقْتَضى سروه الْحِرْص على مدحه ثمَّ بعث قريحته على ذَلِك بجزيل من منحه فَقَالَ فِيهِ قصيدته الفريدة الَّتِي أَولهَا وأنشدني جَمِيعهَا (أعرى من الْمَدْح الطّرف الَّذِي ركبا ... لماجرى فِي ميادين الصبّا فكبا) (تمرّ وثباً بِهِ خيل الشَّبَاب فَلَا ... يسطيع من مربط الْخمسين أَن يثبا) (وَرُبمَا شقّ أسداف الظلام بِهِ ... ركضاً وشقّ بِهِ الأستار والحجبا) يَقُول فِيهَا (يلقى الغواني بإنكار معارفه ... وهنّ أقرب خلق مِنْهُ منتسبا) (إِن كنّ سّمينه عصر الشَّبَاب أَخا ... لَهُنَّ فاليوم أَحْرَى أَن يكون أَبَا) (رعينه خضرًا رطبا فحين عسا ... أتين يرعين ذَاك الإل والنسبا)

وَفِي مدحها (لَا بُد أَن ينصر الْآدَاب مشترط ... للمجد أَن ينصر العلياء والحسبا) (ندب لآل صنانيد بِهِ رتب ... فَاتَت برفعتها الأقدار والرتبا) (تقدّمت بهم من فَضله قدم ... داسوا بإخمصها الأقمار والشهبا) (نالوا بسعي أبي إِسْحَاق مَا طلبُوا ... ونال عفوا أَبُو إِسْحَاق مَا طلبا) (يَا ضَاحِكا للمنى من مبسم لقطت ... من لَفظه الدرّ واشتارت بِهِ الضّربا) (ومفصحاً بنعم فِي كل مَسْأَلَة ... إِلَّا لمن لامه فِي الْجُود أَو عتبا) (كن لي كَمَا أَنْت فِي نَفسِي فقد عقدت ... بيني وَبَيْنك أَسبَاب الْعلَا قربا) (وَذَاكَ أَنَّك تهدي البرّ منتخباً ... نحوي وأهدي إِلَيْك الْحَمد منتخبا) وَمِنْهَا (وسامع بك فِي أقْصَى مَنَازِله ... أَفَادَ من رفدك الْأَمْوَال والنشبا) (رجاك فامتلأت أرجاؤه بَدْرًا ... وَلم يشدّ لَهَا رحلاً وَلَا قتبا) (سوى قصائد والاها منقحة ... أدَّت إِلَى راحتيه ثروة عجبا) (صاغت لَهُ كيمياء الْجُود إِذْ وَردت ... مِنْهَا نضاراً وَكَانَت قبلهَا كتبا) (فَأَشْبَهت حَال بنت الْكَرم إِذْ خلصت ... فِي الدّنّ خمرًا وَكَانَت قبله عنبا) وَمن شعر أبي إِسْحَاق يعْتَذر إِلَى بعض الرؤساء من ترك زيارته لنقرس كَانَ يلازمه (كم رام كاتبها زِيَارَة مجدكم ... فتفوق عَن آماله آلامه)

(يَا ماجداً عذرا إِلَيْك فَإِنَّهُ ... لَا تستقلّ بِحمْلِهِ أقدامه) وَكتب إليّ مجاوباً فِي سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة (أَتَتْنِي فَقلت لَهَا مرْحَبًا ... تَحِيَّة صدق تحلّ الحبا) (يسير بهَا الْعَهْد مستحفظاً ... ويسري النسيم بهَا طيّبا) (يهبّ الْوَفَاء بهَا بارقاً ... فيلثمني ثغره أشنبا) (تأرّج لما سرى موهناً ... يُؤَدِّي أمانات زهر الرّبى) (وَقد نضح الطلّ أعطافه ... فأنساك حسنا عهود الصّبا) (تحمّل عَن ذِي الْهوى لوعة ... يضيق عَلَيْهَا النَّوَى مذهبا) (وزار فأدنى بعيد النَّوَى ... وبعّد بالشوق مَا قرّبا) (وَأهْدى من الود عرفا بليلاً ... عليلاً يصحّ بِهِ من صبا) (وذكّرني بالسّري مخلصاً ... أسامر وجدا بِهِ الكوكبا) (وَمَا كنت عَنهُ لبعد المزار ... ذهولاً فأطلب مستعتبا) (وَكَيف التناسي لمن قد غَدا ... طرازاً بكمّ الْعلَا مذهبا) (وقرطا عَليّ مسمعي ذكره ... ، معني على الْقلب مستعذبا) (فبلّغه عني سَلاما جزيلاً ... يسير مَعَ الْقلب مستصحبا) (وَلَو كنت فِي ودّه منصفاً ... لما نَاب عني نسيم الصّبا)

166 - يحيى بن أَحْمد بن عيسي الخزرجي أبوالحسين منتماه إِلَى قيس بن سعد بن عبَادَة صَرِيح وَحَدِيث نداه عِنْد رُوَاة علاهُ حسن صَحِيح وَولد بدانية دَار آبَائِهِ وَبهَا نَشأ ثمَّ أوطن شاطبة وأصهر بهَا إِلَى شَيخنَا أبي عمر بن عَاتٍ وَمَال إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَمَا زَالَ يرتقي فِي معالي الْأُمُور دَرَجَة بعد أُخْرَى حَتَّى سَاد أَهلهَا ووليها من قبل مُحَمَّد بن يُوسُف بن هود الملقب بالمتوكّل إِلَى أَن توفّي فِي آخر شعْبَان سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة ووليها بعده أبناؤه والرئاسة مِنْهُم لأبي بكر مُحَمَّد وَصَارَت إِلَيْهِ دانية مُدَّة يسيرَة إِلَى أَن تغلب الرّوم عَلَيْهَا مستهلّ ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين ثمَّ تملّك الرّوم أَيْضا شاطبة فِي آخر صفر من سنة أَربع وَأَرْبَعين بعد مهادنة ومداراة لطاغيتهم البرشلوني من حِين تغلبه على بلنسيّة فِي صفر أَيْضا وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع عشر مِنْهُ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَكَانُوا قد شارطوا على سكانها بإتاوة مَعْلُومَة وَفِي وقتنا هَذَا وصل بعض الشاطبيين يخبر أَنه أجلاهم عَنْهَا مَعَ أهل جهاتها وهم أُلُوف من الْمُسلمين فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد وَأَوَى أَبُو بكر هَذَا فِي خاصته إِلَى حصن بمقربة مِنْهَا وَذَلِكَ فِي رَمَضَان من سنة خمس وَأَرْبَعين

وَلأبي الْحُسَيْن فَضَائِل مَذْكُورَة ومآثر مأثورة ورزق قبولا مازال بِهِ مأمولا من رجل يجْرِي على أعراقه فيدع الضّنانة بأعلاقه ويسع النَّاس بأمواله كَمَا يسعهم بِحسن أخلاقه يلقِي الْوُفُود مرْحَبًا ويلفي كَمَا عوّد الْجُود الَّذِي تقيّل فِيهِ الجدود منسحباً (وَكلما لَقِي الدِّينَار صَاحبه ... فِي ملكه افْتَرقَا من قبل يصطحبا) وَأول ظُهُوره فَفِي الْفِتْنَة المنبعثة فِي أول سنة إِحْدَى وَعشْرين وَكَانَت بضاعته الْأَدَب مَعَ مشاركته فِي غَيره ويغلب عَلَيْهِ تحبير النثر أَكثر من تجويد الشّعْر وَهُوَ الْقَائِل معتذراً إِلَى بعض الْأُمَرَاء

(إِن قصّرت فِي خدمَة محسوسة ... فِيمَا مضى من دهري الْمُتَقَدّم) (فلنيّتي مَكْنُون خدمتها الَّتِي ... عقلت وَإِن حجبت لمن لم يفهم) (ولديّ عذر فِي التَّخَلُّف أولاّ ... وَلكم حلوم فَوق جرم المجرم) (وَإِذا محا مَا قد تقدّم عفوكم ... فولاء رقّي ثَابت للمنعم) (وَلَقِيت عِنْد لقائكم مَا أمّلت ... نَفسِي وَلَكِن كَيفَ لي بمسلّم) (وضراعتي فِي أَن يكون قبولكم ... فَوقِي بِمَنْزِلَة الرِّدَاء الْمعلم) وَله يُخَاطب أَبَا عبد الله بن عَيَّاش الْكَاتِب من قصيدة (مَالِي يَد بجزاء مَا أسديته ... والكفّ تقصر عَن محلّ الْكَوْكَب) (إِنِّي وقفت على جنابك همتي ... وَجعلت ربعك كعبتي ومحصّبي) (وَلَئِن سَأَلت عَن الَّذِي أَنا طَالب ... مَالِي سوى نيل الْعلَا من مطلب) وَله (عزاء أَبَا عَامر إِنَّه ... وَإِن كَانَ رزؤك رزءاً جَلِيلًا) (فَإِن الرَّسُول قضى فاجعلن ... عزاءك عَمَّن يَمُوت الرسولا) (وَقدر التصّبر قدر الثَّوَاب ... فصبراً توفّ الثَّنَاء الجميلا) وأنشدني لَهُ ابْن أَخِيه أَبُو الْحُسَيْن عَزِيز بن أبي عَمْرو سعد بن أَحْمد فِي وسيم أسمر أَزْرَق أرمد

(عابوه أسمر ناحلاً ذَا زرقة ... رمداً وظنوا أَن ذَاك يشينه) (جهلوا بِأَن السّمهريّ شبيهه ... وخضابه بِدَم الْقُلُوب يزينه) 167 - عَزِيز بن عبد الْملك بن مُحَمَّد ابْن خطاب أَبُو بكر كَانَ لَهُ مَعَ شرف الْبَيْت ونباهة السّلف تقدم مَعْلُوم فِي الْعُلُوم وتميز بالمشاركة فِي المنثور والمنظوم وَولى مرسية بَلَده من قبل ابْن هود المتَوَكل وَهُوَ الثائر بِموضع مِنْهُ يعرف بالصخور فِي آخر رَجَب سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَدخل مرسية بمواطأة قاضيها حِينَئِذٍ أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد القسطلّي قتيله بعد وَقبض على واليها وَذَلِكَ فِي أول يَوْم من شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَمِنْهَا ملك بِلَاد الأندلس بأسرها إِلَّا بلنسيّة إِلَى أَن هلك بقصبة المريّة لَيْلَة الْخَمِيس السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة خمس

وَثَلَاثِينَ وَكَانَ أمره عجبا لَوْلَا أَنه أورث عطباً وأعقب شجباً وَفِي ولَايَة أبي بكر هَذِه قدم عَلَيْهِ أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن الصَّابُونِي الإشبيلي شَاعِر وقته وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ فامتدحه بقصيد فريد أَوله (أَهلا بطيف خيال مِنْك منساب ... أدال عتبك عِنْدِي حِين إعتابي) يَقُول فِيهِ (لَا درّ درّ ليَالِي الْبعد من زمن ... يطول فِيهِ اجتراع الصّبّ للصّاب) (نابت صروف نبا بِي عِنْدهَا وطني ... قرعت نابي لَهَا من رحلي النابي) (جوّابة الأَرْض لَا ألوي على سكن ... تمْضِي الركاب وتجري بِي لتجوابي) (فِي الْفلك أَو فِي ظُهُور العيس منتقلاً ... فِي مذهل اللّب بَين الموج واللاب) (لَا أستكنّ بكانون لقرّته ... وَلست آبي من التهجير فِي آب)

(فَكُن بإدلاج تأويبي على ثِقَة ... من أوبتي شجو أَعدَاء لأحباب) (وَيَا معنّي بريب الدَّهْر يرهبه ... لَا تبتئس بعد من إرهاق إرهاب) (إِن أغريت بك أبكار الخطوب فلذ ... مِنْهَا بمجد أبي بكر بن خطاب) (بالسّيد الأوحد النّدب الَّذِي كملت ... بِهِ الْعلَا بَين أَخْلَاق وأحساب) (يلقِي بِهِ سَائِلًا جود وَمَعْرِفَة ... طبّاً بتلقيح أَحْوَال وألباب) (يحر من الْعلم يسْقِي من يلمّ بِهِ ... وَيُرْسل السّحب للنائي بتسكاب) (وعندما راعت الدُّنْيَا إيالته ... ) (نَام الْأَنَام سكوناً بالمنى وهفت ... بِالْمَالِ هَيْبَة غمر الْجُود وهّاب) وَمِنْه (لَوْلَا اعتناء عَزِيز مَا عززت على ... دهري وَقد بزّ لمّا عزّ أسلابي) (تقلّبت حركات الدَّهْر بِي غيراً ... حَتَّى كَأَنِّي مِنْهَا حرف إِعْرَاب) ثمَّ انْفَرد بتدبير مرسية بعد وَفَاة ابْن هود وطرد عَنْهَا أَخَاهُ عليّ بن يُوسُف الملقب بعضد الدولة ودعا لنَفسِهِ وبويع لَهُ فِي الرَّابِع من الْمحرم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وتغلب عَلَيْهِ أَبُو جميل زيان بن مدافع بن يُوسُف بن سعد الجذامي فِي يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس عشر من شهر رَمَضَان من السّنة واعتقله قَلِيلا ثمَّ قَتله صبرا على أثر ذَلِك لَيْلَة الِاثْنَيْنِ السَّادِس وَالْعِشْرين من الشَّهْر وَكَانَ فِي أول أمره أبعد النَّاس مِمَّا صَار إِلَيْهِ وتورط فِيهِ يؤذّن فِي

الْمَسَاجِد ويحيك الحلفاء ويصحب المتعبدين والرئاسة تهيب بِهِ لاحتيازه إِيَّاهَا من طَرفَيْهِ فَمَا لبث أَن أجابها مُقبلا عَلَيْهَا ومهرولاً إِلَيْهَا ليَكُون فِيهَا حتفه وَالله غَالب على أمره وأخواله بَنو عِيسَى الخولانيون فتيَان الصَّباح وفرسان الكفاح وَأما آباؤه فكفاهم مجداً تالداً وذكراً خَالِدا مَا حكى ابْن حيّان فِي تَارِيخه الْكَبِير وقرأته بِخَط القَاضِي أبي الْقَاسِم بن حُبَيْش أَن أَبَا عمر أَحْمد بن خطاب وَهُوَ الْمَعْرُوف بالخازن ضيّف مُحَمَّد بن أبي عَامر وَرِجَال عسكره فِي اجتيازه إِلَى برشلونة فجَاء فِي الاقتدار على ذَلِك بِمَا صَار حَدِيثا بعده وَكَانَ فِي نِهَايَة من الثراء والسّرو والسماحة مَخْصُوصًا بصداقة ابْن شَهِيد قَالَ وَكَانَ وَلَده أَبُو الْأَصْبَغ مُوسَى يحتذي حذوه فِي الدّهقنة وَهُوَ الَّذِي ضيّف أَيْضا طرفَة الْخَادِم مولى عبد الْملك بن أبي عَامر وَرِجَاله فِي اجتيازه بِهِ غازياً قوم أعانهم على الْحسب الثراء فَلهم فِي الْفضل مقاوم مَذْكُورَة وهم موَالٍ لبني مَرْوَان من ولد عبد الْجَبَّار الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ الْبَاب المسدود من أَبْوَاب قرطبة وخلفهم الْيَوْم يدْفَعُونَ ذَلِك ويزعمون أَنهم عرب من الأزد تموّلوا للْقَوْم إيثاراً للدنيا فَالله أعلم بذلك وَحكى ابْن حيّان أَيْضا فِي الدولة العامرية وَذكر غَزْوَة الْمَنْصُور مُحَمَّد ابْن أبي عَامر إِلَى برشلونة فِي سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة وَهِي الثَّالِثَة عشْرين من غَزَوَاته فَجعل طَرِيقه على شرقيّ الأندلس وسلك طَرِيق إلبيرة إِلَى بسطة إِلَى تدمير فتضيّف بِمَدِينَة مرسية قَاعِدَة تدمير الْمَعْرُوف بِابْن خطّاب وَلم يسمّه وَكَانَ ذَا نعْمَة ضخمة وصنيعة وَاسِعَة وهمة علية فَمَكثَ عِنْده ثَلَاثَة عشر يَوْمًا يقوم بِهِ وبجنده وبخدمته جَمِيعًا على مقاديرهم

وَينفذ إِلَى بَاب كلّ وَاحِد مِنْهُم كلّ يَوْم وَظِيفَة من الدَّقِيق وَاللَّحم والفاكهة والقضيم وَصَارَ جَمِيعهم فِي كَفَالَة ابْن خطاب مَا بَين الْوَزير والشّرطيّ فَلم ينْفق أحد مِنْهُم لنَفسِهِ طول هَذِه الْمدَّة مِثْقَال ذرة وَكَانَ يجدد للمنصور كل يَوْم نوعا من الْأَطْعِمَة والفواكه لَا يشبه الَّذِي قبله نعم وَزَعَمُوا أَن ظروفه وأوعيته كَانَت تخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف أَنْوَاعه إِلَى أَن رَحل ابْن أبي عَامر مُتَعَجِّبا بِمَا تبرع بِهِ مستغرباً لمذهبه فِي التحدث بِنِعْمَة ربه بعد أَن أثنى عَلَيْهِ وحطّه جملَة من خراج ضيَاعه وَأمر لَهُ بكساً ولجماعة بني أُميَّة قَالَ وَسَأَلَ الْمَنْصُور ابْن خطاب أَن يعْمل لَهُ بقرطبة خبيصاً استجاده من حلوائه فأنفذ إِلَيْهِ جَارِيَة اتخذته فِي قصره فقارب التدميريّ وَلم تكمل صِفَاته فَحكم للهواء فِي تجويده وَكَانَ الْمَنْصُور فِيمَا بعد يصف نعْمَة ابْن خطاب وسروه وَيَقُول هِيَ أَحَق نعْمَة بِالْحِفْظِ وأولاها بِالزِّيَادَةِ لسلامتها من الغمط وَبعدهَا من الْجُحُود وقيامها بِفَرْض التَّزْكِيَة ويوعز إِلَى عماله بتدمير بِحِفْظ أَسبَابه وتحرّي مُوَافَقَته وَالْأَخْبَار عَنهُ فِي ذَلِك طَوِيلَة وَقَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن سعيد بن أبي الفيّاض وَيعرف بِابْن الغشّاء فِي تَارِيخه المترجم بالعبر وَذكر أَيْضا غَزْوَة الْمَنْصُور إِلَى برشلونة خرج إِلَيْهَا من قرطبة يَوْم الثُّلَاثَاء لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت لذِي الْحجَّة من سنة أَربع وَسبعين وثلاثمائة وَهُوَ الْخَامِس من ماية وَأخذ على إلبيرة إِلَى بسطة إِلَى

لورقة إِلَى مرسية فَأَقَامَ بهَا ثَلَاثًا وَعشْرين يَوْمًا فِي ضِيَافَة أَحْمد بن دُحَيْم ابْن خطاب وَابْنه أبي الْأَصْبَغ مُوسَى بن أَحْمد لم ينْفق أحد من عسكره لنَفسِهِ درهما وَاحِدًا فَمَا فَوْقه من الْوَزير إِلَى الشّرطيّ وَكَانَ يجدد كل يَوْم للمنصور نوعا من الطَّعَام والفواكه بآلات مُخْتَلفَة كاختلاف الْأَطْعِمَة والفواكه حَتَّى صَار خَبرا فِي حَدِيث الْمَنْصُور ومفخراً عِنْده يباهي بِهِ وَبلغ أمره إِلَى أَن صنع لَهُ مَاء الْحمام من مَاء الْورْد وأبلغ فِي الإفراط فِي ضيافته فَكَانَ الْمَنْصُور يصفه فِيمَا بعد وَيَقُول نعْمَة ابْن خطاب أَحَق نعْمَة بِالْحِفْظِ وأحرمها على التَّغْيِير وأولاها بِالزِّيَادَةِ والتثمير لسلامتها وَبعدهَا من الْجُحُود وقيامها بِفَرْض التَّزْكِيَة وَكَانَ يُوصي عماله على تدمير ابْن خطاب وتحريّ مُوَافَقَته فِي كل مَا يرغبه وَمن شعر أبي بكر فِي الطَّرِيقَة الصُّوفِيَّة (لي حبيب أرَاهُ فِي كل آن ... هُوَ أنسي وبغيتي وجناني) (رام قوم أَن يحجبوني عَنهُ ... فاختفى عَن عيونهم وأتاني) (فَأَنا والحبيب متصلان ... وبظنّ الوشاة منفصلان) (فَإِذا مَا سكرت لم أر غَيْرِي ... وَإِذا مَا صحوت فالحب ثَان) (جلّ سكري عَن أَن ترَاهُ عُيُون ... حجبت بالحروف دون الْمعَانِي) وَهَذَا ينحو إِلَى قَول الآخر (أقصروا عَن لومكم يَا لومه ... وذروا الْقلب وَمن قد تيّمه) (إِن من أمرض قلبِي حبّه ... قَادر إِن شَاءَ يَوْمًا رَحمَه) (لي حبيب يتجلّى سحرًا ... وَلأَهل الودّ بعد الْعَتَمَة)

(خَالق الْعَرْش مَعَ الْفرش فقد ... فهم الْمَقْصُود من قد فهمه) وَمَا أحسن قَول أبي الْعَبَّاس بن العريف الزَّاهِد فِي هَذَا المنحى (فاح الندى بمنطقي فتنازعوا ... أبإسحل أستاك أم بأراك) (هَيْهَات عهدي بالسّواك وَإِنَّمَا ... شفة الحبيب جَعلتهَا مسواكي) (ويظن من سمع الحَدِيث بِأَنَّهُ ... حق بلَى ومدبّر الأفلاك) (رُؤْيا رَأَيْت وإنّ من أبصرته ... لمنزه عَن مهنة الْإِدْرَاك) 168 - مُحَمَّد بن عَليّ بن أحلى أَبُو عبد الله تأمّر بلورقة متنقلاً إِلَى الرِّئَاسَة من الدراسة وَكَانَ يجْتَمع إِلَيْهِ فِي علم الْكَلَام وَيُؤْخَذ عَنهُ وَله فِيهِ تواليف وبيته فِي المولّدين تليد النباهة وَبِذَلِك اسْتَعَانَ على مرامه إِلَى مَا لأهل بَلَده من بَأْس شَدِيد وَكَثْرَة عديد وَلما أمكن أهل مرسية مِنْهَا الرّوم فِي شَوَّال سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة ضلّل رَأْيهمْ وَأبْدى مخالفتهم وَجعل يجادلهم بِلِسَانِهِ ويجالدهم بسنانه فَدَعَا ذَلِك إِلَى قَصده والعيث فِي جِهَته حَتَّى اضْطر إِلَى المسالمة وعَلى ذَلِك بَقِي إِلَى أَن توفّي فِي أول سنة خمس وَأَرْبَعين وَله أشعار بمقصده شاهدة وعَلى معتقده متواردة مِنْهَا قَوْله

(الْمَرْء يعلم بِالضَّرُورَةِ نَفسه ... وَالثَّابِت الْمَوْجُود حيّ وَاحِد) (والخلق بَين حَقِيقَة ومقدّر ... تقضي عَلَيْهِ بالافتقار شَوَاهِد) (فَانْظُر بعقلك إِن بدا لَك شرح ذَاك ... فَأَنت حبر مُسْتَقِيم رَاشد) وأنشدني لَهُ بعض أَصْحَابنَا (تقطعت الْأَسْبَاب ثمَّ بقيت لي ... فَهَل أشتكي يَوْمًا من الذل والفقر) (لَئِن لم يكن مِنْك البعاد فإنني ... سيغبطني أهل الْمَلَامَة فِي أَمْرِي) (فَلَو عرفُوا مِنْك الَّذِي قد عَرفته ... للاح لَهُم تفريطهم وبدا عُذْري) (سَوَاء لعمري ذمهم وثناؤهم ... إِذا كنت تَدْرِي من عبيدك مَا تَدْرِي) وَله (خليليّ قد ضَاقَتْ عليّ مذاهبي ... وكفكفت نَفسِي عَن جَمِيع مطالبي) (وضافت جفون الْعين عَن عبراتها ... لأمر يرَاهُ الْخَبَر ضَرْبَة لازب)

(وشبت وَلم أبلغ ثَلَاثِينَ حجّة ... لحجة جَبَّار على الْخلق غَالب) (دَعَاني وشجوي والأسى وبلابلي ... فَلَا تعذلاني فِي الدُّمُوع السواكب) (أألتذّ بالدنيا وأرنو لحسنها ... وَلست إِلَيْهَا بعد موتِي بآيب) (لعمري لقد أَصبَحت سَكرَان حائراً ... جَدِيرًا بِمَا عِنْدِي وَلست بشارب) 169 - مُحَمَّد بن سبيع بن يُوسُف بن سعد بن مُحَمَّد بن سعد الجذامي أَبُو عبد الله ولى دانية لِابْنِ عَمه أبي جميل زيّان بن مدافع بن يُوسُف أَمِير بلنسيّة وانتزى عَلَيْهِ فِيهَا ثمَّ هرب وأسلمها وَكَانَ قد انتزى قبل ذَلِك بمرسية فقيّد وَاحْتمل إِلَى مرّاكش وَحبس بهَا مُدَّة وَله مُشَاركَة فِي الْأَدَب ومطالعة لغيره وَمن شعره (لما رَأَيْت الْقرب دون مناله ... عوائق دنيا تلْحق الحرّ بالتّرب) (تَوَجَّهت للمحراب أبغي وجاهة ... لعَلي بهَا أرق إِلَى رُتْبَة الْقرب)

وَتُوفِّي بِحَضْرَة تونس كلأها الله فِي شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة 170 - سعيد بن حكم بن عمر بن حكم الْقرشِي أبوعثمان أَصله من طبيرة بغرب الأندلس وَبهَا ولد وَكَانَ بإفريقية لما خَافَ من وَالِي إشبيلية ثمَّ قدم على ميورقة قبل أَن يدخلهَا الرّوم عنْوَة فِي منتصف صفر سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة بِيَسِير فقدّم مِنْهَا عَاملا على منورقة إِلَى أَن تغلب على قاضيها أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن هِشَام وَقد صَارَت إِلَيْهِ رئاستها فِي قصَّة طَوِيلَة وَانْفَرَدَ بضبطها من ثَانِي عيد الْفطر سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة إِلَى وقتنا هَذَا وَأخرج ابْن هِشَام وَابْنه ثمَّ استرجعهما فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بهما

ودعي بالرئيس وشارط الرّوم على متاركته وبتّ مساكنته بإتاوة لم يخلّ بحملها إِلَيْهِم فِي كل سنة فامتد مهله وحمدت سيرته وَكثر الِانْتِفَاع بِهِ فِي جزيرته حَتَّى يمّمت منتجعاً وَصَارَت للمنقطع بِهِ مفزعاً وَأما العناة فَكَأَنَّمَا فكّهم عَلَيْهِ دين هَذَا وَلَا ورق بنواحيه يَتَّسِع فِيهِ وَلَا عين

وَكثير من الأدباء استرقّهم بإعتاقهم فنوهت بصنيعه أمداحهم وَآخَرُونَ ركبُوا إِلَيْهِ ثبج الْبَحْر ففازت بجميل اصطناعه قداحهم وَبِالْجُمْلَةِ فالجود الْمَحْض صناعته وَالْأَدب الغض بضاعته وَمن شعره (أما الْهوى فسجيتي إضماره ... لَوْلَا الدُّمُوع لما فَشَتْ أسراره) (مَا عيل بِالْكِتْمَانِ صبري إِنَّمَا ... عظم الغرام فَضَاقَ عَنهُ قراره) (ينهلّ دمعي مَا تشبّ جوانحي ... والغصن يندي إِذْ تأجّج ناره) (جمحت جِيَاد الْحبّ بِي حَتَّى أَتَت ... مضمار قيس والردى مضماره) (لله غُصْن ناعم قلبِي لَهُ ... مثوى غَدا بردا عَلَيْهِ أواره) (أظمأته بالعتب ثمَّ سقيته ... دمعي فَأصْبح وَالرِّضَا إثماره) وَله (نقط المداد على برود الْكَاتِب ... كالخال فِي خد الفتاة الكاعب) (لَا شَيْء يحسن بالمداد كثوبه ... إِن المداد لوشي ثوب الْكَاتِب) وَله (إِنِّي لأعجب من مُلُوك أَصْبحُوا ... وهم موَالٍ أعبد الشَّهَوَات) (الأطيبان مُرَادهم ومرادهم ... أرب الْفروج وإربة اللهوات) (لَو وقفُوا وقفُوا اجْتِمَاعهم على ... نفي الْهوى فضلا عَن الخلوات) (مرت سنُون وهم ملاك للورى ... يَا ليتهم مروا مَعَ السنوات) (مَا نَحن إِلَّا فِي فلاة للردى ... فلتحذر الشَّهَوَات فِي الفلوات)

باب في الذين ما عثرت على أشعارهم فاقتصرت على نخب من أخبارهم

بَاب فِي الَّذين مَا عثرت على أشعارهم فاقتصرت على نخب من أخبارهم الْمِائَة الأولى من الْهِجْرَة دخل إفريقية من أُمَرَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم 171 - عبد الله بن سعد بن أبي سرح الْقرشِي العامري وَهُوَ افتتحها فِي خلَافَة عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ سنة سبع وَعشْرين

172 - وَمُعَاوِيَة بن حديج السّكوني وَقيل فِي نسبه غير ذَلِك غزا إفريقية ثَلَاث غزوات أولاها سنة أَربع وَثَلَاثِينَ قبل قتل عُثْمَان وَأعْطى عُثْمَان مَرْوَان الْخمس فِي تِلْكَ الْغَزْوَة وَلَا يعرفهَا كثيرمن النَّاس وَالثَّانيَِة سنة أَرْبَعِينَ وَالثَّالِثَة سنة خمسين كَذَا حكى أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الحكم فِي تَارِيخه عَن يزِيد بن أبي حبيب وَحكى أَيْضا أَن مُعَاوِيَة هَذَا خرج بعد عبد الله بن سعد إِلَى الْمغرب سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمَعَهُ فِي جَيْشه عبد الْملك بن مَرْوَان وَجَمَاعَة من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار

فَافْتتحَ قصوراً وغنم غَنَائِم عَظِيمَة وَاتخذ قيرواناً فَلم يزل فِيهِ حَتَّى خرج إِلَى مصر وَبعث فِي هَذِه الْغُزَاة عبد الْملك بن مَرْوَان إِلَى جلولا فافتتحها فِي خبر غَرِيب تقدم ذكره وَغير ابْن عبد الحكم يَقُول إِن مُعَاوِيَة بن حديج غزا إفريقية سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَن الْخمس الَّذِي أعطَاهُ عُثْمَان مَرْوَان هُوَ خمس مَا غنم ابْن أبي سرح وَكَانَ عَظِيما وهوأحد الْأَسْبَاب المنعيّة على عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ 173 - وَعقبَة بن نَافِع الفِهري أغزاه مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان سنة سِتّ وَأَرْبَعين فَخرج إِلَى إفريقية فِي عشرَة آلَاف من الْمُسلمين فاختط مَدِينَة القيروان وأسلف آثاراً كَرِيمَة وَكَانَ من خِيَار الْوُلَاة والأمراء مستجاب الدعْوَة ثمَّ صرف وأعيد ثَانِيَة فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ فَقتلته البربر وَمن مَعَه بمقربة من تهوذة فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وقبره هُنَاكَ يتبرك بِهِ إِلَى الْيَوْم

174 - وَبسر بن أَرْطَاة بن أبي أَرْطَاة الْقرشِي العامري غزا طرابلس مَعَ عَمْرو بن العَاصِي فَبَعثه إِلَى ودّان فافتتحها وَفرض على أَهلهَا ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ رَأْسا ثمَّ خرج مَعَ عقبَة بن نَافِع غازياً وافتتح قلعة من القيروان على ثَلَاثَة أَيَّام فَعرفت بقلعة بسر إِلَى الْيَوْم وَقد قيل إِن الَّذِي بعث بسراً إِلَى هَذِه القلعة هُوَ مُوسَى بن نصير وَالْأول أوضح وَأَصَح وَمن أُمَرَاء التَّابِعين 175 - أَبُو المُهَاجر دِينَار مولى الْأَنْصَار قَالَ ابْن عبد الحكم عزل عقبَة يَعْنِي ابْن نَافِع فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ عَزله مسلمة بن مخلد الْأنْصَارِيّ من قبل مُعَاوِيَة يَعْنِي ابْن أبي سُفْيَان وَهُوَ أول من جمعت لَهُ مصر وَالْمغْرب وَولى أَبَا المُهَاجر دِينَارا

مولى الْأَنْصَار وأوصاه أَن يعْزل عقبَة أحسن الْعَزْل فخالفه فسجنه وأوقره حديداً حَتَّى أَتَاهُ كتاب الْخَلِيفَة بتخلية سَبيله وإشخاصه إِلَيْهِ فَخرج عقبَة حَتَّى أَتَى قصر المَاء فصلى ثمَّ دَعَا وَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تمتني حَتَّى تمكّني من أبي المُهَاجر دِينَار بن أمّ دِينَار فَبلغ ذَلِك أَبَا المُهَاجر فَلم يزل خَائفًا مُنْذُ بلغته دَعوته وَلما قدم عقبَة مصر ركب إِلَيْهِ مسلمة بن مخلّد فأقسم لَهُ بِاللَّه لقد خَالفه أَبُو المُهَاجر فِيمَا صنع وَلَقَد أوصيته بك خَاصَّة ثمَّ قدم عقبَة على مُعَاوِيَة فَقَالَ لَهُ فتحت الْبِلَاد وبنيت الْمنَازل وَمَسْجِد الْجَمَاعَة ثمَّ أرْسلت عبد الْأَنْصَار فأساء عزلي فَاعْتَذر إِلَيْهِ مُعَاوِيَة وَقَالَ قد عرفت مَكَان مسلمة بن مخلّد من الإِمَام الْمَظْلُوم وتقديمه إِيَّاه وقيامه بدمه وبذل مهجته وَقد رددتك على عَمَلك قَالَ وَيُقَال إِن الَّذِي قدم عَلَيْهِ عقبَة هُوَ يزِيد بن مُعَاوِيَة بعد موت أَبِيه فَرده والياً على إفريقية وَذَلِكَ أصح لِأَن مُعَاوِيَة توفّي سنة سِتِّينَ فَخرج عقبَة سَرِيعا لحنقه على أبي المُهَاجر حَتَّى قدم إفريقية فأوثق أَبَا المُهَاجر وأساء عَزله

وَفِي تَارِيخ أبي إِسْحَاق الرَّقِيق أَن أَبَا المُهَاجر لما قدم إفريقية كره أَن ينزل الْموضع الَّذِي اختطه عقبَة بن نَافِع فَمضى حَتَّى خلّفه بميلين مِمَّا يَلِي طَرِيق تونس فَنزل واختط بهَا مَدِينَة أَرَادَ أَن يكون لَهُ ذكرهَا وَيفْسد عمل عقبَة وَأمر النَّاس أَن يخربوا القيروان ويعمروا مدينته وَذكر ابْن عبد الحكم أَيْضا نَحْو هَذَا وَقَالَ كَانَ النَّاس يغزون إفريقية ثمَّ يقفلون مِنْهَا إِلَى الْفسْطَاط فَأول من أَقَامَ بهَا حِين غَزَاهَا أَبُو المُهَاجر مولى الْأَنْصَار أَقَامَ بهَا الشتَاء والصيف واتخذها منزلا وَعَن غَيره أَن مُعَاوِيَة ترَاخى فِي صرف عقبَة بن نَافِع كَمَا وعده إِلَى عمله حَتَّى توفّي وَولى ابْنه يزِيد بن مُعَاوِيَة فَلَمَّا علم حَال عقبَة غضب وَقَالَ أدْركهَا قبل أَن تهْلك وتفسد فولاّه إفريقية وقطعها عَن مسلمة بن مخلّد وأقرّه على مصر وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ فَرَحل عقبَة من الشَّام حَتَّى قدم إفريقية وأوثق أَبَا المُهَاجر فِي الْحَدِيد وَأمر بخراب مدينته ورد النَّاس إِلَى القيروان وَكَانَ عقبَة فِي ولَايَته الأولى لم يُعجبهُ القيروان الَّذِي بناه مُعَاوِيَة بن حديج قبله فَركب وَالنَّاس مَعَه وَيُقَال إِنَّه كَانَ فِي ثَمَانِيَة عشر من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسائرهم من التَّابِعين فَدَعَا الله وَأَصْحَابه يؤمّنون عَلَيْهِ وَقد أَتَى مَوضِع القيروان الْيَوْم وَكَانَ وَاديا كثير الشّجر تأوي إِلَيْهِ الوحوش وَالسِّبَاع والهوام فَنَادَى بِأَعْلَى صَوته يَا أهل الْوَادي ارتحلوا فَإنَّا نازلون نَادَى بذلك ثَلَاثَة أَيَّام وَقيل ثَلَاث مَرَّات فَلم يبْق من السبَاع شَيْء وَلَا الوحوش

وَلَا الْهَوَام إِلَّا خرج وَأمر النَّاس بالخطط وركز رمحه وَقَالَ هَذَا قيروانكم وَلما قبض عقبَة على أبي المُهَاجر غزا إِلَى السوس وَهُوَ مَعَه فِي وثَاقه ثمَّ انْصَرف إِلَى إفريقية وَقد جال فِي بِلَاد البربر وقتلهم كَيفَ شَاءَ فَلَمَّا دنا من القيروان أَمر أَصْحَابه فافترقوا وَبَقِي فِي قلَّة فَأخذ على مَكَان يُقَال لَهُ تهودة فَعرض لَهُم كسيل فِي جمع كَبِير من الرّوم والبربر فَاقْتَتلُوا فَقتل عقبَة وَمن

مَعَه وَقتل أَبُو المُهَاجر فِي الْحَدِيد وَقيل إِن عقبَة لما غشيه البربر نزل فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ وبلغه أَن أَبَا المُهَاجر تمثل بقول أبي محجن الثّقفي (كفى حزنا أَن تقرع الْحِيَل بالقنا ... وأترك مشدوداً عليّ وثاقيا) (إِذا قُمْت عنّاني الْحَدِيد وأغلقت ... مصَارِع من دوني تصمّ المناديا) فَأمر بِإِطْلَاقِهِ وَقَالَ لَهُ الْحق بِالْمُسْلِمين فَقُمْ بأمورهم وَأَنا أغتنم الشَّهَادَة فَقَالَ لَهُ أَبُو المُهَاجر وَأَنا أغتنم مَا اغتنمت فَكسر كل وَاحِد مِنْهُمَا جفن نَفسه وَكسر الْمُسلمُونَ أغماد سيوفهم وَأمرهمْ عقبَة أَن ينزلُوا وَلَا يركبُوا فَقَاتلُوا قتالاً شَدِيدا حَتَّى قتلوا وَلم يفلت مِنْهُم أحد وَأسر مُحَمَّد بن أَوْس الْأنْصَارِيّ وَيزِيد بن خلف الْقَيْسِي وَنَفر مَعَهُمَا ففاداهم ابْن مصاد صَاحب قفصة وَبعث بهم لي زُهَيْر بن قيس

وَقَالَ ابْن عبد الحكم أَن ابْن الكاهنة الْبَرْبَرِي خرج على أثر عقبَة فِي توجهه إِلَى السّوس يغّور الْمِيَاه كلما رَحل عقبَة من منهل دَفنه ابْن الكاهنة فَلَمَّا انْتهى عقبَة إِلَى الْبَحْر أقحم فرسه فِيهِ حَتَّى بلغ نَحره ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أشهدك أَلا مجَاز وَلَو وجدت مجَازًا لجزت وَانْصَرف رَاجعا والمياه قد غورّت فتعاونت عَلَيْهِ البربر فَلم يزل يُقَاتل وَأَبُو المُهَاجر مَعَه فِي الْحَدِيد فَلَمَّا استحر الْأَمر أَمر بِفَتْح الْحَدِيد عَنهُ فَأبى أَبُو المُهَاجر وَقَالَ ألْقى الله فِي حديدي فقتلا وَمن مَعَهُمَا 176 - وَزُهَيْر بن قيس البلوي كَانَ عقبَة بن نَافِع لما خرج إِلَى السّوس اسْتخْلف على القيروان عمر بن عَليّ الْقرشِي وَزُهَيْر بن قيس البلوي فخالفه رجل من الْعَجم فِي ثَلَاثِينَ ألفا إِلَى عمر وَزُهَيْر وهما فِي سِتَّة آلَاف فَهَزَمَهُ الله

وَلما قتل عقبَة زحف ابْن الكاهنة إِلَى القيروان يُرِيد عمر وَزُهَيْر فقاتلاه فَهزمَ ابْن الكاهنة وَأَصْحَابه ثمَّ خرجا إِلَى مصر بالجيش لِاجْتِمَاع مَلأ البربر وَأقَام ضعفاء أصحابهما وَمن كَانَ خرج مَعَهُمَا من موَالِي إفريقية بإطرابلس وَيُقَال إِن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان لما ولى مصر كتب إِلَى زُهَيْر بن قيس وَهُوَ يَوْمئِذٍ ببرقة يَأْمُرهُ يَغْزُو إفريقية فَخرج فِي جمع كثير فَلَمَّا دنا من قمّونية وَبهَا عَسْكَر كسيل عبأ زُهَيْر لقتاله فَقتل كسيل وَمن مَعَه وَانْصَرف زُهَيْر إِلَى برقة وَذَلِكَ سنة أَربع وَسِتِّينَ

وَيُقَال بل حسان بن النُّعْمَان كَانَ الَّذِي وجّه زُهَيْر بن قيس وَذكر أَبُو إِسْحَاق الرَّقِيق أَن زهيراً هَذَا أَرَادَ الِانْصِرَاف إِلَى مصر بعد قتل عقبَة وَقد رعب هُوَ وَأَصْحَابه فَقيل لَهُ أهزيمة من الْمغرب إِلَى مصر فعزم على الْقِتَال وَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ يَا معشر الْمُسلمين إِن أصحابكم قد دخلُوا الْجنَّة إِن شَاءَ الله وَقد منّ الله عَلَيْهِم بِالشَّهَادَةِ وَهَذِه أَبْوَاب الْجنَّة مفتّحة فاسلكوا سَبِيل أصحابكم أَو يفتح الله لكم دون ذَلِك فخالفه أَبُو شُجَاع حَنش الصَّنْعَانِيّ ورحل وَاتبعهُ النَّاس فَلَمَّا رأى ذَلِك زُهَيْر نَهَضَ فِي إثره وَملك البربر القيروان. وَأقَام زُهَيْر بنواحي برقة مرابطا فَوجه إِلَيْهِ عبد الْملك بن مَرْوَان بغزو البربر واستنقاذ القيروان وأمدّه فَالْتَقوا فَقتل كسيل وَدخل زُهَيْر القيروان ثمَّ زهد فِي الْملك وَكَانَ من رُؤَسَاء العابدين وَعَاد إِلَى برقة فصادف الرّوم قد أَغَارُوا عَلَيْهَا فَقَاتلهُمْ فاستشهد هُوَ وَأَصْحَابه 177 - وَحسان بن النُّعْمَان الغساني كَانَ بِمصْر لما قتل زُهَيْر بن قيس فَأمره عبد الْملك بغزو إفريقية فَخرج فِي أَرْبَعِينَ ألفا وَلم يدْخل أحد من الْأُمَرَاء قبله إفريقية بِمثل هَذَا الْجَيْش فضيق على قرطاجنّة إِلَى أَن تغلب عَلَيْهَا ودخلها عنْوَة فَهَدمهَا وغزا الكاهنة ملكة

البربر فهزمته ثمَّ عَاد إِلَى غزوها فَقَتلهَا ثمَّ بعث برأسها إِلَى عبد الْملك وعزله عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان وَأخذ كل مَا كَانَ مَعَه وَذكر ابْن عبد الحكم أَن حسان رَجَعَ من مصر بعد قدومه على عبد الْملك شاكياً بأَخيه عبد الْعَزِيز لتقديمه على برقة غُلَامه تليداً وَخلف ثقله بِمصْر فَقدم على عبد الْملك وَهُوَ مَرِيض ثمَّ لم يلبث حسان أَن توفّي على إِثْر ذَلِك 178 - ومُوسَى بن نصير قدم الْمغرب أَمِيرا عَلَيْهِ فِي سنة ثَمَان وَسبعين وَقَالَ اللَّيْث أمّر مُوسَى بن نصير على إفريقية سنة تسع وَسبعين وَكَانَ والياً من قبل عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان فَافْتتحَ عَامَّة الْمغرب وَبعث بغنائمه إِلَى عبد الْعَزِيز فأنهاها إِلَى عبد الْملك فسكن ذَلِك مِنْهُ بعض مَا كَانَ يجد على مُوسَى ثمَّ توفّي عبد الْملك سنة سِتّ وَثَمَانِينَ واستخلف الْوَلِيد بن عبد الْملك فتواترت فتوح الْمغرب عَلَيْهِ من قبل مُوسَى فعظمت مَنْزِلَته عِنْده وَاشْتَدَّ عجبه بِهِ

ووجّه مُوسَى ابْنه مَرْوَان إِلَى طنجة مرابطاً على ساحلها فَانْصَرف وخلّف على جَيْشه طَارق بن زِيَاد وكانو ألفا وَسَبْعمائة فَكَانَ ذَلِك سَبَب فتح الأندلس دَخلهَا طَارق بمداخلة صَاحب طنجة من الرّوم وزحف يُرِيد قرطبة فتلقّته جنودها فَهَزَمَهُمْ وَبلغ ذَلِك لذريق ملك الرّوم فزحف إِلَيْهِ من طليطلة فَالْتَقوا على نهر لكّه من كورة شدونة يَوْم الْأَحَد لليلتين بَقِيَتَا من شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين واتصلت الْحَرْب بَينهم إِلَى يَوْم الْأَحَد لخمس خلون من شَوَّال بعده تَتِمَّة ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ هزم الله الْمُشْركين فَقتل مِنْهُم خلق عَظِيم أَقَامَت عظامهم ملبّسة لتِلْك الأَرْض دهراً طَويلا

وخفي أثر لذريق فَلَا يدْرِي أَيْن صقع وَلَا مَا فعل إِلَّا أَن الْمُسلمين وجدوا فرسه الْأَشْهب الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وسرجه من ذهب مكلل بالياقوت والزبرجد وَقد ساخت قوائمه فِي حمأة وَقع فِيهَا وغرق العلج فَثَبت أحد خفيه فِي الطين فَأخذ وخفي الآخر وَغَابَ شخصه فَمَا وجد حيّاً وَلَا مَيتا ثمَّ تَمَادى طَارق على افْتِتَاح الْبِلَاد وَدخل طليطلة وَكتب إِلَى مُوسَى بن نصير يُعلمهُ فَكتب إِلَيْهِ أَلا يُجَاوز قرطبة حَتَّى يقدم عَلَيْهِ ثمَّ خرج إِلَى الأندلس فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَتِسْعين واستخلف على القيروان ابْنه عبد الله ابْن مُوسَى وَكَانَ أسنّ وَلَده فَفتح الله فتحا لَا كفاء لَهُ وَكتب إِلَى الْوَلِيد إِنَّهَا لَيست بالفتوح وَلكنه الْحَشْر ثمَّ خرج بغنائمه واستخلف على الأندلس ابْنه عبد الْعَزِيز فَلَمَّا قدم إفريقية كتب إِلَيْهِ الْوَلِيد بِالْخرُوجِ إِلَيْهِ فَخرج واستخلف على إفريقية ابْنه عبد الله وَسَار بِتِلْكَ الْغَنَائِم والهدايا حَتَّى قدم مصر وَمرض الْوَلِيد فَكَانَ يكْتب إِلَى مُوسَى يستعجله وَيكْتب إِلَيْهِ سُلَيْمَان بن عبد الْملك بالمكث وَالْمقَام ليَمُوت الْوَلِيد وَيصير مَا مَعَ مُوسَى إِلَيْهِ فَقدم على الْوَلِيد وَهُوَ مَرِيض مَرضه الَّذِي مَاتَ مِنْهُ فنكبه سُلَيْمَان لأوّل ولَايَته وأغرمه مائَة ألف دِينَار وَأخذ مَا كَانَ لَهُ وأقامه للشمس وَقتل ابْنه عبد الْعَزِيز وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى سُلَيْمَان وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَتِسْعين فَأرَاهُ أَبَاهُ وَقَالَ لَهُ أتعرف هَذَا قَالَ نعم أعلمهُ صوّاماً قوّاماً فَعَلَيهِ لعنة الله إِن كَانَ الَّذِي قَتله خيرا مِنْهُ وَمكث أهل الأندلس بعد ذَلِك لَا يجمعهُمْ وَال وَكَانُوا أمّروا عِنْد قَتله أَيُّوب ابْن أُخْت مُوسَى بن نصير وعزم سُلَيْمَان على الْحَج فَأخْرج مُوسَى مَعَه على قتب فَتوفي فِي طَرِيقه سنة سبع وَتِسْعين

179 - وَمُحَمّد بن يزِيد مولى قُرَيْش ولاه سُلَيْمَان بن عبد الْملك إفريقية بمشورة رَجَاء بن حَيْوَة سنة سِتّ وَتِسْعين فَلم يزل عَلَيْهَا إِلَى أَن توفّي سُلَيْمَان فِي صفر سنة تسع وَتِسْعين 180 - وَإِسْمَاعِيل بن عبيد الله بن أبي المُهَاجر مولى بني مَخْزُوم ولاه عمر بن عبد الْعَزِيز إفريقية وَكَانَ حسن السِّيرَة من خير الْوُلَاة لم يبْق من البربر أحد إِلَّا أسلم على يَدَيْهِ وَأقَام والياً إِلَى أَن توفّي عمر بدير سمْعَان يَوْم الْجُمُعَة لعشر بَقينَ من رَجَب سنة إِحْدَى وَمِائَة وَهَؤُلَاء كلهم أهل بلاغة وَبَيَان مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ من جلالة شان (خطباء حِين يَقُول قَائِلهمْ ... بيض الْوُجُوه مصاقع لسن) ولبسر بن أَرْطَاة مِنْهُم فِيمَا أَحسب شعر وَمَا أحسن قَول القَاضِي أَحْمد بن أبي دؤاد كل عَرَبِيّ يقدر على قَول الشّعْر حكى ذَلِك أَبُو بكر الصّوليّ فَلَعَلَّ لَهُم مِنْهُ مَا أعيا الْبَحْث عَنهُ

المائة الثانية

الْمِائَة الثَّانِيَة 181 - يزِيد بن أبي مُسلم مولى الْحجَّاج وكاتبه وَقيل كَانَ أَخَاهُ من الرضَاعَة ولاه يزِيد بن عبد الْملك فِي سنة إِحْدَى وَمِائَة إفريقيّة فَقَدمهَا فِي سنة اثْنَتَيْنِ بعْدهَا وفيهَا كَانَ مَقْتَله على يَد حرسه 182 - عبيد الله بن الحبحاب مولى عقبَة بن الحجّاج السّلوليّ القيسيّ كَانَ والياً على مصر لهشام بن عبد الْملك فَكتب إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بالمصير إِلَى إفريقية وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الأول وَقيل فِي شهر ربيع الآخر سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة فاستخلف ابْنه الْقَاسِم على مصر وَاسْتعْمل ابْنه إِسْمَاعِيل على السّوس وَاسْتعْمل أَيْضا على الأندلس عقبَة بن الْحجَّاج مَوْلَاهُ وعزل عبد الْملك بن قطن الفِهري

وَيُقَال كَانَ على الأندلس يَوْمئِذٍ عَنْبَسَة بن سحيم الْكَلْبِيّ فَهَلَك عقبَة بالأندلس فَرد عبيد الله عَلَيْهَا عبد الْملك بن قطن وَذكر عبد الله بن وهب الْفَقِيه أَن عبيد الله بن الحبحاب كَانَت مصر من الْعَريش فِي عمله وإفريقية والأندلس وَمَا بَين ذَلِك وقرأت فِي الْكتاب المعرب عَن أَخْبَار الْمغرب أَن عبيد الله كَانَ كَاتبا بليغاً حَافِظًا لأيام الْعَرَب ووقائعها وأخبارها ذَا بلاغة فِي لِسَانه وقلمه وَكَانَ يَقُول الشّعْر قَالَ مؤلّفه وَكنت سَمِعت لَهُ أبياتاً لم أحفظ مِنْهَا وَقت تأليفنا هَذَا الْكتاب شَيْئا فنثبته وَهُوَ الَّذِي بنى الْمَسْجِد الْجَامِع بتونس وَدَار الصِّنَاعَة بهَا وروى عبد الله بن أبي حسان اليحصبيّ عَن أَبِيه وَكَانَ بليغاً فصيحاً قَالَ سَمِعت عبيد الله بن الحبحاب يَوْمًا يملّ رِسَالَة ويفكّ اسْما من دفتر الْعَطاء وَيَأْمُر بحاجات فِي نَاحيَة أُخْرَى وَيحكم فِي خلل ذَلِك بَين رجلَيْنِ متنازعين وَقَالَ ابْن غَانِم القَاضِي كَانَ عبيد الله بن الحبحاب رجلا من قيس

ثمَّ من بني سلول مولى وَلَيْسَ بِالصَّرِيحِ فولى من إفريقية إِلَى الخضراء وَكَانَ أوّله كَاتبا ثمَّ تناهت بِهِ الْحَال إِلَى أَن صَار إِلَى الْمنزلَة الَّتِي كَانَ بهَا فَتحدث ذَات يَوْم بالقيروان فَقَالَ إِنَّمَا كنت كويتباً ثمَّ صرت كَاتبا ثمَّ صرت أَمِيرا ثمَّ أَنا الْيَوْم أَمِير كَبِير وَالْحَمْد لله وقفل عبيد الله إِلَى هِشَام فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَعشْرين بعد انقضاض البربر عَلَيْهِ وقتلهم عَامله بطنجة عمر بن عبد الله الْمرَادِي وَانْصَرف إِلَى الْمشرق فيذكر أَنه تولى الْخراج وَكتب فِيهِ لمروان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان آخر مُلُوك بني أُميَّة بِدِمَشْق وَقتل عبيد الله يَوْم قتل ابْن هُبَيْرَة بواسط وَقيل بل عَاشَ خاملاً فِي أَيَّام العباسية 183 - مَنْصُور بن عبد الله ابْن يزِيد الْحِمْيَرِي ذكره أَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن أبي سعيد عبد الرَّحْمَن بن عبيد القيرواني الْمَعْرُوف بالوكيل فِي الْكتاب الْمَعْرُوف بالمعرب عَن أَخْبَار الْمغرب من تأليفه فِي طبقَة أولى السُّلْطَان تالياً لِعبيد الله بن الحبحاب وَهُوَ جد مُحَمَّد الْمهْدي بن أبي

جَعْفَر الْمَنْصُور وشقيقه جَعْفَر لِأُمِّهِمَا وَهِي أم مُوسَى بنت مَنْصُور هَذَا وَكَانَ شريفاً فِي قومه مَعْرُوف الْمَكَان فيهم مَذْكُورا بالبلاغة وَالشعر وكرم الْأَخْلَاق وانْتهى وَلَده من الشّرف بعده إِلَى غَايَة لم يَكُونُوا يؤملونها لقرابتهم من الْمهْدي وَتزَوج أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور أمّ مُوسَى هَذِه وَهُوَ إِذْ ذَاك سوقة فِي آخر ولَايَة هِشَام بن عبد الْملك لما نزلت الحميمة من أَرض البلقاء بعد وَفَاة زَوجهَا ثمَّ بَين عبيد الله من ولد الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَقيل بل تزَوجهَا بإفريقية وَهُوَ رَحل بهَا وَكَانَ يطوف الْبلدَانِ فِي زمن بني أُميَّة وَأهل إفريقية يذكرُونَ أَنه طلب مرّة فاستخفى فِي قصر صهره مَنْصُور الْحِمْيَرِي عِنْد قصر بشير بطرِيق سوسة وَكَانَ الْمَنْصُور شرطا لَهَا أَن لَا يتَزَوَّج عَلَيْهَا

وَلَا يتسرّى وكتبت عَلَيْهِ بذلك كتابا فعذب بهَا عشر سِنِين فِي سُلْطَانه ثمَّ أَتَتْهُ وفاتها فأهديت إِلَيْهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة مائَة بكر وَكَانَت دَار مَنْصُور بالموضع الَّذِي بِهِ دور بني قافذ بالقيروان وَحَفْص صَاحب الْخراج مولى بني مَنْصُور وَإِلَيْهِ ينْسب قصر خفص وَلحق يزِيد بن مَنْصُور بأخته أمّ مُوسَى فَلَمَّا ولى المهديّ ولاه خُرَاسَان وجلّت حَاله حَتَّى صَار الشُّعَرَاء يمدحون من كَانَ من ولد الْمهْدي بولاء مَنْصُور لَهُم وَمن ذَلِك قَول أبي نواس فِي الْعَبَّاس بن جَعْفَر بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور (فجدّاك هَذَا خير قحطان وَاحِدًا ... وَهَذَا إِذا مَا عدّ خير نزار) وَيَعْنِي بالقحطاني منصوراً الْحِمْيَرِي وبالنّزاري أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور وَقَوله فِي الْأمين (وَمَا مثل منصوريك مَنْصُور هَاشم ... وَمَنْصُور قحطان إِذا عدّ مفخر) (فَمن ذَا الَّذِي يَرْمِي بسهميك فِي الورى ... وَعبد منَاف والداك وحمير) وَقَالَ سلم بن عَمْرو الْبَصْرِيّ فِي الْمهْدي (أكْرم بقرم أَمِين الله وَالِده ... وأمّه أمّ مُوسَى بنت مَنْصُور)

وَسلم هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف بالخاسر وَقيل لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ بَاعَ مُصحفا وَاشْترى بِثمنِهِ شعر امْرِئ الْقَيْس وَقيل شعر الأعشي وَقيل بل ورث من أَبِيه مُصحفا فَبَاعَهُ وَاشْترى بِثمنِهِ طنبوراً فَسمى الخاسر وَأَبُو مُحَمَّد يحيى بن الْمُبَارك النَّحْوِيّ صَاحب أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أحد الْقُرَّاء إِنَّمَا قيل لَهُ اليزيدي لِأَنَّهُ كَانَ يُؤَدب ولد يزِيد بن مَنْصُور فنسب إِلَيْهِ وَكَانَ بعد ذَلِك يُؤَدب الْمَأْمُون 184 - عبد الرَّحْمَن بن حبيب بن أبي عُبَيْدَة ابْن عقبَة بن نَافِع الفِهري انحاز إِلَى الأندلس مَعَ بلج بن بشر بن عِيَاض الْقشيرِي وَمن كَانَ مَعَه من وُجُوه أهل الشَّام فِي الْمحرم سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة بعد قتل البربر كُلْثُوم ابْن عِيَاض أَمِير إفريقية عمّ بلج وحبِيب بن أبي عُبَيْدَة وَالِد عبد الرَّحْمَن وَهَؤُلَاء الْجند هم المعروفون بالطالعة البلجية بالأندلس فَلم يزل عبد الرَّحْمَن بهَا يحاول التغلب عَلَيْهَا إِلَى أَن دخل أَبُو الخطّار الحسام بن ضرار الْكَلْبِيّ والياً من قبل حَنْظَلَة بن صَفْوَان الْكَلْبِيّ أَمِير إفريقية فِي رَجَب سنة خمس وَعشْرين فخافه عبد الرَّحْمَن وَخرج مستتراً فَركب الْبَحْر إِلَى تونس وَأقَام بهَا إِلَى أَن قتل الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك يَوْم الْخَمِيس لثلاث بَقينَ من جُمَادَى الْأَخِيرَة سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة فَدَعَا النَّاس فَأَجَابُوهُ وَجمع لقِتَال حَنْظَلَة بن صَفْوَان وإخراجه من إفريقية فتم لَهُ ذَلِك وَانْفَرَدَ بإمارتها فِي قصَّة طَوِيلَة عشرَة أَعْوَام

وأشهارا وَكَانَ مَعَ بأسه وبسالته خَطِيبًا مفوهاً وَهُوَ أحد سَادَات الْعَرَب ورؤسائها بالمغرب

185 - مُحَمَّد بن عَمْرو الْقرشِي الْعَبدَرِي ابْن حميد الغافقي ثار بالأربس فِي إِمَارَة عبد الرَّحْمَن بن حبيب بإفريقية وَلم يكن بِدُونِ

أَخِيه سُلَيْمَان الْمُتَقَدّم الذّكر شجاعة وبلاغة وبياناً وثار مَعَ مُحَمَّد هَذَا رجل من البربر يُقَال لَهُ ثَابت فَخرج عبد الرَّحْمَن بن حبيب لحربهما فانهزما بَين يَدَيْهِ وَسَار مُحَمَّد إِلَى طنجة ثمَّ ظفر بِهِ فسجنه وأخاه سُلَيْمَان وعزم على قَتلهمَا فعوجل عبد الرَّحْمَن قبل ذَلِك وَقَتله أَخُوهُ إلْيَاس بن حبيب فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَأطلقهُمَا من معتقلهما ثمَّ قتل إلْيَاس فِي رَجَب سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ 186 - عَامر بن عَمْرو الْقرشِي العبدريّ هُوَ عَامر بن عَمْرو بن وهب بن مُصعب بن أبي عَزِيز بن عُمَيْر بن عبد منَاف بن عبد الدَّار بن قصيّ ابْن أخي مُصعب بن عُمَيْر صَاحب لِوَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم بدر وَأحد وَهُوَ الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ بقرطبة مَقْبرَة عَامر لصق سور الْمَدِينَة الغربي وبابها الْمُعَطل إِلَى أَن ملكهَا الرّوم فِي هَذِه الْمدَّة الْقَرِيبَة وَكَانَ أحد رجالات قُرَيْش بل مُضر بالأندلس شرفاً ونجدة وأدباً وَكَانَ يَلِي الْمَغَازِي والصوائف قبل يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن الفهريّ وَمَعَهُ فحسده

وَعمل فِي إِزَالَته فَلَمَّا بدا ذَلِك لعامر راسل أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور يخْطب إِلَيْهِ ولَايَة الأندلس ويسأله أَن يُرْسل إِلَيْهِ بسجلّ مِنْهُ يقوم بِهِ وَأظْهر التعصب لليمانية والإكبار لما سفك من دِمَائِهِمْ بشقندة فِي أول ولَايَة يُوسُف ثمَّ فرّ عَن قرطبة وَصَارَ بِنَاحِيَة سرقسطة حَيْثُ الصّميل بن حَاتِم يَبْغِي الْفساد عَلَيْهِ وهنالك رجل من بني زهرَة يُسمى الْحباب فكاتبه عَامر ومتّ إِلَيْهِ بالمضرية وَدعَاهُ إِلَى الْقيام على الصّميل فِي الْيمن بسجلّ أبي جَعْفَر فَاسْتَجَاب لَهُ وَاجْتمعَ لَهما جمع من الْيمن وَرِجَال من البربر وَغَيرهم كثير فَأَقْبَلُوا حَتَّى حصروا الصّميل بسرقسطة فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة ثمَّ ملكهَا عَامر وَصَاحبه الزهريّ فِي قصَص طَوِيلَة وغزاهما يُوسُف الفِهري فِي عقب ذِي الْقعدَة سنة سبع وَثَلَاثِينَ فخاف أهل سرقسطة معرّة الْجَيْش وعضّ الْحصار فأسلموا عَامِرًا وَابْنه وهباً والزهريّ فقيّدهم يُوسُف ثمَّ قَتلهمْ فِي طَرِيقه بوادي الرّمل على خمسين ميلًا من طليطلة وَذَلِكَ فِي صدر سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ فَمَا انْقَضى ذَلِك من فعله وَلَا دخل رواقه حَتَّى أَتَاهُ رَسُول يرْكض من وَلَده عبد الرَّحْمَن بن يُوسُف من قرطبة يطوي البيد فَأعلمهُ أَن فَتى من قُرَيْش من ولد هِشَام بن عبد الْملك يُقَال لَهُ عبد الرَّحْمَن بن

مُعَاوِيَة قد عبر الْبَحْر إِلَى الأندلس فَنزل بساحل دمشق يَعْنِي بِنَاحِيَة إلبيرة وَاجْتمعَ إِلَيْهِ موَالِي بني أُميَّة وشيعهم وتشوّف النَّاس إِلَيْهِ فانتشر الْخَبَر فِي الْعَسْكَر لوقته وشمت النَّاس بِيُوسُف فسارعوا إِلَى الرّفض من عسكره وقوّضوا إِلَى كورهم وَأَقْبل إِلَى طليطلة فِي غلمانه وَقيس قوم الصّميل وَيُقَال إِن كَاتبه خَالِد بن زيد قَالَ لَهُ بِمحضر الصّميل وزيره وَقد فرغ من مؤاكلتهما ذَات يَوْم وَهُوَ بِبَعْض مَنَازِله فِي طَرِيقه هَنِيئًا لَك أَيهَا الْأَمِير اكتمال سعدك قد قتل الله لَك كاشحك ابْن شهَاب وَفُلَانًا وَفُلَانًا يعد الْأَشْرَاف من الْعَرَب المقتولين فِي غزوهم الرّوم ووفقك لقتل أنغلهم ضميراً هَذَا العبدريّ يَعْنِي عَامِرًا وَابْنه فَمن ذَا يعارضك بعدهمْ هِيَ وَالله لَك ولولدك إِلَى الدّجّال ثمَّ خرج الصّميل إِلَى قُبَّته واستلقى يُوسُف على فرَاشه وَذَلِكَ وَقت الْعَصْر فَمَا راعهم إِلَّا بريد يرْكض تشوّف إِلَيْهِ أهل الْعَسْكَر وَقَالُوا رَسُول من قرطبة وتطلعوا إِلَى علم خَبره فَإِذا كتاب أمّ ولد يُوسُف مَعَ غُلَام خَاص لَهَا على بغلتها الْمَشْهُورَة بهَا تذكر أَن فَتى من أَبنَاء هِشَام بن عبد الْملك يُقَال لَهُ عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة عبر الْبَحْر وَنزل بِسَاحَة إلبيرة على أبي عُثْمَان مَوْلَاهُم بقرية طرّش فشاء الله أَن يكون وَارِث سُلْطَانه وَنَازع ملكه

187 - يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن الفِهري أَبُو مُحَمَّد قَالَ ابْن حيّان زعم أَبُو بكر بن القوطيّة أَنه يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن بن حبيب بن أبي عُبَيْدَة بن عقبَة بن نَافِع الفِهري قَالَ وَمَا وجدت هِدَايَة إِلَى أَن يُوسُف هَذَا الْوَالِي بالأندلس ولد لَهُ يَعْنِي عبد الرَّحْمَن الْمُتَقَدّم الذّكر فِي هَذَا الْبَاب وَلَا وجدت منتماه فِي جذم قومه فَالله أعلم بِشَأْنِهِ هَكَذَا فِي المقتبس وَقد قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي كتاب جمهرة الْأَنْسَاب من تأليفه وَكَثِيرًا مَا يقلده عقبَة بن نَافِع الفِهري ولد أَبَا عُبَيْدَة فولد أَبُو عُبَيْدَة حبيباً قَاتل عبد الْعَزِيز بن مُوسَى بن نصير وَعبد الرَّحْمَن ونافعاً فولد حبيب عبد الرَّحْمَن ولى إفريقية وإلياس وَعبد الْوَارِث وَلَهُم بإفريقية عقب كثير وَولد عبد الرَّحْمَن بن أبي عُبَيْدَة يُوسُف ولى الأندلس وَله بهَا عقب وبالأندلس من فهر عدد عَظِيم وَعَن الواقديّ أَن أهل الأندلس اجْتَمعُوا على يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن من أجل أَنه قرشي رَضِي بِهِ الحيّان يَعْنِي المضرية واليمانية بعد ثوابة بن

سَلمَة فَرفعُوا الْحَرْب ومالوا إِلَى الدعة فدانت لَهُ الأندلس تسع سِنِين وَتِسْعَة شهور وَكَانَ آخر الْأُمَرَاء بالأندلس وَعنهُ انْتقل سلطانها إِلَى الْخُلَفَاء من بني مَرْوَان أورد ذَلِك ابْن حيّان وَحكى أَن اجْتِمَاع النَّاس على الْبيعَة ليوسف كَانَ فِي شهر ربيع الآخر سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة وَفِي مثل هَذَا الشَّهْر من سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ حل بمرفأ حصن المنكّب عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة فَالتقى هُوَ ويوسف يَوْم الْأَضْحَى فَانْهَزَمَ يُوسُف وَقتل كثير من أَصْحَابه وَغلب عبد الرَّحْمَن يَوْمئِذٍ على الْملك وَيُقَال إِنَّه تفاءك يَوْم عَرَفَة بِمَا يتَّفق لَهُ فِي غده من صِحَة المشاكلة وَقَالَ يَوْم عيد وَيَوْم جُمُعَة وأموي مَعَ فهري أَبْشِرُوا فَإِنِّي أَرْجُو أَنَّهَا أُخْت وقْعَة مرج راهط فصدّق الله ظن عبد الرَّحْمَن بيومه ذَلِك وَقيل إِن الْعَلَاء بن جَابر الْعقيلِيّ مَشى إِلَى الصّميل بن حَاتِم وَقد التقى الْجَمْعَانِ فَقَالَ لَهُ أَبَا جوشن اتَّقِ الله فوَاللَّه مَا أشبّه هَذَا الْيَوْم إِلَّا بِيَوْم المرج وإنّ عَار ذَلِك لباق علينا إِلَى الْيَوْم وَإِن الْأُمُور ليهتدي إِلَيْهَا بالأشباه والأمثال أموي وفهريّ وَقيس واليمن ووزير الفهريّ فِي ذَلِك الْيَوْم قيسيّ

وَهُوَ زفر بن الْحَرْث ووزير هَذَا الْيَوْم أَنْت وَأَنت قيسي وَيَوْم عيد فِي يَوْم جُمُعَة أَيْضا وَيَوْم المرج يَوْم عيد فِي يَوْم جُمُعَة الْأَمر وَالله علينا مَا أَشك فِيهِ فَأبى عَلَيْهِ وَمن شعر زفر بن الْحَرْث فِي يَوْم مرج راهط وَقتل فِيهِ ابناه

(لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... بِمَرْوَان صدعاً بَيْننَا متنائيا) (فَلم ترمني زلَّة قبل هَذِه ... فراري وتركي صاحبيّ ورائيا) (أيذهب يَوْم صَالح أَن أُسَامَة ... بِصَالح أيامي وَحسن بلائيا) (أتترك كلب لم تنلها رماحنا ... وَتذهب قَتْلَى راهط هِيَ ماهيا) (فَلَا صلح حَتَّى تدعس الْخَيل بالقنا ... وتثأر من نسوان كلب نسائيا) واضطرب يُوسُف الفِهري بعد هَذِه الْوَقْعَة عَلَيْهِ بالمصارة فجال فِي الْبِلَاد ثمَّ نكث بِعَبْد الرَّحْمَن بعد قبُوله أَمَانه وَخرج عَلَيْهِ منازعاً فظفر بِهِ وَقَتله واستوسق لعبد الرَّحْمَن ملك الأندلس فَلم يبْق لَهُ مُخَالف من أَهلهَا فطال أمده وتوارث سُلْطَانه عقبه وَعَن الرَّازِيّ أَن يُوسُف تمثل عِنْد دُخُوله عَسْكَر عبد الرَّحْمَن بِبَيْت حرقة بنت النُّعْمَان (بَينا نسوس النَّاس وَالْأَمر أمرنَا ... إِذا نَحن فيهم سوقة نتنصّف) وَكَانَ معدوداً فِي فصحاء الْأُمَرَاء وَابْنه أَبُو الْأسود كَذَلِك وَكَانَ مقتل يُوسُف فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألْحق بِهِ ابْنه عبد الرَّحْمَن بن يُوسُف وَكَانَ مَحْبُوسًا بقرطبة

188 - ابْنه مُحَمَّد بن يُوسُف أَبُو الْأسود هرب عِنْد مقتل أَبِيه يُوسُف هُوَ وَأَخُوهُ خضر إِلَى أَن جىء بهما فحبسا مُدَّة وَادّعى أَبُو الْأسود هَذَا الْعمي حِيلَة وَهُوَ مبصر فَزعم أَن المَاء نزل بِعَيْنيهِ وَأحسن التعّمل لذَلِك حَتَّى جَازَت حيلته واشتبهت حركاته بحركات العميان وَوَقع الإشفاق عَلَيْهِ والرثاية لَهُ وهوّن من حَبسه حَتَّى كَانَ يقْعد عَنهُ الموكّل بِهِ اختباراً لهدايته إِذا خرج لوضوئه وَقَضَاء حَاجته فَيبقى حائراً يُنَادي من يَقُود الْأَعْمَى إِلَى محبسه فَيرد وَكَانَ أهل الْحَبْس يَوْمئِذٍ ينزلون إِلَى النَّهر الْأَعْظَم قربهم للطهور وَالْوُضُوء على سرداب اتّخذ لَهُم تَحت الأَرْض إِذْ كَانَ مَكَانَهُ يَوْمئِذٍ لصق الْقصر على الهبط والرقباء عَلَيْهِم وَقد أهمل ارتقاب أبي الْأسود هَذَا عِنْدَمَا وجد السَّبِيل للأمان مِنْهُ من أجل عماه فتحيل هُنَالك فِي التَّدْبِير مَعَ موَالٍ لَهُ كَانُوا بقرطبة مَعَه وانتهز فرْصَة أجَاز فِيهَا الْوَادي سبحاً إِلَى خيل لَهُ قد أعدت بشاطئه مَعَ ثِقَات أَصْحَابه فَركب وفر ركضاً فنجا وَلحق بطليطلة ودعا إِلَى نَفسه واستمال النَّاس بموضعه وَسَار فِي عَسْكَر جحفل حَتَّى حل بأحواز جيّان فَخرج إِلَيْهِ عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة فِي جيوشه فلاقاه مرّة بعد مرّة يهزمه فِي كل مِنْهَا وَيقتل لَهُ الْجمع الْكَبِير وَكَانَت بَينهمَا بقسطلونة على مخاضة الْفَتْح حَرْب شَدِيدَة مكر عبد الرَّحْمَن فِيهَا

بِأبي الْأسود فراسل صَاحب ميمنته وواطأه على جر الْهَزِيمَة من جِهَته فَفعل وَانْهَزَمَ أَبُو الْأسود وَقتل عَامَّة رِجَاله فَلم تقم لَهُ بعد قَائِمَة وَذكر أَنه تمثل يَوْم قسطلونة (وموقف مثل حد السَّيْف قُمْت بِهِ ... أحمى الذمار وترميني بِهِ الحدق) وَعَن الرَّازِيّ أَن هَذِه الوقيعة بمخاضة الْفَتْح كَانَت يَوْم الْأَرْبَعَاء غرَّة شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَة بعد مواقفة قبل ذَلِك أَيَّامًا كَثِيرَة قَالَ وَقتل لأبي الْأسود فِيهَا أَرْبَعَة آلَاف من أَصْحَابه سوى من تردى فِي النَّهر وَوَقع فِي المهاوي وَتلف فِي الشعاب وَبلغ فِي هزيمته إِلَى قسطلونة على وَادي الْأَحْمَر وَمضى على وَجهه إِلَى نَاحيَة الغرب فَبلغ مَدِينَة قورية وَتَمَادَى فِي شروده وخلافه إِلَى أَن هلك فِي سنة سبعين وَمِائَة

وَقيل إِن عبد الرَّحْمَن غزاه فِي سنة سبعين فَلَمَّا أحس بِهِ فرّ عَن قورية وَانْقطع وَحده وانحاز إِلَى غِيَاض أشبة ثمَّ صَار إِلَى ركَانَة من طليطلة فَمَاتَ هُنَالك وَقَامَ بعده أَخُوهُ قَاسم بن يُوسُف فغزاه عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة فَلَمَّا دنا مِنْهُ خرج إِلَيْهِ بِلَا أَمَان فتقبّله وأمّنه وَنَقله إِلَى قرطبة وَأحسن إِلَيْهِ وَكَانَ آخر الْمُخَالفين عَلَيْهِ

189 - الْحصين بن الدّجن بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عَمْرو ابْن يحيى بن عَامر من ملك بن خويلد بن سمْعَان ابْن خفاجة بن عَمْرو بن عبيد الْعقيلِيّ كَانَ مِمَّن اسْتَجَابَ لداعية عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة الدَّاخِل إِلَى الأندلس وَمَال إِلَى أنصاره من القحطانية واليمانية للَّذي كَانَ بَينه وَبَين الصّميل بن حَاتِم الْكلابِي من المنافسة الْمَعْلُومَة على الرِّئَاسَة وَهُوَ مِمَّن أَشَارَ على يُوسُف بن

عبد الرَّحْمَن الفِهري باستبقاء عَامر الْعَبدَرِي وَابْنه وهب والحباب الزّهري بعد قَبضه عَلَيْهِم فَكف عَن قَتلهمْ حِينَئِذٍ وَشد صفادهم وأغزى طَائِفَة من عسكره إِلَى البشكنس فِي ضعف وَقلة لم يكره عطبهم وَبعث على خيلهم الْحصين هَذَا فَهَزَمَهُمْ الرّوم وَقتلُوا أَمِيرهمْ سُلَيْمَان ابْن شهَاب وَنَجَا الْحصين وَحضر يَوْم المصارة مَعَ عبد الرَّحْمَن فَكَانَ فِيمَا روى على خيله لصِحَّة علمه بالعداوة الَّتِي كَانَت بَينه وَبَين الصّميل ابْن عَمه وَكَانَ الْحصين فَارس أهل الشَّام بَأْسا ونجدة وَكَانَ شَاعِرًا فَلَمَّا استوسق الْأَمر لعبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة عرف لَهُ صَالح بلائه فاختصه وولاه الشرطة وقرأت اسْمه فِي شُهُود الْأمان الَّذِي عقده عبد الرَّحْمَن ليوسف الفِهري عِنْد اصطلاحهما بإلبيرة وَذَلِكَ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الآخر سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة 190 - الْمخَارِق بن غفار الطَّائِي لما وَجه أَبُو الْعَبَّاس السفاح عَمه عبد الله بن عَليّ إِلَى محاربة مَرْوَان بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالجعدي سنة ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة ودنا مِنْهُ بالزاب عبره الْمخَارِق

ابْن غفار الطَّائِي هَذَا وَكَانَ من جند عبد الله وَثَبت فِي أَصْحَابه فَأسر وَلم يعرف أَنه الْمخَارِق فَكَانَ مَحْبُوسًا فِي عَسْكَر مَرْوَان إِلَى أَن انهزم وَاسْتولى عبد الله على عسكره وتخلص الْمخَارِق وَكَانَ مِمَّن سعى قبل ذَلِك مَعَ أبي مُسلم وَلما وَجه أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور مُحَمَّد بن الْأَشْعَث الْخُزَاعِيّ وَهُوَ عَامله على مصر إِلَى إفريقية وجهز الجيوش إِلَيْهِ عهد إِلَيْهِم إِن حدث بِابْن الْأَشْعَث حدث فالأمير الْأَغْلَب بن سَالم فَإِن حدث بِهِ حدث فالأمير الْمخَارِق بن غفار فَإِن حدث بِهِ حدث فالأمير الْمُحَارب بن هِلَال الدَّارمِيّ فَهَلَك الْمُحَارب فِي الطَّرِيق قبل أَن يصلوا إِلَى إفريقية وَولى الْمخَارِق من قبل ابْن الْأَشْعَث طرابلس فِي مقدمه عَلَيْهَا من مصر ثمَّ استدعاه فولاه ظبنة وَعند قيام الْحسن بن حَرْب الْكِنْدِيّ على الْأَغْلَب فِي ولَايَته وإقباله إِلَى القيروان فِي عدَّة عَظِيمَة جمع الْأَغْلَب أهل بَيته وخاصة أَصْحَابه وَتكلم بِكَلَام أعلمهم فِيهِ أَنه يلاقي الْحسن

وَحده إِن لم يعنه أحد وَلَو كَانَ فِي ذَلِك إِتْلَاف نَفسه ثمَّ أنشأ أبياتاً قَالَهَا (سيّان موت بالقنا وبالسّقم ... وَالْقَتْل فِي الهيجاء أدنى للكرم) (موتِي غَدا تَحت لِوَائِي وَالْعلم ... ) ثمَّ دَعَا الْمخَارِق بن غفار فَقَالَ لَهُ إِن فِي أهل بَيْتِي من هُوَ أولى بِمَا دعوتك لَهُ مِنْك وأقعد باستخلافي إِيَّاه غير أَنِّي كرهت أَن يَقُول قَائِل انْفَرد بهَا فِي أهل بَيته وَأَن تميل بكم العصبية ثمَّ وصاه بِالطَّاعَةِ وحذره عَاقِبَة الْخلاف فَأَجَابَهُ الْمخَارِق بِكَلَام فِيهِ بلاغة وَبَيَان معترفا لَهُ بِحقِّهِ وَقَامَ بِالْأَمر بعده وَهُوَ الَّذِي صلب الْحسن بن حَرْب بالقيروان وَقد تقدم ذكر ذَلِك ثمَّ قدم يزِيد ببن حَاتِم والياً على إفريقية من قبل أبي جَعْفَر الْمَنْصُور فَكَانَت لَهُ فِي أَيَّامهَا أَخْبَار وَحكى الْكتاب المعرب عَن الْمغرب أَن الْمخَارِق ركب يَوْمًا فِي بعض الحروب الإفريقية على فرس أُنْثَى وَبِيَدِهِ الْقَنَاة فبرز بَين الصفين وَهُوَ يَقُول متمثلاً (رائعة تحمل شَيخا رائعاً ... مجرباً قد شهد الوقائعا) قَالَ وَكَانَ شرِيف الْقدر عَظِيم الْحَال لَا يقايس إِلَّا بِابْن الْأَشْعَث والأغلب بن سَالم وأمثالهما وَأَخُوهُ السّندي بن غفار وَابْنه المهنّا بن الْمخَارِق لاحقان بِهِ

191 - روح بن حَاتِم بن قبيصَة بن الْمُهلب ابْن أبي صفرَة الْأَزْدِيّ العكي أَبُو خلف حجب أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور أول أَيَّامه وَقبل التَّعَلُّق بِهِ نظر إِلَيْهِ رجل وَاقِف فِي الشَّمْس عِنْد بَاب الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ لقد طَال وقوفك فِي الشَّمْس فَقَالَ ليطول قعودي فِي الظل وَولى الْكُوفَة وَالْبَصْرَة للمهدي وَولى أَيْضا السّند وطبرستان وفلسطين ثمَّ ولى إفريقية وَالْمغْرب لهارون الرشيد وَذَلِكَ لما بلغه موت أَخِيه يزِيد بن حَاتِم فَعَزاهُ الرشيد وَقَالَ أعرف أَن لَهُ صنائع بالمغرب وَلَا آمن عَلَيْهِم مَتى ولّيت غَيْرك وَلَكِن اخْرُج من فورك إِلَى إفريقية وحطّ صنائعه فَخرج من فوره وشيّعه الرشيد وودعه وَانْصَرف ثمَّ لحقه وَصَاح بِهِ يَا وَيْح لَا ترجع وَلَا تنزل أَنْت مُسَافر وَأَنا مُقيم ثمَّ سايره وَقَالَ عَلَيْك بالزاب املأه خيلاً ورجلاً وَكَانَ لروح رأى وحزم وشجاعة وجود وصرامة وَهُوَ أسنّ من أَخِيه يزِيد وأنبه مِنْهُ ذكرا بالمشرق وَمن عَجِيب الْأَخْبَار وطريف الْآثَار أَن الْمَنْصُور وجّه يزِيد بن حَاتِم إِلَى إفريقية وروحاً أَخَاهُ إِلَى السّند فَقيل لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لقد باعدت بَين قبريهما فَقضى أَن مَاتَا جَمِيعًا بالقيروان ودفنا بِبَاب سلم وَعَلَيْهِمَا سَارِيَة مَكْتُوب فِيهَا اسماهما

ولروح يَقُول أَبُو دلامة وَقد قَالَ لَهُ لَو خرجت مَعنا فِي خُرُوجه لقِتَال الْخَوَارِج (إِنِّي أعوذ بِروح أَن يقدّمني ... إِلَى الْقِتَال فتخزي بِي بَنو أَسد) (إِن الدّنوّ إِلَى الْأَعْدَاء نعلمهُ ... مِمَّا يفرق بَين الرّوح والجسد) (إِن المهلّب حبّ الْمَوْت أورثكم ... وَلم أرث جلدا للْمَوْت من أحد) وَأما أنباؤه فِي الْجُود فكثيرة مِنْهَا أَنه كَانَ يَوْمًا جَالِسا فِي منظرة مَعَ جَارِيَته طلّة وَكَانَت بارعة الْجمال إِذْ طلع خَادِم لَهُ بقادوس مَمْلُوء وردا فِي غير أَوَانه فَاسْتَحْسَنَهُ وَأمر بِأَن يمْلَأ دَرَاهِم لمهديه فَقَالَت الْجَارِيَة مَا أنصفته قَالَ وَكَيف وَقد ملأته بَدَلا من ورده دَرَاهِم قَالَت فَإِن ورده أَحْمَر وأبيض فاخلط لَهُ الصِّلَة فَأمر بِدَنَانِير فمزجت مَعَ الدَّرَاهِم وَمِنْهَا ويستدل بِهِ على بلاغته ورسائله اللاحقة بنمط الكتّاب أَنه وجّه فِي ولَايَته إفريقية إِلَى كَاتبه بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَكتب مَعهَا قد بعثت إِلَيْك بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم لَا أقلّلها تكثّراً وَلَا أكثّرها تمنّناً وَلَا أستثيبك عَلَيْهَا ثَنَاء وَلَا أقطع لَك بهَا رَجَاء وَالسَّلَام وَبِالْجُمْلَةِ فَهَؤُلَاءِ المهالبة أخلد الْعَرَب شرفاً والأمداح فِي مقاصدهم قصد إِذا كَانَت سَرفًا ويحكى أَنه مَاتَ لروح هَذَا ولد فَأقبل الحيّ يعزونه فألفوه رخيّ البال ضَاحِك السن فتوقفوا عَن تعزيته وَعرف ذَلِك فَأَنْشَأَ يَقُول (وَإِنَّا لقوم مَا تفيض دموعنا ... على هَالك منا وَإِن قَصم الظهرا)

وَهَذَا الْبَيْت فِي شعر لأبي الهيدام عَامر بن عمَارَة بن خريم المرّي يرثي بِهِ أَخَاهُ وَكَانَ قد قَتله عَامل سجستان للرشيد فَجمع أَبُو الهيدام جمعا عَظِيما لطلب ثأر أَخِيه وَقَالَ فِي ذَلِك (سأبكيك بالبيض الرّقاق وبالقنا ... فإنّ بهَا مَا أدْرك الطَّالِب الوترا) (وَلست كمن يبكي أَخَاهُ بعبرة ... يعصّرها من جفن مقلته عصرا) (ولكنني أشفي فُؤَادِي بغارة ... ألهّب فِي قطري جوانبها الجمرا) (وَإِنَّا أنَاس مَا تفيض دموعنا ... على هَالك منا وَإِن قَصم الظهرا) 192 - ابْن أَخِيه دَاوُود بن يزِيد بن حَاتِم اسْتَخْلَفَهُ أَبوهُ يزِيد على إفريقية فِي مَرضه الَّذِي توفّي مِنْهُ فِي شهر رَمَضَان سنة سبعين وَمِائَة فَجعل على شرطته خَالِد بن بشير وَبعث أَخَاهُ المهلّب بن يزِيد والياً على الزاب وَقد كَانَ قبل ذَلِك عَلَيْهَا من قبل أَبِيه حِين عزل الْمخَارِق ابْن غفار الطَّائِي عَنْهَا وَأقَام دَاوُود والياً تِسْعَة أشهر وَنصف شهر إِلَى أَن قدم عمّه روح بن حَاتِم أَمِيرا على الْمغرب من قبل هَارُون الرشيد وقفل دَاوُود فولاه الرشيد مصر سنة أَربع وَسبعين وَمَات بالسند وَهُوَ أَمِير عَلَيْهَا وَكَانَ جواداً ممدوحاً معدوداً فِي أدباء الْأُمَرَاء وَله يَقُول مُسلم بن الْوَلِيد (الله أطفأ نَار الْحَرْب إِذْ سعرت ... شرقاً بموقدها فِي الغرب دَاوُود) (ماضي الْعَزِيمَة لَا تَخْلُو بديهته ... رأى المهلّب أَو رأى الأيازيد)

193 - نصر بن حبيب المهلبي كَانَ على شرطة ابْن عَمه يزِيد بن حَاتِم فِي ولَايَته كلهَا بِمصْر وإفريقية وَكَانَ مَحْمُود السِّيرَة محبباً إِلَى النَّاس ذَا أدب وَمَعْرِفَة فَلَمَّا ولى روح بن حَاتِم بعد أَخِيه يزِيد وَقد أسنّ وَكبر حَتَّى كَانَ إِذا جلس للنَّاس كثيرا مَا يغلبه النّوم من الضعْف كتب أَبُو العنبر الْقَائِد وَصَاحب الْبَرِيد إِلَى هاون الرشيد بِضعْف روح وَكبره وسألا مِنْهُ ولَايَة نصر هَذَا فِي السّر ووصفاه بِحسن السِّيرَة وبأنّ لَهُ سنّاً وَمَعْرِفَة فَكتب الرشيد عَهده وَبعث بِهِ سرا وَتُوفِّي روح على إِثْر هَذَا فَاجْتمع النَّاس ليبايعوا قبيصَة ابْنه وَقد فرش لَهُ فِي الْجَامِع وَكَانَ أَخُوهُ الْفضل بن روح غَائِبا بالزاب وعاملاً عَلَيْهَا فَركب أَبُو العنبر وَصَاحب الْبَرِيد بِعَهْد الرشيد إِلَى نصر بن حبيب فأوصلاه إِلَيْهِ وسلّما عَلَيْهِ بالإمرة وركبا بِهِ إِلَى الْمَسْجِد فِي من مَعَهُمَا حَتَّى أَتَيَا قبيصَة وَهُوَ جَالس على الْفرش فأقاماه وأقعدا نصرا وأعلما النَّاس بإمرته وَقَرَأَ كتاب الرشيد عَلَيْهِم فَسَمِعُوا وأطاعوا وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من شهر رَمَضَان سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة إِلَى أَن صرف بِالْفَضْلِ بن روح بن حَاتِم لعشر بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَة فَكَانَت ولَايَته سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر لم يعدل أحد كَانَ قبله عدله فِيهَا ورسالته الَّتِي كتب إِلَى الْعمَّال بهَا لما ولى مَذْكُورَة فِي الْكتاب المعرب عَن أَخْبَار الْمغرب وَهِي دَالَّة على مَكَانَهُ من البلاغة وَالْبَيَان

194 - عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة الْمَعْرُوف بالبلنسي قَامَ بِالْأَمر لِأَخِيهِ هِشَام بن عبد الرَّحْمَن إِذْ كَانَ غَائِبا عِنْد وَفَاة أَبِيهِمَا بماردة إِلَى أَن ورد قرطبة فبادر لمبايعته وَتَسْلِيم الْقصر إِلَيْهِ وَخرج إِلَى دَاره وَذَلِكَ فِي غرَّة جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة ثمَّ استوحش مِنْهُ فهرب إِلَى أخيهما سُلَيْمَان كَبِير أَوْلَاد عبد الرَّحْمَن الْمَوْلُود لَهُ بِالشَّام وَكَانَ منازعاً لهشام وَأقَام مَعَه بطليطلة وَبعد ذَلِك ورد قرطبة محكّماً فِي نَفسه بِلَا عهد وَلَا أَمَان فَقبله هِشَام وَطلب الْخُرُوج إِلَى العدوة فأسعفه واتّبعه فِي ذَلِك سُلَيْمَان فاستراح مِنْهُمَا هِشَام إِلَى أَن توفّي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَولى ابْنه الحكم بن هِشَام الْمَعْرُوف بالربض فوصل عبد الله من العدوة وَنزل بكورة بلنسيّة وَقدم بعده سُلَيْمَان من طنجة فنازعا الحكم وحارباه فَقتل سُلَيْمَان فِي خبر طَوِيل وَرغب عبد الله فِي الْمقَام ببلنسيّة على أَن يُؤَدِّي الطَّاعَة وَلَا يطَأ لَهُ بساطاً فتم ذَلِك وَأقَام إِلَى أَن توفّي الحكم وَولى عبد الرَّحْمَن ابْنه فأخّر بيعَته والتوى بهَا وَكتب إِلَيْهِ يعتل عَلَيْهِ ويعدد حُقُوقه عِنْده وَعند أَبِيه وجده ويسأله أَن يضم كورة تدمير إِلَيْهِ ويتجافى لَهُ عَن خرجها وَتقدم على تفئة ذَلِك من بلنسية إِلَيْهَا فاحتلها وكشف وَجهه بالمعصية واستنفر إِلَيْهَا من حواليه فَثَابَ إِلَيْهِ مِنْهُم خلق كثير عسكروا مَعَه بِبَاب تدمير وَكَانَ توافيهم إِلَيْهِ فِي يَوْم خَمِيس أَرَادوا الْخُرُوج فِيهِ نَحْو قرطبة فَأَتَاهُم وَقَالَ بل نصلي على بركَة الله

غَدا صَلَاة الْجُمُعَة ونفصل يَوْم السبت بعده فَتَوَلّى الْخطْبَة بِالنَّاسِ يَوْم الْجُمُعَة فأبلغ فِي تذكيرهم وتخريفهم وَكَانَ خَطِيبًا مصقعاً فَلَمَّا شَارف مقطع خطبَته قَالَ معاشر النَّاس رحمكم الله أمّنوا على مَا أَدْعُو الله بِهِ واسألوه مَا أَنا سائله من الْخيرَة فِيمَا أؤمله وَرفع يَده نَحْو السَّمَاء فَقَالَ اللَّهُمَّ إِن كنت أحقّ بِهَذَا الْأَمر الَّذِي قُمْت فِيهِ من عبد الرَّحْمَن بن هِشَام حفيد أخي فانصرني عَلَيْهِ وَافْتَحْ لي فِيهِ وَإِن كَانَ هُوَ أحقّ مني وَأَنا صنو جده فانصره عليّ فأمّن النَّاس جَمِيعًا عالية أَصْوَاتهم فَلم يكد يستوعب كَلَامه حَتَّى ضَربته الرّيح الْبَارِدَة فَسقط إِلَى الأَرْض مفلوجاً وَاحْتمل إِلَى مَكَان مضطربه فأكمل النَّاس صلَاتهم بِغَيْرِهِ وَمكث عبد الله مسكتاً أَيَّامًا ثمَّ إِن الله أطلق لِسَانه وَمنعه سَائِر جوارحه فَقَالَ لأتباعه إِن الله تَعَالَى قد أجَاب الدعْوَة وَفصل الْخطاب وحماني الإمرة وَلَا مرد لحكمه فامضوا لسبيلكم فَتفرق جمعه وَصَرفه أَهله إِلَى وَطنه ببلنسيّة فكاتب عبد الرَّحْمَن بِخَبَر علته ويأسه من نَفسه وعهد إِلَيْهِ بِالنّظرِ لأَهله وَولده فأنفذ عَهده وَلم يعرض لَهُ إِلَى أَن مَاتَ سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ وَقد كَانَ ابْنه عبيد الله بن عبد الله لحق بالحكم بن هِشَام وَكَانَ من ذَوي مشورته وكبار قواده وأغنى يَوْم الهيج أعظم غناء ثمَّ قاد الصوائف لعبد الرَّحْمَن بن الحكم فَكَانَ يعرف بِصَاحِب الصوائف وَهُوَ أحد رجالات بني أُميَّة

195 - فطيس بن سُلَيْمَان بن عبد الْملك بن زيّان أَبُو سُلَيْمَان الْكَاتِب باني بَيت الوزراء بني فطيس دخل الأندلس فِي أَيَّام الْأَمِير عبد الرَّحْمَن ابْن مُعَاوِيَة فضمه إِلَى ابْنه هِشَام وَكتب لَهُ حَتَّى إِذا ولى الْخلَافَة ولاه السُّوق وكورة قبرة والوزارة وأمضاه الحكم بن هِشَام على ذَلِك بعد وَفَاة أَبِيه هِشَام واستكتبه أَيْضا وَكَانَ لَهُ فِي الهيج مقَام مَحْمُود قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ رَأَيْت اسْم فطيس فِي ديوَان الْأَمِير الحكم أول اسْم أَبُو سُلَيْمَان فطيس خَمْسمِائَة دِينَار قَالَ وَتُوفِّي فِي أخريات أَيَّامه وفطيس هَذَا خَاتِمَة الَّذين أبقيت فِي هَذِه الْمِائَة على مَا شرطت وَلم أذكر فِيهَا إِلَّا من كَانَ بالشعر مَذْكُورا أوعلى فن من فنون الْأَدَب مَقْصُورا وَكَذَلِكَ فِيمَا بعد

المائة الثالثة

الْمِائَة الثَّالِثَة 196 - أبان وَعُثْمَان ابْنا الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن الحكم ابْن هِشَام بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة كَانَا أديبين شاعرين سمّى أبان فِي أَوْلَاد عبد الرَّحْمَن بن الحكم أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى الرَّازِيّ فِي كتاب الِاسْتِيعَاب فِي الْأَنْسَاب من تأليفه وَوَصفه بالشّعر أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي كِتَابه أَيْضا فِي الْأَنْسَاب وَذكر عُثْمَان أَخَاهُ أَبُو عبد الله الْحميدِي فِي تَارِيخه عَن أبي عَامر بن مسلمة وَلم يذكرهُ الرَّازِيّ 197 - مسلمة أَبُو سعيد وَهِشَام أَبُو الْوَلِيد والأصبغ أَبُو الْقَاسِم وَعبد الرَّحْمَن أَبُو الْمطرف بَنو الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الحكم كَانُوا أدباء وَولى مسلمة مِنْهُم كورة شذونة فَأَقَامَ بهَا أعواماً جميل السِّيرَة مكتسباً للمحامد يجمع إِلَى تقدمه فِي أساليب الْأَدَب نزاهة النَّفس وسماح الْكَفّ مَعَ الْحلم والدماثة وَظَهَرت براعة الْأَصْبَغ فِي الْأَدَب لأوّل نشأته وسما لمناغاة إخْوَته فانكدر

سَرِيعا رطيب الْغُصْن بِمَاء شبابه وَتُوفِّي وَهُوَ دون الثَّلَاثِينَ فِي سنه فاشتدت على أَبِيه الْأَمِير مُحَمَّد فجيعته وَأما عبد الرَّحْمَن فأغزاه أَبوهُ بِجَيْش الصائفة وَمَعَهُ وليد بن عَامر الْوَزير وَكَانَ من سراة ولد الْأَمِير مُحَمَّد وأدبائهم وَتُوفِّي أَيْضا فِي حَيَاة أَبِيه وَولى هِشَام لِأَخِيهِ الْأَمِير عبد الله جيّان ونوّه بِهِ فِي عسكره وقلده ميسرته فِي غَزَوَاته وَكَانَ من أتم أهل بَيته جمالاً وأكملهم أدباً ثمَّ سعى بِهِ إِلَيْهِ فَقتله وَكَانَ الْأَمِير مُحَمَّد من مناجيب الخلائف من بني مَرْوَان بسق من أَوْلَاده فِي الْأَدَب عدَّة مِنْهُم عبد الله الْأَمِير الْوَالِي بعد أَخِيه الْمُنْذر والمطرف وَالقَاسِم وَقد تقدم ذكرهم ومسلمة وَأصبغ وَعبد الرَّحْمَن وَهِشَام المذكورون هُنَا وَأما الْمُنْذر وَهُوَ الْوَارِث سُلْطَان أَبِيه بعده فَكَانَ مَعَ زهده فِي الْأَدَب وعطوله من حليته يعجب بالشعر ويفضل أَهله ويرغب فِي المديح وَفِي أَيَّامه نجم أَبُو عمر بن عبد ربه 198 - مُحَمَّد ابْن الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن الحكم أَبُو الْقَاسِم وَالِد النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد كَانَ بكر أَوْلَاد أَبِيه وخليفته إِذا غَابَ عَن حَضرته والمرشح لمكانه وَكَانَ من أهل الْعِنَايَة بالآثار وَالرِّوَايَة للْأَخْبَار والتفنن فِي الْآدَاب وَولى لِأَبِيهِ إشبيلية ثمَّ هرب إِلَى عمر بن حفصون فِي قصَّة طَوِيلَة وَحبس بعد ذَلِك بِالْقصرِ إِلَى أَن قَتله أَخُوهُ الْمطرف ابْن عبد الله عِنْد انبلاج الْفجْر من يَوْم الْخَمِيس لَيْلَة عشرَة خلت من شَوَّال

سنة سبع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ ثمَّ قتل الْمطرف بِهِ بعد ذَلِك وبأمور سوى هَذَا يَوْم الْأَحَد لعشر خلون من رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ ابْن سبع وَعشْرين سنة سنّ أَخِيه قتيله مُحَمَّد إِذْ كَانَ بَينهمَا فِي المولد خَمْسَة أَعْوَام عاشها الْمطرف بعده 199 - أَحْمد بن مُعَاوِيَة بن مُحَمَّد بن هِشَام بن مُعَاوِيَة ابْن الْأَمِير هِشَام بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة أَبُو الْقَاسِم الْمَعْرُوف بِابْن القطّ وَمُحَمّد بن هِشَام جده هُوَ المنبّز بذلك وَكَانَ جميل الْوَجْه فِيهِ يَقُول ابْن أَيُّوب الْقرشِي (أعجوبة مَا سَمِعت قطّ ... قَالُوا رشاً وَالِده قطّ) (قد قلدوك السَّيْف يَا سَيِّدي ... والقرط أولى بك وارط) وَكَانَ أَحْمد هَذَا من أهل الْعِنَايَة بِالْعلمِ والصناعة والنجامة وَمَعْرِفَة الْهَيْئَة وَكَانَت لَهُ حَرَكَة وَفِيه شراسة وَخرج فِي أَيَّام الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد أَوَان ارتجاج الْفِتْنَة يطْلب الدولة وَيظْهر الْحِسْبَة وَالرَّغْبَة فِي الْجِهَاد إِلَّا أَنه كَانَ يتكهن ويموه

وَاجْتمعَ إِلَيْهِ خلق عَظِيم يُقَال إِنَّهُم بلغُوا بَين خيل وَرجل سِتِّينَ ألفا أَكْثَرهم من برابر الْجوف والغرب وَمن أهل طليطلة وطلبيرة قصد بهم سمورة وَكتب إِلَى الطاغية ملك جلّيقية وَمن مَعَه كتابا مغلظاً يَدعُوهُم فِيهِ إِلَى الْإِسْلَام وَيُنْذرهُمْ بالصاعقة وَأمر رَسُوله أَن يستعجل مِنْهُم الْجَواب وَلَا يتَوَقَّف عِنْدهم وَإِن هم أَبُو من مجاوبته أَن يعود بالْخبر إِلَيْهِ ونسخة كِتَابه ذَلِك مَشْهُورَة عِنْد أهل الثغر لبلاغته فحمى الطاغية عِنْد ذَلِك ونشب الْقِتَال فخذله رُؤَسَاء البربر وَثَبت هوفيمن بَقِي مَعَه من أهل البصائر حَتَّى قتل فِي الْيَوْم الرَّابِع واستؤصل أَصْحَابه إِلَّا قَلِيلا وحز رَأسه وَجِيء بِهِ إِلَى الْملك

فنصبه على بَاب سمورة وعظمت الْمُصِيبَة بِكَثْرَة من قتل من الْمُسلمين وَهَذِه الوقيعة تعرف عِنْد أهل الثغر بِيَوْم سمورة وَكَانَت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ 200 - مَالك بن مُحَمَّد بن مَالك بن عبد الله بن عبد الْملك ابْن عمر بن مَرْوَان بن الحكم أَبُو الْقَاسِم قَالَ فِيهِ أَبُو الْوَلِيد بن الفرضي قَرَأَ على بقيّ بن مخلد كثيرا وَصَحبه وَسمع من الْخُشَنِي وَكَانَ بليغاً شَاعِرًا وَولى الولايات بعد ذَلِك حَتَّى إِن بقيّ ابْن مخلد قَالَ لَهُ يَا مَالك أوصيك بِوَصِيَّة إِنَّك لَا تَسْتَطِيع كل مَا يجب عَلَيْك وَلَكِن كن أسدّ من غَيْرك قَالَ مَالك فَأَنا وَالله أسدّ من غَيْرِي وَقَالَ ابْن حيّان فِيهِ أحد رجالات قُرَيْش فِي زَمَانه كَانَ من نبلاء المتأدبين وَمن الشُّعَرَاء المطبوعين وَمِمَّنْ عني على ذَلِك بِرِوَايَة الحَدِيث وَتَقْيِيد الْآثَار والافتنان فِي الْعلم وَالْأَدب أَخذ عَن بقيّ بن مخلد والخشنى وَغَيرهمَا من طبقتهما وَكَانَ مفتنّاً فِي ضروب الْآدَاب بَصيرًا بالنحو حَافِظًا للغة ذَا نصيب وافر من الْإِمْلَاء لَهُ والبلاغة فِي الترسيل صحب السُّلْطَان وَتصرف فِي أَعماله الرفيعة

وَمن موَالِي المروانية وولاتهم بالأندلس 201 - مُحَمَّد بن عبد السَّلَام بن بسيل الْمَعْرُوف بالشيخ ولد لِأَبِيهِ عبد السَّلَام بالأندلس بعد دُخُوله إِلَيْهَا مَعَ ابنيه يحيى وَعبد الْوَاحِد أَيَّام عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وبسيل مولى هِشَام بن عبد الْملك فَاسْتعْمل عبد الرَّحْمَن عبد السَّلَام على إشبيلية وشذونة ومورور والجزيزة جمعهَا لَهُ وَاسْتَعْملهُ أَيْضا على كورة ماردة وَغَيرهَا من الكور وتصرّف عبد الْوَاحِد ابْنه مَعَه فِي العمالات وَلما أخرج الْأَمِير عبد الرَّحْمَن ابْن الحكم ابْنه مُحَمَّدًا أَمِيرا على جيّان وجّه عبد الْوَاحِد مَعَه وَقد أسنّ فَكَانَ عَامل الكورة تَحت يَد مُحَمَّد وتصرّف مُحَمَّد بن عبد السَّلَام هَذَا أَيَّام الحكم فِي العمالات ثمَّ فِي الوزارة

وَالْمَدينَة وَالْكِتَابَة وَالْخَيْل وخطط سواهَا أَيَّام عبد الرَّحْمَن بن الحكم كَانَ رزقه عَلَيْهَا فِي كل شهر ثَلَاثمِائَة دِينَار قَالَه الرَّازِيّ 202 - مُحَمَّد بن سعيد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن رستم مولى الْغمر بن يزِيد بن عبد الْملك دخل أَبوهُ إِلَى الأندلس وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا بِنَاحِيَة الجزيرة واصطنعه عبد الرَّحْمَن بن عبد الحكم فِي إمارته على شذونة من قبل أَبِيه الحكم فَكَانَ يأنس بِهِ فِي بعض الأحيان ثمَّ أفضت إِلَيْهِ الْخلَافَة فاستقدمه وصرّفه فِي الحجابة والوزارة وَهُوَ أحد القواد الَّذين كَانَ فتح الْمَجُوس على أَيْديهم بإشبيلية إِلَى فتوحات تعلم لَهُ

وَكَانَ أديباً حكيماً لاعباً بالشطرنج ذكره الرَّازِيّ ولمحمد بن سعيد هَذَا شعر فِي الحدائق لِابْنِ فرج قد كتبت مِنْهُ فِي الْكتاب المحمدي من تأليفي فَنقل من هُنَا اسْمه إِلَى بَاب نظرائه 203 - عبد الله بن مُحَمَّد بن أُميَّة بن يزِيد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي حوثرة مولى مُعَاوِيَة بن مَرْوَان بن الحكم دخل أُميَّة إِلَى الأندلس فِي طالعة بلج وَكتب لعبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة ثمَّ كتب ابْنه مُحَمَّد للأمير الحكم بن هِشَام واتهمه بالميل مَعَ عَمه سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة وعزله وَمَات خاملاً وَحكى الرَّازِيّ أَنه ولى الوزارة وَالْكِتَابَة لهشام ثمَّ عزل قَالَ فَأَما عبد الله بن مُحَمَّد يَعْنِي ابْنه هَذَا فولى الوزارة وَالْكِتَابَة للأميرين عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد وَتصرف قبل الوزارة فِي الْولَايَة وَالْعرض 204 - ابْنه عبد الْملك بن عبد الله أَبُو مَرْوَان كَانَ فِي أَيَّام الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن مَخْصُوصًا بِالْكِتَابَةِ الْعليا مَعَ الوزارة ثمَّ ولى الْمُنْذر بن مُحَمَّد فأقره عَلَيْهِمَا وَهُوَ الَّذِي أغراه بهاشم بن عبد الْعَزِيز حَتَّى قَتله ثمَّ ولى الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد أَخُو الْمُنْذر فَجمع لَهُ القيادة مَعَ الوزارة

وَقَتله الْمطرف بن عبد الله على ميلين من إشبيلية وَهُوَ يَقُود جَيْشه فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَاسْتعْمل على الْجَيْش أَحْمد بن هَاشم بن عبد الْعَزِيز للعداوة الَّتِي كَانَت بَينهمَا وَفِي شهر رَمَضَان من هَذِه السّنة قتل الْمطرف وَقد تقدم ذكر ذَلِك وَكَانَ مَرْوَان بن عبد الْملك يخلف أَبَاهُ على الْكِتَابَة وَولى الشرطة الْعليا ثمَّ قتل بعد حَبسه وعزله عَن الشرطة سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ 205 - وليد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الحميد بن غَانِم ولى للأمير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن خطتي الوزارة وَالْمَدينَة وقاد جَيش الصائفة لِابْنِهِ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وَذكر ابْن حيّان من وفور هَذَا الْجَيْش مَا يستغرب واختص وليد هَذَا بصداقة هَاشم بن عبد الْعَزِيز وإياه خَاطب من مَوضِع أسره دون الوزراء وَهُوَ قَامَ بِعُذْرِهِ عِنْد الْأَمِير مُحَمَّد فَشكر وفاؤه وَكَانَ كَاتبا أديباً مرسّلاً بليغاً وابناه مُحَمَّد وَعبد الرَّحْمَن من أهل الْأَدَب والبلاغة وَالشعر وَمُحَمّد أبعدهُمَا شأواً فِي ذَلِك وَقد عَاشر الْمطرف ابْن الْأَمِير مُحَمَّد على الْأَدَب وكاتبه بالشعر وَولى الْمَدِينَة والوزارة وَالْكِتَابَة وارتفع قدره فِي الدولة وَقد تقدم ذكر أَخِيه عبد الرَّحْمَن وَتُوفِّي وليد فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ

206 - مُحَمَّد بن عبد الْملك بن جهور بن يُوسُف ابْن بخت الْفَارِسِي مولى عبد الْملك بن مَرْوَان دخل الأندلس جدّ أَبِيه أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن بخت فِي طالعة بلج وَكَانَ أحد القائمين بِأَمْر عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة فاستحجبه واستخلفه وقتا على قرطبة وقاد الْخَيل إِلَى جلّيقية أَيَّام الْأَمِير هِشَام وَبلغ الْفَيْء فِي تِلْكَ الْغُزَاة تِسْعَة وَثَلَاثِينَ ألفا وَتُوفِّي بطليطلة وَكَانَ ابْنه جهور بن يُوسُف وزيرا للأميرين بن الحكم بن هِشَام وَعبد الرَّحْمَن ابْن الحكم وَولى ابْن ابْنه مُحَمَّد بن عبد الْملك هَذَا الوزارة والقيادة للأميرين بن مُحَمَّد ابْن عبد الرَّحْمَن وَالْمُنْذر بن مُحَمَّد وَتُوفِّي وَلم يعقب وَكَانَ الْأَمِير مُحَمَّد قد نَصبه إزاء هَاشم بن عبد الْعَزِيز ليكسر مِنْهُ فَكَانَ هَاشم بنصاعة ظرفه ورقة أدبه يكيده ويستذله إِذْ كَانَ مُحَمَّد نَاقص الْأَدَب لحّانة إِلَّا أَنه كَانَ كَاتبا ساذج الصِّنَاعَة مُسْتقِلّا بِالْأَعْمَالِ السُّلْطَانِيَّة متصرفاً فِيهَا بعفة وكفاية قَالَه ابْن حيّان وَحكى أَن هاشماً احتال فِي سمّ ابْن جهور هَذَا وَحضر جنَازَته فَأَنْشد (يارب عقدَة سوء ... يحلّها الْمَوْت قسرا)

207 - إِبْرَاهِيم بن حجاج بن عُمَيْر بن حبيب اللَّخْمِيّ أَبُو إِسْحَاق بَيته نبيه فِي عرب حمص وثار بهَا عِنْد ارتجاج الْفِتْنَة وَقتل كريب بن عُثْمَان بن خلدون وأخاه خَالِدا وَملك إشبيلية وقرمونة وَاتخذ لنَفسِهِ جنداً يرزقهم طَبَقَات فَكَانَ فِي مصافّه مِنْهُم خَمْسمِائَة فَارس وَلم يُجَاهر بالمعصية فِي أَكثر أوقاته وَلَا خلع فِي جَمِيع مدَّته وَكَانَ مَال مُفَارقَته يرد على الْأَمِير عبد الله كل سنة ومدده يتوافى إِلَيْهِ لكل صائفة إِلَى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ منتجعاً على الْبر وَالْبَحْر جواداً ممدّحاً يرتاح للثناء وَيُعْطِي الشُّعَرَاء عداد الْأَمْوَال وَكَانَ قَصده أَبُو عمر بن عبد ربه من بَين ثوار الأندلس

فأفضل عَلَيْهِ وَعرف لَهُ حَقه فمدحه بأماديح مَشْهُورَة وقصده مُحَمَّد بن يحيى القلفاط بقصيدة هجا فِيهَا عشيرته أهل قرطبة وَلم يسْتَثْن مِنْهُم سوى بدر الوصيف مولى الْأَمِير عبد الله فحرمه ومقته وَانْصَرف خائباً فابتدأ بِهِجَاء ابْن حجّاج وبلغه ذَلِك فأحفظه وأوصل إِلَيْهِ من حلف لَهُ عَنهُ لَئِن لم تكفّ عَمَّا أخذت فِيهِ لآمرنّ من يَأْخُذ رَأسك وَأَنت فَوق فراشك بقرطبة فارتاع وكف عَن هجائه 208 - إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن صَخْر بن عطّاف ابْن الْحصين بن الدّجن الْعقيلِيّ كَانَ من أهل المعاقد أَيَّام الْجَمَاعَة يشْهد مَعَ الْأَمِير مُحَمَّد وقواده الصوائف وَيقوم بَين يَدَيْهِ المقاوم ويخطب على رَأسه فِي الأعياد ومجالس المحافل وَأَيَّام التبريز للمغازي وَجرى على ذَلِك فِي أَيَّام ولديه الْمُنْذر وَعبد الله من بعده

فَلَمَّا ثارت الْفِتْنَة وتميزت الْفرق دخل إِسْحَاق هَذَا حصن منتيشة فبناه وحصنه وَامْتنع بِهِ من ابْن حفصون وَأهل الْخلاف وَتمسك بِالطَّاعَةِ على تعززه عَن الْعَزْل إِلَى أَن ضربت دولة الْجَمَاعَة بِعَطَن فاستنزله قيّمها الْخَلِيفَة عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد النَّاصِر لدين الله إِلَى قرطبة سنة ثَلَاث عشرَة وثلاثمائة وَبهَا توفّي 209 - مُحَمَّد بن أضحى بن عبد اللَّطِيف الْهَمدَانِي من أكَابِر أَبنَاء الْعَرَب بكورة إلبيرة وَكَانَ بَينه وَبَين سعيد بن جوديّ أَمِير الْعَرَب أَيَّام الْفِتْنَة عَدَاوَة شَدِيدَة أوجبت على ابْن أضحى الْهَرَب عَنهُ بِنَفسِهِ إِلَى غير مَكَان وَسَعِيد يجد فِي طلبه ويبذل المَال فِيهِ إِلَى أَن مضى

سعيد لسبيله فأمن جَانِبه واستدعاه أهل حصن نوالش ليمنع مِنْهُم فَصَارَ عِنْدهم مستمسكاً بِالطَّاعَةِ على مَا بِهِ من عزة وخاطب الْأَمِير عبد الله يسْأَله الإسجال لَهُ على مَا بِيَدِهِ عقب أَشْيَاء دارت بَينه وَبَين ابْن حفصون أبان فِيهَا عَن صدق ولَايَته فأسعفه الْأَمِير عبد الله وأمضى لَهُ ذَلِك النَّاصِر عبد الرَّحْمَن ابْن ابْنه الْوَالِي بعده إِلَى أَن استنزله فِيمَن استنزل من الثوار سنة ثَلَاث عشرَة وثلاثمائة وَكَانَ ابْن أضحى هَذَا مَعَ رجوليته أديباً خَطِيبًا يقوم بَين أَيدي الْخُلَفَاء فِي المحافل فَيحسن القَوْل ويطيب الثَّنَاء وَله أَخْبَار مَعْرُوفَة ولأبيه أضحى مقَام بَين يَدي الْأَمِير الْمُنْذر بن مُحَمَّد مَذْكُور وَقد تقدم ذكر ابْنه أَحْمد بن مُحَمَّد بن أضحى والثائر من عقبَة القَاضِي أبي الْحسن عَليّ بن عمر بن أضحى فِي موضعيهما من هَذَا الْمَجْمُوع وَمن بني الْأَغْلَب 210 - أَحْمد بن أبي الْأَغْلَب واسْمه إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب أَبُو الْعَبَّاس كَانَ عَالما باللغة والغريب مَعَ تصرف فِي كثير من الْعلم وَالْأَدب ومهارة فِي النّجامة وَيُقَال

إِنَّه كَانَ يحفظ كتب الأغاني للموصلي وَلكنه شان نَفسه وأفسد علمه بكبر كَانَ فِيهِ وتشادق فِي منْطقَة وتقصير فِي كَلَامه وَاسْتعْمل الْغَرِيب والإغراب حَتَّى أطاعه لِسَانه وَكَانَ أَبوهُ أَبُو الْأَغْلَب والياً على صقلية من سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ فضبطها واستقام لَهُ أمرهَا طول عمره بهَا وَمن رِجَالهمْ 211 - أَسد بن الْفُرَات بن سِنَان مولى بني سليم من أهل نيسابور وَولد هُوَ بحرّان ويكنى أَبَا عبد الله وَكَانَ يَقُول أَنا أَسد والأسد خير الوحوش وَأبي الْفُرَات والفرات خير المَاء وجدّي سِنَان والسنان خير السِّلَاح وَقدم أَبوهُ مَعَ مُحَمَّد بن الْأَشْعَث الْخُزَاعِيّ فِي عسكره حِين ولاه أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور إفريقية سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَأسد إِذْ ذَاك ابْن سنتَيْن مولده بحرّان سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَة ويروى عَنهُ أَنه قَالَ دخلت مَعَ أبي القيروان فِي جَيش ابْن الْأَشْعَث

فَأَقَمْنَا بهَا خمس سِنِين ثمَّ دخلت مَعَ أبي إِلَى تونس فأقمت بهَا نَحوا من تسع سِنِين فَلَمَّا أنهيت ثَمَان عشرَة سنة علّمت الْقُرْآن ببجردة ثمَّ خرجت بعد ذَلِك إِلَى الْمشرق فوصلت إِلَى الْمَدِينَة أطلب الْعلم ثمَّ خرجت إِلَى الْعرَاق ثمَّ انصرفت إِلَى القيروان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة واستقضاه زِيَادَة الله بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب وأمّره على الْجَيْش الَّذِي أنفذه لغزو صقلية فَخرج إِلَيْهَا فِي شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ فِي عشرَة آلَاف مِنْهُم تِسْعمائَة فَارس فظفر بِكَثِير مِنْهَا وَتُوفِّي وَهُوَ محاصر لسرقوسة سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَكتب زِيَادَة الله إِلَى الْمَأْمُون بِفَتْح صقلية على يَدي أَسد هَذَا وَكَانَ لَهُ بَيَان وبلاغة إِلَّا أَنه بِالْعلمِ أشهر مِنْهُ بالأدب وَإِلَيْهِ تنْسب الأَسدِية فِي الْفِقْه

212 - مَنْصُور بن نصر الْجُشَمِي من هوَازن من ولد دُرَيْد بن الصّمّة وَيعرف بالطّنبذيّ من أجل كَونه بقرية تعرف بطنبذة من إقليم المحمدية بِجِهَة تونس كَانَ والياً على طرابلس فَلَمَّا قتل زِيَادَة الله بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب عَمْرو ابْن مُعَاوِيَة السّلمي وولديه الْحباب وسكتان وَشرب يَوْمًا مَعَ أهل بَيته ورؤوسهم بَين يَدَيْهِ حَتَّى قَالَ فِي ذَلِك عبد الرَّحْمَن بن أبي مسلمة يمدح زِيَادَة الله (أزرت عمرَان عمرا فِي معصفرة ... من الدِّمَاء ارتدى من حوكها ابناه) (وَظن أَن دُخُول الْحصن مانعه ... من الجيوش إِذا مَا سدّ باباه) (فاستنزلته العوالي ملقياً بيد ... وَوَجهه لَهب النيرَان يَغْشَاهُ) يَعْنِي عمرَان بن مجَالد الرّبعي وَقد تقدم ذكره سَاءَ ذَلِك منصوراً وغمه وامتعض للقيسيّة فَقَالَ يَا بني تَمِيم لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو آوي إِلَى ركن شَدِيد وَكَانَ مَعَ شجاعته فصيحاً بليغاً فَكتب صَاحب الْخَبَر بِكَلَامِهِ إِلَى زِيَادَة الله فَعَزله واستقدمه وهمّ بِهِ ثمَّ صفح عَنهُ وَخرج إِلَى مَنَازِله بتونس فَجعل يراسل الْجند وَيذكر لَهُم مَا يلقون من زِيَادَة الله وَمَا فعل بِعَمْرو بن مُعَاوِيَة وولديه فَبلغ ذَلِك زِيَادَة الله فَأخْرج مُحَمَّد بن حَمْزَة الْمَعْرُوف بالحرون فِي ثَلَاثمِائَة

فَارس للقبض عَلَيْهِ فَأَقَامَ بتونس وأشخص إِلَيْهِ من مشيختها من يَأْتِي بِهِ فخدعهم وَبعث إِلَيْهِم ببقر وغنم وعلف وأحمال نَبِيذ ثمَّ صبّحهم فَقتل من كَانَ مَعَ ابْن حَمْزَة وَلم يسلم رلا من ألْقى نَفسه فِي الْبَحْر وَملك تونس وَقتل عَامل زِيَادَة الله عَلَيْهَا إِسْمَاعِيل بن سُفْيَان بن سَالم بن عقال وَولده الْأَكْبَر واستبقى الْأَصْغَر واستفحل أَمر مَنْصُور وأطاعه الْجند وتغلب على أَكثر إفريقيّة وَكَانَ خُرُوجه لَيْلَة الِاثْنَيْنِ لخمس بَقينَ من صفر سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَأقَام ظَاهرا على زِيَادَة الله فِي حروبه نادباً لَهُ إِلَى الْخُرُوج من القيروان والتخلي عَن الْبِلَاد حَتَّى قَتله عَامر بن نَافِع فَلم يسد مسده وأقامت الْفِتْنَة بإفريقية نَحوا من عشر سِنِين إِلَى أَن فتحت تونس فِي آخر ولَايَة زِيَادَة الله 213 - عَامر بن نَافِع بن عبد الرَّحْمَن بن عَامر ابْن نَافِع بن محميّة الْمسلي من مذْحج مالأ مَنْصُور بن نصر الطّنبذيّ على الْخلاف وَكَانَ الَّذِي

بَينهمَا غير جميل وَرُبمَا استراح فِيهِ مَنْصُور بمجالس أنسه فيغضي عَامر على ذَلِك إِلَى أَن زحف إِلَيْهِ فحصره بقصره بطنبذة واضطره إِلَى النُّزُول على شُرُوط لم يَفِ بهَا وسجنه ثمَّ كتب إِلَى ابْنه حمديس أَن يضْرب عُنُقه وَيبْعَث بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ فَدخل على مَنْصُور بِالْكتاب وأقرأه إِيَّاه فَقَالَ لَهُ يَا ابْن أخي رَاجعه فِي أَمْرِي فَلَعَلَّ الله أَن يصرفهُ إِلَى الْجَمِيل فَقَالَ مَا كنت بِالَّذِي أفعل وَقد كتب إليّ بِمَا كتب بِهِ قَالَ فَهَل من دَوَاة وَقِرْطَاس أكتب وصيتي فَأَتَاهُ بهما فَذهب ليكتب فَلم يسْتَطع فَألْقى القرطاس من يَده ثمَّ قَالَ فَازَ المتقون بِخَير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فقدمه فَضرب عُنُقه وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى أَبِيه وَضرب عنق أَخِيه مَعَه ودفنهما فِي مزبلة وَصَارَ أَمر الْجند إِلَى عَامر وَظن أَن الْأُمُور تستقيم لَهُ فَكَانَ الْأَمر على الضِّدّ وَكتب إِلَيْهِ زِيَادَة الله يَدعُوهُ إِلَى الطَّاعَة ويعرّفه بإشفاقه عَلَيْهِ وعَلى حرمه ويحذره عَاقِبَة مَنْصُور الطنبذي قتيله وَيحلف لَهُ بِأَنَّهُ لَا يحقد عَلَيْهِ مَعَ الْإِنَابَة وَبِأَنَّهُ معيده إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مَعَ أَبِيه إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب وأخيه عبد الله بن إِبْرَاهِيم فَأَجَابَهُ عَامر برسالة بليغة أَولهَا أما بعد فقد أَتَانِي كتابك وفهمت مَا ذكرت أَنَّك شفيق على ذُرِّيَّة وعيال صيّرتها بِأَرْض مضيعة وعدو مكتنف وفتنة أوقدها من صيره الله جزلاً لَهَا وصيّرت نَفسِي مَكَانَهُ فِيهَا وَقد كنت أَنا الشفيق عَلَيْهَا والناصر لَهَا فِي الْأَيَّام الَّتِي قطعت بالتهديد قلوبها وحرصت على إيتامها وكشف سترهَا إِذْ كنت أغدو وأروح إِلَى بابك

متوقعاً لأمرك بسفك دمي من وَرَاء حجابك وَإِن كَانَ شعاري كنفي أَعْتَد بِهِ دون دثاري مكتتماً بِهِ من الْخلق لَا يظْهر إليّ مِنْك إِلَّا أصلح قطوب وَلَا يبلغنِي عَنْك إِلَّا تجني الذُّنُوب وَقد كَانَ نظرك ونصرتك لتِلْك الْحرم أحقّ مِنْك قبل الْيَوْم بهَا وتسكينك لروعتها أولى وَأَحْرَى وَآخِرهَا ثمَّ ذكرت أَنه لَا حقد وَلَا إحنه وَلَا ترة إِلَّا وَذَلِكَ مضمحل مَعَ الألفة والإنابة فقد وَالله حقدت بِلَا ذَنْب ووترت بِلَا ترة وَحلفت بعهود ومواثيق وأيمان مُغَلّظَة قلدتها عُنُقك وأخفرت بهَا مرَارًا ذِمَّتك وَمَا بيني وَبَيْنك هوادة إِلَّا ضرب السَّيْف حَتَّى تضع الْحَرْب أَوزَارهَا وَيحكم الله بَيْننَا وَهُوَ خير الْحَاكِمين وَلم يلبث عَامر أَن انْتقض عَلَيْهِ أمره واضطرب جنده وَوجد قواد المضرية لما صَنَعُوا بمنصور وأخيه وأنزلوا ذَلِك على العصبية فنافروه ثمَّ حَارَبُوهُ وَمضى عبد السَّلَام بن المفرّج اليشكريّ مخالعاً لعامر ثمَّ زحف إِلَيْهِ فِي جمَاعَة من الْجند فَانْهَزَمَ عَامر واعتل إِثْر ذَلِك فَلَمَّا أَيقَن بِالْمَوْتِ دَعَا بنيه وأوصاهم باللحاق بِزِيَادَة الله فعملوا بِرَأْيهِ واستأمنوا إِلَيْهِ بعد مَوته فسرّ بهم وأمّنهم وَأحسن إِلَيْهِم وَقَالَ عِنْدَمَا بلغه موت عَامر الْآن وضعت الْحَرْب أَوزَارهَا فَكَانَ كَذَلِك لم يزل أَمر الْجند مُدبرا حَتَّى انْقَضتْ الْحَرْب وطفئت النائرة وصفت لَهُ إفريقية

214 - حسن بن أَحْمد بن نافد الْمَعْرُوف بِأبي المقارع كَانَ والياً على طبنة من أَعمال إفريقية فِي ولَايَة زِيَادَة الله بن عبد الله آخر مُلُوك الأغالبة فحاصره أَبُو عبد الله الشيعي دَاعِيَة عبيد الله الْمهْدي حَتَّى غلب على الْمَدِينَة ولجأ أَبُو المقارع هَذَا إِلَى حصن منيع بداخلها ثمَّ نَادَى بالأمان فَأَجَابَهُ بعض أَصْحَاب الشيعي فَقَالَ هَذَا الْأمان عَنْك أوعنه فَقَالَ عني قَالَ أَبُو المقارع مَا كُنَّا بالذين نلقي بِأَيْدِينَا إِلَّا أَن يؤمننا قَالَ صَاحب الشيعي فَإِن لم تفعل فَمَا تَصْنَعُونَ قَالَ نكونوا كَمَا قَالَ الشَّاعِر (فَأثْبت فِي مستنقع الْمَوْت رجله ... وَقَالَ لَهَا من تَحت إخمصك الْحَشْر) قَالَ هَكَذَا قَالَ نعم وَمَا راحتنا فِي استعجال الْمَوْت بل ميتَة كَرِيمَة بعد بذل المجهود أفضل فَانْصَرف إِلَى الشيعي فَأخْبرهُ فَقَالَ أعطهم عني الْأمان فَنزل أَبُو المقارع وَمن مَعَه وأتى الشيعيّ وَهُوَ فِي فرط خوف فَسلم عَلَيْهِ وهنأه بِالْفَتْح فَقَالَ لَهُ مَا الَّذِي حملك على طول المدافعة والامتناع فَقَالَ لَهُ أَبُو المقارع إِن ذَلِك مَا لَا حِيلَة لنا فِيهِ خلفنا الْأَهْل وَالْولد وخشينا إِن ألقينا بِأَيْدِينَا أَن يَحِيق بِنَا وبهم الْمَكْرُوه

المائة الرابعة

وَقد أمّننا هَذَا عَنْك قَالَ نعم فشكره ودعا لَهُ وأعجب الشيعي مَا رأى من نبله وجزالة مَنْطِقه فَأمر بحفظه وَحفظ من كَانَ مَعَه وَلم يزل فِي صَحبه إِلَى أَن دخل مَعَه إفريقية الْمِائَة الرَّابِعَة 215 - الْمَنْصُور بن الْقَائِم بن الْمهْدي هُوَ أَبُو الطَّاهِر إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عبيد الله الشيعي فوض إِلَيْهِ أَبوهُ عَهده يَوْم الِاثْنَيْنِ لسبع خلون من رَمَضَان سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة وَهُوَ إِذْ ذَاك ابْن ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة فصلى بِالنَّاسِ فِي عيد الْفطر من هَذِه السّنة وخطب خطْبَة بليغة ثمَّ توفّي الْقَائِم على إِثْر هَذَا يَوْم الْأَحَد لثلاث عشرَة خلون من شَوَّال فكتم الْمَنْصُور مَوته وابتدأ بِقِتَال أبي يزِيد مخلد بن كيداد اليفرني الإباضي صَاحب الْحمار وَقد استفحل أمره وأعضل شَره حَتَّى عجز عَن مقاومته الْقَائِم فتغلب على أَعمال إفريقية وحصره بالمهدية ثمَّ انْتقل إِلَى سوسة فهزمته بهَا أَوَائِل

جيوش الْمَنْصُور ثمَّ خرج بِنَفسِهِ فِي اتّباعه من المهدية يَوْم الْأَرْبَعَاء لسبع بَقينَ من شَوَّال وَهُوَ فِي قلَّة من عُبَيْدَة وخدمه حَتَّى انْتهى إِلَى سوسة فَنزل بظاهرها وبلغه أَن أهل القيروان لما قصدهم أَبُو يزِيد مفلولاً سبّوه وَمنعُوا أَصْحَابه دُخُول الْبَلَد وَقتلُوا جمَاعَة مِمَّن دخل مِنْهُم فَكتب إِلَيْهِم كتابا يؤمنهم وَلم يعد الْمَنْصُور من وجهته هَذِه حَتَّى أمكنه الله من أبي يزِيد بعد محاصرته بالقلعة الَّتِي لَجأ إِلَيْهَا وَكَانَ يَقُول فِي سَفَره كُله إِن أَنا لم آخذ أَبَا يزِيد وأسلخه فلست بِابْن فَاطِمَة وَلست لكم بِإِمَام وأظلّ عيد الْأَضْحَى من سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَهُوَ مُحِيط بِأبي يزِيد فِي قلعته فَركب إِلَى الْمصلى فصلى بِالنَّاسِ ثمَّ خطب وعرّفهم فِي خطبَته بِمَوْت أَبِيه الْقَائِم وَنحر بَدَنَة بِيَدِهِ وَانْصَرف إِلَى مضربه وَانْصَرف النَّاس مسرورين بخلافته موقنين بيمن نقيبته وبركة دَعوته وَكتب أهل الْعَسْكَر إِلَى من وَرَاءَهُمْ بالقيروان والمهدية فشملهم السرُور وَدخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ فَفِي الْمحرم مِنْهَا ظفر الْمَنْصُور بِأبي يزِيد بعد مواقفات لَا يَفِي بهَا الْوَصْف وقيّد إِلَيْهِ مُثقلًا بالجراح فَأمر بِحمْلِهِ إِلَى المضرب وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ لمابه وَلَيْلَة الْخَمِيس آخر الْمحرم هلك عَدو الله فسلخ وَحشِي جلده بالتبن حَتَّى ظَهرت صورته وَلما فرغ من فعله ذَلِك بِأبي يزِيد وَحَضَرت صَلَاة الظّهْر تقدم

إِلَيْهِ ثمَّ قَالُوا السَّلَام على أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته صَلَاة الظّهْر رَحِمك الله وَالنَّاس فِي غَفلَة فكبروا وتباشروا وَبعد صَلَاة الْعَصْر من ذَلِك الْيَوْم دخل عَلَيْهِ النَّاس وهنوه بِالْفَتْح فَبسط آمالهم وَوَعدهمْ الْغَنَائِم وَالْأَمْوَال فَأَثْنوا على شجاعته وسماحته دوكا ثمَّ ارتحل يَوْم السبت غرَّة صفر إِلَى المسيلة وَمِنْهَا توجه إِلَى تاهرت فَنزل عَلَيْهَا يَوْم الثُّلَاثَاء لست بَقينَ من صفر من هَذِه السّنة وَأقَام بهَا إِلَى يَوْم الِاثْنَيْنِ غرَّة شهر ربيع الأول وَقد هرب أَمَامه الثائرون ثمَّ كتب إِلَى أهل القيروان فأمّنهم وَوَعدهمْ خيرا وَكَانَ وُصُوله يَوْم الِاثْنَيْنِ غرَّة شهر ربيع الأول إِلَى قصره بالمنصورية وَقد بناه فتاه مدام أثْنَاء غيبته عِنْد صَلَاة الظّهْر من يَوْم الْخَمِيس لليلة بقيت من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَفِي الْيَوْم الثَّانِي من وُصُوله أَمر بِإِخْرَاج أبي يزِيد على جمل وَقد ألبس قَمِيصًا وَركب وَرَاءه من يمسِكهُ وَعَلِيهِ الطرطور وقردان على كَتفيهِ فطيف بِهِ سماطات القيروان ثَلَاثَة أَيَّام مُتَوَالِيَات ثمَّ أَمر بِحمْلِهِ إِلَى المهدية فطيف هُنَاكَ بِهِ إِلَى أَن مزقته الرِّيَاح وَلم تطل مُدَّة الْمَنْصُور فَتوفي لَيْلَة الْجُمُعَة آخر شَوَّال سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلاثمائة وغسله جَعْفَر بن عَليّ الْحَاجِب الْمَعْرُوف بِابْن الأندلسي وَصلى عَلَيْهِ ابْنه ووليّ عَهده أَبُو تَمِيم معدّ بن إِسْمَاعِيل وَدفن لَيْلًا فِي قصره بالمنصورية وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ

سنة كَامِلَة ومولده برقّادة سنة إِحْدَى وثلاثمائة وَكَانَت ولَايَته سبع سِنِين وَثَمَانِية عشر يَوْمًا وَفِي كتاب أبي الْحُسَيْن الروحي الإسكندري أَن الْمَنْصُور ولد سنة اثْنَتَيْنِ وثلاثمائة قَالَ وَولى فِي شَوَّال سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سنة وظفر بِأبي يزِيد فِي الْمحرم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَتُوفِّي يَوْم الْجُمُعَة منسلخ شَوَّال سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلاثمائة فَكَانَت ولَايَته سبع سِنِين وَفِي المقتبس لِابْنِ حيّان أَن النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد قدم عَلَيْهِ أَيُّوب ابْن أبي يزِيد الْخَارِج على المشارقة آل عبيد الله الشيعي الدعيّ الناجم بِأَرْض إفريقية رَسُولا لوالده أبي يزِيد قفيّ بِهِ رسلًا قبله يسْأَل الْقُوَّة على حَرْب هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ المغوين للْأمة وَذَلِكَ يَوْم السبت لست بَقينَ من ربيع الأول سنة خمس وَثَلَاثِينَ فَقعدَ لَهُ النَّاصِر قعُودا فخماً وأوصله إِلَى نَفسه وَأكْرم لقاءه وَسمع مِنْهُ وأجمل الرَّد عَلَيْهِ وَأمر بإنزاله فِي قصر الرصافة وقدّامه مَا يحتفل بِهِ لأمثاله فَأَقَامَ هُنَاكَ تَحت رعي وكرامة مَوْصُولَة إِلَى أَن ورد عَلَيْهِ مِنْهَا قوم من نَاحيَة إفريقية مَعَهم رَسُول لأبي يزِيد إِلَى وَلَده أَيُّوب يذكر كرّة أبي يزِيد على المسيلة من بِلَاد إِسْمَاعِيل الْمَنْصُور حفيد أبي عبيد الشيعي الْمَذْكُور وَأَنه يتأهب للنّهود نَحوه بالقيروان وَأَنَّهُمْ بَلغهُمْ أَن أَبَا الْقَاسِم مُحَمَّد الْقَائِم بن عبيد الله بعد أَن أوصى إِلَى ابْنه فِي الْإِمَارَة هلك فِي يَوْم الْأَحَد الثَّالِث عشر من شَوَّال من هَذِه السّنة يَعْنِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَولى مَكَانَهُ إِسْمَاعِيل ابْنه الملقب

بالمنصور غير أَنهم كتموا مَوته لما هم عَلَيْهِ من حَال الْحَرْب وَطلب أَبُو زيد إِلَى ابْنه أَن يستصحب مَعَه فرسَان المدد فاستبصر النَّاصِر فِي التَّوَقُّف عَن إمداد أبي يزِيد إِلَى أَن يرى مآل أمره وعلّل ابْنه أَيُّوب وَرُسُله بموعده 216 - ابْنه الْمعز لدين الله أَبُو تَمِيم معد بن إِسْمَاعِيل ابْن مُحَمَّد بن عبيد الله ولى بعد أَبِيه وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وَقيل أَربع وَعشْرين مولده بالمهدية سنة تسع عشرَة وثلاثمائة وَأقَام من يَوْم وَفَاة أَبِيه وإفضاء الْأَمر إِلَيْهِ فِي تَدْبِير الْأُمُور إِلَى يَوْم الْأَحَد سَابِع ذِي الْحجَّة من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَفِيه قعد للخاصة وَكثير من الْعَامَّة فَسَلمُوا عَلَيْهِ بالخلافة وتسمّى بالمعز لدين الله وَلم يظْهر على أَبِيه حزنا وَبعث إِلَى المهدية فِي عمومته وَأهل بَيته فَوَرَدُوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوا لَهُ وحضروا مَعَه عيد الْأَضْحَى وَخرج فصلى بِالنَّاسِ وخطب وَنحر وَكَانَ من أهل الْبَيَان والبلاغة والخطابة وَله مَعَ أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن هاني الأندلسي زعيم شعرائه وقاصر أمداحه على غلوّ فِيهَا عَلَيْهِ أنباء مَذْكُورَة وَهُوَ أحد مُلُوك بني عبيد الله العظماء وساعده الْحَال فَملك مصر دون كَبِير مشقة وانتقل إِلَيْهَا من إفريقية فِي آخر دولته فِي شعْبَان سنة 362 وَلم تزل فِي يَده وأيدي بنيه مُتَّصِلَة

بإفريقية ومنقطعة مِنْهَا نيفاً على مِائَتي سنة وَآخرهمْ ملكا بهَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله العاضد وَهُوَ ابْن يُوسُف بن عبد الْمجِيد بن مُحَمَّد ابْن عَم معدّ الْمُسْتَنْصر بِاللَّه بن عَليّ الطَّاهِر بن مَنْصُور الْحَاكِم ابْن نزار الْعَزِيز بن معد الْمعز هَذَا وَلم يتقلد سلطانهم من أول قيام الْمهْدي عبيد الله إِلَى حِين انقراضه من أَبوهُ غير خَليفَة إِلَّا الْحَافِظ والعاضد وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت لِلنِّصْفِ من جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة فِي آخر خلَافَة المستنجد بِاللَّه أبي المظفر يُوسُف بن المقتفي بن المستظهر بن الْمُقْتَدِي بن مُحَمَّد بن الْقَائِم بن الْقَادِر أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن إِسْحَاق بن المقتدر بن المعتضد بن الموفّق بن المتَوَكل ابْن المعتصم بن الرشيد بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله ابْن الْعَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم وأغزى الْمعز جوهراً خادمه وكاتبه إِلَى الْمغرب فَفتح عَلَيْهِ ثمَّ أغزاه مصر فافتتحها فِي شعْبَان سنة ثَمَان وَخمسين وثلاثمائة بعد وَفَاة كافور الإحشيدي بِسنة أَو نَحْوهَا وابتنى لَهُ الْقَاهِرَة فانتقل الْمعز إِلَيْهَا فِي آخر شَوَّال سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَوصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة لست بَقينَ من شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَاسْتقر

بقصره بِالْقَاهِرَةِ يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع رَمَضَان وَقيل الْخَامِس مِنْهُ واستخلف على إفريقية أَبَا الْفتُوح يُوسُف بن زيري بن مُنَاد الصّنهاجي وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ بلقين فوليها بعده وَلَده طائعين للعبيديين ومنتزين عَلَيْهِم إِلَى أَن تغلب الرّوم على المهدية فِي إمرة آخر هَؤُلَاءِ الصّنهاجيين وَهُوَ الْحسن بن عَليّ بن يحيى بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس بن الْمَنْصُور بن أبي الْفتُوح الْمَذْكُور وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ودام ملك الْمعز بعد استئثاره بِملك مصر إِلَى أَن توفّي بِالْقَاهِرَةِ يَوْم الْجُمُعَة لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت من شهر ربيع الأول سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة فَكَانَت خِلَافَته ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وَخَمْسَة أشهر وَعشرَة أَيَّام وَفِي كتاب أبي إِسْحَاق الرَّقِيق أَن خِلَافَته كَانَت أَرْبعا وَعشْرين سنة وَأَن عمره عِنْد وَفَاته بلغ ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين سنة مولده سنة ثَمَان عشرَة وثلاثمائة بلغت مُقَابلَته من الأَصْل المنتسخ مِنْهُ جهد الِاسْتِطَاعَة نجز الْكتاب بِحَمْد الله وَحسن عونه وتوفيقه وَالْحَمْد لله حمد الشَّاكِرِينَ وَصلى الله على سيد الْأَوَّلين والآخرين مُحَمَّد وَآله وَسلم فِي الثَّالِث عشر من شعْبَان سنة تسعين وَتِسْعمِائَة على يَدي عبيد الله المقترف الْمُعْتَرف عليّ بن مُحَمَّد الكغّاد الأندلسي لطف الله بِهِ

§1/1