الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] (¬1). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] (¬3). أمّا بعد: فما خلق الله الجن والِإنس إلا ليعبدوه وحده لا شريك له، كما قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] (¬4). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية 102. (¬2) سورة النساء، الآية 1. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتان 70 - 71. (¬4) سورة الذاريات، الآية 56.

أهمية الموضوع وأسباب اختياره

ولما كانت العبادة لا يمكن أن تُعرف أحكامها على التفصيل أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنزل عليهم الكتب؛ لبيان الأمر الذي خلق من أجله الخلق؛ " ولِإيضاحه وتفصيله لهم حتى يعبدوا الله على بصيرة، فقاموا بواجبهم على الوجه الأكمل عليهم الصلاة والسلام. ثم ختم الله تعالى الرسل بأفضلهم وإمامهم وسيدهم نبينا محمد بن عبد الله، عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، ودعا إلى الله على بصيرةٍ سرًّا وجهرًا. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (¬1). وهذه طريقته ومسلكه وسنته، يدعو إلى الله على بصيرة، ويقين، وبرهان عقلي وشرعي (¬2). 1 - أهمية الموضوع وأسباب اختياره: 1 - قد بيّن القرآن الكريم طرق الدعوة إلى الله تعالى، ويأتي في مقدمة هذه الطرق: الحكمة في الدعوة إلى الله - عز وجل - وقد أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة، فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (¬3). 2 - من تتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجد أنه كان يلازم الحكمة في جميع أموره، وخاصة في دعوته إلى الله عز وجل، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجا بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا النبي الحكيم صلى الله عليه وسلم الذي ملأ الله قلبه بالِإيمان والحكمة، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان أبو ذر يحدث أن ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية 108. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 496. (¬3) سورة النحل، الآية 125.

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فُرِجَ سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل فَفَرجَ صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست (¬1) من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي. . .» الحديث (¬2). وهذا يُثبتُ أن الحكمة من أعظم الأمور الأساسية في منهج الدعوة إلى الله تعالى، حيث امتلأ بها صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صاحب الدعوة، مع الِإيمان، وهو قضية الدعوة في لحظة واحدة، كما يؤكد قيمة وأهمية الحكمة من خلال مجيئها يحملها جبريل وهو روح القدس، في طست من ذهب، وهو أغلى المعادن، في مكة المكرمة، وهي البقعة المباركة، ليمتلئ بها صدر محمد رسول صلى الله عليه وسلم وهو خير الخلق، بعد غسله بماء زمزم وهو أطهر الماء وأفضله. كل هذا يؤكد أن الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى أمرها عظيم وشأنها كبير، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] (¬3). ثم سار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريقه وهديه في الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة، فانتشر الِإسلام في عهدهم - رضي الله عنهم - انتشارًا عظيمًا، ودخل في الِإسلام خلق لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، وجاء التابعون، وكملوا السير على هذا الطريق في الدعوة إلى الله بالحكمة، وهكذا سارت القرون الثلاثة المفضلة ومن بعدهم من أهل العلم والِإيمان، فأظهر الله الِإسلام وأهله، وأذَلَّ الشرك وأهله وأعوانه. ¬

(¬1) إناء كبير مستدير. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/ 460، والمعجم الوسيط مادة (الطسْت) 2/ 557. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الِإسراء؟ 1/ 458، ومسلم، واللفظ له، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات وفرض الصلوات، 1/ 148. (¬3) سورة البقرة، الآية 269.

3 - من الناس من يظن أو يعتقد أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين، والرفق، والعفو، والحلم. . . فحسب. وهذا نقص وقصور ظاهر لمفهوم الحكمة؛ فإن الحكمة قد تكون: باستخدام الرفق واللين، والحلم والعفو، مع بيان الحق علمًا وعملاً واعتقادًا بالأدلة، وهذه المرتبة تستخدم لجميع الأذكياء من البشر الذين يقبلون الحق ولا يعاندون. وتارة تكون الحكمة باستخدام الموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، وهذه المرتبة تستخدم مع القابل للحق المعترف به، ولكن عنده غفلة وشهوات وأهواء تصده عن اتباع الحق. وتارة تكون الحكمة باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، بحُسن خلق، ولطف، ولين كلام، ودعوة إلى الحق، وتحسينه بالأدلة العقَلية وَالنقلية، ورد الباطل بأقرب طريق وأنسب عبارة، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل لا بدَّ أن يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد. وتارة تكون الحكمة باستخدام القوة: بالكلام القوي، وبالضرب والتأديب وإقامة الحدود لمن كان له قوة وسلطة مشروعة، وبالجهاد في سبيل الله تعالى بالسيف والسنان تحت لواء ولي أمر المسلمين مع مراعاة الضوابط والشروط التي دلَّ عليها الكتاب والسنة. وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد ظلم وطغى، ولم يرجع للحق بل رده ووقف في طريقه (¬1). وما أحسن ما قاله الشاعر: دعا المصطفى دهرًا بمكةَ لم يُجب ... وقد لان منه جانبٌ وخطابُ فلما دعا والسيفُ صلتٌ بِكفِّهِ ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا (¬2) ¬

(¬1) انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/ 194، وتفسير ابن كثير 3/ 416 و 4/ 315، وفتاوى ابن تيمية 2/ 45 و19/ 164. (¬2) ذكر سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز في مجموع فتاواه. 3/ 184 و 204: أن هذا الشعر يروى لحسان بن ثابت رضي الله عنه.

وصدق هذا القائل فقد قال: قولًا صادقًا مطابقًا للحق (¬1)؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعرِ حكمة» (¬2). 4 - الحكمة تجعل الداعي إلى الله يقدر الأمور قدرها فلا يزهد في الدنيا والناس بحاجة إلى النشاط والجد والعمل، ولا يدعو إلى التبتل والانقطاع والمسلمون في حاجة إلى الدفاع عن عقيدتهم وبلادهم، ولا يبدأ بتعليم الناس البيع والشراء وهم في مسيس الحاجة إلى تعلم الوضوء والصلاة. 5 - الحكمة تجعل الداعية إلى الله يتأمل ويراعي أحوال المدعوين وظروفهم وأخلاقهم وطبائعهم، والوسائل التي يُؤتَون من قبلها، والقدر الذي يبين لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع والتشويق في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، ويدعو إلى الله بالعلم لا بالجهل، ويبدأ بالمهم فالذي يليه، ويُعلم العامة ما يحتاجونه بألفاظ وعبارات قريبة من أفهامهم ومستوياتهم، ويخاطبهم على قدر عقولهم، فالحكمة تجعل الداعية ينظر ببصيرة المؤمن، فيرى حاجة الناس فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب، وتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المنقذ الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم واطمئنانهم، وهذا كله من الدعوة إلى الله بالحكمة التي هي الطريق الوحيد للنجاح. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 10/ 540، 6/ 531، وشرح النووي على صحيح مسلم 2/ 33، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/ 354. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجَزِ والحداء وما يكره منه، 10/ 537.

والمهم أن تكون أقوال الداعية إلى الله - تعالى - وأفعاله وتدبيراته وأفكاره نابعة من الحكمة، موافقة للصواب، غير متقدمة على أوانها ولا متأخرة، لا زيادة فيها عما ينبغي ولا نقص، مجتهدًا في معرفة نفعه وصلاحه، سالكًا أقرب طريق يوصل إلى ذلك. وهذا يؤكد أن دراسة الحكمة في الدعوة إلى الله - تعالى - من أهم المهمات، ومن أعظم القربات، وأنها بحاجة إلى من يبرزها في صورة ميسرة؛ ليستفيد منها الدعاة في دعوتهم إلى الله - عز وجل -؛ ليقدموا للناس الِإسلام بالطُّرق السليمة التي توصله إليهم بيسر وسهولة، وهذا يحتاج إلى معرفة أحوال المدعوين، سواء كانت اعتقادية أو نفسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ثم معرفة الشُّبَه لديهم؛ لِإزالتها بالطرق المناسبة لأحوالهم، وهذا كله يحتاج إلى دراسة علمية دقيقة متكاملة متأنية، ولا سيما أن هذا الموضوع لم يتناوله أحد من الباحثين في دراسة مستقلة شاملة تستوعب جميع جوانبه المختلفة. ولهذه الأهمية، وهذه الأسباب، وللعديد من غيرها، وحُبّا في خدمة هذا الموضوع عقدت العزم، واستعنت بالله، وقررت بعد الاستخارة والاستشارة أن أجعل موضوع رسالتي " الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى ". والله أسأل أن يلهمني رشدي، ويعيذني من شر نفسي، ويوفقني للهدى والسداد، وجميع المسلمين.

الدراسات السابقة

2 - الدراسات السابقة: بالنسبة للدراسات السابقة لهذا الموضوع فحاصل ما اطلعت عليه منها ما يأتي: * لقمان الحكيم وحكمه: لمؤلفه محمد خير رمضان. وقد حاول تعريف الحكمة لغةً واصطلاحًا، وترجم للقمان الحكيم، وسرد بعض الآثار في حِكَم لقمان، وربما يكون بعضها من الإسرائيليات، ولم يتعرض في كتابه للحكمَة في الدعوة إلى الله تعالى. * حكمة الدعوة: لرفاعي سرور. وقد ذكر بعض الجوانب لتعريف الحكمة، ثم ذكر قيام الجماعة الواحدة، وأحكام الفكر الِإسلامي، ولم يتعرض في كتابه إلى شيء من جوانب الخطة التي وضعتها. * وما كتبه ابن القيم - رحمه الله تعالى - حول الحكمة في كتابه: " مدارج السالكين "، فقد اقتصر على تعريفها، وأركانها، وأنواعها، ولم يتعرض - رحمه الله - إلى الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن موضوع كتابه عن: منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] * وما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، في كتابه: " الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة "، إذ خصص صفحتين فقط من الفصل السابع عشر من هذا الكتاب عن الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى. ولم تحظ الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى -بعد- بمؤلَّف مستقل شامل يتطرق للموضوع من جميع جوانبه في دراسة علمية متخصصة شاملة، دقيقة متكاملة.

خطة الرسالة

3 - خطة الرسالة: وقد كانت خطة الرسالة كما يلي: المقدمة: الفصل الأول: الحكمة مفهومها وضوابطها: المبحث الأول: مفهوم الحكمة. المبحث الثاني: أركانها. المبحث الثالث: أنواعها. المبحث الرابع: طرق اكتسابها. الفصل الثاني: مواقف الحكمة: المبحث الأول: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني: مواقف الصحابة رضي الله عنهم. المبحث الثالث: مواقف التابعين رحمهم الله. المبحث الرابع: مواقف تابعي التابعين رحمهم الله. المبحث الخامس: نماذج من مواقف الحكمة عبر العصور. الفصل الثالث: حكمة القول مع المدعوين: تمهيد: إنزال الناس منازلهم ومراعاة أحوالهم. المبحث الأول: حكمة القول مع الملحدين. المبحث الثاني: حكمة القول مع الوثنيين. المبحث الثالث: حكمة القول مع أهل الكتاب. المبحث الرابع: حكمة القول مع المسلمين. الفصل الرابع: حكمة القوة الفعلية مع المدعوين: تمهيد: مراتب الدعوة بحسب مراتب البشر. المبحث الأول: حكمة القوة الفعلية مع الكفار.

منهجي في الرسالة

المبحث الثاني: حكمة القوة الفعلية مع عصاة المسلمين. الخاتمة: وفيها: * ملخص البحث. * أهم النتائج. * التوصيات. الفهارس: 1 - فهرس المراجع والمصادر. 2 - فهرس الموضوعات. 4 - منهجي في الرسالة: استخدمت في هذا البحث المنهج الاستردادي التاريخي التحليلي، حيث تتبعت النصوص من القرآن والسنة، ومواقف النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله بالحكمة، وأخذت مواقف الصحابة وأتباعهم فمن بعدهم التي سلكوا فيها طريق الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى من أمهات الكتب. كما استخدمت منهج الاستدلال؛ لأني احتجت إلى الاستدلال العقلي الذي ينبني على قواعد التأمل والتفكر في الوصول إلى الحقائق، واستخدمت هذا المنهج كثيرًا في حكمة القول مع الملحدين، والوثنيين، وأهل الكتاب. وقد راعيت الأمور التالية: 1 - عزوت الآيات القرآنية إلى سورها، وذكرت اسم السورة ورقم الآية منها.

2 - خرجت الأحاديث والآثار من مصادرها الأصلية. 3 - حاولت الاقتصار على الأحاديث الصحيحة أو الحسنة. 4 - أشرت إلى من صحح الحديث أو حسنه من العلماء المحققين إذا كان في غير الصحيحين ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. 5 - حرصت على جمع المعلومات من المصادر الأصلية مباشرة، ورجعت إلى أكثر من مصدر في المسألة الواحدة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، مع الاستفادة من المراجع الحديثة. 6 - بينت في الحاشية بعض الكلمات التي أرى أنها في حاجة إلى البيان. 7 - حرصت على رسم الآيات القرآنية بالرسم العثماني، اتباعًا لرسم المصحف الشريف، إلا بعض الأحرف؛ لعدم وجودها في الكمبيوتر. 8 - ترجمت لأصحاب المواقف الحكيمة ما عدا الصحابة رضي الله عنهم كما ترجمت لغير المشهورين من الأعلام. 9 - عملت فهارس تفصيلية للآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، والآثار، وقد ميزت الآثار بذكر اسم صاحب الأثر أمامه، وفهرس الأبيات الشعرية، وفهرس الأعلام المترجم لهم، والمصادر والمراجع، والموضوعات. ولا أدَّعي الكمال، فالكمال من صفات الله تعالى، والنقص والتقصير واختلاف وجهات النظر من صفات الِإنسان، ولكني قد بذلت قصارى جهدي؛ ليخرج هذا البحث المتواضع على الوجه المطلوب، فما كان من صواب وسداد فمن الواحد المنان، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأستغفر الله من ذنبي كله: هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، إنه سميع مجيب.

الشكر والتقدير

5 - الشكر والتقدير: هذا، والشكر والحمد لله الكريم الحكيم الذي أسبغ علي النعم الظاهرة والباطنة، ووفق عبده الفقير إليه وحده لمعالجة هذا الموضوع، وهو أهل الثناء والمجد. وفي مقامي هذا أمتثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناسَ» (¬1). فأشكر أستاذي الفاضل المشرف على هذه الرسالة، فضيلة الأستاذ المشارك الدكتور / فضل إلهي، رئيس قسم الدعوة والاحتساب بكلية الدعوة والِإعلام، بجامعة الِإمام محمد بن سعود الِإسلامية، الذي بذل الكثير من وقته وراحته، ولم يبخل علي بالرأي والمشورة والتوجيهات القيمة لرفع مستوى هذه الرسالة حتى خرجت بهذه الصورة، فقد أفادني كثيرا، فجزاه الله خيرا، وأجزل له الثواب، إنه قريب مجيب الدعوات. كما أشكر الأستاذين الفاضلين: الدكتور / محمد بن عبد الله الفهيد، الأستاذ بكلية أصول الدين، قسم السنة وعلومها، والدكتور / أحمد بن محمد أبابطين، وكيل قسم الدعوة والاحتساب بكلية الدعوة والِإعلام، على تفضلهما بقبول عضوية مناقشة الرسالة وإعطاء الكثير من وقتهما وراحتهما لقراءة الرسالة، فجزاهما الله خيرا. وكذلك أتقدم بالشكر والتقدير لجامعة الِإمام محمد بن سعود الإسلامية، على ما تقوم به من جهود عظيمة في خدمة الِإسلام والمسلمين، فجزى الَلّه القائمين عليها خير الجزاء. كما أتقدم بالشكر والتقدير للمسئولين في كلية الدعوة والِإعلام، وعلى رأسهم فضيلة عميد الكلية الدكتور / زيد بن عبد الكريم الزيد، والدكتور مسفر البشر، وكيل الدراسات العليا بالكلية على ما يبذلونه من جهود في خدمة العلم وطلابه، فجزاهم الله خير الجزاء، وضاعف مثوبتهم إنه سميع الدعاء. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الأدب، باب في شكر المعروف 4/ 255، والترمذي بنحوه، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك 4/ 339، وأحمد 2/ 295، 5/ 211، وانظر: صحيح أبي داود للشيخ الألباني 3/ 913، وصحيح الترمذي للألباني 2/ 185.

الفصل الأول الحكمة مفهومها وضوابطها

الفصل الأول الحكمة مفهومها وضوابطها المبحث الأول: مفهوم الحكمة. المبحث الثاني: أنواع الحكمة ودرجاتها المبحث الثالث: أركان الحكمة. المبحث الرابع: طرق اكتسابها.

المبحث الأول مفهوم الحكمة

المبحث الأول مفهوم الحكمة المطلب الأول: تعريفها في اللغة. المطلب الثاني: تعريفها في الاصطلاح الشرعي. المطلب الثالث: العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي.

المطلب الأول تعريف الحكمة

المطلب الأول تعريف الحكمة في اللغة جاءت الحكمة في اللغة بعدة معان، منها: 1 - تستعمل بمعنى: العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل. وأحكم الأمر: أتقنه فاستحكم ومنعه عن الفساد (¬1). 2 - والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم (¬2). 3 - والحكيم: المتقن للأمور، يقال للرجل إذا كان حكيمًا: قد أحكمته التجارب (¬3). 4 - والحَكَمُ والحكيم هما بمعنى: الحاكم والقاضي، والحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحكِمُ الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى: مفعل (¬4). 5 - والحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل (¬5). ¬

(¬1) القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، المتوفى 817هـ، باب الميم، فصل الحاء، ص1415، وانظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء12/ 143، ومختار الصحاح، مادة: حكم، ص62. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الكاف، مادة حكم 1/ 119، وانظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، 12/ 140، والمعجم الوسيط، مادة: حكم: 1/ 190. (¬3) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، 12/ 143، ومختار الصحاح، مادة: حكم، ص 62. (¬4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الكاف، مادة: حكم 1/ 419. (¬5) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، كتاب الحاء، مادة: حكم ص 127.

6 - والحكيم: المانع من الفساد، ومنه سُمِّيت حَكَمة اللجام؛ لأنها تمنع الفرَس من الجري والذهاب في غير قصد، والسورة المحكمة: الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزاد عليها ما ليس منها. والحكمة من هذا؛ لأنها تمنع صاحبها من الجهل، ويقال: أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد، فهو محكم وحكيم على التكثير (¬1). 7 - والحَكَمَةُ: ما أحاط بحنكي الفرس، سميت بذلك؛ لأنها تمنعه من الجري الشديد، وتذلل الدابة لراكبها، حتى تمنعها من الجماح، ومن كثير من الجهل، ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل (¬2). 8 - والحُكْمُ: هو المنع من الظلم، وسميت حكمة الدابة، لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه، وأحكمته إذا أخذت على يديه، والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، وتقول: حكمت فلانًا تحكيمًا: منعته عما يريد (¬3). ومما تقدم يتضح ويتبين أن الحكمة يظهر فيها معنى المنع، فقد استعملت في عدة معان تتضمن معنى المنع: فالعدل: يمنع صاحبه من الوقوع في الظلم. والحلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الغضب. ¬

(¬1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 288 بتصرف يسير. (¬2) انظر: المصباح المنير، لأحمد بن محمد الفيومي، المتوفى سنة 770هـ، مادة: الحكم، 1/ 145، وتاج العروس 8/ 253. (¬3) مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس 2/ 91، باب الحاء والكاف، مادة: حكم.

والعلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الجهل. والنّبوة، والقرآن، والِإنجيل: فالنبي إنما بعث لمنع من بعث إليهم من عبادة غير الله، ومن الوقوع في المعاصي والآثام، والقرآن والِإنجيل وجميع الكتب السماوية أنزلها الله تتضمن ما يمنع الناس من الوقوع في الشرك وكل منكر وقبيح. ومن فسر الحكمة بالمعرفة فهو مبني على أن المعرفة الصحيحة فيها معنى المنع، والتحديد، والفصل بين الأشياء، وكذلك الِإتقان، فيه منع للشيء المتقن من تطرق الخلل والفساد إليه، وفي هذا المعنى قال شيخ الِإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " الِإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه لا جميع معناه " (¬1). ¬

(¬1) مجموعة الرسائل الكبرى، لابن تيمية 2/ 7.

المطلب الثاني تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي

المطلب الثاني تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي ذكر العلماء مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية (¬1) واختلفوا على أقوال كثيرة، فقيل: الحكمة؛ النبوة، وقيل: القرآن والفقه به: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وقيل: الإصابة في القول والفعل، وقيل: معرفة الحق والعمل به، وقيل: العلم النافع والعمل الصالح، وقيل: الخشية لله، وقيل: السنة، وقيل: الورع في دين الله، وقيل: العلم والعمل به، ولا يسمى الرجل حكيماً إلا إذا جمع بينهما، وقيل: وضع كل شيء في موضعه. وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة (¬2). ¬

(¬1) جاء لفظ: الحكمة في كتاب الله - تعالى - في أكثر من تسعة عشر موضعًا، انظر: سورة البقرة، آيات: 129، 151، 231، 251، 269، وآل عمران: 48، 81، 164، والنساء: 54، 113، والمائدة: 110، والنحل: 125، والإسراء: 39، ولقمان: 12، والأحزاب: 34، وص: 20، والزخرف: 63، والقمر: 5، والجمعة: 2. وجاء لفظ الحكمة في السنة النبوية في عدة مواضع، انظر معظمها: في البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الإغتباط في العلم والحكمة، 1/ 165، برقم 73، وكتاب فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس - رضي الله عنهما -، 7 برقم 3756، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، برقم 7270، وكتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، 8/ 98، 99 برقم 4388، 4390، وكتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجَز والحداءِ وما يكره منه، 10/ 573، برقم 6145، وباب الحياء، 10/ 521 برقم 6117. ومسلم، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه، 1/ 71 - 73 برقم 51، وباب عدد شعب الإيمان، 1/ 64، برقم 37، وكتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه وغيره فعمل بها وعلمها، 1/ 559 برقم 816 والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل العلم على العبادة / 51، برقم 2687، وكتاب البر والصلة، باب ما جاء في التجارب، 4/ 379 برقم2033، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحكمة، 2/ 1395 برقم 4169، والدارمي، في المقدمة، باب من هاب الفتيا مخافة السقط، 1/ 75 برقم 293، وباب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله، 1/ 90 برقم395، وباب فضل العلم والعالم، 1/ 84، برقم 357، وكتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن، 2/ 312 برقم 3330. (¬2) انظر: تفسير مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية في المصادر التالية: جامع البيان في تفسير القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، 1/ 436، 3/ 60، 61 وتفسير غرائب القرآن للنيسابوري المطبوع بهامش تفسير الطبري 1/ 413، وتفسير البغوي1/ 256، 1/ 116، وزاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 1/ 324، 1/ 146، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/ 131، 3/ 60، 61، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 184، 1/ 323، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي 1/ 387، 3/ 41، وفتح القدير للشوكاني 1/ 289، 1/ 144، وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا 1/ 472، 2/ 29، 3/ 75، 3/ 263، وتفسير المراغي 1/ 214، 2/ 19 3/ 41، وتفسير السعدي 1/ 173، 1/ 290، 6/ 154، وفي ظلال القرآن لسيد قطب 1/ 312، 1/ 139، 399، 2/ 997، وصفوة المفاهيم والآثار لعبد الرحمن الدوسري 2/ 360، 416 3/ 498، 499 ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 6/ 66، 67، 9، 23، ومجموع فتاوى شيخ الِإسلام ابن تيمية 19/ 170، ومدارج السالكين لابن القيم 2/ 478، 479، والتفسير القيم لابن القيم ص 227، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاتي 1/ 67، 70، 6/ 531، 7/ 100، 10/ 522، 529/ 540، وشرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 7، 33، 6/ 98، 15/ 12، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 6/ 182، 7/ 58، 10/ 327، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/ 354، 355.

وقد ذكر بعضهم تسعة وعشرين قولًا في تعريف الحكمة (¬1). " وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة مصدر من الِإحكام، وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حكمة، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة. وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه. فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به من السفه، وبه يعلم الامتناع من السفه الذي هو كل فعل قبيح. . " (¬2). وعند التأمل والنظر نجد أن التعريف الشامل الذي يجمع ويضم جميع هذه الأقوال في تعريف الحكمة هو: " الِإصابة في الأقوال والأفعال، ووضع كل شيء في موضعه ". ¬

(¬1) انظر: تفسير البحر المحيط، لمحمد بن يوسف، أبو حيان الأندلسي 2/ 320. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 330، وانظر: البحر المحيط 2/ 320، قال الإمام النووي - رحمه الله - وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة، وقد صفا لنا منها: أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق والعمل به والصد عن اتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك. قال أبو بكر بن دريد: " كل كلمة وعظتك وزجرتك أودعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم "، شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 33.

فجميع الأقوال تدخل في هذا التعريف؛ لأن الحكمة مأخوذة من الحكم وفصل القضاء الذي هو بمعنى الفصل بين الحق والباطل، يقال: إن فلاناً لحكيم بيِّن الحكمة، يعني: أنه لبين الِإصابة في القول والفعل، فجميع التعاريف داخلة في هذا القول، لأن الِإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها، وعلم، ومعرفة، والمصيب عن فهمِ منه بموِاضع الصواب يكون في جميع أموره: فهمًا، خاشيًا لله، فقيهًا عالما، عاملا بعلمه، ورعًا في دينه. . . والحكمة أعم من النبوة، والنبوة بعض معانيها وأعلى أقسامها؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مسددون، مفهمون، وموفقون لِإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، وفي جميع الأمور (¬1). والحكمة في كتاب الله نوعان (¬2) مفردة، ومقرونة بالكتاب. فالمفردة كقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (¬3). وقوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] (¬4). وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12] (¬5). وهذه الحكمة فسرت بما تقدم من أقوال العلماء في تعريف الحكمة، وهذا النوع كثير في كتاب الله تعالى. ¬

(¬1) انظر: تفسير الطبري 1/ 436، 3/ 61. (¬2) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم 2/ 478، والتفسير القيم لابن القيم، ص227. (¬3) سورة النحل، الآية 125. (¬4) سورة البقرة، الآية 269. (¬5) سورة لقمان، الآية 12.

أما الحكمة المقرونة بالكتاب، فهي السنة من: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وتقريراته، وسيرته، كقوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129] (¬1) وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231] (¬2) {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] (¬3) {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] (¬4). وغير ذلك من الآيات. وممن فسر الحكمة المقرونة بالكتاب بالسنة: الِإمام الشافعي والِإمام ابن القيم، وغيرهما من الأئمة (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 129. (¬2) سورة البقرة، الآية 231. (¬3) سورة آل عمران، الآية 164. (¬4) سورة الجمعة، الآية 2. (¬5) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2/ 478، والتفسير القيم ص 227.

المطلب الثالث العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي

المطلب الثالث العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي عند التأمل والنظر نجد علاقةً قويةً بين المعنى اللغوي والشرعي، فكلاهما يجعل العلم النافع، والعمل الصالح الصواب المحكم المتقن أصلًا من أصول الحكمة، وعلى هذا فيكون التعريف الجامع المانع للحكمة هو: " الإصابة في القول والعمل والاعتقاد ووضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان ". والله أعلم. وبهذا التعريف يتبين ويتضح أن الحكمة في الدعوة إلى الله لا تقتصر على الكلام اللين، أو الترغيب، أو الحلم، أو الرفق، أو العفو. . . بل هي إتقان الأمور وإحكامها بأن تنزل جميع الأمور منازلها، فيوضع القول الحكيم والتعليم والتربية في مواضعها، وتوضع الموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها، ومجادلة الظالم المعاند في موضعها، كما قال عزّ وجلّ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] (¬1). وُيوضع الزجر، والقوة، والغلظة، والشدة، والسيف في مواضعها، وهذا هو عين الحكمة. وقد قال أحكم الحاكمين لسيد الحكماء والناس أجمعين: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] (¬2). كل ذلك بإحكام وإتقان ومراعاة لأحوال المدعوين، والأزمان، والأماكن في مختلف العصور والبلدان، وبإحسان القصد والرغبة فيما عند الكريم المنان (¬3). ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية 46. (¬2) سورة التوبة، الآية 73، وانظر: سورة التحريم، الآية 9. (¬3) انظر: فتاوى شيخ الإسلام 19/ 164، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 1/ 194، والتفسير القيم ص 344، وتفسير ابن كثير 3/ 416، وزاد الداعية إلى الله للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص15.

ومن أراد البرهان العملي على ذلك فعليه أن ينظر إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعاملته لأصناف الناس، وهو الذي أعطاه الله من الحكمة مما لم يعطِ أحدًا من العالمين (¬1). ¬

(¬1) انظر: التفسير القيم لابن القيم ص 344، الهامش.

المبحث الثاني أنواع الحكمة ودرجاتها

المبحث الثاني أنواع الحكمة ودرجاتها المطلب الأول: أنواع الحكمة. المطلب الثاني: درجات الحكمة العملية.

المطلب الأول أنواع الحكمة

المطلب الأول أنواع الحكمة الحكمة نوعان: النوع الأول: حكمة علمية نظرية، وهي الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقًا وأمرًا، قدرًا وشرعًا. النوع الثاني: حكمة عملية، وهي وضع الشيء في موضعه (¬1). فالحكمة النظرية مرجعها إلى العلم والِإدراك، والحكمة العملية مرجعها إلى فعل العدل والصواب، ولا يمكن خروج الحكمة عن هذين المعنيين؛ لأن كمال الِإنسان في أمرين: أن يعرف الحق لذاته، وأن يعمل به، وهذا هو العلم النافع والعمل الصالح. وقد أعطى الله عزّ وجلّ أنبياءه ورسله ومن شاء من عباده الصالحين هذين النوعين، قال تعالى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم. {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} [الشعراء: 83] وهو الحكمة النظرية، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83] (¬2). وهو الحكمة العملية. وقال تعالى لموسى، صلى الله عليه وسلم: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه: 14] وهو الحكمة النظرية {فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] (¬3) وهو الحكمة العملية. وقال عن عيسى صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30] وهو الحكمة النظرية، {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] (¬4). وهو الحكمة العملية. ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2/ 478. (¬2) سورة الشعراء، الآية 83. (¬3) سورة طه، الآية 14. (¬4) سورة مريم، الآيتان 30 - 31.

وقال في شأن محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] وهو الحكمة النظرية، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] (¬1) وهو الحكمة العملية. وقال في جميع الأنبياء. {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [النحل: 2] وهو الحكمة النظرية، ثم قال: {فَاتَّقُونِ} [النحل: 2] (¬2). وهو الحكمة العملية (¬3). ¬

(¬1) سورة محمد، الآية 19. (¬2) سورة النحل، الآية 2. (¬3) انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 7/ 68.

المطلب الثاني درجات الحكمة العملية

المطلب الثاني درجات الحكمة العملية الحكمة العملية لها ثلاث درجات: الدرجة الأولى: " أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعدِّيه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه ". لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها، ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر، كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه وقدره، ولا تتعدى بها حدها فتكون متعديًا مخالفًا للحكمة، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة، ولا تؤخرها عنه فتفوتها، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعًا وقدرًا، فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض، وتعدي الحق كسقيها فوق حاجتها، بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد، وتعجيلها قبل وقتها كحصاده قبل إدراكه وكماله، وهذا يكون فعل ما ينبغي على الوجه الأكمل في الوقت المناسب (¬1). الدرجة الثانية: معرفة عدل الله في وعيده، وإحسانه في وعده، وعدله في أحكامه الشرعية والكوِنية الجارية على الخلائق، فإنه لا ظلم فيها ولا جور، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] (¬2) وكذلك معرفة بره في منعه، فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا ينقص خزائنه الِإنفاق، ولا يغيض ما في يمينه سعة عطائه، فهو سبحانه لا يضع بره وفضله إلا في موضعه ووقته بقدر ما تقتضيه حكمته، فما أعطى إلا بحكمته ولا منع إلا بحكمته، ولا أضل إلا بحكمته. ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين 2/ 479. (¬2) سورة النساء، الآية 40، وانظر: مدارج السالكين 2/ 481.

الدرجة الثالثة: البصيرة، وهي قوة الإدراك والفطنة والعلم والخبرة (¬1). والبصيرة هي أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة ثم المخلصين من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعلى درجات العلماء (¬2) قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (¬3) فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يخبر الناس أن هذه طريقته ومسلكه وسنته وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله على بصيرة من ذلك، ويقين، وبرهان، وعلم، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بصيرة ويقين، وبرهان عقلي وشرعي (¬4) والبصيرة في الدعوة إلى الله في ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن يدعو الداعية على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالمًا بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجبًا وهو في شرع الله غير واجب فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرمًا وهو في دين الله غير محرم، فيحرم على عباد الله ما أحله الله لهم. الأمر الثاني: أن يكون على بصيرة في حال المدعو، فلا بد من معرفة حال المدعو: الدينية، والاجتماعية، والاعتقادية، والنفسية، والعلمية، والاقتصادية حتى يقدم له ما يناسبه. ¬

(¬1) المعجم الوسيط، مادة: بصر 1/ 59. (¬2) انظر: مدارج السالكين 2/ 482. (¬3) سورة يوسف، الآية 108. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 496، وتفسير السعدي 4/ 63.

الأمر الثالث: أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة (¬1) وقد رسم الله عز وجل طرق الدعوة ومسالكها في آيات كثيرة منها: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] (¬2) وهذه الآية قاعدة قوية متينة في الدعوة إلى الله تعالى ثم تكون هذه القاعدة متفرعة إلى ثلاثة أبواب: وهي الدعوة إلى الله: بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن (¬3) قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (¬4) قلتَ: والباب الرابع: الدعوة إلى الله باستخدام اَلقوة عند الحاجة إليها كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] (¬5). ولا شك أن أحسن الطرق في دعوة الناس طريقة القرآن، ومخاطبته لهم ودعوته، ومجادلتهم (¬6). ¬

(¬1) انظر: زاد الداعية إلى الله للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص7. (¬2) سورة يوسف، الآية 108. (¬3) هذا التقسيم الجيد للقاعدة والثلاثة الأبواب، للشيخ عبد القادر شيبة الحمد في محاضرة بعنوان: طرق الدعوة إلى الله، ألقيت بجامع الراجحي بالربوة، بالرياض، عام 1408هـ. (¬4) سورة النحل، الآية 125. (¬5) سورة العنكبوت، الآية 46. (¬6) انظر: فتاوى ابن تيمية 19/ 158 - 173.

المبحث الثالث أركان الحكمة

المبحث الثالث أركان الحكمة توطئة: المطلب الأول: العلم. المطلب الثاني: الحلم. المطلب الثالث: الأناة.

توطئة للحكمة أركان ودعائم تقوم عليها، وكل خلل في الداعية إلى الله فسببه الإخلال بالحكمة، فأكمل الناس: أوفرهم منها نصيبًا، وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلهم منها ميراثًا. وأركان الحكمة التي تقوم عليها، ثلاثة هي: العلم، والحلم، والأناة. وآفاتها وأضدادها، ومعاول هدمها: الجهل، والطيش، والعجلة، فلا حكمة لجاهلٍ، وطائشٍ، ولا عجولٍ (¬1). وسأتحدث عن هذه الأركان بالتفصيل - إن شاء الله تعالى - في المطالب الآتية: المطلب الأول: العلم. المطلب الثاني: الحلم. المطلب الثالث: الأناة. ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم2/ 480.

المطلب الأول العلم

المطلب الأول العلم العلم من أعظم أركان الحكمة، ولهذا أمر الله به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19] (¬1). وقد بوَّب الِإمام البخاري - رحمه الله - لهذه الآية بقوله: " باب: العلم قبل القول والعمل " (¬2). وذلك أن الله أمر نبيه بأمرين: بالعلم، ثم العمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ثم أعقبه بالعمل في قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] فدل ذلك على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأن العلَم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل (¬3). والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون علم من غير الرسول، لكن في أمور دنيوية، مثل: الطب، والحساب، والفلاحة، والتجارة (¬4). ولا يكون الداعية إلى الله حكيمًا إلا بالعلم الشرعي، وإن لم يصحب الداعية من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه، فسلوكه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، ومسدود عليه سبيل الهدى والفلاح، وهذا إجماع من العارفين. ¬

(¬1) سورة محمد، الآية 19. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل 1/ 159. (¬3) انظر. فتح الباري 1/ 160، وحاشية ثلاثة الأصول لمحمد بن عبد الوهاب، جمع عبد الرحمن بن قاسم الحنبلي، ص 15. (¬4) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/ 136، 6/ 388.

أقسام العلم الذي تقوم عليه الحكمة

ولا شك أنه لا ينهى عن العلم إلا قُطاع الطريق، ونوَّاب إبليس وشرطه (¬1). [أقسام العلم الذي تقوم عليه الحكمة] وقد قسم الإمام ابن تيمية - رحمه الله - العلم النافع - الذي هو أحد دعائم الحكمة وأسسها - إلى ثلاثة أقسام، فقال رحمه الله: " والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثه الأنبياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافِر» (¬2). وهذا العلم ثلاثة أقسام: القسم الأول: علم بالله، وأسمائه، وصفاته، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص وآية الكرسي ونحوهما. القسم الثاني: علم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص، والوعد، والوعيد، وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك. القسم الثالث: العلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه: العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام، ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة، فإن ذلك جزءٌ من جزءٍ من علم الدين. ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين، للإمام ابن القيم 2/ 464. (¬2) سنن أبي داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم 3/ 317، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة 5/ 49، وابن ماجه في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم 1/ 80، وانظر: صحيح ابن ماجه للألباني 1/ 43.

والناس إنما يغلطون في هذه المسائل؛ لأنهم يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرُب رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أوتي القرآن ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترُجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر» (¬1). فقد يكون الرجل حافظا لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمنًا، بل يكون منافقًا، فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه، وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان، وأما الذي أُوتي العلم والإيمان، فهو مؤمن حكيمٌ وعليمٌ، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته (¬2). والعلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه، فإن العلم النافع - الذي هو أعظم أركان الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتيَ خيرًا كثيرًا - هو ما كان مقرونًا بالعمل، أما العلم بلا عمل، فهو حجة على صاحبه يوم القيامة، ولهذا حذر الله المؤمنين ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام 9/ 555، ومسلم في صلاة المسافرين، باب فضيلة حافظ القرآن 1/ 549. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية 11/ 396، 397 بتصرف، والفتاوى أيضًا 7 - 25، وقال ابن تيمية رحمه الله: " العلوم خمسة: فعلم هو حياة الدين، وهو علم التوحيد، وعلم هو غذاء الدين، وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث، وعلم هو لواء الدين، وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه منها كما قال ابن مسعود، وعلم هو داء الدين، وهو الكلام المحدث، وعلم هو هلاك الدين، وهو علم السحر ونحوه ". انظر: فتاوى ابن تيمية 10/ 145.

من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمةً بهم، وفضلاً منه وإحسانًا، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] (¬1). وحذرهم عن كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم الله - عز وجل - لا يُكلفّ الله نفسا إلا وسعها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] (¬2). وهذه الآية، وإن كانت نازلة في أهل الكتاب وما كتموه من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله من البينات الدالات على الحق، المظهرات له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين: كَتْم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، لعنه الله، ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم عن رحمة الله، فجُوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء؛ لسعيه في مصلحة الخلق وإصلاح أديانهم؛ ولأنه قربهم من رحمة الله، فَجوزيَ من جنس عمله (¬3). ¬

(¬1) سورة الصف، الآيتان 2، 3. (¬2) سورة البقرة، الآية 159. (¬3) انظر: تفسير عبد الرحمن بن ناصر السعدي 1/ 186، وتفسير البغوي 1/ 134، وابن كثير 1/ 200.

وقد بين صلى الله عليه وسلم أن «من سئِل عن علمٍ يَعْلمُه فَكتَمَهُ أُلجِمَ يوم القيامة بلجام من نار» (¬1). فتبين بذلك وغيره أن العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به، ولهذا قال سفيان (¬2) في العمل بالعلم والحرص عليه: " أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله " (¬3). وقال رحمه الله: " يُرادُ للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والِإنصات، والنشر " (¬4). وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: تعلموا، تعلموا فإذا علمتم فاعملوا (¬5). وقال رضي الله عنه: إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبخ نفسه (¬6). وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: " يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقواماً يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقًا فيباهي بعضهم بعضا، حتى أن الرجل ليغضب ¬

(¬1) الترمذي، في العلم، باب ما جاء في كتمان العلم 5/ 29، وأبو داود في العلم، باب كراهية منع العلم 3/ 321، وابن ماجه في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه 1/ 98، وأحمد 2/ 263، 305، وانظر. صحيح ابن ماجه 1/ 49، وصحيح الترمذي 2/ 336. (¬2) سفيان بن عيينة بن أبي عمران، الإمام الكبير شيخ الإسلام، ولد سنة 107هـ، في النصف من شعبان، وعاش (91) سنة. انظر: سير أعلام النبلاء 8/ 454 - 474. (¬3) أخرجه الدارمي في سننه، في المقدمة، باب في فضل العلم والعالم 1/ 81. (¬4) المصدر السابق 1/ 81. (¬5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/ 195. (¬6) المرجع السابق 2/ 6.

على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله - عز وجل - " (¬1). وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: لا تكون تقيا حتى تكون عالماً، ولا تكون بالعلم جميلًا حتى تكون به عاملًا (¬2). ولهذا قال الشاعر: إذا العلم لم تعمل به كان حجةً ... عليك ولم تعذر بما أنت جاهله فإن كنت قد أوتيت علمًا فإنما ... يصدق قولَ المرء ما هو فاعله (¬3) وبهذا يتضح أن العلم لا يكون من دعائم الحكمة إلا باقترانه بالعمل، وقد كان علم السلف الصالح - وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - مقرونًا بالعمل، ولهذا كانت أقوالهم، وأفعالهم، وسائر تصرفاتهم تزخر بالحكمة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسُلِّطَ على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» (¬4). وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - بالحكمة، والفقه في الدين، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم علمه الحكمة»، وفي لفظ: «اللهم علمه الكتاب» وفي لفظ: «اللهم فقهه في الدين» (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/ 7. (¬2) المرجع السابق 2/ 7. (¬3) المرجع السابق 2/ 7. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة 1/ 165، ومسلم، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها 1/ 558. (¬5) البخاري مع الفتح، في كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - 7، 13/ 245، 1/ 169، 1/ 244، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل ابن عباس رضي الله عنهما 4/ 1927.

أسباب وطرق تحصيل العلم

فكان - رضي الله عنهما - حبرًا للأمة في علم الكتاب والسنة والعمل بهما استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم. أسباب وطرق تحصيل العلم: والعلم النافع له أسباب ينال بها، وطرق تُسلك في تحصيله وحفظه، من أهمها: 1 - أن يسأل العبد ربه العلم النافع، ويستعين به تعالى، ويفتقر إليه، وقد أمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بسؤاله أن يزيده علمًا إلى علمه (¬1) فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] (¬2) وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا» (¬3). 2 - ومنها: الاجتهاد في طلب العلم، والشوق إليه، والرغبة الصادقة فيه ابتغاء مرضاة الله تعالى، وبذل جميع الأسباب في طلب علم الكتاب والسنة (¬4). وقد جاء رجل إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال: إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه، فقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: " كفى بتركك له تضييعا " (¬5). ولهذا قال بعض الحكماء عندما سُئلَ: ما السبب الذي ينال به العلمِ؟ قال: بالحرص عليه يتبع، وبالحب له يستمع، وبالفراغ له يجتمع، [عَلم ¬

(¬1) انظر: تفسير الإمام البغوي3/ 233، وتفسير العلامة السعدي 5/ 194. (¬2) سورة طه، الآية 114. (¬3) الترمذي، في الدعوات، باب في العفو والعافية 5/ 578، وابن ماجه، في العلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به 1/ 92، وانظر: صحيح ابن ماجه 1/ 47. (¬4) انظر: تفسير السعدي 5/ 194. (¬5) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر1/ 104.

علمك من يجهل، وتعلم ممن يعلم، فإنك إن فعلت ذلك علمت ما جهلت، وحفظت ما علمت] (¬1). ولهذا قال الِإمام الشافعي رحمه الله: أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ ... سأنبئك عن تفصيلها ببيان ذكاءٌ , وحرصٌ , واجتهاد , وبلغة ... وصحبةُ أستاذٍ وطول زمان (¬2) 3 - ومنها: اجتناب جميع المعاصي بتقوى الله - تعالى -؛ فإن ذلك من أعظم الوسائل إلى حصول العلم، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] (¬3) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] (¬4). وهذا واضح بين أن من اتقى الله جعل له علمًا يُفَرِّقُ به بين الحق والباطل (¬5) ولهذا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: " إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله " (¬6). وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: " خمسٌ إذا أخطأ القاضي منهن خطةً (¬7) كانت فيه وصمةً (¬8) أن يكون: فهمًا، حليمًا، عفيفًا، صليبًا (¬9) عالما سئولًا عن العلم " (¬10). ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 1/ 102، 103. (¬2) ديوان الشافعي ص116. (¬3) سورة البقرة، الآية 282. (¬4) سورة الأنفال، الآية 29. (¬5) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 338، وتفسير السعدي 1/ 349. (¬6) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر1/ 196. (¬7) خطة: أي خصلة. انظر. فتح الباري13/ 146. (¬8) وصمة: عيبًا. انظر: فتح الباري 13/ 146. (¬9) قويا شديدًا، يقف عند الحق ولا يميل مع الهوى. انظر: فتح الباري 13/ 146. (¬10) البخاري مع الفتح، كتاب الأحكام، باب متى يستوجب الرجل القضاء13/ 146.

وقال الِإمام الشافعي رحمه الله تعالى: شكوت إلى وكيع (¬1) سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن علم الله نور ... ونور الله لا يُهدى لعاصي (¬2) وقال الإمام مالك للإمام الشافعي - رحمهما الله تعالى -: " إني أرى الله قد جعل في قلبك نورًا فلا تطفئه بظلمة المعصية " (¬3). 4 - ومنها: عدم الكبر والحياء عن طلب العلم، ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها -: «نِعْم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين» (¬4). وقالت أم سُليم - رضي الله عنها -: «يا رسول الله، إن الله لا يسْتَحْيى من الحق، فهل على المرأة من غُسلٍ إذا احتلمت؛ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم: " إذا رأت الماء» (¬5). وقال مجاهد: " لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر " (¬6). 5 - ومنها، بل أعظمها ولُبُّها: الإخلاص في طلب العلم، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم: «من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله - عز وجل -، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرَفْ الجنة يوم القيامة» (¬7) يعني ريحها. ¬

(¬1) وكيع بن الجراح بن مليح، الإمام، الحافظ، محدث العراق، ولد سنة 129هـ، ومات سنة 196 هـ. انظر. سير أعلام النبلاء للذهبي 9/ 140، وتهذيب التهذيب 11/ 109. (¬2) ديوان الشافعي، ص88، وانظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم، ص 104. (¬3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم ص 104. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الحياء في العلم 1/ 228. (¬5) المرجع السابق 1/ 228. (¬6) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الحياء في العلم 1/ 228. (¬7) أبو داود بلفظه في العلم، باب في طلب العلم لغير الله 3/ 323، وابن ماجه في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم 1/ 93، وانظر: صحيح ابن ماجه 1/ 48.

6 - العمل بالعلم (¬1). ومما تقدم يتضح أن العلم لا يكون ركنًا من أركان الحكمة ودعائمها إلا بالعمل، والإخلاص، والمتابعة. ¬

(¬1) انظر: ص 48، من هذا البحث.

المطلب الثاني الحلم

المطلب الثاني الحلم الحِلمُ: بالكسر: العقل (¬1) وحلم حلمًا: تأنَّى وسكن عند غضب أو مكروه مع قدرة، وقوة، وصفح، وعقل (¬2) ومن أسماء الله - تعالى -: (الحليم) وهو الذي لا يستخفه شيء من عصيان العباد، ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقداراً فهو منته إليه (¬3). والحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب (¬4). والحلم: هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب، والبلادة. فإذا استجاب المرء لغضبه بلا تعقل ولا تبصر كان على رذيلة، وإن تبلد، وضيع حقه ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلى بالحلم مع القدرة، وكان حلمه مع من يستحقه كان على فضيلة. وهناك ارتباط بين الحلم وكظم الغيظ، وهو أن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم: وهو كظم الغيظ، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة، لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة واحتمال، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعاً من طبائعها كان ذلك هو الحلم، والله أعلم (¬5). وقد وصف الله نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155] (¬6). ونلاحظ أن الآيات التي وصفت الله بصفة الحلم قد قرنت صفة الحلم ¬

(¬1) القاموس المحيط، باب الميم، فصل الحاء، ص 1416. (¬2) المعجم الوسيط، مادة: حلم 1/ 194. (¬3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، حرف الحاء مع اللام 1/ 434. (¬4) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة حلم، ص 129. (¬5) انظر: مفردات غريب القرآن، ص 129، وأخلاق القرآن للشرباصي 1/ 182، والأخلاق الإسلامية لعبد الرحمن الميداني 2/ 326. (¬6) سورة آل عمران، الآية 155.

الحلم من أعظم أركان الحكمة

- في أغلب هذه الآيات - بصفة المغفرة أو العفو، ويأتي هذا الاقتران في الغالب بعد إشارة سابقة إلى خطأ واقع، أو تفريط في أمر محمود، وهذا أمر يتفق مع الحلم؛ لأنه تأخير عقوبة، قال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر: 45] (¬1). ونجد أيضًا أن عددًا من الآيات التي وصفت الله بالحلم قد قرن فيها ذكر الحلم بالعلم، كقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 59] (¬2) وهذا يفيد - والله أعلم بمراده - أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم، وهذا من أعظم أركان الحكمة (¬3). [الحلم من أعظم أركان الحكمة] ومما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة - التي ينبغي للداعية أن يدعو بها إلى الله - تعالى - مدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم للحلم، وتعظيمه لأمره، وأنه من الخصال التي يحبها الله - عز وجل -، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم للأشج: (¬4) «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» (¬5). وفي رواية «قال الأشج: يا رسول الله، أنا تخلقت بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: " بل الله جبلك عليهما "، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله» (¬6). وسبب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم ذلك للأشج ما جاء في حديث الوفد أنهم لما ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية 45. (¬2) سورة الحج، الآية 59. (¬3) انظر: أخلاق القرآن للشرباصي 1/ 185. (¬4) المنذر بن عائذ بن المنذر العصري، أشج عبد القيس، كان سيد قومه، رجع بعد إسلامه إلى البحرين مع قومه، ثم نزل البصرة بعد ذلك ومات بها رضي الله عنه. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 267. (¬5) مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله - تعالى - ورسوله 1/ 48. (¬6) أبو داود، في الأدب، باب في قبلة الجسد 4/ 357، وأحمد 4، 3.

الحلم خلق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة

وصلوا المدينة بادروا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم. وأقام الأشج عند رحالهم، فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم فقربه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم: «تبايعونِ على أنفسكم وقومكم؟ " فقال القوم: نعم، فقال الأشج: يا رسول الله، إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا، ومن أبى قاتلناه، قال: " صدقت، إن فيك خصلتين. . .». الحديث. فالأناة: تربصه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم؛ هذا القول الذي قاله، الدال على صحة عقله، وجودة نظره للعواقب (¬1). [الحلم خلق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة] ومما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها العظام أنه خلق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم عظماء البشر، وقدوة أتباعهم من الدعاة إلى الله والصالحين في الأخلاق المحمودة كافة. وقد واجه كل واحد منهم من قومه ما يثير الغضب، ويغضب منه عظماء الرجال، ولكن حلموا عليهم، ورفقوا بهم، ولانوا لهم حتى جاءهم نصر الله المؤزر، وعلى رأسهم إمامهم، وسيدهم، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن غريباً أن يوجهه الله تعالى إلى قمة هذه السيادة حين يقول له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ - وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 199 - 200] (¬2). {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] (¬3) ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم 1/ 189، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 6/ 152. (¬2) سورة الأعراف، الآيتان 199، 200. (¬3) سورة فصلت، الآية 34.

صورة حسية من حلم النبي صلى الله عليه وسلم

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] (¬1). [صورة حسية من حلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم] وقد بلغ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في حلمه، وعفوه في دعوته إلى الله - تعالى - الغاية المثالية، والدلائل على ذلك كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: 1 - عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «لما كان يوم حنين آثر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أُناسًا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسًا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم. فأتيته فأخبرته، فقال: " فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (¬2). وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى الله - تعالى - وقد اقتضت حكمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أن يقسم تلك الغنائم بين هؤلاء المؤلفة قلوبهم، ويوكل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه (¬3). 2 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال «بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم من اليمن بذهيبة (¬4) في أديم مقروظ (¬5) لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية 159. (¬2) البخاري مع الفتح بلفظه، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس 6/ 251، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه 2/ 739. (¬3) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري 8/ 49. (¬4) أي: ذهب. انظر: فتح الباري 8/ 68. (¬5) مدبوغ بالقرظ. انظر: فتح الباري 8/ 68.

بدر (¬1) وأقرع بن حابس، وزيد الخيل (¬2) والرابع إما علقمة (¬3) وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم فقال: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟ " قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتق الله، قال: " ويلك، أو لست أحقُّ أهل الأرض أن يتقي الله؟ " قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال: " لا، لعله أن يكون يصلي " فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم: " إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم ". قال: ثم نظر إليه وهو مُقفٍ، فقال: " إنه يخرج من ضئضىء هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» (¬4). وهذا من مظاهر حلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم، فقد أخذ بالظاهر ولم يؤمر أن ينقب قلوب الناس، ولا أن يشق بطونهم، والرجل قد استحق القتل واستوجبه؛ ولكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم لم يقتله، لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ولا سيما من صلى (¬5). . ¬

(¬1) وهو عيينة بن حصن بن حذيفة، نسب لجده الأعلى. الفتح 8/ 68. (¬2) زيد الخيل بن مهلهل الطائي، وسماه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم زيد الخير، بالراء بدل اللام. انظر. فتح الباري 8/ 68. (¬3) ابن علاثة العامري، أسلم وحسن إسلامه، واستعمله عمر على حوران، فمات بها في خلافته. انظر: فتح الباري 8/ 68. (¬4) البخاري، مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد - رضي الله عنهما - إلى اليمن 8/ 67، ومسلم في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم 2/ 741. (¬5) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/ 69.

3 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كنت أمشي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت صفحة عاتق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم فضحك، ثم أمر له بعطاء» (¬1). . وهذا من روائع حلمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وكماله، وحسن خلقه، وصفحه الجميل، وصبره على الأذى في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام؛ وليتأسى به الدعاة إلى الله، والولاة بعده في حلمه، وخلقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن (¬2). . 4 - «وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه غزا مع رسول اللهّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول اللهّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تحت شجرة، وعلق بها سيفه، ونمنا نومةً، فإذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: " إن هذا اخترط عليَّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله (ثلاثاً) ولم يعاقبه، وجلس» (¬3). . وفي هذا دلالة واضحة على قوة يقينه، وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال، وشدة رغبته في استئلاف الكفار؛ ليدخلوا في الإسلام، ولهذا ذُكِرَ أن هذا الأعرابي رجع إلى قومه وأسلم، واهتدى به خلق كثير (¬4). . ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه 6/ 251: ومسلم، كتاب الزكاة: باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة 2/ 730. (¬2) انظر: فتح الباري 10/ 506، وشرح النووي على مسلم 7/ 146، 147. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر بالسفر عند القائلة 6/ 96، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف 1/ 576، 4/ 1786. (¬4) انظر: فتح الباري 7/ 427، 428.

وهذا مما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها. 5 - ومن عظيم حلمه عدم دعائه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم الله، ويدمرهم، ولكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حليم حكيم يهدف إلى الغاية العظمى، وهي رجاء إسلامهم، أو إسلام ذرياتهم، ولهذا «قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: كأني أنظر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدْمَوْهُ وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (¬1). . ومما يدل على أن الحلم ركن من أركان الحكمة ملازمة صفة الحلم للأنبياء قبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في دعوتهم إلى الله تعالى. فهذا إبراهيم أبو الأنبياء، عليه وعليهم الصلاة والسلام، قد بلغ من الحلم مبلغًا عظيمًا حتى وصفه الله بقوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] (¬2). فقد كان إبراهيم كثير الدعاء، حليمًا عمن ظلمه، وأناله مكروهًا، ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا - قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا - وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 46 - 48] (¬3). . ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان 6/ 514، ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد 3/ 1417. (¬2) سورة التوبة، 114. (¬3) سورة مريم، 46 - 48.

فحلم عنه مع أذاه له، ودعا له، واستغفر (¬1). ولهذا قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] (¬2). . وهكذا جميع الأنبياء والمرسلين، كانوا من أعظم الناس حلمًا مع أقوامهم في دعوتهم إلى الله - تعالى - (¬3). . ومن وراء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، يأتي الدعاة إلى الله والصالحون من أتباعهم، وإذا كان الله عز وجل قد جعل محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مثلاً عاليًا في الحلم، فقد أراد لأتباعه أن يسيروا على نهجه وسنته، ولذلك يقول - تعالى - عن الأخيار من هؤلاء. {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] (¬4). . فمن صفاتهم أنهم أصحاب حلم، فإذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا، كما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا (¬5). . فعن النعمان بن مقرن المزني، قال: «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وسبّ رجل رجلًا عنده، فجعل المسبُوبُ يقول: عليك السلام، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: " أما إن ملكاً بينكما يذب عنك كلما يشتمك هذا، قال له: بل أنت وأنت أحق به، وإذا قال له: عليك السلام، قال. بل لك، أنت أحق به» (¬6). . فهؤلاء الدعاة إلى الله والصالحون إذا خاطبهم الجاهلون قالوا صوابًا ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 396، والبغوي 2/ 332، والأخلاق الإسلامية للميداني 2/ 332. (¬2) سورة التوبة، الآية 114. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 114، وموسوعة أخلاق القرآن للشرباصي 1/ 185. (¬4) سورة الفرقان، الآية 63. (¬5) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 2/ 310، والإصابة في تمييز الصحابة 1/ 556، ومجمع الزوائد 8/ 240. (¬6) رواه الإمام أحمد في المسند 5/ 445، وقال ابن كثير في تفسيره: إسناده حسن 3/ 326.

وسدادًا، ويردون المعروف من القول على من جهل عليهم (¬1)؛ لأن من أخلاقهم العفو والصفح عمن أساء إليهم، فقد تخلقوا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعةً، حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه. {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] (¬2) فترتب على هذا الحلم، والعفو، والصفح من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير (¬3) كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] (¬4). ومما يبين حلم أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من بعده وإن كانوا خلفاء وأمراء، ما رواه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم عيينة بن حصن ابن حذيفة فنزل على أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولًا كانوا أو شبانا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم به، فقال له الحر. يا أمير المؤمنين، إن الله - تعالى - قال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (¬5) وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزَها عمر حين تلاها عَليه، وكان وقَّافا عند كتاب الله (¬6). ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 326. (¬2) سورة الشورى، الآية 37. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير 4/ 118، وتفسير العلامة السعدي 6/ 621. (¬4) سورة فصلت، الآية 34. (¬5) سورة الأعراف، الآية 199. (¬6) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الأعراف، باب: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين "، 8/ 304.

وهذا الرجل قد جفا عمر أمير المؤمنين بعدة أمور تثير الغضب، وتجعله عرضة للانتقام والتأديب. أول هذه الأمور، قوله: هي يا ابن الخطاب، ولم يقل: يا أمير المؤمنين. والثاني: قوله: والله ما تعطينا الجزل، يعني العطاء الكثير. والثالث: وهو أقبح الأمور الثلاثة، قوله: ولا تحكم بيننا بالعدل. ومع هذا كله حلم عنه عمر وعفا عنه، وصفح عندما سمع الآية، وسمع قول الحر: إن هذا من الجاهلين، ووقف عند الآية، ولم يعمل بغير ما دلت عليه، بل عمل بمقتضاها، رضي الله عنه وأرضاه (¬1) وهذا يدل على كمال حلمه وحكمته التي استفادها من هدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فرسخت في ذهنه حتى كانت هيئة راسخة ثابتة في نفسه وخلقه. وهذا يحتاج في بداية الأمر إلى جهاد وقوة، ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (¬2). ولا شك أن الغضب يهدم الحلم وينافيه، وصاحب الغضب لا يكون حليمًا، ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لمن قال أوصني: «لا تغضب» (¬3). والداعية إلى الله يستطيع أن يتصف بالحلم، ليكون حكيمًا، وذلك بعلاج الغضب إذا حل به ونزل، ولا يكون العلاج النافع إلا بما شرعه الله. وبينه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فقد عمل على تربية المسلمين تربية قولية وفعلية عملية حتى يكونوا حلماء، حكماء. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/ 259، 8/ 305، 13/ 250. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب 10/ 518، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شئ يذهب الغضب 4/ 2014. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب 10/ 518، والحديث فيه: فردد مرارا، قال: " لا تغضب ".

علاج الغضب بالأسباب المشروعة

[علاج الغضب بالأسباب المشروعة] علاج الغضب: وعلاج الغضب بالأدوية المشروعة يكون بطريقين: الطريق الأول: الوقاية: ومعلوم أن الوقاية خير من العلاج، وتحصل الوقاية من الغضب قبل وقوعه باجتناب أسبابه، واستئصالها قبل وقوعها، ومن هذه الأسباب التي ينبغي لكل مسلم أن يطهر نفسه منها: الكبر، والإعجاب بالنفس، والافتخار، والتيه، والحرص المذموم، والمزاح في غير مناسبة، أو الهزل وما شابه ذلك (¬1). الطريق الثاني: العلاج إذا وقع الغضب: وينحصر في أربعة أنواع كالتالي: النوع الأول: الاستعاذة بالله من الشيطان، قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] (¬2). وعن سليمان ابن صُردٍ - رضي الله عنه - قال: «استَبَّ رجلان عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسبّ صاحبه مغضبًا قد احمر وجهه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إني لأعلمُ كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد. لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» (¬3). ولما كان الشيطان على نوعين: نوع يُرى عيانًا، وهو شيطان الإنس، ونوع لا يُرى، وهو شيطان الجن، جعل الله سبحانه المخرج من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن، ومن شر ¬

(¬1) انظر: الدعائم الخلقية والقوانين الشرعية، للدكتور صبحي محمصاني، ص227. (¬2) سورة الأعراف، الآية 200، وانظر: سورة المؤمنون، الآية 97، وسورة فصلت، الآية 36. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب 10/ 518، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب4/ 2015.

شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه (¬1) وما أحسن ما قاله القائل: فما هو إلا الاستعاذة ضارعًا ... أو الدفع بالحسنى هما خير مطلوب فهذا دواء الداء من شر ما يُرى ... وذاك دواءُ الداء من شر محجوب (¬2) النوع الثاني: الوضوء، عن عطية السعدي - رضي الله عنه - قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» (¬3). النوع الثالث: تغيير الحالة التي عليها الغضبان، بالجلوس، أو الخروج، أو غير ذلك، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: إن رسول اللهّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لنا: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلّا فليضطجع» (¬4). النوع الرابع: استحضار ما ورد في فضل كظم الغيظ من الثواب، وما ورد في عاقبة الغضب من الخذلان العاجل والآجل، عن معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفذه دعاه الله - عز وجل - على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور ما شاء» (¬5). ¬

(¬1) انظر: سورة الأعراف، الآية 200، وسورة المؤمنون، الآية 97، وسورة فصلت، الآية 36. (¬2) انظر: زاد المعاد 2/ 462 - 463 بتصرف يسير. وأضواء البيان 2/ 341 - 342. (¬3) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب ما يقال عند الغضب 4/ 249، قال الشيخ عبد العزيز ابن باز: وإسناده جيد، وانظر: تهذيب السنن 7/ 165 - 168، وعون المعبود 13/ 141. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده 5/ 152، وأبو داود في الأدب، باب ما يقال عند الغضب 4/ 249، وابن حبان ص484 (موارد)، وشرح السنة للبغوي 13/ 162، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رجال أحمد رجال الصحيح 8/ 70، وانظر صحيح سنن أبي داود 3/ 908. (¬5) سنن أبي داود في الأدب، باب من كظم غيظا 4/ 248، والترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حدثنا عبد بن حميد 4/ 656، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحلم 2/ 1400، وانظر: صحيح الترمذي 2/ 305، وصحيح ابن ماجه 2/ 407، وصحيح الجامع 5/ 353، وصحيح أبي داود 3/ 907.

الأسباب التي تدعو إلى الحلم

وهذه الأنواع أدلة ثبوتها واضحة من الكتاب والسنة. [الأسباب التي تدعو إلى الحلم] وإذا أراد الداعية أن يزداد حلمه، وتعظم حكمته، فليحرص على الأسباب التي تدعو إلى الحلم، فليعمل بها، وهي عشرة: 1 - الرحمة بالجهال، فإنها من أوكد أسباب الحلم. 2 - القدرة على الانتصار؛ وذلك من سعة الصدر، وحسن الثقة. 3 - الترفع عن السباب، وذلك من شرف النفس وعلو الهمة. 4 - الاستهانة بالمسيء: إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت 5 - الاستحياء من جزاء الجواب، وهذا من صيانة النفس وكمال المروءة. 6 - التفضل على السّاب، وهذا من الكرم وحب التألف. 7 - قطع السباب، وهذا من الحزم كما قال الشاعر: وفي الحلم ردع للسفيه عن الأذى ... وفي الخرق إغراء فلا تك أخرقا 8 - الخوف من العقوبة على الجواب، وهذا مما يقتضيه الحزم، فقد قيل: الحلم حجاب الآفات. 9 - الرعاية ليد سالفة، وحرمة لازمة، وهذا من الوفاء وحسن العهد، قال الشاعر: إن الوفاء على الكريم فريضة ... واللؤم مقرون بذي الإخلاف 10 - المكر وتوقع الفرص الخفية، وهذا من الدهاء، وقد قيل: من ظهر غضبه قل كيده. وقال بعض الشعراء. ولَلْكفُ عن شتم اللئيم تكرما ... أضر له من شتمه حين يشتم (¬1) ¬

(¬1) انظر: أدب الدنيا والدين لأبي الحسن الماوردي، المتوفى سنة 450هـ، ص 214.

الغضب لإعلاء كلمة الله

فإذا راعى الداعية الوقاية من الغضب، والعلاج، وهذه الأسباب العشرة كان حليمًا بإذن الله - تعالى - وبهذا يحقق ركنًا من أركان الحكمة التي من أوتيها فقد أُوتي خيرًا كثيرًا. [الغضب لإعلاء كلمة الله] وينبغي أن يعلم أن الغضب لله يكون محمودًا، ولا يدخل في الغضب المذموم، فالغضب المحمود يكون من أجل الله عندما ترتكب حرمات الله، أو تترك أوامره ويستهان بها، وهذا من علامات قوة الإيمان، ولكن بشرط أن لا يخرج هذا الغضب عن حدود الحلم والحكمة، وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يغضب لله إذا انتهكت محارمه، وكان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب بيده خادمًا، ولا امرأة، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وقد خدمه أنس بن مالك - رضي الله عنه - عشر سنوات، فما قال له: أُفٍّ، قَطُّ، ولا قال له لشيء فعله. لم فعلت كذا، ولا لشيء لم يفعله ألا فعلت كذا؟ (¬1). وهذا لا ينافي الحلم والحكمة، بل الغضب لله في حدود الحكمة من صميم الحلم والحكمة. ¬

(¬1) انظر: عدة حالات غضب فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لله تعالى، في البخاري مع الفتح، في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله - تعالى - 10/ 517، وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص127، وفتح الباري 10/ 518.

المطلب الثالث الأناة

[تعريفها] المطلب الثالث الأناة الأناة في اللغة: التثبت وعدم العجلة، يقال: تَأنى في الأمر: مكث ولم يعجل، والاسم منه: أناة (¬1). ويقال: تأنى في الأمر: ترفَّق، وتنظّر، وتمهل، واستأنى به: انتظر به وأمهله (¬2). وتأتي الأناة بمعنى التبيّن والتثبت في الأمور، يقال: تَبين في الأمر والرأي: تثبت، وتأنى فيه ولم يعجل (¬3). ويأتي التبين بمعنى: التبصر: التعرف والتأمل، يقال: تبصر الشيء، وتأمل في رأيه: تبين ما يأتيه من خيرٍ أو شرٍ (¬4). وعلى ضوء ما تقدم تكون الأناة هي: التصرف الحكيم بين العجلة والتباطؤ (¬5). والأناة مظهر من مظاهر خُلق الصبر، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، وهي تدل على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية القادرة على ضبط نفسه تجاه انفعالاته العجولة، وبخلاف التباطؤ والتواني فهما من صفات أصحاب الكسل والتهاون بالأمور، ويدلان على أن صاحبهما لا يملك القدرة على دفع همته للقيام بالأعمال التي تحقق له ما يرجو، أو ليس لديه همة عالية تنشد الكمال، فهو يرضى بالدنيات، إيثارًا للراحة، وكسلاً عن القيام بالواجب. ¬

(¬1) المصباح المنير، مادة: انى 1/ 28. (¬2) انظر. مختار الصحاح، مادة: أنى، ص13، والمعجم الوسيط 1/ 31. (¬3) انظر: المعجم الوسيط، مادة: أبان 1/ 80، ومادة: ثبت 1/ 93. (¬4) انظر: القاموس المحيط، باب الراء، فصل الباء، ص 448، ومختار الصحاح، مادة: " بصر " ص22، والمعجم الوسيط 1/ 59. (¬5) انظر. الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني 2/ 352.

أهمية الأناة في الدعوة إلى الله بالحكمة

[أهمية الأناة في الدعوة إلى الله بالحكمة] والأناة عند الداعية إلى الله - تعالى - تسمح له بأن يُحكم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، فهي ركن من أركان الحكمة، بخلاف العجلة فإنها تعرضه لكثير من الأخطاء، والإخفاق، والتعثر، والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضًا يعرضه للتخلف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها (¬1). والداعية مطلوب منه أن يتخلق بخلق الأناة، ولكن ما يتطلب من الأمور عملاً سريعًا فالحكمة السرعة إذن، وهي لا تخرج عن الأناة، فالقضية نسبية، وما يتطلب من الأمور عملاً بطيئًا فالحكمة البطء إذن، وهو لا يخرج عن الأناة؛ لأن الأمر نسبي، وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة؛ ولكنها تختلف باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج المطلوبة، فالأشياء مربوطة بأوقاتها، والعجلة فيها مع معرفة أوقاتها المطلوبة خلقٌ مذموم يدل على ضعف خلق الصبر، ونقص الحكمة، والتباطؤ فيها خلق مذموم يدل على ضعف الهمة والإخلاد إلى الراحة والكسل، أما الأناة فليست تعجلًا ومسابقة لأوقات الأشياء، ولا تباطؤا وكسلاً، وكل من العجلة والتباطؤ يضيعان على أصحابهما الجهد والزمن، وما بذلوه، والأناة هي الكفيلة - بإذن الله تعالى - بتحقيق المطلوب، وتفادي الخسارة. وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه، وذم التباطؤ والكسل ونهى عنه، ومدح الأناة وأمر بها، وعمل على تربية المسلمين على الأناة والتثبت الحكيم في القيام بالأعمال وتصريف الأمور (¬2). ¬

(¬1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني 2/ 353، وأخلاق القرآن الكريم 30/ 15. (¬2) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني 2/ 353، 354 بتصرف.

قال الله - تعالى - للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تربية له وتعليماً: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ - إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ - فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ - ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19] (¬1). فأمر سبحانه نبيه بعدم العجلة ومسابقة الملَك في قراءته، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره (¬2). وقال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] (¬3). وأمر سبحانه عباده المؤمنين والدعاة إلى الله - تعالى - بالتأني في الأمور والتثبت فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] (¬4) قرأ الجمهور: {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] من التَبين، وهو التَأمل، وقرأ حمزة والكسائي: (فتَثبّتُوا)، والمراد من التبين التعرف والتفحص، ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهرْ (¬5). والدعاة إلى الله أولى بامتثال أمر الله - تعالى - بالتأني والتثبت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها أو لها، وعليهم أن يتدبروا الأمور على مهلٍ، غير متعجلين؛ لتظهر لهم جلية واضحة، لا غموض فيها ولا التباس (¬6). ¬

(¬1) سورة القيامة، الآيات 16 - 19. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير 4/ 450. (¬3) سورة طه، الآية 114. (¬4) سورة الحجرات، الآية 6. (¬5) انظر: فتح القدير، للإمام الشوكاني 4/ 60. (¬6) انظر: في ظلال القرآن 6/ 3334، وموسوعة أخلاق القرآن للشرباصي 3/ 15.

ذم الإسلام للعجلة ومدح الأناة

[ذم الإسلام للعجلة ومدح الأناة] والداعية إلى الله - تعالى - إذا أبصر العاقبة أمِنَ الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبر جميع الأمور التي تعرض له، ويواجهها، فإذا كانت رشدًا، وحقًّا، وصوابًا فليمض، وإذا كانت غيًّا، وضلالًا، وظنًّا خاطئًا، فليقف وينته حتى يتضح له الحق. والمشاهَد والواقع أن عدم التثبت وعدم التأني يؤديان إلى كثير من الأضرار والمفاسد، فقد يسمع الإنسان خبرًا، أو يقرأ نبأ في صحيفة، أو مجلة، فيسارع بتصديقه، ويعادي ويصادق، ويبني على ذلك التصرفات والأعمال التي يصدرها للمقاومة أو الموافقة، على أساس أنه حق واقع، ثم يظهر أنه كان مكذوباً، أو محرفًا، أو مزورًا، أو مبالغًا فيه، أو مرادًا به غير ما فهمه الإنسان، ومن هنا يكتوي المتسرع بلهب الندم والحسرة بسبب استعجاله وعدم تثبته. وقد يصاب الداعية أو غيره من المسلمين بأذى دون أن يعرف مصدره، فيستعجل ويسارع فيتهم هذا، أو يسب ذاك، فيندم ويحصد ثمرة عجلته وعدم تثبته، ولو أنه تأنى، وتبين، وتثبت؛ لأدرك مصدر الأذى على حقيقته، وحينئذ يصدر التصرف على أساس البينة والبرهان، فلا يفقد أصدقاء له، ولا يضيف إلى أعدائه عدوًا جديدًا منهم. ويدخل في العجلة وعدم التثبت تعجل الإنسان في المدح أو الذم، دون دراية أو دون موجب لذلك، أو يتعجل بالكلام قبل أن يديره على عقله، أو بالفتوى قبل أن يعرف دليله وبرهانه الذي اعتمد عليه، وبنى عليه فتواه، وبعد ذلك يحصد الغم والأسف (¬1) {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11] (¬2). ¬

(¬1) انظر: موسوعة أخلاق القرآن الكريم 3/ 26، وفي ظلال القرآن 6/ 3342. (¬2) سورة الإسراء، الآية 11.

ولعظم أمر الأناة والتبين أمر الله بهما حتى في جهاد الكفار في سبيل الله الذي هو من أعظم وسائل الدعوة إلى الله تعالى، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] (¬1). ومن المعلوم أن الأمور قسمان: أمور واضحة، وأمور غير واضحة. فالواضحة البينة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل. وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الداعية خاصة والمسلمين عامةً بحاجة إلى التثبت فيها والتبين، فإن ذلك يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف عن شرور عظيمة ما يجعل المسلم في سلامة عن الزلل، وبذلك يُعْرَف دين العبد وعقله ورزانته (¬2). ومما يزيد الآية السابقة وضوحًا ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] قال: كان رجل في غُنَيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غُنَيمته، فأنزل الله في ذلك إلى قوله: {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94] تلك الغُنَيمة، وقرأ ابن عباس: السلام (¬3). «وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: بعثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل ¬

(¬1) سورة النساء، الآية 94. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي 2/ 132. (¬3) البخاري مع الفتح، باب التفسير، سورة النساء، باب: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا 8/ 258.

النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس أناة وتثبتا

من الأنصار رجلًا منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: كف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: فقال لي: " يا أسامة، أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا، قال: فقال: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله، قال: فما زال يُكرّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلم قبل ذلك اليوم» (¬1). وفي رواية قال: «قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفًا من السلاح، قال: " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا "، فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ» (¬2). وفي رواية: «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ " قال: يا رسول الله: استغفر لي، قال: " وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ ". قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: " كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة» (¬3). [النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أعظم الناس أناةً وتثبّتًا] ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أعظم الناس أناةً وتثبّتًا، فكان لا يقاتل أحدًا من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام «فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - " أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان إذا غزا بنا قومًا لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم». " (¬4). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أسامة إلى الحرقات 7/ 517، 12/ 191، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله 1/ 97. (¬2) مسلم، في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله 1/ 96. (¬3) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله 1/ 97. (¬4) البخاري مع الفتح بلفظه مطولًا، في كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء 2/ 89، ومسلم، في الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان 1/ 288.

وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يعلم ويربي أصحابه على الأناة والتثبت في دعوتهم إلى الله - تعالى - ومن ذلك أنه كان يأمر أمير سريته أن يدعو عدوه قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال: (أ) الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين. (ب) فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية. (ج) فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان بالله وقاتلهم (¬1). ومن تربيته لأصحابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على الأناة وعدم العجلة قوله: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسْعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة فما أدركْتُمْ فصلّوا، وما فاتكم فأتموا» (¬2). وقوله: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت» (¬3). ولسُمُوِّ الأناة أحبها الله عز وجل، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم للأشج: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» (¬4). والرسل عليهم الصلاة والسلام هم صفوة الخلق وقدوتهم، وهم أكمل الناس أناةً وحلمًا، وأعظمهم في ذلك وأوفرهم حظّا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. ومن أمثلة ذلك قصة سليمان مع الهدهد وتثبته وعدم عجلته، قال سبحانه عن ذلك: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ - لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 20 - 21] (¬5). ¬

(¬1) أخرج الحديث مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها 3/ 1357، وانظر: زاد المعاد لابن القيم 3/ 100. (¬2) البخاري مع الفتح؛ كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة: وقوله: فاسعوا إلى ذكر الله 2/ 390، ومسلم في المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بسكينة ووقار والنهى عن إتيانها سعيا 1/ 420. (¬3) مسلم، في كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة 1/ 422. (¬4) مسلم، في الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله - تعالى - ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه، 1/ 48. (¬5) سورة النمل، الآيتان 20، 21.

فهذا الهدهد من جنود سليمان صلى الله عليه وسلم كان غائباً بغير إذن سليمان، وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم والجد في تنظيم الجنود حتى لا تكون فوضى، فإن سليمان إذا لم يأخذ بذلك في تنظيم الجنود ومراقبتهم كان المتأخر منهم قدوة سيئة لبقية الجنود، ولهذا نجد سليمان النبي الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف، ولكن سليمان ليس ملكًا جبارا في الأرض، ولا متسرعًا عجولًا، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يترك الأناة والتثبت ويقضي في شأنه قضاءً نهائيًا قبل أن يسمع منه ويتبين عذره، ومن ثم تبرز سمة النبي العادل المتثبت {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21] أي: حجة قوية واضحة توضح عذره وتنفي المؤاخذة عنه (¬1). فالأناة صفة جميلة، وتكون أجمل إذا جاءت من القادر على العقاب، ولهذا قال الشاعر ابن هانئ المغربي: وكل أناة في المواطن سؤدد ... ولا كأناة من قديرٍ محكم ومن يتبين أن للصفح موضعًا ... من السيف يصفح عن كثير ويحلم وما الرأي إلا بعد طول تثبت ... ولا الحزم إلا بعد طول تلوم وقال الشاعر يمدح عاقلًا حكيمًا: بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يخاطبه في كل أمر عواقبه (¬2) والداعية إلى الله - عز وجل - إذا تثبت، وتأمل في جميع أموره اكتسب ركنا من أركان الحكمة، وينبغي ألا يقتصر في منهجه المتكامل على التأني ¬

(¬1) انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب 5/ 2638، وفقه الدعوة في إنكار المنكر، لعبد الحميد البلالي، ص17. (¬2) انظر: موسوعة أخلاق القرآن، للدكتور الشرباصي3/ 27.

أسباب العجلة وعلاجها

والتثبت في الأفعال والأقوال فحسب، بل عليه أن يجري ذلك على القلب قي خواطره، وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] (¬1). فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة، ولا يحكم العقل حكمًا، ولا يبرم الداعية أمرًا إلا وقد تثبت من كل جزئية، ومن كل ملابسة، ومن كل نتيجة، حتى لا يبقى هنالك شك ولا شبهة في صحتها، وحينئذ يصل الداعية المسلم المتمسك بهذه الضوابط إلى أعلى درجات الأناة والحكمة والسداد - بإذن الله تعالى - (¬2). أما العجلة فهي مذمومة، قال سبحانه عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54] (¬3) استخفهم وحملهم على الضلالة والجهل، واستخف عقولهم، يقال: استخفه عن رأيه: إذا حمله على الجهل وأزاله عما كان عليه من الصواب (¬4). وقال سبحانه: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] (¬5) ولا شك أن الإنسان قد خلق من عجل {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] (¬6)؛ ولكنه - بحمد الله - إذا امتثل أمر الله وترك نهيه حسنت أخلاقه وطَبائعه. [أسباب العجلة وعلاجها] والعجلة لها أسباب ينبغي اجتنابها، منها: عدم النظر في العواقب، وسنن الله في الكون، ومنها الشيطان عدو الإنسان، فإن أساس العجلة من ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية 36. (¬2) انظر في ظلال القرآن 4/ 2227. (¬3) سورة الزخرف، الآية 54. (¬4) تفسير ابن كثير 4/ 130، وشرح السنة للبغوي 13/ 175. (¬5) سورة الروم، الآية 60. (¬6) سورة الأنبياء، الآية 37.

الشيطان؛ لأنه الحامل عليها بوسوسته، فيمنع من التثبت والنظر في العواقب، فيقع المستعجل في المعاطب والفشل (¬1) ولذلك قيل: يا صاحبي تلوما لا تعجلا ... إن النجاح رهين أن لا تعجلا وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: لا يزال الرجل يجني من ثمرة العجلة الندامة (¬2). وينبغي أن يُعْلَم أن العجلة المذمومة ما كان في غير طاعة، ومع عدم التثبت وعدم خوف الفوت، ولهذا قيل لبعض السلف. لا تعجل، فالعجلة من الشيطان، فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] (¬3). وقد قال بعض السلف: لا تعجل عجلة الأخرق وتحجم إحجام الواني. والخلاصة: أنه يستثنى من العجلة ما لا شبهة في خيريته، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90] (¬4). وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال الأعمش: ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: " التُؤَدَةُ (¬5) في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة " (¬6). ¬

(¬1) انظر: شرح السنة للبغوي 13/ 176، وفيض القدير شرح الجامع الصغير3/ 184. (¬2) انظر: تحفة الأحوذي شرح الترمذي6/ 153. (¬3) سورة طه، الآية 84. (¬4) سورة الأنبياء، الآية 90. (¬5) التؤَدَةُ. التأني. انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 3/ 277، وعون المعبود 3/ 165. (¬6) أبو داود، كتاب الأدب، باب الرفق 4/ 255، والحاكم بلفظه وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي1/ 64، وانظر. صحيح سنن أبي داود3/ 913. وذلك لأن الحزم بذل الجهد في عمل الآخرة؛ لتكثير القربات ورفع الدرجات لأن في تأخير الخيرات آفات. انظر فيض القدير3/ 277، وعون المعبود3/ 165.

وعن عبد الله بن سرجس المزني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السَّمْتُ (¬1) الحسن، والتؤَدَةُ، والاقتصاد (¬2) جزء من أربعةٍ وعشرين جزءًا من النبوة» (¬3). وبهذا يعلم أن الأناة في كل شيء محمودة وخير إلا ما كان من أمر الآخرة، بشرط مراعاة الضوابط التي شرعها الله حتى تكون المسارعة مما يحبه الله تعالى (¬4). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه يرفعه: «التأني من الله والعجلة من الشيطان» (¬5). ¬

(¬1) السمت الحسن. هو حسن الهيئة والمنظر، انظر فيض القدير للمناوي 3/ 277. (¬2) الاقتصاد: هو التوسط في الأمور والتحرز عن طرفي الإفراط والتفريط. انظر: المرجع السابق3/ 277. (¬3) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة4/ 366، وانظر: صحيح سنن الترمذي 2/ 195. (¬4) انظر: شرح السنة للبغوي13/ 177، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي6/ 153. (¬5) أخرجه أبو يعلى في مسنده 3/ 1054، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 1040 وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة4/ 404: هذا إسناد حسن رجاله ثقات.

المبحث الرابع طرق اكتساب الحكمة

المبحث الرابع طرق اكتساب الحكمة تمهيد: أهمية اكتساب الحكمة. المطلب الأول: السلوك الحكيم. المطلب الثاني: العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص. المطلب الثالث: الاستقامة. المطلب الرابع: الخبرات والتجارب. المطلب الخامس: السياسة الحكيمة. المطلب السادس: فقه أركان الدعوة إلى الله تعالى.

تمهيد

تمهيد الحكمة هبة وفضل من الله - عز وجل - يهبها لمن يشاء من عباده وأوليائه، والحكمة ليست كسبية تحصل بمجرد كسب العبد دون تعليم الأنبياء له طرق تحصيلها، فالعبد لا يكون حكيمًا إلا إذا سلك طرق تحصيل الحكمة، ولا يمكن أن يحصل على الحكمة إلا إذا كانت طرقها مستقاة من الكتاب والسنة، وإذا وفق الداعية المسلم لطرق الحكمة فلا يخرجها ذلك عن كونها هبة من الله تعالِى، لقوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] (¬1) بل الله الذي وفقه وسدده، وأعطاه خيرًا كثيرًا، جليلًا قدره، عظيماً نفعه، ولهذا استنبط بعض المحققين من قوله: {خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] أن إيتاء الحكمة خير من الدنيا وما فيها كلها؛ لأن الله وصف الدنيا في قوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] (¬2) فدل ذلك على أن ما يؤتيه الله من حكمته خير من الدنيا وما عليها؛ لأن من أوتيها خرج من ظلمة الجهل إلى نور الهدى، وحمق الانحراف في الأقوال والأفعال إلى إصابة الصواب فيها، وحصول السداد والاعتدال، والبصيرة المستنيرة، وإتقان الأمور وإحكامها، وتنزيلها منازلها، وهذا كله من أفضل العطايا وأجل الهبات (¬3). والحكمة لها طرق تكتسب بها بتوفيق الله تعالى، ومن أهم هذه الطرق التي إذا سلكها المسلم صار حكيمًا بإذن الله تعالى ما يأتي: ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 269. (¬2) سورة النساء، الآية 77. (¬3) انظر: صفوة الآثار والمفاهيم للعلامة عبد الرحمن الدوسري4/ 131، وتيسير الكريم الرحمن 1/ 332، وفي ظلال القرآن1/ 312، ولقمان الحكيم وحكمه ص30.

العلم النافع، والحلم، والأناة، والرفق واللين، والإخلاص والتقوى، والصبر والمصابرة، والسلوك الحكيم، والعمل بالعلم، والاستقامة، والخبرات والتجارب، وجهاد النفس والشيطان، وعلو الهمة، والعدل، والدعاء، والاستخارة والاستشارة (¬1) وفقه وإتقان أركان الدعوة إلى الله تعالى. وسأذكر في هذا المبحث بالتفصيل بعض هذه الطرق التي إذا سلكها الداعية المسلم - مع ما تقدم من الطرق - كان حكيمًا في أقواله وأفعاله، وتصرفاته، وأفكاره، موافقًا للصواب في جميع أموره بإذن الله تعالى، وذلك في المطالب الآتية: المطلب الأول: السلوك الحكيم. المطلب الثاني: العمل بالعلم والإخلاص. المطلب الثالث: الاستقامة. المطلب الرابع: الخبرات والتجارب. المطلب الخامس: السياسة الحكيمة. المطلب السادس: فقه أركان الدعوة إلى الله تعالى. ¬

(¬1) انظر: هذه الطرق بالتفصيل في هذا الكتاب في الصفحات التالية: 43، 90، 93 - 97، 120 - 122 و 542 - 547.

المطلب الأول السلوك الحكيم

المطلب الأول السلوك الحكيم السلوك: مصدر سلك طريقًا، وسلك المكان يسلكه سلكا وسلوكًا (¬1) وسلكه غيره. والسلوك: سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيئ السلوك (¬2). أما الخلق فهو: حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر وروية، وجمعه: أخلاق. والأخلاق علم موضوعه أحكام قيمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح (¬3) وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يكون طبيعيّا من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه. القسم الثاني: ما يكون مستفادًا بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر ثم يستمر عليه حتى يصير ملكة وخلقًا (¬4). والسلوك عمل إرادي، كقول الصدق، والكذب، والبخل، والكرم، ونحو ذلك. فاتضح أن الخلق حالة راسخة في النفس وليس شيئًا خارجًا مظهريا، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان، ولا بد لنا من مظهر يدلنا على هذه ¬

(¬1) لسان العرب لابن منظور، حرف الكاف فصل السين10/ 442. (¬2) المعجم الوسيط، مادة (سلك) 1/ 445. (¬3) المعجم الوسيط، مادة (خلق) 1/ 252. (¬4) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، د / محمود حمدي زقزوق ص39.

الصفة النفسية، وهذا المظهر هو السلوك، فالسلوك هو المظهر الخارجي للخلق، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخص ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق، ورمز له، وعنوانه، فإذا كان السلوك حسنا دل على خلق حسن، وإن كان سيئا دل على خلق قبيح، كما أن الشجرة تعرف بالثمر، فكذلك الخلق الطيب يعرف بالأعمال الطيبة (¬1). والحكمة تتفرع إلى فروع، وأحد هذه الفروع هو السلوك الحكيم، والتزام فضائل الأخلاق، واجتناب رذائلها ظاهرًا وباطنًا هو السلوك الأخلاقي الحكيم (¬2). والداعية إذا التزم السلوك الأخلاقي الحكيم كان ذلك من أعظم طرق اكتساب الحكمة، ومن أسباب توفيق الله له في دعوته، وفي أموره كلها، واستقامته، وحسن سيرته، وأدعى لقبول دعوته، وإصلاح الأخلاق، ومحاربة المنكرات، إذ لا يجد في الناس من يغمزه في سلوكه الشخصي، سواء كان ذلك قبل قيامه بالدعوة أو بعده، وكثيرًا ما سمعنا أن أناسًا قاموا بدعوة الإصلاح، وخاصة إصلاح الأخلاق، وكان من أكبر العوامل في إعراض الناس عنهم، وعن دعوتهم ما يذكرونه لهم من ماض ملوّث، وخلق غير مستقيم، بل إن هذا الماضي السيئ مدعاة للشك في صدق مثل هؤلاء الدعاة، بحيث يتهمون بالتستر وراء دعوة الإصلاح؛ لأغراض خاصة، أو يتهمون بأنهم ما بدءوا بالدعوة إلى الإصلاح إلا بعد أن قضوا بعض أوقات أو مراحل أعمارهم، وأخذوا نصيبهم من ملذات الحياة وشهواتها، وأصبحوا في وضع أو عمر لا أمل لهم فيه بالاستمرار فيما كانوا يبلغون فيه من عرض أو مال، أو شهرة، أو جاه. ¬

(¬1) انظر: مقدمة في علم الأخلاق ص 43. (¬2) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني 1/ 13.

المسلك الأول قدوة الداعية في سلوكه

أما الداعية المستقيم في شبابه وحياته كلها، فإنه يظل أبدًا بفضل الله رافع الرأس، ناصع الجبين، ولا يجد أعداء الدعوة سبيلا إلى غمزه بماض قريب أو بعيد، ولا يتخذون من هذا الماضي المنحرف وسيلة إلى التشهير به، أو دعوة الناس إلى الاستخفاف به وبشأنه. ولا شك أن الله - عز وجل - يقبل توبة التائب المقبل عليه بصدق وإخلاص، ويمحو بحسناته الحاضرة سيئاته المنصرمة. والداعية إذا استقامت سيرته، وحسنت سمعته الطيبة الحميدة، وسلوكه الحكيم (¬1) نجح في دعوته بإذن الله تعالى. وإذا سلك الداعية المسالك الحكيمة في سلوكه فقد سلك أعظم الطرق في اكتساب الحكمة، ومن هذه المسالك على سبيل المثال: ما يأتي: المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه. المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم. المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة. المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه: ينبغي للداعية أن يتخذ في سلوكه وأعماله كلها قدوة حكيمًا، وإمامًا نبيلاً، وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فقد كان حسن السيرة والسلوك، بل كان أعظم خلق الله في حسن خلقه الذي دل عليه سلوكه الحكيم، ولا غرابة فقد مدحه ربه وأثنى عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] (¬2) وعرف قومه ذلك منه، ولكن صد بعضهم عن تصديقه الَكبر والجحود {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] (¬3) ولهذا عندما قال ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي ص 39. (¬2) سورة القلم، الآية 4. (¬3) سورة الأنعام، الآية 33.

صلى الله عليه وسلم لقومه: «أرأيتَكم لو أخبرتُكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ "، قالوا: ما جربنا عليك كذبًا. قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» (¬1). وفي حديث أبي سفيان مع هرقل حينما سأله عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه، قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: قلت: لا. . . ثم قال: ماذا يأمركم به؟ قال أبو سفيان: قلت: يقول: " اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة. . " ثم قال هرقل لأبي سفيان في نهاية الحديث: فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه " (¬2). فهذا الرسول الكريم هو قدوة الداعية، وإمامه الذي يسير على هديه، ويلتزم أخلاقه، وسلوكه، فقد كان صلى الله عليه وسلم حسن السيرة والسلوك الحكيم في حياته كلها، ولم يتهم بشيء مما كان يعمله قومه، فقد نشأ صلى الله عليه وسلم في مجتمع كثرت فيه المفاسد، وعمت فيه الرذائل: فالبغاء، والاستبضاع، والزنا الجماعي، والأفرادي، ونكاح أسبق الرجال ممن مات زوجها، والاعتداء على الأعراض والأموال والدماء، كل ذلك كان شائعًا في قومه قبل الإسلام، لا ينكره أحد، ولا تحاربه جماعة، هذا بالإضافة إلى وَأْدِ البنات، وقتل الأولاد خشية الفقر أو العار، ولعب الميسر، وشرب الخمر، أمور تعد في الجاهلية من المفاخر والتباهي، وليس من شرط أن يكون المجتمع كله ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة تبت، باب حدثنا يوسف 8/ 737، ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، 1/ 194. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا أبو اليمان، 1/ 32.

يرتكب هذه الجرائم، وإنما عدم إنكارها هو دليل على الرضا بها، وهذا ما يدعو إلى انتشارها إلى جانب الأفكار الأخرى. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعمل أي عمل أو يباشر أي خلق من هذه الأخلاق الرذيلة، بل قد اتصف بجميع مكارم الأخلاق بين قومه، فكان صادقًا لا يعرف الكذب، أمينًا لا يعرف الخيانة، وفيًّا لا يعرف الغدر، حتى كان معروفًا في مجتمعه بهذه الصفات، مميزًا بها عن غيره، ولا يجهل ذلك أحد ممن عرفه، ولا يساويه في ذلك أحد من خلق الله، ولا ينكر ذلك أحد، سواء كان عدوًّا أو غيره، ولا يمكن أن يتهمه خصم، فقد بعث صلى الله عليه وسلم وناصبَهُ قومه العداء، ولكن لم يستطع واحد منهم أن يتهمه بصفة غير لائقة أو خلق يعيبه به، ولو عرفوا شيئًا من ذلك - وقد عاش بينهم أربعين عامًا - لأراحهم من التنقيب عن خصلة غير حميدة يتهمونه بها عندما يحل الموسم، ويلتقي بالناس في الحج حتى يبعدوه عنهم فعجزوا عن ذلك، ووجدوا أن كلمة " ساحر " هي أنسب الصفات التي يطلقونها عليه حيث يفرق بدعوته إلى الله بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والرجل وزوجته، واتهموه بالجنون؛ لأنه خالف شركهم ودعا إلى عبادة الله وحده، ولم يستطيعوا أن يأتوا بأي خلق رذيل فينسبوه إليه صلى الله عليه وسلم، وعندما سألهم صلى الله عليه وسلم عن صدقه قالوا: " ما جربنا عليك كذبًا " (¬1) ولهذا لُقِّبَ بين قومه بـ " محمد الأمين " (¬2). فالصدق والأمانة من أولى الأخلاق وأحكم السلوك التي يجب على ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب حدثنا يوسف بن موسى 8/ 737، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، 1/ 194، وتقدم تخريجه. (¬2) أحمد في المسند من حديث السائب بن عبد الله - رضي الله عنه - بإسناد حسن 3/ 425، قال الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي وله شاهد من حديث علي - رضي الله عنه - رواه الطيالسي بترتيب الشيخ عبد الرحمن البنا 2/ 86.

الدعاة إلى الله الاتصاف والتخلق بها، والصدق يكون في: القول، والنية، والعزم، والعمل. فالصدق في القول هو أشهر أنواع الصدق، ويكون بالأخبار، فإن نقل الداعية أو غيره من المسلمين خلاف الواقع وما هو عليه فهو كاذب ومفتر، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105] (¬1). قال صلى الله عليه وسلم «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» (¬2). والصدق في النية: الإخلاص في العمل لوجه الله تعالى. والصدق في العزم على العمل، كأن يقول المسلم: لئن عافاني الله لأتصدقن في سبيله بكذا، فإذا عوفي دخل الصدق بالوفاء فيما نذر به. وقد ذم الله - عز وجل - عدم الصدق بالوفاء بالعهد: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ - فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ - فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] (¬3). والصدق في العمل: يكون بأن لا يختلف ظاهر الداعية المسلم عن باطنه (¬4) فما أجمل، وما أحسن، وما أحكم، وما أكرم من سار على هديه ¬

(¬1) سورة النحل، الآية 105. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب علامات المنافق 1/ 89، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق 1/ 87. (¬3) سورة التوبة، الآيات 75 - 77. (¬4) انظر: التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر 1/ 33.

المسلك الثاني أصول السلوك الحكيم

صلى الله عليه وسلم واتبع سلوكه الحكيم، وكل سلوكه حكيم صلى الله عليه وسلم وكيف لا يكون كذلك وهو الذي بعثه الله رحمة للعالمين، متممًا لمكارم الأخلاق، قال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬1). وسُئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه، فقالت: " فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن " (¬2). ولنا فيه خير أسوة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] (¬3). فحريٌّ بالداعية أن يلتزم سلوكه، وبذلك يكون حكيمًا في دعوته، موافقاً للصواب بإذن الله تعالى. المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم: لقد جعل الله - عز وجل - للسلوك الحكيم قواعد عظيمة، إذا التزمها الداعية إلى الله - عز وجل - كان ذلك من أسباب توفيق الله له، واكتسابه الحكمة، ومن أجمع الآيات في هذا الشأن، قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] (¬4). وهذه الآية من أعظم قواعد السلوك الحكيم وأصوله العظيمة، فهي جامعة لجميع المأمورات والمنهيات، لم يبق شيء إلا دخل فيها، وهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات، فكل مسألة مشتملة على عدل، أو إحسان، أو إيتاء ذي قربى، فهي مما أمر الله به. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بلفظه 10/ 192، وأحمد2/ 381، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/ 613، وانظر: صحيح الجامع الصغير3، برقم2830، والأحاديث الصحيحة 1/ 75، برقم 45. (¬2) مسلم، في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض1/ 513. (¬3) سورة الأحزاب، الآية 21. (¬4) سورة النحل، الآية 90.

وكل مسألة مشتملة على فحشاء، أو منكر أو بغي، فهي مما نهى الله عنه. وبهذا يُعْلَم حسن ما أمر الله به، وقبح ما نهى عنه، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال، وترد إليها سائر الأحوال (¬1). فهذه الأوامر والنواهي جمعت فضائل الأخلاق والآداب، وأنواع التكاليف التي رسمها الله وحث عليها، لما فيها من إصلاح النفوس، وصلاح حال الأمم والشعوب (¬2) ولهذا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: " أجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] الآية " (¬3). والداعية المسلم من أولى الناس بتطبيق هذا السلوك الحكيم، فيكون عدلًا محسنًا، واصلا لأقربائه، مبتعدًا عن الفحشاء، والمنكر، والبغي. والعدل: ضد الجور (¬4) وهو إعطاء المرء ماله وأخذ ما عليه (¬5) وأنواعه ثلاثة: (أ) العدل بين العبد وربه، وهو: إيثار حق الله على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والامتثال للأوامر، والاجتناب للزواجر. (ب) العدل بين العبد وبين نفسه: منعها عما فيه هلاكها ودمارها، وإلزامها بتقوى الله في السر والعلن. ¬

(¬1) انظر: تفسير السعدي4/ 233، وفي ظلال القرآن لسيد قطب4/ 2189 - 2191، وتفسير المراغي 14/ 130. (¬2) انظر: تفسير المراغي 14/ 130. (¬3) أخرجه الإمام الطبري بسنده في تفسيره 4/ 109. (¬4) انظر: القاموس المحيط1331. (¬5) انظر: المعجم الوسيط 2/ 588.

(جـ) العدل بين العبد وبين الخلق: ببذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قل وكثر، والإنصاف من النفس بكل وجه، ولا يكون من الداعية إلى أحد مساءة بقول أو فعل، والصبر على ما يحصل منهم من البلوى، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل ما عليه (¬1). والإحسان: مصدر أحسن يحسن إحسانًا، وهو على معنيين (¬2). (أ) أحدهما متعد بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، أي: حسَّنته وكملته، وهو منقول بالهمزة، من: حسن الشيء، وهذا المعنى يدل عليه حديث جبريل: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (¬3). وهذا المعنى راجع إلى إحسان العبادة وتكميلها وتحسينها، والقيام بها كما يحب الله - تعالى على الوجه الأكمل، ومراقبة الله فيها واستحضار عظمته وجلاله: حالة الشروع فيها، وحالة الاستمرار. (ب) والمعنى الثاني: متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أي: أوصلت إليه ما ينتفع به، وهذا إيصال المنافع بأنواعها إلى الخلق، ويدخل في ذلك حتى الإحسان إلى الحيوانات (¬4). ومن قواعد السلوك الحكيم التي تشتمل على عدة من أمهات الحكم العالية (¬5) قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] ¬

(¬1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي3/ 1172، وأحكام القرآن للقرطبي10/ 166، وفي ظلال القرآن4/ 2190. (¬2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي10/ 167، وتفسير السعدي 4/ 232. (¬3) مسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان 1/ 37. (¬4) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي10/ 167. (¬5) انظر: تفسير السعدي 4/ 279، وتفسير النسفي4/ 130، والرياض الناضرة للسعدي ص 87.

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] الآيات, إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: 39] (¬1). فبين الله - عز وجل - في هذه الوصايا الحكيمة قواعد السلوك الحكيم، وبدأه بقاعدة التوحيد؛ ليقيم على هذه القاعدة البناء الاجتماعي كله، وآداب العمل والسلوك فيه، كما تربط بهذه العروة الوثقى جميع الروابط؛ فإن جميع ما في الحياة لا يقوم بناؤه إلا بالتوحيد، وكل سلوك لا يقوم ولا يستند إلى توحيد اللهّ لا تقوم له قائمة، ولا يطلق عليه سلوكا حكيمًا، بل سلوكًا جاهليًّا (¬2). وهذه الوصايا في سورة الإسراء من أعظم ما تكتسب به الحكمة، قال الإمام الشوكاني: " وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفًا " (¬3). فاشتملت هذه الوصايا على خمس وعشرين حكمة، الأخذ بها خير من الدنيا وما فيها، والتفريط فيها هو سبب خسران الدنيا والآخرة (¬4). ويختم الله - عز وجل - الأوامر والنواهي في الوصايا كما بدأها بربطها بالله وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك، وبيان أن هذه المذكورات بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الذي أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] وهو ختام يشبه الابتداء، فتجيء محبوكة الطَرفين، موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام الحياة، قاعدة: توحيد الله وعبادته وحده دون ما سواه (¬5). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآيات 22 - 39. (¬2) انظر: في ظلال القرآن 4/ 2209، 2220. (¬3) انظر: فتح القدير للشوكاني3/ 229. (¬4) انظر: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير2/ 599. (¬5) انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب 4/ 2228.

المسلك الثالث وصايا الحكماء باكتساب الحكمة

وبهذا يعلم أن من عمل بهذه القواعد، والتزم هذا السلوك الحكيم قد سلك أعظم طرق اكتساب الحكمة؛ لأن الحكمة معرفة الحق والصواب والعمل به، ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر الوصايا العشر في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] (¬1). المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة: الحكماء الذين آتاهم الله الحكمة يوصون باكتساب أصول الحكم التي من التزمها وعمل بها بإخلاص وصدق وفقه الله لاكتساب الحكمة، ومن ذلك ما أخبر الله به عن لقمان الحكيم ووصاياه الحكيمة التي آتاه الله إياها، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ - وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 12 - 13] الآيات إلى قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] (¬2). هذه وصية حكيم لابنه، فهي نصيحة مبرأة من العيب، وصاحبها قد أوتي الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا، وهي تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية من وصايا هذا الحكيم لابنه يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمرًا، وإلى تركها إن كانت نهيًا، وهذا يدل على أن الحكمة هي: العلم بالأحكام، وحكمها، ومناسباتها، ووضع الأشياء مواضعها. ¬

(¬1) الوصايا العشر في سورة الأنعام، الآيات: 151 - 153. (¬2) سورة لقمان، الآيات 12 - 19.

ومن فضل الله على عباده ومنته أن قص عليهم هذه الحكم حتى يعملوا بها ويكتسبوها بفضله تعالى، وهذا الحكيم أمر ابنه بأصل الدين وهو التوحيد ونهاه عن الشرك بالله، وبين له الموجب لتركه، وأمره ببر الوالدين، وبين له السبب الموجب لبرهما، وأمره بشكر الله وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما ما لم يأمرا بمعصية، ومع ذلك فلا يعقهما بل يحسن إليهما، وأن لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك، وأمره بمراقبة الله - عز وجل - وخوفه القدوم عليه، وأنه تعالى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر إلا أتى بها، فصور له عظمة علم الله، ودقة شموله، وإحاطته تصويرًا يرتعش له الوجدان البشري، وأوصاه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد ما أمره بتكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، حتى يحصل الكمال لغيره بعد كمال نفسه، ولما علم هذا الحكيم أنه لا بد أن يُبتلى إذا أمر ونهى، وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس أمره بالصبر على ما يحصل له من المشقة والأذى؛ فإنه لا بد وأن يواجه المتاعب التي يواجهها صاحب العقيدة الصحيحة، وبين له أن ذلك من الأمور التي يعزم عليها، ويهتم بها، ولا يقف لها إلا أهل العزائم؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصبر يسهل الله بذلك كل أمر عسير، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] (¬1). ومع ذلك كله من الأمر بجميع الحكم السابقة لم يغفل هذا الحكيم عن وصية ابنه بالآداب السامية، فنهاه عن التكبر، وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك حتى لا يتطاول على الناس فيفسد بالقدوة ما يصلح بالكلام. فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا، وهذا السلوك الحكيم أن يكون ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 45، وانظر: أيضا: سورة البقرة، الآية 153.

الأسباب التي اكتسب بها لقمان الحكمة

مخصوصًا بالحكمة، مشهورًا بها، وحقيق بمن التزم هذه الوصايا - بصدق وإخلاص ورغبة فيما عند الله - أن يؤتيه الله الحكمة، ويوفقه للصواب في القول والعمل (¬1). [الأسباب التي اكتسب بها لقمان الحكمة] ومما يبين أن الإنسان يكتسب الحكمة بتوفيق الله ثم بالتزامه للسلوك الحكيم - رغبة فيما عند الله وطلبًا لرضاه - ما ذُكِرَ من الأسباب التي اكتسب بها لقمان الحكمة بعد توفيق الله له وتسديده، ومن ذلك: أنه وقف رجل على لقمان، فقال له: أنت لقمان، أنت عبد بني النحاس؟ قال: نعم. قال: فأنت راعي الغنم الأسود؟ قال: أما سوادي فظاهر، فما الذي يعجبك من أمري؟ قال: وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك. قال: يا ابن أخي إن أنت صنعت ما أقول لك كنت كذلك، قال: وما هو؟ قال لقمان: " غَضي بصري، وكفي لساني، وعفة طعمتي، وحفظي فرجي، وقيامي بعدتي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذاك الذي صيرني كما ترى " (¬2). وسأله آخر عن السبب الذي بلغ به الحكمة، فقال: " قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني " (¬3). وسأله آخر، فقال: " صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني " (¬4). وهذه الأخلاق الكريمة، والسلوك الحكيم يزخر بها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست من قول لقمان وحده، فاتضح بذلك أن الداعية إلى الله وغيره من المسلمين إذا سلك هذه المسالك اكتسب الحكمة بعون الله تعالى. ¬

(¬1) انظر تفسير ابن كثير3/ 444، وفي ظلال القرآن5/ 2781، 2790، 2782، وتفسير السعدي 6/ 159، 161. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 2/ 224، وعزاه بسنده إلى ابن وهب. (¬3) البداية والنهاية 2/ 224، وعزاه لابن أبي حاتم بسنده. (¬4) أخرجه ابن جرير بإسناده في تفسيره21/ 44، وانظر: البداية والنهاية2/ 124.

المطلب الثاني العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص

المطلب الثاني العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص العمل بالعلم بإخلاص، وصدق، ورغبة في رضى الله - عز وجل - من أعظم المطالب التي تكتسب بها الحكمة بتوفيق الله وتسديده وفضله وإحسانه. والعلم هو ما قام عليه الدليل، وهو النقل المصدق والبحث المحقق، والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: علم الكتاب والسنة، والمطلوب من الإنسان هو فهم معانيهما، والعمل بما فيهما، فإن لم تكن هذه همة حافظ القرآن وطالب السنة لم يكن من أهل العلم والدين (¬1). ولهذا كانت الحكمة عند العرب هي العلم النافع والعمل الصالح (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " قال غير واحد من السلف: الحكمة معرفة الدين والعمل به " (¬3). والعلم بلا عمل حجة على صاحبه يوم القيامة، ولهذا حذر الله المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] (¬4). . ومثل من يتعلم العلم ويزداد منه ولا يعمل به مثل رجل احتطب حطبًا فحزم حزمة، ثم ذهب يحملها فعجز عنها، فضم إليها أخرى (¬5). والداعية لا يكون حكيمًا في دعوته ما لم يعمل بعلمه، ولهذا ينفر الناس عنه، وتزل موعظته من القلوب كما يزل القطر من الصفا؛ لأن الكلام - في ¬

(¬1) انظر: مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/ 136 6/ 338، 23/ 54. (¬2) المرجع السابق 19/ 170، وتفسير العلامة السعدي 6/ 154. (¬3) درء تعارض العقل والنقل 9/ 22، 23، وانظر: تفسير الطبري 1/ 87. (¬4) سورة الصف، الآيتان 2، 3. (¬5) انظر: الزهد للإمام أحمد ص85.

الغالب - إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان (¬1) قال الشاعر: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما تقول ويقتدي ... بالعلم منك وينفع التعليم تصف الدواء لذي السقام من الضنا ... كيما يصح به وأنت سقيم أراك تلقح بالرشاد عقولنا ... نصحًا وأنت من الرشاد عديم لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم (¬2) والعمل بالعلم لا بد فيه من الإخلاص، والإخلاص لا بد أن يقصد به وجه الله، ومحبته، ورضاه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: "حُكِيَ أن أبا حامد بلغه أن من أخلص لله أربعين يومًا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، قال: فأخلصت أربعين يومًا، فلم يتفجر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال لي: إنك أخلصت للحكمة، لم تُخْلِصْ للهِ " (¬3). وذلك أن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة، أو نيل المكاشفات والتأثيرات، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه، أو غير ذلك من المطالب. وقد عرف أن ذلك لم يحصل بالإخلاص لله، وإرادة وجهه، فإذا قصد أن طلب ذلك بالإخلاص لله وإرادة وجهه كان متناقضًا؛ لأن من أراد شيئًا لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته، والأول يراد لكونه وسيلة إليه، فإذا ¬

(¬1) انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر2/ 8. (¬2) انظر: المرجع السابق1/ 196، ودرء تعارض العقل والنقل9/ 22، 23. (¬3) درء تعارض العقل والنقل6/ 66.

قصد أن يخلص؛ ليصير عالمًا، أو عارفًا، أو ذا حكمة، أو متشرفًا بالنسبة إليه، أو صاحب مكاشفات وتصرفات، ونحو ذلك، فهو هنا لم يرد الله، بل جعل الله وسيلة له إلى ذلك المطلوب الأدنى، وإنما يريد الله ابتداء من ذاق حلاوة محبته وذكره (¬1). وقال ابن تيمية - رحمه الله-: "وقد روي: إذا زهد العبد في الدنيا وكل الله- سبحانه- بقلبه ملكًا يغرس فيه آثار الحكمة كما يغرس أكار (¬2) أحدكم الفسيل في بستانه " (¬3). أما من لم يعمل بالعلم، أو عمل به ولكنه لم يخلص في ذلك فهذا بعيد عن إيتاء الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا؛ ولهذا قال الشاعر: وكيف يصح أن تُدعى حكيمًا ... وأنت لكل ما تهوى ركوب (¬4) ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل6/ 66، 67 بتصرف. (¬2) الأكار: الزراع. انظر: لسان العرب، حرف الراء، فصل الهمزة، مادة: أكر. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل 8/ 518. (¬4) انظر: المرجع السابق 9/ 22، 23.

المطلب الثالث الاستقامة

المطلب الثالث الاستقامة الاستقامة: كلمة جامعة تشمل الدين كله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] (¬1) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13 - 14] (¬2). وقال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] (¬3). وعن سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه- قال: «قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك! قال: " قل: آمنت بالله، ثم استقم» (¬4). والمطلوب من العبد المسلم وخاصة الدعاة إلى الله: الاستقامة، وهي السداد؛ فإن لم يقدر فالمقاربة، فإن نزل عن المقاربة، فلم يبق إلا التفريط والضياع. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله "، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؛ قال: " ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (¬5). ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية 30. (¬2) سورة الأحقاف، الآيتان 13، 14. (¬3) سورة هود، الآية 112. (¬4) مسلم، في كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام1/ 65. (¬5) مسلم، في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله 4/ 2170.

فجمع هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة، وهي: السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يطيقون الاستقامة، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقرب الإنسان من الاستقامة بحسب طاقته، كالذي يرمي إلى الهدف، فإن لم يصبه يقاربه، ومع هذا أخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة، فلا يعتمد أحد على عمله، ولا يعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة الله، وعفوه، وفضله، فالاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين كله، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات. والداعية إلى الله يجب أن يكون من أعظم الناس استقامة، وبهذا- بإذن الله تعالى- لا يُخيِّب الله سعيه، ويجعل الحكمة على لسانه، وفي أفعاله، وتصرفاته، وهو تعالى ذو الفضل والإِحسان (¬1). وأعظم الكرامة لزوم الاستقامة، وبذلك يقبل قول الداعية، ويقتدى بأفعاله، فيعطى بذلك خيرًا كثيرًا، وثوابًا جزيلًا، لِإخلاصه وصدق نيته، ورغبته فيما عند الله- عز وجل-، ويحصل على أحسن قول وعمل على الإطلاق، كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] (¬2). إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الدعوة، ومع الاستسلام الكامل لله وحده، والاعتزاز بالإِسلام. وبهذا يعلم أن هذه الآية اشتملت على ثلاثة شروط حتى يكون الداعية ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم2/ 105، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي15/ 357. (¬2) سورة فصلت، الآية 33.

لا أحد أحكم ولا أحسن قولًا منه في الدنيا أبدًا: الشرط الأول: دعوته إلى الله- تعالى- بأن يعبد وحده، فيطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. الشرط الثاني: عمل الداعية الصالحات بأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والقيام بالمستحبات، والابتعاد عن المكروهات، فهو مع دعوته الخلق إلى الله يبادر هو بنفسه إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي. الشرط الثالث: اعتزاز الداعية بالإسلام وانقياده لأمره شكرًا لربه؛ ولأنه على الحق الواضح المبين، فإذا قام الداعية بهذه الشروط الثلاثة، فلا أحد أحسن قولا منه (¬1). ولكن قد يحصل للداعية ما يصده عن دعوته من شياطين الإنس، وشياطين الجن، فبين الله- عز وجل- أن المخرج من شياطين الإنس بالإحسان إليهم، ومعاملتهم باللين، والعفو عنهم، والإعراض عن جهلهم وإساءتهم. أما شياطين الجن فلا منجى منهم إلا بالاستعاذة منهم بالله وحده (¬2) قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ - وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 199 - 200] (¬3). ولا شك أن الداعية إذا سلك هذه المسالك الحكيمة اكتسب الحكمة بتوفيق الله تعالى. ¬

(¬1) انظر: تفسير العلامة السعدي6/ 575، وتفسير الجزائري4/ 120. (¬2) انظر: أضواء البيان للشنقيطي2/ 341، 342، وتفسير السعدي6/ 527، وزاد المعاد2/ 462. (¬3) سورة الأعراف، الآيتان 199، 200 وانظر سورة المؤمنون، الآيات 96 - 98، وسورة فصلت، الآيات 34 - 36.

المطلب الرابع الخبرات والتجارب

المطلب الرابع الخبرات والتجارب التجربة لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات، وهي من أعظم طرق اكتساب الحكمة، والتجربة لا تخرج الحكمة عنِ كونها فضل الله يؤتيه من يشاء؛ فإنه المعطي الوهاب {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] (¬1) ولكنه سبحانه جعل لكل شيء سببًا يوصل إليهَ. والتجربة في العلم اختبار منظم لظاهرة أو ظواهر يراد ملاحظتها ملاحظة دقيقة منهجية؛ للكشف عن نتيجة ما، أو تحقيق غرض معين، وما يعمل أولا لتلافي النقص في شيء وإصلاحه (¬2) ويقال: جربه تجربة: اختبره، ورجل مجرب، كمعظم: بُلِيَ ما كان عنده، ومجرب: عرف الأمور (¬3) تقول: جربت الشيء تجريبًا: اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة، والجمع التجارب (¬4). وعن معاوية - رضي الله عنه- قال: "لا حكيم إلا ذو تجربة" (¬5). ومن المعلوم أن الحكيم لا بد له من تجارب قد أحكمته، ولهذا قيل: "لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة" (¬6). والمعنى: لا حليم إلا صاحب زلة قدم، أو لغزة قلم في تقريره أو تحريره. وقيل: لا حليم كاملا إلا من وقع في زلة وحصل منه الخطأ والتخجل فعفي عنه فعرف به رتبة العفو فيحلم عند عثرة غيره؛ لأنه عند ¬

(¬1) سورة النحل، الآية 53. (¬2) المعجم الوسيط، مادة: جرب1/ 114. (¬3) القاموس المحيط، باب الباء، فصل الجيم ص 85. (¬4) المصباح المنير، مادة جرب ص95. (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، موقوفا على معاوية مجزومًا به 10/ 529. (¬6) الترمذي، كتَاب البر والصلة، باب ما جاء في التجارب4/ 379، وأحمد في المسند3/ 8.

الاستفادة من تجارب الأنبياء

ذلك يصير ثابت القدم، ولا حكيم كاملا إلا من جرب الأمور، وعلم المصالح والمفاسد؛ فإنه لا يفعل فعلا إلا عن حكمة، إذ الحكمة إحكام الشيء وإصلاحه عن الخلل (¬1) والحكيم هو المتيقظ المنتبه، أو المتقن للحكمة الحافظ لها (¬2). والحكمة من أثمن نتائج التمييز والتفكير، وهي زبدة العلم والاختبار، فالعلم يخطط الأسس النظرية، ثم يكتمل ويصقل بالخبرة العملية المبنية على المران والتجارب، ولهذا كان العلماء الأحداث بسبب قلة تجاربهم أنقص حكمة، وأقل رسوخًا في العلم من كبار العلماء الراسخين في العلم (¬3). وبهذا يعلم أن الداعية إلى الله إذا خالط الناس، وعرف عاداتهم وتقاليدهم، وأخلاقهم الاجتماعية، ومواطن الضعف والقوة، سيركز على ما ينفع الناس، ويضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه قد جربهم، فالتجارب تنمي المواهب والقدرات، وتزيد البصير بصرًا، والحليم حلمًا، وتجعل العاقل حكيمًا، وقد تشجع الجبان، وتسخي البخيل، وقد تُليِّن قلب القاسي، وتقوِّي قلب الضعيف، ومن زادته التجارب عمى إلى عماه فهو من الحمقى الذين قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون (¬4). [الاستفادة من تجارب الأنبياء] وأعظم الناس تجربة، وأكملهم حكمةً: الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم صفوة البشر اصطفاهم الله ورباهم، ثم أرسلهم لِإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومع هذا ما بعث الله من نبي إلا رعى ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 10/ 530، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي6/ 182. (¬2) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير6/ 424. (¬3) انظر: الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية للدكتور /صبحي محمصاني ص140. (¬4) انظر: هكذا علمتني الحياة، القسم الأول، للدكتور مصطفى السباعي ص47.

الغنم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم "، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (¬1) وفي رواية: «قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: "وهل من نبي إلا وقد رعاها؟» (¬2). والحكمة من ذلك- والله أعلم- أن الله- عز وجل- يلهم الأنبياء قبل النبوة رعي الغنم؛ ليحصل لهم التمرين والتجربة برعيها على ما يُكلَّفُونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يُحصِّل لهم الحلم والشفقة، كما قال، صلى الله عليه وسلم: «أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدةً وألين قلوبًا. الإِيمانُ يَمانٍ، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإِبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم» (¬3) ولأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها، وشدة تفرقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طبائعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك؛ لكونها أضعف من غيرها؛ ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإِبل والبقر، لإِمكان ضبط الإِبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادًا من غيرها (¬4). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الإِجارة، باب رعي الغنم على قراريط 4/ 441. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب يعكفون على أصنام لهم 6/ 438، وكتاب الأطعمة، باب الكباث 9/ 575، ومسلم في الأشربة، باب فضيلة الأسود من الكباث 3/ 1621، وهو النضيج من ثمر الأراك، انظر. شرح النووي14/ 6. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن 8/ 98، ومسلم في الإِيمان، باب تفاضل أهل الإِيمان1/ 71. (¬4) انظر. فتح الباري4/ 441، وشرح النووي على مسلم14/ 6.

الداعية بكثرة تجاربه يذداد حكمة

ثم بعد رعيهم الغنم جربوا الناس، وعرفوا طبائعهم، فازدادوا تجارب إلى تجاربهم، ولهذا قال موسى صلى الله عليه وسلم لمحمد صلى الله عليه وسلم عندما فرضت عليه الصلاة خمسون صلاة في كل يومٍ ليلة الإسراء والمعراج: «إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك». . " فما زال النبي يراجع ربه ويضع عنه حتى أُمِرَ بخمس صلوات كل يوم (¬1). فموسى صلى الله عليه وسلم قد جرب الناس، وعلم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أضعف من بني إسرائيل أجسادًا، وأقل منهم قوةً، والعادة أن ما يعجز عنه القوي فالضعيف من باب أولى (¬2). [الداعية بكثرة تجاربه يذداد حكمة] فالداعية بتجاربه بالسفر، ومعاشرته الجماهير، وتعرفه على عوائد الناس وعقائدهم، وأوضاعهم، ومشكلاتهم، واختلاف طبائعهم وقدراتهم، سيكون له الأثر الكبير في نجاح دعوته وابتعاده عن الوقوع في الخطأ؛ لأنه إذا وقع في خطأ في منهجه في الدعوة إلى الله، أو أموره الأخرى لا يقع فيه مرة أخرى، وإذا خُدعَ مرة لم يخدع مرة أخرى، بل يستفيد من تجاربه وخبراته، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين» (¬3) وقال: «كلكم خطاء، وخير الخطائين التوابون» (¬4). وإذا أراد الداعية أن يكتسب الحكمة من التجارب، فلا بد له - لِإصلاح المتدينين وتوجيههم- أن يعيش معهم في مساجدهم، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج 7/ 202. (¬2) انظر: حاشية السندي على سنن النسائي 1/ 220، وفتح الباري 1/ 463. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين10/ 529، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين4/ 2295. (¬4) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حدثنا هناد4/ 659، وابن ماجه في الزهد باب ذكر التوبة 2/ 1420، والدارمي في الرقاق، باب التوبة، 2/ 213، وانظر: صحيح الترمذي 2/ 305.

ومجتمعاتهم، ومجالسهم، وإذا أراد إصلاح الفلاحين والعمال عاش معهم في قراهم ومصانعهم، وإذا أراد أن يصلح المعاملات التجارية بين الناس، فعليه أن يختلط بهم في أسواقهم، ومتاجرهم، وأنديتهم، ومجالسهم، وإذا أراد أن يصلح الأوضاع السياسية، فعليه أن يختلط بالسياسيين، ويتعرف إلى تنظيماتهم، ويستمع لخطبهم، ويقرأ لهم برامجهم، ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها، والثقافة التي حصلوا عليها، والاتجاه الذي يندفعون نحوه؛ ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم، وكيف يسلك في إصلاحهم بما لا يدعوهم إلى محاربته عن كره نفس واندفاع عاطفي، فيحرم نفسه من الدعوة إلى الله، ويحرم الناس من علمه (¬1) وهذا يؤهله إلى أن يُحَدِّثَ الناس بما يعرفون، ولا يحدثهم حديثًا لا تبلغه عقولهم، قال علي - رضي الله عنه-: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّبَ الله ورسوله " (¬2). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه-: "ما أنت بِمُحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" (¬3). وهكذا ينبغي أن يكوِّن الداعية من تجاربه في الحياة، ومعرفته بشؤون الناس ما يمكنه من اكتساب الحكمة، وتحقيق قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (¬4). ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي، ص41، والرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، لعبد الرحمن السعدي، ص88. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا 1/ 225. (¬3) مسلمْ، في المقدمة، باب النهى عن الحديث بكل ما سمع 1/ 111. (¬4) سورة النحل، الآية 125.

المطلب الخامس السياسة الحكيمة

المطلب الخامس السياسة الحكيمة إذا سلك الداعية إلى الله مسلك السياسة الحكيمة في دعوته إلى الله تعالى، فسيكون لذلك عظيم الأثر في نجاح دعوته واكتسابه الحكمة، والوصول إلى الغاية المطلوبة بإذن الله تعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم هو أُسوتنا وقدوتنا، وإمام الدعاة إلى الله، قد سلك هذا المسلك، فنفع الله به العباد، وأنقذهم به من الشرك إلى التوحيد، وكان لسياسته الحكيمة عظيم النفع والأثر في نجاح دعوته، وإنشاء دولته، وقوَّة سلطانه، ورفعة مقامه، ولم يعرف في تاريخ السياسات البشرية أن رجلا من الساسة المصلحين في أي أمة من الأمم كان له مثل هذا الأثر العظيم، ومَن مِن المصلحين المبرزين- سواء كان قائدًا محنكا، أو مربيًا حكيمًا- اجتمع لديه من رجاحة العقل، وأصالة الرأي، وقوة العزم، وصدق الفراسة، ما اجتمع في رسول الله-صلى الله عليه وسلم؟ ولقد برهن على وجود ذلك فيه: صحة رأيه، وصواب تدبيره، وحسن تأليفه، ومكارم أخلاقه، صلى الله عليه وسلم (¬1). فإذا قام الداعية بسلوك هذا المسلك بإخلاص، وصدق وعزيمة، اكتسب من الحكمة في الدعوة إلى الله مكتسبًا عظيمًا. وطرق السياسة الحكيمة في الدعوة إلى الله- عز وجل- كثيرة، منها ما يأتي: 1 - تحري أوقات الفراغ، والنشاط، والحاجة عند المدعوين حتى لا يملوا عن الاستماع ويفوتهم من الإرشاد والتعليم النافع، والنصائح الغالية الشيء الكثير، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة كراهة السآمة عليهم، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- قال: ¬

(¬1) انظر: هداية المرشدين، للشيخ علي بن محفوظ ص24 و31.

«كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا» (¬1). ولهذا طبق الصحابة هذه السياسة، فقد كان عبد الله بن مسعود يذكِّر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا» (¬2). وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» (¬3). 2 - ترك الأمر الذي لا ضرر في تركه ولا إثم، اتقاء للفتنة، فقد يجد الداعية قومًا استقر مجتمعهم وعاداتهم على أشياء لا تخالف الشريعة؛ ولكن فعل غيرها أفضل، فإذا علم الداعية أنه سيحصل فتنة إذا دعا إلى ترك هذا الأمر أو فعله فلا حرج ألا يدعو، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم اجتنابًا لفتنة قوم كانوا حديثي عهد بجاهلية، فعن عائشة - رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: بابا شرقيًّا، وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم» (¬4). وفي رواية: «إن قومك قصرت بهم النفقة»، قلت: فما شأن بابه ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا 1/ 162، وباب من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة 1/ 163. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة 1/ 163. (¬3) البخاري مع الفتح كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة 1/ 162، ومسلم، كتاب الجهاد، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير3/ 1358. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها 3/ 439، ومسلم، في الحج، باب نقض الكعبة وبنائها 2/ 969.

مرتفعًا؟ قال: «فعل ذلك قومك لِيُدخِلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض» (¬1). وهذا يدل الداعية على أن المصالح إذا تعارضت، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهو خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيمًا، فتركها صلى الله عليه وسلم لدفع هذه المفسدة" (¬2). 3 - تأليف القلوب بالمال والجاه أحيانًا، فالداعية كالطبيب الذي يشخص المرض أولا، ثم يعطي العلاج على حسب نوع المرض، فإذا علم الداعية أن المدعو لم يرسخ الإيمان في قلبه رسوخًا لا تزلزله الفتن، فله أن يعطيه من المال ما يستطيعه، للاحتفاظ بالبقاء على الهداية بالإسلام، وقد شرع الله للمؤلفة قلوبهم نصيبًا من الزكاة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلك هذا المسلك، فيؤثر حديثي العهد بالإسلام بجانب من المال، إذا ظهر له أن الإيمان لم يرسخ؛ ولذلك أشار بقوله: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يُكبّ في النار على وجهه» (¬3). وقد كان يعطي صلى الله عليه وسلم أشراف قريش وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، لتلافي أحقادهم؛ ولأن الهدايا تجمع القلوب، وتجعل القلوب متهيئة للنظر في ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها 3/ 439، ومسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة 2/ 972. (¬2) انظر: شرح النووي على مسلم9/ 89. (¬3) البخاري مع الفتح بنحوه، كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة1/ 79، ومسلم في الإيمان، باب تأليف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه1/ 132.

صدق الدعوة، وصحة العقيدة، والاستفادة من الآيات البينات، والبراهين الواضحة (¬1). وصدق صلى الله عليه وسلم حيث قال: «تهادوا تحابوا» (¬2). وللتأليف بالمال أمثلته كثيرة من هديه صلى الله عليه وسلم (¬3). والتأليف بالجاه من السياسة الحكيمة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للأنصار حينما آثر عليهم غيرهم في العطاء: «أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فواللَّه لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به»، فقالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا (¬4). وفي رواية: «لو سلك الناس واديًا أو شعبًا، وسلكت الأنصار واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار» (¬5) فإذا سلك الداعية هذه السياسة وفق للصواب والحكمة- بإذن الله تعالى-. 4 - التأليف بالعفو في موضع الانتقام، والإحسان في مكان الإِساءة، وباللين في موضع المؤاخذة، وبالصبر على الأذى، فكان يقابل الأذى بالصبر الجميل، ويقابل الحمق بالحلم والرفق، ويقابل العجلة والطيش بالأناة والتثبت. ¬

(¬1) انظر: هداية المرشدين، ص35. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى6/ 169، والبخاري في الأدب المُفْرَد، ص208، برقم594، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: إسناده حسن3/ 70، وانظر: ارواء الغليل برقم 1601. (¬3) انظر: صحيح مسلم 4/ 1803 - 1806، وانظر: مواقف الكرم للنبي صلى الله عليه وسلم في فصل (المواقف) من هذه الرسالة، وانظر أيضًا: البخاري مع الفتح3/ 135، 6/ 250، 11/ 258. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم6/ 251، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم وتصبر من قوي إيمانه 2/ 734، 735. (¬5) مسلم، في كتاب الزكاة، الباب السابق2/ 735.

وهذا من أعظم ما يجذب المدعوين إلى الإسلام والاستقامة والثبات، وبمثل هذه المعاملة الحسنة جمع النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أصحابه حوله، فتفانوا في محبته والدفاع عنه، وعن دعوته بمؤازرته ومناصرته. وقد مدح الله رسوله، وأمره بالعفو والصفح والاستغفار لمن تبعه من المؤمنين {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (¬1) {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] (¬2) 5 - عدم مواجهة الداعية أحدًا بعينه عندما يريد أن يؤدبه أو يزجره ما دام يجد في الموعظة العامة كفاية، وهذا من السياسة البالغة في منتهى الحكمة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلك هذا الأسلوب الحكيم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فيتنخع أمامه، أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليفعل هكذا»، ووصف القاسم فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض (¬3). وفقد صلى الله عليه وسلم ناسًا في بعض الصلوات، فقال: «والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجَلا ¬

(¬1) سورة آل عمران الآية 159. (¬2) سورة التوبة 128. (¬3) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهى عن البصاق في المسجد1/ 389.

يؤم الناس، ثم أخالف إلى رجالٍ [يتخلفون عنها] فأحرق عليهم بيوتهم» (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة»، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: «لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» (¬2). وصنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب، فحمد الله، ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن شيءٍ أصنعه، فواللَّه إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» (¬3). وقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬4). وبلغه شرط أهل بريرة - رضي الله عنها- أن الولاء لهم بعد بيعها، ثم خطب الناس فقال: «ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق» (¬5). وهذا يدل الداعية على أن من الحكمة عدم مواجهة الناس بالعتاب سترًا عليهم ورفقًا بهم، وتلطفًا. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة2/ 125، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة1/ 451. وما بين المعكوفين من رواية مسلم. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، 2/ 233. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب 10/ 513، ومسلم، كتاب الفضائل، باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله تعالى وشدة خشيته 4/ 1829. (¬4) مسلم، في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه2/ 1020. (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب المكاتب، باب ما يجوز من شروط المكاتب5/ 187، ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق2/ 1142.

والداعية يستطيع أن يوجه العتاب عن طريق مخاطبة الجمهور إذا كان المدعو المقصود بينهم ومن جملتهم، وهذا من أحكم الأساليب (¬1). 6 - إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه، كقوله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (¬2). فقد صور صلى الله عليه وسلم الدلالة على فعل الخير في صورة الفعل نفسه. وكقوله صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيًا فقد غزا» (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قيل: يا رسول الله: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه» (¬4). وهذا أصل في سد الذرائع، ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل وإن لم يقصد إلى ما يحرم (¬5) كما قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] (¬6) فقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من يسب أبا الغير وأمه صورة من يسب والديه؛ لأنه تسبب في سبهما. 7 - أن يجيب الداعية علي السؤال الخاص بما يتناوله وغيره حتى يكون ما أجاب به قاعدة عامة للسائل وغيره، قال عمرو بن العاص: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: «مالك يا عمرو؟» ¬

(¬1) انظر: فتح الباري10/ 513. (¬2) مسلم، في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة النازي في سبيل الله 3/ 1506. (¬3) مسلم، في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله 3/ 1507. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه10/ 403. (¬5) انظر: فتح الباري10/ 404. (¬6) سورة الأنعام، الآية 108.

قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي، قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله. .» (¬1). فأجاب صلى الله عليه وسلم بما يفيد عدم المؤاخذة عن كل من اعتنق الإسلام، وعن كل من هاجر، وعن كل من حج حجًّا مبرورًا، وقد كان يكفيه في الجواب أن يقول: غُفِرَ لك، أو نحوها (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن ماء البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» (¬3). فأجاب صلى الله عليه وسلم السائل عن الحكم الذي سأل عنه، وزاده حكمًا لم يسأل عنه، وهو حل ميتة البحر، فعندما عرف صلى الله عليه وسلم اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته، وقد يُبْتَلَى بها راكب البحر، فعقّب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة، وذلك من محاسن الفتوى أن يُجاء في الجواب بأكثر مما سُئِلَ عنه تتميمًا للفائدة، وإفادة لعلم غير المسئول عنه، ويتأكد عند ظهور الحاجة إلى الحكم كما هنا؛ لأن من توقف في طهورية ماء البحر فهو عن العلم بحل ميتته مع تقدم تحريم الميتة أشد توقفًا (¬4). 8 - ضرب الأمثال، قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه» (¬5). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج1/ 112. (¬2) انظر: شرح النووي على مسلم 2/ 138، وانظر: هداية المرشدين ص32. (¬3) أبو داود، في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر 1/ 21، والترمذي في الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور1/ 101، والنسائي في الطهارة، باب ماء البحر1/ 50، وابن ماجه في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر 1/ 136، وانظر: صحيح النسائي 1/ 14. (¬4) انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام، للشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني1/ 18. (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره1/ 565، ومسلم، في كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم 4/ 1999.

وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في تبادل الرحمة والمودة والعطف، بالجسد في روابطه العضوية، إذا مرض عضو مرضت باقي الأعضاء، فقال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬1). ومثلهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي قبل هذا في التعاون على البر والتقوى والتكاتف بالبنيان يشد بعضهم بعضًا كشد البنيان (¬2). ومن المعلوم يقينًا أن الداعية إذا سلك هذه المسالك اكتسب الحكمة بعون الله- تعالى- ووفق لهدي النبي" صلى الله عليه وسلم في دعوته، وسدد في قوله وفعله، بتوفيق الله سبحانه. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم10/ 438، ومسلم في البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم 4/ 1999. (¬2) انظر: فتح الباري 10/ 450، وشرح النووي16/ 139.

المطلب السادس فقه أركان الدعوة إلى الله تعالى

المطلب السادس فقه أركان الدعوة إلى الله تعالى لا يكون الداعية حكيما في دعوته إلى الله- تعالى- إلا بفقه وإتقان ركائز الدعوة وأسسها التي تقوم عليها، حتى يسير في دعوته على بصيرة، ولا شك أن فهم هذه الأركان يدخل في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (¬1) فلا بد من معرفة الدَاعية لما يدعو إليه، ومن هو الداعي، وما هي الصفات والآداب التي ينبغي أن تتوفر في الداعية؟ ومن هو المدعو، وما هي الوسائل والأساليب التي تستخدم في نشر الدعوة وتبليغها؟ هذه هي أركان الدعوة: الموضوع، والداعي، والمدعو، والأساليب والوسائل. المسلك الأول: موضوع الدعوة: "ما يدعو إليه الداعية": موضوع الدعوة: هو دين الإِسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] (¬2) {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] (¬3). وهذا ما فَصَّله حديث جبريل في ذكر أركان الإسلام: «الإِسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا». وأركان الإيمان: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره». والإِحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (¬4). ¬

(¬1) سورة يوسف الآية 108. (¬2) سورة آل عمران الآية 19. (¬3) سورة آل عمران الآية 85. (¬4) مسلم، كتاب الإِيمان، باب بيان الإيمان والإِسلام والإحسان، 1/ 39.

ولا شك أن الإسلام اختص بخصائص عظيمة منها: 1 - الإسلام من عند الله تعالى. 2 - شامل لجميع نظم الحياة وسلوك الإنسان، ومن هذه النظم: نظام الأخلاق، ونظام المجتمع، والإفتاء، والحسبة، والحكم، والاقتصاد، والجهاد، ونظام الجريمة والعقاب، وذلك كله قائم على الرحمة، والعدل، والإحسان. 3 - عام لجميع البشرية في كل زمان ومكان: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] (¬1). 4 - وهو من حيث الجزاء: - الثواب والعقاب الذي يصيب مُتَبعَهُ أو مخالفه- ذو جزاء أًخرويّ بالإِضافة إلى جزائه الدنيوي إلا ما خصه الدَليل. 5 - والإسلام يحرص علي إبلاغ الناس أعلى مستوى ممكن من الكمال الإنساني: وهذه مثالية الإسلام، ولكنه لا يغفل عن طبيعة الإنسان وواقعه، وهذه هي واقعية الإسلام. 6 - الإسلام وسط: في عقائده، وعباداته، وأخلاقه، وأنظمته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] (¬2). كما يلزم الداعية فهم مقاصد الإسلام التي دلت عليها الشريعة الإسلامية: وهي تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد والأضرار عنهم في العاجل والآجل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها) (¬3). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية 158. (¬2) سورة البقرة الآية 143. (¬3) انظر: منهاج السنة النبوية، 1/ 147.

المسلك الثاني الداعي

وبالجملة فإن الشريعة الإسلامية مدارها على ثلاث مصالح: المصلحة الأولى: درء المفاسد عن ستة أشياء: الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والغرض، والمال. المصلحة الثانية: جلب المصالح: فقد فتح القرآن الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين وسد كل ذريعة تؤدي إلى الضرر. المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فالقرآن حل جميع المشاكل العالمية التي عجز عنها البشر ولم يترك جانبًا من الجوانب التي يحتاجها البشر في الدنيا والآخرة إلا وضع لها القواعد، وهدى إليها بأقوم الطرق وأعدلها (¬1). فالداعية الحكيم هو الذي يدعو إلى ما تقدم من أركان الإِسلام، وأصول الإيمان، والإحسان، ويبين للناس جميع ما جاء في القرآن والسنة: من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، بالتفصيل والشرح والتوضيح (¬2). المسلك الثاني: الداعي: لا بُدّ للداعية من معرفة هذا الأصل بشروطه، وما هي عدة الداعية وسلاحه، وما هي وظيفته، وأخلاقه. وفهم ذلك من أهم المهمات للداعية. وإليك التفصيل بإيجاز: 1 - وظيفة الداعية: وظيفة الداعية إلى الله- تعالى- هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان للشنقيطي، 3/ 409 - 457. (¬2) انظر: فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، 1/ 342، وأصول الدعوة، لعبد الكريم زيدان، ص 7 - 293، والدعوة إلى الله، للدكتور توفيق الواعي، ص81.

والسلام، والرسل هم قدوة الدعاة إلى الله، وأعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46] (¬1). {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 67] (¬2) وقال سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص: 87] (¬3) وقال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد: 36] (¬4). الأمة شريكة لرسولها في وظيفة الدعوة إلى الله، فالآيات التي تأمره صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله يدخل فيها المسلمون جميعًا؛ لأن الأصل في خطاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم دخول أمته فيه إلا ما استُثني، وليس من هذا المستثنى أمر الله تعالى بالدعوة إليه. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] (¬5) وقد جعل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص أوصاف المؤمنين، كما قال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] (¬6) وبهذا يتضح أن المكلف بالدعوة إَلى الله هو كل مسلم ومَسلمة على قدر الطاقة، وعلى قدر العلم، ولا يختص العلماء بأصل هذا الواجب؛ لأنه واجب على الجميع كل بحسبه، وإنما يختص أهل العلم بتبليغ تفاصيل الإسلام، وأحكامه، ومعانيه الدقيقة، ومسائل الاجتهاد، نظرًا لسعة علمهم، ومعرفتهم بالمسائل، والجزئيات، والأصول، والفروع. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية 45 - 46. (¬2) سورة الحج، الآية 67. (¬3) سورة القصص، الآية 87. (¬4) سورة الرعد، الآية 36. (¬5) سورة آل عمران، الآية 110. (¬6) سورة التوبة، الآية 71.

مما يزيد الأمر وضوحًا قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (¬1) فبين سبحانه أن أتباعَ الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى الله، وهم أَهل البصائر كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله على بصيرة وعلم ويقين (¬2). والدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ومسلمة كلٌ بحسبه، وهي تؤدى على صورتين: الصورة الأولى: فردية، يقوم بها المسلم على صفة فردية بحسب طاقته، وقدرته، وعلمه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإِيمان» (¬3). الصورة الثانية: بصفة جماعية، فتكون فرقة متصدية لهذا الشأن، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] (¬4). 2 - عدة الداعية وسلاحه: يحتاج الداعية إلى الله- تعالى- في أداء مهمته ووظيفته إلى عُدة وسلاح قوي، منها: 1 - الفهم الدقيق المبني على العلم قبل العمل، والقائم على تدبر معاني وأحكام القران الكريم، وفهم السنة النبوية الشريفة، ويرتكز هذا الفهم على عدة أمور من أهمها. 1 - فهم الداعية العقيدة الإسلامية فهمًا صحيحًا متقنًا بالأدلة من ¬

(¬1) سورة يوسف الآية 108. (¬2) انظر: أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان، ص295 - 356. (¬3) مسلم، كتاب اَلِإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإِيمان، 1/ 69. (¬4) سورة آل عمران الآية 104.

الكتاب، والسنة وإجماع علماء أهل السنة والجماعة. ب- فهم الداعي غايته في الحياة ومركزه بين البشر. جـ- تعلقه بالآخرة، وتجافيه عن دار الغرور. 2 - الإيمان العميق المثمر: لمحبة الله، وخوفه، ورجائه، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أموره. 3 - اتصال الداعية بالله- تعالى- في جميع أموره، وتعلقه به، وتوكله عليه، واستغاثته به، وإخلاصه له، والصدق معه في الأقوال والأفعال. 3 - أخلاق الداعية وصفاته: يحتاج الداعية إلى الأخلاق الحسنة والصفات الكريمة: وهي أخلاق الإسلام التي بينها الله في كتابه وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته. ومن أهم هذه الأخلاق والصفات التي ينبغي للداعية أن يلتزمها: الصدق، والإخلاص، والدعوة إلى الله على بصيرة، والحلم، والرفق، واللين، والصبر، والرحمة، والعفو، والصفح، والتواضع، والوفاء، والإيثار، والشجاعة، والذكاء، والأمانة، والحياء المحمود، والكرم، والتقوى، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والتفاؤل، والنظام والدقة والمحافظة على الوقت، والاعتزاز بالإسلام، والمحمل بما يدعو إليه؛ ليكون قدوةً صالحةً، والزهد، والورع، والاستقامة، وإدراك الداعية لما حوله، والقصد والاعتدال، والشعور بمعية الله، والثقة بالله تعالى، والتدرج في الدعوة، والبدء بالأهم فالمهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بذلك معاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن. كما ينبغي للداعية أن يبتعد عن كل ما يضاد هذه الأخلاق من الأخلاق القبيحة.

ومن الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها، معرفة القواعد، والضوابط التي يجب مراعاتها والسير على ضوئها، حتى يكون الداعية مسددًا في دعوته. ومن ذلك: قول سفيان الثوري (¬1) (لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه، عدل فيما يأمر به عدل فيما ينهى عنه، عالم بما يأمر به عالم بما ينهى عنه) (¬2) وقال الإمام محمد المقدسي: قال بعض السلف: (لا يأمر بالمعروف إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه) (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (فلا بد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر. العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة لا بد أن يكون مستصحبًا في هذه الأحوال) (¬4). وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى-: (فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده. الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه. ¬

(¬1) هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ المجتهد: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ولد سنة 97 هـ، ومات سنة 161هـ، انظر: سير أعلام النبلاء، 7/ 229 - 279. (¬2) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأبي بكر الخلال، ص50. (¬3) مختصر منهاج القاصدين، ص 129، ونسب هذا القول إلى بعض السلف ابن تيمية أيضًا في الحسبة في الإسلام، ص84. (¬4) الحسبة في الإسلام، ص84.

المسلك الثالث المدعو

فالدرجتان الأولَيان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة) (¬1). فإذا طبق الداعية ما تقدم من الصفات والأخلاق والقواعد والضوابط كان من أعظم الناس حكمة- بإذن الله تعالى-. المسلك الثالث: المدعو: ينبغي للداعية أن يعلم أن الدعوة إلى الإسلام عامة لجميع البشر، بل للجن والإنس جميعًا، في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، وليست خاصة بجنس دون جنس، أو طبقة دون طبقة، أو فئة دون فئة، أو زمان دون زمان، أو مكان دون مكان. ومن حق المدعو أن يُؤتى ويُدعى، ولا يجلس الداعي في بيته وينتظر مجيئ الناس إليه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى الناس ويدعوهم، ويخرج إلى القبائل في المواسم، ويذهب إلى مقابلة وملاقاة الوفود ومن يقدم. ولا يجوز للداعية أن يستصغر شأن أي إنسان أو أن يستهين به؛ لأن من حق كل إنسان أن يُدعى. وإذا كان من حق المدعو أن يُؤتى ويُدعى ولا يستهان به، ولا يستصغر شأنه فعليه أن يستجيب. وينبغي للداعية أن يعلم أن المدعوين أصناف وأقسام: فمنهم الملحد، ومنهم المشرك الوثني، ومنهم اليهودي، ومنهم النصراني، ومنهم المنافق، ومنهم المسلم الذي يحتاج إلى التربية والتعليم، ومنهم المسلم العاصي. ثم هم أيضًا يختلفون في قدراتهم العقلية، والعلمية، والصحية، ومراكزهم الاجتماعية: فهذا مثقف، وهذا أمّيٌ، ¬

(¬1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم رحمه الله تعالى، 3/ 16.

المسلك الرابع أساليب الدعوة ووسائل تبليغها

وهذا رئيس وهذا مرؤوس، وهذا غني وهذا فقير، وهذا صحيح وهذا مريض، وهذا عربي وهذا أعجمي. . . فينبغي للداعية أن يكون كالطبيب الحاذق الحكيم الذي يشخص المرض، ويعرف الداء ويحدده، ثم يعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعيًا في ذلك قوة المريض وضعفه، وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشق بطنه، أو يقطع شيئًا من أعضائه من أجل استئصال المرض طلبًا لصحة المريض (¬1). والداعية ينبغي له أن يبدأ مع المدعوِّين بخطوات محسوسة (¬2) منها ما يأتي: 1 - يبدأ بنفسه فيصلحها حتى يكون القدوة الصالحة. 2 - ثم يمضي إلى تكوين بيته وإصلاح أسرته، ليُكوِّن البيت المسلم، واللبنة المؤمنة. 3 - ثم يتوجه إلى المجتمع وينشر دعوة الخير فيه، ويحارب الرذائل والمنكرات بالحكمة، ويشجع الفضائل ومكارم الأخلاق. 4 - ثم دعوة غير المسلمين إلى منهج الحق وإلى شريعة الإِسلام {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (¬3). المسلك الرابع: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها: الداعية يحتاج إلى فهم أساليب الدعوة ووسائل تبليغها، حتى يكون على قدر من الكفاءة لتبليغ الدعوة إلى الله تعالى بإحكام وإتقان وبصيرة. وذلك كالتالي: ¬

(¬1) انظر: أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان، ص 365 - 394. (¬2) وقد أوضحت كيفية دعوة المدعوين على اختلاف أصنافهم في الفصل الثالث والفصل الرابع من هذا الكتاب، انظر: صفحة333 و513. (¬3) انظر. الدعوة إلى الله، للدكتور توفيق الواعي، ص84.

أولًا: أساليب الدعوة: الأسلوب: الطريق والفن: يقال: هو على أسلوب من أساليب القوم: أي على طريق من طرقهم. ويقال: أخذنا في أساليب من القول: فنون متنوعة (¬1). وأساليب الدعوة: هي العلم الذي يتصل بكيفية مباشرة التبليغ، وإزالة العوائق عنه. والمصادر الأساسية التي يستمد الداعية ويتعلم أساليب دعوته الحكيمة منها هي: كتاب الله- تعالى-، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرة السلف الصالح: من الصحابة الكرام، والتابعين لهم بإحسان من أهل العلم والإيمان. وتقوم أساليب الدعوة الحكيمة الناجحة المؤثرة على الأساليب الآتية: 1 - تشخيص وتحديد الداء في المدعوين، ومعرفة الدواء: فإن طبيب الأبدان الحاذق الحكيم يشخص ويعرف الداء أولًا، ثم يصف ويعين العلاج ثانيًا على حسب الداء. والداعية إلى الله- تعالى- هو طبيب الأرواح والقلوب فعليه أن يسلك هذا الأسلوب في معالجة الأرواح. والداء عند الناس قد يكون كفرًا، وقد يكون معصية، فعلى الداعية أن يعطي الدواء على حسب الداء؛ فإن دواء الكفر الإيمان بالله، وبما جاء عنه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. ودواء المعاصي كبائرها وصغائرها التوبة إلى الله- تعالى-، والإقبال إليه، والإكثار من الطاعات المكفرة للسيئات، وهكذا لكل داء دواء. ¬

(¬1) انظر: القاموس المحيط، فصل السين، باب الباء، ص 125، والمصباح المنير، مادة "سلب "، 1/ 248، والمعجم الوسيط، مادة "سلب "، 1/ 441.

2 - إزالة الشبهات التي تمنع المدعوين من رؤية الداء والإِحساس به: ولا شك أن الشبهات: هي ما يثير الشك والارتياب في صدق الداعية وحقيقة ما يدعو إليه، فيمنع ذلك من رؤية الحق والاستجابة له، أو تأخير هذه الاستجابة. 3 - ترغيب المدعوين وتشويقهم: إلى استعمال الدواء، والاستجابة وقبول الحق، والثبات عليه. وترهيبهم من ترك الدواء بكل ما يخوف ويحذر من عدم الاستجابة، أو عدم الثبات على الحق بعد قبوله. 4 - تعهد المستجيبين من المدعوين: بالتربية والتعليم، والتوجيه؛ لتحصل لهم المناعة ضد دائهم القديم. ومن أعظم وسائل التربية المؤثرة: الاتصال بكتاب الله- تعالى- تلاوة، وتدبرًا، وفهمًا، والاتصال الدائم بالسنة النبوية، وسيرة السلف الصحابة- رضي الله عنهم-. فعلى الداعية أن يعين المستجيبين على هذه الأمور العظيمة. 5 - تقوم جميع الأساليب على: أسلوب الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، ثم استخدام القوة للمعاندين الظالمين. ثانياً: وسائل تبليغ الدعوة إلى الله تعالى: الوسيلة في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء (¬1) ووسائل الدعوة: هي ما يستعين به الداعية على تبليغ الدعوة من أشياء وأمور. ولا شك أن وسائل الدعوة على نوعين: النوع الأول: وسائل خارجية تتعلق باتخاذ الأسباب لتهيئة المجال المناسب. ومنها على سبيل المثال ما يأتي: ¬

(¬1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع السين، 5/ 185.

1 - الحذر المبني على التوكل على الله- تعالى- مع الأخذ بالأسباب. ومعلوم أن الحذر أنواع من جهة ما يحذره الداعي المسلم، فهناك: حذره من الوقوع في المعاصي، والحذر من الأهل والولد، والحذر من اتباع الهوى، والحذر من المنافقين والكفار. ب- الاستعانة بعد الله- تعالى- بالغير في تبليغ الدعوة، فالداعية يحرص على إيصال الدعوة إلى الناس؛ فيستعين بكل وسيلة مشروعة لتحقيق ما يحرص عليه. جـ- المحافظة على النظام المشروع: كحفظ الداعية تنظيم وقته وعدم إضاعته، وإذا كان الدعاة جماعة فعليهم أن يراعوا قواعد النظام التي أمر بها الإسلام، حتى تثمر جهودهم ولا تضيع، فإن القليل من العمل بنظام والدوام عليه خير من الكثير مع الفوضى والانقطاع. النوع الثاني: وسائل تبليغ الدعوة بصورة مباشرة. وهذه الوسائل تكون: بالقول، وبالعمل، وبسيرة الداعية التي تجعله قدوة حسنة لغيره فتجذبهم إلى الإسلام. ومن هذه الوسائل ما يأتي: 1 - التبليغ بالقول: القول في مجال التبليغ أنواع متعددة منها: الخطبة، والدرس، والمحاضرة، والندوة، والمناقشة والجدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلمة الوعظية، والدعوة الفردية، والنصيحة الأخوية، والفتوى الشرعية، والكتابة: كالرسالة، والمقال، والكتاب، والكُتيِّب، والنشرة. والداعية يستعين في تبليغ دعوته بجميع الوسائل المختلفة، المشروعة، المفيدة، وقد تكون بعض الوسائل نافعة في زمن دون زمن، وفي مجتمع دون آخر، والداعية الحكيم هو الذي يختار الوسائل المناسبة لكل عصر ومصر.

ووسيلة التبليغ بالقول تُبلَّغ عن طريق الوسائل الآتية: 1 - اللقاءات العامة: كإقامة المحاضرات، والندوات، والمناقشات، والدروس في المساجد، والجامعات، والمعاهد، والمدارس، والمؤتمرات، وفي المناسبات التي يحضرها الناس بصورة جماعية كبيرة. 2 - اللقاءات الخاصة: كالدروس الخاصة بطلاب العلم، ولا يمنع حضور غيرهم. 3 - الدعوة الفردية: بالنصيحة الأخوية، والهدية الرمزية. 4 - الكتابة: الرسالة، والمقال، والكتاب، والكُتيِّب، والنشرة. 5 - وسائل الإعلام الحديثة. المسموعة، والمرئية، والمقروءة، والشخصية. 6 - الوسائل الشخصية كالمسجلات، وشرائط التسجيل، والهاتف. . . فينبغي للداعية الحكيم أن يستغل هذه الوسائل ويشغلها بالحق؛ لأنه بذلك يخاطب ملايين البشر في مشارق الأرض ومغاربها، وعن طريقها تصل الدعوة إلى أقطار بعيدة وتعم أماكن كثيرة. وينبغيِ أن يكون قول الداعية واضحًا بيِّنًا، خاليًا من الألفاظ التي تحمل حقًّا وباطلًا وخطأً وصوابًا، وأن يستعمل الألفاظ الشرعية المستعملة في القرآن والسنة وعند علماء المسلمين. كما ينبغي للداعية أن يتأنى في كلامه حتى يستوعب السامع كلامه ويفهمه، وأن يبتعد عن التفاصح والتعاظم، والتكلف في النطق، ويبتعد عن روح الاستعلاء على المدعو واحتقاره وإظهار فضله عليه، وأن يتلطف بالقول للمدعوين، ويكون موضع الثقة بين الناس (¬1). ¬

(¬1) انظر: أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان، ص453 و454، والدعوة إلى الله تعالى للدكتور / توفيق الواعي، ص262 و264.

ب- التبليغ بالعمل: والتبليغ بالعمل هو كل فعل يؤدي إلى إزالة المنكر ونصرة الحق وإظهاره، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإِيمان» (¬1) والتبليغ بالعمل كما يكون بإزالة المنكر يكون بإقامة المعروف: كبناء المساجد، وبناء الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية، وإقامة المكتبات فيها وتزويدها بالكتب النافعة، وبناء المستشفيات الإسلامية، ودور الرعاية الاجتماعية، وطبع الكتب الإسلامية وتوزيعها، واختيار الرجل الصالح للعمل في هذه المجالات وفي المجالات المهمة. وهذا- كله- في الحقيقة دعوة صامتة إلى الله تعالى. جـ - التبليغ بالسيرة الحسنة: من وسائل التبليِغ المهمة في تبليغ الدعوة إلى الله وجذب الناس إلى الإسلام التبليغ بالسيرة الطيبة للداعي، وأفعاله الحميدة، وصفاته العالية، وأخلاقه الكريمة والتزامه بالإسلام ظاهرًا وباطنًا مما يجعله قدوةً طيبةً وأُسوةً حسنةً لغيره؛ لأن التأثير بالأفعال والسلوك أبلغ من التأثير بالكلام وحده. وأصول السيرة الحسنة التي يكون بها الداعية قدوةً طيبةً لغيره ترجع إلى أصلين عظيمين: حسن الخلق، وموافقة العمل للقول. فحسن الخلق كلمة يندرج تحتها كثير من الصفات: كالتواضع، والوفاء بالعهد، والأمانة، وقوة العزيمة، والشجاعة، والصبر، والشكر، والحلم، والرفق، والتقوى، والحياء، والعفو والصفح، والجود والكرم، والصدق والعدل، وحفظ اللسان، والرحمة. ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهى عن المنكر من الإيمان، 1/ 69.

وموافقة القول للعمل هي أن يكون فعل الداعية موافقاً للطريق المستقيم، وسيرته تطبيقًا عمليًا لقوله، ولا يخالف ظاهره باطنه، فإن أمر بشيء التزمه، وإن نهى عن شيء كان أول تاركٍ له؛ ليفيد وعظه، وينفع إرشاده، ويثمر، ويقتدي به، فإن كان يأمر بالخير ولا يفعله وينهى عن الشر وهو واقع فيه فهو بحاله هذه عقبة في سبيل الدعوة إلى الله تعالى (¬1) ¬

(¬1) انظر أساليب الدعوة ووسائل تبليغها بالتفصيل في: أصول الدعوة لعبد الكريم زيدان، ص 395 - 469 والدعوة إلى الله لتوفيق الواعي، ص 1 24 - 372.

الفصل الثاني مواقف الحكمة

الفصل الثاني مواقف الحكمة توطئة. المبحث الأول: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني: مواقف الصحابة رضي الله عنهم. المبحث الثالث: مواقف التابعين رحمهم الله. المبحث الرابع: مواقف أتباع التابعين رحمهم الله. المبحث الخامس: نماذج من مواقف الحكمة عبر العصور.

توطئة

توطئة لا يشك مسلم أن الدعوة بالمواقف المشرفة لها الأثر الكبير في قلوب المدعوين، والمواقف المشرفة تدفع المدعو إلى التفكر، والتأمل كثيرًا، وربما تكون نقطة التحول في حياته. وقد كان للنبي مواقف حكيمة مشرفة في دعوته إلى الله، وكم كان له من المواقف المشرفة التي دخل كثير من الناس الإِسلام بفضل الله ثم بسببها‍‍! والصحابة- وهم أفضل البشر بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم مواقف حكيمة يتشرف ويعتز بها كل من دخل في الإسلام، وكذا التابعون، وتابعو التابعين. والأئمة الأعلام لهم مواقف في دعوتهم إلى الله، سأذكر نماذج منها إن شاء الله- تعالى- في المباحث التالية: المبحث الأول: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني: مواقف الصحابة رضى الله عنهم. المبحث الثالث: مواقف التابعين رحمهم الله. المبحث الرابع: مواقف أتباع التابعين رحمهم الله. المبحث الخامس: نماذج من مواقف الحكمة عبر العصور.

المبحث الأول مواقف النبي صلى الله عليه وسلم

المبحث الأول مواقف النبي صلى الله عليه وسلم توطئة. المطلب الأول: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة. المطلب الثاني: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة.

توطئة

توطئة للنبي صلى الله عليه وسلم مواقف حكيمة مشرفة، والداعية إلى الله حينما يقف ويتأمل المواقف التي وقفها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله يزداد حكمة، ويستفيد من هذه المواقف في دعوته، ويطبق الحكم التي يقتبسها من مواقفه صلى الله عليه وسلم في دعوته، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الأسوة التي ينبغي لكل مسلم أن يلتزمها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] (¬1). وسأذكر بعون الله- تعالى- في هذا المبحث نماذج من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم التي وقفها في دعوته إلى الله، ومواقفه في هذا الشأن كثيرة جدًّا لا يستطيع أحد أن يستغرقها، ولكني سأذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر في المطالب التالية: المطلب الأول: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة. المطلب الثاني: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة. ¬

(¬1) سورة الأحزاب الآية 21.

المطلب الأول مواقف النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة

المطلب الأول مواقف النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة المسلك الأول: مواقفه صلى الله عليه وسلم في مرحلة الدعوة السرية: من المعلوم أن مكة كانت مركز دين العرب، وكان بها سدنة الكعبة، والقوَّام على الأوثان والأصنام المقدسة عند سائر العرب، فالوصول إلى المقصود من الإصلاح فيها يزداد عُسرًا وشدة عما لو كان بعيدًا عنها، فالأمر يحتاج إلى عزيمة قوية لا تزلزلها المصائب والكوارث، ويحتاج إلى موقف حكيم يحل الوضع الراهن، وتنجح الدعوة من خلاله، ولا شك أن الفضل والمنة لأحكم الحاكمين الذي {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] (¬1) فإنه سبحانه قد أعطى محمدًا صلى الله عليه وسلم الحكمة ووفقه، وسددَّه، وأعانه. ولهذا بدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة السرية بعد أن أمره ربه- تبارك وتعالى- بإنذار قومه عاقبة ما هم فيه من الشرك، وما هم عليه من الكفر والفساد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ - وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ - وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7] (¬2). ومن هنا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلك طريق الحكمة في حل الحالة الراهنة في قريش، فوقف المواقف العظيمة التي يعجز عنها عظماء الرجال بل البشر جميعًا. بدأ صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته على ألصق الناس به، وأهل بيته، وأصدقائه، ومن توسم فيهم خيرَا ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الخير والحق، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح، فأحاول من هؤلاء جمع عُرِفُوا في ¬

(¬1) سورة البقرة الآية 269. (¬2) سورة المدثر الآيات 1 - 7.

التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، فكان أول من أسلم زوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها-، ثم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-، ثم مولاه زيد بن حارثه الكلبي - رضي الله عنه-، ثم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. ونشط أبو بكر في دعوة رجال كان لهم أثر عظيم في الإسلام، أمثال: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فهؤلاء النفر الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه- بالإضافة إلى علي، وزيد، وأبي بكر، يصبحون ثمانية، هم الذين سبقوا الناس، وهم الرعيل الأولى وطليعة الإسلام. ودخل الناس في دين الله واحدًا بعد واحد، حتى فشا الإسلام في مكة، وتُحُدِّثَ به، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم ويعلمهم ويرشدهم مختفيًا؛ لأن الدعوة لا تزال فردية وسرية، وكان الوحي قد تتابع، وحمي نزوله بعد نزول أوائل المدثر، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يظهر الدعوة في مجامع قريش العامة، ولم يكن المسلمون الأوائل يتمكنون من إظهار دينهم وعبادتهم، حذرًا من تعصب قريش لجاهليتها وأوثانها، وإنما كانوا يخفون ذلك (¬1). ولقد بلغ المسلمون عددًا يقرب الأربعين رجلا، وما زالت الدعوة سرًّا لم يجهر بها بين صفوف قريش؛ لأن الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا العدد غير كافٍ في دفع ما يتوقع من أذى يصيب به قريش المسلمين، وكان من الضروري أن يجتمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شكل جماعات يرشدهم، ويعلمهم؛ ليكوِّن منهم القاعدة الصلبة التي يمكن أن يواجه بها أولئك ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام1/ 264، وتاريخ الإسلام للِإمام الذهبي- قسم السيرة- ص127، والبداية والنهاية لابن كثير3/ 24 - 37، وزاد المعاد 3/ 19، ومختصر سيرته- صلى الله عليه وسلم - للِإمام محمد بن عبد الوهاب ص59، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 57، وهذا الحبيب يا محب ص91.

الذين يقفون في وجه دعوة التوحيد، وقد اختيرت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فكان يلتقي بهم على شكل أُسَر يعلمهم أمور دينهم، وكان إلى جانب دار الأرقم - المركز الرئيسي- دور أخرى تكون مراكز فرعية حيث يذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا دون انتظام، أو ينتظم فيها الصحابة الذين يختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل دار سعيد بن زيد، ولكن الأرقم بن أبي الأرقم قد فاز بمنقبة عظيمة، وهي اتخاذ داره مركزًا رئيسيًا للدعوة أيام ضعفها واستخفائها، وهي أحرج أوقات مرت بها الدعوة (¬1). وهكذا مرت ثلاث سنين، والدعوة لم تزل سرية وفردية، وخلال هذه الفترة تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة، والتعاون، وتبليغ الرسالة، وتمكينها من مقامها. وبعد أن أسلم عم النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب وبعض وجهاء قريش الذين لهم شأن عظيم، وقويت بهم الجماعة الإسلامية كعمر بن الخطاب - رضي الله عنه- نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ - الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 94 - 96] (¬2). وهذا يدل دلالة واضحة على أن الله- عز وجل- قد أعطى نبيه الكريم الحكمة؛ ولهذا قام بهذه المواقف الحكيمة المشرفة التي تكون نبراسًا للداعية إلى الله يسير على مقتضاها، وخاصة في دعوة المجتمعات الوثنية الكافرة، أما المجتمعات الإسلامية فلا دليل لمن يرى سرية الدعوة في بلاد المسلمين. ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية3/ 31، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 62، وهذا الحبيب يا محب ص97. (¬2) سورة الحجر الآيات 94 - 96.

المسلك الثاني مواقفه صلى الله عليه وسلم في مرحلة الدعوة الجهرية بمكة

أما سرية الدعوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أول البعثة؛ فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه- رضي الله عنهم- كان لا يسمح لهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا أن يؤذنوا، أو يصلوا، ولما قويت شوكتهم أمر الله رسوله بالجهر بالدعوة فجهروا بها، ولاقوا من الأذى ما هو معروف بين المسلمين (¬1). المسلك الثاني: مواقفه صلى الله عليه وسلم في مرحلة الدعوة الجهرية بمكة: أمر الله نبيه بإنذار عشيرته الأقربين، فقال عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ - وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 214 - 216] (¬2). فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنفيذ أمر ربه بالجهر بالدعوة والصدع بها، وإنذار عشيرته، فوقف مواقف حكيمة أظهر الله بها الدعوة الإسلامية، وبين بها حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته، وإخلاصه لله رب العالمين، وقمع بها الشرك وأهله، وأذلهم إلى يوم الدين، ومن هذه المواقف الحكيمة ما يأتي: (أ) موقفه الحكيم في صعوده على الصفا، ونداؤه العام: عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: «لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي - لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيَلاَ بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا؟ نعم، ما جربنا عليك إلا صِدْقًا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب ¬

(¬1) انظر: الرحيق المختوم ص 75، والتاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر 2/ 62، وهذا الحبيب يا محب ص99. (¬2) سورة الشعراء 214 - 216.

شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ - مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1 - 2]» (¬1). وفي رواية لأبي هريرة - رضي الله عنه- «أنه صلى الله عليه وسلم ناداهم بطنًا بطنًا، ويقول لكل بطن: "أنقذوا أنفسكم من النار. . . "، ثم قال: "يا فاطمة أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها» (¬2). وهذه الصيحة العالمية غاية البلاغ، وغاية الإنذار، فقد أوضح صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأوضح أن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار، الذي جاء من عند الله تعالى، فقد دعا صلى الله عليه وسلم قومه- في هذا الموقف العظيم- إلى الإسلام، ونهاهم عن عبادة الأوثان، ورغبهم في الجنة، وحذرهم من النار، وقد ماجت مكة بالغرابة والاستنكار، واستعدت لحسم هذه الصرخة العظيمة التي ستزلزل عاداتها وتقاليدها وموروثاتها الجاهلية؛ ولكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يضرب لصرخاتهم حسابًا؛ لأنه مرسل من الله - عز وجل-، ولا بد أن يبلغ البلاغ المبين عن رب العالمين، حتى ولو خالفه أو رد دعوته جميع العالمين، وقد فعل صلى الله عليه وسلم (¬3). استمر صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله- تعالى- ليلا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عن ذلك صاد، استمر ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب وأنذر عشيرتك الأقربين8/ 501، 737، 6/ 551، ومسلم بنحوه في كتاب الإيمان، باب قوله. وأنذر عشيرتك الأقربين1/ 194، والآيتان من سور المسد: 1 - 2. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الشعراء، باب وأنذر عشيرتك الأقربين8/ 501، 5/ 382، ومسلم كتاب الإيمان، باب: وأنذر عشيرتك الأقربين1/ 192. (¬3) انظر. الرحيق المختوم ص78، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص 101، 102، والسيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي ص47.

يتتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، يدعو من لقيه من: حر وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير، جميع الخلق عنده في ذلك سواء. وقد تسلط عليه وعلى من اتبعه الأشداء الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية، وانفجرت مكة بمشاعر الغضب لأنها لا تريد أن تفارق عبادة الأصنام والأوثان (¬1) ومع ذلك لم يفتر محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته، ولم يترك العناية والتربية الخاصة لأولئك الذين دخلوا في الإسلام، فقد كان يجتمع بالمسلمين في بيوتهم على شكل أسر بعيدة عن أعين قريش، وتتكون هذه الأسر من الأبطال الذين عقد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمل بعد الله - تعالى- في حمل العبء والمهام الجسيمة لنشر الإسلام، وبذلك تكونت طبقة خاصة من المؤمنين الأوائل قوية في إيمانها، متينة في عقيدتها، مدركة لمسئوليتها، منقادة لأمر ربها، طائعة لقائدها، مطبقة لكل أمر يصدر عنه برغبة وشوق واندفاع لا يعادله اندفاع، وحب لا يساويه حب. وبهذه المواقف الحكيمة، والتربية الصالحة المتينة استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤدي الأمانة، وِيبلغ الرسالة، وينصح الأمة، ويجاهد في الله حق جهاده، ويرسم لنا طريقًا نسير عليه في دعوتنا وعملنا وسلوكنا، فهو قدوتنا وإمامنا الذي نسير على هديه، ونستنير بحِكَمِهِ صلى الله عليه وسلم. فقد بدأ الدعوة بعناصر اختارها ورباها، فلبت الدعوة، وآمنت به، وكانت دعوته عامة للناس، وأثناء هذه الدعوة يركز على من يجد عندهم الإمكانات أو يتوقع منهم ذلك، وقد تكون من هذه العناصر نواة القاعدة الصلبة التي ثبتت عليها أركان الدعوة (¬2). ¬

(¬1) البداية والنهاية 3/ 40. (¬2) التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر2/ 65.

ومع هذا الجهد المبارك العظيم لم يلجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاغتيال السياسي، ولم يتخلص بالاغتيال من أفراد بأعينهم، وكان بإمكانه ذلك وبكل يسر وسهولة، إذ كان يستطيع أن يكلف أحد الصحابة بقتل بعض قادة الكفر: كالوليد بن المغيرة المخزومي، أو العاص بن وائل السهمي، أو أبي جهل عمرو بن هشام، أو أبي لهب عبد العزى بن عبد المطلب، أو النضر بن الحارث، أو عقبة بن أبي معيط، أو أُبيّ بن خلف، أو أُمية بن خلف. .، وهؤلاء هم من أشد الناس أذية لرسول الله-لمجير، فلم يأمر أحدًا من أصحابه باغتيال أحد منهم أو غيرهم من أعداء الإِسلام؛ فإن مثل هذا الفعل قد يُودي بالجماعة الإسلامية كاملة، أو يعرقل مسيرتها مدة ليست باليسيرة، كرد فعل من أعدَاء الإِسلام الذين يتكالبون على حربه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر في هذه المرحلة باغتيالهم؛ لأن الذي أرسله هو أحكم الحاكمين. وعلى هذا يجب أن يسير الدعاة إلى الله فوق كل أرض، وتحت كل سماء، وفي كل وقت، يجب أن تكون الدعوة على حسب المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها، فطريق الدعوة الصحيح هو هديه والتزام أخلاقه وحكمه وتصرفاته على حسب ما أرادها صلى الله عليه وسلم (¬1). (ب) صموده وثباته أمام ممثلي قريش واضطهادهما: رأت قريش أن تجرب أسلوبًا آخر تجمع فيه بين الترغيب والترهيب، فلترسل إلى محمد صلى الله عليه وسلم تعرض عليه من الدنيا ما يشاء، ولترسل إلى عمه الذي يحميه تحذره مغبة هذا التأييد والنصرة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وتطلب منه أن يكف عنها محمدًا ودينه (¬2). ¬

(¬1) انظر: التاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر2/ 65. (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 3/ 41، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص112.

وكانت أساليبهم كالتالي: 1 - جاءت سادات قريش إلى أبي طالب، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا والله لا نصبر على هذا، مِنْ: شَتْم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى نكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. فعظم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، وعظم عليه فراق قومه وعداوته لهم، ولم يطب نفسًا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، ولا خذلانه، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي، إن قومك جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك. فثبت النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته إلى الله، ولم تأخذه في الله لومة لائم؛ لأنه على الحق، ويعلم بأن الله سينصر دينه ويعلي كلمته، وعندما رأى أبو طالب هذا الثبات ويئس من موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش على ترك دعوته إلى التوحيد قال: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أُوسَّد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر وقر بذاك منك عيونا (¬1) 2 - بعد أن أسلم حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب أخذت السحائب تتقشع، وأقلق هذا الموقف الجديد مضاجع المشركين، وأفزعهم وزادهم هولًا وفزعًا تزايد عدد المسلمين، وإعلانهم إسلامهم، وعدم مبالاتهم بعداء المشركين لهم، الأمر الذي جعل رجال قريش يساومون ¬

(¬1) انظر. سيرة ابن هشام1/ 278، وانظر. البداية والنهاية3/ 42، وفقه السيرة للغزالي ص114، والرحيق المختوم ص94.

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث المشركون عتبة بن ربيعة ليعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمورًا لعله يقبل بعضها فتعطَى من أمور الدنيا ما يريد. فجاء عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة (¬1) في العشيرة، والمكان في النسب،، إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع "، قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. . . حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: " أقد فرغت يا أبا الوليد؟ " قال: نعم، قال: "فاستمع مني"، قال: افعل، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. {حم - تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ - وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 1 - 5] (¬2). ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عَليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليها يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم ¬

(¬1) يعني. المنزلة الرفيعة. انظر. المصباح المنير، مادة "سطا "، ص 276، والقاموس المحيط، باب الواو، فصل السين، ص1670. (¬2) سورة فصلت الآيات 1 - 5.

قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك» (¬1) وفي رواية أخرى «أن عتبة استمع حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] فقام مذعَورًا، فوضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنشدك الله والرحم، وطلب منه أن يكف عنه، فرجع إلى قومه مسرعًا كأن الصواعق ستلاحقه، واقترح على قريش أدى تترك محمدًا وشأنه، وأخذ يرغبهم في ذلك» (¬2). لقد تخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله- تعالى-، ثم بحكمته العظيمة هذه الآيات من الوحي، ليعرف عتبة حقيقة الرسالة والرسول، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم يحمل كتابًا من الخالق إلى خلقه، يهديهم من الضلال، وينقذهم من الخبال، ومحمد صلى الله عليه وسلم قبل غيره مكلف بتصديقه والعمل به، والوقوف عند أحكامه، فإذا كان الله- عز وجل- يأمر الناس بالاستقامة على أمره، فمحمد صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك، وهو لا يطلب ملكًا ولا مالًا ولا جاهًا، لقد مكنه الله من هذا كله، فعف عنه وترفع أن يمد يديه إلى هذا الحطام الفاني؛ لأنه صادق في دعوته، مخلص لربه، صلى الله عليه وسلم (¬3). وهذا موقف من أعظم مواقف الحكمة التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد ثبت وصدق في دعوته، ولم يرد مالًا، ولا جاهًا، ولا ملكًا، ولا نكاحًا، من أجل أن يتخلى عن دعوته، وقد اختار الكلام المناسب في الموضع المناسب، وهذا هو عين الحكمة. ¬

(¬1) أخرج هذه القصة ابن إسحاق والمغازي 1/ 313 من سيرة ابن هشام، قال الألباني: وإسناده حسن إن شاء الله. انظر فقه السيرة للغزالي ص113، وتفسير ابن كثير 4/ 61، والبداية والنهاية 3/ 62، والرحيق المختوم ص103. (¬2) انظر: البداية والنهاية 3/ 62، وتفسير ابن كثير 4/ 62، وتاريخ الإسلام للذهبي، قسم السيرة ص 158، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص114، وهذا الحبيب يا محب ص102. (¬3) انظر: فقه السيرة لمحمد الغزالي، ص113.

3 - قرر المشركون ألا يألوا جهدًا في محاربة الإِسلام وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن دخل معه في الإِسلام، والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام. ومنذ جهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى الله، وبين أباطيل الجاهلية، انفجرت مكة بمشاعر الغضب، وظلت عشرة أعوام تعد المسلمين عصاة ثائرين فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، واستباحت في الحرم الآمن دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وصاحبت هذه النار المشتعلة حرب من السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب، وتشويه تعاليم الإِسلام، وإثارة الشبهات، وبث الدعايات الكاذبة، ومعارضة القرآن، والقول بأنه أساطير الأولين، ومحاولة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم عامًا، ويعبدون الله عامًا! إلى غير ذلك من مفاوضاتهم المضحكة! واتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون، والسحر، والكذب والكهانة، والنبي صلى الله عليه وسلم ثابت صابر محتسب يرجو من الله النصر لدينه، وإظهاره (¬1) لقد نال المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم ينالوه من كثير من المؤمنين، فهذا أبو جهل يعتدي على النبي صلى الله عليه وسلم ليعفر وجهه في التراب، ولكن الله حماه منه، ورد كيده في نحره، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: «قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: قيل: نعم. فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته. قال: فما فجئهم (¬2) منه إلا وهو ينكص على عقبيه (¬3) ويتقي بيديه، قال: فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار، وهولًا، وأجنحة، فقال ¬

(¬1) انظر. فقه السيرة لمحمد الغزالي ص106، والرحيق المختوم ص80، 82، والتاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر 2/ 85، 88، 91، 93، 94، وهذا الحبيب يا محب ص110. (¬2) ويقال أيضا: فجأهم، أي: بغتهم. انظر: شرح النووي17/ 140. (¬3) يرجع يمشي إلى ورائه. انظر: المرجع السابق 17/ 140.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا". قال: فأنزل الله- عز وجل-: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] إلى آخر السورة.» (¬1). وقد عصم الله النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الطاغية ومن غيره، وصبر على هذا الأذى العظيم ابتغاء وجه الله- تعالى-، فضحى بنفسه وماله ووقته في سبيل الله تعالى. 4 - ومما أُصيبَ به محمد صلى الله عليه وسلم من الأذى بتحريض هذا الطاغية ما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه- قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا (¬2) جزور بني فلان فيأخذه فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم (¬3) فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضىَ النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثَا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، ثم قال: "اللهم عليك بقريش " ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط "، وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب المنافقين، باب قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىأَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى 4/ 2154، وانظر: شرخ النووي 17/ 140. (¬2) السلا، هو. اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان، وهي من الآدمية: المشيمة. انظر: شرح النووي12/ 151. (¬3) هو عقبة بن أبي مُعيط، كما صرح به في رواية لمسلم في صحيحه 3/ 1419.

بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب. بدر» (¬1). 5 - ومن أشد ما صنع به المشركون صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير، قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28]» (¬2). وقد اشتد أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، حتى جاء بعض الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصره، ويسأل منها الدعاء والعون، ولكن النبي الحكيم واثق بنصر الله وتأييده، فإن العاقبة للمتقين. عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه- قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، [وقد لقينا من المشركين شدة]، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد [مادون عظامه من لحم أو عصب]، فما ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، في كتاب الوضوء، باب إذا أُلقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته 1/ 349، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين 2/ 1418. (¬2) سورة غافر الآية 28. والحديث في البخاري مع الفتح، في كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة7|165، وكتاب التفسير، سورة المؤمن8/ 553، وكتاب فضائل الصحابة، باس قول النبي صلى الله عليه وسلم لا لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا 7/ 22 واللفظ ملفق من كتاب المناقب وكتاب التفسير.

يصده ذلك عن دينه، والله ليُتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (¬1) وهكذا اشتد أذى قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، وما ذلك كله إلا من أجل إعلاء كلمة الله، والصدع بالحق، والثبات عليه، والدعوة إلى التوحيد الخالص، ونبذ عادات الجاهلية وخرافاتها ووثنيتها. 6 - لقي النبي صلى الله عليه وسلم أشد الأذى، ووصل الأمر إلى تغيير اسمه صلى الله عليه وسلم احتقارًا له ولدينه، وحسدًا وبغضًا له، فقد كان المشركون من قريش من شدة كراهتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لا يسمون باسمه الدال على المدح فيعدلون إلى ضده، فيقولون: مذمم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل الله بمذمم، ومذمم ليس هو اسمه ولا يعرف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفًا إلى غيره بحمد الله تعالى (¬2). قال صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش، ولعنهم؟! يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد» (¬3). والنبي صلى الله عليه وسلم له خمسة أسماء ليس منها مُذَممًا (¬4). جاءت أم جميل زوجة أبي لهب - حين سمعت ما أنزل الله فيها وفي زوجها من القرآن- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 6/ 619، وفي كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة 7|164، وفي كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر 12/ 315، واللفظ من كتاب الإكراه، وما بين المعكوفين من مناقب الأنصار. (¬2) انظر: فتح الباري 6/ 558. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم 6/ 554. (¬4) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم 6/ 554.

ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها ملء الكف من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر! أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت: مُذَممًا عصيناًًًًً ... وأمره أبينا ودينه قلينا (¬1) استمر المشركون في إلحاق الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الذين أسلموا، وبعد أن زاد عدد المسلمين وكثر عددهم ازداد حنق المشركين على المسلمين، وبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ورأى أنه في حماية الله ثم عمه أبي طالب، وهو لا يستطيع أن يمنع المسلمين مما هم فيه من العذاب- فقد مات منهم من مات، وعذب من عذب حتى عمي وهو تحت العذاب- فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فكان أهل هذه الهجرة الأولى اثني عشر رجلًا، وأربع نسوة، ورئيسهم عثمان بن عفان - رضي الله عنهم-، ذهبوا فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين، فحملوهم فيها إلى أرض الحبشة، وكان ذلك في رجب، في السنة الخامسة من البعثة، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر فلم يدركوا منهم أحدًا، ثم بلغ هؤلاء المهاجرين أن قريشًا قد كفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم فرجعوا إلى مكة من الحبشة، وقبل وصولهم مكة بساعة من نهار بلغهم أن الخبر كذب، وأن قريشًا أشد ما كانوا عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل من دخل مكة بجوار، وكان من الداخلين ابن مسعود، ووجد أن ما بلغهم من إسلام أهل مكة كان باطلا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار- كابن مسعود - أو مستخفيًا، ثم اشتد البلاء من قريش على من دخل مكة من المهاجرين وغيرهم، ولقوا منهم أذًى شديدًا، ¬

(¬1) انظر. سيرة ابن هشام 1/ 378، ومعنى قولها: قلينا: أي أبغضنا. انظر. تفسير ابن كثير4/ 23 5.

فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية، وكان عدد من خرج في هذه المرة الثانية ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان فيهم عمار بن ياسر، ومن النساء تسع عشرة امرأة، فكان المهاجرون في مملكة أصحمة النجاشي آمنين، فلما علمت قريش بذلك أرسلت للنجاشي بهدايا وتحف ليردهم عليهم، فمنع ذلك عليهم، ورد عليهم هداياهم، وبقي المهاجرون في الحبشة آمنين حتى قدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر (¬1). 7 - ولما رأت قريش انتشار الإسلام، وكثرة من يدخل فيه، وبلغها ما لقي المهاجرون في بلاد الحبشة، من: إكرام وتأمين، مع عودة وفدها خائبًا، اشتد حنقها على الإسلام، وأجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم، وبني عبد المطلب، وبني عبد مناف وأن لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، فانحاز بنو هاشم، وبنو عبد المطلب مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب، فإنه بقي مظاهرًا لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بني هاشم، وبني عبد المطلب. وحُبسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب ليلة هلال محرم، سنة سبع من البعَثة، وبقوا محصورين محبوسين، مضيقًا عليهم جدًّا، مقطوعًا عليهم الطعام والمادة نحو ثلاث سنين حتى بلغهم الجهد، وسُمِعَ أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب، ثم أطلع الله رسوله على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله- عز وجل-، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد لابن القيم3/ 23، 36، 38، والرحيق المختوم ص89، وهذا الحبيب يا محب ص120، وسيرة ابن هشام 1/ 343، والبداية والنهاية 3/ 66، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2|98، 109، وتاريخ الإسلام للذهبى، قسم السيرة، ص83 1.

المسلك الثالث مواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الطائف

محمدًا قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت، فأنزلوا الصحيفة، فلما رأوا الأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا كفرًا إلى كفرهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب بعد عشرة أعوام من البعثة، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام، وقيل غير ذلك (¬1) ولما نُقِضَت الصحيفة وافق موت أبي طالب وموت خديجة وبينهما زمن يسير، فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه، وتجرؤوا عليه فكاشفوه بالأذى، فازدادوا غمًّا على غم حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يؤووه أو ينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي، ولم ير ناصرًا، وآذوه مع ذلك أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومه (¬2). المسلك الثالث: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الطائف: في شوال، من السنة العاشرة من النبوة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعله يجد في ثقيف حسن الإِصغاء لدعوته والانتصار لها، وكان معه زيد بن حارثة مولاه، وكان في طريقه كلما مر على قبيلة دعاهم إلى الإِسلام، فلم تُجِبْه واحدة منها. 1 - موقفه الحكيم في دعوته لأهل الطائف: عندما وصل الطائف عمد إلى رؤسائها فجلس إليهم، ودعاهم إلى الإسلام، فردوا عليه ردًّا قبيحًا، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد3/ 30، وسيرة ابن هشام1/ 371، البداية والنهاية3/ 64، والتاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر2/ 109، 127، 128، وتاريخ الإِسلام للذهبي- قسم السيرة ص126، 137، والرحيق المختوم ص112. (¬2) انظر: زاد المعاد 3/ 31، والرحيق المختوم ص113.

بلادنا، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم، فلما أراد الخروج تبعه هؤلاء السفهاء واجتمعوا عليه صَفَّيْنِ يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه حتى اختضب نعلاه بالدماء، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى مكة محزونًا، كسير القلب، وفي طريقه إلى مكة أرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبَيْن على أهل مكة، وهما جبلاها اللذان هي بينهما (¬1). 2 - حكمته العظيمة في جوابه لملك الجبال: عن عائشة - رضي الله عنها- أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: "لقد لقيت من قومك [ما لقيت]، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال (¬2) فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أسْتَفِق إلا بقرن الثعالب (¬3) فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني؛ فقال: إن الله - عز وجل- قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت (¬4)؟ إن شئت أن أُطْبِق عليهم ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد3/ 31، والرحيق المختوم ص122، وهذا الحبيب ص132، والبداية والنهاية 3/ 135. (¬2) ابن عبد يا ليل بن كلال من أكابر أهل الطائف من ثقيف. الفتح 6/ 315. (¬3) وهو ميقات أهل نجد، ويقال له: قرن المنازل، ويعرف الآن بالسيل الكبير. انظر الفتح: 6/ 115. (¬4) استفْهام، أي: فأمرني بما شئت. انظر: فتح الباري6/ 316.

الأخشبَيْن. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا» (¬1). وفي هذا الجواب الذي أدلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم تتجلى شخصيته الفذة، وما كان عليه من الخلق العظيم الذي أمده الله به. وفي ذلك بيان شفقته على قومه، ومزيد صبره وحلمه، وهذا موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] (¬2) وقوله تعالى؛ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (¬3). فصلوات الله وسلامه عليه (¬4). وأقام صلى الله عليه وسلم بنخلة أيامًا، وصمم على الرجوع إلى مكة، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله الخالدة، بنشاط جديد، وجد وحماس، وحينئذ قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؛ فَرُويَ عنه (¬5) أنه قال: «يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه». 3 - حكمته في دخوله إلى مكة في جوار المطعم بن عدي: ثم سار حتى وصل مكة فأرسل رجلًا من خزاعة إلى مطعم بن عدي ليدخل في جواره، فقال مطعم: نعم، ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدًا، فدخل رسول ¬

(¬1) البخاري مع الفتح في كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه 6/ 312، ومسلم بلفظه في كتاب الجهاد والسير باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين 3/ 1420 وما بين المعكوفين من البخاري دون مسلم. . (¬2) سورة آل عمران الآية 159. (¬3) سورة الأنبياء الآية 107. (¬4) انظر: البخاري مع الفتح6/ 316، والرحيق المختوم ص124. (¬5) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 3/ 33.

الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المُطْعمُ بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن، فاستلمه وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته (¬1). وفي هذه المواقف العظيمة التي وقفها النبي صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الطائف دليل واضح على تصميمه الجازم في الاستمرار في دعوته وعدم اليأس من استجابة الناس لها، وبَحَثَ عن ميدان جديد للدعوة، بعد أن قامت الحواجز دونها في ميدانها الأول. وفي ذلك دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أستاذًا في الحكمة، وذلك لأنه حينما قدم الطائف اختار الرؤساء وسادة ثقيف في الطائف وقد علم أنهم إذا أجابوه أجابت كل قبائل أهل الطائف وفىِ سيل الدماء من قدمي النبي صلى الله عليه وسلم - وهو النبي الكريم- أكبر مثل لما يتحمله الداعية في سبيل الله من أذى واضطهاد. وفي عدم دعائه على قومه، وعلى أهل الطائف، وعدم موافقة ملك الجبال في إطباق الَأخْشَبَيْن على أهل مكة أكبر مثل لما يتحمله الداعية في صبره على من رد دعوته، وعدم اليأسِ من هدايتهم، فربما يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا. ومن حكمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يدخل مكة إلا بعد أن دخل في جوار اْلمُطْعم بن عدي، وهكذا ينبغي للداعية أن يبحث عمن يحميه من كيد أعدائه؛ ليقوم بدعوته على الوجه المطلوب (¬2). ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد3/ 33، وسيرة ابن هشام 2/ 28، والبداية والنهاية3/ 137، والرحيق المختوم ص 125. (¬2) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي ص58، وهذا الحبيب يا محب ص134.

4 - من مواقفه الحكيمة في الأسواق والمواسم: باشر النبي صلى الله عليه وسلم دعوته في مكة بعد عودته من الطائف في شهر ذي القعدة سنة عشر من النبوة، فبدأ يذهب إلى المواسم التي تقام في الأسواق مثل: عكاظ، ومجنة، وذي مجاز وغيرها، التي تحضرها القبائل العربية للتجارة والاستماع لما يُلقى فيها من الشعر ويعرض نفسه على هذه القبائل يدعوها إلى الله- تعالى-، وجاء موسم الحج لهذه السنة فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة. ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرض الإسلام على القبائل فحسب، بل كان يعرضه على الأفراد أيضًا. وكان صلى الله عليه وسلم يرغب جميع الناس بالفلاح، فعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، قال: أخبرني رجل يقال له: ربيعة بن عباد، من بني الديل، وكان جاهليًا، قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه، أحول، ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا عمه أبو لهب» (¬1). وقد كانت الأوس والخزرج يحجون كما كانت تحج العرب دون اليهود، فلما رأى الأنصار أحواله صلى الله عليه وسلم ودعوته، عرفوا أنه الذي تتوعدهم به اليهود، فأرادوا أن يسبقوهم؛ ولكنهم لم يبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة، ورجعوا إلى المدينة (¬2). ¬

(¬1) أخرجه أحمد4/ 341، 3/ 492، وسنده حسن، وله شاهد عند ابن حبان برقم1683 (موارد) من حديث طارق بن عبد الله المحاربي، والحاكم في المستدرك بإسنادين، وقال عن الإسناد الأول. صحيح على شرط الشيخين، رواته كلهم ثقات أثبات، 1/ 15. (¬2) انظر: زاد المعاد3/ 43، 44، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 136، والرحيق المختوم ص 129، والبداية والنهاية3/ 149، وابن هشام 2/ 31.

وفي موسم الحج من السنة الحادية عشرة من النبوة، عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل، وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه، مر بعقبة مِنَى فوجد بها ستة نفر من شباب يثرب، فعرض عليهم الإسلام، فأجابوا دعوته، ورجعوا إلى قومهم وقد حملوا معهم رسالة الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). ثم استدار العام وأقبل الناس إلى الحج سنة 12 من النبوة، وكان بين حجاج يثرب اثنا عشر رجلا، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في العام السابق، والتقوا حسب الموعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى، وأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء (¬2). عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه- «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: "تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروفٍ، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب منْ ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئَا فستره الله عليه فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه " فبايعناه على ذلك» (¬3). وبعد أن انتهت المبايعة، وانتهى الموسم بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء مصعب بن عمير - رضي الله عنه- ليعلم المسلمين شرائع الإسلام، وليقوم ¬

(¬1) انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 137، وهذا الحبيب يا محب2/ 145، والرحيق المختوم ص 132، وزاد المعاد 3/ 45، وسيرة ابن هشام 2/ 38، والبداية والنهاية 3/ 149. (¬2) انظر: زاد المعاد3/ 46، والرحيق المختوم ص139، والتاريخ الإسلامي2/ 139، وهذا الحبيب ص 145، وسيرة ابن هشام 2/ 38. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة 7/ 219، وكتاب الإيمان، باب حدثنا أبو اليمان1/ 64.

بنشر الإِسلام، وقد قام بذلك- رضي الله عنه- أتم قيام، وفي موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة حضر لأداء الحج من يثرب ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، وكلهم قد أسلموا. فلما قدموا مكة واعدوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة، وجاءهم على موعدهم، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: «يا رسول الله، علام نبايعك؟ فقال: "تبايعوني على: السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة» (¬1) فقاموا إليه فبايعوه. وبعد عقد هذه البيعة جعل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر زعيمًا، يكونون نقباء على قومهم، وكانوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، ثم رجعوا إلى يثرب، وعندما وصلوا أظهروا الإسلام فيها، ونفع الله بهم في الدعوة إلى الله تعالى (¬2). وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح النبي صلى الله عليه وسلم في تأسيس وطن للِإسلام، انتشر الخبر في مكة كثيرًا، وثبت لقريش أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بايع أهل يثرب، فاشتد أذاهم على من أسلم في مكة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فهاجر المسلمون، فاجتمع قريش في يوم 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، وأجمعوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ ولحسن سياسته وحكمته أمر عليًّا أن يبيت في فراشه تلك الليلة، ¬

(¬1) أحمد في المسند3/ 322، والبيهقي9/ 9، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي2/ 624، وحسن إسناده الحافظ في الفتح 7/ 117. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 49، والبداية والنهاية3/ 158، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 142، والرحيق المختوم ص143.

فبقي المشركون ينظرون إلى عليّ من صِير الباب (¬1) وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومر بأبي بكر، وهاجر إلى المدينة (¬2). وهذه المواقف العظيمة التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل واضح على حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى صبره، وشجاعته، وأنه صلى الله عليه وسلم حينما علم بأن قريشًا قد طغت، ورفضت الدعوة بحث عن مكان يتخذ قاعدة للدعوة الإسلامية، ولم يكتف بذلك، بل أخذ منهم البيعة والمعاهدة على نصرة الإسلام، وتم ذلك في مؤتمرين: بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية، وعندما وجد مكان الدعوة الذي يتخذ قاعدة لها، ووجد أنصار الدعوة أذن بالهجرة لأصحابه، وأخذ هو بالأسباب عندما تآمرت عليه قريش، وهذا لا يعتبر جبنًا, ولا فرارًا من الموت؛ ولكن يعتبر أخذًا بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، وهذه السياسة الحكيمة من أسباب نجاح الدعوة، وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو قدوتهم وإمامهم (¬3) ¬

(¬1) صير الباب: هو شق الباب. انظر: المعجم الوسيط، مادة. صار1/ 531. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام2/ 95، والبداية والنهاية3/ 175، وزاد المعاد3/ 54، والسيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي ص61، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 148، وهذا الحبيب يا محب ص156. (¬3) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر ص68.

المطلب الثاني مواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة

المطلب الثاني مواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة المسلك الأول: مواقف الحكمة في الإصلاح والتأسيس: عندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان فيها مجموعات من السكان متباينة في عقيدتها، مختلفة في أهدافها، متفرقة في اجتماعاتها، وكانت لديهم خلافات بعضها قديم موروث، وبعضها حديث موجود، وقد كانت هذه المجموعات على ثلاثة أصناف: 1 - المسلمون، من: الأوس، والخزرج، والمهاجرين. 2 - المشركون، من: الأوس، والخزرج الذين لم يدخلوا في الإسلام. 3 - اليهود، وهم عدة قبائل: بنو قينقاع، وقد كانوا حلفاء الخزرج، وبنو النضير، وبنو قُريظة، وهاتان القبيلتان كانتا حلفاء الأوس. وقد كان هناك خلاف مستحكم بين الأوس والخزرج، وكانت بينهما حروب في الجاهلية، وآخرها يوم بُعَاثٍ ولا يزال في النفوس شيء منها (¬1). لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بحل هذه المشكلات كلها، بحكمته العظيمة، وحسن سياسته، وكان حله وإصلاحه لهذه الأوضاع، وجمعه لشمل المسلمين كالتالي: ¬

(¬1) انظر. البداية والنهاية 3/ 214، وسيرة ابن هشام 2/ 114، وزاد المعاد3/ 62، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 159، والرحيق المختوم ص171، وهذا الحبيب يا محب ص 174، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص188، البخاري مع الفتح، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد 1/ 524، ومسلم، كتاب الماجد، باب بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم 1/ 373، 374.

1 - بناء المسجد والاجتماع فيه أولى عمل وحد بين القلوب: كان أول عمل قام به صلى الله عليه وسلم في الإصلاح والتأسيس بناء المسجد النبوي، واشترك المسلمون جميعًا في البناء، وعلى رأسهم إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكان أول عمل تعاوني عام، وحد بين القلوب، وأظهر الهدف العام للعمل، وقد كان لكل حي في المدينة - قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم مكان يلتقون فيه، فيسمرون ويسهرون، وينشدون الأشعار، فكانت هذه الحال تدل على التفرقة والاختلاف، فعندما بُنيَ المسجد كان مركز المسلمين جميعًا، ومكان تجمعهم، يلتقون به في كل وقت، ويسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمهم ويرشدهم ويوجههم (¬1). وبهذا تجمعت الأندية، والتفَّت الأحياء، واقتربت القبائل، وتحابَّت البطون، وانقلبت التفرقة إلى وحدة، ولم تعد في المدينة جماعات، بل جماعة واحدة، ولم تعد زعامات، بل قائد واحد، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتلقى من ربه الأوامر والنواهي، ويعلم أمته، فأصبح المسلمون صفًّا واحدًا، وامتزجت النفوس والعقليات، وتقوت الوحدة، وتآلفت الأرواح، وتعاونت الأجسام (¬2). ولم يكن المسجد موضعًا لأداء الصلوات الخمس فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ويجتمعون فيه، وتلتقي فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها وقاعدة لِإدارة جميع الشئون، وبثّ الانطلاقات، وموضعًا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية. ¬

(¬1) انظر. البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه 7/ 239، 240. (¬2) انظر. التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 161، 162، والرحيق المختوم ص 179.

ولهذا ما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكان في المدينة إلا كان أول ما يفعله بناء جد يجتمع فيه المؤمنون، فقد أقام مسجد قباء حين أقام فيها، وصلى الجمعة في بني سالم بن عوف بين قباء والمدينة في بطن وادي (رانوناء) فلما أن وصل إلى المدينة كان أول عمل عمله بناء المسجد فيها (¬1). 2 - دعوة اليهود إلى الإسلام بالقول الحكيم: ومن قواعد الإصلاح والتأسيس التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دخل المدينة - الاتصال باليهود بواسطة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، ودعوتهم إلى الإسلام. فعن أنس - رضي الله عنه- قال. «بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؛ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خبرني بهن آنفًا جبريل "، قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها" [قال. أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله]، قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْتٌ، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بَهَتوني عندك، [فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله فواللَّه الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقًّا، وأني جئتكم بحق، فأسلموا"، قالوا: ما نعلمه، قالوا ¬

(¬1) انظر السيرة النبوية دروس وعبر ص 74، وفقه السيرة ص 189، وهذا الحبيب يا محب ص 180.

للنبي صلى الله عليه وسلم - قالها ثلاث مرات- فقال رسول الله لمجير: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: يا ابن سلام اخرج عليهم، فخرج، فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، [شرنا، وابن شرنا]، ووقعوا فيه» (¬1). وهذه أول تجربة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود عند دخول المدينة (¬2). ومن حسن سياسته صلى الله عليه وسلم أنه وافق على إخفاء عبد الله بن سلام حتى يسأل اليهود عن مكانته بينهم، وعندما أثنوا عليه، ورفعوا من قدره أمره بالخروج فخرج وأعلن شهادته، وأظهر ما كان يكتمه اليهود من صدق النبي صلى الله عليه وسلم ثم ضبطهم صلى الله عليه وسلم بالمعاهدة التي ستأتي. 3 - المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: كما قام النبي صلى الله عليه وسلم بالبدء ببناء المسجد ودعوة اليهود إلى الإسلام، قام صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهذا من الرشد، والكمال النبوي، والنضج السياسي، والحكمة المحمدية (¬3). آخى بينهم صلى الله عليه وسلم في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلا، نصفهم ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، في كتاب أحاديث الأنبياء 6/ 362، وفي كتاب مناقب الأنصار7/ 250، 7/ 272، والألفاظ من المواضع الثلاثة، وانظر أيضًا. البخاري مع الفتح 8/ 165، والبداية والنهاية 3/ 210. (¬2) انظر: الرحيق المختوم ص175، وهذا الحبيب يا محب ص 75، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص 198، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 173. (¬3) انظر: هذا الحبيب يا محب، لأبي بكر الجزائري ص 178.

من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار آخى بينهم على المواساة، يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله- عز وجل-: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] (¬1) ردّ التّوارث إلى الرّحم دون عقد الإخوة (¬2). ذابت عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للِإسلام، وسقطت فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه، وكانت عواطف الأخوة، والإيثار؛ والمواساة، والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال؛ وفي هذه الإخوة أقوى مظهر من مظاهر عدالة الإسلام الإنسانية والأخلاقية (¬3). ولم تكن هذه المؤاخاة معاهدة دونت على الورق فحسب، ولا كلمات قيلت باللسان فقط؛ وإنما كانت مؤاخاة سجلت على صفحات القلوب، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا كلامًا يثرثر به اللسان، إنها مؤاخاة في القول والعمل، والنفس والمتاع والأملاك، في العسر واليسر (¬4). ومن أروع الأمثلة لذلك ما رواه البخاري في صحيحه «آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالًا، فسأقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 75. (¬2) انظر: زاد المعاد 3/ 63، والرحيق المختوم ص180. (¬3) انظر: فقه السيرة 3/ 63، والرحيق المختوم ص180. (¬4) انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 165، وفقه السيرة لمحمد الغزالي، ص192.

تابع الغدوة ثم جاء يومًا وبه أثر صُفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَهْيَم؟ " (¬1) قال: تزوجت امرأة من الأنصار، فقال: "ما سقت فيها؟ " قال: وزن نواة من ذهب، أو نواة من ذهب، فقال: "أولم ولو بشاة» (¬2). وهذه المؤاخاة حكمة فذة، وسياسة صائبة، وحل رائع لكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون. 4 - التربية الحكيمة: وقد كان صلى الله عليه وسلم يتعهدهم بالتعليم والتربية وتزكية النفوس، والحث على مكارم الأخلاق، ويؤدبهم بآداب الود والإخاء والمجد والشرف والعبادة والطاعة (¬3) فقد كان يقول صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (¬4) ويقول: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» (¬5) «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (¬6). ¬

(¬1) مَهْيَم: كلمة استفهام، أي: ما حالك، وما شأنك؟ انظر: القاموس المحيط، باب الميم، فصل الميم، ص 1499. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب إخاء النبي-صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، 7/ 112، حديث رقم3780، 3781، واللفظ من الموضعين، وانظر: باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، في الكتاب السابق نفسه. (¬3) انظر: الرحيق المختوم ص 179، 181، 208، والتاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر2/ 165. (¬4) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة، باب حدثنا محمد بن بشار4|652، وقال: هذا حديث صحيح، وابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب إطعام الطعام2/ 1083، والدارمي1/ 156، وأحمد1/ 165 / 391 وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 303. (¬5) مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم إيذاء الجار، 1/ 68. (¬6) البخاري مع الفتح، في كتاب الإيمان، باب أي الإسلام أفضل1/ 54، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل1/ 65، واللفظ له.

ويقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬1). ويقول: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه» (¬2). ويقول: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه» (¬3). وقال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» (¬4) وقال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أَنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا» (¬5) ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه1/ 56، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه1/ 67. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد 1/ 565، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/ 1999. (¬3) مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره وتحريم دمه وعرضه وماله 4/ 1986. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الهجر، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث10/ 491، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي 4/ 1986. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة، باب النهي عن الشحناء والتهاجر 4/ 1987.

وقال: «تعرض الأعمال في كل يوم خميسِ واثنين فيغفر الله- عز وجل- في ذلك اليوم لكل امرئٍ لا يشرك بالله شيئا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اركوا هذين (¬1) حتى يصطلحا، اركوا هذين حتى يصطلحا» (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلومًا" قيل: يا رسول الله، هذا نصرته مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالمًا؟ قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم فذلك نصره» (¬3) وقال: «حق المسلم على المسلم ست "، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: "إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه» (¬4) وعن البراء بن عازب قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم، ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشرب في الفضة- أو قال: في آنية الفضة- وعن ¬

(¬1) اركوا هذين. أي أخروا، يقال: ركاه، يركوه ركوا، إذا أخره. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 16/ 122. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الشحناء والتهاجر، 4/ 1988. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب البر، باب انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا4/ 1998، بمعناه، وأخرجه أحمد بلفظه3/ 99، والبخاري مع الفتح في كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالما أو مظلومًا 5/ 98، وكتاب الإكراه، باب يمين الرجل لصاحبه 12/ 223. (¬4) البخاري مع الفتح بنحوه في كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز3/ 112، ومسلم في كتاب السلام، باب من حق المسلم على المسلم رد السلام 4/ 1705.

المياثر (¬1) والقسي (¬2) وعن لبس الحرير، والديباج (¬3) والإستبرق» (¬4). وقال: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» (¬5). «وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ فقال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (¬6). ويقول: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬7). وقال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» (¬8). وقال: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل» (¬9). وقال صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر» (¬10). وسواء وصلت هذه النصوص للأنصار من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، أو سمعوا بعضها من المهاجرين الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، فكل ذلك ¬

(¬1) المياثر: سروج من الديباج أو الحرير. الفتح 10/ 293. (¬2) ثياب مضلعة بالحرير: أي فيها خطوط منه. الفتح 10/ 293. (¬3) الديباج والإِستبرق: صنفان من الحرير. انظر: فتح الباري10/ 307. (¬4) البخاري مع الفتح، في كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز3/ 112، 5/ 99، 9/ 240، 10/ 96، وانظر مواضع الحديث في البخاري مع فتح الباري 3/ 112. (¬5) مسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون1/ 74. (¬6) البخاري مع الفتح في كتاب الإيمان، باب إطعام الطعام من الإِسلام 1/ 55، ومسلم في الإِيمان، باب بيان تفاضل الإسلام 1/ 65. (¬7) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم10/ 438، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم4/ 2000. (¬8) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم10/ 438، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك 4/ 1809. (¬9) مسلم، في كتاب الفضائل، الباب السابق 4/ 1809. (¬10) البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر1/ 110.

تربية منه صلى الله عليه وسلم لأصحابه جميعًا، ولمن بلغته هذه النصوص إلى يوم الدين. وغير ذلك من النصوص التي ربّى بها محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه فقد كان يحثهم على الإنفاق، ويذكر من فضائله ما يشوق النفوس والقلوب، وكان يحث على الاستعفاف عن المسألة، ويذكر لهم فضل الصبر والقناعة، وكان يرغبهم في العبادات بما فيها من الفضائل والأجر والثواب، وكان يربطهم بالوحي النازل من السماء ربطًا موثقًا يقرؤه عليهم ويقرؤونه؛ لتكون هذه الدراسة إشعارًا بما عليهم من حقوق الدعوة، فضلا عن ضرورة الفهم والتدبر. وهكذا رفع صلى الله عليه وسلم معنوياتهم، ودربهم على أعلى القيم والمثل حتى صاروا صورة لأعلى قمة من الكمال الإنساني. بمثل هذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني مجتمعًا مسلمًا أروع وأشرف مجتمع عرفه التاريخ، وأن يضع لمشاكل هذا المجتمع حلا بعد أن كان يعيش في ظلمات الجهل والخرافات، فأصبح مجتمعًا يضرب به المثل في جميع الكمال الإنساني، وهذا بفضل الله وحده، ثم بفضل هذا النبي الحكيم، فَحَريٌّ بالدعاة إلى الله أن يسلكوا مسلكه، ويهتدوا بهديه صلى الله عليه وسلم (¬1). 5 - ميثاق المهاجرين والأنصار وموادعة اليهود: بعد أن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، عقد معاهدة أزاح بها كل ما كان من حزازات الجاهلية والنزعات القبلية، ولم يترك مجالًا لتقاليد الجاهلية، وقد وضع في هذه المعاهدة ميثاقًا للمهاجرين والأنصار متضمنًا موادعة اليهود بالمدينة، وهذا من أبرز الجهود التي بذلها صلى الله عليه وسلم في الإصلاح والتأسيس. كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود، ¬

(¬1) انظر: الرحيق المختوم، ص 183.

المسلك الثاني مواقف الحكمة في حسن الإعداد للقتال والشجاعة والبطولة

وعاهدهم، وأقرهم على أموالهم، واشترط عليهم، وشرط لهم (¬1). وهذا الميثاق في غاية الدقة، وحسن السياسة، وكمال الحكمة من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ربط بين جميع المسلمين في المدينة وبين اليهود، فأصبحوا كتلة واحدة، يستطيعون أن يقفوا في وجه كل من يريد أهل المدينة بسوء. وهذه الخطوات الخمس: بناء المسجد، ودعوة اليهود إلى الإسلام، والمؤاخاة بين المؤمنين وتربيتهم، وكتابة الميثاق، هي التي حل بها النبي صلى الله عليه وسلم - بفضل الله تعالى- الخلاف المستحكم بين سكان المدينة، وأزال بها جميع آثار الماضي، ووحَّد بها قلوب المسلمين، وطبق بها النظام المتقن داخلِ المدينة، ومن ثم انتشر هذا النظام، والدعوة إلى الله من هذه المدينة إلى جميع أقطار العالم (¬2). المسلك الثاني: مواقف الحكمة في حسن الإعداد للقتال، والشجاعة والبطولة: بعد أن كوَّن النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعًا متماسكًا بالمدينة، وأصبح هذا المجتمع كتلة واحدة أمام من يريد العاصمة الإسلامية بسوء- وما ذلك إلا بفضل الله ثم بحكمة المصطفى صلى الله عليه وسلم - قام صلى الله عليه وسلم بالجهاد في سبيل الله، بالقلب واللسان، والدعوة والبيان، والسيف والسنان، فقد أرسل ستّا وخمسين سرية، وقاد بنفسه سبعًا وعشرين غزوة (¬3). ومن مواقفه الحكيمة في ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 3/ 224 - 226، وزاد المعاد3/ 65، وانظر: كتابة الميثاق بين المسلمين ويهود المدينة في سيرة ابن هشام2/ 119 - 123. (¬2) انظر: الرحيق المختوم ص171، 178، 185، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 166، 2/ 69، 160، وهذا الحبيب يا محب ص 174، 176. (¬3) انظر تلك البطولات الحكيمة في: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب غزوة العشيرة 7/ 279، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب عددذ غزوات النبي-صلى الله عليه وسلم -3/ 1447، وشرح النووي على مسلم2 1/ 195، وفتح الباري 7/ 280، 281، والبداية والنهاية لابن كثير 3/ 241، 5/ 216، 217، وزاد المعاد لابن القيم 3/ 5.

1 - ما فعله في غزوة بدر الكبرى: من مواقفه التي تزخر بالحكمة في هذه الغزوة «أنه صلى الله عليه وسلم استشار الناس قبل بدء المعركة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يعرف مدى رغبة الأنصار في القتال؛ لأنه شرِطَ له في البيعة أن يمنعوه في المدينة مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم وأبناءهم وأزواجهم، أما خارج المدينة فلم يحصل أي شرط، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يستشيرهم، فجمعهم صلى الله عليه وسلم واستشارهم، فقام أبو بكر - رضي الله عنه- فقال وأحسن، ثم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- فقال وأحسن، ثم استشارهم ثانيًا، فقام المِقْدَادُ فقال: "يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، [نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك، ثم استشار الناس ثالثًا، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله كأنك تريدنا]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج استشارهم؛ ليعلم ما عندهم، فقال له سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًّا عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرتنا فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوا لله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فَخضْتَهُ لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنّا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدق في اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرَ بما سمع، ونشطه ذلك، ثم قال:

"سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، ولكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» (¬1). ومن مواقفه العظيمة في بدر: اعتماده على ربه- تبارك وتعالى- لأنه قد علم أن النصر لا يكون بكثرة العدد ولا العدة، وإنما يكون بنصر الله- عز وجل- مع الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله. عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه (¬2) "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض "، فما زال يهتف بربه، مادًّا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله- عز وجل-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]» (¬3) فأمده الله بالملائكة (¬4) ¬

(¬1) سقت هذه القصة بالمعنى، وانظر: سيرة ابن هشام 2/ 253، وفتح الباري 7/ 287، وزاد المعاد 3/ 173، والرحيق المختوم ص200، وقد أخرج البخاري مواضع منها. انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب إذ تستغيثون ر بكم 7/ 287، وكتاب التفسير 8/ 273، وأخرج مسلم بعض المواضع من القصة. انظر: صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر 3/ 1403، وانظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 194. (¬2) يهتف بربه، أي: يصيح ويستغيث بالله بالدعاء. انظر: شرح النووي12/ 84. (¬3) سورة الأنفال، الآية 9. (¬4) أخرجه مسلم بلفظه ني كتاب الجهاد والسير والمغازي، باب الإِمداد بالملائكة في غزوة بدر 3/ 1383، والبخاري مع الفتح بمعناه مختصرًا، في كتاب المغازي، باب قوله تعالى: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم. 7/ 287، وانظر. الرحيق المختوم ص 208.

«وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]» (¬1) وقاتل صلى الله عليه وسلم في المعركة، وكان من أشد الخلق وأقواهم وأشجعهم، ومعه أبو بكر - رضي الله عنه- كما كانا في العريش يُجاهِدَان بالدعاء والتضرع، ثم نزلا فحرضا، وحثا على القتال، وقاتلا بالأبدان جمعًا بين المقامين الشريفين " (¬2) وكان أشجع الناس الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- قال: "لقد رأَيْتُنَا يوم بدر، ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا" (¬3) وعنه- رضي الله عنه- قال: "كنا إذا حمي البأس، ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون أحدنا أدنى إلى القوم منه " (¬4). 2 - مواقفه الحكيمة في غزوة أحد: من مواقفه في الشجاعة أيضًا، وصبره على أذى قومه ما فعله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقاتل قتالا عظيمًا؛ فإن الدولة كانت أول النهار للمسلمين على المشركين، فانهزم أعداء الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم، فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، وذلك أنهم ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة، فذهبوا في طلب الغنيمة، وتركوا الجبل، فكرّ فرسان المشركين فوجدوا الثغر خاليًا قد خلا ¬

(¬1) سورة القمر، الآية 45. والحديث في البخاري مع الفتح 7/ 287. (¬2) انظر: البداية والنهاية 3/ 278. (¬3) أخرجه أحمد في المسند 1/ 86، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي2/ 143. (¬4) الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي2/ 143، وعزاه ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 279، إلى النسائي.

من الرماة فجازُوا منه، وتمكنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين، فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة، وهم سبعون، وتولى الصحابة، وخلص المشركون إلى رسول الله، فجرحوا وجهه، وكسروا رباعيته اليمنى، وكانت السفلي، وهشموا البيضة على رأسه، وقاتل الصحابة دفاعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) وكان حول النبي صلى الله عليه وسلم رجلان من قريش، وسبعة من الأنصار، فقال صلى الله عليه وسلم لما رهقوه، وقربوا منه: «من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة"، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضًا فقال: "من يردهم عنا وله الجنة"، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا» (¬2) وعندما اجتمع المسلمون، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشعب الذي نزل فيه، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعلي، والحارث بن الصّمة الأنصاري وغيرهم، فلما استندوا إلى الجبل أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أُبَيّ بن خلف، وهو على جواد له، ويقول: أين محمد لا نجوت إن نجا؛ فقال القوم. يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتركه، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله وأبصر ترقوته من فرجةٍ بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدحرج منها عن فرسه مرارًا، فلما رجع عدو الله إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشًا غير كبير. . . قال: قتلني والله محمد، فقالوا له: ذهب والله ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد3/ 196، 199، والرحيق المختوم ص255، 256. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد3/ 1415.

فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليَّ لقتلني، فمات عدو الله بسرف، وهم قافلون إلى مكة " (¬1) وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه- أنه سُئلَ عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: جُرِحَ وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكُسِرَت رباعيته، وهُشِمَت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة - عليها السلام- تغسل الدم، وعليٌّ يمسك، فلما رأت أن الدم لا يرتد إلا كثرة أخذت حصيرًا فأحرقته حتى صار رمادًا، ثم ألزقته فاستمسك الدم " (¬2) وقد حصل له هذا الأذى العظيم الذي ترتج لعظمته الجبال، وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يدع على قومه، بل دعا لهم بالمغفرة، لأنهم لا يعلمون. فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- قال: «كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (¬3) فالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم قد كانوا (¬4) على جانب عظيم من الحلم والتصبر، والعفو والشفقة على قومهم ودعائهم ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، لابن القيم3/ 199، والرحيق المختوم ص263، وروى قصة قتل النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن خلف: أبو الأسود عن عروة بن الزير، والزهري عن سعيد بن المسيب. انظر: البداية والنهاية لابن كثير4/ 32، وكلاهما مرسل، والطبري2/ 67، وانظر. فقه السيرة لمحمد الغزالي، ص226. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب لبس البيضة6/ 96، ومسلم، كتاب الجهاد، باب غزوة أحد 3/ 1416. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان 6/ 514، 12/ 282، وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب غزوة أحد 3/ 1417، وانظر: شرحه في الفتح 6/ 521، وشرح النووي لصحيح مسلم12/ 148. (¬4) انظر: شرح النووي لمسلم12/ 148.

لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جناياتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون (¬1) قال صلى الله عليه وسلم: «اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم "، وهو حينئذ يشير إلى رباعيته، "اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله عز وجل» (¬2). وفي إصابة النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد عزاء للدعاة فيما ينالهم في سبيل الله من أذى في أجسامهم، أو اضطهاد لحرياتهم، أو قضاء على حياتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة قد أوذي وصبر (¬3). 3 - ومن مواقفه التي تزخر بالحكمة والشجاعة ما فعله في معركة حنين: بعد أن دارت معركة حنين والتقى المسلمون والكفار، ولَّى المسلمون مدبرين (¬4) فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبَلَ الكفار. . . ثم قال: "أي عباس، ناد أصحاب السمرة" فقال عباس: - وكان رجلًا صيتًا- فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عَطْفَتهم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار. . . فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "الآن حمي الوطيس " (¬5). ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم12/ 150 بتصرف. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد 7/ 372، ومسلم، كتاب الجهاد، باب اشتداد كضب الله على من قتله رسول الله 3/ 9417. (¬3) السيرة النبوية دروس وعبر، ص116. (¬4) كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة ألفان منِ أهل مكة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة ففتح بهم، وكانوا اثني عشر ألفًا. انظر: زاد المعاد 3/ 468. (¬5) مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، وقد اختصرت ألفاظه 3/ 1398.

وظهرت شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا نظير لها في هذا الموقف الذي يعجز عنه عظماء الرجال (¬1) «وسئل البراء، فقال له رجل: يا أبا عمارة، أكنتم وليتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شبان أصحابه» جمع شباب. شرح النووي لمسلم 12/ 117. وأخفاؤهم (¬2) حسرًا (¬3). ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح، فلقوا قومًا رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن، وبني نصر، فرشقوهم رشقًا (¬4) ما يكادون يخطئون، فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود بغلته، فنزل ودعا، واستنصر، وهو يقول: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب اللهم نزِّل نصرك (¬5). قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس (¬6) نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم (¬7). ¬

(¬1) انظر: الرحيق المختوم ص451، وهذا الحبيب يا محب ص408. (¬2) جمع خفيف، وهم المسارعون المستعجلون. شرح النووي لمسلم12/ 117. (¬3) حسرا: جمع حاسر، أي: بغير دروع، وقد فسره بقوله: ليس عليهم سلاح. شرح النووي لمسلم 12/ 117. (¬4) رشقًا: هو بفتح الراء، وهو مصدر، وأما الرشق بالكسر فهو اسم للسهام التي ترميها الجماعة دفعة واحدة. انظر: شرح النووي12/ 118. (¬5) مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، مع التصرف في بعض الكلمات3/ 1400، والبخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته فاستنصر 6/ 105، 8/ 27، 28. (¬6) إذا احمر البأس: كناية عن شدة الحرب، واستعير ذلك لحمرة الدماء الحاصلة فيها في العادة. انظر. شرح النووي12/ 121. (¬7) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين 3/ 1401.

وفي رواية لمسلم عن سلمة قال: «مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزمًا (¬1) وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأى ابن الأكوع فزعًا". فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: "شاهت الوجوه» (¬2) فما خلق الله منهم إنسانًا إلا ملأ عينيه ترابًا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله - عز وجل-، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين " (¬3). وقد قال العلماء: إن ركوب النبي صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد البأس هو النهاية في الشجاعة والثبات، ولأنه أيضًا يكون معتمدًا يرجع الناس إليه، وتطمئن قلوبهم به وبمكانه، وإنما فعل هذا عمدًا، وإلا فقد كانت له صلى الله عليه وسلم أفراس معروفة. ومما يدل على شجاعته تقدمه صلى الله عليه وسلم وهو يركض بغلته إلى جمع المشركين، وقد فر الناس عنه، ونزوله إلى الأرض حين غشوه مبالغة في الشجاعة والصبر، وقيل: فعل ذلك مواساة لمن كان نازلًا على الأرض من المسلمين، وقد أخبر الصحابة- رضي الله عنهم- بشجاعته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن (¬4). 4 - ومن مواقفه التي تزخر بالحكمة والشجاعة: ما رواه البخاري ومسلم، عن أنس - رضي الله عنه- قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ¬

(¬1) قال العلماء: قوله: "منهزمًا" حال من ابن الأكوع، وليس النبي- صلى الله عليه وسلم -. انظر: شرح النووي 12/ 122. (¬2) شاهت الوجوه، أي: قبحت. انظر: شرح النووي12/ 122. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين3/ 1402. (¬4) انظر: شرح النووي على مسلم12/ 114.

ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: "لم تراعوا، لم تراعوا"، وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: "لقد وجدته بحرًا، أو إنه لبحر» (¬1). وهذا المثال وغيره من الأمثلة السابقة تدل دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أشجع إنسان على الإطلاق، فلم يكتحل الوجود بمثله صلى الله عليه وسلم، وقد شهد له بذلك الشجعان الأبطال (¬2). قال البراء - رضي الله عنه-: "كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم " (¬3). وقال أنس في الحديث السابق: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس». . . ". وكانت هذه الشواهد السابقة لشجاعته القلبية، أما شجاعته العقلية فسأكتفي بشاهد واحد؛ فإنه يكفي عن ألف شاهد ويزيد، وهو موقفه من تعنت سهيل بن عمرو، وهو يملي وثيقة صلح الحديبية، إذ تنازل صلى الله عليه وسلم عن كلمة "بسم الله الرحمن الرحيم " إلى باسمك اللهم، وعن كلمة: " محمد رسول الله " إلى كلمة: محمد بن عبد الله، وقبوله شرط سهيل على أنه لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قريش حتى ولو كان مسلمًا إلا رده إلى أهل مكة، وقد استشاط الصحابة غيظًا، وبلغ الغضب حدًّا لا مزيد عليه، وهو صلى الله عليه وسلم صابر ثابت حتى انتهت الوثيقة، وكان بعد أيام فتحًا مبينًا. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باد حسن الخلق والسخاء، وما يكره من البخل، 10/ 455، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي عليه السلام وتقدمه للحرب، 4/ 1802. (¬2) انظر: رواية علي بن أبي طالب في شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد1/ 86، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي2/ 143، وتقدم تخريجه ص175. (¬3) أخرجه مسلم 3/ 1401، وتقدم تخريجه.

المسلك الثالث مواقف الحكمة الفردية

فضرب صلى الله عليه وسلم بذلك المثل الأعلى في الشجاعتين: القلبية، والعقلية، مع بعد النظر، وأصالة الرأي، وإصابته؛ فإن من الحكمة أن يتنازل الداعية عن أشياء لا تضره بأصل قضيته لتحقيق أشياء أعظم منها (¬1). وجميع ما تقدم نماذج من شجاعته صلى الله عليه وسلم وثباته، وهذا نقطة من بحر، وإلا فإنه لو كتِبَ في شجاعته صلى الله عليه وسلم بالاستقصاء لكُتِبَ مجلدات، فيجب على كل مسلم، وخاصة الدعاة إلى الله- عز وجل- أن يتخذوا الرسول صلى الله عليه وسلم قدوةً في كل أحوالهم وتصرفاتهم، وبذلك يحصل الفوز والنجاح، والسعادة في الدنيا والآخرة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] (¬2) المسلك الثالث: مواقف الحكمة الفردية: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحكم خلق الله، فقد كان يتألف الناس ليدخلوا في الإسلام، ويصبر على أذاهم، ويعفو عن إساءتهم، ويقابلها بالإحسان، وله صلى الله عليه وسلم مواقف في الكرم، والجود، والعفو، والحلم، والرفق، والعدل، تظهر في النقاط الآتية: 1 - صلى الله عليه وسلم مع ثمامة بن أثال، سيد أهل اليمامة: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ماذا عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي ¬

(¬1) انظر وثيقة صلح الحديبية كاملة في البخاري مع الفتح 5/ 329، وشرح الوثيقة في الفتح 5/ 333 - 352، ومسند أحمد، 4/ 328 - 331، وانظر. هذا الحبيب يا محب ص 532. (¬2) سورة الأحزاب، الآية 21.

يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم (¬1) وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، فقال: "ما عندك يا ثمامة " فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد، فقال: "ماذا عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال، فسل تعط منه ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطلقوا ثمامة "، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: [لا والله]، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2). «ثم خرج- رضي الله عنه- إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئًا، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت ¬

(¬1) معناه: إن تقتل تقتل صاحب دم يدرك قاتله به ثأره لرئاسته وفضيلته، وقيل: معناه نقتل من عليه دم مطلوب به، وهو مستحق عليه فلا عتب عيك في قتله. انظر: فتح الباري 8/ 88. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال 8/ 87، ومسلم - واللفظ له إلا ما بين المعكوفين فمن البخاري- في كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه 3/ 1386.

أرحامنا، وقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل» (¬1) وذكر ابن حجر أن ابن منده روى بإسناده عن ابن عباس قصة إسلام ثمامة ورجوعه إلى اليمامة، ومنعه عن قريش الميرة، وَنزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] (¬2) وقد ثبت ثمامة على إسلامه لما ارتد أهل اليمامة، وارتحل هو ومن أطاعه من قومه، فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي، فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين (¬3). الله أكبر، ما أحكم النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم. وما أعظمه من موقف، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتألف القلوب، ويلاطف من يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير. وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله- عز وجل- أن يعظموا أمر العفو عن المسيء، لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًّا في ساعة واحدة؛ لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمنّ بغير مقابل، وقد ظهر لهذا العفو الأثر الكبير في حياة ثمامة، وفي ثباته على الإسلام ودعوته إليه (¬4). ¬

(¬1) سيرة ابن هشام 4/ 317. بتصرف يسير، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 88. (¬2) سورة المؤمنون، الآية 76. وقال ابن حجر عن هذا الأثر: إسناده حسن. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 253. (¬3) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 203 وهناك أبيات شعرية له - رضي الله عنه - تدل على تأثره بعفوه صلى الله عليه وسلم. (¬4) انظر. شرح النووي على مسلم12/ 89، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 88.

2 - موقفه صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي أراد قتله: روى البخاري ومسلم، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- قال: غزونا مع رسول صلى الله عليه غزوة قِبَل نجد (¬1) فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا (¬2) في يده، فقال لي، من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت الله، قال: فشام السيف (¬3) فها هو ذا جالس»، ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4) الله أكبر، ما أعظم هذا الخلق! وما أكبر أثره في النفس! أعرابي يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعصمه الله منه، ويمكِّنه من القدرة على قتله، ثم يعفو عنه! إن هذا لخلق عظيم، وصدق الله العظيم إذ يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] (¬5) وهذا الخلق الحكيم قد أثر في حياة الرجل، وأسلم بعد ذلك، فاهتدى به خلق كثير (¬6). ¬

(¬1) وقع في رواية البخاري التصريح باسمها " ذات الرقاع"، انظر: البخاري مع الفتح 7/ 426. (¬2) والسيف صلتا: أي مسلولا. انظر: شرح النووي 15/ 45. (¬3) شام السيف: أي رده في غمده. انظر: المرجع السابق15/ 45. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة، 6/ 96، 97، وكتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، 7/ 426، ومسلم، واللفظ له، كتاب الفضائل، باب توكله على الله- تعالى-، وعصمة الله- تعالى- له من الناس، 4/ 1786، 1/ 576، وأحمد 3/ 311، 364. وانظر: الأخلاق الإسلامية وأسسي للميداني فقد ذكر رواية مطولة عزاها لأب بكر الإسماعيلي في صحيحه 2/ 335. (¬5) سورة القلم، الآية 4. (¬6) انظر: فتح الباري7/ 428، وشرح النووي على مسلم 15/ 44، وذكر ابن حجر والنووي في هذا الموضع أن اسم الأعرابي: غورث بن الحارث، بل ذكره البخاري في صحيحه برقم 4136.

3 - موقفه صلى الله عليه وسلم مع اليهودي زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعفو عند القدرة، ويحلم عند الغضب، ويحسن إلى المسيء، وقد كانت هذه الأخلاق العالية من أعظم الأسباب في إجابة دعوته والإيمان به، واجتماع القلوب عليه، ومن ذلك ما فعله مع زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود وعلمائهم الكبار (¬1) جاء زيد بن سعنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبه دينا له عليه، فأخذ بمجامع قميصه وردائه وجذبه، وأغلظ له القول، ونظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه غليظ وقال: يا محمد ألا تقضيني حقي، إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطْلٌ، وشدّد له في القول، فنظر إليه عمر وعيناه تدوران في رأسه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل ما أرى، فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتُؤَدَةٍ وتَبَسُّمٍ، ثم قال: «أنا وهو يا عمر كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعًا من تمرٍ"،» فكان هذا سببًا لِإسلامه، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وكان زيد قبل هذه القصة يقول: «لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا» (¬2) ¬

(¬1) انظر: هذا الحبيب يا محب ص 528، وهداية المرشدين ص 384. (¬2) ذكر ابن حجر في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة هذه القصة، وعزاها إلى الطبراني، والحاكم، وأبي الشيخ في كتابه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وابن سعد، وغيرهم، ثم قال ابن حجر: ورجال إسناده موثقون. . ومحمد بن أبي السري وثقه ابن معين. . والوليد قد صرح بالتحديث 1/ 566 وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، وعزاه إلى أب نعيم في الدلائل. البداية والنهاية 2/ 1310. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 240: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.

فاختبره بهذه الحادثة فوجده كما وُصِفَ، فأسلم وآمن وصدق، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشاهده، واستشهد في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر (¬1) فقد أقام محمد صلى الله عليه وسلم براهين عديدة من أخلاقه على صدقه، وأن ما يدعو إليه حق. 4 - موقفه صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: «بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَه مَه (¬2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه (¬3) دعوه "، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن "، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه (¬4) عليه» (¬5). وقد ثبت في البخاري وغيره أن هذا الرجل هو الذي قال: «اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا»، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: ¬

(¬1) الإصابة في تمييز الصاحبة 1/ 566. (¬2) مه: كلمة زجر، وهو اسم مبني على السكون، معناه: اسكت. وقيل: أصلها: ما هذا؟ انظر: شرح النووي 3/ 193. (¬3) لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله. والإزرام: القطع. انظر: المرجع السابق 3/ 190. (¬4) شنه: أي صبه عليه. انظر. المرجع السابق3/ 193. (¬5) أخرجه مسلم بلفظه في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها 1/ 236، والبخاري مع الفتح بمعناه مختصرا في كتاب الوضوء باب ترك النبي صلى الله عليه وسلم والناس الأعراب حتى فرغ من بوله في المسجد 1/ 322، وروايات بول الأعرابي في البخاري في عدة مواضع1/ 223، 10/ 449، 10/ 525.

اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: "لقد حجرت واسعًا» يريد رحمة الله (¬1) وتفسر هذه الرواية الروايات الأخرى عند غير البخاري، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: «دخل رجل أعرابي المسجد فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا! فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد تحجّرت واسعًا"، ثم لم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع الناس إليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، أهريقوا عليه دلوًا من ماء، أو سجلا من ماء» (¬2) قال: يقول الأعرابي بعد أن فقه، «فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليّ بأبي وأمي فلم يسب، ولم يؤنب، ولم يضرب» (¬3) النبي صلى الله عليه وسلم أحكم خلق الله، فمواقفه وتصرفاته كلها مواقف حكمة مشرفة، ومن وقف على أخلاقه ورفقه وعفوه وحلمه، ازداد يقينه وإيمانه بذلك. وهذا الأعرابي قد عمل أعمالًا تثير الغضب، وتسبب عقوبته وتأديبه من الحاضرين؛ ولذلك قام الصحابة إليه، واستنكروا أمره، وزجروه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعوا عليه بوله. وهذا في غاية الرفق والحلم والرحمة، يجمع ذلك كله الحكمة، فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة على هذا الأعرابي عمله، فقال له حينما قال: "اللهم ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم10/ 438. (¬2) أخرجه الترمذي بنحوه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض1/ 275، وأخرجه أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر واللفظ لأحمد12/ 244، برقم 7254، وأخرجه أحمد أيضا مطولًا 20/ 134 برقم 10450، وأبو داود مع العون2/ 39. (¬3) أخرجه أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر، وهو تكملة للحديث السابق من رواية أبي هريرة رضي الله عنه20/ 134، برقم 10540، وابن ماجه1/ 175.

ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا": «لقد حجرت واسعًا»، يريد صلى الله عليه وسلم رحمة الله، فإن رحمة الله قد وسعت كل شيء، قال عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] (¬1) فقد بخل هذا الأعرابي برحمة الله على خلقه. وقد أثنى عز وجل على من فعل خلاف ذلك حيث قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10] (¬2) وهذا الأعرابي قد دعا بخلاف ذلك فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة (¬3). وحينما بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه؛ لأنه قد شرع في المفسدة، فلو منع ذلك لزادت المفسدة، وقد حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منعه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لدار بين أمرين: 1 - إما أن يقطع عليه بوله، فيتضرر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه. 2 - وإما أن يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه، أو ثوبه، أو مواضع أخرى من المسجد. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهي دفع أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما (¬4) ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية 156. (¬2) سورة الحشر الآية 10. (¬3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10/ 439. (¬4) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري1/ 325، وشرح النووي على مسلم3/ 191.

وهذا من أعظم الحكم العالية، فقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المصالح، وما يقابلها من المفاسد، ورسم صلى الله عليه وسلم لأمته والدعاة من بعده كيفية الرفق بالجاهل، وتعليمه ما. يلزمه من غير تعنيف، ولا سبٍّ ولا إيذاء ولا تشديد، إذا لم يكن ذلك منه عنادًا ولا استخفافًا، وقد كان لهذا الاستئلاف والرحمة والرفق الأثر الكبير في حياة هذا الأعرابي وغيره، فقد قال بعد أن فقه- كما تقدم- في رواية الإمام أحمد: فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليّ بأبي وأمي، فلم يسبّ، ولم يؤنّب، ولم يضرب (¬1) قد أثر هذا الخلق العظيم في حياة الرجل (¬2) 5 - موقفه صلى الله عليه وسلم مع معاوية بن الحكم: عن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه- قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إليّ؟، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني (¬3) ولا ضربني ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القران "، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل 1/ 175، وتقدم تخريجه عند أحمد. (¬2) انظر: فتح الباري1/ 325، وشرح النووي3/ 191، وعون المعبود شرح سنن أبي داود2/ 39، وتحفة الأحوذي، شرح سنن الترمذي 1/ 457. (¬3) ما كهرني: أي ما قهرني ولا ضرني. انظر: شرح النووي 5/ 20.

قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالًا يأتون الكهان، قال: "فلا تأتهم ". قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم " (¬1) (قال ابن الصلاح: فلا يصدنكم)، قال: قلت: ومنا رجال يخطون. قال: "كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك " (¬2) قال: وكانت لي جارية ترعى غنمًا لي قبل أحد والجوَانيّة (¬3) فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: "ائتني بها"، فأتيته بها، فقال لها: "أين الله؟ " قالت: في السماء، قال: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة» (¬4) وهذا الموقف من أعظم الحكم البارزة السامية التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر أثر ذلك في حياة ونفس معاوية - رضي الله عنه-؛ لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، ولهذا قال معاوية رضي الله عنه: ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه. ¬

(¬1) قال العلماء. معناه أن الطيرة شيء تجدونه في نفوسكم ضرورة، ولا عتب عليكم في ذلك، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم. انظر: المرجع السابق5/ 22. (¬2) اختلف العلماء في معناه، والصحيح أن معناه: من وافق خطه فهو مباح له؛ ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يُباح، والمقصود أنه حرام؛ لأنه لا يُباح إلا بيقين الموافقة، وليس لنا يقين بها، وقيل. إنه نُسِخَ في شرعنا- فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن فهو محرم. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 23. (¬3) الجوانية: موضع في شمال المدينة بقرب جبل أحد. انظر: المرجع السابق 5/ 23. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته 1/ 381، وانظر شرحه في شرح مسلم للنووي 5/ 20.

6 - موقفه صلى الله عليه وسلم مع الطفيل بن عمرو الدوسي: من مواقف الحكمة ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه-، فقد أسلم الطفيل - رضي الله عنه- قبل الهجرة في مكة، ثم رجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فبدأ بأهل بيته، فأسلم أبوه وزوجته، ثم دعا قومه إلى الله- عز وجل- فأبت عليه وعصت، وأبطؤوا عليه، فجاء الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له أن دوسًا هلكت وكفرت وعصت وأبت. فعن أبي هريرة - رضىِ الله عنه- قال: «جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن دوسًا قد عصت وأبت، فادع الله عليهم، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا. فقال: "اللهم اهد دوسًا، وائت بهم، اللهم اهد دوسًا، وائت بهم» (¬1). وهذا يدل على حلم النبي صلى الله عليه وسلم وصبره وتأنيه في الدعوة إلى الله- عز وجل-؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعجل بالعقوبة، أو الدعاء على من رد الدعوة؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالهداية، فاستجاب الله دعاءه، وحصل على ثمرة الصبر والتأني وعدم العجلة، فقد رجع الطفيل إلى قومه، ورفق بهم، فأسلم على يديه خلق كثير، ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر، فدخل المدينة بثمانين أو تسعين بيتًا من دوس، ثم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين (¬2) ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، في كتاب الجهاد، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم 6/ 107، وفي كتاب المغازي، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسي 8/ 101، وفي كتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين11/ 196، ومسلم، في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع وتميم ودوس وطيء 4/ 1957، وأخرجه أحمد واللفظ له 2/ 243، 448، وانظر: البداية والنهاية 6/ 337، 3/ 99، وسير ابن هشام1/ 407. (¬2) انطر: سير أعلام النبلاء للذهبي1/ 346، وزاد المعاد3/ 626، والإصابة في تمييز الصحابة 2/ 225.

الله أكبر! ما أعظمها من حكمة أسلم بسببها ثمانون أو تسعون أسرة. وهذا مما يوجب على الدعاة إلى الله - عز وجل - العناية بالحكمة في دعوتهم، ولا يحصل لهم ذلك إلا بفضل الله ثم معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته. 7 - موقفه صلى الله عليه وسلم مع الشاب الذي استأذنه في الزنا: عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: «إن فتًى شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال له: " ادنه "، فدنا منه قريبًا، قال: " أتحبّه لأمّك؛ " قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: " ولا الناس يحبونه لأمهاتهم " قال: " أفتحبه لابنتك؟ " قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال " ولا الناس يحبونه لبناتهم " قال: " أفتحبه لأختك؟ " قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: " ولا الناس يحبونه لأخواتهم ". قال: " أفتحبه لعمتك؟ " قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: " ولا الناس يحبونه لعماتهم ". قال: " أفتحبه لخالتك؟ " قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: " ولا الناس يحبونه لخالاتهم " قال: فوضع يده عليه، وقال: " اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصّن فرجه "، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء» (¬1). وهذا الموقف الحكيم العظيم مما يؤكد على الدعاة إلى الله - عز وجل - أن يعتنوا بالرفق والإِحسان إلى الناس، ولا سيما من يرغَبُ في استئلافهم ليدخلوا في الإسلام، أو ليزيد إيمانهم ويثبتوا على إسلامهم. وكما بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الرفق بفعله بينه لنا بقوله وأمرنا بالرفق في الأمر ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، 5/ 256، 257، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه إلى الطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح 1/ 129، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، برقم 370 ج 1.

كله. فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السامُ عليكم. قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السامُ واللعنة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مهلًا يا عائشة إن الله يُحبّ الرفق في الأمر كله "، فقلت: يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد قلت وعليكم» (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يُعطي على العُنْف، وما لا يُعطي على ما سواه» (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزَع من شيءٍ إلا شانه» (¬3). وبين صلى الله عليه وسلم أن من حُرمَ الرفق فقد حُرمَ الخير، قال صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير» (¬4). وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أُعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرمَ حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير» (¬5) وعنه - رضي الله عنه - يبلغَ به قال: «من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من الخير، وليس شيء أثقل في الميزان من الخُلُق الحسن» (¬6). وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «إنه من ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب باب الرفق في الأمر كله 10/ 449. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، عن عائشة رضي الله عنها، 4/ 2004. (¬3) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما سابقًا، 4/ 2004 عن عائشة رضي الله عنها أيضًا. (¬4) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما سابقًا عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، 4/ 2003. (¬5) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الرفق 4/ 367، وقال حديث حسن صحيح، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 195. (¬6) أخرجه أحمد في المسند 6/ 451، انظر الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 876، فقد ذكر له شواهد كثيرة.

أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» (¬1). فقد عظّم النبي صلى الله عليه وسلم شأن الرفق في الأمور كلها، وبين ذلك بفعله وقوله بيانًا شافيًا كافيًا؛ لكي تعمل أمّته بالرفق في أمورها كلها، وخاصة الدعاة إلى الله - عز وجل -؛ فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم، وفي جميع تصرفاتهم، وأحوالهم. وهذه الأحاديث السابقة تُبيّن فضل الرفق، والحث على التخلق له، ولغيره من الأخلاق الحسنة، وذم العنف وذم من تخلق به. فالرفق سبب لكل خير؛ لأنه يحصل به من الأغراض ويسهل من المطالب، ومن الثواب ما لا يحصل بغيره، وما لا يأتي من ضده (¬2). وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من العنف، وعن التشديد على أمته صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به» (¬3) وكان صلى الله عليه وسلم إذا أرسل أحدًا من أصحابه في بعض أموره أمرهم بالتيسير ونهاهم عن التنفير. فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدًا من أصحابه في بعض أموره قال: «بشّرُوا ولا تُنفَرُوا، ويسِّرُوا ولا تُعسِّروا» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه أحمد 6/ 159 وإسناده صحيح، انظر الأحاديث الصحيحة للألباني برقم 519. (¬2) انظر شرح النووي على مسلم 16/ 145، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/ 449، وتحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي 6/ 154. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم 3/ 1458. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/ 1358.

وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ومعاذ - رضي الله عنهما - حينما بعثهما في اليمن: «يسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشِّرَا ولا تُنفرَا، وتطاوَعَا ولا تختلفَا» (¬1). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفِّروا» (¬2). في هذه الأحاديث الأمر بالتيسير والنهي عن التنفير، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الألفاظ بين الشيء وضده، لأن الإنسان قد يفعل التيسير في وقت والتعسير في وقت، ويبشر في وقت وينفر في وقت آخر فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يصر مرة أو مرات، وعسر في معظم الحالات؛ فإذا قال ولا تعسِّروا انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه وهذا هو المطلوب. وكذا يقال في يسّرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا؛ لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حث في هذه الأحاديث وفي غيرها على التبشير بفضل الله وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، ونهى عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، وهذا فيه تأليف لمن قرب إسلامه وترك التشديد عليه، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي كلهم ينبغي أن يتدرج معهم ويُتلطّف بهم في أنواع الطاعات قليلًا قليلًا، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج فمتى يُسِّرَ على الداخل في الطاعة، أو المريد للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالبًا الازدياد منها، ومتى عُسِّرت عليه أوشك أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم ولا ¬

(¬1) البخاري مع الفتح في كتاب المغازي باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع 8/ 62، ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/ 1359، واللفظ له. (¬2) البخاري مع الفتح في كتاب العلم باب ما كان صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا 1/ 163، ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/ 1359.

يستحليها (¬1). وهكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم. يتخوّل أصحابه بالموعظة في الأيام كراهة السَّآمة عليهم (¬2). فصلوات الله وسلامه عليه فقد دل أمته على كل خير وحذرهم من كل شر، ودعا على من شق على أمته، ودعا لمن رفق بهم كما تقدم في حديث عائشة وهذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم (¬3). 8 - موقفه صلى الله عليه وسلم مع من شفع في ترك إقامة الحد: قد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعدل البشر في جميع أموره وأحكامه، ومما يضرب به المثل في عدله إلى يوم القيامة قصة المخزومية التي سرقت فقطع يدها بعد أن شفع فيها أسامة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحابِ في ذلك، ولم يقبل الشفاعة في حد من حدود الله تعالى. فعن عائشة - رضي الله عنها - «أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا. من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أتشفع في حد من حدود الله؟ " فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله! فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله، فقال: " أما بعد، أيها الناس. إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ". ¬

(¬1) انظر شرح النووي على مسلم 12/ 41 بتصرف يسير وفتح الباري 1/ 163. (¬2) انظر فتح الباري 1/ 162، 163. (¬3) انظر شرح النووي على مسلم 12/ 213.

ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). إن العدل خلاف الجور، وقد أمر الله - عز وجل - به في القول والحكم، فقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] (¬2) وقال: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] (¬3). ولا شك أن هذا الموقف الحكيم وغيره من مواقفه صلى الله عليه وسلم مما يوجب على الدعاة تطبيقها أسوة به صلى الله عليه وسلم (¬4). 9 - موقفه صلى الله عليه وسلم الحكيم في الكرم والجود: عن أنس - رضي الله عنه - قال: «ما سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإِسلام شيئًا إلا أعطاه قال: فجاءَه رجلٌ فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة» (¬5). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح بنحوه مختصرًا في كتاب الحدود، باب إقامة الحد على الشريف والوضيع 12/ 86، وباب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان 12/ 87، 6/ 513، 5/ 192، ورواه مسلم بلفظه في كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود 3/ 1315، وانظر: شرح النووي 11/ 186، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 12/ 95، 96. (¬2) سورة الأنعام، الآية 152. (¬3) سورة النساء، الآية 58. (¬4) انظر مواقف حكيمة في هذا الشأن في: سنن أبي داود 2/ 242، والترمذي 3/ 137، والنسائي 7/ 64، وانظر أيضًا: البخاري مع الفتح 3/ 292، 2/ 143، 11/ 312، 12/ 112، ومسلم 3/ 458، وهذا الحبيب يا محب ص 534، 535. (¬5) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا، وكثرة عطائه 4/ 1806.

وهذا الموقف الحكيم العظيم يدل على عظم سخاء النبي جمعيه، وغزارة جوده (¬1). وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العطاء ابتغاء مرضاة الله - عز وجل -، وترغيبًا للناس في الإسلام، وتأليفًا لقلوبهم، وقد يُظهر الرجل إسلامه أولًا للدنيا ثم - بفضل الله تعالى، ثم بفضل النبي صلى الله عليه وسلم ونور الإِسلام - لا يلبث إلا قليلًا حتى ينشرح صدره للإِسلام بحقيقة الإِيمان، ويتمكن من قلبه، فيكون حينئذ أحب إليه من الدنيا وما فيها (¬2). ولهذا شواهد كثيرة، منها: ما رواه مسلم في صحيحه «أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح - فتح مكة - ثم خرج صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين، فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة. قال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي» (¬3). وقال أنس - رضي الله عنه -: «إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإِسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها» (¬4). ¬

(¬1) انظر أمثلة كثيرة من كرمه وجوده في البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا عبدان 1/ 30، وكتاب الأدب باب حسن الخلق وما يكره من البخل 10/ 455، وكتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن عندي مثل أحد ذهبًا 11/ 264، 11/ 303، وكتاب الكفالة، باب من تكفل عن ميت دينًا فليس له أن يرجع 4/ 474، وكتاب التمني، باب تمني الخير، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لو كان لي أحدًا ذهبًا 13/ 17، ومسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا، وكثرة عطائه 4/ 1805، 1806، وكتاب الزكاة، باب من سأل بفحش وغلظة 2/ 730، وباب وتغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة 2/ 687. (¬2) انظر: شرح النووي على مسلم 15/ 72. (¬3) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا، وكثرة عطائه 4/ 1806. (¬4) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما آنفًا 4/ 1806.

وإذا رأى صلى الله عليه وسلم الرجل ضعيف الإِيمان، فقد كان صلى الله عليه وسلم يجزل له في العطاء، قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه» (¬1). ولذلك كان صلى الله عليه وسلم «يعطي رجالًا من قريش المائة من الإِبل» (¬2). ومن مواقفه الحكيمة العظيمة في ذلك ما فعله صلى الله عليه وسلم مع المرأة المشركة صاحبة المزادتين، فإنه صلى الله عليه وسلم بعد أن أسقى أصحابه من مزادتيها، ورجعت المزادتان أشد ملاءة منها حين ابتدأ فيها «قال لأصحابه: " اجمعوا لها "، فجمعوا لها - من بين عجوة ودقيقة وسويقة - حتى جمعوا لها طعامًا كثيرًا وجعلوه في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، فقال لها: " اذهبي فأطعمي هذا عيالك، تعلمين والله ما رزأناك (¬3). من مائك شيئًا، ولكن الله هو الذي أسقانا». وفي القصة أنها رجعت إلى قومها فقالت: لقيت أسحر الناس، أو هو نبي كما زعموا، فهدى الله ذلك الصرم (¬4) بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا (¬5). وفي رواية: فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون الصرم الذي هي منه، فقالت يومًا لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا، فهل لكم في الإِسلام؛ فأطاعوها، فدخلوا في الإِسلام (¬6). وقد كان سبب إسلام هذه المرأة أمران: الأمر الأول: ما رأته من أخذ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مزادتيها ولم ينقص ذلك من مائها شيئًا، وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على صدق رسالته. الأمر الثاني: كرم النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر أصحابه أن يجمعوا لها، فجمعوا لها طعامًا كثيرًا. أما قومها، فقد أسلموا على يديها، لأن المسلمين صاروا يراعون قومها بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستئلاف لهم، حتى كان ذلك سببًا لإِسلامهم (¬7). وهذه الأمثلة التي سقتها ما هي إلا قطرة من بحر من كرم النبي صلى الله عليه وسلم، فما أحوجنا، وما أولى جميع الدعاة إلى الله - عز وجل - إلى الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتباس من نوره وهديه في دعوته وفي أموره كلها، والله المستعان. 10 - مواقف النبي صلى الله عليه وسلم مع زعيم المنافقين عبد الله بن أُبَيّ: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد أجمع الأوس والخزرج على تمليك عبد الله بن أُبي، ولم يختلف عليه في شرفه اثنان، ولم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين، وكانوا قد نظموا له الخرز، ليُتَوِّجوه ثم يملِّكوه عليهم، فجاءهم الله - تعالى - برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإِسلام امتلأ قلبه حقدًا وعداوة وبغضًا، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكه، فلما رأى قومه أبوا إلا الإِسلام، دخل فيه كارهًا، مصرًا على النفاق والحقد والعداوة (¬8) ولم يأل جهدًا في الصدّ عن الإِسلام، وتفريق جماعة المسلمين، والذب عن اليهود ومساعدتهم. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) 3/ 340، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء من يخاف على إيمانه 3/ 733. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم 6/ 249. (¬3) أي: لم ننقص من مائك شيئًا انظر: فتح الباري 1/ 453. (¬4) الصرم: أبيات مجتمعة من الناس. انظر: فتح الباري 1/ 453. (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة 6/ 580، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها 1/ 476. (¬6) البخاري مع الفتح، كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء 1/ 448. (¬7) انظر: فتح الباري 1/ 453. (¬8) انظر سيرة ابن هشام 2/ 216، والبداية والنهاية 4/ 157.

وقد ظهرت مواقفه الخبيثة في معاداته لدعوة الإِسلام، ولكن عن طريق التستر والنفاق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقابل عداوته بالعفو والصفح والحلم؛ لأنه يُظهر الإِسلام، ولأن له أعوانًا من المنافقين، هو رئيسهم وهم تبع له، فكان صلى الله عليه وسلم يحسن إليه بالمقال والفعال، ويقابل إساءته بالعفو والإِحسان في عدة مواقف، منها على سبيل المثال ما يأتي: (أ) شفاعته لليهود (بنو قينقاع) عندما نقضوا العهد: نقض بنو قينقاع العهد بعد بدر بكشف عورة امرأة من المسلمين في السوق، وبقتل رجل نصرها من المسلمين (¬1) فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت للنصف من شوال، على رأس عشرين شهرًا من الهجرة، وحاصرهم خمسة عشر يومًا، وتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهم فَكُتِّفُوا، وكانوا سبعمائة مقاتل، فقام إلى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبي حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه، فأدخل يديه في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر، وثلاثمائة دارع (¬2) قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فوهبهم النبي صلى الله عليه وسلم له (¬3) وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات من ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 427، والبداية والنهابة 4/ 4، والرحيق المختوم ص 228، وهذا الحبيب ص 246. (¬2) الحاسر: هو الذي لا درع له، والدارع: هو لابس الدرع. انظر: المعجم الوسيط، مادة " حسر "، 1/ 172، ومادة " درع " 1/ 280. (¬3) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 428، والبداية والنهاية لابن كثير 4/ 4.

أرض الشام، وقبض منهم أموالهم، وخمس غنائمهم صلوات الله وسلامه عليه (¬1). (ب) ما فعله مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى معركة أحد، فلما صار بين أحد والمدينة انخزل عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر، ورجع بهم إلى المدينة فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر - رضي الله عنهما - فوبّخهم، وحضهم على الرجوع، وقال: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم وسبهم (¬2). فلم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الجرم العظيم، وتخذيل المسلمين. (جـ) صده الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الله تعالى: «ركب النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة، فمر بعدوّ الله عبد الله بن أُبي وحوله رجال من قومه، فنزل صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس قليلًا، فتلا القرآن، ودعا إلى الله - عز وجل -، وذكَّر بالله، وحذر وبشر وأنذر، وعندما فرغ صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال له عبد الله بن أُبي: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا، إن كان حقًّا فاجلس في بيتك فمن جاءك له فحدثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغته (¬3) ولا تأته في مجلسه بما يكره منه» (¬4) فلم يؤاخذه صلى الله عليه وسلم، وعفا عنه وصفح. ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد 3/ 126، 190. (¬2) انطر: زاد المعاد في هدي خير العباد 3/ 194، وسيرة ابن هشام 3/ 8، 3/ 57، والبداية والنهاية 4/ 51. (¬3) أي: لا تكثر عليه به وتتردد به عليه، أو لا تعذبه به. انظر: القاموس المحيط، باب التاء، فصل الغين، ص 200، والمعجم الوسيط، مادة " غتَّ "، 2/ 644. (¬4) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 218، 219.

(د) تثبيته بني النضير: عندما نقض يهود بني النضير العهد بهَمِّهِم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، بعث إليهم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق - وعلى رأسهم عبد الله بن أُبي - أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قُوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم، فقويت عزيمة اليهود، ونابذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقض العهد، فخرج إليهم حتى نزل بهم وحاصرهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام (¬1). وترك النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبي فلم يُعاقبه على ذلك. (هـ) كيده وغدره للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين في غزوة المريسيع: في هذه الغزوة قام عبد الله بن أُبي بعدة مواقف مخزية توجب قتله وعقابه، منها: 1 - دبر المنافقون في هذه الغزوة قصة الإِفك، وتولى كبره عبد الله بن أُبي ابن سلول (¬2). 2 - وفي هذه الغزوة قال عبد الله بن أُبي: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] (¬3). ¬

(¬1) انظر سيرة ابن هشام 3/ 192، والبداية والنهاية 4/ 75، وزاد المعاد 3/ 127. (¬2) انظر قصة الإِفك في البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب حديث الإِفك 7/ 431، وكتاب التفسير، سورة النور، باب لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوه قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيم. 8/ 452، ومسلم، كتاب التوبة، باب حديث الإِفك 4/ 29 21، وزاد المعاد 3/ 256 - 268. (¬3) سورة المنافقون، الآية 8. وانظر البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّه لَهُمْ إِنَّ اللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. 8/ 648، 652، وفي كتاب المناقب، باب ما ينهى عنه من دعوى الجاهلية 6/ 546، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا 4/ 1998، وانظر: سيرة ابن هشام 3/ 334.

3 - وفٍي هذه الغزوة قال عدو الله: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] (¬1). وقد ظهرت الحكمة المحمدية، وتجلت السياسة الرشيدة في إخماد النبي صلى الله عليه وسلم نار الفتنة، وقطع دابر الشر - بفضل الله ثم بصبره - على عبد الله ابن أُبي، وتحمله له، والإِحسان إليه، ومقابلة هذه المواقف المخزية من هذا الزعيم المنافق بالعفو؛ لأن هذا الرجل له أعوان، ويخشى من شرهم على الدعوة الإِسلامية؛ ولأنه يظهر إسلامه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب - حينما قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق -: «دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» (¬2). فلو قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان ذلك منفرًا للناس عن الدخول في الإسلام؛ لأنهم يرون أن عبد الله بن أُبي مسلم، ومن ثم سيقول الناس: إن محمدًا يقتل المسلمين، فعند ذلك تظهر المفاسد، وتتعطل المصالح. فظهرت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على بعض المفاسد خوفًا من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم؛ ولتقوى شوكة الإِسلام، وقد أمر بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. ¬

(¬1) سورة المنافقون، الآية 7. والحديث في البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّه، 8/ 648، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم 4/ 2140. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ، 8/ 648، 8/ 652، 6/ 546، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا 4/ 1998.

وقد ظهرت الحكمة لعمر بعد ذلك في عدم قتل عبد الله بن أبي فقال: " قد والله علمت, لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري " (¬1). وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله أن يسلكوا طريق الحكمة في دعوتهم اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 4/ 185. وانظر شرح النووي على مسلم 16/ 139، وهذا الحبيب يا محب ص 336.

المبحث الثاني مواقف الصحابة رضي الله عنهم

المبحث الثاني مواقف الصحابة رضي الله عنهم توطئة. المطلب الأول: مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه. المطلب الثاني: مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه. المطلب الثالث: مواقف عثمان بن عفان رضي الله عنه. المطلب الرابع: مواقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه. المطلب الخامس: مواقف مصعب بن عمير رضي الله عنه. المطلب السادس: موقف ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه. المطلب السابع: موقف سعد بن معاذ رضي الله عنه. المطلب الثامن: موقف الحسن بن علي رضي الله عنهما. المطلب التاسع: مواقف جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.

توطئة

توطئة كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم مواقف حكيمة، فإن للصحابة مواقف مشرفة، تزخر بالحكمة؛ لأنهم تلقوا الحكم العالية من النبي صلى الله عليه وسلم. وسأشير - إن شاء الله تعالى - إلى مواقف بعض الصحابة على سبيل المثال لا الحصر في المطالب التالية: المطلب الأول: مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه. المطلب الثاني: مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الفاروق رضي الله عنه. المطلب الثالث: مواقف عثمان بن عفان رضي الله عنه. المطلب الرابع: مواقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه. المطلب الخامس: مواقف مصعب بن عمير رضي الله عنه. المطلب السادس: موقف ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه. المطلب السابع: موقف سعد بن معاذ رضي الله عنه. المطلب الثامن: موقف الحسن بن علي رضي الله عنهما. المطلب التاسع: مواقف جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.

المطلب الأول من مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه

المطلب الأول من مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه له - رضي الله عنه - مواقف حكيمة تدل على عظم شأنه وصدقه مع الله - عز وجل -، ومن هذه " المواقف على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: 1 - دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم والقيام بنصرته: عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي مُعيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبلِ أبو بكر، فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] (¬1). وهو أشجع الصحابة - رضي الله عنهم -، فقد رُوِي عن علي - رضي الله عنه - أنه خطب، فقال: أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين! قال: أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس! قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر. إنه لما كان يوم بدر، جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشًا، فقلنا: من يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم لئلّا يهوي إليه أحد من المشركين، فوالله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر، شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلَّا أَهْوى إليه، فهذا أشجع الناس. قال علي - رضي الله عنه -: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش، فهذا يحاده، وهذا يتلتله (¬2) وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا ¬

(¬1) سورة غافر، الآية 28. والحديث في البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة 7/ 165، 7/ 22، 8/ 553، وتقدم تخريجه، ص 150. (¬2) يتلتله: يزعزعه ويزلزله. انظر: مختار الصحاح، مادة: تلل، ص 33، والمعجم الوسيط 1/ 87.

تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم والحرص على حمايته

واحدًا، فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويجاهد هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم، {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] ثم رفع علي بردة كانت عليه، ثم بكى حتى اخضلت لحيته، ثم قَال علي: أنشدكم الله، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم. ثم قال: ألا تجيبوني؛ فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه (¬1). 2 - تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم والحرص على حمايته: عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لما كذبني قريش قمت في الحجر، فجَلّى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» (¬2). وقد افتتن ناس كثير عقب الإِسراء، فجاء ناس إلى أبي بكر فذكروا له قصة الإِسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، فقال أبو بكر: أشهد أنه صادق، فقالوا: وتصدقه بأنه أتى الشام في ليلة واحدة ثم رجع إلى مكة؟ قال: نعم، إني أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء، فسُمّي بذلك الصديق (¬3). ¬

(¬1) ذكره ابن كثير، وعزاه إلى البزار، انظر: البداية والنهاية 3/ 272، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 47: وفيه من لم أعرفه، ولكن لبعض هذا المتن شواهد في الأحاديث الصحيحة انظرها في صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإِمداد بالملائكة في غزوة بدر، 3/ 1383، والبخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب قوله تعالى: إذ تستغيثون ربكم. . . 7/ 287، وكتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي بكر - رضي الله عنه -، 7/ 22، 7/ 165، وانظر: حياة الصحابة للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي 1/ 540، وحلية الأولياء 1/ 32، وانظر: تاريخ الخلفاء للحافظ جلال الدين السيوطي ص 37. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب حديث الإسراء 7/ 196. (¬3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7/ 199، وعزاه إلى البيهقي في الدلائل.

وقد كان - رضي الله عنه - يحرص على حماية النبي صلى الله عليه وسلم أشد الحرص، فقد ذكر رجال على عهد عمر - رضي الله عنه -، فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر، فبلغ ذلك عمر، فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا بكر، ما لك تمشي ساعة خلفي، وساعة بين يدي؟» فقال: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: «يا أبا بكر، لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني»؛ " قال: نعم، والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة (¬1) فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ، فدخل فاستبرأ، ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل. ثم قال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر (¬2). وعندما دخل أبو بكر الغار مع النبي صلى الله عليه وسلم صار يخاف عليه من قريش حينما رآهم، فقال - رضي الله عنه - وأرضاه: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن فإن الله معنا» (¬3). ¬

(¬1) الجحرة. مفردها: جحر، وهو المكان الذي تحفره السباع والهوام لأنفسها. انظر: المعجم الوسيط. مادة (جحر) 1/ 180. (¬2) الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح لولا إرسال فيه ووافقه الذهبي 3/ 6، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 180، وعزاه إلى البيهقي، وانظر: حياة الصحابة 1/ 339، وحلية الأولياء 1/ 33. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم 7/ 8، وكتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، 4/ 1854.

إنفاقه ماله في سبيل الله تعالى

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليَلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أُخُوَّة الإِسلام ومودَّته» (¬1). وقال: «لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله - عز وجل - صاحبكم خليلًا» (¬2). 3 - إنفاقه ماله في سبيل الله تعالى: عندما أسلم أبو بكر - رضي الله عنه - كان من أثرى أثرياء قريش، فكانت عنده أموال كثيرة، وقد كان في منزله يوم أسلم أربعون ألف درهم أو دينار، فاستخدم أمواله كلها في طاعة الله، ومن ذلك ما يأتي. (أ) إنفاق المال في إعتاق الرّقاب: أعتق - رضي الله عنه - رقابًا كثيرة، حُفِظَ منهم سبع رقاب: بلال، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، والهندية وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، وجارية بني مؤمل، وأم عبيس، رضي الله عن الجميع. وقد كانت هذه الرّقاب يُعذّب معظمها على إسلامها، فأنقذها الله بأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وأخذ - رضي الله عنه - ينفق أمواله في خدمة الإِسلام والمسلمين (¬3). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر، 7/ 12، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، 4/ 1854. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب قوت النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذًا خليلًا: 7/ 17، ومسلم واللفظ له، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، 4/ 1855. (¬3) انظر: سيرة ابن هشام 1/ 340، والإِصابة في تمييز الصحابة 2/ 243، والكامل في التاريخ لابن الأثير 2/ 290، والبداية والنهاية 3/ 58، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 38.

(ب) أخذه جميع ماله يوم الهجرة لإِنفاقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم: حمل الباقي من ماله عندما هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يبق لأهله شيئًا، فعن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر معه ماله كله، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، فانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: قلت: كلَّا يا أبت، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، قالت: فأخذت أحجارًا فجعلتها في كوة (¬1) في البيت - كان أبي يجعل فيها ماله - ثم جعلت عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يا أبت يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إن ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ، قالت: " ولا والله ما ترك لنا شيئًا، ولكن أردت أن أسكِّن الشيخ بذلك " (¬2). (جـ) تصدُّقه بماله كله في غزوة تبوك: وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أبقيت لأهلك؟ " قلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر - رضي الله عنه - بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أبقيت لأهلك؟ " قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: والله لا أسبقه إلى شيء أبدًا» (¬3). ¬

(¬1) الكوة: ثقب في الحائط. انظر: القاموس المحيط: باب الواو، فصل الكاف، ص 1713. (¬2) أخرجه أحمد 6/ 350، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 59. ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع، وعزاه للطبراني أيضًا، وانظر أيضًا. البداية والنهاية 3/ 179، وتاريخ الخلفاء للإِمام السيوطي ص 39، وحياة الصحابة للكاندهلوي 2/ 164. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما 5/ 614، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود في الزكاة، باب الرخصة في ذلك - أي الرخصة في إخراج المال كله - 2/ 129، والدارمي في الزكاة، باب الرجل يتصدق بجميع ما عنده 1/ 4329 وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي 1/ 414، وأبو نعيم في الحلية 1/ 32.

موقف أبى بكر عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

وأبو بكر - رضي الله عنه - أولى الأمة بقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى - وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17 - 21] (¬1). 4 - موقف أبى بكر عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (¬2): أُصيب المسلمون يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بمصيبة عظيمة، وهزّة عنيفة أفقدت الكثير منهم صوابهم، حتى أن عمر أنكر موت النبي صلى الله عليه وسلم وخرج الناس وخطبهم، وقال: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وليبعثنه الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم. وأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - على فرس من مسكنه بالسُّنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يُكلّم الناس حتى دخل على عائشة - رضي الله عنها - فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليه موتتين، أما الموتة التي كُتِبَتْ عليك فقد متها (¬3) ثم خرج أبو بكر - وعمر يُكّلم الناس - فقال: أيها الحالف على رسْلِك، وقال: اجلس يا عمر، ¬

(¬1) سورة الليل، الآيات 17 - 21. وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق - رصي الله عنه - إن بعضهم حكى الإِجماع من المفسرين على ذلك انظر: تفسير ابن كثير 4/ 522. (¬2) انظر له مواقف حكيمة في البخاري مع الفتح في كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية 7/ 149 وأبي نعيم في الحلية 1/ 31، وأحمد في الزهد بمعناه ص 164، وانظر: حياة الصحابة 2/ 611، 612، وأعلام المسلمين لخالد البيطار 1/ 30، وصحيح الجامع الصغير للألباني 4/ 172، برقم 4395، وانظر أيضًا. فتح الباري 7/ 14، فقد ذكر لأبي بكر عجائب في الورع. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه 3/ 113، وكتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، 8/ 145.

فأبى عمر أن يجلس، فلما تكلم أبو بكر أقبل الناس إليه وتركوا عمر، فجلس عمر - رضي الله عنه - فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله - تعالى -: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] (¬1) وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] (¬2). فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل الآية حتى تلاها أبو بكر - رضي الله عنه -، وقال عمر. والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات. وقال الراوي: " فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها، ونشج الناس يبكون " (¬3). إن المصيبة عظيمة، والأمر كبير، والحادث جليل، والخلاف واقع؛ ولكن أبا بكر - رضي الله عنه بفضل الله تعالى - حل الخلاف، وألف بين القلوِب وثبّتها، ولا يقدر على هذا إلا من أُوتي قلبًا ثابتًا، وشجاعة فائقة، وعقلاَ راجحًا، وحكمة بالغة، رضي الله عنه وأرضاه. ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية 30. (¬2) سورة آل عمران، الآية 144. (¬3) انظر: البخاري مع الفتح، وقد صغت هذه الألفاظ من مواضع متفرقة منه، من كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت إذا أدرج في أكفانه، 3/ 113، وكتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذًا خليلًا، 7/ 19، وكتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، 8/ 145، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/ 241، 242، وحلية الأولياء 1/ 29.

موقفه رضي الله عنه في إنفاذ جيش أسامة بن زيد

وفي اليوم الثاني - يوم الثلاثاء - خطب أبو بكر الناس، وبين، عليهم، وما لهم، فقام - رضي الله عنه وأرضاه - فحمد الله وأثنى بالذي هو أهله، ثم قال: أيها الناس، فإني قد وُلِّيتُ عليكم وليست بخيركم، فإن أحسنت فأعينُوني، وإن أسأت فَقَوِّمُوني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه (¬1) حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قطّ إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله (¬2). وقوله - رضي الله عنه -: ولِّيتُ عليكم ولست بخيركم: من باب التّواضع، وإلا فإن الصحابة كلهم مُجمِعُون على أنه أفضلهم وخيرهم، رضي الله عنهم أجمعين (¬3). 5 - موقفه - رضي الله عنه - في إنفاذ جيش أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -: ظهرت حكمة الصديق - رضي الله عنه - أثناء تنفيذ جيش أسامة زيد - رضي الله عنهما - من عدة وجوه: (أ) تنفيذه بعث أسامة - رضي الله عنه - على الرغم من شدة الأحوال ومعارضة بعض الصحابة، وذلك امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) والمعنى: حتى أرُدَّ عليه حقه. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الراء مع الواو، 2/ 273. وانظر: التاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر 3/ 57، وفي البداية والنهاية قال: حتى أزيح علته إن شاء الله، 5/ 248. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام 4/ 340، وابن كثير في البداية والنهاية 5/ 248، قال: وهذا إسناد صحيح. (¬3) انظر: البداية والنهاية 5/ 248.

بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - في مرضه الذي توفي فيه (¬1) وندب الناس إلى غزو الروم، وكان تجهيز جيش أسامة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيومين، وكان ذلك يوم السبت، وقد كان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اشتد به مرضه، فأمر بإنفاذ جيش أسامة، وتوفي صلى الله عليه وسلم فَعَظُم الخطب، واشتد الحال، وظهر النفاق بالمدينة، وارتدت أحياء من العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من دفع الزكاة، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحق؛ وثبتت ثقيف بالطائف على الإِسلام لم يرتدوا. وعندما وقعت هذه الأمور أشار كثير من الناس على أبي بكر الصديق ألَّا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه فيما هو أهم؛ لأن ما جُهِّز بسببه في حال السلامة. وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فامتنع الصديق من ذلك، وأَبى أشد الإِباء إلا أن ينفذ جيش أسامة، وقال كلمته العظيمة الحكيمة: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا والسّباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين، لأُجَهِّزَنّ جيش أسامة، وأمر الحرس أن يكونوا حول المدينة. (ب) ثم إن بعض الناس أشار على أبي بكر أن يولي أمر الجيش رجلًا أقدم سنًّا من أسامة؛ فغضب - رضي الله عنه - لذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هوَ الذي أَمَّرَ أسامة على هذا الجيش، فلا يريد - رضي الله عنه - أن يغير شيئًا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -8/ 151 - 152.

(جـ) وخرج أبو بكر - رضي الله عنه - يشيع الجيش ويودع أسامة وجيشه، وأبو بكر يسير على قدميه، وأسامة راكبًا، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب، وإما أن أنزل، فقال أبو بكر: والله لست براكب ولست بنازل، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله. (د) واستأذن أبو بكر - رضي الله عنه - من أسامة لعمر بن الخطاب وقد كان عمر من ضمن الجنود في جيش أسامة، فَأَذِنَ أسامة لعمر بن الخطاب - رضي الله عن الجميع - وأرضاهم. فكان خروج أسامة إلى الروم بأرض الشام في ذلك الوقت من أكبر المصالح، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أُرعبوا منهم وأخذهم الخوف والفزع، وقالوا: ما خرج هؤلاء القوم إلا وبهم شديدة، وسنتركهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم وبقوا أربعين يومًا - وقيل سبعين يومًا - ثم أتوا سالمين غانمين، وعندما رجعوا جهزهم أبو بكر مع الجيش لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة (¬1). الله أكبر ما أعظم هذا الموقف، وما أحكمه! فقد ظهرت حكمته وشجاعته وطاعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي سبب النصر والفلاح، وبتنفيذ هذا الجيش أدخل الله الرُّعب في قلوب المرتدين، واليهود، والنصارى وهذا كله بفضل الله، ثم بامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنفاذ جيش أسامة زيد {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (¬2). ¬

(¬1) انظر: تاريخ الإِمام الطبري 2/ 246، والكامل في التاريخ لابن الأثير 2/ 226، وتاريخ الإسلام للإِمام الذهبي - عهد الخلفاء الراشدين ص 19، والبداية والنهاية 6/ 304، 305، وفتح الباري 8/ 152، وتاريخ الخلفاء لجلال الدين السيوطي ص 74، وحياة الصحابة للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي 1/ 423، 425، 427، والتاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر 3/ 64. (¬2) سورة النور، الآية 63.

موقف أبى بكر رضي الله عنه مع أهل الردة ومانعي الزكاة

وهذا مما يؤكد على كل مسلم أن يعتني بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبتعد عن نهيه، وذلك كله هو مدار السعادة والفلاح، والفوز والنجاح في الدنيا والآخرة. 6 - موقف أبى بكر - رضي الله عنه - مع أهل الردة ومانعي الزكاة: عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت أحياء كثيرة من العرب، وظهر النفاق، وقد كان أهل الردة على قسمين: القسم الأول: ارتدوا عن الدين، ونابذوا الملّة، وهذه الفرقة طائفتان: (أ) مُدّعُو النبوة وأتباعهم. (ب) والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين، وتركوا الصلاة والزكاة، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية. القسم الثاني: هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها. وهذا القسم هو الذي وقع فيه الخلاف، فثبت أبو بكر - رضي الله عنه -، ثم وافقه جميع الصحابة على قتال جميع المرتدين ومانعي الزكاة صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقّه، وحسابه على الله»؟ فقال أبو بكر: والله لُأقَاتِلنّ من فرّق بين

الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عِقَالًا (¬1) كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما إلا أن رأيت الله - عز وجل - قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت الحق (¬2). وفي رواية: أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: " والله لأُقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقًا (¬3). يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. . . " (¬4). وفي هذا الموقف الحكيم لأبي بكر أدلّ دليل على شجاعته - رضي الله عنه - وتقدّمه في الشجاعة والعلم على غيره، فإنه ثبت للقتال في هذا الموطن العظيم الذي هو أكبر نعمة أنعم الله - تعالى - بها على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستنبط - رضي الله عنه - من العلم بحكمته، ودقيق نظر ورصانة فكره، ما لم يُشاركه في الابتداء به غيره، فلهذا وغيره مما أكرمه الله، أجمع أهل العلم بالحق على أنه أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم (¬5). ¬

(¬1) العِقال: هو الحبل الذي يعقل به البعير، والعناق: هي السخلة من الغنم. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/ 280، 3/ 311. (¬2) مسلم بلفظه في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله 1/ 51، والبخاري مع الفتح في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة 3/ 262، 12/ 275، 13/ 250، 3/ 321، 322. (¬3) انظر: هامش (1) من هذه الصفحة. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة 3/ 262، 12/ 275، 13/ 250، ورواية العناق عند البخاري دون مسلم، وما ذهب إليه أبو بكر - رضي الله عنه - قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه بن عمر -، حيث جاء فيه ذكر الشهادتين، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. وقد أخرجه مسلم في كتاب الإِيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. . . 1/ 53، وأبو داود في كتاب الزكاة 2/ 93، والترمذي في الإِيمان، باب ما جاء بني الإِسلام على خمس 5/ 3، والنسائي في الزكاة، باب عقوبة مانع الزكاة 5/ 14. (¬5) انظر: شرح النووي على مسلم 1/ 211.

فرضي الله عن أبي بكر وأرضاه، وجزاه عن أمة محمد خير الجزاء؛ فإنه قد قام بما يجب عليه نحوها، من ترسيخ معاني الإِسلام في قلوب ونفوس وحياة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمرها بالثّبات على دين الله الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص، وطبق ذلك تطبيقًا عمليًا على نفسه، وعلى جميع من بايعه، وقاتل من أنكر شيئًا من ذلك، فقد أعزّ الله به الإِسلام والمسلمين، وخذل به أعداء الله وأعداء الدين، ولهذا لم ينقص الدين في حياته كما قال - رضي الله عنه - لعمر بن الخطاب حينما أشكل عليه قتال مانعي الزكاة: إنه قد انقطع الوحي وتمّ الدّين، أفينقص وأنا حي؟ والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلا بحقها "، ومن حقها: إيتاء الزكاة، والله لو خذلني الناس كلهم لجاهدتهم بنفسي " (¬1). وصدق رضي الله عنه، فقد حفظ الله به الدين، ولم ينقص وهو حي، ولهذا كانت خلافته مليئة بالأعمال الجليلة التي تحتاج إلى السنوات الطوال لإِنجازها على الرغم من قصر مدة خلافته رضي الله عنه، فهي لم تزد على سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام، وهذا يدل على حكمة أبي بكر العظيمة ووعيه التام بالإِسلام، وعزيمته الثابتة الراسخة كالجبال الرَّوَاسِي، وإيمانه الذي لو وُزِنَ وإيمان الأمة كلها (¬2) لرجح إيمان أبي بكر بإيمان أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا يعدّ - رضي الله عنه - هو الذي أرسى الدعائم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأثبت المفاهيم، فرضي الله عنه وأرضاه (¬3). ¬

(¬1) انظر: تاريخ الطبري 2/ 245، 246، والتاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر 3/ 68، وأعلام المسلمين لخالد البيطار ص 75، وحياة الصحابة 1/ 434. (¬2) انظر تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 59. (¬3) انظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 73، والتاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر 3/ 61.

المطلب الثاني من مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه

المطلب الثاني من مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمر - رضي الله عنه - مواقف مشرفة حكيمة كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: 1 - موقفه في إظهار إسلامه وهجرته: عندما أسلم عمر - رضي الله عنه - على يد النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلم قريش بإسلامه، فسأل عن أنقلهم للحديث، لينقل خبر إسلامه إلى قريش، فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فذهب عمر - رضي الله عنه - إلى جميل، وقال له: أعلمت يا جميل أنّي قد أسلمت ودخلت في دين محمد؟ فقام جميل بن معمر يجر رداءه مُسرعًا حتى قام على باب المسجد، ثم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ، فقال عمر وهو واقف خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، فثار عليه قريش من أنديتهم حول باب الكعبة، وقاتلهم وقاتلوه، واستمر القتال بينهم وبينه في هذا الموقف حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وقد تعب عمر - رضي الله عنه - فقعد وقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لتركناها لكم، أو لتركتموها لنا، وبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلّة حبرة، وقميص مُوشح، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، فقال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرًا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خلُّوا عن الرجل! قال عبد الله بن عمر: فوالله لكأنما كانوا ثوبًا كشط عنه, قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك، - جزاه الله خيرًا؟ - قال

يا بُنَي ذاك العاص بن وائل - لا جزاه الله خيرًا - (¬1). وبإسلام عمر وإظهاره إسلامه - رضي الله عنه - أعزّ الله به الإِسلام، وفرّق به بين الحق والباطل، فسُمِّي الفاروق - رضي الله عنه -، وأظهر الصحابة صَلاتهم حول الكعبة، وقريش ينظرون إليهم (¬2). قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: " ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر " (¬3). وقال - رضي الله عنه - أيضًا: " كان إسلام عمر فتحًا، وهجرته نصرًا، وإمارته رحمة، والله ما استطعنا أن نُصلّي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي " (¬4). وقد كان عمر - رضي الله عنه - يتعرّض لرؤوس الكفر، ويعلن أمامهم إسلامه، بل يذهب إلى بيوتهم ويطرق أبوابهم ليخبرهم بأنه قد أسلم، لعلّهم يقومُون بشيء ضدّه فيُصيبه ما يُصيب إخوانه المسلمين، ويستطيع في الوقت نفسه أن ينتقم من تلك الرؤوس، ولم يُرد عمر أن يكون هو في ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام 1/ 370، والبداية والنهاية لابن كثير، وقال هذا إسناد جيد قوي 3/ 82، وانظر بعض القصة في البخاري مع الفتح 7/ 177، وانظر قصة إسلام عمر في البداية والنهاية 3/ 79 / 81، وسيرة ابن هشام 1/ 364 - 371، وتاريخ الخلفاء للسيوطي 109 - 115، وفتح الباري 7/ 48، ومناقب عمر لابن الجوزي ص 12 - 18، والتاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر 3/ 121 - 125. (¬2) انظر: مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 18، 19، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 113 - 115. والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 3/ 124، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 7/ 44. (¬3) البخاري مع الفتح، في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر 7/ 41، ومناقب الأنصار 7/ 177. (¬4) ذكره ابن حجر في فتح الباري، 7/ 48، وعزاه إلى الطبراني وابن أبي شيبة، وذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء، ص 115، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد " رجاله رجال الصحيح إلا أن القاسم لم يدرك جده ابن مسعود، 9/ 62، وانظر: البداية والنهاية، 3/ 79.

موقفه الحكيم في تثبيته الناس على بيعة أبى بكر رضي الله عنه

نعمة وعافية وراحة، والمسلمون في إيذاء وتعذيب، فعندما أعلن إسلامه، وبدأت قريش تقاتله وثب على عتبة بن ربيعة فبرك عليه، وأدخل أصبعه في عينيه، فجعل عتبة يصيح، فتنحى الناس عن عمر، وقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا منه، حتى تراجع الناس عنه (¬1) وعندما اشتد أذى المشركين على المسلمين، وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة، وابتدأت وفود المسلمين متجهة إلى المدينة وكلها مختفية في هجرتها وانتقالها، إلا هجرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقد رُوِي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: ما علمت أن أحدًا من المهاجرين هاجر إلا مختفيًا، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهمًا، وأتى الكعبة، وأشراف قريش بفنائها، فطاف سبعًا متمكنًا، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم أتى حلقهم، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال: شاهت الوجوه، من أراد أن تَثْكَله أمه وييتم ولده، وترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي، فما تبعه منهم أحد (¬2). 2 - موقفه الحكيم في تثبيته الناس على بيعة أبى بكر رضي الله عنه: عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلّم، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلامًا قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال ¬

(¬1) انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 3/ 125، وأعلام المسلمين لخالد البيطار 2/ 22، 23. (¬2) انظر: تاريخ الخلفاء للإمام السيوطي ص 115، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 3/ 125، وأعلام المسلمين 2/ 25.

في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر. لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء، وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب دارًا، وأعربهم أحسابًا، فبايعوا عمر، أو أبا عبيدة. فقال عمر: بل نبايعك أنتَ، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس (¬1). فرضي الله عن عمر وأرضاه، فإنه عندما ارتفعت الأصوات في السقيفة وكثر اللَّغَطُ، وخشي عمر الاختلاف، ومن أخطر الأمور التي خشيها عمر أن يُبْدَأ بالبيعة لأحد الأنصار فتحدث الفتنة العظيمة؛ لأنه ليس من اليسير أن يبايع أحد بعد البدء بالبيعة لأحد الأنصار، فأسرع عمر - رضي الله عنه - إخمادًا للفتنة، فقال لأبي بكر: ابسط يدك، فبسط يده فبايعه، وبايعه المهاجرون، ثم الأنصار (¬2). وعندما كان يوم الثلاثاء جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدًا عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيُدَبّر أمرنا، يقول: يكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بيعته العامة بعد بيعة السقيفة (¬3). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذًا خليلًا 7/ 20. (¬2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7/ 32، وسيرة ابن هشام 4/ 339، والبداية والنهاية 5/ 246، 6/ 301، وحياة الصحابة 2/ 11، وتاريخ الخلفاء ص51. (¬3) انظر: سيرة ابن هشام 4/ 340، والبداية والنهاية 5/ 248، 6/ 301، والتاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر 3/ 57.

موقفه الحكيم في إصلاح الأهل قبل الناس

فكان عمر - رضي الله عنه - يذود ويقوي، ويشجع الناس على بيعة أبي بكر حتى جمعهم الله عليه، وأنقذهم الله من الاختلاف والفرقة والفتنة. فهذا الموقف الذي وقفه عمر مع الناس من أجل جمعهم على إمامة أبي بكر، موقف عظيم من أعظم مواقف الحكمة التي ينبغي أن تسجل بماء الذهب من مواقف عمر الحكيمة. 3 - موقفه الحكيم في إصلاح الأهل قبل الناس: كان عمر - رضي الله عنه - مع أهله قويًّا، فكان إذا أراد أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم ونجاحهم وفلاحهم، بدأ بأهله، وتقدم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خلافهم أمره، فعن سالم بن عبد الله بن عمر، قال: " كان عمر إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحدًا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة " (¬1). وهذا من أعظم مواقف الحكمة؛ لأن الناس ينظرون إلى الداعية ومدى تطبيقه العملي والقولي لما يدعو إليه، كما ينظرون إلى تطبيقه ذلك على أهله ومن تحت يده. 4 - موقفه الحكيم في دعوته بتواضعه لله تعالى: كان عمر - رضي الله عنه وأرضاه - مع قوته في دين الله، وشجاعته، وشدته، على أعداء الله، وهيبة الناس له، وفرار الشياطين منه، كان مع ¬

(¬1) انظر: تاريخ الأمم والملوك للإمام الطبري 2/ 68، والكامل في التاريخ لابن الأثير 3/ 31، والتاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر 3/ 404، وأعلام المسلمين للبيطار 2/ 54.

ذلك كلّه متواضعًا، وقَّافًا عند حدود الله، وقد كان يقول: أحبّ الناس إلَي من أهدى إلي عيوبي (¬1) ومن ذلك ما يلي: (أ) عندما مرَّ بالجابية على طريق إيلياء وجلس عندهم، قيل له: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا تصلح بها الإِبل، فلو لبست شيئًا غير هذا - يعنون قميصه المرقع - وركبت برذونًا (¬2) لكان ذلك أعظم في أعين الروم، فقال: نحن قوم أعزنا الله بالإِسلام، فلا نطلب بغير الله بديلًا. ثم سار عمر من الجابية إلى بيت المقدس، وقد تعبت دابته، فأتوه ببرذون فجعل يهملج به، فقال لمن معه: احبسوا، احبسوا، فنزل عنه، وضرب وجهه، وقال: لا علّم الله من علّمَك، هذا من الخيلاء، ما كنت أظن الناس يركبون الشياطين، هاتوا جملي، ثم نزل وركب الجمل، ثم لم يركب برذونًا قبله ولا بعده (¬3). (ب) ولما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع خُفَّيه، وأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنعًا عظيمًا عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا، فصك عمر في صدره، وقال: أَؤَّه، لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزكم الله بالإِسلام، فمهما تَطلُبوا العزة بغيره يُذلّكم الله (¬4). ¬

(¬1) انظر: مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 154، وأعلام المسلمين لخالد البيطار ص 59. (¬2) البرذون: الدابة، ويطلق على غير العرب من الخيل والبغال. انظر: القاموس المحيط، باب النون، فصل الباء ص 1522، والمعجم الوسيط، مادة: برذن 1/ 48، ومختار الصحاح، مادة (برذن) ص 18. (¬3) انظر: البداية والنهاية 7/ 57، 7/ 60، 7/ 135، ومناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 150، 151. (¬4) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 7/ 60، وأعلام المسلمين لخالد البيطار ص 59، ومناقب أمير المؤمنين عمر بن الحطاب لابن الجوزي ص 150.

وله مواقف حكيمة في دعوته إلى الله - تعالى -، لا يتسع المقام لذكرها (¬1). وهذه المواقف العظيمة يبين فيها للناس بقوله وفعله أن العزة والرفعة والتمكين لا تأتي عن طريق الكبر، والغطرسة، والإِعجاب بالنفس أو الجاه أو السلطان، وإنما يأتي ذلك كله لمن تمسك بالإِسلام، ولهذا قال لأبي عبيدة في الخبر السابق: " إنكم كنتم أذلّ الناس، وأحقرَ الناس، وأقلّ الناس، فأعزّكم الله بالإِسلام، فمهما تطلبوا العزة من غيره يذلّكم الله ". رضي الله عن الفاروق وأرضاه، وجزاه عن أمة محمد خيرَ الجزاء، فقد قام بالأعمال العظيمة، وسلك مسلك الحكمة التي من أُوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ونفّذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين، من: يهود، ونصَارى، ومجوس، وغيرهم من المشركين، حيث قال صلى الله عليه وسلم قُبيَل موته: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» (¬2). فطهَّر - رضي الله عنه - جزيرة العرب من المشركين، ولم يترك أحدًا منهم فيها، طبقًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) ومن حرصه على التواضع أنه كان يدرب نفسه عليه، ولذلك إذا أنكر نفسه أدبها وجازاها وخاطبها يخوفها بالله، فعن أنس - رضي الله عنه - قال كنت مع عمر، فدخل حائطًا لحاجته فسمعته يقول: - وبيني وبينه جدار الحائط -: " عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك ". وقيل: إنه حمل قربة على عاتقه فقيل له في ذلك، فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها وكان يسمع الآية من القرآن فيغشى عليه فيحمل صريعًا إلى منزله، فيعاد أياما ليس به مرض إلا الخوف من الله - عز وجل -. انظر: البداية والنهابة 7/ 135. وانظر مواقف له أخرى في: تاريخ الطبري 2/ 567، 568، والكامل في التاريخ لابن الأثير 3/ 30، ومناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 69، والبداية والنهاية 3/ 135، وحياة الصحابة للعلامة الكاندهلوي 2/ 97. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الجزية والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب 6/ 271.

المطلب الثالث مواقف عثمان بن عفان رضي الله عنه

المطلب الثالث مواقف عثمان بن عفان رضي الله عنه لعثمان - رضي الله عنه - مواقف حكيمة كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: 1 - إنفاقه الأموال العظيمة الكثيرة في سبيل الله تعالى كان عثمان رضي الله عنه - من الأغنياء الذين أغناهم الله - عز وجل -، وكان صاحب تجارة وأموال طائلة؛ ولكنه استخدم هذه الأموال في طاعة الله - عز وجل -، ابتغاء مرضاته وما عنده، وصار سبّاقًا لكل خير، ينفق ولا يخشى الفقر. ومما أنفقه - رضي الله عنه - من نفقاته الكثيرة على سبيل المثال ما يأتي: (أ) عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة وجد أن الماء العذب قليل، وليس بالمدينة ما يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة» (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «من حفر بئر رومة فله الجنة» (¬2) وقد كانت رومة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لا يشرب منها أحد إلا بثمن، فلما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «تبيعنيها بعين في الجنة؟ " فقال: يا رسول الله! ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان - رضي الله عنه - فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ¬

(¬1) النسائي في كتاب الوصايا، باب وقف المساجد 6/ 235، وانظر: صحيح النسائي 2/ 766، وأخرجه الترمذي في المناقب، باب مناقب عثمان رضي الله عنه 5/ 627، وانظر: صحيح الترمذي 3/ 209، وتحفة الأحوذي 10/ 196، وفتح الباري 7/ 54. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا، 5/ 407، 7/ 52، 8/ 111، وانظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 151.

ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: " نعم "، قال: قد جعلتها للمسلمين» (¬1). وقيل: كانت رومة ركية ليهودي يبيع المسلمين ماءها، فاشتراها عثمان بن عفان من اليهودي بعشرين ألف درهم، فجعلها للغني والفقير وابن السبيل (¬2). (ب) بعد أن بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده في المدينة فصار المسلمون يجتمعون فيه ليصلوا الصلوات الخمس، ويحضروا خطب النبي صلى الله عليه وسلم التي يُصدر إليهم فيها أوامره ونواهيه، ويتعلمون في المسجد أمور دينهم، وينطلقون منه إلى الغزوات ثم يعودون بعدها، ولذلك ضاق المسجد بالناس، فرغب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الصحابة أن يشتري بقعة بجانب المسجد، لكي تزاد في المسجد حتى يتسع لأهله، فقال صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟»، فاشتراها عثمان بن عفان - رضي الله عنه - من صلب ماله (¬3). بخمسة وعشرين ألف درهم، أو بعشرين ألفًا، ثم أضيفت للمسجد (¬4). ووسع على المسلمين رضي الله عنه وأرضاه (¬5). (جـ) عندما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحيل إلى غزوة تبوك حثّ الصحابة الأغنياء على البذل لتجهيز جيش العسرة الذي أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو ¬

(¬1) ذكره ابن حجر في فتح الباري 5/ 407، وعزاه بسنده إلى البغوي في الصحابة، وانظر: تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي 10/ 196. (¬2) انظر: تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي 10/ 190، وأعلام المسلمين لخالد البيطار 3/ 39، وفتح الباري 5/ 408. (¬3) الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب عثمان رضي الله عنه 5/ 627، وانظر: صحيح الترمذي 3/ 209، وأخرجه النسائي، كتاب الوصايا، باب وقف المساجد 6/ 235. (¬4) النسائي، كتاب الوصايا، باب وقف المساجد 6/ 234، وانظر: صحيح النسائي 2/ 766. (¬5) انظر: فتح الباري 5/ 408، وأعلام المسلمين لخالد البيطار 3/ 41.

موقفه العظيم في جمع الأمة على قراءة واحدة

الروم، فأنفق أهل الأموال من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل على حسب طاقته وجهده. أما عثمان بن عفان فقد أنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، فقد ثبت أنه أنفق في هذه الغزوة ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، وجاء بألف دينار فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم، يُقلّبها في حجره ويقول: «ما ضرّ عثمان ما عمل بعد هذا اليوم» قالها مرارًا (¬1). وهذه نفقة عظيمة جدًّا تدلّ على صدق عثمان وقوة إيمانه، ورغبته فيما عند الله - تعالى -، وإيثار الآخرة على الدنيا، - فرضي الله عنه وأرضاه -، فقد حصل على الثواب العظيم والجزاء الذي ليس بعده جزاء. «من جهز جيش العسرة فله الجنة» (¬2). 2 - موقفه العظيم في جمع الأمة على قراءة واحدة، وحسم الاختلاف: كان من أعظم مواقف الحكمة التي وقفها عثمان جمع شمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على قراءة واحدة، فقد كان من مناقبه الكبار، وحسناته العظيمة، أنه جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على العرضة الأخيرة التي درسها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سني حياته، وكان سبب ذلك أن حذيفة بن اليمان كان في غزوة أهل الشام في فتح أرمينية، وأذربيجان، مع أهل العراق، وقد اجتمع في هذه الغزوة خلق من أهل الشام، ممن يقرأ على ¬

(¬1) الترمذي، في كتاب المناقب، باب مناقب عثمان رضي الله عنه 5/ 626، والحاكم - واللفظ له - وصححه ووافقه الذهبي 3/ 102، وانظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7/ 54، 5/ 458، 8/ 111، وسيرة ابن هشام 4/ 172، والبداية والنهابة 5/ 4، 7/ 201، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 151، وحياة الصحابة 2/ 264، 265، وانظر: صحيح الترمذي 3/ 208، 210، والتاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر 3/ 223، 2/ 353. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا، 5/ 407، وتقدم تخريجه، وانظر البداية والنهاية 7/ 201.

قراءة المقداد بن الأسود، وأبي الدرداء، وأُبي بن كعب، وجماعة من أهل العراق ممن يقرأ على عبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بجواز القراءة على سبعة أحرف يفضل قراءته على قراءة غيره، وربما خَطَّأ الآخر أو كَفّره، فأدّى ذلك إلى اختلاف شديد وانتشار في الكلام السيئ بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان وقد أفزعه اختلافهم في القراءة، فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى في كتبهم، وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به دون ما سواه، لما رأى في ذلك من مصلحة كفّ المنازعة، ودفع الاختلاف، فأرسل عثمان إلى حفصة - رضي الله عنها - يستدعي بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت بجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر، فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين. وعندما جاءت الصحف أمر عثمان زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق من الآفاق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (¬1). ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، 9/ 10، 11، وكتاب التفسير، باب لقد جاءكم رسول من أنفسكم، 8/ 344، والبداية والنهاية 7/ 217، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 77.

وكانت المصاحف الأئمة سبعة كالتالي: أرسلِ مصحفً إلى مكة، ومصحفًا إلى الشام، ومصحفًا إلى اليمن، ومصحفَا إلى البحرين، ومصحفًا إلى البصرة، ومصحفًا إلى الكوفة، وأقر بالمدينة مصحفًا، وهذه المصاحف كلها بخط زيد بن ثابت، وإنما يقال لها المصاحف العثمانية نسبة إلى أمر عثمان وزمانه وإمارته، وحرق ما سوى هذه المصاحف مما بأيدي الناس مما يخالف هذه المصاحف السبعة، وأجمع الصحابة على ذلك عند الشورى بالرسم، وعند التلقي فاجتمع شمل الأمة على هذه المصاحف ولله الحمد والمنة (¬1). فحصل الاجتماع والائتلاف، وزال الاختلاف والفرقة، واجتمعت القلوب بفضل الله - تعالى -، ثم بفضل حكمة عثمان رضي الله عنه وأرضاه. ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 7/ 217، وفتح الباري 9/ 20. والفرق بين جمع أبي بكر، وجمع عثمان، أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء، بذهاب حَمَلَتِهِ؛ لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من الفتنة والهلاك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9/ 21، وتاريخ الخلفاء للإِمام جلال الدين السيوطي ص 77.

المطلب الرابع مواقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه

المطلب الرابع مواقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، هو أول من أسلم من الصبيان، كما أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، وخديجة أول من أسلم من النساء، وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي، فكان علي - رضي الله عنه - من السابقين الأولين إلى الإِسلام، وله مواقف كثيرة مُشرِّفة يعتز بها كل مسلم، ويرتفع رأسه بذلك، ولا يتسع المقام لذكرها، وسأقتصر على أربعة مواقف من مواقفه - رضي الله عنه - البطولية الحكيمة، التي وقفها - رضي الله عنه - ابتغاء مرضاة الله - تعالى - والدار الآخرة، وهذه المواقف كالتالي (¬1). 1 - موقفه رضي الله عنه في تقديم نفسه فداء للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته: عندما اجتمع قريش في دار الندوة، وأجمعوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم والتخلص منه، أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم خلق الله، فأراد أن يبقى من أراد قتله ينظر إلى فراشه ينتظرونه يخرج عليهم، فأمر علي بن أبي طالب الشاب البطل أن ينام في فراشه تلك الليلة، ومن يجرؤ على البقاء في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم والأعداء قد أحاطوا بالبيت يتربّصون به ليقتلوه؟ من يفعل هذا ويستطيع البقاء في هذا البيت وهو يعلم أن الأعداء لا يُفرِّقون بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في مضجعه؟ إنه لا يفعل ذلك إلا أبطال الرجال وشجعانهم بفضل الله - تعالى -، فرضي الله عن علي وأرضاه. وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقيم بمكة أيامًا حتى يؤدي أمانة الودائع والوصايا التي كانت عنده إلى أصحابها من أعدائه كاملة غير منقوصة، وهذا من أعظم العدل، وأداء الأمانة (¬2). ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 7/ 223. (¬2) انظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 166.

موقفه في بدر مع رؤوس الكفر

2 - موقفه في بدر مع رؤوس الكفر: عندما تراجع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم الكبيرة يوجد ذكر علي بن أبي طالب مقرونًا بها، فتارة يحمل اللواء، وتارة يفرق جموع الأعداء، وتارة يفتح الحصون المستعصية ويهدم الأصنام، فهو بطل معلم. عندما تواجه الجيشان في معركة بدر الكبرى، والتقى الفريقان، وحضر الخصمان بين يدي الرحمن، واستغاث بربه سيد الأنبياء، وضج الصحابة بصنوف الدعاء إلى رب الأرض والسماء، وكاشف البلاء، وقبل اشتباك المعركة والتحامها خرج من جيش المشركين عتبة بن ربيعة - يريد أن يظهر شجاعته - فبرز بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فلما توسطوا بين الصّفين دعوا إلى البراز، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار: عوف بن الحارث، ومعوذ بن الحارث - ابنا عفراء - وعبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، فقالوا: ما لنا بكم من حاجة، ونادى مناديهم: يا محمد، أَخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقيل: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي، فلما دنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فقال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي. قالوا أكفاء كرام، فبارز عبيدة - وكان أسن القوم - عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد بن عتبة. فقتل علي الوليد فورًا، وقتل حمزة شيبة في الحال، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، فَكَرَّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فأكملا قتله، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابهما - رضي الله عنهم -. وكان ذلك - بإذن الله تعالى - بداية النصر وتشجيع المسلمين، وخذلان ورعب في قلوب المشركين (¬1). ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 3/ 272، 273 بتصرف، وفتح الباري 7/ 299، وزاد المعاد لابن القيم 3/ 179، وقصة المبارزة أخرجها أحمد 1/ 117، وأبو داود 3/ 52 برقم 2665 في الجهاد، باب المبارزة من حديث علي، وإسناده قوي، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 2/ 507.

موقف علي رضي الله عنه في يوم الأحزاب

روى البخاري عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: " أنا أوّل من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، وقال قيس بن عباد: وفيهم أنزلت {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] (¬1). قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة " (¬2). فرضي الله عن جميع الصحابة وأرضاهم، فإنهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم، قال الله - عز وجل -: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] (¬3). 3 - موقف علي رضي الله عنه في يوم الأحزاب (يوم الخندق): في سنة خمس من الهجرة كانت غزوة الخندق في شهر شوال. وكان سبب هذه الغزوة أن جماعة من اليهود خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فتعاهدوا على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خرج هؤلاء الجماعة من اليهود حتى جاءوا قبائل غطفان فدعوهم لذلك فأجابوهم ثم طافوا في قبائل العرب فاستجاب لهم من استجاب، ونقضت بنو قريظة العهد امتثالًا لأمر حي بن أخطب عندما حرض كعب بن أسد القرظي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وبما أجمعوا عليه من الأمر ¬

(¬1) سورة الحج، الآية 19. وانظر: البخاري مع الفتح 7/ 96. (¬2) البخاري مع الفتح، في كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل 7/ 296، 297، وفي كتاب التفسير، باب هذان خصمان اختصموا في ربهم 9/ 443، وانظر أيضًا: البداية والنهاية 3/ 273، وأعلام المسلمين لخالد البيطار ص 62. (¬3) سورة الأحزاب، الآية 23.

ضرب الخندق على المدينة بمشورة سلمان الفارسي فحفروا الخندق بينهم وبين العدو، وجعلوا جبل سلع من خلف ظهورهم، وقد صار المحاربون لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أصناف هم: المشركون من أهل مكة، والمشركون من قبائل العرب، واليهود من خارج المدينة، وبنو قريظة، والمنافقون، وكان من وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف، والمسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف، وقد حاصروا النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا، ولم يكن بينهم قتال، لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين، إلا أن فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد وُدٍّ العامري أقبلوا فجالت بهم خيولهم، فنظروا إلى مكان ضيق من الخندق فاقتحموه، ثم جالت بهم خيولهم في السبخة بين الخندق وسلع، ودعوا إلى البراز (¬1). وهذا هو موضع الشاهد لموقف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: قال عمرو بن عبد ودّ في هذا الموقف: من يُبارز؟ فقام علي بن أبي طالب، فقال: أنا لها يا رسول الله! فقال: " إنه عمرو، اجلس "، ثم نادى عمرو: ألا رجل يبرز؟ فجعل يؤنّبهم، ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها؟ أفلا تبرزون إلي رجلًا؟ فقام علي، فقال: أنا يا رسول الله! فقال: " اجلس " ثم نادى الثالثة. . . فقام علي - رضي الله عنه -، فقال: يا رسول الله أنا، فقال: " إنه عمرو "، فقال: وإن كان عمرًا! فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى إليه علي حتى أتى إليه، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي. قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، وقال علي: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، قال له: أجل، قال علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإِسلام، قال: لا حاجة لي ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد 3/ 269 - 276، وسيرة ابن هشام 3/ 229 - 252، والبداية والنهاية 4/ 92 - 116.

بذلك، قال: فإني أدعوك إلى النّزال، فقال له: لم يا ابن أخي؟ فوالله ما أحبّ أن أقتلك. قال له علي: ولكني والله أحب أن أقتلك، فغضب عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي وسل سيفه كأنه شعلة نار، فاستقبله علي بالترس، فشق السيف الترس، فضربه علي على حبل عاتقه، فسقط وثار الغبار، وسمع المسلمون التكبير، فعرفوا أن عليًّا قتله. وقال علي رضي الله عنه: نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت رب محمد بصوابي فصدرت حين تركته متجدلًا ... كالجذع بين دكادك وروابي وبعد هذه المبارزة انهزم الباقون، وخرجت خيولهم حتى اقتحمت الخندق (¬1). وهكذا ظهرت الشجاعة العظيمة الحكيمة، ومن عظم هذه الحكمة أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دعا عمرًا إلى الله فأبى ذلك، فدعاه إلى النزال فنزل، فقتله رضي الله عنه، فكان ذلك من أسباب نصر المسلمين بإذن الله تعالى (¬2). فظهرت حكمة علي - رضي الله عنه - في هذا الموقف من عدّة وجوه، منها: (أ) استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم في المبارزة. (ب) تذكيره لعمرو بن عبد ودّ ما عاهد عليه الله من قبول ما يعرض عليه من الخصال من قريش. ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية 4/ 106، وسيرة ابن هشام 3/ 240، وزاد المعاد 3/ 272، وانظر أيضًا شجاعة علي - رضي الله عنه - في حياة الصحابة للعلامة الكاندهلوي 1/ 541 - 546. (¬2) انظر: غزوة الخندق كاملة في زاد المعاد 3/ 269 - 276، وسيرة ابن هشام 3/ 229 - 252، والبداية والنهاية 4/ 92 - 116.

موقف علي رضي الله عنه في غزوة خيبر

(جـ) وعند إقرار عمرو بما عاهد اتخذ علي ذلك مدخلًا، فقال: إني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإِسلام. (د) وعندما " امتنع من قبول هذه الدعوة دعاه إلى النزال، فلم ينزل فاستفزه ليغضبه، فلما نزل قتله رضي الله عنه، فانهزم المشركون بفضل الله، ثم بدخول الرعب في قلوبهم بهذا الموقف الحكيم. 4 - موقف علي رضي الله عنه في غزوة خيبر: في السنة السابعة للهجرة سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، وكان إذا أتى قومًا بليل لم يقربهم حتى يُصبح، فلما أصبح صبح خيبر بكرة، فخرج أهلها بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد والله، محمد والخميس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» (¬1). وعندما رأى أهل خيبر الجيش رجعوا هاربين إلى حصونهم، وخرج ملكهم مَرْحَب يرفع سيفه مرة ويضعه أخرى، ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فبرز له عامر بن الأكوع، فقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يضربه من أسفله، فرجع سيفه على نفسه فمات شهيدًا (¬2). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، المغازي، باب غزوة خيبر 7/ 467، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر 3/ 1427، وانظر: زاد المعاد لابن القيم 3/ 316. (¬2) انظر: صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها، من حديث سلمة بن الأكوع 3/ 1440، 1441، وزاد المعاد لابن القيم 3/ 319.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: «لأعطين هذه الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه، يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله»، فبات الناس يدوكون (¬1) ليلتهم أيهم يُعطاها، فلما أصبحَ الناسُ غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟ " قيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: " فأرسلوا إليه "، فأُتِي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإِسلامِ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» (¬2). وبدأ علي - رضي الله عنه - وأخذ الراية، وخرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدره (¬3) ... كليث غابات كريه المنظره أوفيهم بالصاع كيل السندره (¬4) ¬

(¬1) يدوكون: أي يخوضون ويتحدثون في ذلك. انظر: يشرح النووي 12/ 178. (¬2) البخاري مع الفتح، في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 7/ 476، وكتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي 7/ 70، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل علي 4/ 1871، 3/ 1441. (¬3) حيدرة: اسم للأسد، وكان علي - رضي الله عنه - قد سمي أسدًا في أول ولادته، وكان مرحب قد رأى في المنام أن أسدًا يقتله، فذكره علي بذلك ليخيفه ويضعف نفسه. شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 185. (¬4) معناه: أفتل الأعداء قتلًا واسعًا ذريعًا، وقيل: السندرة: مكيال واسع. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 185.

فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه (¬1). فرضي الله عن علي وأرضاه، فقد قام بهذه البطولة النادرة بعد حصار النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر قريبًا من عشرين يومًا، ثم يسّر الله فتحها على يد علي - رضي الله عنه -، فخرج الناس من حصونهم يسعون في السكك، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة، وسبى الذّرية، وكان في السبي صفية، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقها، وجعل عتقها صداقها، فأصبحت أُمًّا للمؤمنين (¬2) وعلي - رضي الله عنه - له مواقف أخرى كثيرة، تظهر فيها الحكمة العظيمة، ولكن المقامَ لا يتّسع إلا لما ذكر من المواقف السابقة، وهكذا يفعل من يرجو الله واليوم والآخر، فإن الإِنسان إذا كان همّه لله، وقلبه معلّق بالله، عمل كل ما يحبّه مولاه تبارك وتعالى. وقد ظهرت حكمة علي - رضي الله عنه - في هذا الموقف من عدّة وجوه، منها: (أ) قوله: " أُقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ "؛ فإنه - رضي الله عنه - استفسر من النبي صلى الله عليه وسلم قبل القتال، إلى أي مدى يستمر القتال، وهذا من أعظم الحكمة؛ لأن الداعية لا بد له من وضوح الهدف والغاية، وأن يكون على بصيرة من أمره. (ب) وقوله: " أنا الذي سمتني أمي حيدرة "، وهذا فيه تذكير لمرحب؛ لأنه قد رأى في المنام أن أسدًا يقتله، فذكّره علي - رضي الله عنه - بذلك ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها مطولا 3/ 1441، وانظر: زاد المعاد 3/ 321، وحياة الصحابة 1/ 544. (¬2) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 7/ 469، وانظر: البداية والنهاية 4/ 181، 191، وابن هشام 3/ 378 - 388، وانظر: ترجمة علي بن أب طالب - رضي الله عنه - كاملة في الإصابة في تمييز الصحابة 2/ 507 - 510، والبداية والنهاية 7/ 222 - 224، وانظر: شجاعة علي أيضًا في حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 541 - 546.

ليخيفه ويضعف نفسه، حتى يستولي على قتله. (ج) وقوله: " أوفيهم بالصاع كيل السندرة "، هذا فيه إرهاب وإخبار لمرحب أن علي بن أبي طالب يقتل الأعداء قتلًا واسعًا ذريعًا. (د) ثم ختم هذه الحكم بقتل مرحب، فهزم الله به الأعداء، ونصر المسلمين عليهم نصرًا مُؤزّرًا، فله الحمد أولًا وآخرًا.

المطلب الخامس مواقف مصعب بن عمير رضي الله عنه

المطلب الخامس مواقف مصعب بن عمير - رضي الله عنه - بعد بيعة العقبة الأولى في سنة إحدى عشرة من البعثة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء المبايعين أول داعية وأول سفير في يثرب، ليعلم المسلمين فيها شرائع الإِسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإِسلام بين المشركين. واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا العمل العظيم مصعب بن عمير العبدري رضي الله عنه. وعندما وصل مصعب إلى يثرب نزل على أسعد بن زرارة، ابن خالة سعد بن معاذ، وأخذ مصعب يؤدي مهمته في الدعوة إلى الله تعالى. ومن أروع ما يُروَى من نجاحه وحكمته في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يومًا إلى دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، فدخل به حائط بني ظفر على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، فسمع بهما أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وهما يومئذ سيدا بني عبد الأشهل، وكانا مشركين، فقال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا، ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا. فأخذ أسيد حربته، وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، فقال مصعب: إن يجلس أكلّمه. وجاء أسيد فوقف عليهما مُتَشَتِّمًا، فقال: ما جاء بكما إلينا، تُسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره؛ فقال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما. فكلمه مصعب بالإِسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا: والله لعرفنا في

وجهه الإِسلام قبل أن يتكلّم، في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، وتُطهّر ثيابك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تُصلي، فقام واغتسل وطهّر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلًا إن يتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، وهو سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلًا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، واحتال أسيد على سعد من أجل أن يذهب إلى مصعب، لكي يحدث له ما حدث له، فقام سعد بن معاذ مغضبًا وأخذ الحربة، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدًا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتمًا لهما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟ وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب: جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك ما تخلّف عنك منهم اثنان. قال مصعب لسعد: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإِسلام، وقرأ عليه القرآن. قالا: فعرفنا والله في وجهه الإِسلام قبل أن يتكلم؛ لإِشراقه وتَسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام واغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائدًا

إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلًا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيّدنا وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قالوا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة. ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإِسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية، وخطمة، ووائل، وواقف، وهم من الأوس بن حارثة، فإنهم أطاعوا أبا قيس الشاعر، وهو ابن الأسلت، واسمه صيفي، فوقف بهم عن الإِسلام حتى كان بعد الخندق (¬1). وهذه الاستجابة العظيمة بفضل الله ثم بفضل مصعب بن عمير - رضي الله عنه -، فقد ضُرِبَ به المثل في حكمته وحُسن دعوته وصبره وحلمه ورفقه وأناته عند سماع التهديد من قبل أسيد وسعد - رضي الله عنهم -، فأثر هذا الموقف الحكيم عليهما وأسلما، وأسلم - بفضل الله ثم بإسلامهما - هذا الجمع الغفير في يوم واحد، فرضي الله عن مصعب، ورضي عن صاحبه أسعد، فقد أنقذ الله بهما مدينة كاملة، ولله الحمد والمنة. ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 3/ 152، وسيرة ابن هشام 2/ 43، والرحيق المختوم ص 140، وهذا الحبيب يا محب ص 145، وانظر: الإِصابة في تمييز الصحابة 3/ 421، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 145، وحياة الصحابة للعلامة الكاندهلوي 1/ 187 - 189.

المطلب السادس موقف ضمام بن ثعلبة مع قبيلة بني سعد

المطلب السادس موقف ضمام بن ثعلبة مع قبيلة بني سعد بعث بنو سعد ضمام بن ثعلبة وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم المدينة، وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام جلدًا، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، فقال: «أيكم محمد؟ فقال الصحابة: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قد أجبتك "، فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمُشدّد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك. فقال: " سل عما بدا لك ". فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: " صدق ". قال: فمن خلق السماء؟ قال: " الله ". قال: فمن خلق الأرض؟ قال: " الله ". قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: " الله ". قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك؟ قال: " نعم ". قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال: " صدق ". قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: " نعم ". قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا. قال: " صدق ". قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: " نعم ". قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا. قال: " صدق ". قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: " نعم ". قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا. قال: " صدق ". قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: " نعم ". ثم ولّى، وقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص عنهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لئن صدق ليدخلن الجنة» (¬1). ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح في كتاب العلم، باب ما جاء في العلم 1/ 148، ومسلم في كتاب الإِيمان، باب السؤال عن أركان الإِسلام 1/ 41، وأحمد في المسند 3/ 143، 3/ 193، والألفاظ من هذه المواضع كلها.

فأتى ضمام بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلّم به أن قال: بئست اللات والعزى. فقالوا: مه ضمام! اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون. فقال: ويلكم، إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، وما نهاكم عنه. قال الراوي: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمًا، وما سُمِعَ بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة (¬1). وهذا يدل على حكمة ضمام بن ثعلبة، فإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أولًا عن صانع المخلوقات من هو؟ ثم أقسم عليه به أن يصدقه في كونه رسولًا لخالق هذه المخلوقات، ثم لما وقف على رسالته وعلمها أقسم عليه بحق مرسله. وهذا ترتيب يحتاج إلى حكمة عظيمة، وعقل رصين، وهو من حسن سؤال هذا الرجل وملاحة سياقه وترتيبه (¬2). ولم يقتصر على هذا، بل جاء بأمر آخر يدل على حكمته وصدقه في قوله، فإنه عرض على قومه الإِسلام، وبين لهم بطلان اللات والعزى، وأنهما لا يضران ولا ينفعان، وغرس الإِيمان في قلوبهم بأن الله هو الضارّ النافع، وأن ما سواه عاجزٌ عن ذلك، وحمل إليهم جميع ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا في لحظة واحدة قبل الليل. وهذا يدل على حكمة ضمام في دعوته قومه إلى الله - تعالى -، فقد استخدم معهم هذا الموقف الحكيم وهذا الأسلوب الناجح المسدّد، وهذا فضل عظيم لضمام ولمن وفقه الله بالدعوة إلى الله بالحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا. ¬

(¬1) انظر البداية والنهاية 5/ 60، وسيرة ابن هشام 4/ 342، والإِصابة في تمييز الصحابة 2/ 210. (¬2) انظر: شرح مسلم على النووي 1/ 170، وفتح الباري 1/ 149.

المطلب السابع موقف سعد بن معاذ في حكمه في بني قريظة

المطلب السابع موقف سعد بن معاذ في حكمه في بني قريظة كانت بنو قريظة أشدّ اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، وتحزّبوا مع الأحزاب، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبّ ونقض العهد. وبعد أن هُزِمَ الأحزاب رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قالت عائشة - رضي الله عنها -: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام - وهو ينفض رأسه من الغبار - فقال: قد وضعت السلاح؛ والله ما وضعته، اخرج إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأين؟» فأشار إلى بني قريظة (¬1). فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، وهم في حصونهم، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقامت إليه الأوس، فقالوا: يا رسول الله! قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا فأحسن فيهم، فقال: «ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى. قال: «فذلك إلى سعد بن معاذ». قالوا: قد رضينا. فأرسل إلى سعد بن معاذ (¬2) وكان في المدينة لم يخرج معهم لجرح كان قد أُصيب به يوم الخندق، رماه رجل من قريش في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم له خيمة في المسجد ليعوده من قريب " (¬3). وقد قال سعد عندما أصيب بالجرح: " اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها؛ فإنه لا قوم أحبّ إلي من أن أجاهدهم فيك، آذوا ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب 7/ 411. (¬2) انظر: زاد المعاد 3/ 134. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب 7/ 411، وانظر ترجمة سعد بن معاذ في سير أعلام النبلاء 1/ 279.

نبيك وكذبوه وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها في شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة " (¬1). ووصل من أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأُركِبَ على حمار، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل بعض الأوس يقول لسعد وهو في طريقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولّاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم» فلما أنزلوه، قالوا: يا سعد، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه إن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من هاهنا؟ في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجْلالًا له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم». قال سعد: فإني أحكم فيهم: أن تُقْتَل الرجال، وتُقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» (¬2). فلما حكم فيهم بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم، ومن لم ينبت ألحق بالذرية (¬3) فحفر لهم خنادق في سوق ¬

(¬1) سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق، ورجاله ثقات 3/ 244، وأحمد 6/ 141، وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 282. (¬2) سيرة ابن هشام 3/ 259، وفي البخاري مع الفتح في كتاب المغازي - باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب 7/ 411، قال: " قضيت فيهم بحكم الله. . . " ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهله للحكم، 3/ 1389. (¬3) أبو داود، كتاب الحدود، باب الغلام يصيب الحد، 4/ 141، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في النزول على الحكم، 4/ 145، والنسائي، كتاب الطلاق، باب متى يقع طلاق الصبي، 6/ 155، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب من لا يجب عليه الحد، 2/ 849، وسنده حسن.

المدينة، وضربت أعناقهم، وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة (¬1). وقد سأل الله سعد الشهادة إن كان الله قد وضع الحرب بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وانفجر جرحه - رضي الله عنه - ومات شهيدًا (¬2). الله أكبر! ما أعظم هذا الرجل وما أحكمه! فقد رَغِبَ في الشهادة، ولكنه سأل الله أن يبقيه إن كان الله لم يضع الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وكذلك سأل الله - عز وجل - أن لا يميته حتى يقرّ عينه من بني قريظة، فاستجاب الله له، وجعله الذي يحكم فيهم بحكمه، وعندما قال له بعض الأوس: أحسن في مواليك يا أبا عمرو، قال كلمته الحكيمة: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. وصدق - رضي الله عنه -، فقد حكم فيهم بحكم الله - تعالى - فقُتِلُوا، وأمكن الله المسلمين من أموالهم ونسائهم وذراريهم، فكان ذلك فتحًا ونصرًا للمسلمين على أعداء الله ورسوله، فرضي الله عنه وأرضاه. ومن فضل الله عليه أن منّ عليه بالشهادة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم موته: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» (¬3). وقد ظهرت حكمته - رضي الله عنه - في هذا الموقف الحكيم في النقاط التالية: 1 - رغبته في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاد أعداء الله تعالى. 2 - ردّه الحكيم المسدّد على قومه عندما راجعوه في بني قريظة. ¬

(¬1) زاد المعاد 3/ 135، وانظر: سيرة ابن هشام 3/ 259، والبداية والنهاية 4/ 122، وفتح الباري 7/ 414، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 114. (¬2) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب 7/ 412. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، مناقب سعد بن معاذ - رضي الله عنه - 7/ 123، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه 4/ 1915.

3 - أخذه عهد الله وميثاقه على قومه أن يقبلوا حكمه، وهذا مما يضبطهم، ويحل الأزمة. 4 - إعراضه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أخذ العهد إجلالًا له وإكرامًا. 5 - حكمه بحكم الله من فوق سبع سماوات، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنفاذه، - فرضي الله عنه وأرضاه -، فقد أعز الله بحكمته المسلمين وأذل الكافرين.

المطلب الثامن موقف الحسن بن علي رضي الله عنهما

المطلب الثامن موقف الحسن بن علي رضي الله عنهما الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد علماء الصحابة وحلمائهم، وذوي رأيهم، وسيد المسلمين (¬1) وهو حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحَسنٍ: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحبب من يحبه» (¬2). وقال أبو بكرة - رضي الله عنه - رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - والحسن بن علي إلى جنبه - وهو يقبل على الناس مرة، وعليه أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (¬3). وقد تحقّق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه عندما قُتِلَ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وبايع الناس الحسن بن علي - رضي الله عنهما -، وكانت كتائب الحسن كالجبال - كما ذكره البخاري في صحيحه (¬4) - فأراد الحسن أن يحقن دماء المسلمين، يجمعهم على إمام واحد يلم شملهم، فتنازل لمعاوية بن أبي سفيان، خال المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين (¬5) - رضي الله عن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين - فكان هذا الموقف الذي وقفه الحسن من أعظم مواقف الحكمة، ومن أبرز الأدلة الواضحة على زهد الحسن في ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 8/ 16. (¬2) البخاري مع الفتح في كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق 4/ 339، ومسلم، واللفظ له، في كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل الحسن والحسين 4/ 1882. (¬3) البخاري مع الفتح، في كتاب الصلح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي - رضي الله عنها - إن ابني هذا سيد 5/ 307، 6/ 628، 7/ 94، 13/ 61، ولفظه من كتاب الصلح. (¬4) البخاري مع الفتح في كتاب الصلح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن: إن ابني هذا سيد 5/ 306. (¬5) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 8/ 20، وتاريخ الحلفاء للسيوطي ص 194.

الدنيا الفانية، ورغبته في الآخرة الباقية، وحقنه دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ترك الخلافة والملك، لا لِقِلَّة ولا لذلة، ولا لعلة، بل لرغبته فيما عند الله؛ لما رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة (¬1). وسمي هذا العام الذي تنازل الحسن - رضي الله عنه - فيه لمعاوية: عام الجماعة، لاجتماع الكلمة فيه على معاوية رضي الله عنهما (¬2) والمقصود أن موقف الحسن موقف حكيم عظيم سديد؛ لأنه حقن به دماء وأموال وأعراض أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فرضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 66. (¬2) انظر: البداية والنهاية 8/ 16.

المطلب التاسع مواقف جماعة من الصحابة

المطلب التاسع مواقف جماعة من الصحابة الصحابة - رضي الله عنهم - لهم مواقف كثيرة جدًّا لا يستطيع أحد أن يحصرها؛ لأنهم - رضي الله عنهم - باعوا أنفسهم، وأموالهم وحياتهم لله، ابتغاء مرضاته، وخوفًا من عقابه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة. ومن درس حياتهم، ونظر إلى تطبيقهم للإِسلام قولًا، وعملًا، واعتقادًا ازداد إيمانه، وأحبهم؛ فيحصل له بذلك محبة الله تعالى. 1 - فهذا بلال بن رباح - رضي الله عنه - كان يعذبه أمية بن خلف على توحيده وإيمانه بالله - تعالى -. وقد عذبه أشد العذاب، ومن ذلك أن أمية كان يُخرجُ بلالًا إذا حميت الشمس في الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصّخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أَحدٌ أَحدٌ، فمر به أبو بكر فاشتراه. وهذه الكلمة التي زعزعت كيان أمية بن خلف (¬1). 2 - وهذا عمار بن ياسر، وأبوه ياسر، وأمه سُميّة - رضي الله عنهم - يُعذبون أشدّ العذاب من أجل إيمانهم بالله - تعالى -، فلم يردهم ذلك العذاب عن دينهم، لأنهم صدقوا مع الله فصدقهم الله - تعالى - ولهذا قيل لهم: «صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة» (¬2) فرضي الله عنهم وأرضاهم (¬3). ¬

(¬1) انظر الإِصابة في تمييز الصحابة 1/ 165، وسيرة ابن هشام 1/ 340، وسير أعلام النبلاء 1/ 347. (¬2) الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 3/ 388 وانظر مجمع الزوائد 9/ 293، وقال رجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وانظر الإِصابة 2/ 512. (¬3) انظر سير أعلام النبلاء 1/ 406 والإِصابة 2/ 512، وسيرة ابن هشام 1/ 342.

3 - وهذا صُهيب الرومي - رضي الله عنه - أراد الهجرة فمنعه كفار قريش أن يُهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرّد من ماله كله ويدفعه إليهم تركوه وما أراد، فأعطاهم ماله ونجى بدينه مهاجرًا إلى الله ورسوله وأنزل الله - عز وجل - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207] (¬1) فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له: ربحَ البيع. فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية (¬2). 4 - وهذا عبد الله بن عبد الأسد أبو سلمة وزوجته أم سلمة - رضي الله عنهما - يصبران على البلاء العظيم ويقفان الموقف الحكيم الذي يدل على صدقهما مع الله (¬3). كان أبو سلمة أول من هاجر من مكة إلى المدينة، قبل العقبة الثانية بسنة تقريبًا. بعد أن رجع أبو سلمة وزوجته أم سلمة من الهجرة إلى الحبشة آذته قريش، وعلم بإسلام من أسلم من الأنصار، فقرر الهجرة إلى المدينة - فرارًا بدينه - فحمل زوجته أم سلمة، وابنه سلمة وقاد بهما راحلته وخرج متجهًا إلى المدينة وقبل أن يخرج من مكة لحقه رجال من بني مخزوم فقالوا له: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيتك صاحبتك هذه عَلامَ نتركك تسير بها في البلاد؟ ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوا الراحلة وعليها أم سلمة وابنه سلمة، وغضب لذلك رجال من بني عبد الأسد وقالوا: والله لا نترك ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 207. (¬2) انظر تفسير ابن كثير 1/ 248، وسير أعلام النبلاء 2/ 17 - 26، والإِصابة 2/ 195. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء 1/ 150، والإِصابة في تمييز الصحابة 2/ 335، والبداية والنهاية لابن كثير 4/ 90.

ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا فتجاذب بنو مخزوم وبنو عبد الأسد الطفل حتى خُلِعَت يده، وأخذه بنو عبد الأسد وحبس بنو المغيرة أم سلمة عندهم، وانطلق أبو سلمة إلى المدينة هاربًا بدينه. قالت أم سلمة: ففرقوا بيني وبين زوجي وبيني وبين ابني فكنت أخرج كل غداة إلى الأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي، وذلك سنة أو قريبًا منها حتى مر بي رجل من بني عمي - أحد بني المغيرة - فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها، وبينها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت، قالت: وردّ بنو عبد الأسد عند ذلك ابني فارتحلت ببعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله. . " (¬1). الله أكبر ما أعظم هذا الموقف وما أحكمه: فقد ترك أبو سلمة زوجته وابنه، وماله، وهاجر بنفسه تاركًا نصفه وراءه من أجل دينه ويتجاذب بنو عبد الأسد وبنو المغيرة ابن أم سلمة، ويخلعوا يده وهى تنظر، وتحبس من أجل دينها، وتبكي كل يوم في الأبطح سنة أو قريبًا منها، إنه موقف عظيم وبلاء كبير أسفر عن قوة الإِيمان والصدق مع الله فنسأل الله العافية في الدنيا والآخرة، ورضي الله عن أبي سلمة وزوجته وأرضاهما، فقد جاهدا في الله، وأُوذيا في الله، وصبرا في الله، والله المستعان. 5 - وعندما ينظر الإِنسان في موقف عبد الله بن حذافة بن قيس - رضي الله عنه - عندما حاول ملك الروم أن يصدَّه عن دينه - يرى الموقف الحكيم، والرجل العظيم! وجه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جيشًا إلى الروم، فأسروا ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 77، والبداية والنهاية 3/ 169، والرحيق المختوم ص 150، وهذا الحبيب يا محب، ص 151.

عبد الله بن حذافة، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد. فقال: هل لك أن تتنصَّر وأعطيك نصف ملكي؟ قال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملك، وجميع ملك العرب، ما رجعت عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين، قال: إذًا أقتلك. قال: أنت وذاك، فأُمِرَ به فصُلِبَ وقال للرّماة: ارموه قريبًا من بدنه، وهو يعرض عليه ويأبى ولم يجزع، فأنزله، وأمر بقدر فصُبَّ فيها ماء وأُغلي عليه حتى احترقت، ودعا بأسيريْنِ من المسلمين، فأمر بأحدهما، فأُلقي فيها فإذا عظامه تلوح، وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، فأمر بإلقائه في القدر إن لم يتنصّر، فلما ذهبوا به بكى، فقيل للملك: إنه بكى، فظن أنه قد جزع، فقال: ردوه، فقال: ما أبكاك؟ قال: قلت هي نفس واحدة تُلقى الساعة فتذهب فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تُلقى في النار في الله، فتعجب الطاغية فقال له: هل لك أن تُقبّل رأسي وأُخلِّي عنك؟ فقال له عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، فقبّل رأسه، فخلّى عنهم، وقدم بالأسارى على عمر، فأخبره خبره. فقال عمر: حقٌّ على كلِّ مسلم أن يُقَبِّلَ رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأُ. فقبل رأسه (¬1). هذا موقف عظيم حكيم، فإن عبد الله - رضي الله عنه - ثبت على دينه، ولم يقبل سواه، ولو أعطى ملك كسرى ومثله معه، وملك العرب جميعًا، ثم لصدقه مع الله لم يجزع من الرّماة عندما رموه وهو مصلوب، ولم يجزع من القِدْرِ والماء المغلي وقد رأى من يُلقى في النار من الأسرى وعظامه تلوح، ومع ذلك تمنى أن يكون له عدد شعره من الأنفس تعذب في الله ومن أجل الله، وعندما رأى أن المصلحة عامة لجميع الأسرى قبَّل رأس الطاغية، لكي يخرج المسلمين من الأسر، وهذا من أعظم الحكم العظيمة. فرضي الله عن عبد الله بن حُذافة وأرضاه. ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 2/ 14، والإصابة في تمييز الصحابة 2/ 269.

6 - ومن هذه المواقف العظيمة التي تدل على قوة الإِيمان والرغبة فيما عند الله والدار الآخرة ما فعله الصحابي الجليل: خبيب بن عدي بن عامر - رضي الله عنه - عندما أسرته كفار قريش وعذبته فثبت حتى قُتلَ شهيدًا - رضي الله عنه -. قالت بعض بنات الحارث بن عامر: والله ما رأيت أسيرًا قطُّ خيرًا من خبيب والله لقد وجدته يومًا يأكل قِطفًا من عنبٍ في يده وإنه لمُوثَقٌ بالحديد وما بمكة من ثمرة. وكانت تقول: إنه لرزق رَزقه الله خبيبًا. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيبٌ: دعوني أصلي ركعتين فتركوه فركع ركعتين، فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزعٌ لزدت. ثم قال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بَدَدًا، ولا تبقِ منهم أحدًا ثم أنشأ يقول: فلستُ أُبالي حين أقتلُ مسلمًا ... على أي جنب كان لله مصرعي وذلك في ذات الإِله وإن يشأ ... يُبارك على أوْصالِ شِلوٍ ممزّع ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سن لكلِّ مسلم قُتِلَ صبرًا الصلاة (¬1). 7 - وهذا سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه - تَعْرض أمه عليه أن يكفر بدين محمد صلى الله عليه وسلم، وحلفت أن لا تكلمه، ولا تأكل ولا تشرب حتى تَموت فيعيّر بها، فيقال: يا قاتل أمه، وقالت له: زعمت أن الله وصّاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا. قال سعد: لا تفعلي يا أُمّه إني لا أدع ديني هذا لشيء. فبقيت ثلاثة أيام لا تأكل ولا تشرب، فلما رأى سعد بن أبي وقاص ذلك منها قال لها: يا أمَّه تعلمين والله لو كان لك مائة نفس، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد؛ باب هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر ومن ركع ركعتين عند القتل، 6/ 166، وكتاب المغازي، باب حدثني عبد الله بن محمد الجعفي، 7/ 308، 7/ 378، 13/ 381، وانظر: سير أعلام النبلاء 1/ 246.

فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركت ديني إن شئتِ فكلي أو لا تأكلي. فلما رأت ذلك أكلت (¬1). قال سعد - رضي الله عنه -: نزلت هذه الآية في: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] (¬2) وقد جعل الله سعدًا مستجاب الدعوة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم استجب لسعد إذا دعاك» (¬3). ولم يقتصر الأمر على الرجال بل للنساء مواقف حكيمة. 8 - ومن ذلك ما فعلته رملة بنت أبي سفيان أم حبيبة، أم المؤمنين - رضي الله عنهما -، وذلك أن أباها قدم من مكة إلى المدينة يريد أن يزيد في الهدنة بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما دخل على بنته أم حبيبة - رضي الله عنها - وذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته دونه، فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك، فقال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر (¬4) قلت: والله لم يصبها إلا قوة الإِيمان ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقدَّمت محبة الله ورسوله على محبة والدها المشرك ولم ترضَ أن يجلس المشرك على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضي الله عن أم المؤمنين، فإنها لم تأخذها في الله لومة لائم، وهذا من أعظم الحكم. والصحابة - رضي الله عنهم جميعًا - رجالَاَ ونساءً، كانت أعمالهم ¬

(¬1) انظر: صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل سعد بن أبي وقاص 4/ 1877 مختصرًا بمعناه، وأحمد 1/ 181 - 182، والترمذي 5/ 341، وانظر: سير أعلام النبلاء 1/ 109. (¬2) سورة لقمان، الآية 15. (¬3) الترمذي في كتاب المناقب، باب مناقب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه 5/ 649، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 3/ 498، وسند. صحيح. انظر: سير أعلام النبلاء 1/ 111. (¬4) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 4/ 306 وعزاه بإسناده إلى ابن سعد. وانظر أيضًا التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 3/ 135.

وحياتهم، ومماتهم لله لا يريدون، ولا يرغبون إلا ما يرضيه - تعالى - حتى ولو كان ذلك ببذل أحبّ الأشياء إليهم. 9 - ومما يدل على ذلك ما فعله أنس بن النضر الأنصاري عم أنس بن مالك رضي الله عنهما. عن أنس - رضي الله عنه - قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليريَنّ الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أعتذر إليِك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فقاتلهم حتى قتل. قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة: من بين ضربة بسيف وطعنة برمح، ورمية بسهم وقد مَثَّلوا به، فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه. ونزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] (¬1). قال فكنا نقول: نزلت هذه الآية فيه وفي أصحابه (¬2) 10 - كما يدل على رغبتهم فيما عند الله ما فعل عُمير بنُ الحُمَام في بدر حينما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: «قومُوا إلى جَنَّة عرضُهَا السّماوات والأرضُ " فقال: يا رسول الله جنة عرضها السّماوات ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية 23. (¬2) البخاري مع الفتح في كتاب الجهاد باب قول الله - عز وجل - مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّه عَلَيْه فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَه وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. 6/ 21، 7/ 354. وانظر: البخاري مع الفتح 8/ 518، والبداية والنهاية 4/ 31 - 34، والإصابة في تمييز الصحابة 1/ 74، وهذا الحبيب يا محب ص 269.

والأرض؟ قال: " نعم ". قال: بخ بخ (¬1) فقال صلى الله عليه وسلم: " ما يحملك على قولك بخ بخ؟ "، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: " فإنك من أهلها "، فأخرج تمرات من قرنه (¬2) فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتَل حتى قتل» (¬3). وهذه النماذج تدل على صبر الصحابة وحكمتهم العظيمة، وصدقهم مع الله ورغبتهم فيما عنده سبحانه - من الثواب وزهدهم في الدنيا. والصحابة - رضي الله عنهم - لهم مواقف حكيمة كثيرة لا تُحْصَى، ولكن ما ذكرته هنا من مواقفهم ما هو إلا بعض الأمثلة اليسيرة من المواقف الحكيمة التي تدل على حكمتهم ويستفيد منها الدعاة إلى الله - تعالى -. وأسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا. والله المستعان. ¬

(¬1) كلمة تقال لتعظيم الأمر وتفخيمه في الخير. انظر: شرح النووي 13/ 45. (¬2) أي جعبة النشاب. انظر: شرح النووي 13/ 46. (¬3) مسلم، كتاب الإِمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3/ 1510.

المبحث الثالث مواقف التابعين

المبحث الثالث مواقف التابعين توطئة. المطلب الأول: مواقف سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى المطلب الثاني: مواقف الحسن بن يسار البصري رحمه الله تعالى. المطلب الثالث: مواقف عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. المطلب الرابع: مواقف أبي حنيفة رحمه الله تعالى.

توطئة

توطئة التابعون هم من القرون المفضلة بنص النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن سمعي - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته» (¬1). وللتابعين مواقف حكيمة يستفيد منها الدعاة إلى الله تعالى، وسأذكر - بعون الله تعالى - نماذج منها على سبيل المثال في المطالب التالية: المطلب الأول: مواقف سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى. المطلب الثاني: مواقف الحسن بن يسار البصري رحمه الله تعالى. المطلب الثالث: مواقف عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. المطلب الرابع: مواقف أبي حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله تعالى. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد 5/ 259، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل الصحابة ثم الذين يلونهم. . . 4/ 1964، وفي رواية من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -: " ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن ". البخاري مع الفتح، كتاب الشهادات، الباب السابق 5/ 258، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل الصحابة 4/ 1962.

المطلب الأول من مواقف سعيد بن المسيب رحمه الله

المطلب الأول من مواقف سعيد بن المسيب رحمه الله لسعيد بن المسيب (¬1) مواقف حكيمة تدل على علمه وحكمته ورغبته فيما عند الله تعالى (¬2). ومن هذه المواقف الحكيمة التي صدع فيها بالحق في دعوته إلى الله ولم تأخذه في الله لومة لائم ما فعله مع الحجاج بن يوسف الثقفي (¬3) عندما أساء صلاته. 1 - صلى الحجاج مرة بجنب سعيد بن المسيب - قبل أن يلي شيئًا من أمور المسلمين - فجعل يرفع قبل الإِمام، ويقع قبله في السجود، فلما سلم أخذ سعيد بطرف ردائه، وبقي يقول الذّكر بعد الصلاة، والحجّاج ما زال ينازعه رداءه حتى قضى سعيد ذكره، ثم أقبل عليه يؤنبه ويؤدبه بالكلام، فلم يقل له الحجّاج شيئًا حتى صار نائبًا على الحجاز وعندما أتى المدينة نائبًا عليها، فلما دخل المسجد قصد مجلس سعيد بن المسيب حتى جلس بين يديه، فقال له: أنت صاحب الكلمات؟ فضرب سعيد صدره بيده وقال: نعم. قال: فجزاك الله من معلم ومؤدب خيرًا، ما صليت بعدك ¬

(¬1) سعيد بن المسيب، هو سيد التابعين على الإِطلاق في زمانه، وعالم أهل المدينة، ولد لسنتين من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقيل لأربع مضين منها، وتوفي سنة 94 هـ وله 75 سنة رحمه الله. انظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 217 - 246، والبداية والنهابة لابن كثير 9/ 99. (¬2) ومن مواقفه الحكيمة التي كان بها قدوة حسنة لغيره من الدعاة، زواجه ابنته فاطمة لرجل فقير، ومنعها من الزواج بابن الخليفة، فقد خطب عبد الملك بن مروان ابنته لابنه الوليد، فمنع من ذلك، وزوجها تلميذه كثير بن المطلب بن أبي وداعة القرشي السهمي على درهمين، وساعده بعشرين ألف، وهذا يدل على كمال إيمان سعيد بن المسيب، واهتمامه بالباقي، والنفور من المناصب المزيفة، واختياره الزوج الصالح لابنته، انظر هذه القصة الحكيمة في: سير أعلام النبلاء 4/ 233، وطبقات ابن سعد 5/ 138، وحلية الأولياء 2/ 167، والبداية والنهاية 9/ 100. (¬3) الحجاج بن يوسف الثقفي، ولي العراق والمشرق عشرين سنة، وتوفي سنة 95 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 4/ 343.

صلاة إلا وأنا أذكر قولك، ثم قام ومضى (¬1). 2 - قيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك ولا يحركك ولا يؤذيك؟ قال: والله ما أدري، إلا أنه دخل ذات يوم مع أبيه المسجد صلّى صلاة لا يتم ركوعها ولا سجودها، فأخذت كفّا من حصى فحصبته بها. قال الحجاج: فما زلت أحسن الصلاة (¬2). وهذا من أعظم المواقف الحكيمة لسعيد بن المسيب - رحمه الله -؛ فإن الحكمة وضع كل شيء في موضعه، وقد تنفع الشدة والقوة إذا كانت الحكمة تقتضي ذلك، فسعيد رأى أن من الحكمة استخدام هذا الأسلوب مع الحجاج؛ ليحسن صلاته، فنفع الله بذلك الحجاج كما ذكر هو عن نفسه، وأنه ما زال يحسن الصلاة بعد ذلك، فرحم الله سعيد بن المسيب، وجزاه خير الجزاء. ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية 9/ 119، وسير أعلام النبلاء للذهبي 4/ 226. (¬2) انظر: الطبقات لابن سعد 5/ 129، وحلية الأولياء لأبي نعيم 2/ 165، وسير أعلام النبلاء 4/ 226.

المطلب الثاني من مواقف الحسن البصري

المطلب الثاني من مواقف الحسن البصري رحمه الله للحسن البصري (¬1) - رحمه الله - مواقف حكيمة في دعوته إلى الله - عز وجل -، ومنها على سبيل المثال ما يلي: 1 - موقفه مع الحجاج بن يوسف الثقفي: من حكمة الحسن أنه لا يرى الخروج على الأئمة العُصاة من المسلمين، فقد جاء جماعة من المسلمين إلى الحسن البصري يستفتونه في الخروج على الحجاج، فقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام. . . وفعل وفعل؟ فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه؛ فإنها إن تك عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، وخرجوا من عند الحسن ولم يوافقوه، فخرجوا على الحجاج فقتلوا جميعًا (¬2) ولهذا كان الحسن يقول: لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يفرج عنهم، ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكلون إليه، فوالله ما جاءوا بيوم خير قط (¬3). ومع ذلك كله فقد أراد الحجاج أن يقتل الحسن البصري مرارًا، ولكن الله عصمه منه. بعث الحجاج إلى الحسن مرة - وقد همّ به - فجاء الحسن إليه، فلما قام ¬

(¬1) هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد مولى الأنصار، وأمه خيرة مولاة أم سلمة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، وأبو الحسن يسار من سبي ميسان - وهي بين البصرة وواسط - سكن المدينة، وأعتقَ وتزوج بها في خلافة عمر، فولد له بها الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه، وتوفي الحسن سنة 110 هـ وكان عمره 88 سنة - رحمه الله -. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 4/ 563 - 587، وتهذيب التهذيب لابن حجر 2/ 231. (¬2) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 7/ 163 - 165، والبداية والنهاية لابن كثير 9/ 135. (¬3) انظر: طبقات ابن سعد 7/ 164.

موقف الحسن مع عمر بن هبيرة

بين يديه قال: يا حجاج، كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير. قال: فأين هم؟ قال: ماتوا. فنكس الحجاج رأسه، وخرج الحسن (¬1). وهذا من حكمة الحسنِ في دعوته إلى الله، فإن الخروج على الأئمة المسلمين - ولو كانوا فسّاقًا - يسبب شرًّا كثيرًا، وفتنة عظيمة، وإزهاقًا للأرواح، وفسادًا كبيرًا، فَسدَّ الحسن الباب أمام هذه المفاسد. 2 - موقف الحسن مع عمر بن هبيرة: عندما ولي عمر بن هبيرة (¬2). العراق أرسل إلى الحسن فقدم إليه، فقال له: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك (¬3) ينفذ كتبًا أعرف أن في إنفاذها الهلكة، واستفتاه ماذا يصنع أمام هذه الكتب؟ فقال الحسن: يا عمر بن هبيرة، يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله - تعالى - فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قمرك إلى ضيق قبرك، يا عمر بن هبيرة إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله - عز وجل -، يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها باب المغفرة دونك، يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناسًا من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشدّ إدبارًا من إقبالكم عليها وهي مدبرة، يا عمر بن هبيرة إني أخوفك مقامًا خوفكه الله - تعالى -، فقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14] (¬4) يا عمر بن هبيرة إن تك مع الله في طاعته ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية 9/ 135. (¬2) هو عمر بن هبيرة بن معاوية بن سُكَين، الأمير أبو المثنى أمير العراقيين، مات سنة 107 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 4/ 562. (¬3) هو يزيد بن عبد الملك بن مروان الخليفة، استخلف بعهد عقده له أخوه سليمان، بعد عمر بن عبد العزيز، ولد سنة 71 هـ. وكانت خلافته أربعة أعوام، توفي سنة 105 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 5/ 150 - 152. (¬4) سورة إبراهيم، الآية 14.

موقفه مع القراء

كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكلك الله إليه، فبكى عمر بن هبيرة وقام بعبرته (¬1). وهذا يدل على حكمة الحسن - رحمه الله - وما له في النفوس من مكانة وتقدير، فقد جهر بالحق في هذا الموقف ولم تأخذه في الله لومة لائم. وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله - تعالى -، ولكن لا بد من الحكمة، وبالتي هي أحسن، فإن ذلك أدعى لقبول الدعوة، والله المستعان. 3 - موقفه مع القراء: خرج الحسن من عند ابن هبيرة يومًا فإذا هو بالقراء على الباب (¬2) فقال: ما يجلسكم ها هنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء؟ أما والله ما مجالستهم مجالسة الأبرار، تفرقوا فرق الله بين أرواحكم وأجسادكم، قد فرطحتم (¬3) نعالكم، وشمرتم ثيابكم، وجزرتم شعوركم، فضحتم القراء فضحكم الله (¬4) والله لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم ¬

(¬1) انظر: حلية الأولياء 2/ 149. (¬2) لسائل أن يسأل: كيف يخرج الحسن من عند ابن هبيرة ويلوم القراء على وقوفهم ببابه رغبة في الدخول عليه؟ ويجاب على ذلك أن الحسن لم يدخل على ابن هبيرة ليسأله مالًا أو شيئًا من أمور الدنيا، إنما ذلك لله ومن أجل الله والدعوة إليه، والذي قبحه الحسن هو الرغبة في الدنيا والطمع في أموال الأمراء والسلاطين، أما من دخل عليهم ليأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويخوفهم بالله، فإن هذا من أعظم الجهاد وأفضله. (¬3) كل شيء عرضته فقد فرطحته. وفرطح الشيء: بسطه ووسعه. ورأس مفرطح: عريض. انظر: المعجم الوسيط، مادة (فرطح) 2/ 684. (¬4) لعل الحسن استخدم أسلوب الشدة مع القراء لأنهم أقدموا على شيء لا ينبغي لهم الإقدام عليه على الرغم من معرفتهم حقيقته وأنه لا ينبغي لطلاب العلم والدعاة إلى الله فعله. والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، ومن ذلك استخدام أسلوب القوة والشدة والغلظة في مواضعها.

رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم، أبعد الله من أبعد (¬1). وهذا الموقف حكيم عظيم؛ لأن الداعية إلى الله ينبغي أن يستغني عن الناس وعن أموالهم وصدقاتهم، وخاصة الأكابر والسلاطين، فلا يقف على أبوابهم ولا يسألهم، حتى يكون لدعوته ولعلمه الأثر في نفوسهم وفي نفوس غيرهم، ولهذا وجه الحسن القراء لذلك؛ لأن من استغنى بالله افتقر الناس إليه (¬2). ¬

(¬1) انظر: حلية الأولياء 2/ 150، وسير أعلام النبلاء 4/ 586. (¬2) انظر: حلية الأولياء 2/ 173، والبداية والنهاية 9/ 100.

المطلب الثالث من مواقف عمر بن عبد العزيز

المطلب الثالث من مواقف عمر بن عبد العزيز يرى كثير من العلماء أن عمر بن عبد العزيز (¬1) من المجددين على رأس المائة الأولى، لقوله - صلى الله عليه وسلم «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدّد لها دينها» (¬2) وعلى هذا كان - رحمه الله - أول المجددين (¬3) وله - رحمه الله - مواقف كثيرة حكيمة في دعوته إلى الله، منها ما يلي: (أ) من مواقفه الحكيمة قبل الخلافة: له - رحمه الله - مواقف كثيرة قبل الخلافة مع الخلفاء منها: 1 - أقبل سليمان بن عبد الملك (¬4) إلى جيشه ومعه عمر بن عبد العزيز، وفي ذلك المعسكر: الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال سليمان: ما تقول يا عمر في هذا؛ فقال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضًا، وأنت المسئول عن ذلك كله، فلما اقتربا من المعسكر إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها، ونعب نعبةً، فقال له سليمان: ما هذا يا عمر؛ فقال: لا أدري. فقال: ما ظنك أنه يقول؛ قال ¬

(¬1) عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وأمه أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، ولد سنة 63 هـ، وقيل 61 هـ، أرسله والده إلى المدينة يتفقه في الدين، فلما توفي والده أخذه عمه عبد الملك بن مروان، وزوجه بنته فاطمة، وعندما ولي الوليد بن عبد الملك ولاه المدينة ومكة والطائف من سنة 86 هـ إلى 93 هـ، ثم قدم الشام، وبقي بها حتى ولي الخلافة في 10/ 2 / 99 هـ فأصلح الله به العباد والبلاد، ثم مات مسمومًا في 25/ 7 / 101 هـ. انظر: البداية والنهاية 9/ 92 - 96، وسير أعلام النبلاء 5/ 122. (¬2) رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة 4/ 109، والحاكم 4/ 522، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/ 150 برقم 599. (¬3) انظر: البداية والنهاية 9/ 207، وعون المعبود 11/ 387. (¬4) سليمان بن عبد الملك بن مروان، بويع بالخلافة بعد أخيه الوليد، له أعمال جليلة، وتوفي عاشر صفر، سنة 99 هـ. سير أعلام النبلاء 5/ 111.

عمر: كأنه يقول: من أين جاءت وأين يُذهَبُ بها؟ فقال له سليمان: ما أعجبك؟ فقال عمر: أعجب ممن عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه، ومن عرف الدنيا فركن إليها (¬1) وهذه كلمات حكيمة في الدعوة إلى الله موجّهَة إلى خليفة المسلمين، استغل عمر توجيهها إليه في الفرصة المناسبة، ملتزمًا طريق الحكمة في ذلك كله. 2 - وحجّ سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز فأصابهم برق ورعد، حتى كادت تنخلع قلوبهم، فنظر سليمان إلى عمر وهو يضحك، فقال سليمان: يا أبا حفص، هل رأيت مثل هذه الليلة قط أو سمعت بها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا صوت رحمة الله، فكيف لو سمعت صوت عذاب الله؟ فقال: هذه المائة ألف درهم، فتصدق بها. فقال عمر: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: قوم صحبوك في مظالم لهم لم يصلوا إليك، فجلس سليمان فرد المظالم (¬2). الله أكبر ما أحكم هذا الموقف وأعظمه! فقد استطاع عمر بن عبد العزيز بعون الله - تعالى - ثم بحكمته أن يؤثر على سليمان حتى جلس ورد المظالم. 3 - ومن أعظم مواقفه الحكيمة مع سليمان بن عبد الملك أن سليمان قال له: يا أبا حفص، إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن لنا بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به، فكان من ذلك أن عمر أمر بعزل عمال الحجاج، وأقيمت الصلاة في أوقاتها بعد ما كانت أميتت عن وقتها، مع ¬

(¬1) انظر: مناقب عمر، لابن الجوزي، ص 52، والبداية والنهاية 9/ 195. (¬2) انظر: مناقب عمر، لابن الجوزي، ص 52، 53، وسير أعلام النبلاء 5/ 121.

مواقفه بعد أن ولي الخلافة

أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها، فقد قيل: إن سليمان حج فرأى الخلائق بالموقف فقال لعمر: أما ترى هذا الخلق الذي لا يُحصِي عددهم إلا الله؟ قال: هؤلاء اليوم رعيتك، وهم غدًا خصماؤك، فبكى سليمان بكاءً شديدًا (¬1) فرحم الله عمر، فقد كان حكيمًا في مواعظه وترقيقه للقلوب، وربطها بخالقها، وتخويفها من عقابه، وترغيبها في ثوابه، ويستخدم ذلك في الوقت المناسب، في الحال المناسب. وله - رحمه الله - مواقف كثيرة مع الخلفاء، ولولا الإِطالة لذكرتها (¬2). (ب) مواقفه بعد أن ولي الخلافة: بعد أن مات معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - سنة ستين للهجرة النبوية، بدأ الظلم، واتسع الخرق والخلاف بين العلماء والخلفاء، فصار بعض الناس في وادٍ، وبعض حكامهم في وادٍ آخرَ، ثم ازدادت الأحوال سوءًا بتسلُّم بعض الولاة الظلمة الحكم أمثال الحجاج، وصاروا يجمعون الأموال وينفقونها في غير حلها بلا حساب ولا نظام، وقد كان الشاعر يدخل على الخليفة أو الوالي فيمدحه، فيكيل له بلا حساب، وقد كان سليمان بن عبد الملك أمثل الخلفاء (¬3). وعندما تسلَّم عمر بن عبد العزيز الخلافة قام بالمواقف الحكيمة لإِنقاذ الأمة مما حل بها، فكانت مواقفه الحكيمة لإِصلاح ما فسد من أمور الناس كالتالي: ¬

(¬1) انظر: سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي ص 53، وسير أعلام النبلاء 5/ 121. (¬2) انظر بقية مواقفه مع الولاة في مناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي ص 46 - 53، والبداية والنهاية 9/ 195، وسير أعلام النبلاء 5/ 114 - 147. (¬3) انظر: البداية والنهاية 8/ 146 - 345، 9/ 2 - 177، وسير أعلام النبلاء 5/ 125.

1 - بدأ بالتغيير مع نفسه، فغير طريق حياته حتى أنكره من عرفه من قبل، فعندما رجع من قبر سليمان أُوتي بمراكب الخلافة: البراذين والخيل والبغال، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مَراكب الخلافة. فقال: ما لي ولها، نَحُّوها عنِّي، قربوا مني بغلتي، فقُرِّبت إليه بغلته، وأمر بمراكب الخلافة أن تُباع ويجعل ثمنها في بيت مال المسلمين، وقال: تكفيني بغلتي هذه الشهباء (¬1). وكان دخله قبل الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله إلا أربعمائة دينار في كل سنة، ونظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع فخرج منه، حتى إنه رّد فصّ خاتم في يده إلى بيت المال، وقال: هذا مما أعطانيه الوليد بن عبد الملك من غير حقه (¬2). 2 - بعد أن بدأ بنفسه بدأ بأهله، فسأل زوجته فاطمة بنت عبد الملك عن الجوهر الذي عندها، من أين صار إليها؟ فقالت: أعطانيه أمير المؤمنين، فقال: إما أن ترديه إلى بيت المال، وإما أن تأذنيني في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت، قالت: لا، بل أختارك على أضعافه لو كان لي، فوضعته في بيت المال (¬3). 3 - بعد أن أصلح عمر نفسه وأهله، بدأ بإصلاح أوضاع بني أمية، فأخذ ما بأيديهم من المظالم وردها إلى أهلها، وإلى بيت المال إن لم يكن لها أهل، وسمى أموالهم مظالم، وأمر مناديه أن يُنادي في الناس: من كانت له ¬

(¬1) انظر: مناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي ص 62، 65، وسير أعلام النبلاء 5/ 126، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 231. (¬2) انظر: طبقات ابن سعد 5/ 341 - 344، ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص 132، والبداية والنهاية 9/ 208، وسير أعلام النبلاء 5/ 128. (¬3) انظر: طبقات ابن سعد 5/ 393، وسيرة عمر لابن الجوزي، ص 127، وسير أعلام النبلاء، 5/ 129، والبداية والنهاية، 9/ 208.

مظلمة فليرفعها، وجاء كل من كانت له مظلمة فجعل يرد المظالم مظلمة مظلمة (¬1) وأخذ جميع الأموال التي أخذها بنو مروان بغير استحقاق، فوضعها في بيت مال المسلمين (¬2). 4 - كتب إلى الولاة على الأمصار الإِسلامية يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصيته، ويخوفهم من عقابه، ويرغبهم في ثوابه، ويزهدهم في الدنيا، ويضرب لهم الأمثال بمن مضى ممن كان قبلهم من الخلفاء والولاة، وأنهم قد ذهبوا إلى ما قدموا من أعمال، فمنهم الرابح، ومنهم الخاسر، وأمرهم بالعدل مع الرعية، ونهاهم عن الظلم، وأمرهم برد جميع المظالم إلى أهلها، وعزل بعضهم عن الولاية وَوَلَّى من هو أصلح منه، واستدعى بعضهم إلى الحضور لديه ليحاسبه على جوره وظلمه، وحذر الولاة من أخذ الرشوة والهدية من الرعية (¬3) وأمر الولاة بوضع الجزية عمن أسلم من اليهود والنصارى، حيث كان بنو أمية لا يضعون الجزية عمن أسلم، فأسلم بذلك خلق كثير، ومن هؤلاء أهل خراسان، فقد أسلم منهم أربعة آلاف في وقت قصير بسبب هذه الحكمة العظيمة (¬4). 5 - من أعظم مواقفه الحكيمة في إصلاح الأوضاع في الدولة الأموية ما أحياه في النفوس من خوف الله ومراقبته، وغرس ذلك في نفوس الناس، ومن ذلك أنه في يوم الجمعة يخطب الناس، فبكى يومًا، وبكى الناس معه ¬

(¬1) انظر: طبقات ابن سعد 5/ 341 - 344، ومناقب عمر لابن الجوزي، ص 125 - 127، والبداية والنهاية، 9/ 200 - 213. (¬2) انظر: مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، ص 133 - 141، وطبقات ابن سعد، 5/ 341 - 344، والبداية والنهاية، 9/ 213، وسير أعلام النبلاء، 5/ 129. (¬3) انظر: مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، 133 - 141، وطبقات ابن سعد، 5/ 341 - 344، والبداية والنهاية، 9/ 213، وسير أعلام النبلاء، 5/ 129. (¬4) انظر: طبقات ابن سعد 5/ 341 - 344، وسيرة عمر لابن الجوزي ص 100 - 124، 206، 222، وسير أعلام النبلاء، 5/ 126 - 137، 5/ 147، والبداية والنهاية، 9/ 188.

حتى ارتج المسجد بالبكاء، وصار لحيطانه صوت بالبكاء (¬1). 6 - فقَّه الناس في دين الله، وغرس في قلوبهم حب الكتاب والسنة، وكان يرسل المرشدين إلى البادية؛ ليُفقِّهوا الناس في الدين (¬2). 7 - لم يكتف عمر بن عبد العزيز بالخطوات الحكيمة السابقة في إصلاح أوضاع المسلمين في الدولة الأموية، بل اهتم بأمور غير المسلمين، فأرسل الدعاة إلى الله - عز وجل -؛ ليبلغوا الناس دعوة الإِسلام، ومن ذلك أنه أرسل إلى أفريقيا مجموعة من الدعاة، فأسلم على أيديهم أمم هائلة من البربر وغيرهم. وبتوفيق الله ثم بهذه الخطوات الحكيمة السبع، ظهرت مواقف عمر الحكيمة في إصلاح الأمة وتجديد الدين، ونفع الله به البلاد والعباد، وأنقذ الله به من الظلم (¬3). ¬

(¬1) انظر: سيرة عمر لابن الجوزي ص 218، 222، 225، وسير أعلام النبلاء 5/ 137، 138، والبداية والنهاية 9/ 204. (¬2) انظر: سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد، ص 92. (¬3) انظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 238، والتاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر 4/ 246.

المطلب الرابع من مواقف أبي حنيفة النعمان بن ثابت

المطلب الرابع من مواقف أبي حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله الإِمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (¬1) له مواقف حكيمة كثيرة (¬2) منها موقفه العظيم الحكيم مع الملحدين في دعوتهم إلى الله - تعالى -، وأنه رب كل شيء ومليكه. يذكر أنه اجتمع طائفة من الملاحدة بأبي حنيفة - رحمه الله - فقالوا: ما الدلالة على وجود الصانع؛ فقال: دعوني، فخاطري مشغول بأمر غريب. قالوا ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها، فقالوا له: مجنون أنت؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: إن هذا لا يصدقه عاقل. فقال لهم: فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة، وهذا الفلك الدوَّار السيَّار يجري، وتحدث هذه الحوادث من غير محدث، وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام (¬3) وهذا من أعظم مواقف الحكمة في الدعوة إلى الله، فقد استدل على الخالق بوجود المخلوق، فليس هناك من مخلوق إلا وله خالق ومدبر وهو الله عز وجل، كما أنه ليس هناك من صنعة إلا ولها صانع، ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم. ¬

(¬1) هو الإِمام النعمان بن ثابت بن زوطي التميمي الكوفي، أحد أئمة الإِسلام والسادة الأعلام، ولد سنة 80هـ في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، توفي - رحمه الله - سنة 150 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 6/ 390، والبداية والنهاية 10/ 107. (¬2) انظر: نماذج من مواقف أبي حنيفة الحكيمة في سير أعلام النبلاء 6/ 402، وأعلام المسلمين - أبو حنيفة، لوهبي سليمان غاوجي 5/ 355، 5/ 121، 354. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 3/ 127، والرياض الناضرة للسعدي ص 258.

المبحث الرابع مواقف أتباع التابعين

المبحث الرابع مواقف أتباع التابعين توطئة. المطلب الأول: مواقف الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى. المطلب الثاني: مواقف الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. المطلب الثالث: مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.

توطنة أتباع التابعين هم من القرون المفضلة التي امتدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. .». " (¬1). ولتابعي التابعين مواقف حكيمة في دعوتهم إلى الله - تعالى -، وسأذكر منها - بعون الله - نماذج في المطالب التالية: المطلب الأول: مواقف الإِمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى. المطلب الثاني: مواقف الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى. المطلب الثالث: مواقف الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 5/ 259، ومسلم 4/ 1964، وتقدم تخريجه.

المطلب الأول من مواقف الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى

المطلب الأول من مواقف الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى للإِمام مالك (¬1) - رحمه الله - مواقف حكيمة مشرفة، منها على سبيل المثال ما يلي: 1 - من أعظم مواقف الحكمة التي وقفها: موقفه مع من سأله عن الاستواء. فقد جاء إليه رجل وقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] (¬2) كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض, وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء (¬3) ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال: " الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة " وأمر به فأُخْرِجَ (¬4). وهذا موقف حكيم مُسدّد؛ لأنه أجاب بالإِجابة الصحيحة بعد التأمل والتفكر، فكانت هذه الإِجابة قاعدة ثابتة لأهل السنة والجماعة، تُجْرَى عليها صفات الله - تعالى - كلها، فالكيف للصفة مجهول لنا لا نعرف كيفيتها؛ لأن الله لم يخبرنا بالكيفية، والصفة معلومة بدليلها من الكتاب والسنة الصحيحة أو بأحدهما، والإِيمان بالصفة - التي تثبت بالدليل - واجب، والسؤال عن كيفية الصفة بدعة، وليس المراد بنفي الكيفية تفويض المعنى المراد من الصفات، بل كل صفة من صفات الله - تعالى - ¬

(¬1) الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو، إمام دار الهجرة، ولد سنة 93 هـ عام موت أنس بن مالك بن النضر، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب العلم بصدق وإخلاص، فكان أًحد الأئمة الأربعة، فنفع الله به المسلمين، وتوفي عام 179 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 8/ 49 - 135، والبداية والنهاية 10/ 174، وتهذيب التهذيب 10/ 5. (¬2) سورة طه، الآية 5. (¬3) العرق إثر الحمى، أو عرق يغسل الجلد كثرة. انظر: المعجم الوسيط، مادة (رحض) 1/ 334. (¬4) أبو نعيم في الحلية 6/ 325، وانظر: سير أعلام النبلاء 8/ 100، 101، 106، ومجموع فتاوى ابن تيمية 5/ 26، 5/ 144.

تدل على معنى حقيقي نؤمن به ونثبته لله كما يليق بجلاله (¬1). 2 - من مواقفه الحكيمة ما ردّ به على بعض العُبَّاد حينما كتب إليه يعظه ويحضه على الانفراد والعزلة عن الناس، ويحضه على العمل، فكتب إليه مالك: " إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فربّ رجل فُتحَ له في الصلاة ولم يُفتَحْ له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتحَ لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر " (¬2). وهذا الرد الحكيم المسدد مما يدل على فقه الإِمام مالك وحكمته، فإن نشر العلم خير أعمال البر، وأفضل من نوافل الصلاة والصوم والصدقة وغير ذلك من نوافل العبادات، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» (¬3). وقوله صلى الله عليه وسلم: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» (¬4). فرحم الله مالكًا فقد نطق بالحكمة، وطبق ما كان يقوله ويُرغِّبُ فيه الناس، فكان هو أولى به حيث قال: " بلغني أنه ما زهد أحد في الدنيا واتقى إلا نطق بالحكمة " (¬5). ¬

(¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية 5/ 5 - 121. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 8/ 114. (¬3) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله 3/ 1506. (¬4) البخاري مع الفتح 7/ 476، ومسلم 4/ 1871، وتقدم تخريجه. (¬5) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 8/ 109.

ولهذا قال الإِمام الذهبي (¬1) " إلى فقه مالك المنتهى، فعامة آرائه مسددة " (¬2). ولكن الإِمام مالكًا قد أنصف حينما رسم للناس قاعدة يسيرون عليها، حيث قال: " كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم " (¬3). وهذا كلام حكيم وعظيم يدل على أن جميع الناس ليسوا معصومين من الخطأ، إنما الذي قد عُصِمَ في تبليغ الشريعة هو محمد صلى الله عليه وسلم. 3 - والإِمام مالك كان يصدع بالحق ولا تأخذه في الله لومة لائم، ومن ذلك قول الإِمام الشافعي: " كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء، قال: أما إني على بينة من ربي وديني، وأما أنت فشاك، اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه " (¬4). وهذا الكلام من الدعوة إلى الله بالحكمة؛ لأن من الناس من يحتاجون إلى الغلظة أحيانًا، ولا يخرج ذلك عن الحكمة؛ لأن الله - تعالى - وهو أحكم الحاكمين - قال لأحكم الناس أجمعين: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9] (¬5) وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] (¬6). ¬

(¬1) هو الإِمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ولد - رحمه الله - في شهر ربيع الآخر سنة 673 هـ، بدأ بطلب العلم مبكرًا، ورحل في طلبه، وبرع فيه، ثم عمي قبل موته بأربع سنين أو أكثر بماء نزل في عينيه، وتوفي - رحمه الله - ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة قبل نصف الليل سنة 748 هـ، وله آثار علمية بلغت نحوًا من 215 مؤلفًا - رحمه الله -. انظر: البداية والنهاية 14/ 225، ومقدمة سير أعلام النبلاء 1/ 12 - 140. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء 8/ 92. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 8/ 93. (¬4) انظر: حلية الأولياء 6/ 324، وسير أعلام النبلاء 8/ 99. (¬5) سورة التحريم، الآية 9. (¬6) سورة العنكبوت، الآية 46.

وللإمام مالك مواقف حكيمة كثيرة لا يتسع المقام لذكرها (¬1). ¬

(¬1) انظر: مواقف له حكيمة في: حلية الأولياء 6/ 325، وسير أعلام النبلاء، 8/ 94، 98، 99، وانظر: مواقفه مع بني أمية وحكمه في طلاق المكره وعدم وقوعه في سير أعلام النبلاء 8/ 80، 95، 96.

المطلب الثاني من مواقف الإمام الشافعي رحمه الله

المطلب الثاني من مواقف الإمام الشافعي رحمه الله للإِمام الشافعي (¬1) رحمه الله - مواقف حكيمة تدل على حكمته وصدقه وإخلاصه، ومن مواقفه - رحمه الله تعالى -. موقفه مع أهل الكلام ودفاعه عن علم الكتاب والسنة: وقف الشافعي - رحمه الله - موقفًا حكيمًا مسددًا مع أهل الكلام (¬2) فقال - رحمه الله تعالى -: " حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، ويحملوا على الإِبل، ويطاف بهم في الأسواق والعشائر، يُنادى عليهم ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام " (¬3). ¬

(¬1) هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن السائب، يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، ولد في غزة، وقيل: بعسقلان، سنة 150 هـ، ومات أبوه وهو صغير فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، فنشأ بها وقرأ القرآن، ورحل إلى مالك في المدينة وعرض عليه الموطأ بعد حفظه له، ثم رجع إلى مكة، ورحل إلى اليمن، ثم حمل إلى العراق سنة 184 هـ، ثم عاد إلى مكة ثلاث مرات، ثم رحل من العراق إلى مصر، وبقي بها حتى توفي سنة 204 هـ. انظر: البداية والنهاية 10/ 251. (¬2) العلم بالدين علمان: العلم بالأمور الخبرية الاعتقادية، كالعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأخبار الأنبياء، وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم، ويدخل في ذلك الجنة والنار. . . والجدال في هذا القسم بالعقل يسمى: كلامًا. الثاني: الأمور العملية من أعمال الجوارح والقلوب كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، وهذا من جهة كونه علمًا واعتقادًا أو خبرًا صادقًا أو كاذبًا يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأمورًا به أو منهيًّا عنه يدخل في القسم الثاني. انظر: فتاوى ابن تيمية 11/ 335، 336، 19/ 134. فالجدال في علم العقائد يسمى كلامًا، والسلف الصالح حينما يذمون علماء الكلام فهم يريدون من يتكلم في الدين بغير طريقة المرسلين، عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو الذي ذمه الشافعي - رحمه الله -. انظر: فتاوى ابن تيمية 12/ 460، 461. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 10/ 29، والبداية والنهاية 10/ 254، وفتاوى ابن تيمية 16/ 473.

وقال: " مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط، وتشريدهم في البلاد " (¬1). وقال: " حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ " (¬2). وغرس الشافعي في نفوس الناس بغض الكلام وأهله، وحب الكتاب والسنة والتمسك بهما، قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي (¬3) قلت للشافعي: إن صاحبنا الليث (¬4) كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة. فقال الشافعي - رحمه الله -: قصر الليث - رحمه الله -، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب (¬5). وجاء رجل من أهل الكلام إلى الشافعي - وهو في مصر - فسأله عن مسألة من الكلام فقال له الشافعي: أتدري أين أنت؟ قال الرجل: نعم. قال: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون، أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ قال: لا. قال: هل تكلّم فيه الصحابة؟ قال: لا. قال: هل تدري كم نجمًا في السماء؟ قال: لا. قال: فكوكب منها، تعرف جنسه، طلوعه، أفوله، مم خُلق؟ قال: لا. قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه، تتكلم في علم خالقه؟ ثم سأله الشافعي عن مسألة ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 29. (¬2) قدم صبيغ بن عسل الحنظلي المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر، وقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. قال: وأنا عبد الله عمر، فضربه بعراجين النخل حتى دمي رأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد ذهب الذي كنت أجده في رأسي. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 2/ 198. (¬3) يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة، شيخ البخاري، أبو موسى الصدفي، ولد سنة 170هـ، وتوفي سنة 264 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 12/ 348. (¬4) هو الليث بن عاصم بن كليب، الإِمام القدوة العابد المصري، ولد سنة 115 هـ، وتوفي سنة 211 هـ انظر: تهذيب التهذيب 8/ 419، وسير أعلام النبلاء للذهبي 10/ 188. (¬5) أي: والسنة. انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 510، وسير أعلام النبلاء 10/ 23.

من الوضوء فأخطأ فيها، ففرعها على أربعة أوجه، فلم يصب في شيء من ذلك، فقال له: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات تدع علمه، وتتكلف علم الخالق؟ إذا " هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله، وإلى قوله - تعالى -: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 163 - 164] الآية (¬1) فاسْتَدَلّ بالمخلوق على الخالق، ولا تَتكلف علم ما لم يبلغه عقلك. فتاب الرجل (¬2) على يد الشافعي من علم الكلام، وأقبل على فقه الكتاب والسنة (¬3) وكان يقول بعد التوبة: " أنا خلق من أخلاق الشافعي " (¬4). وقد أصبح هذا الرجل " المزني " عَلَمًا من أعلام الإِسلام في فقه الشافعي. فهذه المواقف الحكيمة في الدفاع عن الكتاب والسنة، وذم الكلام وأهله، والرد عليهم بأسلوب الحكمة، يدل دلالة واضحة على حكمة الشافعي رحمه الله. ومما يدل على حكمته أيضًا أن الله تفضّل عليه وهدى على يديه كثيرًا من أهل الكلام فتركوا باطلهم، وأقبلوا إلى علم الكتاب والسنة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان 163، 164. (¬2) وهذا الرجل الذي تاب من علم الكلام على يد الشافعي، هو المزني، الإمام العلامة علم الزهاد، أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن عمرو بن مسلم المزني المصري، تلميذ الشافعي، ولد سنة 175 هـ، وله المختصر في الفقه، وقد شرحه عدة من العلماء، توفي - رحمه الله - سنة 264 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 12/ 492. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 25، 26، 31، 32. (¬4) انظر: المرجع السابق 12/ 492.

المطلب الثالث من مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله

المطلب الثالث من مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله للإمام أحمد (¬1) -رحمه الله- مواقف حكيمة تدل على حكمته وصدقه مع الله، وإخلاصه، ومن مواقفه رحمه الله تعالى: موقفه الحكيم الذي حفظ الله به القرآن الحكيم: كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائمًا، حتى ظهرت الخوارج، وكفَّرَتْ سادات الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب، وفي آواخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمشبهة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها؛ لأن الخلفاء والملوك والولاة لم يكن لهم دور في إظهار البدع والدعوة إليها، إلى ظهور المأمون (¬2) فاستجلب كتب الأوائل، وعرَّب حكمة اليونان، ورفع الجهمية والمعتزلة والشيعة رؤوسهم، وأظهر المأمون عام 212هـ القول بخلق القرآن، وحمل الأمة على القول بذلك، ثم امتحن العلماء وعذبهم عام 218هـ (¬3). وفي آخر حياته قبل موته بأشهر خرج إلى طرطوس لغزو الروم، وكتب إلى نائبه ببغداد يأمره أن يدعو الناس ويلزمهم بالقول بخلق القران، فألزم ¬

(¬1) الإمام حقًّا، وشيخ الإسلام صدقًا، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أحد الأئمة الأعلام، ولد ببغداد سنة 164هـ، وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين فكفلته أمه، وبدأ بطلب العلم، وحج سنة 187هـ، ثم رحل إلى صنعاء ليأخذ العلم عن عبد الرزاق صاحب المصنف، ثم عاد إلى بغداد، وواصل طلب العلم والتعليم، وتوفي يوم الجمعة 12/ 4 / 241هـ، وحضر جنازته ألف ألف وخمسمائة ألف. انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 177، 11/ 340، والبداية والنهاية 10/ 325، 10/ 342، وتهذيب التهذيب لابن حجر 1/ 62. (¬2) المأمون، هو عبد الله بن هارون الرشيد، ولد سنة 170هـ، وبويع بالخلافة في 25 محرم عام 198هـ، وكان داعية للقول بخلق القران فقصمه الله بدعوة الإمام أحمد، وتوفي في 25 محرم، سنة 218هـ. انظر البداية والنهاية 10/ 274. (¬3) سير أعلام النبلاء 11/ 236، وتاريخ الحلفاء للسيوطي ص 306، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 5/ 197 - 200.

الناس بذلك، وبعث بجماعة من أهل الحديث إلى المأمون، فامتحنهم بخلق القران، فأجابو وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد، وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء ففعل نائبه ذلك، وأحضر خلقًا كثيرًا من أئمة الحديث والفقهاء وأئمة المساجد وغيرهم، ودعاهم إلى القول بخلق القرآن عن أمر المأمون، وذكر لهم موافقة أولئك المحدِّثين له على ذلك، فأجاب منهم جماعة (¬1) وما زال يُهدّد من امتنع منهم بالضرب وقطع الأرزاق، حتى أجابوه إلى ذلك كلهم أجمعون إلا أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح (¬2) ولا شك أن أكثر المحدثين الذين أجابوا إلى ذلك تأولوا قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] (¬3). ثم قُيِّد الِإمام أحمد ومحمد بن نوح بالحديد، وحملا إلى المأمون، وعندما وصلا إلى جيش الخليفة ونزلا دونه بمرحلة جاء خادم من الجيش وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه، ويقول للِإمام أحمد: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفًا لم يسله قبل ذلك، ويقسم لئن لم تُجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنَّك بذلك السيف، فجثى الإمام أحمد على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء، وقال: اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤونته. فجاء الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، ففرح أحمد، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية 10/ 272، 331. (¬2) محمد بن نوح، قال عنه أحمد: ما رأيت أحدًا على حداثة سنه وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله، الله الله، إنك لست مثلي، أنت رجل يقتدى بك، قد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتق الله، واثبت لأمر الله،. . . فمات وصليت عليه ودفنته. انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 242. (¬3) سورة النحل، الآية 106.

أبي دؤاد (¬1) وأن الأمر شديد، فُرِّد أحمد ومحمد إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ومات محمد بن نوح في الطريق، فصلى عليه أحمد (¬2) ووصل أحمد إلى بغداد في رمضان سنة 218هـ وأُودع السجن نحوًا من ثمانية وعشرين شهرًا، وقيل أكثر من ثلاثين شهرًا، وقد كان في هذه المدة يصلي بأهل السجن والقيود في رجليه (¬3) وكان المعتصم يوجه إليه من يناظره في السجن فيفوز عليهم الإمام أحمد بحجته ودليله، فيُزَاد في قيوده، ثم طلب المعتصم حضوره لديه، فَحُمِلَ على دابة وعليه الأقياد، ما معه من يمسكه إلا الله، وكاد أن يسقط على وجهه لثقل القيود، ولكن الله سلَّم، ثم دخل على المعتصم وأحمد بن أبي دؤاد حاضر عنده، وقد جمع خلْقًا كثيرًا من أصحابه (¬4) ثم قال المعتصم لأعوانه: ناظروه، فقيل له: ما تقول في القرآن؛ فقال أحمد: ما تقول في علم الله؛ فسكت المناظر له، فقال أحمد: من زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله. فقالوا: يا أمير المؤمنين كَفَرَ وكَفَّرنا. فقال بعضهم: أليس قال الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] (¬5) والقرآن أليس شيئا؟ فقال أحمد: قال الله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] (¬6) فدمرت كل شيء إلا ما أراد الله. ¬

(¬1) أحمد بن أبي دؤاد فرج بن جرير بن مالك المعتزلي، ولد سنة 160هـ، ولي قضاء القضاة للمعتصم، ثم للواثق، وأعلن مذهب المعتزلة، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين، وحُرِمَ لذة الطعام والشراب والنكاح، وغير ذلك، توفي يوم السبت لسبع بقين من محرم سنة 240هـ. انظر: البداية والنهاية 10/ 319 - 322. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 242. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 342، 343، والبداية والنهاية 10/ 332. (¬4) انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 343، والبداية والنهاية 10/ 332. (¬5) سورة الزمر، الآية 62. (¬6) سورة الأحقاف، الآية 25.

قال أحمد: فكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضالّ مُضِلّ مبتدع، فيقول المعتصم: كلِّموه، ناظروه، فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوٍا قال المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؛ فأقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به. فيقول أحمد بن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟ (¬1) فقال أحمد: وهل يقوم الِإسلام إلا بهما؛ وجرت مناظرات طويلة. قال أحمد: لقد احتجوا علي بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أن أحكيه، أنكروا الآثار، وما ظننتهم على هذا حتى سمعته، وجعلوا يرغون، يقول الخصم كذا وكذا، فاحتججت عليهم بالقرآن: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} [مريم: 42] (¬2) أفهذا منكر عندكم؟ فقالوا: شبَّه يا أمير المؤمنين، شبَّه. وطال المجلس، وقام المعتصم ورُدَّ أحمد إلى حبس في البيت، ثم وجه إليه من يبيت معه ويناظره، ثم أُحضِرَ أحمد في اليوم الثاني وناظروه إلى قرب الزوال، ثم قام المعتصم ورد أحمد إلى مكانه، وفي اليوم الثالث جيء به فناظروه، وفي هذه الأيام كلها يعلو صوته صوتهم، وتغلب حجته حجتهم، فغلبهم بالحجة والبرهان (¬3) حتى قال عنه صاحب شرطة المعتصم (¬4) ما رأيت أحدًا لم يداخل السلطان، ولا خالط الملوك كان أثبت قلبًا من أحمد يومئذ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذبان (¬5). ¬

(¬1) يعني القرآن والسنة!!. (¬2) سورة مريم، الآية 42. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 244 - 250، والبداية والنهاية 10/ 333. (¬4) صاحب شرطة المعتصم، هو: محمد بن إبراهيم بن مصعب، وهو أخو إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، نائب المأمون على بغداد. انظر: البداية والنهاية 10/ 272، 10/ 331، وسير أعلام النبلاء 11/ 240. (¬5) انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 240.

وطالت المناظرة، فغضب المعتصم وقال لأحمد: لعنك الله طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واسحبوه، خلِّعوه، فأُخِذَ وسُحِبَ وخُلِّع وجُرِّدَ، ووقف به بين الجمهور؛ لجلده وتعذيبه، فقال أحمد: "يا أمير المؤمنين، اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك ". فلما رأى المعتصم ثباته وتصميمه وصلابته فكأنه أمسك حتى أغراه أحمد بن أبي داؤد، وقال: "يا أمير المؤمنين، إن تركته قيل: قد ترك مذهب المأمون، وسخط قوله "، فهاجه ذلك على ضربه، ثم بدأ الجلادون يضربون، فيتقدم الرجل منهم فيجلده سوطين، والمعتصم يقول: شد قطع الله يدك. وأُغمِيَ على أحمد، وذهب عقله مرارًا، ويعيدون الضرب ولم يحس بالضرب، وجاء المعتصم إليه ثلاث مرات وهو يُجْلَد يدعوه إلى القول بخلق القران، فيمتنع، ويعيدون الضرب، ثم أمر المعتصم بإطلاقه، بعد أن ضُرِبَ نيفًا وثلاثين سوطًا، وقيل ثمانين سوطًا، ولكنه كان ضربًا مبرحًا، ولم يشعر الإمام أحمد إلا وهو في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجليه، ثم أمر المعتصم بإطلاقه إلى أهله، وكان ذلك في 25 رمضان سنة 221هـ، ووصل إلى بيته (¬1) وجاء إليه طبيب في بيته فقال: قد رأيت من ضُرِبَ ألف سوط، ما رأيت ضربًا مثل هذا، وجعل يعالجه ويقطع اللحم الميت من جسده، وأحمد صابر، ويجهر بحمد الله، وبقي أثر الضرب في ظهره حتى مات - رحمه الله- (¬2) وجعل كل من آذاه في حل بعد أن شفاه الله إلا أهل البدع، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] (¬3). ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 250 - 254، والبداية والنهاية 10/ 332 - 335. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 256، والبداية والنهاية 10/ 335. (¬3) سورة الشورى، الآية 40.

وبعد أن توفي المعتصم، وولي الخلافة الواثق (¬1) فأظهر ما أظهر والده من القول بخلق القرآن، ثم جاءت رسالة إسحاق بن إبراهيم إلى أحمد، يقول فيها: "إن أمير المؤمنين قد ذكرك فلا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكنني بأرض ولا مدينة أنا فيها، فاذهب حيث شئت من أرض الله". فاختفى أحمد -رحمه الله- بقية حياة الواثق في غير منزله، ثم عاد إلى منزله عندما طفئ خبره، ولم يزل مختفيًا في البيت لا يخرج إلى صلاة ولا إلى غيرها حتى هلك الواثق (¬2) ثم ولي المتوكل (¬3) الخلافة فأظهر الله السنة، وفرج عن الناس، وقمع البدع وأهلها، ونصر أهل السنة (¬4). وكتب الإمام أحمد رسالة عظيمة إلى المتوكل، وبيَّن فيها الرد على من قال بخَلْق القرآن، واستدل على أن القران كلام الله بالبراهين القطعية من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة، ودعا للمتوكل بالتوفيق وحسن العاقبة (¬5). الله أكبر! ما أعظم هذه المواقف الحكيمة نحو كتاب الله -تعالى- فإن الناس كلهم في الظاهر قد وافقوا المأمون على القول بخلق القرآن راغبين ¬

(¬1) هو الواثق بالله هارون بن المعتصم بن هارون الرشيد، ولد سنة 196هـ، وبويع بالخلافة بعد المعتصم في ربيع الأول 227هـ، وتوفي في ذي الحجة سنة 232هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 306. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 264. (¬3) المتوكل على الله، هو جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، ولد سنة 207هـ، وبويع بالخلافة بعد أخيه الواثق في ذي الحجة سنة 232هـ، ونصر الله به الحق وأهل السنة، وقمع به أهل الباطل وبدعهم، ثم قتله ابنه محمد بمعاونة بعض أعداء الإسلام في شوال سنة 247هـ، فرحمه الله وغفر له. انظر: البداية والنهاية 10/ 349. (¬4) انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 268 - 280، والبداية والنهاية 10/ 338 - 340. (¬5) انظر: نص الرسالة في سير أعلام النبلاء 11/ 281 - 286، وهي من أعظم الرد على من قال بخلق القرآن، والبداية والنهاية 10/ 340، وانظر: سير أعلام النبلاء 11/ 177 - 358، والبداية والنهاية 10/ 325 - 342.

وراهبين، ولم يبق مُنكِرٌ لذلك إلا أحمد ومحمد بن نوح، ثم مات ابن نوح، وبقي أحمد وحده، فثبت واستعان بالله، فأثبت للناس أن القرآن كلام الله بقوله ومناظرته وفعله، وصبره على العذاب في عهد المأمون، ثم المعتصم (¬1) ثم الواثق، ولولا الله وحده ثم الإمام أحمد لساد القول بخلق القرآن بين المسلمين، وخاصة عامة الناس، ولكن الناس ينظرون إلى أحمد وثباته وحججه وبراهينه، فثبتوا على القول بأن القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، وإن لم يظهروا ذلك للدولة، ولكن يعتقدون ذلك بقلوبهم، فحفظ الله كتابه، وأظهر الحق على يد الِإمام أحمد -رحمه الله تعالى- بهذه المواقف الحكيمة. ¬

(¬1) المعتصم: هو محمد بن هارون الرشيد، ولد سنة 180هـ، وأمه أم ولد، بويع في عهد المأمون في 14/ 7 / 218هـ، وامتحن الناس بخلق القرآن، وشدد على الإمام أحمد وضربه بالسياط، وكتب إلى الأمصار يأمرهم بالقول بخلق القرآن، وبقي القول بخلق القرآن حتى أزاله المتوكل بعد 14 عامًا. مات المعتصم في 11/ 3 / 224هـ، وله 47 سنة وسبعة أشهر. انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 306.

المبحث الخامس نماذج من مواقف الحكمة عبر العصور

المبحث الخامس نماذج من مواقف الحكمة عبر العصور تمهيد. المطلب الأول: مواقف الإمام منذر بن سعيد البلُّوطي رحمه الله تعالى. المطلب الثاني: مواقف سلطان العلماء: العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى. المطلب الثالث: مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. المطلب الرابع: مواقف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.

تمهيد بعد أن انقرضت القرون المُفضَّلة التي امتدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «خير الناس قرني، ثم الذين يَلُونهم». . . ". الحديث (¬1) بعد ذلك جاء أناس يشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم الضعف والخور، والبدع والخرافات، والصد عن دين الله، ولكن- وللَّه الحمد والمنة- لا يزال حفظ الله لهذا الدين قائمًا، لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] (¬2) وتكفل الله باستمرار الحفظ إلى قيام الساعة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» (¬3). وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الله يبعث لأمته على رأس كل قرن من يجدد لها دينها، ويبين لها أحكام الكتاب والسنة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (¬4) وسأتناول- إن شاء الله- في هذا المبحث نماذج من أبطال الرجال وحكمائهم، وأبين بعض مواقفهم التي تظهر فيها الحكمة في الدعوة إلى الله- تعالى- في المطالب التالية: ¬

(¬1) البخاري مع الفتح 5/ 259، ومسلم 4/ 1964، وتقدم تخريجه. (¬2) سورة الحجر، الآية 9. (¬3) أخرجه مسلم بلفظه في كتاب الِإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم 3/ 1523، والبخاري مع الفتح- كتاب المناقب، باب حدثنا محمد بن المثنى 6/ 632. (¬4) أبو داود 4/ 109، والحاكم 4/ 522، وتقدم تخريجه ص272.

المطلب الأول: مواقف إمام علماء الأندلس: منذر بن سعيد البلُّوطي رحمه الله. المطلب الثاني: مواقف سلطان العلماء: العز عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله. المطلب الثالث: مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. المطلب الرابع: مواقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.

المطلب الأول مواقف الإمام منذر بن سعيد البلوطي

المطلب الأول مواقف الإمام منذر بن سعيد البلُّوطي منذر بن سعيد (¬1) البلُّوطي له مواقف حكيمة في دعوته إلى الله -تعالى- تدلُّ على حكمته، وفضله، وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم ومن هذه المواقف الحكيمة على سبيل المثال ما يأتي: 1 - موقفه الحكيم مع سلطان الأندلس: دخل المنذر بن سعيد يومًا على الناصر لدين الله (¬2) وقد فرغ من بناء المدينة الزهراء وقصورها، حيث ساق إليها أنهارًا، نقب لها الجبل، وأنشأها مدوَّرةً، وعدة أبراجها ثلاث مئة بُرج، شرفاتها من حجر واحد، وقسَّمها أثلاثًا: فالثلث المسند إلى الجبل قصورهُ، والثلث الثاني دور المماليك والخدم، والثلث الثالث بساتين تحت القصور. وعمل مجلسًا مُشرفًا على البساتين، صَفّحَ عُمُدَه بالذهب، ورصَّعه بالياقوت، واللؤلؤ، وفرشه بمنقوش الرخام، وصنع قدَّامه بحرةً مستديرة ملأها زئبقًا، فكان النور ينعكس منه إلى المجلس، وقعد في هذه القبة المزخرفة بالذهب والبناء ¬

(¬1) هو: منذر بن سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمن النَّفْزي القربطي، أبو الحاكم البلُّوطي، قاضي قضاة الأندلس في عصره، كان إمامًا عالمًا فصيحًا، خطيبًا بليغًا مفوهًا، شاعرًا أديبًا، فقيهًا محققًا، كثير الفضل، جامعًا لصنوف من الخير والتقوى والزهد، ولم تحفظ عليه قضية جور مدة ولايته، وله كتب في القرآن والسنة على أهل الأهواء، وله اختيارات، ومن تصانيفه: كتاب "الإنباه عن الأحكام من كتاب الله" وكتاب "الإبانة عن حقائق أصول الديانة "، واستسقى غير مرة، فأنزل الله المطر، وخطب يومًا فأعجبته نفسه، فقال: (حتى متى أعِظُ ولا أتعِظُ، وأزجر ولا أزدجر، أدلُّ على الطريق المستدلين، وأبقى مُقيمًا مع الحائِرين، كلا إن هذا لَهُو البلاء المبين. اللهم فرَغِّبْني لما خلقتني له، ولا تشغلني بما تكفَّلْتَ لي به)، وذكر أنه ولد -رحمه الله- سنة 265هـ، وقد توفى انسلاخ ذي الحجة، سنة 355هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، 16/ 173 - 178، والبداية والنهاية، 11/ 288، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب؛ لعبد الحي بن العماد الحنبلي، 3/ 17، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 7/ 82، والأعلام لخير الدين الزِرِكْلي، 7/ 294، وتاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس، لعبد الله بن محمد الأزدي بن الفارض، 2/ 142. (¬2) سلطان الأندلس عبد الرحمن بن محمد المدعو: أمير المؤمنين الناصر لدين الله، قام بغزوات عديدة، وفتح سبعين حصنًا، توفي في رمضان 350هـ، انظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 265، 15/ 562.

البديع الذي لم يسبق إليه، وجلس عنده جماعة من الأعيان رؤوس دولته وأمراؤه، فقال لهم: هل بلغكم أن أحدًا بنى مثل هذا البناء؟ فقال له الجماعة: لم نرَ ولم نسمع بمثله، وجعل جميع من حضر يثنون على ذلك البناء ويمدحونه وأثنوا وبالغوا، ومنذر بن سعيد القاضي ساكت مطرق لا يتكلم. فالتفت إليه الملك وقال: ما تقول أنت يا أبا الحكم؟ فبكى القاضي وانحدرت دموعه على لحيته، وقال: والله ما كنت أظن يا أمير المؤمنين أن الشيطان أخزاه الله يبلغ منك هذا المبلغ المهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، ولا أنك تمكِّنه من قيادك هذا التمكين مع ما آتاك الله وفضَّلك به على كثير من الناس، حتى أنزلك منازل الكافرين والفاسقين. فقال له الخليفة: انظر ما تقول وكيف أنزلني منازل الكافرين؟ فقال: قال الله -تعالى-: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ - وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ - وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33 - 35] (¬1) فنكس الناصر رأسه طويلًا، وبكى، ثم قال: جزاك الله عنَّا خيرًا وعن المسلمين، وأكثر في المسلمين مثلك، الذي قلت هو الحق ثم قام عن المجلس وأمر بنقض سقف القبة، ونزع الذهب والجواهر (¬2). الله أكبر ما أحكمه من موقف نُزِعَ بسببه الذهب والجواهر، وغُيِّر به المنكر، وتأثر به الخليفة!. وقد خطب منذر بن سعيد خطبة عظيمة في يوم الجمعة عندما حضر ¬

(¬1) سورة الزخرف، الآيات 33 - 35. (¬2) انظر: الكامل لابن الأثير، 7/ 82، والبداية والنهاية، 11/ 288، وسير أعلام النبلاء، 8/ 267 - 268 و 16/ 177.

الناصر في جامع الزهراء (¬1) فأدخل في خطبته قوله- تعالى-: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ - وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ - وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ - أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ - وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 128 - 135] (¬2) واسترسل يقول: ولا تقولوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ - إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ - وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 136 - 138] (¬3) {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77] (¬4). وقد قيل: إن الناس ضجوا بالبكاء وتأثر الخليفة بهذه الخطبة. فرحم الله المنذر ما أحكمه!: وجزاه الله خيرًا. 2 - موقفه الحكيم في تأثيره على الناس: أصاب الناس قحط في بعض السنين، فأمر القاضي: منذر بن سعيد بالبروز إلى الاستسقاء بالناس، فصام أيامًا وتأهب. وقيل: إن عبد الرحمن الناصر هو الذي أمره بالاستسقاء للناس، فلما جاءته الرسالة قال للرسول: كيف تركت الملك؟ فقال: تركته أخشع ما يكون، وأكثره دعاءً وتضرعًا، ففرح منذر بن سعيد بذلك وأمر غلامه أن يحمل ما يَقِيهم من المطر، وقال. سُقِيتم والله إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء. ثم قال لغلامه: نادِ في الناس بالصلاة فجاء الناس إلى محل الاستسقاء، ثم خرج القاضي منذر، راجلًا، متخشعًا، ثم وصل المصلي وقام ليخطب، والناس ينظرون ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء، 16/ 177. (¬2) سورة الشعراء، الآيات 128 - 135. (¬3) سورة الشعراء، الآيات 136 - 138. (¬4) سورة النساء، الآية 77.

إليه يسمعون ما يقول، فلما رأى الحال بكى، وافتتح خطبته بقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] (¬1) ثم أعادها مرارًا فضج الناس بالبكاء والنحيب والتوبة والإنابة، وقال: استغفروا ربكم، وتوبوا إليه، وتقربوا بالأعمال الصالحات لديه، فجأرُوا بالدعاء والتضرع، وخطب فأبلغ، فلم ينفض القوم حتى نزل غيث عظيم (¬2). وأخبار هذا القاضي كثيرة حسنة جدًّا، ومنها: أنه استسقى مرةً فقال يهتف بالخلق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ - إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر: 15 - 16] (¬3) فهذا الموقف من أعظم المواقف الإيمانية الحكيمة؟ لأن الداعية إذا صدق مع الله- تعالى- وتأثر بما يدعو إليه، تأثر الناس في الغالب؟ ولهذا صدق منذر ففتح الله له قلوب الناس، واستجاب الله لهم فأنزل عليهم الغيث بفضله وكرمه. فحري بالدعاة إلى الله- تعالى- أن يسلكوا مسالك الحكمة في دعوتهم إلى الله تعالى. ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية 54. (¬2) انظر: الكامل لابن الأثير، 7/ 82، وسير أعلام النبلاء، 6/ 176، والبداية والنهاية، 11/ 289. (¬3) سورة فاطر، الآية 15 - 16.

المطلب الثاني مواقف سلطان العلماء العز بن عبد السلام

المطلب الثاني مواقف سلطان العلماء: العز بن عبد السلام العز بن عبد السلام، الملقب بسلطان العلماء (¬1) له مواقف حكيمة كثيرة في دعوته إلى الله -تعالى-، فقد أزال بإنكاره الحكيم كثيرًا من المنكرات، وباشر تبطيل بعضها بنفسه، ومن ذلك: إبطاله كثيرًا من البدع المنتشرة: كصلاة الرغائب، وصلاة ليلة النصف من شعبان، وبدعة دق المنبر بالسيف (¬2) وحكمته في بيع الملوك الأرقاء وصرف ثمنهم في بيت مال المسلمين (¬3) وذوده الحكيم عن أموال المسلمين، ومن ذلك أن السلطان وعساكره- عندما دهمت التتار البلاد عقب وقعة بغداد- استشاروا الشيخ فقال: اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر، فقال السلطان: إن المال في خزانتي قليل وأنا أريد أن أقترض من التجار، فقال الشيخ عز الدين: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام وضربته سكةً ونقدًا، وفرقته في الجيش، ولم يقم بكفايتهم ذلك الوقت اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا. فأحضر السلطان والعسكر ما عندهم من ذلك وامتثلوا أمره فانتصروا بإذن الله -تعالى- (¬4). ¬

(¬1) هو: عبد العزيز بن عبد السلام، بن أبي القاسم، الشافعي، له مصنفات حسان، جمع علومًا كثيرةً، وأفاد الطلبة، وولي خطابة دمشق، ثم سافر إلى مصر ودرّس بها وخطب، وحكم، وأعز الله به الإسلام والمسلمين، فلقبه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد -تلميذه- بسلطان العلماء، وسيرته -رحمه الله- مملوءةً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح للملوك والسلاطين، فلم تأخذه في الله لومة لائم. ولد -رحمه الله- سنة 577هـ، أو 578هـ، وتوفي -رحمه الله- في عاشر جمادى الأولى، سنة 660هـ، وحضر جنازته السلطان الظاهر وخلق كثير رحمه الله. انظر: البداية والنهاية، 13/ 235، وطبقات الشافية لعبد الوهاب بن تقي الدين السبكي، 5/ 80 - 102، والأعلام لخير الدين الزركلي، 4/ 21. (¬2) انظر: طبقات الشافعية للسبكي، 5/ 80. (¬3) انظر: المرجع السابق، 5/ 84، وصفحات مطوية من حياة سلطان العلماء العز بن عبد السلام، لسليم بن عيد الهلالي، ص31. (¬4) انظر. طبقات الشافعية، 5/ 83.

ومن أعظم مواقفه الحكيمة التي تجلت حكمته فيها في دعوته إلى الله -تعالى- موقفه مع سلطان الديار المصرية: أيوب بن الكامل (¬1) فقد دخل سلطان العلماء مرةً إلى هذا السلطان في يوم عيد، فشاهد العسكر مصطفين بين يديه وقد خرج على قومه في زينته، وأخذت الأمراء تُقبِّل الأرض بين يديه، والعز بن عبد السلام يرى هذا الموكب العظيم، فالتفت -رحمه الله- إلى السلطان، وناداه: يا أيوب! ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبويء لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟! فقال: هل جرى هذا؟ فقال العز: نعم الخانة الفلانية يباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون. فقال السلطان أيوب: يا سيدي! أنا ما عملته هذا في زمان أبي. فقال العز: أنت من الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] (¬2) فرسم السلطان بإبطال تلك الخانة ومنع بيع الخمور. ورجع العز منتصرًا مسرورًا؟ لتغيير هذا المنكر، وقال له بعض تلاميذه (الباجي): يا سيدي كيف الحال؟ فقال العز بن عبد السلام: يا بني رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينه؟ لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه. فقال له: يا سيدي! أما خفته؟ فقال. والله يا بني لقد استحضرت هيبة الله -تعالى- فصار السلطان قدَّامي كالقط! (¬3). الله أكبر ما أحكم هذا الموقف الذي بسببه أُزيلت أمّ المنكرات، وأم الخبائث، مع ما أُزيل معها من المنكرات الأخرى، وانتشار الخير بين الناس. - فرحم الله العز بن عبد السلام، وجزاه الله خيرًا، ورفع درجته. ¬

(¬1) هو الملك الصالح أيوب، ابن السلطان الملك الكامل محمد بن العادل، ولد سنة 603 بالقاهرة، وتوفي في ليلة النصف من شعبان سنة 647هـ، انظر: سير أعلام النبلاء، 23/ 187 - 192. (¬2) سورة الزخرف، الآية 22. (¬3) طبقات الشافعية، 5/ 81 - 82.

المطلب الثالث من مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

المطلب الثالث من مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله منذ نهاية القرن الرابع الهجري بدأت عوامل الضعف والانحلال تدب في كيان الأمة الإسلامية، وتوالت عليهم المحن والنكبات، فتعرضوا لموجات التتار من الشرق، والحروب الصليبية من الغرب، وبقيت بلاد الشام حوالي قرنين من الزمان تحت حكم الأوربيين، فاحتل الصليبيون دمشق وما جاورها سنة 491هـ، وبيت المقدس سنة 492هـ، وظلت الحرب مستمرة بين المسلمين والإفرنج مدة طويلة، ثم احتل الإفرنج مدينة دمياط بمصر، وخرج التتار من أطراف الصين، فاحتلوا بلاد تركستان، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر، مثل سمرقند، وبخارى، وغيرهما، ثم عبرت طائفة منهم إلى خراسان، وإلى حد العراق، ثم تمكن التتار عام 657هـ أو 656هـ من احتلال بغداد، وبذلك سقطت هيبة الخلافة الإسلامية، وانتهت الخلافة العباسية، وبعد ذلك احتل التتار بلاد الشام، ثم جاء بعد ذلك دور المماليك في القيادة الإسلامية (¬1). ومن هذا يعلم أن شيخ الإسلام (¬2) ظهر في عصر قد اضطربت فيه السياسة والحكم وظهرت فيه انحرافات في العادات والتقاليد والسلوك والحياة، واشتدت فيه غربة الإسلام، وتفرقت كلمة المسلمين، وظهرت الفرق المخالفة لما كان عليه السلف الصالح في العقائد والفروع، وخيّم الجمود الفكري والتقليد الأعمى، فأثر في الجو العلمي، وظهرت فرق ¬

(¬1) انظر: البدابة والنهاية 10/ 317، و 11/ 98، 12/ 155، 12/ 156 - 332، 13/ 1 - 227، 14/ 2 - 173، والتاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر 6/ 5 - 345، 7/ 11 - 321، وشيخ الإسلام أحمد تقي الدين: جهاده ودعوته، للشيخ أحمد القطان ومحمد الزين ص 8. (¬2) هو شيخ الإسلام وحافظ الدنيا المجتهد في الأحكام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي، ولد بحران يوم الاثنين 10/ 3 / 661هـ، وتوفي -رحمه الله- ليلة الاثنين 20 من ذي القعدة 728هـ، انظر: الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، ص14، والبداية والنهاية، 14/ 135.

عنايته بالعلم قبل العمل

الشيعة، والصُّوفية المنحرفة والقبورية، ونفاة الصفات: كالجهمية والمعتزلة والقدرية، وطغى علم الكلام والفلسفة حتى حلَّا محلّ الكتاب والسنة لدى الأكثرية من المتعلمين في الاستدلال، هذا كله في داخل المجتمع الإسلامي في ذلك العصر، مع تكالب أعدائه من الخارج، فحصل من البلاء ما الله به عليم (¬1). في هذا الجو المعتم عاش شيخ الإسلام، فكيف يعمل حتى يصلح هذه المفاسد ويظهر النور في هذه الظلمات؟ ما هو الموقف الحكيم الذي سلكه حتى أنار الله به الطريق لهذا المجتمع وألزمهم بالكتاب والسنة والإجماع وعقيدة السلف الصالح الصافية النقية؟ وبالنظر في ذلك نجد أن الشيخ -رحمه الله- وقف مواقف حكيمة لإظهار علم الكتاب والسنة، وقمع أهل البدع والأهواء. ومن مواقفه في رفع وإزالة هذا البلاء الواقع ما يلي: 1 - عنايته بالعلم قبل العمل: عندما علم شيخ الإسلام أنه لا يزيل هذه الظلمات إلا نور علم الكتاب والسنة، بدأ بطلب العلم النافع، فتعلَّم وتفقَّه، وهذا مما يدل على حكمته، لأنه لا حكيم إلا بالعلم النافع، وفاقد الشيء لا يُعطيه. 2 - بث النور ونشر العلم ونفع الأمة: بعد أن تسلَّح بسلاح علم الكتاب والسنة بدأ يبث النور بنشر العلم في هذا المجتمع المعتم، ويؤسس أركانًا من تلاميذه حتى يستفيد الناس، وكان يحضر المحافل ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يُحار منه أعيان البلد في العلم والمواقف الحكيمة في دعوته إلى الله. ¬

(¬1) انظر: من مشاهير المجددين في الإسلام للدكتور صالح بن فوزان، ص52.

مواقفه الحكيمة مع قازان وقوات التتار

3 - مواقفه الحكيمة مع قازان وقوات التتار: لم يقتصر الشيخ تقي الدين على طلب العلم النافع وتعليمه للناس، وترسيخ العقيدة في أذهانهم، وحثِّهم على الجهاد في سبيل الله تعالى، بل قد قام بتطبيق ما يدعو إليه، ويرغب في ثوابه من الجهاد في سبيل الله -تعالى-، فقد هجم التتار على دمشق، وكانت حينئذ ولاية تابعة لسلطان المماليك في مصر، فجهَّز السلطان جيشًا ليرد التتار عن بلاد الشام، فكانت الوقعة بين الجيش وقوات " قازان " في 27 ربيع الأول 699هـ، ولكن كانت الغلبة لجيشي التتار، وعادت عساكر السلطان إلى مصر، ودخل التتار إلى دمشق، وعاثوا في الأرض فسادًا، وحينئذ اجتمع الشيخ تقي الدين بأعيان البلد، واتفقوا على السير إلى قازان في يوم الاثنين الثالث من ربيع الثاني سنة 699هـ (¬1) والتحدث إليه، فلما وصلوا إلى قازان قائد التتار في بلدة النبك، المجاورة لدمشق، قابله الشيخ، وطلب منه الأمان لأهل دمشق، ورد الأسرى من المسلمين وأهل الذمة، ثم تكلم معه كلام الأبطال الشجعان، فأنزل الله الرعب في قلب السلطان، وسأل: من هذا الشيخ؟ فإني لم أرَ مثله، ولا أثبت قلبًا منه، ولا أوقع منه حديثًا في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقيادًا لأحد منه، فأُخْبِر بما له وما هو عليه من العلم والعمل، ثم قال له الشيخ بواسطة الترجمان: "إنك تزعم أنك مسلم، ومعك قاض، وإمام وشيخ، ومؤذنون، فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين، وما عملا الذي عملت عاهدا فوَفَّيَا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت، وجُرْت". ثم قدم لهم قازان طعامًا فأكلوا، ولم يأكل ابن تيمية، فسئل عن ذلك؟ قال: كيف آكل من طعامكم، وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية 14/ 7، 14/ 10، 14/ 14.

بما قطعتم من أشجار الناس، فطلب منه قازان الدعاء، فقال في دعائه: "اللهم إن كان عبدك هذا إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا؟ وليكون الدين كلّه لك، فانصره وأيده، وملّكه البلاد والعباد، وإن كان إنما قام رياءً وسمعةً وطلبًا للدنيا ولتكون كلمته هي العليا، وليذلِّ الإسلام وأهله، فاخذله وزلزله ودمره واقطع دابره "، وقازان يرفع يديه ويؤمن على دعائه. وقد خاف الناس على الشيخ القتل في هذا الموقف، ولكن الله أنزل الرعب في قلوب أعدائه (¬1). وقد أجابه قازان إلى حقن دماء المسلمين، وبلغه ما أراد، ورد عليه الأسرى من المسلمين، فلم يقبل الشيخ حتى ردَّ جميع الأسرى من المسلمين ومن أهل الذمة من اليهود والنصارى، ثم رجع الشيخ مكرَّمًا معززًا، قد وفَّقه الله ونصره لحسن قصده وإخلاصه في نيته، فنفع الله به المسلمين وأعزَّهم ونصرهم (¬2). ولم يكن هذا الموقف هو الوحيد، بل له مواقف حكيمة ظهرت فيها شجاعته، منها حثِّه السلطان على الجهاد، وذلك أنه ركب إلى مصر يطلب من السلطان أن يُرسل جيوشًا، أو يتخلى عن الشام ويولِّي عليه ابن تيمية غيره، فأجابه السلطان وأرسل الجيوش، وذلك سنة 700هـ ثم رجع الشيخ من مصر إلى الشام، ووصل في 27 من جمادى الأولى سنة 700هـ، وحثَّ جميع الناس على الجهاد في سبيل الله، فوصلت الجيوش، ورجع جيش التتار، وعبر الفرات (¬3) وكفى الله المؤمنين القتال. ولم يقتصر ابن تيمية على ما سبق، بل له مواقف أخرى تدل على بطولته ¬

(¬1) البداية والنهاية 14/ 89، وانظر: حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، لمحمد البيطار ص23 - 25. (¬2) انظر: الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية لعمر بن علي البزار، ص71 - 74. (¬3) البدابة والنهاية 14/ 15، 16.

وحكمته، فقد جاء التتار بجموعهم مرة أخرى بعد أن عبروا الفرات، فجاءُوا سنة 702هـ وهجموا على الديار الشامية، فقام ابن تيمية وحثَّ سلطان مصر على الجهاد ورغَّب فيه، وحثَّ الناس أيضا ورغَّبهم في الجهاد في سبيل الله، ووعدهم بالنصر من الله -عز وجل-، وكان يحلف بالله العظيم: إنكم في هذه الكرَّة منصورون. فيقول له الأمراء ومن معهم: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. وكان يتأول قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] (¬1) وقد كان الله عند حسن ظنِّه به؟ فإنه كان يحلف لهذه الآية، وثقة بالله- تعالى- وأنه لا يخلف وعده، ثم التقى المسلمون بالتتار في يوم السبت الثاني من رمضان سنة 702هـ في وقعة "شقحب "، فامتد القتال من عصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد، واشترك ابن تيمية في المعركة بلسانه ويديه وسيفه، وبكل ما يملك من قوة وبلاغة في تثبيت الأمراء والجنود وجميع الجيش، وقد كان السلطان يقول لابن تيمية في هذه المعركة: يا خالد بن الوليد فيقول ابن تيمية: قل يا {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ - إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 4 - 5] (¬2) واشتدت المعركة، وحلف ابن تيمية للناس بالله الذي لا إله إلا هو إنكم لمنصورون، وأمر الناس بالإفطار، وأفطر هو أمامهم، ثم أنزل الله النصر على المسلمين، ثم هرب التتار، واقتحموا الجبال والتلول والآكام، وصاروا يتساقطون في الأودية، وهربوا ليلًا، وغرق منهم خلق كثير في الفرات بسبب الظلام، وعاد الشيخ ومن معه إلى دمشق في اليوم الخامس من رمضان سنة 702هـ، وقد نصرهم الله تعالى (¬3). ¬

(¬1) سورة الحج، الآية 60. (¬2) سورة الفاتحة، الآيتان 4، 5. (¬3) انظر: البداية والنهاية 14/ 22 - 26، وأوراق مجموعة من حياة ابن تيمية ص33.

وله مواقف بطولية فذة حكيمة مع السلاطين، تدل على صدقه وإخلاصه وشجاعته في الحق (¬1) وقد ظهرت حكمة ابن تيمية - رحمه الله تعالى- أثناء لقائه مع التتار وقائدهم في النقاط الآتية: 1 - طلبه الأمان لأهل دمشق على دمائهم وأعراضهم وأموالهم، فأجابه قازان إلى ذلك. 2 - إصراره على رد جميع الأسرى من المسلمين وأهل الذمة. 3 - جرأته وشجاعته في الكلام مع قازان حتى أنزل الله الرعب في قلبه. 4 - تذكيره لقازان بنقضه للعهد، ولا سيما وهو يدعي الإسلام. 5 - عدم أكله من الطعام الذي قدَّمه قازان؛ لأنه من أغنام الناس المنتهبة، وقد أوقد عليه بما قطع من أشجارهم. 6 - دعاؤه الذي دلَّ على حكمته وعدله ونصرته لدين الله تعالى. 7 - حثِّه سلطان المسلمين على الجهاد في سبيل الله -تعالى-، أو يتخلَّى عن الشام، ويولِّي غيره ممن يحمي حوزة الدِّين ويذبّ عن أعراض المسلمين وأموالهم. 8 - حثه الناس على الجهاد وإقسامه بأن الله سينزل النصر على المسلمين، وهذا يدل على ثقته بالله -تعالى- وبوعده وأنه لا يخلف الميعاد، ¬

(¬1) انظر موقفه مع الملك الناصر لدين الله في حياة ابن تيمية لمحمد بهجة البيطار ص25، والأعلام العلية في مناقب ابن تيمية ص74. وللشيخ مواقف أخرى في جهاده مع الباطنية سنة 705هـ في ثاني محرم، فقد خرج إليهم مع نائب السلطان، فهزمهم الله، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا. انظر: ابن تيمية: جهاده ودعوته، للقطان ص50.

مناظراته الحكيمة

ولهذا ازداد المسلمون شجاعةً وإقدامًا، فأنزل الله النصر، وهزم أعداء المسلمين. 9 - مشاركته الفعلية في الدفاع عن المسلمين بلسانه ويده وسيفه. 10 - قوله لسلطان المسلمين حينما قال له عند اشتداد المعركة: "يا خالد بن الوليد "، فقال ابن تيمية: قل: يا {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ - إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 4 - 5] فرحم الله ابن تيمية وغفر له. وهكذا ينبغي لكل داعية إلى الله أن يظهر من عمله ما يصدق قوله، رغبة فيما عند الله والدار الآخرة، وبذلك يفتح الله له قلوب العباد وأسماعهم، وتظهر دعوته إلى الله، ويظهر أثرها، وأثر إخلاص صاحبها مع الله عز وجل. 4 - مناظراته الحكيمة: من مواقفه الحكيمة مناظراته التي غلب فيها أخصامه وأعجزهم، وانقادوا له طوعًا أو كرهًا، فقد كان شيخ الإسلام على عقيدة السلف الصالح، ويعض على هذه العقيدة بالنواجذ، ويبذل جهده ووقته، وفكره في إرجاع جميع الطوائف المنحرفة إلى هذه العقيدة، ويرى رأي إمام دار الهجرة مالك بن أنس من أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وهو رأي كل حكيم عليم بداء الأمة ودوائها قديمًا وحديثًا. وكان الشيخ -رحمه الله- شديد الانتصار لمذهب السلف والدفاع عنه بالحجج النقليّة والعقليّة، وقد عقدت له مناظرات في مصر والشام، كان معظمها يحوم حول هذه القضية (¬1) ومن هذه المناظرات على سبيل المثال لا الحصر، ما يأتي: ¬

(¬1) انظر: حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، لمحمد بهجة البيطار ص27.

(أ) المناظرة الأولى: في العقيدة الواسطية التي كتبها لرضي الدين الواسطي، من أصحاب الشافعي، حينما طلب منه بإلحاح أن يكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته في مدينة واسط، فكتبها الشيخ، وانتشرت بين الناس، مما أدى إلى ثورة كثير من علماء الجهمية والاتحادية والرافضة، وغيرهم من ذوي الأحقاد، فسعى هؤلاء إلى السلطان في البلاد المصرية، فكتب السلطان إلى نائبه على بلاد الشام يأمره بجمع قُضاة المذاهب الأربعة، وغيرهم من نوابهم، والمفتين، والمشايخ، وعندما وصل الكتاب إلى أمير الشام جمع قضاة المذاهب الأربعة والعلماء، والشيخ تقي الدين في قصر الولاية بدمشق، وذلك يوم الاثنين الثامن من رجب سنة 705هـ، ثم بدأ المجلس وقراءة العقيدة الواسطية من أولها، ومناقشة الشيخ ومناظرته بحضور الأمير، فناظرهم الشيخ، ورد عليهم، وبيّن لهم مذهب السلف الصالح، وأن هذه العقيدة هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي التي يدل عليها الكتاب والسنة وإجماع السلف، وصار يناظر أصحاب المذاهب، فكان أعلم بمذاهبهم منهم، وأعجزهم أمام الأمير، ثم انتهى المجلس الأول. واجتمعوا للمجلس الثاني يوم الجمعة بعد الصلاة الثاني عشر من رجب سنة 705هـ، وقد أحضر قضاة المذاهب الأربعة، معهم صفي الدين الهندي، وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلامًا كثيرًا، ولكن ساقيته لاطمت بحرًا عميقًا، ثم استلم من ناظره عقبه، فكان كالبحر الزاخر، حتى إن هؤلاء القضاة والعلماء عجزوا عن مناظرته؟ لأنه كان يرد عليهم بالكتاب والسنة والآثار عن السلف الصالح، وكان يلزمهم بالكتاب والسنة، ويدعوهم إلى التمسك بمذهب السلف الصالح، ويبين لهم أنه لم يضع هذه العقيدة من ذات نفسه، وليس لأحد أن يشرِّع للناس ما لم يأذن به الله، وإنما العقيدة تؤخذ من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع سلف

هذه الأمة، فما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم وجب على كل مسلم أن يُثبته لله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف، وما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم وجب نفيه عنه، لأنه تعالى أعلم بنفسه. وانتهى هذا المجلس بعجز المجلس أمام الأمير عن ابن تيمية، فخرج الشيخ والناس يحملون له الشمع إلى منزله على عادتهم في ذلك. ثم عُقِد المجلس الثالث في اليوم السابع من شعبان سنة 705هـ في القصر، واجتمع الجماعة كلهم على الرضى بالعقيدة الواسطية، وأخذ بعضهم يمدح الشيخ ويُثْنِي عليه، وكان هذا كله أمام رئيس المجلس نائب السلطان (¬1). فأظهر الله الحق، وأبطل الباطل، وظهرت حكمة ابن تيمية أمام الجميع، فجزاه الله خير الجزاء. (ب) المناظرة الثانية التي أعز الله بها أهل السنة وخذل بها أهل البدع والخرافات، وذلك أن الطائفة الأحمدية البطائحية (¬2) كانوا يخالفون الشيخ تقي الدين في عقيدة السلف الصالح، وكان يأمرهم باتِّباع الكتاب والسنة، وينكر عليهم فعلهم وأحوالهم الشيطانية. وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة 705هـ حضر هؤلاء المبتدعة في جموع هائلة إلى قصر نائب دمشق، يسألون نائب السلطان أن يكفَّ ¬

(¬1) انظر المناظرة مطولة بالتفصيل في مجموع فتاوى شيخ الإسلام 3/ 160 - 201، وحياة ابن تيمية، لمحمد بهجة البيطار ص27، والبداية والنهاية -بألفاظ مختصرة ومفيدة- 14/ 36، 37. (¬2) البطائحية: الطائفة المعروفة بالرفاعية، نسبة إلى البطائح التي سكنها الشيخ أحمد الرفاعي، ويقال لها أيضا: الرفاعية والأحمدية، نسبة إلى لقبه أو اسمه: أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد، المعروف بابن الرفاعي وكان رجلًا صالحًا فقيهًا شافعيًا، ولأتباعه أحوال عجيبة من أكل الحيات وهي حية، والنزول في التنانير وهي نشتعل فيطفئونها. . . انظر: وفيات الأعيان 1/ 71.

عنهم الشيخ ابن تيمية ومذهبه السلفي، وعندما رآهم الناس اجتمع عليهم جمٌّ غفير، ولكن الأمير لم يقبل منهم إلا بحضور الشيخ ومناظرته، فأرسل إليه ووصل، وسأله الأمير، فأخبره ابن تيمية أن هؤلاء من أهل البدع، وقد أفسدوا من دين المسلمين ما الله به عليم، وذكر له جميع ما يعرف عنهم، وأنه ينهاهم عن البدع وهم يأتون بأحوال شيطانية، ومنها دخولهم النار، واستعد الشيخ أنهم إن دخلوا النار في هذا اليوم فسيدخل معهم، ومن احترق فعليه لعنة الله، ولكن بعد غسل الأجسام بالخل والماء الحار؟ لأنهم يطلون أجسامهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر النارنج، فإذا غسلت الأجسام بطلت الحيلة، وحضر شيوخهم الأكابر يطلبون من الأمير الإصلاح، والعفو عن الماضي والتوبة، واتباع الكتاب والسنة، فقبل منهم ابن تيمية، ولكن عارض شيخ آخر من الصوفية، فناظره ابن تيمية فغلبه أمام الجموع الغفيرة. وتحداهم ابن تيمية في مشارق الأرض ومغاربها بأي شيء يصنعونه في النار من حيلهم فسيصنع مثلهم بشرط الغسل. ولحكمة ابن تيمية قال: يكفي في ذلك قنديل يوقد داخل أصبع المناظر منهم وابن تيمية بعد الغسل، وعندما سمع الصوفية ذلك انهزموا أمام الجموع، وأقروا بالتزام الكتاب والسنة، وطلب ابن تيمية من الأمير أن يضرب عنق من خالف منهم الكتاب والسنة، فأعلن الأمير ذلك للناس، وأن من خالف الكتاب والسنة ضَرِب عنقه، وطلب الصوفية من الشيخ الكتب الصحيحة، فبذلت لهم، وتفرق الجميع على التوبة (¬1) وسُمِعَ ¬

(¬1) انظر: هذه المناظرة مطولة في مجموع فتاوى ابن تيمية 11/ 445 - 475، وقد سقتها بالمعنى، وانظر مناظرات أخرى في مواقف حكيمة أخرى مفيدة جدًّا، في مجموع الفتاوى 11/ 135 - 156، ومناظرة في العقيدة الحموية التي كتبها الشيخ سنة 698هـ لأهل حماة في البداية والنهاية 14/ 4.

مواقفه في إصلاح أهل السجون

الناسُ يقولون: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 118 - 119] (¬1) وهذا موقف حكيم يدل على حكمة الشيخ ابن تيمية وإخلاصه وصدقه مع الله، ولهذا تاب على يديه هذا الجم الغفير، جعله الله في موازين حسناته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وهذا ما يطمع فيه الداعية المخلص. 5 - مواقفه في إصلاح أهل السجون: ومن مواقفه الحكيمة ما فعله في السجون من أعمال حكيمة جبارة، وجهود مشكورة مُسدّدة، نفع الله بها الناس، وأنقذهم بها من الضلال إلى الهدى. ومن هذه المواقف الحكيمة ما يأتي: (أ) عندما سجن في سجن القضاة بمصر، في الثامن عثر من شوال سنة 707هـ أخذ يعلم السُّجناء ويرشدهم ويعظهم بالأساليب الحكيمة، فهدى الله على يديه خلقًا كثيرًا، وقد كانت تأتيه الفتاوى المشكلة فيكتب عليها بما يُحَيِّر العقول من الكتاب والسنة. (ب-) وسجن في الإسكندرية في أول يوم من ربيع الأول سنة 709هـ فنزل بها ببرج متسع، فوجد بها منكرات عظيمة، فنفع الله به أهل الإسكندرية، فقد بيَّن لهم الحق وحذرهم من البدع والمنكرات. (ج) وسجن في قلعة دمشق مرات، وآخر ذلك في ستة عشر من شوال سنة 726هـ ففرح بذلك وقال: أنا كنت منتظرًا لذلك، وهذا فيه خير كثير ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيتان 118، 119.

ومصلحة كبيرة، وأقبل في هذه المدة على التلاوة وتصنيف الكتب، والرد على المخالفين، وكتب في مسألة زيارة القبور البدعية، وبيَّن الزيارة الشرعية. وكان -رحمه الله- داعيةً عظيمًا حكيمًا أينما كان، ولهذا كان لا يهمّه الإفراج عنه من السجن ما دام باستطاعته نشر العلم بقلمه ولسانه، ولهذا كان يقول: "ما يصنع أعدائي بي؟! إن جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي لا تفارقني، إن حَبْسِي خَلْوَة، وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة". (د) ومن أعظم ما يدل على حكمة ابن تيمية وقوَّته في الحق وثباته عليه ما فعله في آخر حياته في سجن قلعة دمشق من كتابته بالفحم. ففي التاسع من جمادى الآخرة سنة 728هـ مُنِعَ الشيخ من جميع أدوات الكتابة، وأرسلت جميع مسوداته وأوراقه إلى المكتبة العادلية، وكان ذلك في نحو ستين مجلدًا، فصار يكتب بالفحم، وقد كان ذلك له صدمة عنيفة آلمته كثيرًا، ولكنه ثبت واستخدم الفحم، وهذا يدل على قوة عزيمته، مع أنه ختم القرآن مدة إقامته بالقلعة ثمانين مرة، ولكنه بعد هذه الصدمة لم يبق إلا يسيرًا، حيث مات رحمه الله يوم الاثنين في 20 من ذي القعدة سنة 728هـ (¬1). وبفضل الله -تعالى-، ثم بهذه الخطوات الحكيمة أنار ابن تيمية الأرض التي مشى عليها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد نشر علم الكتاب والسنة، وجاهد بلسانه ويده، وناظر وغلب جميع أخصامه، وعمل أعماله الحكيمة في السجون فحولها -بفضل الله- من بيئة فاسدة إلى بيئة صالحة مؤمنة، فجزاه الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء. ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية 14/ 37 - 97، 123 - 140، والأعلام العلية في مناقب ابن تيمية ص73، وحياة شيخ الإسلام لمحمد بهجة البيطار ص34، 35، وشيخ الإسلام جهوده ودعوته لأحمد القطان ومحمد الزين ص70.

المطلب الرابع مواقف الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

المطلب الرابع مواقف الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كانت حالة المسلمين قُبَيْل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (¬1) -رحمه الله- حالة لا يرضاها مؤمن، حيث كان الشرك الأكبر قد انتشر في نجد خاصة، وفي غيرها من بلاد المسلمين عامة. لقد كان في بلدان نجد من الشرك الأكبر والأصغر ما الله به عليم، حيث عدل الناس إلى عبادة الأولياء والصالحين والمجانين: أحيائهم وأمواتهم، يستغيثون بهم في النوازل والحوادث، ويستعينون بهم على قضاء الحاجات، وتفريج الشدائد والكربات، وعبدوا القباب والأحجار والأشجار والغيران، واشتهر في نجد: السحرة والكهنة والعرافون، وسؤالهم وتصديقهم (¬2). وكان الناس يقصدون قبر زيد بن الخطاب -رضي الله عنه- في قرية الجبيلة، يدعونه لتفريج الكرب، وكشف النوائب، وقضاء الحاجات. وكانوا يزعمون أن في قريوة في الدرعية قبور بعض الصحابة، فعكفوا على عبادتها، وصار أهلها أعظم في صدورهم من الله خوفًا ورهبةً، فتقرّبوا ¬

(¬1) هو شيخ الإسلام، الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي النجدي الحنبلي، ولد في العيينة سنة 1115هـ، ونشأ بها، وحفظ القرآن قبل العاشرة من عمره، ودرس على والده، ثم حج وأخذ عن بعض علماء الحرم الشريف، ثم زار المدينة، وأخذ عن بعض علمائها، ثم رجع إلى نجد وقصد البصرة، وأخذ عن بعض علمائها، ثم رجع إلى الأحساء وأخذ عن بعض علمائها، ثم رجع إلى نجد، ودعا إلى التوحيد الخالص فنفع الله به العباد، وأنقذهم به من الشرك. توفي -رحمه الله- سنة 1206هـ انظر: تاريخ نجد لحسين بن غنام، ص75، وعلماء نجد خلال ستة قرون، 1/ 27. (¬2) انظر: تاريخ نجد، روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام، للعلامة المؤرخ حسين بن غنام 1/ 10 - 72، وعنوان المجد في تاريخ نجد، للشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر، 1/ 19، والإمام محمد بن عبد الوهاب: دعوته وسيرته للعلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ص12.

عنايته بالتوحيد وتطبيقه

إليهم وهم يظنون أنهم أسرع إلى تلبية حوائجهم من الله! وكانوا يأتون في شعيب غبيرًا من المنكر ما لا يعهد مثله، يزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب محض وبهتان مثَّله لهم إبليس، وفي أسفل الدرعية غار كانوا يرسلون إليه اللحم والخبز، ويبعثون بصنوف الهدايا، وكان عندهم رجل من الأولياء -في زعمهم- اسمه تاج، سلكوا فيه سبيل الطواغيت، فصرفوا إليه النذور، وتوجهوا إليه بالدعاء واعتقدوا فيه النفع والضر. وانتشر الشرك في الحرمين الشريفين، وفي الطائف، وجدة، ومصر، واليمن (¬1). فكيف يعمل محمد بن عبد الوهاب في إزالة هذه العظائم، وما هو موقفه الحكيم لتغيير هذه الشركيات والخرافات؟! خطواته الحكيمة في إصلاح الأمة وتبديد الظلام: عندما رأى الشيخ هذه المنكرات علم أنه لا يزيلها إلا قوة عظيمة، وعلم مبني على فَهْم الكتاب والسنة، وعند ذلك عمل الخطوات الحكيمة التالية: 1 - عنايته بالتوحيد وتطبيقه: من أعظم خطواته الحكيمة أنه بدأ يتعلم التوحيد بأدلته من الكتاب والسنة، وطلب العلم النافع؛ لأنه السلاح الفتاك بهذه الشركيات (¬2). ¬

(¬1) انظر: تاريخ نجد، للعلامة المؤرخ حسين بن غنام 1/ 10 - 78، وعنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر 1/ 19 - 30. (¬2) انظر: بحوث الشيخ محمد بن عبد الوهاب لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1/ 264، 1/ 104، 105، والإمام محمد بن عبد الوهاب سيرته ودعوته لعبد العزيز بن عبد الله بن باز ص16، 18، وعلماء نجد خلال ستة قرون، للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله البسام 1/ 31 - 33.

بدأ بدعوته في عشيرته

2 - بدأ بدعوته في عشيرته: بعد أن تسلح بسلاح العلم النافع ومعرفة أحوال الناس بدأ بدعوته في عشيرته في بلدة العيينة، وواصل طلب العلم، ورحل في طلبه، ثم رجع إلى حريملاء، وذلك -والله أعلم- سنة 1140هـ، لأن والده انتقل إليها سنة 1139هـ وأخذ يسلك طريق الحكمة في إزالة الشِّركِيات في الأقوال والأفعال، وتوفي والده سنة 1153هـ، فجهر بالدعوة وازداد نشاطه، وجلس للتدريس والإفادة وتقرير العقيدة وتثبيتها في نفوس أهل حريملاء، ونشر شرائع الإسلام وكاتب العلماء والأمراء، فكثر طلابه؟ ولكنه لم يجد قوة السلطان لدعم دعوة التوحيد (¬1) فسلك طريق الحكمة للبحث عن ذلك. 3 - بحثه عن دعم قوة الدعوة بالسلطان: عندما جرب الشيخ أهل حريملاء، ولم يرَ هناك من يقتلع أصول الشركيات، ولا من يحمي الداعية والدعوة حتى تنجح، ولا يمكن أن يُصلح هذه المجتمعات إلا معاول تهدمها، وأيدي سلطة تقلعها؟ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن (¬2) ولذلك خرج الشيخ من حريملاء إلى العيينة، ونزل على أمير العيينة فأكرمه، وعرض عليه الشيخ دعوة التوحيد فقبلها، ونصر الشيخ ودعوته، وألزم الخاصة والعامة بامتثال أمر الله -تعالى-، فأعلن الشيخ دعوته، وهدم القباب على القبور، وقطع الأشجار، وكسر الأحجار التي يقصدها الناس بالعبادة، ولم يبق شجر، ولا حجر، ولا قُبّة على قبر، ولا وثن يعبد في البلاد التي تحت عثمان بن معمر، وأقيم حدّ الزنا، وعلت كلمة الحق. ¬

(¬1) انظر: بحوث الشيخ لجامعة الإمام محمد بن سعود 1/ 264، 1/ 104، 105. (¬2) انظر: المرجع السابق، 1/ 104، 105، 264.

غرس التوحيد في قلوب الناس وتصحيح عقيدتهم

ثم إن عثمان تخلى عن نصرة الشيخ بأمر من أمير الأحساء، فهاجر الشيخ إلى الدرعية، وعرض دعوته على محمد بن سعود فرحب به، وقبل دعوته، واستعدّ بنصره وما يدعو إليه، وذلك سنة 1158هـ (¬1). 4 - غَرْس التوحيد في قلوب الناس وتصحيح عقيدتهم: بعد أن حقق الشيخ أمنيته العظيمة من وجود ما يدعّمه من قوة السلطان ووجود الأعوان، لقول عثمان -رضي الله عنه-: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ". وبعد أن رأى الأنصار والطلاب يفدون إليه في الدرعية، أخذ يغرس في نفوسهم أعظم سلاح، وأعظم قوة ينتصر بها على أعدائه: ألا وهي قوة التوحيد الخالص، والإيمان الكامل، لعلمه -رحمه الله- أن نصرة الحق تحتاج إلى إيمان قوي مبني على فَهْم الكتاب الكريم والسنة المطهّرة، كما تحتاج إلى دعم سلطان وسيف وسنان، يقمع به كل مارد شيطان (¬2). وهذا من أعظم مواقف الحكمة، فإنه عندما دخل الدرعية وجد أهلها في غاية الجهل، وقد وقعوا في الشرك الأكبر والأصغر كغيرهم، والتهاون بالصلاة والزكاة ورفض شعائر الإسلام، فجعل يتخولهم بالتعليم والموعظة الحسنة، ويُفهمهم معنى لا إله إلا الله، ويشرح لهم معنى الألوهية، وأن الإله هو الذي تُأَلِّهه القلوب: محبةً وخوفًا ورجاءً، وأن الإسلام هو الاستسلام لأمر الله -تعالى-، والانقياد له، والإذعان بالعبادة، والخضوع، والذل والإنابة، والتوكل، والرغبة، والرهبة. ويعلمهم ¬

(¬1) انظر: عنوان المجد 1/ 21 - 24، وتاريخ نجد لابن غنام 78 - 81، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته لأحمد بن حجر آل بو طامي ص22. (¬2) انظر بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1/ 218، 1/ 258.

أصول الدين والإسلام، وقواعده، ومعرفة نبيّهم، ونسبه، ومبعثه، وما دعا إليه، وهي لا إله إلا الله، وما تضمنته، وأنهم مبعوثون بعد الموت. وأخذ على ذلك ما يقارب سنتين -بعد قدومه إلى الدرعية- وهو يغرس هذه الدعائم (¬1). ومن أعظم ما غرس في نفوس المهاجرين إلى الدرعية من البلدان المجاورة والأنصار من أهل الدرعية: هو تدريسه لهم جميعًا كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وغرسه في أذهانهم، وكان آل سعود: الأمير محمد وأبناؤه يحضرون دروس الشيخ صباحًا ومساءً، في المسجد، وفي البيت، والمجامع الخاصة، فأثمر ذلك قوة الإيمان في نفوس الدولة الجديدة من الأمير إلى أصغر واحد من المهاجرين والأنصار (¬2). وعندما قام الشيخ بهذا الموقف العظيم الحكيم، واستقر في قلوبهم معرفة التوحيد وضده من الشرك بعد الجهالة والضلالة والعمى والظلام الدامس، بعد ذلك أُشْرِب حب الشيخ وما جاء به من التوحيد في قلوبهم، والتحم رابط المحبة في الله بين أهل الدرعية والمهاجرين إليهم فآووهم، وأصبحت هذه القوة قوة ضاربة قد رُبِّيت على التوحيد، والرغبة فيما عند الله، والدار الآخرة، ودُعِّمَت بقوة السلطان والسيف، والسنان، والحجّة والبرهان، وقُوّة البيان. وحينئذ أصبح صاحب الدعوة لا يخشى إلا الله وحده سبحانه. ¬

(¬1) انظر: عنوان المجد في تاريخ نجد، لابن بشر 1/ 26، وتاريخ نجد "روضة الأفكار والأفهام. . . للعلامة المؤرخ حسين بن غنام 1/ 81. (¬2) انظر: إمام التوحيد؛ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الدعوة والدولة، لأحمد القطان ومحمد الزين ص45.

خطواته الحكيمة في الرجوع بالناس إلى الكتاب والسنة

5 - خطواته الحكيمة في الرجوع بالناس إلى الكتاب والسنة: علم الشيخ أن الناس لا يصلحهم ولا يردهم إلى الحق الواضح والتوحيد الخالص إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] (¬1) وتيقن أن الله سينصره إن هو قام بذلك: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] (¬2). وعند ذلك سلك المسالك الآتية: (أ) جعل القواعد الأربع التي قرر بها توحيد العبادة (توحيد الألوهية)، فبيَّن أن الله -تعالى- خلق الجن والإنس ليعبدوه وحده، والعبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت كالحدث إذا دخل في الطهارة، ثم أوضح ذلك بهذه القواعد: القاعدة الأولى: العلم بأن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بتوحيد الربوبية، وأن الله الخالق الرازق المدبر، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] (¬3). القاعدة الثانية: أنهم يقولون: ما دعوناهم إلا لطلب القربة والشفاعة، ومع ذلك حكم الله بكفرهم. . . {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] (¬4) ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية 9. (¬2) سورة غافر، الآية 51. (¬3) سورة يونس، الآية 31. (¬4) سورة الزمر، الآية 3.

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] (¬1). القاعدة الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أناس متفرقين في عباداتهم: فمنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الشمس والقمر، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفرق بينهم فدل ذلك على أن عبادة غير الله باطلة مهما تنوعت واختلفت. القاعدة الرابعة: أن الشيخ حكم على مشركي زمانه أنهم أشد وأغلظ شركا من الأولين؟ لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركو زمانه شركهم في الرخاء والشدة {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] (¬2) وهذا من المواقف الحكيمة والاستنباطات السديدة (¬3). (ب) بيَّن للناس وأرشدهم إلى ما به الفلاح والنجاح، وجعل ذلك في أربع مسائل تسهل على كل مسلم فيحفظها، ويفهم معانيها، وفهمها من مقتضى الإسلام، وهي كالتالي: المسألة الأولى: العلم، ثم بيَّن المراد به بأنه معرفة الله، ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. ¬

(¬1) سورة يونس، الآية 18. (¬2) سورة العنكبوت، الآية 65. (¬3) انظر: القواعد الأربع في القسم الأول من مؤلفات الشيخ في العقائد ص197، مطبوعات الجامعة، وانظر: بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1/ 331.

المسألة الثانية: العمل بالعلم. المسألة الثالثة: الدعوة إليه. المسألة الرابعة: الصبر على الأذى فيه، وساق على ذلك أدلة من الكتاب الكريم (¬1) (ج) أرشد الناس، وبين لهم أنه يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم ثلاث مسائل،! لعمل بهن: المسألة الأولى: أن الله خلق العباد ورزقهم، ولم يتركهم هملًا؛ بل أرسل إليهم رسولًا، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. المسألة الثانية: أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته، لا ملَك مقرب، ولا نبي مرسل. المسألة الثالثة: أن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم ووحد الله لا تجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب. وذكر لكل مسألة دليلًا صريحًا (¬2). (د) بين الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم معرفتها، وهي: معرفة الله، والنبي صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، بالأدلة من الكتاب والسنة لكل جزئية من هذه الأصول. وقد جعل الأصل الثالث -وهو معرفة الدين- ثلاث مراتب: الإسلام، ¬

(¬1) انظر: هذه المسائل الأربع مع أدلتها في القسم الأول من مؤلفات الشيخ في العقيدة والآداب الإسلامية ص185، وبحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/ 317. (¬2) انظر: هذه المسائل الثلاث مع أدلتها في القسم الأول من مؤلفات الشيخ في العقيدة والآداب الإسلامية، ص386، وبحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب لجامعة الإمام محمد بن سعود 1/ 315.

والإيمان، والإحسان، وبين أركان كل مرتبة من هذه المراتب، ومعاني ذلك كله، واستدل بالأدلة من الكتاب والسنة (¬1). ثم صاغ هذه الأصول الثلاثة عن طريق السؤال والجواب، لتلقين عامة الناس لكي يرسخ الإيمان الكامل والعقيدة الصحيحة في قلوبهم (¬2). (هـ) لم يغفل الشيخ الفروع والاعتناء بالفقه، بل قد أدى له جملة من الاهتمام، وقد ألزم نفسه -رحمه الله- أن يسير في دعوته على هدي الكتاب والسنة واعتنى بالقواعد الجامعة للأحكام، فوضع أربع قواعد تدور عليها جميع الأحكام، فقال رحمه الله: "هذه أربع قواعد من الدين التي تدور عليها الأحكام، وهي من أعظم ما أنعم الله -تعالى- به على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، حيث جعل دينهم دينًا كاملًا وافيًا، أكمل وأكثر علمًا من جميع الأديان، ومع ذلك جمعه لهم -سبحانه وتعالى- في ألفاظ قليلة، وهذا مما ينبغي التفطن له قبل معرفة القواعد الأربع. . . " (¬3). واستدل على أن الله جمع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم: «وأعطيت جوامع الكلم» (¬4) وهو أن الله- عز وجل- جمع له المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة. ¬

(¬1) انظر: الأصول الثلاثة مدعومة بالأدلة القطعية في القسم الأول من مؤلفات الشيخ في العقيدة والآداب الإسلامية ص187. (¬2) انظر تلقين العقيدة للعامة في القسم الأول من مؤلفات الشيخ في العقيدة والآداب الإسلامية ص370، وبحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1/ 346. (¬3) انظر: القواعد الأربع في القسم الثاني من مؤلفات الشيخ، الفقه، المجلد الثاني ص3، وبحوث أسبوع الشيخ 1/ 226، 1/ 272 - 274. (¬4) البخاري مع الفتح في كتاب التعبير، باب رؤيا الليل 12/ 390، برقم 6998، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1/ 371.

ثم ذكر القواعد التي تدور عليها جميع أحكام الدين: القاعدة الأولى: تحريم القول على الله بلا علم، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] (¬1). القاعدة الثانية: أن كل شيء سكت عنه الشرع فهو عفو، لا يحل لأحد أن يحرمه أو يوجبه أو يستحبه أو يكرهه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101] (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: «وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها» (¬3). القاعدة الثالثة: أن ترك الدليل الواضح والاستدلال بلفظ متشابه هو طريق أهل الزيغ، كالرافضة والخوارج، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] (¬4). والواجب على المسلم اتباع المحكم، وإن عرف معنى المتشابه وجده لا يخالف المحكم بل يوافقه، وإلا فالواجب عليه اتباع الراسخين في قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية 33. (¬2) سورة المائدة، الآية 101. (¬3) أخرجه الدارقطني 4/ 297، 298، وقال النووي في الأربعين: حديث حسن. (¬4) سورة آل عمران، الآية 7.

القاعدة الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن «الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات» (¬1) فمن لم يفطن لهذه القاعدة، وأراد أن يتكلم على مسألة مشتبهة بكلام فاصل فقد ضل وأضل. فهذه ثلاث قواعد ذكرها الله في كتابه، والرابعة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الكلمات مع اختصارهن يدور عليها الدين، سواء كان المتكلم يتكلم في علم التفسير، أو في علم الأصول، أو في علم أعمال القلوب الذي يسمى علم السلوك، أو في علم الحديث، أو في علم الحلال والحرام والأحكام، الذي يسمى علم الفقه، أو في علم الوعد والوعيد، أو في غير ذلك من أنواع علوم الدين (¬2). ومما سبق يتضح للقارئ أن أهم الأصول التي أحياها الشيخ ودعا إليها واهتم بنشرها أكثر من غيرها كالتالي: (أ) الرجوع بالإسلام وأهله إلى ما كان عليه الصدر الأول؟ لأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو التزام الكتاب والسنة لإجماع الأمة. (ب) تخليص التوحيد مما شابه من الشرك، والوثنية (¬3). (ج) إنكار التوسل الممنوع شرعًا؛ بالأنبياء والأولياء والصالحين، وتبيين التوسل المطلوب والمسنون، وهو التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب من استبرأ لدينه، 1/ 126، وكتاب البيوع، باب الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما متشابهات، 4/ 290، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219، وانظر: شرح النووي 11/ 27. (¬2) انظر: هذه القواعد مع أدلتها بالتفصيل والأمثلة في القسم الثاني من مؤلفات الشيخ في الفقه، المجلد الثاني ص3، وبحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/ 226، 272. (¬3) والتوحيد ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. والشرك شركان: أكبر يخرج من الملة، وأصغر، وخفي.

كتابته الرسائل بأساليب الحكمة والبيان

العليا، وبالأعمال الصالحة التي قام بها الداعي نفسه، وبطلب الدعاء من المسلم الصالح الحي القادر الحاضر. (د) طرح البدع والخرافات والشعوذة وغيرها من المنكرات (¬1). وبهذا كله أسس الشيخ مجتمعًا موحدًا مخلصًا قويًا في إيمانه وعقيدته (¬2) وما ذلك إلا بفضل الله وحده ثم بحكمة هذا الشيخ الجليل التي نفع الله بها العباد في هذه الجزيرة وغيرها. 6 - كتابته الرسائل بأساليب الحكمة والبيان: لم يغفل الشيخ تبليغ التوحيد بالقلم والرسائل، بل اعتنى بذلك كثيرًا، فقد قضى السنتين الأوليين من إقامته في الدرعية في مكاتبة العلماء والرؤساء والبلدان والقبائل المختلفة، بالإضافة إلى العناية بالتربية والتعليم والتوجيه وغرس الفضائل التي سبق بيانها. وبدأ بأهل نجد، وكاتب أمراءها وعلماءها، فكاتب علماء الرياض وأميرها دهام بن دواس، وكاتب علماء الخرج وأمراءها وعلماء بلاد الجنوب، والقصيم، وحائل، والوشم، وسدير، والأحساء، وعلماء الحرمين الشريفين، وغير ذلك. ولم يغفل البلدان الخارجية، فقد كتب لعلماء الشام، ومصر، والعراق، ¬

(¬1) ويمكن التفصيل في الأصول التي اعتنى بها الشيخ ودعا إليها أكثر من غيرها كالتالي: 1 - توحيد العبادة. 2 - التوسل الجائز والمحرم. 3 - منعه شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة. 4 - منع البناء على القبور وإسراجها وكسوتها. 5 - توحيد الأسماء والصفات. 6 - إنكار البدع جميعها. (¬2) انظر: بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 2/ 303، 2/ 317، 1/ 311، ومؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول: العقيدة والآداب الإسلامية ص9، 260، والشيخ محمد عبد الوهاب: عقيدته ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه؛ للعلامة أحمد بن حجر آل بو طامي ص43 - 47.

آخر مواقف الحكمة

والهند، واليمن، وغير ذلك من البلدان، ولم يزل يكاتب الناس ويقيم عليهم الحجج، ويذكِّرهم ما وقع فيه أكثر الخلق من الشرك والبدع (¬1). واصل الشيخ ليله ونهاره في نشر الدعوة، والوعظ والتدريس، وكتابة الرسائل العلمية المدعومة بالأدلة من الكتاب والسنة، وبالحجة والبرهان، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، ولم يبدأ أحدًا بالعدوان، ورعًا منه، وأملًا في أن يهدي الله الضالين، إلى أن حكموا عليه وعلى أتباعه بالكفر، وأباحوا دماءهم وأموالهم، ولم يُثْبِتُوا دعواهم بحجّة من كتاب ولا سنة، مع رفضهم لعقيدة التوحيد، وعدم قبولها، ونصرهم الشرك وأهله (¬2). 7 - آخر مواقف الحكمة: الجهاد بالسيف والسنان: بعد أن بدأ أعداء التوحيد بتكفير الشيخ وإهدار دمه ومن تبعه، وبعد أن بين لهم الشيخ نواقض الإسلام بأدلتها من الكتاب والسنة (¬3) فأعرضوا عن ذلك كله وكذبوا به، ورفضوا التوحيد، وحينئذ يكون آخر الطب الكي، فأمر الشيخ بالجهاد لمن عادى أهل التوحيد وسبه وسب أهله، ولم يَنْقَدْ لشرع الله، ولم تنفع فيه الآيات البينات. واستمرت الحروب سنين عديدة، وكان النصر -بإذن الله- حليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود، فكانت القرى والعشائر تسقط واحدة تلو الأخرى بيده، فنشر الله الدعوة وأظهرها ¬

(¬1) انظر: تاريخ نجد؛ لابن غنام 1/ 82، وعنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر 1/ 26، والإمام محمد بن عبد الوهاب: دعوته وسيرته، لابن باز، ص19، 24، 27. (¬2) انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية لأحمد بن حجر، ص26، وروضة الأفكار لابن غنام 1/ 83. (¬3) انظر: نواقض الإسلام في القسم الخامس من مؤلفات الشيخ في: الرسائل الشخصية ص198، 204، 212.

ونصرها، وقمع الباطل وأذل أهله الذين عارضوا التوحيد. ثم توفي الشيخ -رحمه الله- يوم الاثنين آخر شهر شوال، سنة 1206هـ، وله من العمر نحو 92 سنة، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء (¬1) فقد أنقذ الله بمواقفه الحكيمة هذه الجزيرة وما جاورها من الشرك، وبدل الظلام، وأنار البلاد بنور التوحيد الخالص. وهكذا ينبغي لكل داعية يرجو الله واليوم الآخر أن يكون حكيمًا في مواقفه، ناصرًا لدين الله، صابرًا محتسبًا مخلصًا، وبذلك يربح ويفوز في الدنيا والآخرة، والله المستعان. ¬

(¬1) انظر: روضة الأفكار لابن غنام 1/ 84، وعنوان المجد لابن بشر 1/ 27، وعلماء نجد خلال ستة قرون 1/ 40، 43.

الفصل الثالث حكمة القول مع المدعوين

الفصل الثالث حكمة القول مع المدعوِّين تمهيد: إنزال الناس منازلهم. المبحث الأول: حكمة القول مع الملحدين. المبحث الثاني: حكمة القول مع الوثنيين. المبحث الثالث: حكمة القول مع أهل الكتاب. المبحث الرابع: حكمة القول مع المسلمين.

تمهيد

تمهيد إنزال الناس منازلهم الداعية الحكيم هو الذي يدرس الواقع، وأحوال الناس، ومعتقداتهم، وينزل الناس منازلهم، ثم يدعوهم على قدر عقولهم وأفهامهم وطبائعهم وأخلاقهم ومستواهم العلمي والاجتماعي، والوسائل التي يؤتون من جهتها، ولهذا قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله" (¬1). وذُكِرَ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُنْزِلَ الناس منازلهم» (¬2) وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" (¬3). وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للدعاة إلى الله -عز وجل-، فقال لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن -داعيًا ومعلمًا وقاضيًا-: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب». . . " الحديث (¬4). فبين صلى الله عليه وسلم لمعاذ عقيدة القوم الذين سوف يقدم عليهم حتى يعرف حالهم، ويستعد لهم، ويقدم لهم ما يناسبهم، وما يصلح أحوالهم. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا 1/ 225. (¬2) مسلم، في المقدمة، مع شرح النووي، 1/ 55، وسنن أبي داود مع العون، 13/ 191. (¬3) مسلم، المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع 1/ 11. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الزكاة، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة 3/ 322، واللفظ له، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله وشرائع الإسلام 1/ 50.

وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة -رضي الله عنها-: «يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون» (¬1). فترك صلى الله عليه وسلم هذه المصلحة، لأمن الوقوع في المفاسد (¬2). فدراسة البيئة والمكان الذي تبلغ فيه الدعوة أمر مهم جدًّا، فإن الداعية يحتاج في دعوته إلى معرفة أحوال المدعوين: الاعتقادية، والنفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ومعرفة مراكز الضلال ومواطن الانحراف معرفة جيدة، ويحتاج إلى معرفة لغتهم، ولهجتهم، وعاداتهم، والإحاطة بمشكلاتهم ونزعاتهم الخلقية، وثقافتهم، ومستواهم الجدلي، والشبه التي انتشرت في مجتمعهم، ومذاهبهم (¬3). والداعية الحكيم يكون مدركًا لما حوله، مقدرًا للظروف التي يدعو فيها، مراعيًا لحاجات الناس ومشاعرهم، وكل أحوالهم. والداعية إلى الله -تعالى- لا ينجح في دعوته، ولا يكون موفقًا في تبليغه ولا مسددًا في قوله وفعله حتى يعرف من يدعوهم، وهل هذا المجتمع من المسلمين العصاة، أو من المسلمين الذين انتشرت فيهم البدع والخرافات؟ هل هذا المجتمع من أهل الكتاب؟ فإذا كانوا منهم، فهل هم من اليهود أم من النصارى؟ هل هذا المجتمع من الملحدين الطبيعيين والماديين والدهريين؟ أم من الوثنيين المشركين. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه 1/ 224. (¬2) قال ابن حجر -رحمه الله تعالى- يستفاد منه ترك المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفسدة، وترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه. انظر: فتح الباري 1/ 225. (¬3) انظر: شرح الإمام النووي على مسلم 1/ 76، 197، وفتح الباري 1/ 225، وكيف يدعو الداعية لعبد الله ناصح علوان ص7، 37، 47، 155، وزاد الداعية إلى الله للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص7.

فإذا عرف الداعية هذا كله، فكيف يدعو كل فئة من هذه الفئات بالحكمة؟ وماذا يقدم معهم؟ وماذا يؤخر؟ وما القضايا التي يعطيها أهمية وأولوية قبل غيرها؟ وما الأفكار الضرورية التي يطرحها ويبدأ بها؟ وهكذا، فالداعية الحكيم كالطبيب الحكيم الذي يشخص المرض، ويعرف الداء ويحدده، ثم يعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعيًا في ذلك: قوة المريض وضعفه، وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشق بطنه، أو يقطع شيئا من أعضائه، من أجل استئصال المرض طلبًا لصحة المريض، وهكذا الداعية الحكيم يعرف أمراض المجتمع، ويحدد الداء، ويعرف الدواء، وينظر ما هي الشبه والعوائق فيزيلها، ثم يقدم المادة المناسبة بدءًا بأمور العقيدة الإسلامية الصحيحة الصافية، مع تشويق المدعو إلى القبول والإجابة. وبناء على ما تقدم يكون من الحكمة تقسيم هذا الفصل إلى مباحث حسب أحوال الناس، وبيان كيفية دعوتهم بالحكمة القولية كالتالي: المبحث الأول: حكمة القول مع الملحدين. المبحث الثاني: حكمة القول مع الوثنيين. المبحث الثالث: حكمة القول مع أهل الكتاب. المبحث الرابع: حكمة القول مع المسلمين.

المبحث الأول حكمة القول مع الملحدين

المبحث الأول حكمة القول مع الملحدين تمهيد. المطلب الأول: الأدلة الفطرية. المطلب الثاني: البراهين والأدلة العقلية. المطلب الثالث: الأدلة الحسية المشاهدة. المطلب الرابع: الأدلة الشرعية.

تمهيد الإلحاد في الأصل هو: الميل والعدول عن الشيء، والظلم والجور، والجدال والمِراء، يقال: لحد في الدين لحدًا، وألحدَ إلحادًا، لمن مال وعدل ومارى وجادل وظلم (¬1). واللحد: الشق الذي يعمل في جانب القبر لموضع الميت؟ لأنه قد أميل عن وسط القبر إلى جانبه (¬2). والإلحاد: هو الميل عن الحق، والانحراف عنه بشتى الاعتقادات، والتأويل الفاسد، والمنحرف عن صراط الله والمعاكس لحكمه يسمى ملحدًا (¬3). والمراد بالملحدين في هذا المبحث: هو المعنى المصطلح عليه في هذا العصر، وهم: من أنكروا وجود رب خالق لهذا الكون، متصرف فيه، يدبر أمره بعلمه وحكمته، ويجري أحداثه بإرادته وقدرته، واعتبار الكون أو مادته الأولى أزلية، واعتبار تغيراته قد تمت بالمصادفة، أو بمقتضى طبيعة المادة وقوانينها، واعتبار الحياة -وما تستتبع من شعور وفكر حتى قمتها الإنسان- من أثر التطور الذاتي للمادة (¬4). وسأتناول في هذا المبحث -بعون الله تعالى- كيفية حكمة القول في ¬

(¬1) انظر القاموس المحيط، فصل اللام باب الدال ص104، والمعجم الوسيط مادة "لحد" 2/ 817، ومختار الصحاح، مادة "لحد" ص247، وفتح القدير للشوكاني 4/ 518، 2/ 268. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير 4/ 236. (¬3) انظر: الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة، للشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري، ص40. (¬4) انظر: كواشف زيوف المذاهب المعاصرة، لعبد الرحمن الميداني، ص409.

الدعوة إلى الله مع هؤلاء الملحدين الماديين الطبيعيين والدهريين في المطالب التالية: المطلب الأول: الأدلة الفطرية على وجود الله تعالى وربوبيته. المطلب الثاني: البراهين والأدلة العقلية. المطلب الثالث: الأدلة الحسية المشاهدة. المطلب الرابع: الأدلة الشرعية.

المطلب الأول الأدلة الفطرية

المطلب الأول الأدلة الفطرية الفطر: الشق، والجمع منه فطور (¬1) قال تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3] (¬2) وفطر الله العالم. أوجده ابتداءً (¬3) وفطر الخلق: خلقهم وبدأهم (¬4) {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79] (¬5) والفطرة: الخلقة التي خلق عليها كل موجود أول خلقه (¬6) والخلقة التي خلق عليها المولود في رحم أمه، والدين (¬7) والطبيعة السليمة التي لم تُشَبْ بِعَيْب (¬8) قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (¬9) هل تحسون فيها من جدعاء؟» (¬10) ثم يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-:. . {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] (¬11). ¬

(¬1) انظر: المعجم الوسيط، مادة: فطر 2/ 694، ومختار الصحاح مادة: فطر ص212. (¬2) سورة الملك، الآية 3. (¬3) انظر: المعجم الوسيط، مادة فطر 2/ 694. (¬4) انظر: القاموس المحيط، فصل الفاء، باب الراء ص587. (¬5) سورة الأنعام، الآية 79. (¬6) انظر: المعجم الوسيط، مادة فطر 2/ 694. (¬7) القاموس المحيط، فصل الفاء، باب الراء ص587. (¬8) انظر: المعجم الوسيط، مادة فطر 2/ 694. (¬9) يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئًا من العيب، لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلًا، فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجه واضح. انظر: فتح الباري 3/ 249. (¬10) البخاري مع الفتح، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يُصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ 3/ 219، وأخرجه في عدة مواضع انظرها: 3/ 219، 249، 8/ 512، 11/ 493، وأخرجه مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين 4/ 2047. (¬11) سورة الروم، الآية 30.

فمن حكمة القول مع الملحدين أن يستخدم الداعية إلى الله -تعالى- في دعوته لهم الأدلة الفطرية، فيوضح ويبين لهم أن المولود يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنها من يعدل؛ لآفة من آفات الشر والتقليد. . وكل مولود يولد على معرفة الله والإقرار به، فلا تجد أحدًا إلا وهو يقر بأن له صانعًا وإن سماه بغير اسمه، أو عبد معه غيره (¬1). والمقصود بفطرة الله التي فطر الناس عليها: فطرة الإسلام (¬2) والسلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة؛ فإن حقيقة الإسلام هو الاستسلام لله وحده. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: «كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟». فأوضح أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حادث طارئ (¬3). قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى-: «إني خلقت عبادي حُنَفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجْتَالَتْهُم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا». . . " (¬4). وقد مثل شيخ الإسلام ابن تيمية الفطرة مع الحق بمثل يوضح ذلك، فقال: "ومثل الفطرة مع الحق مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس، والاعتقادات الباطلة العارضة من ¬

(¬1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3/ 457، وفتح الباري 3/ 248 - 250. (¬2) وقد جزم بذلك البخاري فقال: والفطرة الإسلام. انظر: البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب لا تبديل لخلق الله 8/ 512. (¬3) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 245، وفتح الباري 4/ 245. (¬4) مسلم، كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار 4/ 2197.

تَهَوُّدٍ وتنصّر وتمجّس مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس، وكذلك كل ذي حس سليم يحب الحلو، إلا أن يعرض في طبيعته فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مُرًّا" (¬1). وليس المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «يولد على الفطرة» أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين ويعتقد الإسلام بالفعل؟ لأن الله يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] (¬2). ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته، وقبوله وإرادته للحق، وإقراره بالربوبية، فلو خلّي من غير معارض ومن غير مغيِّر لما كان إلا مسلمًا ولم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه صارف، ومن ثم شُبِّهت الفطرة باللبن، فهي تستلزم معرفة الله ومحبته وتوحيده (¬3). ويدل على ذلك رواية مسلم: «ما من مولود يولد إلا وهو على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه» (¬4). وقد أخبر الله -عز وجل- أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] الآية (¬5). ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل 9/ 375، والفتاوى لابن تيمية 4/ 247. (¬2) سورة النحل، الآية 78. (¬3) انظر: شرح النووي على مسلم 16/ 208، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 247، 16/ 344، 4/ 249، وفتح الباري 3/ 248 - 250. (¬4) مسلم، كتاب القدر، باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة 4/ 2048. (¬5) سورة الأعراف، الآية 172.

وهذا يدل دلالة قاطعة على أن كل إنسان قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم (¬1). ومما يبين ذلك ويوضحه أن العاقل إذا رجع إلى نفسه وعقله أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الخالق-تعالى- في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله (¬2) وإذا نظر إلى الخلائق علم فقرهم كلهم إلى الخالق في كل شيء؛ فقراء إليه في الخلق والإيجاد، وفي البقاء والرزق والإمداد، وفقراء إليه في جلب المنافع ودفع المضار. فانظر إلى حالة الناس إذا كربتهم الشدائد، ووقعوا في المهالك، وأشرفوا على الأخطار، كيف تجد قلوبهم معلقة بالله، وأصواتهم مرتفعة بسؤاله، وأفئدتهم تنظر إلى إغاثته، لا تلتفت يمنةً ولا يسرةً إلا إليه (¬3). ومما يزيد ذلك وضوحًا أن الخلق متى شاهدوا شيئًا من الحوادث المتجددة كالرعد والصواعق، والبرق والزلازل، والبراكين المتفجرة الثائرة، والريح الشديدة، وانهمار الأمطار الغزيرة، وفيضانات الأنهار، واضطراب الأمواج في البحار والمحيطات، متى شاهدوا ذلك دعوا الله وسألوه، وافتقروا إليه، لأنهم يعلمون أن هذه الحوادث المتجددة لم تتجدّد بنفسها، بل لها محدث أحدثها، وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات؛ لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفًا لهم، بخلاف المتجدّد، ولو لم يكن إلا خلق الإنسان، فإنه من أعظم الآيات، فكل يعلم أنه لم يحدث نفسه، ولا أبواه أحدثاه، ولا أحد من البشر أحدثه، ويعلم أنه لا بد له من خالق خلقه، ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 262، 3/ 433، ودرء تعارض العقل والنقل 8/ 487، وجامع الرسائل لابن تيمية 1/ 11، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي 2/ 337. (¬2) انظر. كتاب الداعي إلى الإسلام لعبد الرحمن الأنباري ص211، ودرء تعارض العقل والنقل 3/ 113. (¬3) انظر: الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة ص251، 252.

وأن هذا الخالق موجود، حي، عليم، قدير، سميع، بصير، حكيم، حفيظ (¬1) {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] (¬2) وقال -سبحانه- تذكيرًا لهذا الإنسان الجاحد: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] (¬3) {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] (¬4). فبين هذا أن الناس إذا غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء، لعلمهم الفطري أن الله الذي يكشف الشدائد، ولا ملجأ منه إلا إليه، فيسألونه بلسان المقال ولسان الحال، فهل هذه الأمور تحصل إلا لأن الخليقة مفطورة على الاعتراف بربوبية الله ووحدانيته، وأنه النافع الضار وملكوت كل شيء بيده، إلا من فسدت فطرته بالعقائد الفاسدة (¬5). ¬

(¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/ 122، 129، 131، 137. (¬2) سورة الذاريات، الآية 21. (¬3) سورة الإسراء، الآية 67. (¬4) سورة النحل، الآية 53. (¬5) انظر: الرياض الناضرة ص252، وعقيدة المسلمين للبليهي 1/ 70، وشرح أصول الإيمان للشيخ محمد بن عثيمين ص15.

المطلب الثاني البراهين والأدلة العقلية

المطلب الثاني البراهين والأدلة العقلية إذا كان الماديون والطبيعيون والدهريون يتظاهرون بإنكار وجود الله -تعالى-، فإن من الحكمة في دعوة هؤلاء إلى الله -تعالى- أن تقدم لهم البراهين والأدلة العقلية القطعية في المسالك الآتية: المسلك الأول: التقسيم العقلي الحكيم. المسلك الثاني: العدم لا يخلق شيئا. المسلك الثالث: الطبيعة الصماء لا تملك قدرة. المسلك الرابع: الصدفة العمياء لا تملك حياة. المسلك الخامس: المناظرات العقلية الحكيمة. المسلك السادس: مبدأ السببية. المسلك السابع: التفكر في المصنوع يدل على بعض صفات الصانع. المسلك الأول: التقسيم العقلي الحكيم: يُستدل على كل من أنكر وجود الله -تعالى- وربوبيته بأمر لا يمكنهم إلا التسليم للحق والانقياد له، أو الخروج عن موجب العقل إلى الجنون والفطر المنحرفة، فيقال لكل من أنكر ذلك: الأمور الممكن تقسيمها في العقل ثلاثة لا رابع لها: 1 - إما أن توجد هذه المخلوقات بنفسها صدفة من غير محدث ولا خالق خلقها، فهذا محال ممتنع تجزم العقول ببطلانه ضرورة، وتعلم يقينًا أن من ظن ذلك فهو إلى الجنون أقرب منه إلى العقل؛ لأن كل من له عقل يعرف أنه لا يمكن أن يوجد شيء من غير موجد ولا محدث، فلا بد لكل حادث من محدث، ولا سبيل إلى إنكار ذلك، فإن وجود الشيء من غير موجد محال وباطل بالمشاهدة والحس والفطرة السليمة.

2 - وإما أن كون هذه المخلوقات الباهرة هي المحدثة الخالقة لنفسها، فهذا أيضا محال ممتنع بضرورة العقل، وكل عاقل يجزم أن الشيء لا يحدث نفسه ولا يخلقه؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقًا؟! فإذا بطل هذان القسمان عقلًا وفطرةً وبان استحالتهما، تعين القسم الثالث: 3 - وهو أن هذه المخلوقات بأجمعها: علويها وسفليها، وهذه الحوادث لا بد لها من محدث ينتهي إليه الخلق والملك والتدبير، وهو الله العظيم الخالق لكل شيء، المتصرف في كل شيء، المدبّر للأمور كلها (¬1) ولهذا ذكر الله -تعالى- هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] (¬2) ولذلك تأثر جبير بن مطعم بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم تأثرًا عظيمًا، قال -رضي الله عنه-: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 35 - 37] (¬3) كاد قلبي أن يطير" (¬4) "وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي» (¬5). فالمخلوق لا بد له من خالق، والمصنوع لا بد له من صانع، والمفعول ¬

(¬1) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 1/ 66، ودرء تعارض العقل والنقل 3/ 113، والرياض الناضرة للسعدي ص247، وتفسير السعدي 7/ 195، وأضواء البيان للشنقيطي 4/ 368، وشرح أصول الإيمان لمحمد بن صالح عثيمين ص15. (¬2) سورة الطور، الآية 35. (¬3) سورة الطور، الآيات 35 - 37. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الطور، باب حدثنا عبد الله بن يوسف 8/ 603. (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب حدثني خليفة، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري 7/ 323.

المسلك الثاني العدم لا يخلق شيئا

لا بد له من فاعل، وهذه قضايا بدهية جلية واضحة، يشترك في العلم بها جميع العُقلاء، وهي أعظم القضايا العقلية، فمن ارتاب فيها أو شك في دلالتها فقد برهن على ضلاله، واختلال عقله (¬1). المسلك الثاني: العدم لا يخلق شيئا: من القواعد العقلية التي ينبغي للداعية إلى الله أن لا يغفلها في دعوته مع الملحدين قاعدة: العدم لا يخلق شيئا، فالعدم الذي لا وجود له لا يستطيع أن يصنع شيئا، لأنه غير موجود. وإذا تأمل العاقل في المخلوقات التي تولد في كل يوم، من إنسان وحيوان، وتفكر في كل ما يحدث في الوجود من رياح وأمطار، وليل ونهار، وما يجري في كل حين من حركات منتظمة للشمس والقمر والنجوم والكواكب، إذا تأمل العاقل في هذا وغيره من التغيرات المحكمة التي تجري في الوجود في كل لحظة، فإن العقل يجزم بأن هذا كله ليس من صنع العدم، وإنما هو من صنع الخالق الموجود سبحانه وتعالى (¬2). المسلك الثالث: الطبيعة الصماء لا تملك قدرة، وفاقد الشيء لا يعطيه: من المعلوم عند جميع العقلاء أن الذي لا يملك مالًا لا يسأل الناس منه المال، والجاهل لا يأتي منه العلم؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. فمن زعم أن الطبيعة (¬3) خلقته أو خلقت شيئا فقد خالف العقل وحارب ¬

(¬1) انظر: الرياض الناضرة لعبد الرحمن بن ناصر السعدي ص247، ومنهاج الجدل في القرآن الكريم؛ للدكتور زاهر بن عواض الألمعي ص138. (¬2) انظر: حاشية ثلاثة الأصول لمحمد بن عبد الوهاب، بقلم عبد الرحمن بن قاسم ص29، والإيمان للزنداني مع مجموعة من العلماء ص21، وكتاب التوحيد للزنداني 1/ 21. (¬3) الطبيعة عند الماديين بمعنى المادة، والمادة بمعنى الطبيعة، وهي هذه المخلوقات بما هي عليه من صفات. انظر: موقف الإسلام من نظرية ماركس، لأحمد العوايشه ص128، والإيمان للزنداني ص36.

الحق، لأن الكون يشهد أن خالقه حكيم عليم خبير، هاد رزَّاق، حافظ رحيم، واحد أحد، والطبيعة الجامدة لا تملك مثقال ذرة من ذلك. ومن العجيب أن كل من زعم أن الطبيعة تخلق شيئًا فقد خالف مقتضى العقول؛ لأن الطبيعة لا تملك خبرة، ولهم خبرة، ولا تملك إرادة، ولهم إرادة، ولا تملك علمًا، ولهم علم! أمَا علموا أن فاقد الشيء لا يُعطيه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] (¬1) فلا بد أن يكون الخالق كاملًا كمالًا مطلقًا، بحيث يكون: 1 - مستغنيًا عن غيره. 2 - ويكون أولًا ليس له بداية. 3 - وآخرًا ليس له نهاية. 4 - لا يحدّه زمان. 5 - لا يحده مكان. 6 - قادرًا على كل شيء. 7 - عالِمًا بكل شيء، ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذه الخصائص لا يمكن أن تكون إلا لله الكامل من كل الوجوه، وبذلك يسقط -بحمد الله تعالى- قول الماديين؛ لأن المادة لا تتصف بشيء من ذلك (¬2). ¬

(¬1) سورة الحج، الآية 73. (¬2) انظر. موقف الإسلام من نظرية ماركس، لأحمد العوايشه ص125، 182، 187، ومذكرة في العقيدة الإسلامية للدكتور ناصر بن عقيل الطريفي ص9.

المسلك الرابع الصدفة العمياء لا تملك حياة

المسلك الرابع: الصدفة العمياء لا تملك حياة: يعتقد الملحدون بالصدفة (¬1) وهي أن جميع الأشياء والمخلوقات تم تكوينها على ما هي عليه بطريق الصدفة، والمقابلة، وليس ذلك بطريق القصد والإرادة والتدبير. ومن حكمة القول مع هؤلاء أن يُقال لهم: من أين حصل لهذا العَالَم هذا النظام العجيب، والترتيب الحكيم الذي حارت فيه العقول؟ كيف ينسب ذلك إلى الاتفاق والمصادفة ومجرد البخت؟ وكيف اجتمعت تلك الأجزاء على اختلاف أشكالها، وتباين مواردها وقواعدها، وكيف حفظت وبقيت على تآلفها، وكيف تجدّدت المرة بعد المرة؟! إن مثل من يقول أو يعتقد أن هذا النظام والإبداع والإتقان وُجِدَ بطريق الصدفة لا غير، كمثل من وضع حروف الهجاء: أ، ب، ت. . .، في صندوق ثم جعل يحركه طمعًا منه أن تتألف هذه الحروف من تلقاء نفسها، فيتركب منها قصيدة بليغة، أو كتاب دقيق في الهندسة، أليس ذلك من السفه المبين ونقص العقل؟! فإنه لو داوم على تحريك هذا الصندوق السنين والدهور لم يحصل إلا على حروف. ومثله كمن يقول: إن رجلًا أعمى غرزت له إبرةً في لوحة، وأُعطِي ألف إبرة، وقيل له: ارم هذه الإبر واحدة بعد الثانية، لتدخل الإبرة الأولى في ثقب الإبرة المغروسة في اللوحة، وتدخل الإبرة الثانية في ثقب الأولى، والثالثة في ثقب الثانية، وهكذا بطريق الصدفة، حتى دخلت كل الإبر في بعضها بطريق الصدفة، فهل عاقل يصدق بهذه العملية والتي قبلها؟ ¬

(¬1) الصدفة في اللغة: يقال: صادفه مصادفة: لقيه ووجده من غير موعد ولا توقع. انظر: المعجم الوسيط، مادة: صدف 2/ 510.

المسلك الخامس المناظرات العقلية الحكيمة

لا يمكن أن يُصدّق عاقل بهذا، لأنه من قبيل المستحيل الذي لا تقبله العقول ولا تُقرّة، فكيف يُصدّق عاقل أن الكون كله بما فيه من إبداع وتنظيم في كل ذرة من ذراته وُجِدَ بطريق الصدفة؟ إن مخلوقًا يُصدّق بهذه التخيلات لمجنون قطعًا، لا تصلح نسبته إلى العُقلاء، ولا يُذكر في عدادهم أبدًا {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] (¬1). وهذا فيه دلالة عقلية قاطعة على أن الله هو الخالق لكل شيء، وأن الصدفة لا وجود لها ولا تصرف في مخلوقات الله -تعالى-، وبهذا تبطل شبه أهل الإلحاد والعناد الذين قالوا بالصدفة، ولله الحمد (¬2). المسلك الخامس: المناظرات العقلية الحكيمة: من الحكمة في دعوة الملحدين والطبيعيين الماديين أن يناظروا بالمناظرات العقلية الحكيمة التي توضح لهم الحق، وتجعلهم يسلمون ويقرون بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل. ومن المناظرات التي أفحم بها المسلمون الملحدين ما ذُكِر عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- أنه اجتمع بطائفة من الملحدين وناظرهم فغلبهم، ورجعوا على أنفسهم بالملام، وقيل: إنهم رجعوا إلى الحق وأسلَمُوا على يديه (¬3). ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية 10. (¬2) انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/ 129، والإسلام يتحدى، لوحيد الدين خان ص65، وعقيدة المؤمن لأبي بكر الجزائري ص34، ومنهاج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر بن عواض الألمعي ص142. (¬3) سبقت هذه المناظرة بتمامها في مواقف أبي حنيفة، ص288، وانظر: درء تعارض العقل والنقل 3/ 127، والرياض الناضرة لسعدي ص258، وعقيدة المسلمين للبليهي 1/ 123، ومنهاج الجدل ص139.

المسلك السادس مبدأ السببية

المسلك السادس: مبدأ السببية: إن الواقع والعقول السليمة تشهد أن الإنسان منذ فتح عينيه لم يُشاهد أن حادثًا حدث من غير سبب، أو أن شيئًا وُجِد من غير موجد، حتى أصبح هذا المعنى بحكم الواقع لا يتصور العقل خلافه، ولا يأبى الإقرار به إلا عقل مفقود أو مريض كشأن المعتوهين، أو عقل قاصر كشأن الطفل الذي يكسر الإناء ثم يقول: إنه انكسر بنفسه (¬1). ولذلك أدرك الأعرابي هذه السببية عندما سُئِل: ما الدليل على وجود الرب؟ فقال: سبحان الله، إن البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبِحار ذات أمواج، ليل داج، ونهار ساج، ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير (¬2). فكل مخلوق لا بد له من خالق، وكل أثر لا بد له من مؤثر، وكل محدث لا بد له من محدث، وهذا هو قياس الشمول. أما قياس التمثيل فكقول: هذا محدث فيحتاج إلى محدث (¬3). وبناء على هذه القاعدة فعالمنا هذا، من أرض وسماوات، وإنسان وحيوان، وليل ونهار، وشمس وقمر، لا بد له من محدث، ثم إن هذا العالم لا يبقى إلا بسبب يحفظه ويبقيه، كما أنه لم يحدث إلا بسبب أحدثه، وهذا لا يقدر عليه إلا الله الواحد القهار (¬4). ¬

(¬1) انظر: موقف الإسلام من نظرية ماركس ص284 - 288. (¬2) انظر: الرياض الناضرة ص258، ومنهاج الجدل في القرآن الكريم ص139، وموقف الإسلام من نظرية ماركس ص288. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/ 73، 121 - 127. (¬4) انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/ 121، ومذكرة في العقدة الإسلامية للدكتور ناصر الطريفي ص9.

المسلك السابع التفكر في المصنوع يدل على بعض صفات الصانع

المسلك السابع: التفكر في المصنوع يدل على بعض صفات الصانع: من القواعد التي يُردّ بها على الملحدِين قاعدة التفكر في المصنوع يدلّ على بعض صفات الصانع؛ لأن كل شيء يوجد في المصنوع يدل على قدرة أو علم أو خبرة، أو حكمة عند الصانع. ومن هنا نعلم أن التفكر في المخلوق يدل على بعض صفات الخالق. إذا علم هذا فإنه يقال لمن أنكر وجود الله -تعالى- وربوبيته: تفكر في خلقك ونفسك، وانظر مبدأ خلقك من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، فكسيت العظام لحمًا، حتى صرت بشرًا كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة، أما يضطرك هذا التفكر والنظر إلى الاعتراف بالرب القادر على كل شيء، وأحاط علمه بكل شيء، الحكيم في كل ما خلقه وصنعه وأتقنه؟ فلو اجتمع الخلق كلهم على النطفة التي جعلها الله مبدأ خلق الإنسان على أن ينقلوها في تلك الأطوار المتنوعة، أو يحفظوها في ذلك القرار المكين، ويجعلوا لها سمعًا وبصرًا وعقلًا وقوىً باطنةً وظاهرةً، وينموها هذه التنمية العجيبة، ويركبوها هذا التركيب المنظم، ويرتبوا الأعضاء هذا الترتيب المحكم، فهل في اقتدارهم وفي استطاعتهم وعلومهم أن يصلوا إلى ذلك {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ - أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58 - 59] (¬1). ولا شك أن العاقل المنصف إذا تفكّر في ذلك دلّه وأوصله إلى الاعتراف بعظمة الخالق، وقدرة القادر، وحكمة الحكيم، وخبرة الخبير، وعلم العليم. وهذا دليل عقلي تضطر فيه العقول الصحيحة إلى معرفة ربها ¬

(¬1) سورة الواقعة، الآيتان 58، 59.

وعبوديته (¬1) {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ - ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14] (¬2) {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] (¬3). ¬

(¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 7/ 305، 306، 8/ 70 - 73 3/ 333، 1/ 259، والرياض الناضرة للسعدي ص248 - 257، والإيمان لعبد المجيد الزنداني مع مجموعة من العلماء ص22، وعقيدة المسلمين 1/ 109. (¬2) سورة المؤمنون، الآيات 12 - 14. (¬3) سورة الذريات، الآية 21.

المطلب الثالث الأدلة الحسية المشاهدة

المطلب الثالث الأدلة الحسية المشاهدة من الأدلة التي تدل على وجود الله -تعالى- وربوبيته وأنه الخالق لكل شيء المستحق للعبادة، الأدلة التي يسمعها الناس ويشاهدونها ويلمسونها، وهي على نوعين: النوع الأول: إجابة الله -تعالى- للدعوات في جميع الأوقات، فلا يُحصي الخلق ما يُعطيه الله للسائلين، وما يُجيب به أدعية الداعين، ويرفع، كرب المكروبين، فتحصل المطالب الكثيرة بأسباب دعاء بعض العباد لربهم، والطمع في فضله والرجاء لرحمته، وهذا برهان مشاهد محسوس، لا ينكره إلا مكابر (¬1). فكم خرج المؤمنون يطلبون -بقلوب وَجِلة تائبة- من ربهم أن يسقيهم الغيث، فكانت الإجابة على الفور في كثير من الأحيان، فيأتي الغيث إلى المدينة أو القرية التي خرجت تدعو ربها، والقرى أو المدن التي بجوارها لا يأتيها شيء، وكم رأى المضطرون تفريجا لحالة الكرب بدعائهم (¬2) {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] (¬3) وعلى هذا يشهد مئات الملايين من المسلمين، ومن رأى هذه الإجابات من المنصفين في مشارق الأرض ومغاربها. فمن الذي سمع دعاء المستغيثين فأجابهم فأنشأ السحاب وأنزل المطر؟! هل هو وثن لا يقدر على فعل شيء؟! أم طبيعة صماء لا تملك إرادةً ولا تدبيرًا، أم أن العدم الذي أنشأ وصمم، وأوجد وكوَّن، وقدّر وأتقن، وسمع فأجاب، وهو العدم الذي لا وجود له؟!! ¬

(¬1) انظر: الرياض الناضرة ص253: وشرح أصول الإيمان للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص17. (¬2) انظر: الإيمان، لعبد المجيد الزنداني مع مجموعة من العلماء ص40، والرياض الناضرة ص251. (¬3) سورة النمل، الآية 62.

والحقيقة أن ذلك كله شاهد يتحدث إلى العقول البشرية أن لها ربًّا حكيمًا قادرًا سميعًا بصيرًا مجيبًا (¬1) فعن أنس -رضي الله عنه- «أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السُّبُل، فادع الله أن يُغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا". قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سبتًا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنَّا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظِّراب وبطون الأودية ومنابت الشجر"، فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس» (¬2). وهذا الحديث الآية من آيات الله تدل على وجوده، وأنه القادر على كل شيء، وقد حصل هذا للمسلمين كثيرًا، ولهذا قال الشاعر: وكم أصاب المسلمين من جفاف ... فنفروا ثقالهم مع الخفاف وطلبوا من الإله الفرجا ... فحققوا الفوز ونالوا المخرجا فهل طبيعة أجابت أم وثن ... أم أنه السميع كشاف المحن (¬3) ¬

(¬1) انظر: كتاب التوحيد، لعبد المجيد الزنداني 1/ 43. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة 2/ 507، وانظر: البخاري مع الفتح 2/ 501، 2/ 508، وأخرجه مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء 2/ 612. (¬3) هذه الأبيات لعبد الرحمن قاضي، انظر: الإيمان لعبد المجيد الزنداني ص40.

وما زالت إجابة الداعين أمرًا مشهودًا إلى يومنا هذا لمن صدق مع الله، وأتى بشروط الإجابة. النوع الثاني: معجزات الأنبياء الحسّية، وهي آيات يشاهدها الناس أو يسمعون بها، وهي من أعظم البراهين القاطعة على وجود مرسلهم؛ لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر، يجريها الله -تعالى- تأييدًا لرسله، ونصرًا لهم. ومن أمثلة ذلك: الآية موسى صلى الله عليه وسلم حين أمره الله -تعالى- أن يضرب بعصاه البحر، فضربه فانفلق اثني عشر طريقًا يابسًا، والماء بينها كالجبال، قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] (¬1). ومن آيات عيسى صلى الله عليه وسلم أنه كان يحيي الموتى ويخرجهم من قبورهم بإذن الله، قال تعالى: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] (¬2) {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110] (¬3). ومن آيات محمد صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر، فقد طلبت منه قريش آيةً، فأشار إلى القمر، فانفلق فرقتين، فرآه الناس حقيقة في عهده صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ - وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1 - 2] (¬4). وهذه الآيات المحسوسة تدل دلالة قاطعة على وجود الله -تعالى- (¬5). ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآية 63. (¬2) سورة آل عمران، الآية 49. (¬3) سورة المائدة، الآية 110. (¬4) سورة القمر، الآيتان 1، 2. (¬5) انظر: شرح أصول الإيمان، للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص18.

المطلب الرابع الأدلة الشرعية

المطلب الرابع الأدلة الشرعية طريق الهداية الكاملة هو ما جاء عن الله -تعالى-، أو عن رسله عليهم الصلاة والسلام، وهي تجمع بين الأدلة النقلية والعقلية، وهي من أعظم الأدلة التي تهدي لمعرفة الله -تعالى- والإيمان به -عز وجل-، وتبعث المهتدي بها إلى العمل المزكي للنفس، والمهيئ له إلى سعادة الدارين، بخلاف الهداية العقلية وحدها، فإنها -وإن أنقذت صاحبها من القلق النفسي والحيرة الفكرية- لا تزكّي نفسه، ولا تُقوّم أخلاقه، ولا تهيئه لسعادة الدّارين، ولا تخرجه من دائرة الكفر حتى يؤمن بالأدلة الشرعية ويعمل بمقتضاها (¬1). والكتب السماوية كلها تنطق بأن الله هو الخالق لكل شيء، المستحق للعبادة، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح العباد، دليل على أنها من ربّ حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها، دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به (¬2). ودلالة القرآن الكريم نوعان: (أ) خبر الله الصادق، فما أخبر الله -تعالى- به، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق وصدق (¬3) ولا يمكن أن يكون في ذلك شيء مُناقضٌ لدليل عقلي ولا سمعي (¬4) لأن ما أثبته السمع الصحيح لم ينفه العقل الصريح (¬5) والمعقول الصريح يوافق ما جاءت به الرسل ولا يناقضه (¬6) وكل ما عارض ¬

(¬1) انظر: عقيدة المؤمن، لأبي بكر جابر الجزائري ص39، 49، 63. (¬2) انظر: شرح أصول الإيمان، لمحمد بن صالح العثيمين ص17. (¬3) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 6/ 71. (¬4) انظر: درء تعارض العقل والنقل (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) 1/ 172 - 180. (¬5) انظر: درء تعارض العقل والنقل 7/ 39. (¬6) انظر: المرجع السابق 6/ 5.

الشرع من العقليات ليس دليلًا صحيحًا (¬1). (ب) دلالة القرآن بضرب الأمثال، وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب، فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي شرعية؛ لأن الشرع دل عليها وأرشد إليها وأثبتها، وعقلية لأنها تعلم صحتها بالعقل (¬2) كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22] (¬3). ويمكن أن أقتصر في الأدلة الشرعية التي تثبت وجود الله -تعالى-، وأنه رب كل شيء ومليكه ومدبّره، ويستلزم ذلك أنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه على ذكر طريقين (¬4). الطريق الأول: توجيه الله -تعالى- الأنظار والقلوب إلى ما في هذا الكون من مخلوقات عجيبة تبهر العقول، فقد بيّن -سبحانه- في كتابه الآيات الكونية الباهرة الدالة على وجوده -سبحانه- وكمال قدرته، وعظيم تدبيره، وإتقان صنعه، ومن ذلك عجائب خلق الإنسان وعناية الله به، وبيانه - سبحانه- ما في عالم الحيوان من خلقه وتكوينه، وأجهزته، وتنويعه، وعالم النبات، وما فيه من غرائب وعجائب وسُنن تُحار فيها العقول، والرياح السيارة، وأعظم من ذلك كله توجيه الأنظار إلى خلق السماوات والأرض، والليل والنهار، وما في ذلك من آيات تدل على عظمة ¬

(¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل، 5/ 279. (¬2) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/ 71، 72. (¬3) سورة البقرة، الآيتان 21، 22. (¬4) انظر: درء تعارض العقل والنقل 8/ 354، 7/ 302، 307، 9/ 40، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 377 - 380، وعقيدة المؤمن لأبي بكر الجزائري ص63، والرياض الناضرة للسعدي ص253 - 267.

الخالق (¬1) قال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] (¬2). والقرآن الكريم يزخر بالأدلة على هذا النوع. الطريق الثاني: معجزات الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، فقد أيد الله الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بالمعجزات الباهرة للعقول، والخارقة لسنن الكون وقوانين الحياة، ليستدلوا بها على صدق نبوتهم، وإثبات رسالتهم، فإذا ثبتت نبوة الرسل بقيام المعجزات علم أن هناك مرسلًا أرسلهم؛ لأن ثبوت الرسالة يستلزم ثبوت الْمُرسِل، والعلم بالإضافة يستلزم العلم بالمضاف إليه، فالمعجزات نفسها يعلم بها صدق الرسول المتضمن لإثبات من أرسله، والآيات الباهرات التي يستدل بها على إثبات الخالق تدل المعجزة كدلالتها وأعظم (¬3). ¬

(¬1) انظر: معالم الدعوة في القصص القرآني للدكتور عبد الوهاب بن لطف الديلمي 1/ 251، ومناهج الجدل ص148. (¬2) سورة البقرة، الآية 164. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل 9/ 40، 41، 43، 7/ 302 - 307، وفتاوى شيخ الإسلام 11/ 377. وخلاصة ما ذكر ابن تيمية في إثبات وجود الله -تعالى- كالتالي: 1 - الاستدلال بآيات الله في الكون. 2 - أدلة الفطرة، فإن الخلق مفطورون على الإقرار بالخالق. 3 - الاستدلال على الله بالله، فإنه عرفنا نفسه فعرفناه. 4 - الاستدلال بمعجزات الرسل. 5 - إجماع الأمم وأصحاب العقول والفطر السليمة. 6 - المقاييس العقلية. انظر: فتاوى شيخ الإسلام 36/ 21 - 23، وستجد جميع الإحالات إلى المواضع التي ذكرها ابن تيمية في فتاواه.

المبحث الثاني حكمة القول مع الوثنيين

المبحث الثاني حكمة القول مع الوثنيين تمهيد. المطلب الأول: الحجج العقلية على إثبات ألوهية الله. المطلب الثاني: ضعف جميع المعبودات من دون الله. المطلب الثالث: ضرب الأمثال الحكيمة. المطلب الرابع: الكمال المطلق لإله الحق وحده. المطلب الخامس: التوحيد دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام. المطلب السادس: الغلو في الصالحين سبب شرك البشر. المطلب السابع: الشفاعة المثبتة والمنفية. المطلب الثامن: الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده. المطلب التاسع: البعث بعد الموت.

تمهيد

تمهيد الوثني: من يتدين بعبادة الوثن (¬1) يقال: رجل وثَنِي، وقوم وثنيُّون، وامرأة وثنيَّة، ونساء وثنيّات (¬2) واسم الوثن يتناول كل معبود من دون الله. سواء كان ذلك المعبود قبرًا، أو مشهدًا، أو صورةً، أو غير ذلك (¬3). وكل من دعا نبيًّا أو وليًّا أو ملَكًا أو جنيًّا، أو صرف له شيئًا من العبادة فقد اتخذه إلهًا من دون الله (¬4) وهذا هو حقيقة الشرك الأكبر الذي قال الله -تعالى- فيه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] (¬5) ¬

(¬1) الوثن: الصنم، والجمع وُثُنٌ وأوثان وهو التمثال يُعبد، سواء كان من خشب، أو حجر، أو نحاس، أو فضة أو غير ذلك. وقد كان الوثنيون يزعمون أن عبادته تقربهم إلى الله -تعالى-، كما بين -سبحانه- ذلك عنهم بقوله: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. [سورة الزمر، الآية 3]. انظر: القاموس المحيط، باب النون، فصل الواو، ص1597، وباب الميم فصل الصاد ص1460، والمعجم الوسيط مادة (وثن) 2/ 1012، ومادة (صنم) 1/ 526، والمصباح المنير، مادة (وثن) ص647، 648، ومادة (صنم) ص349، ومختار الصحاح، مادة (وثن) ص295، ومادة (صنم) ص156. (¬2) انظر: المعجم الوسيط، مادة (وثن) 2/ 1012، والمصباح المنير، مادة (وثن) ص648. قال ابن الأثير: الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض، أو من خشب، أو حجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد. والصنم. الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بينهما، وأطلقهما على المعنيَيْن. انظر. النهاية في غريب الحديث 5/ 151، 3/ 56. ثم قال: وقد يطلق الوثن على غير الصورة، ومنه حديث عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: "يا عدي اطرح عنك هذا الوثن" أخرجه الترمذي في كتاب التفسير، باب سورة التوبة، 5/ 278، برقم3095، وانظر: صحيح الترمذي 3/ 56. (¬3) انظر: فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ص244. (¬4) انظر: فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد، ص242. (¬5) سورة النساء، الآية 48.

والمشركون يُدعَوْن إلى الله -تعالى- بالحكمة القولية على حسب عقولهم وأفهامهم. وسأبيّن ذلك -بإذن الله تعالى- في المطالب التالية: المطلب الأول: الحجج والبراهين العقلية القطعية على إثبات ألوهية الله تعالى. المطلب الثاني: ضعف جميع المعبودات من دون الله من كل الوجوه. المطلب الثالث: ضرب الأمثال الحكيمة. المطلب الرابع: الكمال المطلق للإله المستحق للعبادة وحده. المطلب الخامس: التوحيد دعوة جميع الرسل، عليهم الصلاة والسلام. المطلب السادس: الغلو في الصالحين سبب كفر بني آدم. المطلب السابع: الشفاعة المثبتة والمنفية. المطلب الثامن: الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده. المطلب التاسع: البعث بعد الموت.

المطلب الأول الحجج العقلية القطعية على إثبات ألوهية الله تعالى

المطلب الأول الحجج العقلية القطعية على إثبات ألوهية الله تعالى من البراهين القطعية التي ينبغي للدعاة إلى الله تبيينها وتوضيحها لمن اتّخذ من دون الله آلهة أخرى، قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ - لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ - لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 21 - 23] (¬1). فقد أنكر -سبحانه- على من اتخذ من دونه آلهة من الأرض، سواء كانت أحجارًا أو خشبًا، أو غير ذلك من الأوثان التي تعبد من دون الله! فهل هم يحيون الأموات ويبعثونهم؟ والجواب: كلا، لا يقدرون على شيء؟ من ذلك" ولو كان في السماوات والأرض آلهة تستحق العبادة غير الله لفسدتا وفسد ما فيهما من المخلوقات؟ لأن تعدد الآلهة يقتضي التمانع والتنازع والاختلاف، فيحدث بسببه الهلاك، فلو فرض وجود إلهين، وأراد أحدهما أن يخلق شيئًا والآخر لا يريد ذلك، أو أراد أن يُعطي والآخر أراد أن يمنع، أو أراد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه، فحينئذ يختل نظام العالم، وتفسد الحياة!؛ وذلك: لأنه يستحيل وجود مرادهما معًا، وهو من أبطل الباطل، فإنه لو وجد مرادهما جميعًا للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد حيًّا ميتًا، متحركًا ساكتًا. وإذا لم يحصل مراد واحد منهما لزم عجز كل منهما، وذلك يناقض الربوبية. وإن وُجِد مراد أحدهما ونفذ دون مراد الآخر، كان النافذ مراده هو الإله القادر والآخر عاجز ضعيف مخذول. ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآيات 21 - 23.

واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور غير ممكن. وحينئذ يتعين أن القاهر الغالب على أمره هو الذي يوجد مراده وحده من غير مُمانع ولا مُدافع، ولا مُنازع ولا مُخالف ولا شريك، وهو الله الخالق الإله الواحد، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ ولهذا ذكر -سبحانه- دليل التمانع في قوله عز وجل: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91 - 92] (¬1). وإتقان العالم العلوي والسفلي، وانتظامه منذ خلقه، واتساقه، وارتباط بعضه ببعض في غاية الدقة والكمال: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] (¬2). وكل ذلك مسخر ومدبر بالحكمة لمصالح الخلق كلهم -يدل على أن مدبره واحد، وربه واحد، وإلهه واحد، لا معبود غيره، ولا خالق سواه (¬3). ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية 91، 92. (¬2) سورة الملك، الآية 3. (¬3) انظر درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 9/ 352، 354، 337 - 382، 1/ 35 - 37، وتفسير البغوي 3/ 241، 316، وابن كثير 3/ 255، 176، وفتح القدير للشوكاني 3/ 402، 496، وتفسير عبد الرحمن السعدي 5/ 220، 374، وأيسر التفاسير لأبي بكر جابر الجزائري 3/ 99، ومناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر بن عواض الألمعي ص158 - 161.

المطلب الثاني ضعف جميع المعبودات من دون الله من كل الوجوه

المطلب الثاني ضعف جميع المعبودات من دون الله من كل الوجوه من المعلوم عند جميع العقلاء أن كل ما عبد من دون الله من الآلهة ضعيف من كل الوجوه، وعاجز ومخذول، وهذه الآلهة لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئًا من ضر أو نفع، أو حياة أو موت، أو إعطاء أو منع، أو خفض أو رفع، أو عزّ أو ذلّ، وأنها لا تتصف بأي صفة من الصفات التي يتصف بها الإله الحق، فكيف يعبد من هذه حاله؟ وكيف يُرجى أو يُخاف من هذه صفاته؟ وكيف يُسئل من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئا (¬1). وقد بيّن الله -عز وجل- ضعف وعجز كل ما عبد من دونه أكمل بيان، فقال -سبحانه-: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76] (¬2) {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ - وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ - وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ - إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ - إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ - وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ - وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 191 - 198] (¬3). ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 83، 219، 277، 417، 3/ 47، 211، 310، وتفسير السعدي 2/ 327، 420، 3/ 290، 451، 5/ 279، 457، 6/ 153، وأضواء البيان للشنقيطي 2/ 482، 3/ 101، 322، 598، 5/ 44، 6/ 268. (¬2) سورة المائدة، الآية 76. (¬3) سورة الأعراف، الآيات 191 - 198.

وهي مع هذه الصفات لا تملك كشف الضر عن عابديها ولا تحويله إلى غيرهم {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56] (¬1). ومن المعلوم يقينًا أن ما يعبده المشركون من دون الله من؛ الأنبياء أو الصالحين أو الملائكة أو الجن الذين أسلموا، أنهم في شغل شاغل عنهم باهتمامهم بالافتقار إلى الله بالعمل الصالح، والتنافس في القُرْب من ربهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، فكيف يُعْبَد مَن هذه حاله؟ (¬2) قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] (¬3). وقد أوضح وبين سبحانه أن ما عُبِد من دونه قد توفرت فيهم جميع أسباب العجز وعدم إجابة الدعاء من كل وجه؛ فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض لا على وجه الاستقلال، ولا على وجه الاشتراك، وليس لله من هذه المعبودات من ظهير يساعده على ملكه وتدبيره، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (¬4) قال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ - وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23] (¬5). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية 56. (¬2) انظر. تفسير ابن كثير 3/ 48، وتفسير السعدي 4/ 291. (¬3) سورة الإسراء، الآية 57. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 37، وتفسير السعدي 6/ 274. (¬5) سورة سبأ، الآيتان 22، 23.

المطلب الثالث ضرب الأمثال الحكيمة

المطلب الثالث ضرب الأمثال الحكيمة ضرب الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإيضاح والبيان في إبراز الحقائق المعقولة في صورة الأمر المحسوس، وهذا من أعظم ما يرد به على الوثنيين في إبطال عقيدتهم وتسويتهم المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم؛ ولكثرة هذا النوع في القرآن الكريم فسأقتصر على ثلاثة أمثلة توضح المقصود كالتالي: 1 - قال الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ - مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73 - 74] (¬1). حق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره، فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، فالآلهة التي تُعبَد من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئًا مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو أضعف المخلوقات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة الباطلة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟! وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله -تعالى- في بطلان الشرك وتجهيل أهله (¬2). ¬

(¬1) سورة الحج، الآيتان 73، 74. (¬2) انظر: أمثال القرآن لابن القيم ص47، والتفسير القيم لابن القيم ص368، وتفسير البغوي 3/ 298، وابن كثير 3/ 236، وفتح القدير للشوكاني 3/ 470، وتفسير السعدي 5/ 326.

2 - ومن أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده، قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ - إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 41 - 43] (¬1). فهذا مثل ضربه الله لمن عبد معه غيره يقصد به التعزز والتقوي والنفع، فبين سبحانه أن هؤلاء ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء من دون الله أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت التي هي من أضعف الحيوانات، اتخذت بيتًا وهو من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفًا، وكذلك من اتخذ من دون الله أولياء، فإنهم ضعفاء، وازدادوا باتخاذهم ضعفًا إلى ضعفهم (¬2). 3 - ومن أبلغ الأمثال التي تبين أن المشرك قد تشتت شمله واحتار في أمره، ما بينه تعالى بقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] (¬3). فهذا مثل ضربه الله -تعالى- للمشرك والموحد، فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شُبِّهَ بعبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون، سيئة أخلاقهم، يتنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، فهو في عذاب. ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآيات 41 - 43. (¬2) انظر: تفسير البغوي 3/ 468، وأمثال القرآن لابن القيم ص21، وفتح القدير للشوكاني 4/ 204. (¬3) سورة الزمر، الآية 29.

والموحد لما كان يعبد الله وحده لا شريك له، فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه واختلافهم، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟ والجواب: كلا، لا يستويان أبدًا (¬1). ¬

(¬1) انظر البغوي 4/ 78، وابن كثير 4/ 52، والتفسير القيم ص423، وفتح القدير للشوكاني 4/ 462، وتفسير السعدي 6/ 468، وتفسير الجزائري 4/ 43.

المطلب الرابع الكمال المطلق للإله الحق المستحق للعبادة وحده

المطلب الرابع الكمال المطلق للإله الحق المستحق للعبادة وحده بعد أن عرفنا صفات الآلهة الباطلة، وأنها لا تملك لنفسها ولا لغيرهما ضرًا ولا نفعًا، فهي لا تستحق العبادة، وإنما الذي يستحق العبادة وحده من يملك القدرة على كل شيء، والإحاطة بكل شيء، وكمال السلطان والغلبة والقهر والهيمنة على كل شيء، والعلم بكل شيء، ويملك الدنيا والآخرة، والنفع والضر، والعطاء والمنع بيده وحده، فمن كان هذا شأنه فإنه حقيق بأن يُذْكَر فلا يُنسَى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُطاع فلا يُعصى، ولا يُشرك معه غيره (¬1). وصفات الكمال المطلق لله -تعالى- لا يحيط بها أحد، ولكن منها على سبيل المثال. 1 - المتفرد بالألوهية: لا يستحق الألوهية إلا الله وحده، الحي الذي لا يموت أبدًا، القيوم الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع المخلوقات، وهي مفتقرة إليه في كل شيء، ومن كمال حياته وقيوميته أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وجميع ما في السماوات والأرض عبيده، وتحت قهره وسلطانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 93 - 94] (¬2). ومن تمام ملكه وعظمته وكبريائه أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكل ¬

(¬1) انظر: تفسير البغوي 1/ 237، 3/ 71، 2/ 88، 372، وابن كثير 1/ 309، 2/ 572. 3/ 42، 2/ 127، 435، 570، 1/ 344، 2/ 138، وتفسير السعدي 1/ 313، 7/ 686، 2/ 381، 3/ 397، 4/ 204، 6/ 364، 1/ 356، 2/ 372، وأضواء البيان 2/ 187، 3/ 271. (¬2) سورة مريم، الآيتان 93، 94.

الوجهاء والشفعاء عبيد له، لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم، ولا يأذن إلا لمن ارتضى، وعلمه تعالى محيط بجميع الكائنات، ولا يطلع أحد على شيء من علمه إلا ما أطلعهم عليه، ومن عظمته أن كرسيه وسع السماوات والأرض، وأنه قد حفظهما وما فيهما من مخلوقات، ولا يثقله حفظهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القاهر لكل شيء، العلي بذاته على جميع مخلوقاته، والعلي بعظمته وصفاته، العلي الذي قهر المخلوقات ودانت له الموجودات، العظيم الجامع لصفات العظمة والكبرياء، وقد دل على هذه الصفات العظيمة قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255] الآية (¬1). 2 - وهو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه، فانقادت له المخلوقات بأسرها: جماداتها وحيواناتها، وإنسها وجنها وملائكتها {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] (¬2). 3 - وهو الإله الذي بيده النفع والضر، فلو اجتمع الخلق على أن ينفعوا مخلوقًا لم ينفعوه إلا بما كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إذا لم يرد الله ذلك، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 255. (¬2) سورة آل عمران، الآية 83. (¬3) سورة يونس، الآية 107.

4 - وهو القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] (¬1). 5 - إحاطة علمه بكل شيء، شامل للغيوب كلها: يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون (¬2) {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] (¬3) {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] (¬4) {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] (¬5) {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] (¬6). ولا شك أن من عرف هذه الصفات وغيرها من صفات الكمال والعظمة، فإنه سيعبد الله وحده؛ لأنه الإله المستحق للعبادة. ¬

(¬1) سورة يس، الآية 82. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 344، 2/ 138، والسعدي 2/ 356، 2/ 372. (¬3) سورة آل عمران، الآية 5. (¬4) سورة يونس، الآية 61. (¬5) سورة الأنعام، الآية 59. (¬6) سورة الأنفال، الآية 75.

المطلب الخامس التوحيد دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام

المطلب الخامس التوحيد دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام يجب أن يبلغ كل من أشرك بالله -تعالى- أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- دَعَوْا أقوامهم إلى عبادة الله وحده دون ما سواه، وأن الحجة قد قامت على جميع الأمم، وما من أمة إلا بعث الله فيهم رسولًا، وكلهم يَدْعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له (¬1) قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36] (¬2) {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] (¬3) وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] (¬4). فبين سبحانه في هذه الآيات عن طريق العموم أن جميع الرسل دعوا إلى "لا إله إلا الله"، وخلع جميع المعبودات من دون الله (¬5) وفصَّل ذلك في مواضع أخرى من كتابه، كقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] (¬6) {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] (¬7) {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73] (¬8) ¬

(¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 9/ 344، وتفسير ابن كثير 2/ 567، والسعدي 4/ 202، وأضواء البيان للشنقيطي 3/ 268. (¬2) سورة النحل، الآية 36. (¬3) سورة الأنبياء، الآية 25. (¬4) سورة الزخرف، الآية 45. (¬5) انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 3/ 268. (¬6) سورة الأعراف، الآية 59. (¬7) سورة الأعراف، الآية 65. (¬8) سورة الأعراف، الآية 73.

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85] (¬1) {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] (¬2). وهذا بلاغ مبين من الله لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. فالداعية إلى الله -تعالى- يقوم بإيصال هذه الحكم القولية إلى الناس، ويبين لهم ذلك، فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها، وما ربك بظلام للعبيد. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية 85. (¬2) سورة المائدة، الآية 72.

المطلب السادس الغلو في الصالحين سبب شرك البشر

المطلب السادس الغلو في الصالحين سبب شرك البشر من أعظم الحكم القولية في دعوة من تعلق بغير الله -تعالى- أن يبين لهم أن الغلو في الصالحين هو سبب الشرك بالله -تعالى-، فقد كان الناس منذ أُهبِط آدم صلى الله عليه وسلم إلى الأرض على الإسلام، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" (¬1). وبعد ذلك تعلق الناس بالصالحين، ودب الشرك في الأرض، فبعث الله نوحًا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى عبادة الله وحده، وينهى عن عبادة ما سواه (¬2) وردَّ عليه قومه: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] (¬3). وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِي العلم عُبِدَت" (¬4). وهذا سببه الغلو في الصالحين، فإن الشيطان يدعو إلى الغلو في الصالحين وإلى عبادة القبور، ويُلقي في قلوب الناس أن البناء والعكوف عليها من محبة أهلها من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها، وشأن الله أعظم من أن يُسأل بأحد من خلقه، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنًا تعلق ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التاريخ، 2/ 546، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 101، وعزاه إلى البخاري، وانظر: فتح الباري 6/ 372. (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 1/ 106. (¬3) سورة نوح، الآية 23. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة نوح، 8/ 667، برقم 4920.

عليه الستور، ويطاف به، ويُسَلِّم ويُقَبِّل، ويذبح عنده، ثم ينقلهم من ذلك إلى مرتبة رابعة: وهي دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدًا، ثم ينقلهم إلي أن من نهى عن ذلك فقد تَنَقَّص أهل هذه الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وعند ذلك يغضبون (¬1). ولهذا حذر الله عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ورفع المخلوق عن منزلته التي أنزله الله -تعالى-، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] (¬2) ولهذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإطراء فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» (¬3) وقال: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (¬4). وحذر صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن عبادة الله عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم، ولهذا لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة -رضي الله عنهما- لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بَنَوْا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" (¬5). ¬

(¬1) انظر: تفسير الطبري 29/ 62، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص246. (¬2) سورة النساء، الآية 171. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: واذكر في الكتاب مريم. . . 6/ 478، 12/ 144، وانظر شرحه في الفتح 12/ 149. (¬4) النسائي، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى 5/ 268، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي 2/ 1008، وأحمد 1/ 347. (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد 1/ 523، 3/ 208، 7/ 187، وأخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور. . 1/ 375.

ومن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أنه عندما نزل به الموت قال: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». قالت عائشة - رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا (¬1). وقال قبل أن يموت بخمس: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» (¬2). وحذر صلى الله عليه وسلم أمته عن اتخاذ قبره وثنًا يُعبد في دون الله، ومن باب أولى غيره من الخلق، فقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬3). ولعن صلى الله عليه وسلم من اتخذ المساجد على القبور؛ لينفِّر عن هذا الفعل، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» (¬4). ولم يترك صلى الله عليه وسلم بابًا من أبواب الشرك التي تُوَصِّل إليه إلا سَدَّه (¬5) قال صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب حدثنا أبو اليمان 1/ 532، 3/ 200، 6/ 494، 7/ 186، 8/ 140، 10/ 277، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها 1/ 377. (¬2) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور 1/ 377. (¬3) الموطأ للإمام مالك، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة 1/ 172، وهو عنده مرسل، ولفظ أحمد 2/ 246: " اللهم لا تجعل قبري وثنًا، ولعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، وأبو نعيم في الحلية 7/ 317، وانظر: فتح المجيد ص150. (¬4) النسائي، كتاب الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور 4/ 94، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء القبور 3/ 218، والترمذي، كتاب الصلاة، باب كراهية أن يتخذ على القبر مسجدًا 2/ 136، وابن ماجه في الجنائز، باب النهي عن زيارة النساء للقبور 1/ 502، وأحمد 1/ 229، 287، 324، 2/ 337، 3/ 442، 443، والحاكم 1/ 374، وانظر ما نقله صاحب فتح المجيد في تصحيح الحديث عن ابن تيمية ص276. (¬5) انظر: فتح المجيد ص281.

«لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» (¬1). وقد بين صلى الله عليه وسلم أن القبور ليست مواضع للصلاة، وأن من صلى عليه وسلم فستبلغه صلاته سواء كان بعيدًا عن قبره أو قريبًا، فلا حاجة لاتخاذ قبره عيدًا: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام» (¬3). وإذا كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدًا، فغيره أولى بالنهي كائنًا ما كان (¬4). وقد كان صلى الله عليه وسلم يطهر الأرض من وسائل الشرك، فيبعث بعض أصحابه إلى هدم القباب المشرفة على القبور، وطمس الصور، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته" (¬5). وكما سد صلى الله عليه وسلم كل باب يوصّل إلى الشرك فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» (¬6). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه 2/ 668. (¬2) أبو داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور 2/ 218 بإسناد حسن، وأحمد 2/ 357، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 1/ 383. (¬3) النسائي في السهو، باب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم 3/ 43، وأحمد 1/ 452، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 21، ص24، وسنده صحيح. (¬4) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم 6/ 165 - 174. (¬5) مسلم، كناب الجنائز، الأمر بتسوية القبر 1/ 666. (¬6) البخاري مع الفتح، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 3/ 63، ومسلم بلفظه، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره 2/ 976.

فدخل في هذا النهي شدّ الرحال لزيارة القبور والمشاهد، وهو الذي فهمه الصحابة -رضي الله عنهم- من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا عندما أبو هريرة -رضي الله عنه- إلى الطور، فلقيه بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فقال: من أين جئت؟ قال: من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد». . . " (¬1). ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل ينهى عن ذلك" (¬2). فتبين أن زيارة القبور نوعان: النوع الأول: زيارة شرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات صلاة الجنازة، ولتذكر الموت، بشرط عدم شدِّ الرحال؟ ولا تباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. النوع الثاني: زيارة شركية وبدعية (¬3) وهذا النوع ثلاثة أنواع: 1 - من يسأل الميت حاجته، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام. 2 - من سأل الله -تعالى- بالميت، كمن يقول: أتوسل إليك بنبيك، أو بحق الشيخ فلان، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام، ولا يصل إلى الشرك الأكبر، فهو لا يُخْرِج عن الإسلام كما يخرج الأول. ¬

(¬1) النسائي، كتاب الجمعة، باب الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة 3/ 114، ومالك في الموطأ، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة 1/ 109، وأحمد في المسند 6/ 7، 397، وانظر: فتح المجيد ص289، وصحيح النسائي، 1/ 309. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية 1/ 234. (¬3) انظر: فتاوى ابن تيمية 1/ 233، والبداية والنهاية 14/ 123.

3 - من يظن أن الدعاء عند القبور مُستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، وهذا من المنكرات بالإجماع (¬1). فإذا سلك الداعية هذه المسالك في دعوة الوثنيين بالحكمة القولية وُفِّق بإذن الله تعالى. ¬

(¬1) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية 6/ 165 - 174.

المطلب السابع الشفاعة المثبتة والمنفية

المطلب السابع الشفاعة المثبتة والمنفية الشفاعة لغة: يقال: شفع الشيء: ضم مثله إليه، فجعل الوتر شفعا (¬1). واصطلاحا: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة (¬2). من الحكمة القولية في دعوة من يتعلق بغير الله -تعالى- ويطلب الشفاعة منه أن يبين له أن الشفاعة ملك لله وحده {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 44] (¬3). ويمكن أن يرد على من طلب الشفاعة من غير الله- تعالى- بالأقوال الحكيمة الآتية: أولا: ليس المخلوق كالخالق، فكل من قال: إن الأنبياء، والصالحين، والملائكة أو غيرهم من المخلوقين لهم عند الله جاه عظيم، ومقامات عالية، فهم يشفعون لنا عنده كما يتقرب إلى الوجهاء والوزراء عند الملوك والسلاطين، ليجعلوهم وسائط لقضاء حاجاتهم، فهذا القول من أبطل الباطل؛ لأنه شبه الله العظيم ملك الملوك بالملوك الفقراء، المحتاجين للوزراء والوجهاء في تكميل ملكهم ونفوذ قوتهم، فإن الوسائط بين الملوك وبين الناس على أحد وجوه ثلاثة: 1 - إما لإخبارهم عن أحوال الناس بما لا يعرفونه. 2 - أو يكون الملك عاجزا عن تدبير رعيته، فلابد له من أعوان؛ لذله وعجزه. ¬

(¬1) انظر: القاموس المحيط، باب العين، فصل الشين ص 947، والنهاية في غريب الحديث 2/ 485، والمعجم الوسيط 1/ 487. (¬2) انظر: شرح لمعة الاعتقاد للشيخ محمد صالح العثيمين ص 80. (¬3) سورة الزمر، الآية 44.

3 - أو يكون الملك لا يريد نفع رعيته والإحسان إليهم، فإذا خاطبه من ينصحه ويعظه تحركت إرادته وهمته في قضاء حوائج رعيته. والله -عز وجل- ليس كخلقه الضعفاء، فهو تعالى لا تخفى عليه خافية، وغني عن كل ما سواه، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، ومعلوم أن الشافع عند ملوك الدنيا قد يكون له ملك مستقل، وقد يكون شريكا لهم، وقد يكون معاونا لهم، فالملوك يقبلون شفاعته لأحد ثلاثة أمور: (أ) تارة لحاجتهم إليه. (ب) وتارة لخوفهم منه. (ج) وتارة لجزاء إحسانه إليهم. وشفاعة العباد بعضهم عند بعض من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة، والله- عز وجل- لا يرجو أحدا ولا يخافه، ولا يحتاج إليه (¬1)؛ ولهذا قطع الله جميع أنواع التعلقات بغيره، وبين بطلانها، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ - وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23] (¬2). فقد سدت هذه الآية على المشركين جميع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك أبلغ سد وأحكمه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود مالكا للأسباب التي ينتفع بها عابده، أو يكون شريكا لمالكها، أو ظهيرا، أو وزيرا، أو معاونا له، أو وجيها ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك، وانقطعت مواده (¬3). ¬

(¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية 1/ 126 - 129. (¬2) سورة سبأ، الآيتان 22، 23. (¬3) انظر: التفسير القيم، لابن القيم ص 408.

ثانيا: الشفاعة شفاعتان: (أ) شفاعة مثبتة: وهي التي تطلب من الله ولها شرطان: الشرط الأول: إذن الله للشافع أن يشفع، لقوله تعالى:. . {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] (¬1). الشرط الثاني: رضا الله عن الشافع والمشفوع له؛ لقوله تعالى. . . . {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] (¬2) {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] (¬3). (ب) الشفاعة المنفية: وهي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والشفاعة بغير إذنه ورضاه، والشفاعة للكفار: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] (¬4) ويستثنى شفاعته صلى الله عليه وسلم في تخفيف عذاب أبي طالب (¬5). ثالثا: الاحتجاج على من طلب الشفاعة من غير الله بالنص والإجماع، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الأنبياء من قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة، أو الأنبياء، أو الصالحين، ولا يطلبوا منهم الشفاعة، ولم يفعل ذلك أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولم يستحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا مجتهد يعتمد على قوله في الدين، ولا من يعتبر قوله في مسائل الإجماع، فالحمد لله رب العالمين (¬6). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 255. (¬2) سورة الأنبياء، الآية 28. (¬3) سورة طه، الآية 109. (¬4) سورة المدثر، الآية 48. (¬5) انظر: البخاري مع الفتح، مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب 7/ 173، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذابا، برقم 211، 1/ 195. (¬6) انظر: فتاوى ابن تيمية 1/ 112، 158، 14/ 399 - 414، 1/ 108 - 165، 14/ 380، 409، 1/ 160 - 166، 195، 228، 229، 241، ودرء تعارض العقل والنقل 5/ 147، وأضواء البيان 1/ 137.

المطلب الثامن الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده

المطلب الثامن الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده من الحكمة في دعوة المشركين إلى الله -تعالى- لفت أنظارهم وقلوبهم إلى نعم الله العظيمة: الظاهرة والباطنة، والدينية والدنيوية. فقد أسبغ على عباده جميع النعم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] (¬1) وسخر هذا الكون وما فيه من مخلوقات لهذا الإنسان. وقد بين سبحانه هذه النعم، وامتن بها على عباده، وأنه المستحق للعبادة وحده، ومما امتن به عليهم ما يأتي: أولا: على وجه الإجمال: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] (¬2) {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] الآية (¬3). {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13] (¬4). فقد شمل هذا الامتنان جميع النعم: الظاهرة والباطنة، الحسية والمعنوية، فجميع ما في السماوات والأرض قد سخر لهذا الإنسان، وهو شامل لأجرام السماوات والأرض، وما أودع فيهما من: الشمس والقمر والكواكب، والثوابت والسيارات، والجبال والبحار والأنهار، وأنواع الحيوانات، وأصناف الأشجار والثمار، وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو من مصالح بني آدم، ومصالح ما هو من ضروراتهم للانتفاع والاستمتاع والاعتبار. ¬

(¬1) سورة النحل، الآية 53. (¬2) سورة البقرة، الآية 29. (¬3) سورة لقمان، الآية 20. (¬4) سورة الجاثية، الآية 13.

وكل ذلك دال على أن الله وحده هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له، وهذه أدلة عقلية لا تقبل ريبا ولا شكا على أن الله هو الحق، وأن ما يدعى من دونه هو الباطل (¬1) {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62] (¬2). ثانيا: على وجه التفصيل: ومن ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ - وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ - وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32 - 34] (¬3). وقال عز وجل بعد أن ذكر نعما كثيرة: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ - أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 14 - 18] (¬4). ¬

(¬1) انظر: تفسير البغوي 1/ 59، 3/ 72، وابن كثير 3/ 451، 4/ 149، والشوكاني 1/ 60، 4/ 420، والسعدي 1/ 69، 6/ 161، 7/ 21، وفي ظلال القرآن 1/ 53، 5/ 2792، وأضواء البيان للشنقيطي 3/ 225 - 253. (¬2) سورة الحج، الآية 62، وانظر: سورة لقمان، الآية 30. (¬3) سورة إبراهيم، الآيات 32 - 34. (¬4) سورة النحل، الآيات 14 - 18، وانظر: الآيات 3 - 12 من السورة نفسها.

أفمن يخلق هذه النعم وهذه المخلوقات العجيبة كمن لا يخلق شيئا منها؟ ومن المعلوم قطعا أنه لا يستطيع فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه، أو حاسة من حواسه، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه في بدنه، وكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوعها واختلاف أجناسها؟ (¬1). ولا يسع العاقل بعد ذلك إلا أن يعبد الله الذي أسدى لعباده هذه النعم ولا يشرك به شيئا؛ لأنه المستحق للعبادة وحده سبحانه. ¬

(¬1) انظر: فتح القدير 3/ 154، 3/ 110، وأضواء البيان 3/ 253.

المطلب التاسع البعث بعد الموت

المطلب التاسع البعث بعد الموت استبعد المشركون والملحدون إعادة الأجساد بعد موتها، إذا تقطعت الأوصال، وتمزقت الأجساد، وبليت العظائم وتفتت وتفرقت في أجزاء الأرض، وتحلل الجسد إلى ذرات ترابية، وربما أكلته السباع، فصار غذاء لها واختلط بأجزائها (¬1). ومن الحكمة القولية في دعوة هؤلاء إلى الإيمان بالبعث أن تسلك معهم المسالك التالية: المسلك الأول: الأدلة العقلية. المسلك الثاني: الأدلة الحسية. المسلك الثالث: الأدلة الشرعية. المسلك الأول: الأدلة العقلية: أولا: حكمة الله - تعالى - وعدله يقتضيان البعث والجزاء: لقد شاء الله -عز وجل- أن يجعل الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار وعمل، فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأمر بعبادته وحده، وجعل دارا أخرى، وذلك من مقتضيات ملكه وحكمته وعدله؛ ليثيب المحسن على إحسانه، ويجازي المسيء على إساءته، ولم يخلق الخلق عبثا، ولم يتركهم هملا، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1 - 2] (¬2) {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] (¬3) ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 458، 4/ 222، ومناهج الجدل ص311، ومعالم الدعوة 1/ 198. (¬2) سورة الملك، الآيتان 1، 2. (¬3) سورة المؤمنون، الآية 115.

{إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 4] (¬1). وهو عز وجل لا يساوي بين الخبيث والطيب، والمحسن والمسيء، والكافر والمؤمن، وقد أنكر على من ظن ذلك (¬2) فقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] (¬3) {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36] (¬4). ثانيا: القادر على إيجاد الخلق قادر على إعادته، وهو أهون عليه: الشيء إذا لم يكن ثم كان ثم أعدم فإن إعادته أيسر وأهون على من بدأه أول مرة ثم أفناه، وقد رد الله -سبحانه- على من أنكر البعث بهذا فقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] (¬5) {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا - أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66 - 67] (¬6). وغير ذلك من الأدلة القطعية التي تدل على أن من خلق الخلائق وابتدع ¬

(¬1) سورة يونس، الآية 4. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 458، والسعدي 6/ 185، وأضواء البيان 7/ 30. (¬3) سورة الجاثية، الآية 21. (¬4) سورة القلم، الآيتان 35، 36. (¬5) سورة الروم، الآية 27. (¬6) سورة مريم، الآيتان 66، 67.

خلقهم على غير مثال سابق قادر على إعادة خلقهم مرة أخرى، وهو أهون عليه، وله المثل الأعلى (¬1). ثالثا: الخالق لما هو أعظم قادر على خلق ما هو أصغر بلا شك: من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم، فخلقه لهذه المخلوقات العظيمة وقدرته عليها من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت؛ لأن من خلق الأعظم الأكبر لا شك في قدرته الكاملة على خلق الأيسر الأضعف الأصغر، وهو أولى بالقدرة والإمكان من الأعظم (¬2) قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33] (¬3). رابعا: اليقظة بعد النوم: النوم يعتبر موتا مصغرا، والاستيقاظ يعتبر حياة مصغرة أيضا، وكما تتم عملية النوم للإنسان والحيوان وعملية الاستيقاظ تتم عملية الموت والحياة الكاملة لهما (¬4) قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60] (¬5). ¬

(¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/ 32 - 35، وأضواء البيان 1/ 89، 115، 3/ 223، 7/ 334 - 336. (¬2) انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/ 32، وأضواء البيان 1/ 89، 116. (¬3) سورة الأحقاف، الآية 33. (¬4) انظر: أضواء البيان 4/ 24، وعقيدة المؤمن لأبي بكر الجزائري ص 265. (¬5) سورة الأنعام، الآية 60.

المسلك الثاني الأدلة الحسية

ومن آيات الله العظيمة الباهرة الدالة على بعث الأرواح والأجساد ما أجراه الله سبحانه على أهل الكهف من نوم ثلاثمائة سنة، وازدادوا تسع سنين، ثم بعثهم بعد هذا النوم الطويل (¬1) {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21] (¬2). خامسا: إخراج النار من الشجر الأخضر: ومن الأدلة على بعث الأجساد والأرواح قدرة الله -تعالى- على إخراج النار اليابسة المحرقة من الشجر الأخضر الذي هو في غاية الرطوبة مع تضادهما وشدة تخالفهما، فالقادر على أن يخلق من الشجر الأخضر نارا أولى بالقدرة على أن يخرج إنسانا حيا من التراب كما خلقه أول مرة (¬3) {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] (¬4). المسلك الثاني: الأدلة الحسية: من الأدلة الحسية التي شاهدها الناس ونقلها لنا أعظم الكتب والمهيمن عليها ما يأتي: أولا: إحياء الله الموتى في الحياة الدنيا: فمن أعظم البراهين التي تدل على البعث إحياء الله- عز وجل- بعض الموتى في الحياة الدنيا؛ لأن من أحيا نفسا واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] (¬5). ¬

(¬1) انظر: تفسير البغوي 3/ 165، وابن كثير 3/ 78، والسعدي 5/ 13، وأضواء البيان 4/ 22 - 24. (¬2) سورة الكهف، الآية 21. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/ 34، وتفسير ابن كثير 3/ 583. (¬4) سورة يس، الآية 80. (¬5) سورة لقمان، الآية 28.

ومن هذا النوع الأمثلة التالية: 1 - قوم موسى حين قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأماتهم الله -تعالى- ثم أحياهم، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ - ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 55 - 56] (¬1). 2 - قصة القتيل الذي اختصم فيه بنو إسرائيل، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة، ثم يضربوه ببعضها، ثم فعلوا فأحياه الله، فأخبر بمن قتله، قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ - فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 72 - 73] (¬2). 3 - قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243] (¬3). 4 - قصة الرجل الذي مر على قرية ميتة فاستبعد أن يحييها الله، فأماته الله مائة سنة ثم أحياه، قال تعالى: ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان 55، 56. (¬2) سورة البقرة، الآيتان 72، 73. (¬3) سورة البقرة، الآية 243.

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] (¬1). 5 - قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين سأل الله -تعالى- أن يريه كيف يحصي الموتى، فأمره أن يذبح أربعة من الطير، ويفرقهن أجزاء على الجبال التي حوله، ثم يناديهن فتجتمع الأجزاء بعضها إلى بعض، وتأتي إلى إبراهيم سعيا (¬2) قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] (¬3). 6 - ما أخبر الله به عن عيسى صلى الله عليه وسلم من أنه كان يحيي الموتى، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله تعالى:. . {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] (¬4). . . . {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110] (¬5). فهذه أدلة حسية واقعة، وبرهان قطعي على القدرة الإلهية، وأن الذي أماتهم ثم أحياهم قادر على بعثهم يوم القيامة، فإنه لا يعجزه شيء سبحانه (¬6). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 259. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 315، والسعدي 1/ 321. (¬3) سورة البقرة، الآية 260. (¬4) سورة آل عمران، الآية 49. (¬5) سورة المائدة، الآية 110. (¬6) انظر: تفسير السعدي 1/ 321، ومناهج الجدل ص 328.

المسلك الثالث الأدلة الشرعية

ثانيا: إحياء الأرض بعد موتها: إحياء الله الأرض بعد موتها برهان قاطع من أعظم الأدلة على البعث بعد الموت؛ لأنه برهان حسي يتجدد بين يدي الناس، ويشاهدون فيه آثار قدرة الله -تعالى- في الإحياء المتجدد؛ ولأن من أخرج النبات وجعل في الأرض من كل زوج بهيج فأحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الناس بعد موتهم (¬1) قال الله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19] (¬2) {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50] (¬3) {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] (¬4). المسلك الثالث: الأدلة الشرعية: رد الله -تعالى- شبه المنكرين للبعث، فقال تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ - قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 10 - 11] ¬

(¬1) أضواء البيان 1/ 90، 116، 3/ 223، 7/ 336، وشرح أصول الإيمان لمحمد بن صالح العثيمين ص 49. (¬2) سورة الروم، الآية 19. (¬3) سورة الروم، الآية 50. (¬4) سورة فصلت، الآية 39.

(¬1) {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ - بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ - أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ - قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 1 - 4] (¬2). فبين سبحانه أنه يعلم ما تأكل الأرض من أجسادهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم، ولا يخفى عليه أين تفرقت، وإلى أين ذهبت، كل ذلك عنده في كتاب مضبوط محفوظ (¬3). وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه -سبحانه- على وقوع البعث ووجوده، وأنه لا يغيب عن الله -تعالى- مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ولا يعجزه شيء (¬4) قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] (¬5) {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] (¬6). فإذا استخدم الداعية إلى الله -تعالى- في دعوته للوثنيين بالحكمة القولية ما جاء في هذه المطالب ومسالكها التفصيلية، كان مصيبا مسددا، فنزلا للناس منازلهم، سالكا طريق الحكمة في دعوتهم بإذن الله تعالى. ¬

(¬1) سورة السجدة، الآيتان 10، 11. (¬2) سورة ق، الآيات 1 - 4. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير 4/ 223. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 421، 3/ 526، 4/ 375، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي 6/ 613. (¬5) سورة يونس، الآية 53، وانظر: سورة سبأ، الآية 3. (¬6) سورة التغابن، الآية 7.

المبحث الثالث حكمة القول مع أهل الكتاب

المبحث الثالث حكمة القول مع أهل الكتاب تمهيد. المطلب الأول: حكمة القول مع اليهود. المطلب الثاني: حكمة القول مع النصارى. المطلب الثالث: البراهين على إثبات الرسالة المحمدية وعمومها.

تمهيد

تمهيد إن من حكمة القول في دعوة أهل الكتاب إلى الله- تعالى- أن يجادلوا بالتي هي أحسن، بحسن خلق ولطف ولين كلام، ودعوة إلى الحق, وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية، ورد الباطل بأقرب طريق وأنسب عبارة, وأن لا يكون القصد من ذلك مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل أن يكون القصد بيان الحق، وهداية الخلق، كما قال عز وجل (¬1) {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] (¬2) وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] (¬3). ونظير ذلك من الدعوة بالقول الحكيم قوله -عز وجل- لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44] (¬4). ومن ذلك القول اللين كقوله تعالى لموسى: ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 372، 3/ 416، وفتح القدير للشوكاني 1/ 348، والسعدي 1/ 389، 6/ 92، وأضواء البيان 3/ 385. (¬2) سورة العنكبوت، الآية 46. (¬3) سورة آل عمران، الآية 64. (¬4) سورة طه، الآيتان 43، 44.

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى - وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 17 - 19] (¬1). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم القول الحكيم في دعوته إلى الله -عز وجل- ومن ذلك ما روته عائشة -رضي الله عنها- قالت: «دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام (¬2) عليك. قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: وعليكم السام واللعنة! قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مهلا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله ". فقلت: يا رسول الله! أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد قلت: وعليكم» (¬3). وكان صلى الله عليه وسلم يستخدم ذلك حتى في رسائله، ففي كتابه إلى هرقل: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (¬4) و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران: 64] إلى قوله:. . {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]» (¬5). ¬

(¬1) سورة النازعات، الآيات 17 - 19. (¬2) السام: الموت، وقيل: الموت العاجل، وقيل: تسأمون دينكم. انظر: الفتح 11/ 42، 43، 10/ 135. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله 10/ 135، 449، 11/ 42، ومسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف الرد عليهم 4/ 1706. (¬4) الأريسيين: أي إثم الفلاحين، والمعنى: فإن لم تدخل في الإسلام فإن عليك إثمك وإثمهم إذا لم يسلموا تقليدا لك. انظر فتح الباري 1/ 39. (¬5) البخاري مع الفتح واللفظ له، كتاب التفسير، باب: قل يا أهل الكتاب. . . 8/ 215، وكتاب بدء الوحي، باب حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع 1/ 32، ومسلم في كتاب الجهاد، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام 3/ 1396.

وعلى أساس دعوة أهل الكتاب بالجدال بالتي هي أحسن والقول الحكيم، فسأتحدث عن ذلك بإذن الله- تعالى- في المطالب الآتية: المطلب الأول: حكمة القول مع اليهود. المطلب الثاني: حكمة القول مع النصارى. المطلب الثالث: البراهين على إثبات الرسالة المحمدية وعمومها.

المطلب الأول حكمة القول مع اليهود

المطلب الأول حكمة القول مع اليهود من حكمة القول مع اليهود في دعوتهم إلى الله- عز وجل- أن يسلك معهم الداعية المسلم المسالك التالية: المسلك الأول: الأدلة العقلية والنقلية على نسخ الإسلام لجميع الشرائع. المسلك الثاني: الأدلة القطعية على وقوع التحريف والتبديل في التوراة. المسلك الثالث: إثبات اعتراف المنصفين من علماء اليهود. المسلك الرابع: الأدلة على إثبات رسالة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. المسلك الأول: الأدلة العقلية والنقلية على نسخ (¬1) الإسلام لجميع الشرائع: دعوة الرسل- عليهم الصلاة والسلام - إلى توحيد الله تعالى دعوة واحدة، فقد اتفقوا جميعا على دعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] (¬2) {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] (¬3). فأصل دين الأنبياء صلى الله عليهم وسلم واحد، وهو التوحيد، وإن ¬

(¬1) النسخ في اللغة: الإزالة، وفي الاصطلاح: رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه. انظر: تفسير ابن كثير 1/ 150، ومناهل العرفان 2/ 71. (¬2) سورة النحل، الآية 36. (¬3) سورة الأنبياء، الآية 25.

اختلفت فروع الشرائع (¬1)؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات (¬2) أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، [وليس بيني وبين عيسى نبي]» (¬3). ثم ختم الله -تعالى- الشرائع كلها بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فأرسله الله إلى جمح الثقلين: من إنس وجن، ونسخت شريعته جميع الشرائع السابقة، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] (¬4). وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي أو نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (¬5). والله -تعالى- حكيم عليم {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] (¬6) ولا غرابة في أن يرفع شرع بآخر مراعاة لمصلحة العباد عن علم سابق من علام الغيوب تبارك وتعالى، ولكن اليهود والنصارى (¬7) أنكروا نسخ الشريعة ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 6/ 489. (¬2) أولاد العلات: الإخوة من أب وأمهاتهم شتى. (الضرائر). فتح الباري 6/ 489. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب قول الله -تعالى-: " واذكر في الكتاب مريم. . . "، 6/ 477، ومسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى صلى الله عليه وسلم، 4/ 1837، وما بين المعقوفين من البخاري 6/ 478، ومسلم 4/ 1837. (¬4) سورة آل عمران، الآية 85. (¬5) مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته 1/ 134. (¬6) سورة الأنبياء، الآية 23. (¬7) لتداخل أقوال النصارى مع اليهود في النسخ، فسأذكر الرد عيهم جميعا في هذا المسلك إن شاء الله تعالى.

الإسلامية لجميع الشرائع السابقة (¬1) فيكون الرد عليهم بالقول الحكيم كالآتي: أولا: الأدلة العقلية: 1 - ليس هنالك محظور في النسخ عقلا، وكل ما لم يترتب عليه محظور كان جائرا عقلا، فالنسخ جائز عقلا. 2 - الله -تعالى- يأمر بالشيء على قدر ما تقتضيه المصلحة، فقد يأمر بالشيء في وقت، وينهى عنه في وقت آخر؛ لأنه -سبحانه- أعلم بمصالح عباده، والطبيب الحكيم يأمر المريض بشرب الدواء، أو استعمال دواء خاص في بعض الأزمنة وينهاه عنه في زمن آخر؛ بسبب اختلاف مصلحته عند اختلاف مزاجه، والملك الذي يشفق على رعيته ينقلهم في بعض الأزمنة إلى نوع من السياسة غير النوع الأول، لما في ذلك من المصالح، وقد يسوس الوالد الحكيم ولده في وقت باللطف، وفي وقت آخر بالتأديب، على قدر ما يرى في ذلك من المصلحة (¬2) والله -عز وجل- {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] (¬3) وهو سبحانه لا يفعل شيئا إلا لحكمة بالغة، فهو يحيي ثم يميت ثم يحيي، وينقل الدولة ¬

(¬1) ثم افترق اليهود والنصارى إلى ثلاث طوائف: (أ) طائفة الشمعونية من اليهود، قالوا: النسخ ممتنع عقلا وسمعا، وعلى هذا القول إجماع النصارى المتأخرين. (ب) وطائفة العنانية من اليهود، قالوا: النسخ جائز عقلا، لكنه لم يقع سمعا، فهو ممتنع. (جـ) طائفة العيسوية من اليهود، قالوا: النسخ جائز عقلا وواقع سمعا، إلا أن الشريعة الإسلامية لم تنسخ ما قبلها من الشرائع، وإنما هي للعرب خاصة، وعلى هذا القول إجماع النصارى المتقدمين. انظر: مناهل العرفان للزرقاني 1/ 82، 83. (¬2) انظر: الداعي إلى الإسلام، لكمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي المتوفى سنة 577هـ، ص319، ومناهل العرفان للزرقاني 2/ 83. (¬3) سورة الروم، الآية 27.

من قوم أعزة إلى أذلة، ومن قوم أذلة إلى أعزة، ويعطي من شاء ما شاء، ويمنع من شاء (¬1) {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] (¬2). 3 - يلزم من يقول بوقوع النسخ سمعا وجوازه عقلا أنهم ماداموا يجوزون أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته، وقد وقع ذلك سمعا، فليجوزوا نسخ الشريعة الإسلامية للأديان السابقة (¬3). ثانيا: الأدلة النقلية السمعية، وهي نوعان: النوع الأول: ما تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى الذين لم يعترفوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. النوع الثاني: ما تقوم به الحجة على من آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم قالوا: إنها خاصة بالعرب (¬4). النوع الأول: تقوم الحجة على من أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مطلقا بالأدلة الواردة في التوراة والإنجيل، والداعية المسلم إذ يورد الأدلة من كتبهم لا يعتقد أن هذه النصوص كما أنزلت، بل يحتمل أن تكون مما وقع عليه التحريف والتغيير، فإن اليهود والنصارى قد غيروا وبدلوا كثيرا من كتبهم، ولكن المسلم يقيم عليهم الحجة بما بين أيديهم من التوراة والإنجيل (¬5) لا ¬

(¬1) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/ 180. (¬2) سورة الأنبياء، الآية 23. (¬3) انظر: مناهل العرفان 2/ 86. (¬4) انظر: درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية 7/ 27. (¬5) تنقسم أخبار كتب اليهود والنصارى إلى ثلاثة أقسام: (أ) ما علم صحته بنقله عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا صحيحا، أو كان له شاهد صحيح من الشرع يؤيده، فهذا القسم صحيح مقبول. (ب) ما علم كذبه لكونه يناقض ما عرف من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو لا يتفق مع العقل الصحيح، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته. (جـ) ما هو مسكوت عنه، وليس من النوع الأول ولا الثاني، وهذا القسم يتوقف عنه المسلم فلا = = يصدقه ولا يكذبه، ويجوز حكايته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل. . "، البخاري مع الفتح 8/ 170، 13/ 116، وقوله صلى الله عليه وسلم: " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. . " في البخاري مع الفتح 6/ 496، وانظر: التفسير والمفسرون للذهبي 1/ 179.

لثبوتها، ولكن لإلزامهم بالتسليم، أو يعترفوا بالتحريف ومن ذلك ما يلي: 1 - جاء في التوراة أن الله - تعالى- أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه، وورد أنه كان يولد له في كل بطن من البطون ذكر وأنثى، فكان يزوج توءمة هذا للآخر، ويزوج توءمة الآخر لهذا، إقامة لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب، ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى (¬1). 2 - جاء في السفر الأول من التوراة أن الله -تعالى- قال لنوح عند خروجه من السفينة: " إني جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب، ما خلا الدم فلا تأكلوه "، ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيرا على أصحاب الشرائع، ومن ذلك الخنزير في شريعة موسى، وهذا عين النسخ (¬2). 3 - أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذبح ولده، ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل به، وقد أقر منكرو النسخ بذلك (¬3). 4 - الجمع بين الأختين كان مباحا في شريعة يعقوب صلى الله عليه وسلم، ثم حرم في شريعة موسى صلى الله عليه وسلم (¬4). ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 152، 383، ومناهل العرفان للزرقاني 2/ 87، وإظهار الحق، لرحمة الله الهندي 1/ 513. (¬2) انظر. تفسير ابن كثير 1/ 152، 383، ومناهل العرفان 2/ 87، وإظهار الحق 1/ 515. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 152، ومناهل العرفان 2/ 87، وإظهار الحق 1/ 315. (¬4) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 1/ 181، والداعي إلى الإسلام للأنباري ص 324، وابن كثير 1/ 152، 383، ومناهل العرفان 2/ 88، وإظهار الحق 1/ 515.

5 - أمر الله -تعالى- من عبد العجل من بني إسرائيل أن يقتتلوا، ثم أمرهم برفع السيف عنهم (¬1). وغير ذلك كثير. النوع الثاني: تقوم الحجة به على من آمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم واعترف بها؛ ولكنه جعلها خاصة بالحرب دون غيرهم، فهؤلاء متى سلموا واعترفوا برسالته صلى الله عليه وسلم وأنه صادق فيما بلغه عن الله- عز وجل- من الكتاب والسنة وجب عليهم الإيمان والتصديق بكل ما ثبت عنه، وما جاء به من عموم الرسالة، والنسخ الثابت بالكتاب والسنة (¬2) ومن هذا النوع ما يأتي: 1 - قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 106 - 107] (¬3). 2 - وقال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 93 - 95] (¬4). ¬

(¬1) ابن كثير 1/ 152، ومناهل العرفان 2/ 87، وانظر ذلك من القرآن في سورة البقرة، الآية 54. (¬2) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 1/ 37، 1/ 31 - 176، ودرء تعارض العقل والنقل 7/ 27. (¬3) سورة البقرة، الآيتان 106، 107. (¬4) سورة آل عمران، الآيات 93 - 95.

3 - وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا - وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161] (¬1). 4 - وقال سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146] (¬2). 5 - وقال عز وجل: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] (¬3). 6 - وقال جل وعلا: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ - يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 38 - 39] (¬4). 7 - إجماع سلف الأمة على أن النسخ وقع في الشريعة الإسلامية، كما أن النسخ وقع بها لجميع الشرائع السابقة (¬5). وبهذه الأدلة العقلية والنقلية السمعية التي دلت على جواز النسخ عقلا ¬

(¬1) سورة النساء، الآيتان 160، 161. (¬2) سورة الأنعام، الآية 146. (¬3) سورة النحل، الآية 101. (¬4) سورة الرعد، الآيتان 38، 39. (¬5) تفسير البغوي 3/ 22، 84، 1/ 326، وابن كثير 1/ 151، 382، 585، 2/ 186، 520، 587، والشوكاني 1/ 361، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/ 321 - 328، والسعدي 1/ 401، 4/ 116، 241، ومناهل العرفان 2/ 89.

المسلك الثاني الأدلة القطعية على وقوع التحريف والتبديل في التوراة

ووقوعه (¬1). نقلا وسمعا- سقطت أقوال منكري النسخ، وأقوال من أنكر عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) ولله الحمد والمنة. المسلك الثاني: الأدلة القطعية على وقوع التحريف والتبديل في التوراة: من حكمة القول في دعوة اليهود إلى الله -عز وجل- أن يبين لهم بالجدال بالتي هي أحسن أن الكتب التي بأيديهم قد دخلها التحريف والتبديل والتغيير (¬3). . واليهود والنصارى يقرون أن التوراة كانت طول مملكة بني إسرائيل عند الكاهن الأكبر الهاروني وحده، وتقر اليهود أن سبعين كاهنا اجتمعوا على اتفاق من جميعهم على تبديل ثلاثة عشر حرفا من التوراة، وذلك بعد المسيح صلى الله عليه وسلم في عصر القياصرة الذين كانوا تحت قهرهم، ومن رضي بتبديل موضع واحد من كتاب الله فلا يؤمن من تحريف غيره. واليهود تقر أيضا أن السامرة حرفوا مواضع من التوراة وبدلوها تبديلا ظاهرا، وزادوا ونقضوا، والسامرة تدعي على سائر اليهود بأن التوراة التي بأيديهم محرفة مبدلة (¬4). والذي يحكم بين الجميع هو كلام الله- عز وجل- المنزل على محمد ¬

(¬1) وهناك شبهات لمنكري النسخ قد تضمن الرد عليها الأدلة السابقة، وانظر أيضا الرد عليها في الفصل لابن حزم 1/ 181 - 200، والداعي إلى الإسلام للأنباري ص 317 - 340، ومناهل العرفان 2/ 93 - 104. (¬2) وستأتي الأدلة القطعية على إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وشمولها إن شاء الله تعالى. (¬3) لا شك أنه يجب على كل مسلم الإيمان بكل كتاب أنزله الله، وبكل نبي أرسله، وهذا هو أصل دين المسلمين، فمن كفر بنبي واحد أو كتاب واحد، فهو كافر حلال الدم عند المسلمين. انظر. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 33، ولكن الكلام الآن هو في بيان وقوع التحريف والتبديل في التوراة. (¬4) انظر: الفصل لابن حزم 1/ 102، 187، 197، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/ 18، وهداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم ص 581.

صلى الله عليه وسلم، المهيمن على ما سبقه من الكتب المصدق لها، فقد سجل التحريف وأثبته على أهل الكتاب، ونسب إليهم أنواعا من تحريفهم للتوراة، كالتالي: النوع الأول: إلباس الحق بالباطل: كان بنو إسرائيل يخلطون الحق بالباطل، بحيث لا يتميز الحق من الباطل، وقد سجل القرآن الكريم هذا الجرم عليهم، قال سبحانه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ - وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ - وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 40 - 42] الآية (¬1) وقال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عمران: 71] الآية (¬2). ومن أبلغ الصور وأقبحها في إلباس الحق ادعاء الكهنة والأحبار في التوراة التي بأيديهم أن هارون صلى الله عليه وسلم هو الذي جمع الذهب من بني إسرائيل، واشترك معهم في صناعة العجل الذهبي، ووافقهم على عبادته من دون الله تعالى، وفي الوقت نفسه يبرئون السامري. فهارون الذي تحمل المشاق صلى الله عليه وسلم في سبيل إقرار فرعون بالتوحيد، جعلوه داعية إلى الشرك والكفر، ولكن القرآن الكريم كان لهذه الدعوى بالمرصاد، فكذبهم، وبين حقيقة الأمر (¬3) قال تعالى: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ - فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه: 87 - 88] ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيات 40 - 42. (¬2) سورة آل عمران، الآية 71. (¬3) انظر: الفصل لابن حزم 1/ 256، وهداية الحيارى لابن القيم ص 582.

إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي - قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 90 - 91] الآيات (¬1)؛ فهذا هو الصدق حقا، إنما عمل لهم العجل السامري، أما هارون فنهاهم، ولكنهم عصوه وكادوا يقتلونه (¬2). النوع الثاني: كتمان الحق: لا شك أن الله حق، ولا يقول إلا حقا، والتوراة التي أنزلت على موسى كلها حق؛ لأنها كلام الله تعالى، ولكن بني إسرائيل كانوا يكتمون الحق، قاصدين بذلك إخضاع كتاب الله لأهوائهم وشهواتهم، فالآيات التي يرون فيها منفعة لهم عاجلة أو تكون في جانب حجتهم يقرونها، أما الآيات التي يرون أن فيها دليلا عليهم فيكتمونها؛ ولهذا سجل الله عليهم هذا الكتم في كتابه، فقال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71] (¬3). ومن أعظم ما كتمه أهل الكتاب هو ما وجدوه في كتبهم من صفات محمد صلى الله عليه وسلم، واختيار الله له رسولا إلى الناس أجمعين، وقد كانوا يعرفونه في كتبهم كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم إذا سئلوا عن ذلك كتموه (¬4) قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] (¬5) {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20] (¬6). ¬

(¬1) انظر: سورة طه، الآيات 87 - 91. (¬2) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 1/ 456، وهداية الحيارى ص 582. (¬3) سورة آل عمران، الآية 71، وانظر: سورة البقرة، الآية 42. (¬4) انظر: تفسير البغوي 1/ 67، 162، 315، وابن كثير 1/ 85، 95، 374. (¬5) سورة البقرة، الآية 146. (¬6) سورة الأنعام، الآية 20.

وقد بين عز وجل صفاته صلى الله عليه وسلم الكاملة في التوراة والإنجيل، فقال عز وجل:. . . {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 156 - 157] (¬1). ومع هذه الأوصاف العظيمة التي كانوا يعرفونها مكتوبة عندهم، أنكروا نبوته صلى الله عليه وسلم، وكتموا ما علموه (¬2). النوع الثالث: إخفاء الحق: الإخفاء قريب من الكتمان (¬3) وقد كان أهل الكتاب يخفون من أحكام التوراة الشيء الكثير، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] (¬4). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيتان 156، 157. (¬2) انظر الأمثلة من نصوص التوراة التي بينت صفات النبي صلى الله عليه وسلم واضحة جلية، ولكن اليهود كتموا ذلك، في: الملل والأهواء والنحل لابن حزم 1/ 201 - 329، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 3/ 299 - 332، وهداية الحيارى لابن القيم ص 522 - 580، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/ 351 - 363، وإظهار الحق لرحمة الله الهندي 1/ 335 - 508. (¬3) انظر: هداية الحيارى لابن القيم ص 524، ويمكن أن يقال الفرق بين الكتمان والإخفاء: بأن الكتمان هو ما كتموه من أوصاف النبي وأمته حقدا وكراهة، والإخفاء هو إخفاء كل ما فيه خزي لهم ومخالفة، والله أعلم. انظر: التوراة دراسة وتحليل لمحمد شلبي ص 80. (¬4) سورة المائدة، الآية 15.

ومن الأحكام التي أخفاها اليهود حكم رجم الزاني المحصن، فقد «جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال لهم: " كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ ". قالوا: نحممهما ونضربهما. فقال: " لا تجدون في التوراة الرجم؟ ". فقالوا: لا نجد فيها شيئا. فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فوضع مدارسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم، فنزع يده (¬1) عن آية الرجم، فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما». . . الحديث (¬2). ولهذا قال سبحانه:. . {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41] إلى قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43] (¬3) وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23] (¬4). فأنكر سبحانه على أهل الكتاب المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم: التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم تولوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم (¬5). ¬

(¬1) وفي رواية أخرى للبخاري: فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم. انظر: البخاري مع الفتح 2/ 166. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب: " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ". 8/ 224، 12/ 166، 13/ 516. (¬3) سورة المائدة الآيات 41 - 43. (¬4) سورة آل عمران، الآية 23. (¬5) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 356، وأضواء البيان للشنقيطي 2/ 57.

النوع الرابع: لي اللسان: من أنواع تحريف اليهود للتوراة: لي اللسان، فهم يلوون ألسنتهم ويعطفونها بالتحريف، ليلبسوا على السامع اللفظ المنزل بغيره، ويفتلون ألسنتهم حين يقرءون كلام الله -تعالى- لإمالته عما أنزله الله عليه إلى اللفظ الذي يريدونه (¬1) قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] (¬2). ومن التحريف بلي اللسان ما كان يفعله اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} [النساء: 46] ويقصدون معنى: اسمع لا سمعت، أي: يدعون على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا، من المراعاة، والمعنى: فرغ سمعك لكل منا، فلما سمع اليهود هذه اللفظة اغتنموا الفرصة في التحريف؛ لأن معناها عندهم السحت والطعن بمعنى: يا أحمق (¬3) ولكن الله - عز وجل- كشف سترهم، فقال: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46] (¬4). ¬

(¬1) انظر. تفسير البغوي 1/ 320، وابن كثير 1/ 377، وهداية الحيارى ص524، وفتح القدير للشوكاني 1/ 354. (¬2) سورة آل عمران، الآية 78. (¬3) انظر: تفسير البغوي 1/ 102، 438، وابن كثير 1/ 149، 508، وفتح القدير للشوكاني 1/ 124، 474. (¬4) سورة النساء، الآية 46.

ونهى الله المؤمنين عن صفات اليهود فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] (¬1) النوع الخامس: تحريف الكلام عن مواضعه: أثبت الله -عز وجل- على أهل الكتاب هذا النوع من التحريف، فقال عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] (¬2) {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] (¬3) وقال -عز وجل-: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] (¬4). وهذا النوع من التحريف له أربع صور كالتالي: 1 - تحريف التبديل: وهو وضع كلمة مكان كلمة، أو جملة مكان جملة. 2 - تحريف بالزيادة: ويكون بزيادة كلمة أو جملة. 3 - تحريف بالنقص: وهو إسقاط كلمة، أو جملة من الكلام المنزل على موسى صلى الله عليه وسلم. 4 - تحريف المعنى: تبقى الكلمة أو الجملة كما هي، ولكنهم يجعلونها محتملة لمعنيين، ثم يختارون المعنى الذي يتفق مع أهوائهم وأغراضهم (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 104. (¬2) سورة النساء، الآية 46. (¬3) سورة المائدة، الآية 13. (¬4) سورة المائدة، الآية 41. (¬5) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 377، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/ 360، 361، وإظهار الحق لرحمة الله الهندي 1/ 337 - 508، والتوراة: دراسة وتحليل، للدكتور / محمد شلبي شتيوي ص 83.

وهذه الصور لها أمثلة كثيرة من التوراة لا يتسع المقام لذكرها (¬1). وقد بين الله- عز وجل- أن أهل الكتاب يعلمون أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، لما يجدونه في كتبهم من نعته صلى الله عليه وسلم وأمته، وما شرفه الله به من الشريعة الكاملة (¬2) قال سبحانه: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144] (¬3) {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71] (¬4). ومن رحمة الله -تعالى- بهم وكرمه أنه عندما ذكر ما فعلوه من العظائم دعاهم إلى التوبة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47] (¬5) فلو آمنوا بالله وملائكته، وجميع كتبه، ورسله لكفر عنهم سيئاتهم وأدخلهم الجنة (¬6) قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ - وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 65 - 66] (¬7) ¬

(¬1) انظر: الأمثلة على تحريف التبديل في الفصل لابن حزم 1/ 207 - 224، وإغاثة اللهفان 2/ 342 - 344، وهداية الحيارى ص 582، والمناظرة الكبرى، ص 465 - 475، والأمثلة على تحريف الزيادة في: إظهار الحق 1/ 338 - 374، والتوراة دراسة وتحليل ص 90 - 94، وأمثلة النقص إظهار الحق 1/ 414 - 456، والتوراة دراسة وتحليل 95 - 98، وأمثلة التأويل في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 2/ 331، 332، 361 - 363، وهداية الحيارى ص 526 - 539. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 194. (¬3) سورة البقرة، الآية 144. (¬4) سورة آل عمران، الآية، 71، وانظر: آل عمران: الآيتان 98، 99. (¬5) سورة النساء، الآية 47. (¬6) انظر: تفسير السعدي 2/ 319. (¬7) سورة المائدة، الآيتان 65، 66.

المسلك الثالث إثبات اعتراف المنصفين من علماء اليهود

{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] (¬1). المسلك الثالث: إثبات اعتراف المنصفين من علماء اليهود: لا شك أن من حكمة القول مع أهل الكتاب في دعوتهم إلى الله -عز وجل- الاستشهاد عليهم بشهادة علماء أهل الكتاب المنصفين، الذين وفقهم الله -تعالى- وقبلوا الحق، وبينوه ولم يكتموه، وهذا من باب قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] (¬2). وأذكر على سبيل المثال من هؤلاء العلماء الذين يعترف اليهود بأنهم كانوا منهم فأقروا بالإسلام وأنه الدين الحق ما يلي: 1 - عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه: لو لم يسلم من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا سيد اليهود على الإطلاق وابن سيدهم، وعالمهم وابن عالمهم، وخيرهم وابن خيرهم، باعترافهم وشهادتهم، لكان في مقابلة كل يهودي على وجه الأرض، فكيف وقد تابعه من الأحبار والرهبان من لا يحصي عددهم إلا الله (¬3). وقد آمن هذا الرجل بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: «بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي. قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية 110. (¬2) سورة يوسف، الآية 26. (¬3) انظر: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ص 514، 525.

يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خبرني بهن آنفا جبريل " قال ابن سلام: ذلك عدو اليهود من الملائكة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها، [قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله] قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فادعهم [فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي]، [فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا]، فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق فأسلموا " قالوا: ما نعلمه- قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، قالها ثلاث مرار - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، وأخبرنا وابن أخبرنا، [خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا]، قال: " أفرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: أعاذه الله من ذلك، حاشا لله، ما كان ليسلم. قال: " أفرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: حاشا لله، ما كان ليسلم. قال: " أفرأيتم إن أسلتم؟ ". قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال: " يا ابن سلام، اخرج عليهم " [فخرج عليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله]، [يا معشر اليهود اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، أشرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه]، [فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم]» (¬1). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته 6/ 362، ومناقب الأنصار، باب هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة 7/ 250، وباب حدثني حامد بن عمر، عن بشر بن المفضل 7/ 272، وكتاب التفسير، سورة البقرة، باب قوله: " من كان عدوا لجبريل " 8/ 165، وألفاظ الحديث من المواضع الأربعة، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 3/ 210.

وعن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال: «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قبله، وقيل: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: " يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام, تدخلوا الجنة بسلام» (¬1). وقد أثنى الله على هذا العالم الرباني، فعن سعد بن أبي وقاص قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي (¬2) على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، قال: وفيه نزلت هذه الآية (¬3) {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] (¬4). 2 - زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود، رضي الله عنه: قال -رضي الله عنه-: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، وقد اختبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وأشهدك ¬

(¬1) ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب إطعام الطعام، 2/ 1083 بلفظه، والترمذي في صفة القيامة، باب حدثنا محمد بن بشار 4/ 652، وأحمد في المسند 4/ 451، وانظر صحيح ابن ماجه 2/ 222. (¬2) قد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه شهد لأناس كثير بالجنة، ومنهم العشرة المبشرون بالجنة، فقيل بأن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- يعني من الأحياء؛ لأن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- عاش بعد موتهم، ولم يتأخر معه من العشرة غير سعد وسعيد، ويؤخذ هذا من قول سعد رضي الله عنه: يمشي على الأرض. انظر: فتح الباري 7/ 129، 130. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب عبد الله بن سلام 7/ 128، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن سلام 4/ 1930. (¬4) سورة الأحقاف، الآية 10.

أن شطر مالي -فإني أكثرها مالا- صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال عمر: أو على بعضهم، فإنك لا تسعهم. قلت: أو على بعضهم. فخرج عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله "، وآمن به، وصدقه، وبايعه، وشهد معه مشاهد كثيرة، ثم توفي في غزوة تبوك مقبلا غير مدبرا (¬1) رضي الله عنه ورحمه. 3 - من أسلم عند الموت: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه على ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟ " فقال برأسه هكذا، أي: لا. فقال ابنه: إي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: " أقيموا اليهودي عن أخيكم "، ثم ولي كفنه، وحنطه، وصلى عليه صلى الله عليه وسلم» (¬2). هذه ثلاثة أمثلة لاعترافات أحبار اليهود بأن محمدا صلى الله عليه وسلم حق، وأن صفته موجودة في التوراة، ويعرفه اليهود كما يعرفون أبناءهم {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] (¬3). ¬

(¬1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه إلى الطبراني، وقال: رجاله ثقات 8/ 240، وتقدم تخريجه كاملا مطولا في مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الفردية، والقصة هنا مختصرة، فارجع إليها في المجمع 8/ 239، 240. (¬2) أحمد في المسند 5/ 411، وقال ابن كثير: هذا حديث جيد قوي، له شواهد في الصحيح عن أنس - رضي الله عنه-. انظر: تفسير ابن كثير 2/ 252، ومجمع الزوائد 8/ 234. (¬3) سورة الكهف، الآية 29.

المسلك الرابع الأدلة على إثبات رسالة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام

المسلك الرابع: الأدلة على إثبات رسالة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام: من حكمة القول مع اليهود في دعوتهم إلى الله -تعالى- إثبات نبوة عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام، وذلك بما ظهر على يديهما من المعجزات الباهرات، والآيات البينات الطاهرة التي لا يقدر أحد أن يأتي بمثلها، كالتالي: (أ) البراهين والبينات على صدق نبوة عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم: ثبتت نبوة عيسى صلى الله عليه وسلم بما ظهر على يده من المعجزات الخارقة للعادات من: إحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم، وإبراء الأكمه، والأبرص، وخلق الطير من الطين بإذن الله، والإخبار بالغيوب، وإنزال الطعام من السماء، وولادته من أم بغير أب، وكلامه في المهد (¬1) وغير ذلك من المعجزات (¬2). ومعجزات عيسى لم تكن دون معجزات موسى، عليهما الصلاة والسلام، فكلا الرسولين اشتركا في المعجزات والآيات الظاهرة، فإن قيل أحدهما قد تعلمها بحيلة، فالآخر يمكن أن يقال ذلك في حقه، وقد أخبرا جميعا أن الله - تعالى- هو الذي أجرى ذلك على أيديهما، وأنه ليس من صنعهما، فتكذيب أحدهما وتصديق الآخر تفريق بين المتماثلين، وليس هناك دليل على أن موسى صلى الله عليه وسلم تلقى المعجزات عن الله تعالى إلا وهو يدل على أن عيسى صلى الله عليه وسلم تلقاها عن الله تعالى، فإن أمكن القدح في معجزات عيسى أمكن القدح في معجزات موسى، وإن كان ذلك باطلا فهذا باطل أيضا (¬3) ولا شك أنه لا يمكن القدح في شيء من ذلك أبدا. ¬

(¬1) انظر الأدلة على هذه المعجزات في سورة آل عمران، الآية 49، وسورة المائدة الآية 110، والآيتان 114، 115. (¬2) انظر: كتاب الداعي إلى الإسلام، للأنباري ص 347، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/ 347. (¬3) انظر: إغاثة اللهفان 2/ 347.

(ب) الحجج والبراهين على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: ظهر على يده صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات الخارقة للعادات عند التحدي أكثر من سائر الأنبياء، والعهد بهذه المعجزات قريب، وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم، ونقلها ثابت بالتواتر قرنا بعد قرن، وأعظمها فعجزة: القرآن، لم يتغير ولم يتبدل منه شيء، بل كأنه منزل الآن، وما أخبر به يقع كل وقت على الوجه الذي أخبر به، كأنه يشاهده عيانا، وقد عجز الأولون والآخرون عن الإتيان بمثله {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] (¬1). ولا يمكن ليهودي أن يؤمن بنبوة موسى صلى الله عليه وسلم إن لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لنصراني أن يقر بنبوة المسيح صلى الله عليه وسلم إلا بعد إقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن من كفر بنبوة نبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم، ولم ينفعه إيمانه ببعضهم دون بعض، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا - أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا - وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 150 - 152] (¬2). ولا ينفع أهل الكتاب شهادة المسلمين بنبوة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام؛ لأن المسلمين آمنوا بهما على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فلولاه ما عرفنا نبوتهما، ولا سيما ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية 88. (¬2) سورة النساء، الآيات 150 - 152.

وليس بأيدي أهل الكتاب عن أنبيائهم ما يوجب الإيمان بهم؛ فلولا القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ما عرفنا شيئا من آيات الأنبياء المتقدمين، فمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه هو الذي قرر نبوة موسى وعيسى، لا اليهود والنصارى، بل نفس ظهوره ومجيئه تصديقا لنبوتهما؛ فإنهما أخبرا بظهوره، وبشرا بظهوره: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] (¬1) فلما بعث كان بعثه تصديقا لهما، قال تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37] (¬2). فمجيئه تصديق لهما من جهتين: من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به وشهادته بنبوتهم، ولو كان كاذبا لم يصدق من قبله، كما يفعل أعداء الأنبياء (¬3). ومن أعظم الأدلة على صدقه صلى الله عليه وسلم أنه قال لليهود لما بهتوه: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] (¬4) ولم يجسر أحد منهم على ذلك- مع اجتماعهم غلى تكذيبه وعداوته- لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك، فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم، وصدقه فيما يخبرهم به لسألوا الله الموت لأي الفريقين أكذب، منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة (¬5) ونظير ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6 - 7] (¬6). ¬

(¬1) سورة الصف، الآية 6. (¬2) سورة الصافات، الآية 37. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل 5/ 78 - 83، ودقائق التفسير لابن تيمية 3/ 34، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/ 350، 351، وهداية الحيارى ص 635. (¬4) سورة البقرة، الآية 94. (¬5) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 7/ 99، وتفسير ابن كثير 1/ 128، 129، وتفسير السعدي 1/ 114. (¬6) سورة الجمعة، الآيتان 6، 7.

وغير ذلك من دلائل نبوته وصدقه (¬1) صلى الله عليه وسلم التي سأذكرها- إن شاء الله- في آخر مطلب من مطالب حكمة القول مع أهل الكتاب. ¬

(¬1) ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم في هذا الزمن ما نشر في صحيفة البلاد السعودية، في عددها رقم 9422، في 15/ 8 / 1410هـ، الموافق 12 مارس 1990م، ودخل في الإسلام بسبب ذلك أربع قرى نيجيرية، وهذا نص المنشور: لقى أحد الضالين والمستهزئين بالإسلام حتفه أثر تشكيكه في الإسلام والقرآن، وإعلانه أمام جمع من الناس قائلا: إن كان القرآن والإسلام حقا فإني أسأل الله ألا أرجع بيتي حيا. ويشاء الله أن يلقي هذا الكافر حتفه قبل أن يعود إلى منزله فعلا‍‍! هذا وقد وقعت هذه الحادثة في قرية (بوب) في ولاية غونفولي بشمال نيجيريا، وأسلم على أثرها أهل القرية وثلاث قرى مجاورة، ويقول شهود عيان رأوا الحادثة: إن المكذب ويدعى عمر غيمو، وهو قس في كنيسة باتيسي بقرية بوب وقف خطيبا في الكنيسة، وبدأ في التطاول على الإسلام والقرآن الكريم، وردد العديد من الأكاذيب والأباطيل والافتراءات على الإسلام والقرآن الكريم، ثم قال في نهاية خطبته: (إن كان القرآن والدين الإسلامي حقا فأسأل الرب ألا يرجعني إلى بيتي حيا). وخرج القس من الكنيسة وهو على ثقة تامة بأنه لن يصيبه شيء وسيصل إلى منزله في صحة وعافية؛ ليتخذ ذلك فيما بعد دليلا يؤكد به للناس افتراءه وأكاذيبه. ويشاء الله- عز وجل- وعلى الرغم من أن الطريق على منزله لا توجد به أي أخطار تهدد حياة الإنسان، يشاء الله أن تتعثر قدماه وهو يعبر جدول ماء صغير، وسقط فيه حتى مات وسارع إليه جماعة من المسيحيين في دهشة وذهول، ونقلوه إلى المستشفى والتي رفضت استلامه لوفاته، فذهبوا به إلى مستشفى آخر وثالث وكان التأكيد أنه قد لاقى حتفه ليسقط في أيديهم لحدوث الوفاة بهذه البساطة ودون حدوث أي إصابة أو جرح. والأعجب من ذلك أن أحد المارة كان قد حاول في البداية إنقاذ هذا المستهزئ عند تعثره فلقي مصرعه. . . تجدر الإشارة إلى أن هذا القس كان مسيحيا، ثم أسلم، وعاش فترة بين المسلمين يتعامل معهم ويتعاملون معه، إلا أنه نكص على عقبيه، وارتد عن الإسلام، وأصبح حربا على دين الله إلى أن لقي مصيره المحتوم.

المطلب الثاني حكمة القول مع النصارى

المطلب الثاني حكمة القول مع النصارى من حكمة القول مع النصارى في دعويهم إلى الله- تعالى- أن يسلك معهم الداعية المسلم المسالك الحكيمة الآتية: المسلك الأول: إبطال عقيدة التثليث وإثبات الوحدانية لله تعالى. المسلك الثاني: البراهين على إثبات بشرية عيسى وعبوديته لله تعالى. المسلك الثالث: البراهين على إبطال قضية الصلب والقتل. المسلك الرابع: البينات على إثبات وقوع النسخ والتحريف. المسلك الخامس: إثبات اعتراف المنصفين من علماء النصارى. المسلك الأول: إبطال عقيدة التثليث وإثبات الوحدانية لله تعالى: المقصود بالتثليث عند النصارى ثلاثة أسماء: الآب، والابن، وروح القدس. وقالوا: الآب هو الذات، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو الحياة (¬1) ويعبرون عن ذلك بأن الله- تعالى عن كفرهم- ثلاثة أقانيم، ¬

(¬1) اختلف النصارى في تفسير هذا الكلام على أقوال: 1 - فكثير منهم يقول: الآب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو الحياة. 2 - ومنهم من يقول: الآب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو القدرة. 3 - وقيل: الأقانيم ثلاثة: جواد، حكيم، قادر، فقالوا: الجواد الآب، والحكيم الابن، والقادر: روح القدس. 4 - وقيل: الذات الأب، والنطق الابن، والحياة روح القدس. 5 - ومنهم من يعبر عن الكلمة بالعلم، فيقول: موجود، حي، عالم، أو موجود، عالم، قادر. 6 - ومنهم من يقول: موجود، حي، حكيم. 7 - ومنهم من يقول. قائم بنفسه، حي، حكيم. وكلهم متفقون على أن المتجسد في المسيح -على زعمهم- والحال فيه هو أقنوم الكلمة، وهو الذي يسمونه الابن دون الآب، تعالى الله عن قولهم. = = انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/ 90، 94، والملل والخل للشهرستاني 1/ 222 - 228. وفرق النصارى الثلاث: الملكانية، والنسطورية، واليعقوبية متفقون على أن معبودهم ثلاثة، ولكنهم اختلفوا في تفسير الأقانيم الثلاثة، وفي الحلول والاتحاد. انظر: الجواب الصحيح 2/ 95، والفصل لابن حزم 1/ 110 - 112، وإظهار الحق 1/ 576، والملل والنحل للشهرستاني 1/ 221 - 228، والبداية والنهاية 2/ 150، ودقائق التفسير 3/ 30، وإغاثة اللهفان 2/ 273. قال ابن حزم في الفصل 1/ 112: ولولا أن الله وصف قولهم في كتابه. . . لما انطلق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع السمج السخيف، وتالله لولا أنا شاهدنا النصارى ما صدقنا أن في العالم عقلا يسع هذا الجنون، ونعوذ بالله من الخذلان.

والأقنوم في لغتهم هو الأصل (¬1) والثلاثة أسماء إله واحد (¬2) في زعمهم الباطل عقلا وشرعا. والرد على عقيدة التثليث وإبطالها (¬3) ودعوة أصحابها إلى الله بالقول الحكيم يتلخص في الأمور الآتية: 1 - التوحيد دين الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وأتباعهم: إن عقيدة التثليث لم تكن في أمة من الأمم السابقة من عهد آدم عليه الصلاة والسلام، إلى رفع عيسى صلى الله عليه وسلم. وعقيدة التوحيد هي دين الأنبياء وأتباعهم، كما أن كتب العهد القديم عند أهل الكتاب ناطقة بأن الله واحد، أزلي، أبدي، حي لا يموت، قادر يفعل ما يشاء، ليس كمثله شيء، لا في الذات ولا في الصفات، وعبادة غير الله حرام، وحرمتها مصرحة في مواضع شتى، وهذا الأمر لشهرته وكثرته في تلك الكتب غير محتاج إلى نقل الشواهد (¬4). ¬

(¬1) انظر: الجواب الصحيح 2/ 100، 112، والداعي إلى الإسلام للأنباري ص 359، والفصل لابن حزم 1/ 119. (¬2) انظر: الداعي إلى الإسلام ص 363، 364، والجواب الصحيح 2/ 112. (¬3) انظر: اليهودية والمسيحية، للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، ص 411 - 439. (¬4) انظر: إظهار الحق، لرحمة الله الهندي 1/ 543، 577.

2 - النصارى تلقوا عقيدة التثليث عن أصحاب المجامع: إن المصادر النصرانية الموثوق فيها لا تملك سوى الإقرار بأن دعوة عيسى صلى الله عليه وسلم كانت توحيد الله الخالص من الشرك، إلى بداية القرن الرابع الميلادي (¬1) وذلك أن الله - عز وجل- بعث عبده ورسوله عيسى ابن مريم إلى بني إسرائيل، فجدد لهم الدين، وصدق لما بين يديه من التوراة، وأحل لهم بعض الذي حرم عليهم، ودعاهم إلى عبادة الله وحده، فعادوه وكذبوه، ورموه وأمه بالعظائم، وأرادوا قتله، فطهره الله - تعالى- منهم، ورفعه إليه، ولم يصلوا إليه بسوء، وأقام الله- تعالى- للمسيح أنصارا دعوا إلى دينه وشريعته حتى ظهر دينه على من خالفه، ودخل فيه الملوك، واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلاثمائة سنة، ثم أخذ دين المسيح في التبديل والتغيير، ولم يبق بأيدي النصارى منه إلا بقايا: كالختان، والاغتسال من الجنابة، وتعظيم السبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة إلا ما أحلت لهم بنصها، ثم استحلوا الخنزير، وأحلوا السبت، وعوضوا منه يوم الأحد، وتركوا الختان، والاغتسال من الجنابة، وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس فصلوا إلى المشرق، وعظموا الصليب وعبدوه، وعندما أخذ دين المسيح صلى الله عليه وسلم في التغير والفساد اجتمعت النصارى عدة مجامع، ثم يفترقون على الاختلاف والتلاعن، ومن أهم هذه المجامع: مجمع نيقية عام 325 م، فقد جمع الملك قسطنطين -باني القسطنطينية- ألفين وثمانية وأربعين أسقفا (2048) من جميع بلدان العالم، وكانوا مختلفي الآراء والأديان، واتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا (318) على أن المسيح ابن الله -تعالى عن كفرهم- وأنه مساو له في ¬

(¬1) انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم 2/ 270، وهداية الحيارى ص 622، والمناظرة بين الإسلام والنصرانية ص 164.

الجوهر، وأنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا، وحمل به، ثم ولد من مريم، وقتل وصلب، ودفن، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء مرة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، وقالوا: نؤمن بروح القدس، وأجبر الملك الناس على هذه العقيدة التي أسسها هؤلاء الأساقفة. ثم عقد مجمع آخر عام 381 م، وحضره مائة وخمسون أسققا (150)، وأجمعوا على أن روح القدس خالق غير مخلوق، وبهذا المجمع تم لهم التثليث، وقالوا: بأن الآب والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم، وفرض ملوك النصارى هذه العقيدة على الناس. ثم عقد مجمع سنة 431 م، وحضره نحو مائتي أسقف (200)، وقرروا أن مريم ولدت إلها. . .! واستمرت المجامع تعقد بعد ذلك، وأشهرها المجامع العشرة التي عقدت على مر العصور، وكلهم يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، فدينهم الذي ابتدعوا قائم على اللعنة (¬1). فثبت بهذا الاستعراض أن دين المسيح صلى الله عليه وسلم هو التوحيد إلى نهاية القرن الثالث الميلادي، وأن المجامع النصرانية هي التي فرضت عقيدة التثليث، وألزم الملوك الناس بذلك بالسيف والعطاء (¬2). فعلم قطعا بأن عقيدة التثليث عقيدة وثنية مصدرها المجامع النصرانية، بدءا بمجمع نيقية سنة 325 م، وهذا من أعظم ما يرد به على النصارى، ولكن بالقول الحكيم، وبالرفق واللين، والجدال بالتي هي أحسن. ¬

(¬1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/ 115، 2/ 90 - 135، 3/ 22 - 45، وإغاثة اللهفان 2/ 270 - 281، وهداية الحيارى ص 646 - 658، والبداية والنهاية لابن كثير 2/ 150، 151، والمناظرة بين الإسلام والنصرانية ص 202 - 216. (¬2) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 2/ 228.

3 - بطلان كون الثلاثة إله واحد: قال المثلثة: الآب، والابن، وروح القدس: الثلاثة أسماء إله واحد، ورب واحد، وخالق واحد، ومسمى واحد، لم يزل ولا يزال شيئا- ناطقا: أي الذات والنطق والحياة (¬1) ويعبرون عن ذلك بأن الله - تعالى عن كفرهم- ثلاثة أقانيم، وحينئذ يرد عليهم بالقول الحكيم بالآتي: أولا: لم خصصتم الأقانيم بالثلاثة؟ فإنه قد ثبت أنه: موجود، حي, عليم، قادر، سميع، بصير، كريم، خالق، رازق. . . فيلزمكم على قولكم هذا أن تثبتوا أقنوما رابعا، وهو القدرة، وخامسا وهو: السمع، وسادسا وهو: البصر، وسابعا وهو: الكرم، وثامنا وهو: الخلق، وتاسعا وهو: الكلام. . . وسائر الصفات الثابتة، فإن أسماء الله -تعالى- وصفات متعددة كثيرة، ومنها تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة (¬2). فإذا كانت أسماء الله كثيرة فالاقتصار على ثلاثة أسماء أو ثلاث صفات باطل مردود (¬3). ثانيا: قولكم: الآب الذي هو ابتداء الاثنين، والابن النطق الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل: كلام باطل؛ لأن صفات الكمال لازمة لذات الله -تعالى- أولا وآخرا، فهو لم يزل ولا يزال حيا، عالما، قادرا، فلم يصر حيا بعد أن لم يكن حيا، ولا عالما بعد أن لم يكن عالما! ¬

(¬1) فالذات عندهم: الأب الذي هو ابتداء الاثنين، والنطق: الابن الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل، والحياة: هي روح القدس، ثم يعبرون عن ذلك بأن الله- تعالى- ثلاثة أقانيم - تعالى الله عن ذلك- والأقنوم في لغتهم: هو الأصل انظر: الجواب الصحيح 2/ 100، 112، والداعي إلى الإسلام ص 359، والفصل لابن حزم 1/ 119. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار 5/ 354، 11/ 214، ومسلم، كتاب الذكر، باب أسماء الله تعالى. . . 4/ 2063. (¬3) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/ 113.

ثالثا: قولكم في النطق: إنه الابن، وإنه مولود من الله -تعالى-: إن أردتم به أنه صفة لازمة له، فكذلك الحياة صفة لازمة له، فيكون روح القدس أيضا ابنا ثانيا، وإن أردتم أنه حصل منه بعد أن لم يكن لزم أن يكون عالما بعد أن لم يكن، وهذا مع كونه باطلا وكفرا فيلزم مثله في الحياة وأنه صار حيا بعد أن لم يكن حيا، تعالى الله وتقدس عن ذلك! رابعا: إن تسمية حياة الله: روح القدس، لم ينطق به شيء من كتب الله المنزلة، فإطلاق روح القدس على حياة الله من التبديل والتحريف للكلم عن مواضعه. خامسا: إنكم تدعون أن المتجسد بالمسيح هو الكلمة، الذي هو العلم، وهذا إن أردتم به نفس الذات العالمة الناطقة كان المسيح هو الآب، وهو الابن، وهو روح القدس، وهذا عندكم وعند جميع الناس باطل. سادسا: العلم صفة، والصفة لا تخلق ولا ترزق، والمسيح نفسه ليس هو صفة قائمة بغيرها باتفاق العقلاء، وأيضا هو عند المثلثة خالق للسموات والأرض، فامتنع أن يكون المتحد به صفة، فإن الإله المعبود هو الإله الحي العليم القدير، وليس هو نفس الحياة ولا نفس العلم والكلام، فلو قال قائل: يا حياة الله، أو يا علم الله، أو يا كلام الله اغفر لي وارحمني. . . كان هذا باطلا في صريح العقل؛ ولهذا لم يجوز أحد من أهل الأديان السماوية أن يقال للتوراة أو الإنجيل وغير ذلك من كلام الله: اغفر لي وارحمني، وإنما يقال للإله المتكلم بهذا الكلام -وهو الله وحده-: اغفر لنا وارحمني. والمسيح عند المثلثة هو الإله الخالق الذي يقال له: اغفر لنا وارحمنا، فلو كان هو نفس علم الله وكلامه لم يجز أن يكون إلها معبودا، فكيف إذا

لم يكن هو نفس علم الله وكلامه، بل هو مخلوق بكلامه حيث قال: (كن)، فكان، فتبين بذلك أن كلمات الله كثيرة لا نهاية لها، ومعلوم أن المسيح ليس هو كلمات كثيرة بل غايته أن يكون كلمة واحدة، إذ هو المخلوق بكلمة من كلمات الله عز وجل (¬1). سابعا: مما لا يشك في صحته عاقل أن عقيدة التثليث باطلة مردودة بصريح النقل وصحيح العقل، ومن المعلوم عند سائر أهل الملل أن الله موجود، حي، عليم، متكلم، قدير، لا تختص صفاته بثلاثة، ولا يعبر عن ثلاثة منها بعبارة لا تدل على ذلك، وهو: لفظ الآب، والابن، وروح القدس، فإن هذه الألفاظ لا تدل على ما فسروها به في لغة أحد من الأمم، ولا يوجد في كلام أحد من الأنبياء أنه عبر بهذه الألفاظ عما ذكروه من المعاني، بل ذلك مما ابتدعه النصارى، ولم يدل عليه شرع ولا عقل (¬2). فتبين أن جميع كتب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تبطل مذهب النصارى، فهم بين أمرين: 1 - الإيمان بكلام الأنبياء وبطلان دينهم (عقيدة التثليث). 2 - تصحيح دينهم وتكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (¬3). 4 - إبطال عقيدة التثليث بما في كتب النصارى: من الأدلة التي تلزم أصحاب التثليث أن يبين لهم بالقول الحكيم ما في كتبهم التي يعترفون بها، فإن فيها ما يبطل قولهم وعقيدتهم في التثليث، ومن ذلك على سبيل المثال ما يلي: ¬

(¬1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/ 112 - 116، بتصرف. (¬2) انظر: المرجع السابق 2/ 91. (¬3) انظر: المرجع السابق 2/ 213.

(أ) جاء في إنجيل يوحنا، أن المسيح صلى الله عليه وسلم قال في دعائه: " إن الحياة الدائمة إنما تجب للناس بأن يشهدوا أنك أنت الله الواحد الحق، وأنك أرسلت اليسوع المسيح " (¬1). وهذه حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه. (ب) وقال: " إن الله -عز وجل- ما أكل ولا يأكل، وما شرب ولا يشرب، ولم ينم ولا ينام، ولا ولد له ولا يلد ولا يولد، ولا رآه أحد ولا يراه أحد (¬2) إلا مات " (¬3). وبهذا يظهر سر قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] (¬4). وغير ذلك من الأمثلة كثير لا يتسع المقام لذكرها (¬5). 5 - إبطال القرآن الكريم لعقيدة التثليث: القرآن الكريم هو الأصل في تصحيح العقائد، وما سبق من القول الحكيم مع النصارى إنما هو مخاطبتهم على قدر عقولهم بالأدلة العقلية، وبالواقع من تاريخهم، وما جاء في كتبهم، مما يبطل عقيدة التثليث، يثبت أن عقيدة التوحيد هي دين الأنبياء جميعا، عليهم الصلاة والسلام. والقرآن الكريم - المحفوظ من الله عن التبديل والتحريف- يتولى الرد ¬

(¬1) هداية الحيارى لابن القيم ص 620. (¬2) المقصود بنفي الرؤية هنا في الدنيا، أما في الآخرة فإن المؤمنين يرون ربهم في الجنة، وهو أعظم نعيم أهل الجنة، جعلنا الله منهم. (¬3) انظر: هداية الحيارى ص 621. (¬4) سورة المائدة، الآية 75. (¬5) انظر كثير من الأمثلة على ذلك في: هداية الحيارى ص 620 - 622، وإظهار الحق 2/ 25 - 39.

على هذه القضية بأوجز عبارة وأوضحها، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171] (¬1) {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17] (¬2). وقال عز وجل مبينا حقيقة عيسى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 72 - 75] (¬3). وأخبر الله عن المسيح أنه لم يأمر الناس إلا بما أمره الله به، فقال سبحانه: ¬

(¬1) سورة النساء، الآية 171. (¬2) سورة المائدة، الآية 17. (¬3) سورة المائدة، الآيات 72 - 75.

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ - مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 116 - 117] (¬1) {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا - لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا - أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا - وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا - إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93] (¬2) {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] (¬3). * فهل بعد هذا القول بيان؟ وهل بعد هذه الحجج من حجج؟ (¬4). وأما قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] (¬5) فقد بينها الله تعالى أعظم بيان وأكمله وأبلغه. (أ) فالكلمة التي ألقاها الله إلى مريم هي: (كن)، فكان عيسى بـ " كن "، وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان عيسى، فالكن من الله قوله: (كن)، وليس الكن مخلوقا (¬6) قال تعالى: ¬

(¬1) سورة المائدة، الآيتان 116، 117. (¬2) سورة مريم، الآيات 88 - 93. (¬3) سورة التوبة، الآية 30. (¬4) انظر: الجواب الصحيح 2/ 279 - 281، ودقائق التفسير 3/ 28، 29. (¬5) سورة النساء، الآية 171. (¬6) فتاوى ابن تيمية 20/ 493، ودقائق التفسير 3/ 31، وتفسير ابن كثير 1/ 951.

{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ - وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ - قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 45 - 47] (¬1). ففي هذا الكلام وجوه تبين أنه مخلوق وليس كما يقول النصارى، وذلك: 1 - قوله تعالى: {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران: 45] وهي نكرة في سياق الإثبات يقتضي أنه كلمة من كلمات الله، وليس هو كلامه كله كما يقول النصارى. 2 - ومنها أنه بين مراده بقوله: {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران: 45] وأنه مخلوق حيث قال: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] (¬2) وقوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ - مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 34 - 35] (¬3). فهذه ثلاث آيات في القرآن تبين أن الله قال له: {كُنْ} [مريم: 35] وهذا تفسير كونه كلمة منه. 3 - وقال: اسمه المسيح عيسى ابن مريم. 4 - وأخبر أنه وجيه في الدنيا والآخرة. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيات 45 - 47. (¬2) سورة آل عمران، الآية 59. (¬3) سورة مريم، الآيتان 34، 35.

5 - وأنه من المقربين. وهذه كلها صفة مخلوق، والله- تعالى- وكلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك. 6 - وقالت مريم: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} [آل عمران: 47] فبين أن المسيح الذي هو الكلمة ولد مريم لا ولد الله سبحانه وتعالى (¬1). (ب) أما الروح التي قال تعالى فيها: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] فلا يجب أن يكون منفصلا من ذات الله، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] (¬2). {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] (¬3). {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 79] (¬4). . فهذه الأشياء كلها من الله وهي مخلوقة. وأبلغ من ذلك روح الله التي أرسلها إلى مريم، وهي مخلوقة {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا - قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا - قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 17 - 19] (¬5). {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] (¬6) وقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم: 12] (¬7). ¬

(¬1) انظر: الجواب الصحيح 2/ 99 - 300، 2/ 140، 227. (¬2) سورة الجاثية، الآية 13. (¬3) سورة النحل، الآية 53. (¬4) سورة النساء، الآية 79. (¬5) سورة مريم، الآيات 17 - 19. (¬6) سورة الأنبياء، الآية 91. (¬7) سورة التحريم، الآية 12.

فعلم بذلك أن الروح الذي أرسله الله إلى مريم هو روح القدس، وهو الملك جبريل، عليه السلام، وهو مخلوق، وهو الذي خلق المسيح من نفخه ومن مريم، فإذا كان الأصل مخلوقا فكيف الفرع الذي حصل به؟ أما قوله عن المسيح: وروح منه فخص بذلك؛ لأنه نفخ في أمه من الروح، فحملت به من ذلك النفخ، وذلك غير روحه التي يشاركه فيها سائر البشر، فامتاز بأن حملت به من نفخ الروح؛ فلهذا سمي روحا منه (¬1). أما إضافة الروح إلى الله في قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] فهي إضافة مخلوق إلى خالقه، كقوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] (¬2). {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] (¬3) والمضاف إلى الله -تعالى- نوعان: (أ) إن كان صفة مضافة إلى الله لم تقم بمخلوق: كعلم الله، وقدرة الله، والقرآن كلام الله، وحياة الله، كان صفة لله تعالى. (ب) وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها أو صفة فيها، أو صفة لغير الله: كالبيت، والناقة، والعبد، والروح كان مخلوقا مضافا إلى خالقه ومالكه. لكن هذه الإضافة (ناقة الله)، (بيت الله)، (عباد الله)، (روح الله)، إضافة مخلوق إلى خالقه تقتضي التشريف، وبهذا يتبين أنه لا يوجد للنصارى حجة إطلاقا، فسقط قولهم بحمد الله تعالى (¬4). ¬

(¬1) انظر: الجواب الصحيح 2/ 127، 128، 133، 302، 303، ودقائق التفسير 2/ 341، 3/ 32، والبغوي 1/ 501، وابن كثير 1/ 591، 4/ 395، وفتح القدير 1/ 540. (¬2) سورة الشمس، الآية 13. (¬3) سورة الإنسان، الآية 6. (¬4) انظر: الجواب الصحيح 2/ 115، 127، 128، 132، 138 - 140، 142، ودقائق التفسير 2/ 343.

المسلك الثاني الأدلة والبراهين القاطعة على بشرية عيسى وعبوديته لله

المسلك الثاني: الأدلة والبراهين القاطعة على بشرية عيسى وعبوديته لله: ومن حكمة القول مع النصارى في دعوتهم إلى الله أن يبين لهم أن عيسى صلى الله عليه وسلم، عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، خلقه عز وجل، وبين لعباده أنه مخلوق، وأن ذلك لا يعجزه، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 59 - 60] (¬1). فقد خلق الله -تعالى- هذا النوع على الأقسام الممكنة، ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، كما قال تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] (¬2) وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح؛ لأن حواء خلقت من ضلع آدم، وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم، وخلق آدم أعجب من هذا وهذا، وهو أصل خلق حواء؛ فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح، فإذا كان سبحانه قادرا أن يخلقه من تراب، والتراب ليس من جنس بدن الإنسان، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان؟ وهو عز وجل خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن، فكان لما نفخ فيه من روحه، فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه، وقال له. كن، فكان، ولم يكن آدم بما نفخ فيه من روحه لاهوتا وناسوتا، بل كله ناسوت، فكذلك المسيح كله ناسوت (¬3). وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل النصارى على حقيقة عيسى صلى الله عليه وسلم، وأنه ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان 59، 60. (¬2) سورة النساء، الآية 1. (¬3) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/ 294، ودقائق التفسير لابن تيمية 2/ 334، وتفسير ابن كثير 1/ 368.

عبد الله ورسوله، فقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] (¬1). وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم قول الله، فدعاهم إلى المباهلة، فعرفوا أنهم إن باهلوه أنزل الله عليهم لعنته، فأقروا بالجزية وهم صاغرون. وهذا كله يبين أن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه مخلوق، ويبين أن النصارى بامتناعهم عن المباهلة وعن الدخول في الإسلام كانوا ظالمين (¬2). وقد بين عز وجل حقيقة عيسى، ووصفه وأمه وصفا كاملا لا يدع مجالا للشك، ويقطع كل شبهة ترد على بشرية عيسى وأمه، فقال عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم: 16] إلى قوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا - قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا - وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا - وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 29 - 32] إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ - مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} [مريم: 34 - 35] الآيات (¬3). وقال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] (¬4). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية 61. (¬2) انظر: الجواب الصحيح 2/ 295، ودقائق التفسير 2/ 334، ودرء تعارض العقل والنقل 1/ 198، وتفسير ابن كثير 1/ 368، وانظر: ص 426، من هذا الكتاب (الهامش). (¬3) سورة مريم، الآيات 16 - 37. (¬4) سورة الزخرف، الآية 59.

وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عبد الله ورسوله، وأحد أنبيائه ورسله الكرام، ويتصف بصفات البشر، ويأكل الطعام كما يأكله البشر (¬1) {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] (¬2). وقد شهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بالجنة لمن شهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، فقال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» (¬3). وحذر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عن الغلو، وبين أنه من أسباب تأليه النصارى لعيسى ابن مريم (¬4). وبهذه البراهين القطعية من الأدلة العقلية والنقلية يتضح لكل ذي لب أن عيسى عبد الله ورسوله، وابن أمته، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، ومن وصفه بغير ذلك من الصفات التي لم يصفه بها ربه وخالقه فقد خرج عن مقتضى العقل والنقل إلى الجنون أو الجحود والظلم: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172] (¬5) {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ - وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79 - 80] (¬6). ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 82. (¬2) سورة المائدة، الآية 75. (¬3) البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم "، 6/ 474، ومسلم، في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا 1/ 57، وانظر زيادة للحديث في البخاري مع الفتح 6/ 474، ومسلم 1/ 57. (¬4) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: " واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها. . . "، 6/ 478، وكتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، 12/ 144. (¬5) سورة النساء، الآية 172. (¬6) سورة آل عمران، الآيتان 79، 80.

المسلك الثالث البراهين الدالة دلالة قطعية على إبطال قضية الصلب والقتل

المسلك الثالث: البراهين الدالة دلالة قطعية على إبطال قضية الصلب والقتل: زعم النصارى أن اليهود قتلوا عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وصلبوه، وقبر، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء (¬1) وقد كذبهم الله فيما زعموا {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] (¬2). ومن الحكمة القولية في دعوتهم إلى الله وإبطال مذهبهم أن يرد عليهم بالآتي: 1 - الأدلة العقلية: (أ) بما أنكم أجمعتم أيها النصارى على القول بالاتحاد والصلب والقتل (¬3) فهل كان الاتحاد موجودا في حالة الصلب والقتل أم لا؟ فإن قلتم كان موجودا، لزمكم القول بأن ابن الله القديم -في زعمكم- مات وصلب؛ لأن جواز القتل كجواز الموت والحركة والسكون والافتراق، وفيه جواز موت الأب والروح، وهذا لا يقولون به. ¬

(¬1) انظر. الجواب الصحيح 2/ 116، والداعي إلى الإسلام للأنباري ص 377، وإغاثة اللهفان 2/ 273، وهداية الحيارى ص 618. (¬2) سورة النساء، الآية 157. (¬3) قالوا: إن الإله اتحد مع الإنسان فصار شيئا واحدا، ويعنون بالاتحاد: اتحاد الكلمة بجسد المسيح، ولا يسمون الكلمة التي هي العلم عندهم ابنا إلا بعد تدرعها بالمسيح، فالمسيح عندهم - مع ما تدرع به - ابن. . انظر: الفصل لابن حزم 1/ 117، والداعي إلى الإسلام ص 365، والملل للشهرستاني، 1/ 222، ودقائق التفسير 2/ 346.

فإن قالوا: إن الاتحاد بطل، قيل لهم: فيجب ألا يكون المقتول مسيحا؛ لأن الجسد عند انتقاض الاتحاد ليس بمسيح، فبطل قولكم بأن المسيح قتل وصلب. (ب) أنتم تزعمون أن المسيح قتل وصلب، والمسيح في عقيدتكم كان لاهوتا وناسوتا، فيلزم من ذلك إطلاق القول بقتل إلهكم؛ لأن المسيح عندكم إله مطلق، ومن ضرورة ذلك إطلاق القول بقتل الإله وموته، وذلك مروق عن الدين (¬1). فإن قالوا: إنما قتل الناسوت دون اللاهوت. قيل لهم: هذا باطل من وجهين: 1 - أن ناسوته لم يصلب وليس فيه لاهوتا. 2 - ذكركم ذلك دعوى مجردة فيكفي في مقابلتها المنع (¬2). (جـ) إذا كان عيسى ابن الله -تعالى- قديم الروح بزعمكم فكيف قدر اليهود على أن يقتلوا ابن الله، وهو إله عندكم، والإله لا يقتل! فإن قالوا: إنما قتل الهيكل دون الروح، قيل لهم: قد بطل الاتحاد الذي ادعيتموه، فكان يجب أن يمنع الروح واللاهوت عن القتل وإتلاف الهيكل والناسوت، فدل ذلك على أنه كان عبدا لله ورسولا له، لا ابنا له (¬3). 2 - أخبار القتل والصلب مصدرها اليهود: من المعلوم يقينا أن أخبار المسيح والصلب والقتل إنما تلقاها النصارى عن اليهود، وقد ثبت أنه لم يحضر أحد منهم، وإنما قال اليهود: قتلناه ¬

(¬1) انظر: الداعي إلى الإسلام ص 378. (¬2) انظر: الجواب الصحيح 2/ 297، ودقائق التفسير 2/ 336، وإغاثة اللهفان 2/ 290. (¬3) انظر: الداعي إلى الإسلام للأنباري ص 378، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 2/ 279 - 294.

وصلبناه، وهم أعظم أعدائه الذين رموه وأمه بالعظائم، وأجمعت اليهود على أن عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، لم يدع شيئا من الإلهية التي نسبها إليه النصارى، فحينئذ يقال للنصارى: إن صدقتم اليهود في القتل والصلب فصدقوهم في أنه ليس بإله، بل هو عبد مخلوق! (¬1). ومن العجيب أن النصارى يعظمون الصليب، وكان من مقتضى العقول أن يحرقوا كل صليب وجدوه؛ لأنه قد صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم. . فبأي وجه بعد هذا يستحق الصليب التعظيم (¬2). 3 - تناقض الأناجيل في قضية الصلب: وقع في قضية الصلب في الأناجيل المعتمدة عند النصارى أكثر من ثلاثين تناقضا، وحينئذ يطبق على هذه التناقضات قاعدة: كل ما تسرب إليه الاحتمال سقط به الاستدلال (¬3). وهذا يدل على أن كل ما تعلق بالصلب اشتبه أمره على النصارى، وغابت عنهم الحقيقة، فهم لا يزالون مختلفين، وبهذا يسقط قولهم؛ لأنهم لا علم لهم ولا دليل يعتمدون عليه (¬4). 4 - إبطال القرآن الكريم لقضية الصلب والقتل: أوضح الله في القرآن الكريم أمر الصلب وبينه وجلاه وأظهره، وأوضحه عنه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات، فقال تعالى: ¬

(¬1) انظر: هداية الحيارى ص637 - 639، والجواب الصحيح 2/ 283. (¬2) انظر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم 2/ 85، وهداية الحيارى من 495، والفصل لابن حزم 1/ 123 - 128. (¬3) انظر أمثلة هذه التناقضات مع إحالتها إلى الأناجيل في: المناظرة بين الإسلام والنصرانية ص 62 - 108، والإنجيل دراسة وتحليل للدكتور / محمد شلبي ص 94 - 121. (¬4) انظر: المناظرة بين الإسلام والنصرانية ص 104.

{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا - بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا - وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 157 - 159] (¬1). فعيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يفتل ولم يصلب، بل رفعه الله إليه، ولم يمت، قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55] (¬2) وقال تعالى حكاية عن المسيح: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] (¬3). والوفاة هنا بمعنى القبض، كما يقال: توفيت من فلان ما لي عليه، بمعنى: قبضته واستوفيته، فيكون معنى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] أي: إني قابضك من الأرض ورافعك إلي (¬4). وقوله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] يعم اليهود والنصارى، فدل ذلك على أن جميع أهل الكتاب يؤمنون بالمسيح قبل موته، وذلك إذا نزل في آخر الزمان (¬5). آمنت اليهود والنصارى بأنه ¬

(¬1) سورة النساء، الآيات 155 - 159. (¬2) سورة آل عمران، الآية 55. (¬3) سورة المائدة، الآية 117. (¬4) ورجح هذا القول الطبري في تفسيره 3/ 203. وهناك أقوال أخرى في معنى الوفاة هنا، فمنهم من قال: النوم، وهم الأكثر، كما قاله ابن كثير 1/ 367، ومنهم من قال في الآية تقديم وتأخير، وتقديره. إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك. انظر. تفسير الطبري 3/ 202 - 204، والبغوي 1/ 308، وزاد المسير 1/ 396، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/ 285 وتفسير ابن كثير 1/ 367، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1/ 342. (¬5) انظر خبر نزول عيسى آخر الزمان وحكمه بالشريعة الإسلامية في البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب نزول عيسى ابن مريم 6/ 490، ومسلم، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم 1/ 135.

المسلك الرابع البينات الواضحات على وقوع النسخ والتحريف في الأناجيل

رسول الله، ليس كاذبا كما يقول اليهود، ولا هو الله كما يقول النصارى (¬1) ثم بعد أن يحكم بشريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يموت كما يموت البشر قبل يوم القيامة. فاتضح بذلك -بحمد الله- أن عيسى لم يقتل، ولم يصلب، ولم يمت حتى الآن، فبطل قول النصارى وما قتلوه وما صلبوه والله المستعان. المسلك الرابع: البينات الواضحات على وقوع النسخ والتحريف في الأناجيل: من حكمة القول في دعوة النصارى إلى الله -تعالى- أن يبين لهم بالأدلة العقلية والنقلية أن دين الإسلام قد نسخ جميع الشرائع السابقة، وأن ما وجد من الكتب السابقة فهو بين أمرين. إما حق قد نسخته الشريعة الإسلامية، وإما كلام محرف أو خلط فيه الحق بالباطل (¬2). ومن المعلوم أن النصارى يقسمون الكتب إلى قسمين: 1 - كتب العهد القديم (¬3). 2 - كتب العهد الجديد (¬4). ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 6/ 491، 492، 4/ 414، 5/ 121، وشرح النووي 2/ 190. (¬2) أما إثبات نسخ الشريعة الإسلامية لجميع الشرائع السابقة، فقد قدمت عليه الأدلة العقلية والنقلية في المطلب الأول من حكمة القول مع اليهود، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. انظر: ص 404. (¬3) كتب العهد القديم هي ما يدعي النصارى أنه وصل إليهم بواسطة الأنبياء الذين كانوا قبل عيسى، وأشهر هذه الكتب خمسة: 1 - سفر التكوين 2 - سفر الخروج 3 - سفر الأخبار 4 - سفر العدد. 5 - سفر الاستثناء. ومجموع هذه الكتب يسمى بالتوراة، انظر إظهار الحق، لرحمة الله الهندي 1/ 95 - 98، واليهودية والمسيحية، محمد ضياء الرحمن الأعظمي، ص 99 - 183. (¬4) كتب العهد الجديد هي ما يدعي النصارى أنها كتبت بالإلهام بعد عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأشهرها الأناجيل الأربعة: 1 - إنجيل متى 2 - إنجيل مرقس 3 - إنجيل لوقا 4 - إنجيل يوحنا. انظر: إظهار الحق 1/ 95 - 98، واليهودية والمسيحية، ص 313 - 352.

أما كتب العهد القديم فقد تقدم إثبات وقوع التحريف فيها بالأدلة العقلية والنقلية (¬1). وأما كتب العهد الجديد فلا شك أن القول بالتحريف في كتب العهد الجديد عند النصارى أيسر عليهم من القول بالتحريف في العهد القديم؛ لأنهم لا يدعون أن الأناجيل منزلة من عند الله -تعالى- على المسيح، ولا أن المسيح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أتاهم بها، بل كلهم مجمعون على أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال في أزمان مختلفة (¬2)؛ ولهذا قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: " الإنجيل بمنزلة ما ينقل من أقوال الأنبياء وسيرهم، ويقع في ذلك الصح والخطأ " (¬3). ولسعة هذا الموضوع سأقتصر على ما يثبت وقوع التحريف في الأناجيل بالأمثلة التالية: 1 - النتيجة التي لا مفر من التسليم بها أن الأناجيل القانونية الموجودة الآن ما هي إلا كتب مؤلفة، وهي تبعا لذلك معرضة للخطأ والصواب، ولا يمكن الادعاء ولو لحظة أنها كتبت بإلهام؛ فلقد كتبها أناس مجهولون، في أماكن غير معلومة، وفي تواريخ غير مؤكدة، والشيء المؤكد أن هذه الأناجيل مختلفة غير متآلفة، بل إنها متناقضة مع نفسها، ومع حقائق العالم الخارجي؛ لأنها فشلت في تنبؤات كثيرة، كالقول بنهاية العالم، وهذا القول قد يضايق النصراني العادي، بل قد يصدمه، ولكن بالنسبة للعالم النصراني ¬

(¬1) انظر حكمة القول مع اليهود: المسلك الثاني من المطلب الأول، ص 411. (¬2) انظر: الفصل لابن حزم 2/ 13، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/ 19، والمناظرة بين الإسلام والنصرانية ص 47. (¬3) انظر: الجواب الصحيح 2/ 19.

فقد أصبح ذلك عنده حقيقة مسلم بها (¬1) لما أجراه من أبحاث، ولما علمه من واقع الأناجيل. 2 - الشواهد على التحريف من الأناجيل: (1) جاء في إنجيل مرقس: أن المسيح قال لتلاميذه: " اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن، وهذه الآيات تتبع المؤمنين يخرجون الشياطين باسمي، ويتكلمون بألسنة جديدة، يحملون حيات، وإن شربوا شيئا مميتا لا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرءون " (¬2). ففي هذا النص حجة على النصارى من وجهين: الوجه الأول: قولهم عن عيسى: إنه أمرهم أن يبشروا بالإنجيل، فدل ذلك على أن إنجيلا أتاهم به وليس هو عندهم الآن، وإنما عندهم أربعة أناجيل متغايرة، وليس منها إنجيل ألف إلا بعد رفع عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بأعوام كثيرة، فصح أن ذلك الإنجيل الذي أخبر المسيح أنه أتاهم به وأمرهم بالتبشير به ذهب عنهم؛ لأنهم لا يعرفون له أصلا، وهذا ما لا يمكن سواه. الوجه الثاني: قولهم: إنه وعد كل من آمن بدعوة التلاميذ أنهم يتكلمون بلغات لا يعرفونها، وينفون الجن عن المجانين، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرءون، ويحملون الحيات، وإن شربوا شربة قتالة لا تضرهم، وهذا وعد ظاهر الكذب؛ فإن ما من النصارى أحد يتكلم بلغة لم يتعلمها، ولا منهم أحد ينفي جنيا، ولا من يحمل حية فلا تضره، ولا ¬

(¬1) انظر: المناظرة بين الإسلام والنصرانية ص 35 - 50 فهناك تجد كثيرا من الأمثلة على هذه التناقضات. (¬2) انظر: الفصل لابن حزم 2/ 139، وعزاه المحقق إلى إنجيل مرقس، الإصحاح 16/ 15 - 18.

من يضع يده على مريض فيشفى، ولا منهم أحد يسقى السم فلا يضره، وهم معترفون بأن يوحنا - صاحب الإنجيل- قتل بالسم وحاشا لله أن يأتي نبي بمواعيد كاذبة، وهذا دليل على تحريف النصارى وتناقضهم وتكذيبهم أنفسهم " (¬1). (ب) ومن ذلك ما جاء في إنجيل متى أن عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم دعا على شجرة تين خضراء، فيبست التينة في الحال، فتعجب التلاميذ من ذلك، فقال لهم عيسى: " الحق أقول لكم إن كان لكم إيمان، ولا تشكوا أمر التينة فقط، بل إن قلتم أيضا لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر فيكون " (¬2). وهذا فيه حجة على النصارى، وذلك أن الأمر لا يخلو من أن يكون النصارى مؤمنين بالمسيح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، أو غير مؤمنين، فإن كانوا مؤمنين، فقد كذبوا المسيح فيما نسبوه إليه في هذه المقالة- وحاشا له من الكذب- فليس منهم أحد قدر على أن يأمر حبة من خردل بالانتقال فتنتقل، فكيف على قلع جبل وإلقائه في البحر! وإن كانوا غير مؤمنين به فهم بإقرارهم هذا كفار، ولا يجوز أن يصدق كافر (¬3). وبهذا يتبين أن الأناجيل وقع فيها تحريف عظيم، ولا يعتمد عليها، ولا مخرج من هذا التيه إلا بالدخول في الإسلام. ¬

(¬1) انظر: الفصل لابن حزم 2/ 139. (¬2) انظر: الفصل لابن حزم 2/ 139، وعزاه المحقق إلى إنجيل متى، الإصحاح 21/ 18 - 22. (¬3) الفصل في الملل والأهواء والنحل، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، الإمام الحافظ، ولد سنة 384 هـ، وتوفى سنة 456 هـ، 2/ 98. وانظر: الفصل لابن حزم 2/ 14 - 200، والمناظرة بين الإسلام والنصرانية ص 32 - 452.

المسلك الخامس إثبات اعتراف المنصفين من علماء النصارى

المسلك الخامس: إثبات اعتراف المنصفين من علماء النصارى: من حكمة القول مع النصارى في دعوتهم إلى الله الاستشهاد عليهم بشهادة المنصفين من علماء النصارى، ومن وفقه الله منهم للإسلام، فإن هذا من باب {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] (¬1) ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: 1 - النجاشي ملك الحبشة رحمه الله ورضي عنه: عندما قرأ جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه- على النجاشي (¬2) صدرا من سورة مريم، بكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكى أساقفته حين سمعوا ما تلي عليهم، وقال النجاشي للوفد: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟ فقال جعفر - رضي الله عنه-: يقول فيه قول الله: هو روح الله، وكلمته، أخرجه من البتول العذراء التي لم يقربها بشر. . . فتناول النجاشي عودا فرفعه، فقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد على ما تقولون في ابن مريم ما تزن هذه، وقال للوفد: مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعله (¬3). 2 - سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه: قصة سلمان مشهورة عجيبة (¬4) فقد عاش مع مجموعة من علماء النصارى، وعندما كان مع آخر عالم من هؤلاء بعمورية بالروم حضرته ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية 26. (¬2) أصحمة ملك الحبشة، أسلم وحسن إسلامه، وهو معدود في الصحابة، ولم يهاجر، ولا له رؤية، فهو تابعي من وجه، صحابي من وجه، توفى في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فصلى عليه بالناس صلاة الغائب، ولم يثبت أنه صلى على غائب سواه. انظر: سير أعلام النبلاء 1/ 428 - 443. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء 1/ 438. (¬4) انظر: قصته وإسلامه -رضي الله عنه- في سير أعلام النبلاء 1/ 505 - 556.

الوفاة، فأوصى سلمان الفارسي وقال: " قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل، فإنه قد أظلك زمانه ". وسافر سلمان ووجد العلامات التي وصفت له، فأسلم رضي الله عنه (¬1). 3 - هرقل عظيم الروم: قال هرقل لأبي سفيان في آخر حديثه: ". . . وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه. . . " (¬2). ثم قال للروم بعد ذلك: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ (¬3) ولكن رغب في ملكه وضن به، فلم يسلم! وهذا مما يبين أن عدول أهل الكتاب ومنصفيهم قد شهدوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وأنه رسول الله حقا، فلا يقدح قدح المكذبين بعد ذلك (¬4). ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 509، 510. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، 1/ 32، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، 3/ 1396، وتقدم تخريجه أيضا. (¬3) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، 1/ 33. (¬4) انظر: هداية الحيارى لابن القيم ص 525.

وقد أسلم الجم الغفير علماء النصارى، وشهدوا بأن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رسول الله إلى الناس أجمعين، {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] (¬1). فحري بجميع النصارى أن يسيروا على طريق علمائهم المنصفين، ويسلموا لله رب العالمين. فينبغي للداعية إلى الله أن لا يغفل هذا المسلك في دعوته للنصارى إلى الله تعالى (¬2). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية 82. (¬2) ممن سلك هذا المسلك من العلماء المعاصرين: فضيلة الشيخ / عبد المجيد الزنداني- وفقه الله وحفظه- فهو يستشهد على النصارى بشهادة علمائهم، فأسلم على يديه الجم الغفير- فجزاه الله خيرا.

المطلب الثالث البراهين على إثبات الرسالة المحمدية وعمومها

المطلب الثالث البراهين على إثبات الرسالة المحمدية وعمومها من أعظم الأقوال الحكيمة في دعوة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار أن تبين لهم البراهين والأدلة القطعية الدالة على صدق رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى الناس أجمعين: ولا شك أن الآيات والبينات الدالة على نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وعموم رسالته كثيرة متنوعة، وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء، وجميع الأنواع تنحصر في نوعين: (أ) منها: ما مضى وصار معلوما بالخبر الصادق كمعجزات موسى وعيسى. (ب) ومنها: ما هو باق إلى اليوم كالقرآن والعلم والإيمان اللذين في أتباعه، فإن ذلك من أعلام نبوته، وكشريعته التي أتى بها، والآيات التي يظهرها الله وقتا بعد وقت من كرامات الصالحين من أمته، وظهور دينه بالحجة والبرهان، وصفاته الموجودة في كتب الأنبياء قبله وغير ذلك (¬1) وهذا باب واسع لا أستطيع حصره، ولكن سأقتصر في إثبات نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وعموم رسالته على المسالك الآتية: المسلك الأول: معجزات القرآن العظيم. المسلك الثاني: معجزاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الحسية. المسلك الثالث: عموم رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. ¬

(¬1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/ 67 - 71.

المسلك الأول: معجزات القرآن العظيم

المسلك الأول: معجزات القرآن العظيم: المعجزة لغة: ما أعجز به الخصم عند التحدي (¬1). وهي أمر خارق للعادة يعجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الإتيان بمثله، يجعله الله على يد من يختاره لنبوته؛ ليدل على صدقه وصحة رسالته (¬2). والقرآن الكريم كلام الله المنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم هو المعجزة العظمى، الباقية على مرور الدهور والأزمان، المعجز للأولين والآخرين إلى قيام الساعة (¬3) قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات على ما مثله آمن البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (¬4). وليس المراد في هذا الحديث حصر معجزاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في القرآن، ولا أنه لم يؤت من المعجزات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كمن تقدمه، بل المراد أن القرآن المعجزة ¬

(¬1) انظر. القاموس المحيط، باب الزاي، فصل العين، ص 663. (¬2) انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني، 1/ 66، والمعجم الوسيط، مادة: عجز، 2/ 585، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، للدكتور صالح الفوزان 2/ 157. والفرق بين المعجزة والكرامة: هو أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بدعوى النبوة والتحدي للعباد. أما الكرامة: فهي أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا التحدي، ولا تكون الكرامة إلا لعبد ظاهره الصلاح، مصحوبا بصحة الاعتقاد والعمل الصالح. أما إذا ظهر الأمر الخارق على أيدي المنحرفين فهو من الأحوال الشيطانية. وإذا ظهر الأمر الخارق على يد إنسان مجهول الحال؛ فإن حاله يعرض على الكتاب والسنة كما قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: (إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة). انظر. شرح العقيدة الطحاوية، ص 510، وسير أعلام النبلاء، 10/ 23، والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية للسلمان، ص 311. (¬3) انظر: الداعي إلى الإسلام للأنباري ص 393. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي 9/ 3، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى جميع الناس 1/ 134.

العظمى التي اختص بها دون غيره؛ لأن كل نبي أعطي معجزة خاصة به، تحدى بها من أرسل إليهم، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه؛ ولهذا لما كان السحر فاشيا في قوم فرعون جاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة، لكنها تلقف ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره. ولما كان الأطباء في غاية الظهور جاء عيسى بما حير الأطباء، من: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وكل ذلك من جنس عملهم، ولكن لم تصل إليه قدرتهم. ولما كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والخطابة جعل الله - سبحانه- معجزة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم القرآن الكريم الذي (¬1) {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] (¬2). ولكن معجزة القرآن الكريم تتميز عن سائر المعجزات؛ لأنه حجة مستمرة، باقية على مر العصور، والبراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم، ولم يبق منها إلا الخبر عنها، أما القرآن فلا يزال حجة قائمة كأنما يسمعها السامع من فم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ولاستمرار هذه الحجة البالغة قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (¬3). والقرآن الكريم آية بينة، معجزة من وجوه متعددة، من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، والبلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها، ومعانيه التي أخبر بها عن الله- تعالى- وأسمائه وصفاته وملائكته، وغير ذلك من الوجوه الكثيرة التي ذكر كل عالم ما فتح الله عليه ¬

(¬1) انظر: فتح الباري 9/ 6، 7، وشرح النووي على مسلم 2/ 188، وأعلام النبوة للماوردي ص 53، وإظهار الحق 2/ 101. (¬2) سورة فصلت، الآية 42. (¬3) انظر: البداية والنهاية 6/ 69، وتقدم تخريج الحديث.

به منها (¬1) وسأقتصر على أربعة وجوه من باب المثال، لا الحصر بإيجاز كالتالي: الوجه الأول: الإعجاز البياني والبلاغي: من الإعجاز القرآني ما اشتمل عليه من البلاغة والبيان، والتركيب المعجز، الذي تحدى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] (¬2) وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ - فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33 - 34] (¬3). وبعد هذا التحدي انقطعوا فلم يتقدم أحد، فمد لهم في الحبل وتحداهم بعشر سور مثله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38] (¬4) فعجزوا فأرخى لهم في الحبل، فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13] (¬5) ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة، فقال تعالى: ¬

(¬1) انظر: الجواب الصحيح 4/ 74، 75، وأعلام النبوة للماوردي ص 53 - 70، والبداية والنهاية 6/ 54، 65، والبرهان في علوم القرآن للزركشي 2/ 90 - 124، ومناهل العرفان للزرقاني 2/ 227 - 308. (¬2) سورة الإسراء، الآية 88. (¬3) سورة الطور، الآيتان 33، 34. (¬4) سورة يونس، الآية 38. (¬5) سورة هود، الآية 13.

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24] (¬1). فقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] أي: فإن لم تفعلوا في الماضي، ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل، فثبت التحدي، وأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بسورة من مثله فيما يستقبل من الزمان، كما أخبر قبل ذلك، وأمر النبي وهو بمكة أن يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] (¬2). فعم بأمره له أن يخبر جميع الخلق معجزا لهم، قاطعا بأنهم إذا اجتمعوا لا يأتون بمثل هذا القرآن، ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك، وهذا التحدي لجميع الخلق، وقد سمعه كل من سمع القرآن، وعرفه الخاص والعام، وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوه، ولا أتوا بسورة مثله من حين بعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى اليوم والأمر على ذلك (¬3). والقرآن يشتمل على آلاف المعجزات؛ لأنه مائة وأربع عشرة سورة، وقد وقع التحدي بسورة واحدة، وأقصر سورة في القرآن سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات قصار، والقرآن يزيد بالاتفاق على ستة آلاف ومائتي آية، ومقدار سورة الكوثر من آيات أو آية طويلة على ترتيب كلماتها له حكم السورة الواحدة، ويقع بذلك التحدي والإعجاز (¬4)؛ ولهذا كان القرآن ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان 23، 24. (¬2) سورة الإسراء، الآية 88. (¬3) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/ 71 - 77، والبداية والنهاية 6/ 65. (¬4) انظر: استخراج الجدال من القرآن الكريم لابن نجم ص 100، وفتح الباري 6/ 582، ومناهل العرفان للزرقاني 1/ 336، 1/ 231، 232.

الكريم يغني عن جميع المعجزات الحسية والمعنوية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. الوجه الثاني: الإخبار عن الغيوب: من وجوه الإعجاز القرآني أنه اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التي لا علم لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بها، ولا سبيل لبشر مثله أن يعلمها، وهذا مما يدل على أن القرآن كلام الله -تعالى- الذي لا تخفى عليه خافية: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] (¬1). والإخبار بالغيوب أنواع: النوع الأول: غيوب الماضي: وتتمثل في القصص الرائعة وجميع ما أخبر الله به عن ماضي الأزمان. النوع الثاني: غيوب الحاضر: أخبر الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بغيوب حاضرة، ككشف أسرار المنافقين، والأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين، أو غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، وأطلع عليه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. النوع الثالث: غيوب المستقبل، أخبر الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بأمور لم تقع، ثم وقعت كما أخبر، فدل ذلك على أن القرآن كلام الله، وأن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رسول الله (¬2). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية 59. (¬2) انظر: الداعي إلى الإسلام للأنباري ص 424 - 428، وإظهار الحق 65 - 107، ومناهل العرفان 2/ 263، ومعالم الدعوة للديلمي 1/ 463. وقد أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بأمور غيبية كثيرة جدا. انظر: جامع الأصول لابن الأثير 11/ 311 - 331.

الوجه الثالث: الإعجاز التشريعي: القرآن العظيم جاء بهدايات كاملة تامة، تفي بحاجات جميع البشر في كل زمان ومكان؛ لأن الذي أنزله هو العليم بكل شيء، خالق البشرية والخبير بما يصلحها ويفسدها، وما ينفعها ويضرها، فإذا شرع أمرا جاء في أعلى درجات الحكمة والخبرة {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] (¬1). ويزداد الوضوح عند التأمل في أحوال الأنظمة والقوانين البشرية التي يظهر عجزها عن معالجة المشكلات البشرية ومسايرة الأوضاع والأزمنة والأحوال، مما يضطر أصحابها إلى الاستمرار في التعديل والزيادة والنقص، فيلغون غدا ما وضعوه اليوم؛ لأن الإنسان محل النقص والخطأ، والجهل لأعماق النفس البشرية، والجهل بما يحدث غدا في أوضاع الإنسان وأحواله، وفيما يصلح البشرية في كل عصر ومصر. وهذا دليل حسي مشاهد على عجز جميع البشر عن الإتيان بأنظمة تصلح الخلق وتقوم أخلاقهم، وعلى أن القرآن كلام الله سليم من كل عيب، كفيل برعاية مصالح العباد، وهدايتهم إلى كل ما يصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة إذا تمسكوا به واهتدوا بهديه (¬2) قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9] (¬3). وبالجملة فإن الشريعة التي جاء بها كتاب الله- تعالى- مدارها على ¬

(¬1) سورة الملك، الآية 14. (¬2) انظر مناهل العرفان للزرقاني 2/ 247، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع الإسلامي، من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص 117، ومعالم الدعوة للديلمي 1/ 426. (¬3) سورة الإسراء، الآية 9.

ثلاث مصالح: المصلحة الأولى: درء المفاسد عن ستة أشياء (¬1) حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والعرض، والمال. المصلحة الثانية: جلب المصالح (¬2) فقد فتح القرآن الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، وسد كل ذريعة تؤدي إلى الضرر. المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. فالقرآن الكريم حل جميع المشاكل العالمية التي عجز عنها البشر، ولم يترك جانبا من الجوانب التي يحتاجها البشر في الدنيا والآخرة إلا وضع لها القواعد، وهدى إليها بأقوم الطرق وأعدلها (¬3). الوجه الرابع: الإعجاز العلمي الحديث: يتصل بما ذكر من إعجاز القرآن في إخباره عن الأمور الغيبية المستقبلة نوع جديد كشف عنه العلم في العصر الحديث، مصداقا لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] (¬4). لقد تحقق هذا الوعد من ربنا في الأزمنة المتأخرة، فرأى الناس آيات الله في آفاق المخلوقات بأدق الأجهزة والوسائل: كالطائرات، والغواصات، وغير ذلك من أدق الأجهزة الحديثة التي لم يمتلكها الإنسان إلا في العصر الحديث. . فمن أخبر محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بهذه الأمور الغيبية قبل ألف وأربعمائة ¬

(¬1) درء المفاسد هو المعروف عند أهل الأصول بالضروريات. انظر. أضواء البيان 3/ 448. (¬2) جلب المصالح يعرف عند أهل الأصول بالحاجيات. انظر. أضواء البيان 3/ 448. (¬3) انظر: أضواء البيان 3/ 409 - 457، فقد أوضح هذا الجانب بالأدلة العقلية والنقلية، جزاه الله خيرا وغفر له. (¬4) سورة فصلت، الآية 53.

المسلك الثاني معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية

وعشرة أعوام؟ إن هذا يدل على أن القرآن كلام الله، وأن محمدا رسول الله حقا. وقد اكتشف هذا الإعجاز العلمي: في الأرض وفي السماء، وفي البحار والقفار، وفي الإنسان والحيوان، والنبات، والأشجار، والحشرات، وغير ذلك، ولا يتسع المقام لذكر الأمثلة العديدة على ذلك (¬1). المسلك الثاني: معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الحسية: معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الحسية الخارقة للعادة كثيرة جدا (¬2) لا أستطيع حصرها، وسأقتصر بإيجاز على ذكر تسعة أنواع منها على سبيل المثال، كالآتي: النوع الأولى: المعجزات العلوية، ومنها: 1 - انشقاق القمر: وهذه من أمهات معجزاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الدالة على صدقه، فقد سأل أهل مكة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا جبل حراء بينهما (¬3) قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ - وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1 - 2] الآيات (¬4). . ¬

(¬1) انظر أمثلة كثيرة في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم في مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/ 278 - 284، وكتاب الإيمان، لعبد المجيد الزنداني ص 55 - 59، وكتاب التوحيد للزنداني أيضا 1/ 74 - 77. (¬2) قال ابن تيمية -رحمه الله-: " قد جمعت نحو ألف معجزة ". انظر. الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية ص 158. ومعجزاته- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - تزيد على ألف ومائتين، وقيل: ثلاثة آلاف معجزة. انظر: فتح الباري 6/ 583. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب انشقاق القمر 7/ 182، 6/ 631، 8/ 617، ومسلم، صفات المنافقين، باب انشقاق القمر، 4/ 2159. (¬4) سورة القمر، الآيتان 1 - 2.

2 - صعوده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ليلة الإسراء والمعراج إلى ما فوق السماوات: وهذا ما أخبر به القرآن الكريم، وتواترت به الأحاديث، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] (¬1). وهذه الآية من أعظم معجزاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فإنه أسري به إلى بيت المقدس، وقطع المسافة في زمن قصير، ثم عرج به إلى السموات، ثم صعد إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام، ورأى الجنة، وفرضت عليه الصلوات، ورجع إلى مكة قبل أن يصبح، فكذبته قريش، وطلبوا منه علامات تدل على صدقه، ومن ذلك علامات بيت المقدس؛ لعلمهم بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لم ير بيت المقدس قبل ذلك، فجلى الله له بيت المقدس ينظر إليه ويخبرهم بعلاماته وما سألوا عنه (¬2). وغير ذلك من الآيات العلوية، كحراسة السماء بالشهب عند بعثته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. النوع الثاني: آيات الجو: 1 - من هذه المعجزات طاعة السحاب له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، بإذن الله -تعالى- في حصوله ونزول المطر وذهابه بدعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (¬3). 2 - ومن هذا النوع نصر الله للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بالريح التي قال تعالى عنها: ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية 1. (¬2) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب حديث الإسراء 7/ 196، ومسلم، كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال 1/ 156. (¬3) انظر. البخاري مع الفتح، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة 2/ 413، ومسلم، كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء 2/ 614.

{إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] (¬1) وهذه الريح هي ريح الصبا، أرسلها على الأحزاب، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» (¬2) وغير ذلك. النوع الثالث: تصرفه في الحيوان: الإنس, والجن والبهائم: وهذا باب واسع، منه على سبيل المثال: (أ) تصرفه في الإنس: 1 - كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- يشتكي عينيه من وجع بهما، فبصق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فيهما، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع (¬3). 2 - انكسرت ساق عبد الله بن عتيك - رضي الله عنه- فمسحها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فكأنها لم تنكسر قط (¬4). 3 - أصيب سلمة بن الأكوع بضربة في ساقه يوم خيبر، فنفث فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ثلاث نفثات، فما اشتكاها سلمة بعد ذلك (¬5). (ب) تصرفه في الجن والشياطين: 1 - كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يخرج الجن من الإنس بمجرد المخاطبة. فيقول: " اخرج عدو الله، أنا رسول الله " (¬6). 2 - أخرج الشيطان من صدر عثمان بن أبي العاص، فضرب صدر ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية 9. (¬2) مسلم، كتاب الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم والفرح بالمطر 1/ 616. (¬3) انظر: البخاري، كتاب الجهاد، باب فضل من أسلم على يديه رجل 6/ 144، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي -رضي الله عنه- 4/ 1872. (¬4) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع 7/ 340. (¬5) انظر: المرجع السابق، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 7/ 475. (¬6) مسند أحمد 4/ 170 - 172، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 6: رجال أحمد رجال الصحيح.

عثمان بيده ثلاث مرات وتفل في فمه وقال: " اخرج عدو الله " فعل ذلك ثلاث مرات، فلم يخالط عثمان الشيطان بعد ذلك (¬1). (جـ) تصرفه في البهائم: وقد حصل له مرارا، ومن ذلك أنه «جاء بعير، فسجد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال أصحابه: يا رسول الله! تسجد لك البهائم والشجر، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " اعبدوا ربكم, وأكرموا أخاكم, ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها». . . " (¬2). النوع الرابع: تأثيره في الأشجار والثمار والخشب: (أ) تأثيره في الأشجار: 1 - «جاء أعرابي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو في سفر. فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى الإسلام، فقال الأعرابي: ومن يشهد لك على ما تقول؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " هذه السلمة " (¬3) فدعاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد (¬4) الأرض خدا حتى قامت بين يديه، فأشهدها ثلاثا، فشهدت ثلاثا أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها» (¬5). 2 - «أراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يقضي حاجته وهو في سفر، فلم يجد ما يستتر ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الطب، باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه، بسند حسن 2/ 1174، وانظر: صحيح ابن ماجه 2/ 273. (¬2) مسند أحمد 6/ 76، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 9/ 9: إسناده جيد، وانظر: معجزات من هذا النوع مسند الإمام أحمد 4/ 170 - 172، ومجمع الزوائد للهيثمي 9/ 3 - 12. (¬3) شجرة من شجر البادية، انظر: المصباح المنير، مادة " سلم "، 1/ 286، ومختار الصحاح، مادة " سلم "، ص 131. (¬4) أي: تشقها أخدودا. وانظر: المصباح المنير، مادة " خد "، 1/ 165، ومختار الصحاح مادة " خد " ص 72. (¬5) الدارمي، في المقدمة، باب ما أكرم الله نبيه من إيمان الشجر به والبهائم والجن 1/ 17، وإسناده صحيح، وانظر. مشكاة المصابيح برقم 5925، 3/ 1666.

به، فأخذ بغصن شجرة وقال: " انقادي علي بإذن الله "، فانقادت معه كالبعير المخشوم (¬1) حتى أتى الشجرة الأخرى ففعل، وقال كذلك، ثم أمرهما أن تلتئما عليه فالتأمتا، ثم بعد قضاء الحاجة رجعت كل شجرة، وقامت كل واحدة منهما على ساق». . (¬2). (ب) تأثيره في الثمار: «جاء أعرابي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: بم أعرف أنك نبي؟ قال. " إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أن رسول الله؟ " فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ثم قال: " ارجع "، فعاد، فأسلم الأعرابي» (¬3). (ج) تأثيره في الخشب: «كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يخطب في المدينة يوم الجمعة على جذع نخل، فلما صنع له المنبر ورقى عليه صاح الجذع صياح الصبي، [وخار كما تخور البقرة، جزعا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فالتزمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وضمه إليه وهو يئن، ومسحه حتى سكن» (¬4). ¬

(¬1) الذي جعل في أنفه عودا، ويشد فيه حبل ليذل وينقاد إذا كان صعبا. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 18/ 146. (¬2) انظر: صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر 4/ 2306. (¬3) الترمذي، كتاب المناقب، باب حدثنا عباد، 5/ 594، وأحمد 1/ 123، والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي 2/ 620. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 6/ 602، وما بين المعقوفين عند أحمد في المسند، 2/ 109.

النوع الخامس: تأثيره في الجبال والأحجار وتسخيرها له: (أ) تأثيره في الجبال: «صعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أحدا، ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فضربه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم برجله، وقال: " اثبت أحد، فإن عليك نبي، وصديق، وشهيدان» (¬1). (ب) تأثيره في الحجارة: وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن» (¬2). (جـ) تأثيره في تراب الأرض: «عندما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في معركة حنين، واشتد القتال، نزل عن بغلته، وقبض قبضة من تراب الأرض، واستقبل به وجوه القوم، فقال: " شاهت الوجوه "، فما خلق الله إنسانا منهم إلا ملأ عينيه من تلك القبضة، فهزمهم الله وقسم غنائمهم بين المسلمين» (¬3). النوع السادس: تفجير الماء، وزيادة الطعام والشراب والثمار: (أ) نبع الماء وزيادة الشراب: هذا النوع حصل لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مرات كثيرة جدا (¬4) ومن ذلك: ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: لو كنت متخذا خليلا 7/ 22، 40، 7/ 53. (¬2) مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة 4/ 1782. (¬3) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين 3/ 1402 وحصل له مثل ذلك في معركة بدر. (¬4) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6/ 580، من حديث 3571 - 3577، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، 1/ 471 - 477، وجامع الأصول لابن الأثير 11/ 334 - 351.

1 - «عطش الناس في الحديبية، فوضع يده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كالعيون، فشربوا، وتوضئوا، قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة» (¬1). 2 - «قدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم تبوك، فوجد عينها كشراك النعل، فغرف له منها قليلا قليلا، حتى اجتمع له شيء قليل، فغسل فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر، وبقيت العين إلى الآن» (¬2). 3 - قصة أبي هريرة -رضي الله عنه- وقدح اللبن، وزيادة لبن القدح حتى شرب منه أضياف الإسلام (¬3). (ب) زيادة الطعام وتكثيره لما جعل الله فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم من البركة: 1 - «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في ألف وأربعمائة من أصحابه في غزوة، فأصابهم مشقة، فأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يجمعوا ما معهم من طعام وبسطوا سفرة، وكان الطعام شيئا يسيرا فبارك فيه، وأكلوا، وحشوا أوعيتهم من ذلك الطعام» (¬4). 2 - «بقي الصحابة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في غزوة الخندق ثلاثة أيام، لا يذوقون طعاما، فذبح جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- عناقا، وطحنت زوجته صاعا من شعير، ثم دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فصاح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بأهل الخندق يدعوهم على هذا الطعام اليسير، ثم جاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وبصق في العجين وبارك، وبصق في البرمة وبارك، قال جابر -رضي الله عنهما-: وهم ألف، ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة 6/ 581، 7/ 441، 443، 10/ 101، ومسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال 3/ 1484. (¬2) انظر صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باس معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم 4/ 1784. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا 11/ 281. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب حمل الزاد في الغزو 6/ 129، ومسلم، اللقطة، باب استحباب خلط الأزواد إذا قلت 3/ 1354.

فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي (¬1) وإن عجيننا ليخبز كما هو (¬2).» وهذا باب واسع لا يمكن حصره. (جـ) زيادة الثمار والحبوب: 1 - «جاء رجل يستطعم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وأهله حتى كاله، فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: " لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم» (¬3). 2 - «كان على والد جابر دين، وما في نخله لا يقضي ما عليه سنين، فجاء جابر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ليحضر الكيل، فحضر، ومشى حول الجرن، ثم أمر جابرا أن يكيل، فكال لهم حتى أوفاهم، قال جابر -رضي الله عنه-: " وبقي تمري، وكأنه لم ينقص منه شيء» (¬4). النوع السابع: تأييد الله له بالملائكة: أيد الله رسوله بالملائكة في عدة مواضع، نصرة له ولدينه، منها على سبيل المثال: 1 - في الهجرة، قال المولى- جل وعلا-:. . . . . {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40] (¬5). ¬

(¬1) أي تغلي ويسمع غليانها. انظر. الفتح 7/ 399. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، 7/ 395، 396، ومسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباع غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، 3/ 1610. (¬3) مسلم، كتاب الفضائل، باب معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم 4/ 1784. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة 6/ 587، 7/ 357، وانظر شرح روايات الحديث في الفتح 6/ 593. (¬5) سورة التوبة، الآية 40.

2 - في بدر، قال الله -تعالى-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] (¬1). 3 - في أحد، قاتل جبريل وميكائيل -عليهما السلام- عن يمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وعن يساره (¬2). 4 - في الخندق، قال الله -عز وجل-: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] (¬3). 5 - في غزوة بني قريظة: «جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بعد أن وضع السلاح من غزوة الخندق واغتسل، فقال له جبريل: قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه فاخرج إليهم، فسأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " إلى أين؟ " فأشار إلى بني قريظة، فخرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ونصره الله عليهم» (¬4). 6 - في حنين، قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26] (¬5). النوع الثامن: كفاية الله له أعداءه وعصمته من الناس: هذا النوع من أعظم الآيات الدالة على صدق رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ومن ذلك: 1 - كفاه الله -تعالى- المشركين والمستهزئين، فلم يصلوا إليه بسوء، قال ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية 9. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب: " إذ همت طائفتان. . " 7/ 358، ومسلم في كتاب الفضائل، باب قتال جبريل وميكائيل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم أحد 4/ 1802. (¬3) سورة الأحزاب، الآية 9. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم من الأحزاب 7/ 407، ومسلم، كتاب الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد 3/ 1389. (¬5) سورة التوبة، الآية 26.

تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94 - 95] (¬1). 2 - كفاه الله أهل الكتاب، قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] (¬2). 3 - وعصمه تعالى من جميع الناس بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] (¬3). وهذا خبر عام بأن الله يعصمه من جميع الناس، فكل من هذه الأخبار الثلاثة قد وقع كما أخبر الله- تعالى- فقد كفاه الله أعداءه بأنواع عجيبة خارجة عن العادة المعروفة، ونصره مع كثرة أعدائه وقوتهم وغلبتهم، وانتقم ممن عاداه. ومن ذلك «أن رجلا نصرانيا أسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ثم ارتد وعاد نصرانيا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فدفنه قومه، فأصبح وقد أخرجته الأرض من بطنها، فأعادوا دفنه، وأعمقوا قبره، فأصبح وقد أخرجته الأرض منبوذا على ظهرها، فأعادوا دفنه وأعمقوا له، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أن هذا ليس من الناس فتركوه منبوذا» (¬4). ¬

(¬1) سورة الحجر، الآيتان 94، 95. (¬2) سورة البقرة، الآية 137. (¬3) سورة المائدة، الآية 67. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة 6/ 624، ومسلم، صفات المنافقين 4/ 2145، برقم 2781.

النوع التاسع: إجابة دعواته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: الأدعية التي دعا بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وشوهدت إجابتها كالشمس في رابعة النهار كثيرة جدا، لا تحصر، ولا يتسع المقام لذكر أكثرها، ولكن منها على سبيل المثال: 1 - قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لأنس -رضي الله عنه-: «اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته " (¬1) [وأطل حياته واغفر له]» (¬2) قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم (¬3) [وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة] (¬4). وكان له -رضي الله عنه- بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجئ منها ريح المسك (¬5). 2 - «ودعا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لأم أبي هريرة بالهداية فهداها الله فورا، وأسلمت» (¬6). 3 - وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لعروة بن أبي الجعد البارقي: «اللهم بارك له في صفقة يمينه»، فكان يقف في الكوفة ويربح أربعين ألفا قبل أن يرجع إلى أهله (¬7) [وكان لو اشترى التراب لربح فيه] (¬8). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الصيام، باب من زار قوما فلم يفطر عندهم 4/ 228، و 11/ 144، ومسلم، في فضائل الصحابة، باب فضائل أنس 4/ 1928. (¬2) البخاري في الأدب المفرد، برقم 653، وانظر. فتح الباري 11/ 145، وسير أعلام النبلاء 2/ 219. (¬3) مسلم، فضائل الصحابة، باب فضائل أنس 4/ 1929. (¬4) البخاري مع الفتح، باب من زار قوما فلم يفطر عندهم 4/ 228. (¬5) الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أنس 5/ 683، وانظر: صحيح الترمذي 3/ 234. (¬6) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي هريرة 4/ 1938. (¬7) أحمد في المسند 4/ 376. (¬8) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب حدثنا محمد بن المثنى 6/ 632.

المسلك الثالث عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

4 - ودعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم على بعض أعدائه، فلم تتخلف الإجابة، كأبي جهل، وأمته، وعقبة، وعتبة. . (¬1). 5 - ودعاؤه يوم بدر، ويوم حنين، وعلى سراقة بن مالك -رضي الله عنه- وغيره كثير (¬2). والحقيقة أن العاقل المنصف يقف أمام هذه الدلائل والبينات مذعورا، ولا يسعه إلا أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. المسلك الثالث: عموم رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إن أصل الأصول هو تحقيق الإيمان بما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأنه رسول الله إلى جميع الخلق: إنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، كتابيهم ومجوسيهم، رئيسهم ومرءوسهم، وأنه لا طريق إلى الله -عز وجل- لأحد من الخلق إلا بمتابعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم باطنا وظاهرا، حتى لو أدركه موسى وعيسى، وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لوجب عليهم اتباعه، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ - فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81 - 82] (¬3). قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: " ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح 1/ 349، ومسلم 3/ 1418، وتقدم تخريجه ص 149. (¬2) انظر: دعاءه يوم بدر في صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، 3/ 1384، ويوم حنين في مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، 3/ 1402، وقصة سراقة في البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه إلى المدينة، 7/ 238، وانظر: ص 175 و 179. (¬3) سورة آل عمران، الآيتان 81، 82.

الميثاق: لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه " (¬1). ولهذا جاء في الحديث: «لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني» (¬2). ومن خالف عموم رسالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لا يخلو من أحد أمرين: 1 - إما أن يكون المخالف مؤمنا بأنه مرسل من عند الله؛ ولكنه يقول: رسالته خاصة بالعرب. 2 - وإما أن يكون المخالف منكرا للرسالة جملة وتفصيلا. فأما المعترف له بالرسالة ولكنه يجعلها خاصة بالعرب، فإنه يلزمه أن يصدقه في كل ما جاء به عن الله تعالى ومن ذلك عموم رسالته، ونسخها للشرائع قبلها، فقد بين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه رسول الله إلى الناس أجمعين، وأرسل رسله، وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى، وقيصر، والنجاشي، وسائر ملوك الأرض، يدعوهم إلى الإسلام، ثم قاتل من لم يدخل في الإسلام من المشركين، وقاتل أهل الكتاب، وسبى ذراريهم، وضرب الجزية عليهم، وذلك كله بعد امتناعهم عن الدخول في الإسلام، أما كونه يؤمن برسول ولا يصدقه في جميع ما جاء به، فهذا تناقض ومكابرة. ¬

(¬1) انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية ص 77، 191 - 200، وفتاوى ابن تيمية 19/ 9 - 65، بعنوان: إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/ 31 - 176، وتفسير ابن كثير 1/ 378، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 2/ 334، ومعالم الدعوة للديلمي 1/ 454 - 456، والمناظرة بين الإسلام والنصرانية ص 303 - 309. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/ 338، وله شواهد وطرق كثيرة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 173 - 174، وانظر: مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني، 1/ 63، 68.

وأما المنكر لرسالة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مطلقا، فقد قام البرهان القاطع على صدق صاحب الرسالة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ولا تزال معجزات القرآن تتحدى الإنس والجن، فإما أن يأتي بما يناقض المعجزة القائمة، وإلا لزمه الاعتراف بمدلولها، فإن اعترف بالرسالة لزمه التصديق بكل ما أخبر به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وإن ذهب يكابر ويعاند ليأتي بقرآن مثل ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وقع في العجز، وفضح نفسه لا محالة؛ لأن أصحاب الفصاحة والبلاغة قد عجزوا عن ذلك، ولا شك أن غيرهم أعجز عن هذا؛ لأن القرآن معجزة قائمة مستمرة خالدة (¬1). وحينئذ يلزم جميع الخلق العمل بما فيه والتحاكم إليه. وقد صرح القرآن الكريم بأن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رسول إلى جميع الناس، وخاتم النبيين، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] (¬2) وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] (¬3) {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] (¬4). وهذا تصريح بعموم رسالته لكل من بلغه القرآن. ¬

(¬1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/ 144، 166، ومناهج الجدل في القرآن الكريم ص 303، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للدكتور / صالح بن فوزان 2/ 182. (¬2) سورة الأعراف، الآية 158. (¬3) سورة الفرقان، الآية 1. (¬4) سورة الأنعام، الآية 19.

وصرح تعالى بشمول رسالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لأهل الكتاب، فقال: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20] (¬1) {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] (¬2) {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (¬3). {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] (¬4). وبلغ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الناس جميعا أنه خاتم الأنبياء، وأن رسالته عامة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أعطيت خمس لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي "، وذكر منها: " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة». . . الحديث (¬5). وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذا اللبنة؟ " قال: " فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» (¬6). وعموم رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لجميع الإنس والجن في كل زمان ومكان من بعثته إلى يوم القيامة، وكونها خاتمة الرسالات، يقضي ويدل دلالة قاطعة على أن النبوة قد انقطعت بانقطاع الوحي بعده، وأنه لا مصدر للتشريع والتعبد ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية 20. (¬2) سورة الأحزاب، الآية 40. (¬3) سورة الأنبياء، الآية 107. (¬4) سورة سبأ، الآية 28. (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا 1/ 533، ومسلم، كتاب المساجد، 1/ 370، برقم 521. (¬6) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين 6/ 558، ومسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين 4/ 1790.

إلا كتاب الله- تعالى- وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهذا يقتضي وجوب الإيمان بعموم رسالته، واتباع ما جاء به، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» (¬1). وبعون الله - تعالى- ثم بهذه المسالك الثلاثة الآنفة الذكر- تقوم الحجة، وتثبت رسالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وعمومها وشمولها لجميع الثقلين: الإنس والجن، في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104] (¬2) {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] الآية (¬3). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته 1/ 134. (¬2) سورة الأنعام، الآية 104. (¬3) سورة الكهف، الآية 29.

المبحث الرابع حكمة القول مع المسلمين

المبحث الرابع حكمة القول مع المسلمين توطئة. المطلب الأول: الموعظة الحسنة وأنواعها. المطلب الثاني: الترغيب والترهيب. المطلب الثالث: حكمة القول التصويرية.

توطئة

توطئة إن من حكمة القول في الدعوة إلى الله - تعالى- أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، وأحوالهم، وعقائدهم، وأوضاعهم، وليس من الحكمة أن يخاطب المسلم - في توجيهه وإرشاده وحثه على الالتزام والتمسك بدينه- كما يخاطب الملحد، أو الوثني، أو اليهودي، أو النصراني، أو غيرهم من الكفار. ولا شك أن المسلمين ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول من المسلمين: وهم الذين ينقادون للحق ولا يعاندون، فهؤلاء يكفي في دعوتهم بالقول الحكيم أن يبين لهم الحق علما وعملا واعتقادا، وحينئذ ينقادون لذلك- بإذن الله تعالى-. أما القسم الثاني من المسلمين: وهم الذين عندهم غفلة وشهوات وأهواء، وهم عصاة المسلمين، فهذا القسم تكون دعوتهم بالحكمة القولية حسب المطالب التالية: المطلب الأول: الموعظة الحسنة وأنواعها. المطلب الثاني: الترغيب والترهيب. المطلب الثالث: حكمة القول التصويرية.

المطلب الأول الموعظة الحسنة وأنواعها

المطلب الأول الموعظة الحسنة وأنواعها والموعظة: هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والقول الحق الذي يلين القلوب، ويؤثر في النفوس، ويكبح جماح النفوس المتمردة، ويزيد النفوس المهذبة إيمانا وهداية (¬1) قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] (¬2) وقال سبحانه: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17] (¬3). والداعية إلى الله -تعالى- ينبغي أن يكون وعظه للناس بالقول الحكيم على نوعين: تعليم، وتأديب. النوع الأول: وعظ التعليم: وهذا النوع يكون ببيان عقائد التوحيد، وبيان الأحكام الشرعية الخمسة: من الواجب، والحرام، والمسنون، والمكروه، والمباح، ويراعي في ذلك كله ما يناسب كل طبقة، والحث على التمسك بها، والتحذير من التهاون فيها. ومن تدبر أسلوب القرآن علم أن الأحكام ينبغي أن تساق إلى الناس مساق الوعظ الذي يلين القلوب، ويبعثها على العمل، ولا تسرد سردا خالية من وسائل التأثير، ومما يوضح ذلك قوله تعالى: ¬

(¬1) انظر. فتاوى ابن تيمية 19/ 164، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 1/ 195، والتفسير القيم لابن القيم ص344، وهداية المرشدين لعلي محفوظ ص71. (¬2) سورة النساء، الآية 66. (¬3) سورة النور، الآية 17.

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ - نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 222 - 223] (¬1). . فالأمر بتقوى الله بعد النهي عن إتيان النساء في المحيض، والأمر بإتيانهن في موضع الحرث، والأمر بالتقديم لأنفسنا تحذيرا من مخالفة هذا الهدي الإلهي، وقوله: واعلموا أنكم ملاقوه إنذار للذين يخالفون عن أمره بأنهم يلاقون جزاء مخالفتهم في الآخرة، ويحاسبون على أعمالهم. وقوله تعالى: وبشر المؤمنين تبشير للطائعين الذين يقفون عند الحدود، ويتبعون هدى الله- تعالى-، والمبشر به عام يشمل منافع الدنيا، ونعيم الآخرة، وحصول كل خير، واندفاع كل شر -رتب على الإيمان- داخل في هذه الآية. ومما يزيد ذلك وضوحا وبيانا أن الله -عز وجل- بعد أن ذكر أحكام الفرائض وتقسيم التركات ختم ذلك بقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (¬2). وهذان مثالان يبينان أن الداعية إلى الله إذا سلك في هذا النوع طريقة القرآن الكريم فإنه سيجتذب الأسماع، ويأخذ بمجامع القلوب ويلينها، وحينئذ تستقبل العقائد والأحكام بإذن الله- عز وجل- للعمل والتطبيق برغبة واشتياق (¬3). . ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان222، 223. (¬2) سورة النساء، الآيتان13، 14. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 266، 462، وتفسير السعدي 1/ 278، 2/ 35، وهداية المرشدين لعلي محفوظ ص 143.

النوع الثاني: وعظ التأديب: وهذا يكون بتحديد الأخلاق الحسنة: كالحلم والأناة، والشجاعة، والوفاء، والصبر،. والكرم. . .، وبيان آثارها ومنافعها في المجتمع، والحث على التخلق بها والتزامها، وتعريف وتحديد الأخلاق السيئة. كالغضب، والعجلة، والغدر، والجزع، والجبن، والبخل. . . والتحذير عن الاتصاف بها من طريقي: الترغيب والترهيب. وينبغي للداعية إلى الله أن يستشهد في كل من النوعين بما جاء فيه من الكتاب والسنة الثابتة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وآثار الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وأحوالهم في ذلك، فإن لهذا شأنا عظيما يوصل إلى الغاية المقصودة متى صدر من قلب سليم نقي متخلق بما يدعو إليه؛ لأن الموعظة في الغالب إذا صدرت من القلب وقعت في القلب، وإن خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان. وإذا أراد الداعية أن تكون موعظته مؤثرة بليغة، فإن عليه الآتي: 1 - ينظر إلى المنكرات المنتشرة، ولا سيما ما كان منها قريب العهد، وحديثه على ألسنة الناس. 2 - ثم يقدم من هذه المنكرات أكبرها ضررا، وأسوأها أثرا، فيجعلها محور خطابته، وموضع موعظته. 3 - ثم يفكر فيما ينشأ عن هذا المنكر من الأضرار الخلقية، والاجتماعية، والصحية، والمالية. 4 - ثم يستحضر ما جاء في ذلك من الآيات، والأحاديث الصحيحة، أو الحسنة، وأقوال الصحابة، والأبيات الشعرية الحكيمة. 5 - ثم يأخذ في كتابة الموضوع إن شاء كتابته، ويضمنه ما فيه من تلك المضار، وما ورد فيه عن الشارع، محذرا من الوقوع فيه، حاثا على التوبة منه.

أما إذا أراد الحث على العمل الصالح النافع، فيتبع ما يلي: 1 - يفكر في مزاياه وآثاره الحسنة تفكيرا عميقا. 2 - يستحضر ما يناسبه من الكتاب وصحيح السنة وآثار الصحابة. 3 - ثم يسلك في الكتابة المسلك السابق. فإذا كتب الموضوع، فإن شاء حفظه وألقاه، وإن شاء ذكر مضمونه، وذكر المضمون أحسن الأمرين، حتى لا يكون مقيدا بعبارة خاصة، ويتخير من العبارات ما تؤدي إلى المعاني التي حصل عليها ببحثه وتفكيره. وإن شاء عدم الكتابة واكتفى برسم الموضوع في مخيلته وتسطيره في ذاكرته التي قواها بالمران والتجارب والممارسة كان ذلك أحسن وأكمل، وبتوفيق الله- عز وجل-، ثم بإعداد الموضوع واستحضاره بأدلته تماما، وتقسيمه بحسب نقطه إلى أقسام، يكون الداعية في مأمن من الزلل بإذن الله تعالى. وبعد ذلك ينبغي أن يراعي في حال التأدية والإلقاء استعداد السامعين، فينزل في العبارة مع العامة على قدر عقولهم متجنبا الألفاظ البعيدة عن أفهامهم، ويتوسط مع أوساط الناس، ويتأنق مع الخاصة، فيكون مع جميع الطبقات حكيما يضع الأشياء في مواضعها، وبكل حال عليه أن يختار المعاني النفيسة، وتنسيقها، وشرحها بالدقة، وإبلاغها أذهان السامعين، وإنفاذها في قلوبهم، ودفع السآمة والملل عنهم، بإيراد الشواهد عليه من الحكم النثرية والشعرية، والفكاهات الأدبية، بشرط التزام ظلال الكتاب والسنة، وبذلك يكون الداعية موفقا مؤثرا بإذن الله -تعالى-، إذا قصد إبلاغ الناس بإخلاص وصدق ورغبة فيما عند الله- تعالى- (¬1). ¬

(¬1) انظر: هداية المرشدين ص 145، 192.

المطلب الثاني الترغيب والترهيب

المطلب الثاني الترغيب والترهيب من حكمة القول في أسلوب الدعوة إلى الله- تعالى- مع عصاة المسلمين وغيرهم أن يسلك الداعية في دعوته إلى الله مسلكي: الترغيب والترهيب؛ لأنه أسلوب له تأثيره في نفوس كثير من البشر؛ فإن الإنسان خبل على حب الخير، والرغبة في الحصول على كل محبوب، كما طبع على بغض الشر، وما يصيبه من بلاء في النفس، أو المال، أو الأهل، وحينئذ فغريزة حب الإنسان لنفسه تدفعه إلى أن يحقق لها كل خير، ويحميها من كل شر، سواء كان ذلك عاجلا أو آجلا؛ ولذلك فالترغيب والترهيب يفيض بهما بحرا الكتاب والسنة (¬1) قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا - وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 9 - 10] (¬2). فالقرآن يهدي لأقوم الطرق، وأوضح السبل، ومن هدايته الترغيب بوعد الطائعين الحافظين لحدود الله- تعالى- بعظيم الخير، وتبشيرهم بحسن المثوبة، والترهيب بوعيد المخالفين الذين تعدوا حدود الله- تعالى- بشديد العذاب، وإنذارهم بسوء العاقبة، ومن المعلوم يقينا أن الوعد بالخير يعم خير الدنيا والآخرة وسعادتهما، والوعيد يشمل نقم الدنيا والآخرة وشقاءهما (¬3). وهذا يجعل الداعية إلى الله- تعالى- يهتم اهتماما بالغا بهذين الأسلوبين الحكيمين، وسأتناول ذلك- بإذن الله تعالى- بشيء من الإيضاح في المسلكين الآتيين: ¬

(¬1) انظر. مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 1/ 301، ومعا الدعوة للديلمي 1/ 494، وهداية المرشدين ص 192. (¬2) سورة الإسراء، الآيتان9، 10. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 26، والسعدي 4/ 264.

المسلك الأول الترغيب والتبشير

المسلك الأول: الترغيب والتبشير. المسلك الثاني: الترهيب والإنذار. المسلك الأول: الترغيب والتبشير: من الحكمة القولية في الدعوة إلى الله أن يذكر الداعية إلى الله من هذا المسلك ما يفيد في حمل الناس على التبشير عن ساعد الجد في طاعة الله - تعالى- لنيل السعادة في الدنيا والآخرة. والترغيب قسمان: القسم الأول: الترغيب في جنس الطاعات. القسم الثاني: الترغيب في أنواع الطاعات. القسم الأول: الترغيب في جنس الطاعات: وهذا القسم له أنواع وصور متعددة، أذكر منها على سبيل المثال ما يلي: النوع الأول: الترغيب بالوعد بالخير العاجل في الدنيا: عندما يتحقق الإيمان والاستقامة عليه بطاعة الله- تعالى- وتقواه تحصل السعادة والبركات العاجلة في الدنيا قبل الآخرة، وما في الآخرة أعظم، ومن صور هذه الخيرات ما يأتي: 1 - الترغيب بالوعد بالحياة الطيبة والسلامة من كل مكروه، قال تعالى ترغيبا في صالح العمل مع الإخلاص فيه والمتابعة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] (¬1). ¬

(¬1) سورة النحل، الآية 97.

2 - الترغيب بالوعد بالاستخلاف في الأرض والتمكين: قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] (¬1). 3 - الترغيب بالوعد بالإمداد بأنواع الخيرات والزيادة مع الشكر، قال تعالى عن نوح صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا - يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا - وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12] (¬2) {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] (¬3). 4 - الترغيب بالمد في العمر إلى استيفاء الآجال، وعدم المعاجلة بالعقوبة: قال تعالى: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [إبراهيم: 10] (¬4) فمن عبد الله واتقاه، وأطاع رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وتاب من جميع المعاصي، غفر الله له ذنوبه، ومد في عمره، ودفع عنه الهلاك إلى حين استيفاء أجله (¬5). 5 - الترغيب بالوعد بأنواع التأييد والنصر والتوفيق: ¬

(¬1) سورة النور، الآية 55. (¬2) سورة نوح، الآيات 10 - 12. (¬3) سورة إبراهيم، الآية 7. (¬4) سورة إبراهيم، الآية 10. (¬5) انظر: تفسير البغوي 3/ 27، 4/ 397، وتفسير ابن كثير 4/ 425، وتفسير السعدي 4/ 127، 7/ 481.

(أ) الوعد بولاية الله- تعالى-: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] (¬1). (ب) الوعد بالدفاع عنهم: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] (¬2). (جـ) الوعد بالكفاية: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] (¬3). (د) الوعد بالنصر: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] (¬4). (هـ) الوعد بالعزة والعلو: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] (¬5) {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] (¬6). (و) الوعد بمحبة الله للمؤمنين: وهذا باب واسع، قد ذكر الله فيه أنه يحب التوابين، والمتطهرين، والمتقين، والمحسنين، والصابرين، والمتوكلين، والمقسطين، والذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (¬7). (ز) الوعد بمحبة عباد الله للمؤمنين {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] (¬8). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 257. (¬2) سورة الحج، الآية 38. (¬3) سورة الطلاق، الآية 3. (¬4) سورة الروم، آية 47. (¬5) سورة المنافقون، آية 8. (¬6) سورة آل عمران، الآية 139. (¬7) انظر سورة البقرة، الآية 222، وآل عمران، الآيات 76، 116، 134، 148، 159والمائدة، الآية 42، والتوبة، الآيتان 4، 7، والصف، الآية 4. (¬8) سورة مريم، الآية 96. وانظر البخاري مع الفتح 11/ 340، 13/ 461، ومسلم4/ 2030.

(ح) الوعد بالهداية والتوفيق، قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54] (¬1). (ط) الوعد بعدم تسليط الأعداء عليهم: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] (¬2). (ى) الوعد بالأمن، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] (¬3). (ك) الوعد بحفظ سعي المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] (¬4). (ل) الوعد بازديادهم من العلم والفهم: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] (¬5). النوع الثاني: الترغيب بذكر سنة الله تعالى فيمن مضى من عباده المخلصين: من حكمة القول مع عصاة المؤمنين في دعوتهم إلى الله- عز وجل- أن يبين لهم أن سنة الله لا تتخلف في نصرة عباده المؤمنين ورحمته بهم حين يتجهون إليه- سبحانه- بإظهار كمال العبودية له، والافتقار إليه، وهم في حالة من الكرب أو الضيق أو الحاجة، فتدركهم رحمته سبحانه. {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] (¬6) {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] (¬7). ¬

(¬1) سورة الحج، الآية 54. (¬2) سورة النساء، الآية 141. (¬3) سورة الأنعام، الآية 82. (¬4) سورة الكهف، الآية 30. (¬5) سورة التوبة، الآية 124. (¬6) سورة الأعراف، الآية 56. (¬7) سورة النمل، الآية 62.

وفي ذكر الداعية إلى الله سنة الله فيمن مضى من عباده المؤمنين إطماع لعباد الله في الحصول على أمثالها للمؤمنين إذا اتجهوا إلى الله- تعالى- بقلوب صادقة، وترغيب للمعرضين في انقيادهم لأمر الله- تعالى- حتى يكونوا من المحسنين، فتصيبهم رحمة الله- تعالى- (¬1) وهذا النوع له أمثلة كثيرة جدا، منها ما يلي: 1 - إجابة الله لدعوة آدم وحواء بعد أن وقعا في المعصية ثم تابا إلى الله {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] (¬2) {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] (¬3). 2 - إجابته- تعالى- لنبيه أيوب بعد أن بلغ به الضر منتهاه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83 - 84] (¬4). 3 - استجابته تعالى ليونس: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87 - 88] (¬5) {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ - لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] (¬6). ¬

(¬1) انظر: معالم الدعوة للديلمي 1/ 500. (¬2) سورة الأعراف، آية 23. (¬3) سورة البقرة، الآية 37. (¬4) سورة الأنبياء، الآيتان 83، 84. (¬5) سورة الأنبياء، الآيتان 87، 88. (¬6) سورة الصافات، الآيتان 143، 144.

4 - إنجاؤه تعالى لأنبيائه وعباده المؤمنين عند حلول العذاب بأقوامهم المكذبين، وهذا باب واسع، ومن ذلك إنجاء نوح (¬1) وهود (¬2) وصالح (¬3) وإبراهيم, ولوط (¬4) وشعيب (¬5) وموسى وهارون (¬6) والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من بني إسرائيل (¬7) وغيرهم، فقد أنجى سبحانه هؤلاء ومن تبعهم وأهلك أعداءهم. النوع الثالث: الترغيب بالوعد بالخير الآجل الأعظم في الآخرة: جاء في كتاب الله- تعالى-، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الوعد بالخير الآجل، والنعيم المقيم والرضوان، والأمن التام، والرحمة والمغفرة وتكفير السيئات، كل ذلك لمن تحقق فيه شرط الإيمان والعمل الصالح، وهذا باب واسع يزخر به بحر الكتاب والسنة، ولا يتسع المقام لذكر الأمثلة على ذلك. فعلى الداعية العناية بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى يقدم للناس القول الحكيم الذي يرضي الرب الحكيم (¬8). النوع الرابع: الترغيب بذكر أحوال المؤمنين في الجنة وما أعد الله لهم: وهذا النوع من الترغيب يزخر به كتاب الله- تعالى- وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ¬

(¬1) انظر: سورة يونس، الآية 73. (¬2) انظر: سورة هود، الآية 58. (¬3) انظر: سورة هود، الآية 66. (¬4) انظر: سورة الأنبياء، الآيتان 70، 71. (¬5) انظر: سورة هود، الآية 94. (¬6) انظر: سورة الصافات، الآية 114 - 116. (¬7) انظر: سورة الأعراف، الآية 164 - 166. (¬8) انظر: سورة الأنعام، الآية 82، وطه، الأيات 80 - 82 والفرقان، الآية 70، والبينة الآيتان7، 8.

ولا يحصر ما أعد الله لعباده المؤمنين في جنات النعيم من النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فيما يرويه عن ربه- تبارك وتعالى-: " قال الله. أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرأوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] (¬1) وهذا مما يجعل العاقل يشمر عن ساعد الجد؛ ليسعد بهذا الفوز العظيم، والسعادة الأبدية، والنعيم الدائم الذي يعجز دونه الوصف، ومن هذا النعيم على سبيل المثال (¬2). ما ذكر الله من نعيم أهل الجنة وصفاتهم، ومن ذلك: رضوانه تعالى؛ فإنه أكبر النعيم (¬3) وأنهار الجنة (¬4) ومساكن أهلها (¬5) وزوجاتهم (¬6) وحليهم (¬7) وطعامهم (¬8) وشرابهم (¬9) وصفاتهم (¬10) وأطوالهم (¬11) ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة 6/ 318، ومسلم، كتاب الجنة، 4/ 2175 برقم 2825. والآية من سورة السجدة، الآية 17. (¬2) انظر صفة الجنة ونعيمها وأحوال أهلها، وبعض ما أعد الله لهم، في البخاري مع الفتح، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الحنة وأنها مخلوقة 6/ 317 - 329، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها 4/ 2174 - 2206، وجامع الأصول في أحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقد ذكر عشرة أنواع من صفة الجنة ونعيمها 10/ 494 - 512، ثم 10/ 520 - 523، ثم ذكر عشرة أنواع من صفات أهل الجنة ونعيمهم 10/ 523 - 537، ثم 10/ 544 - 556، فكان ذكره لنعيم الجنة وعذاب أهل النار 10/ 494 - 564، وانظر أعظم كتاب ألف في الجنة، هو حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن القيم -رحمه الله-، ذكر فيه سبعين بابا. (¬3) انظر: سورة التوبة، الآية 72. (¬4) انظر: سورة محمد، الآية 15. (¬5) انظر: سورة التوبة، الآية 23. (¬6) انظر: سورة الصافات، الآيات 40 - 48. (¬7) انظر: سورة الكهف، الآية 31. (¬8) انظر: سورة الطور، الآية 27 - 28، والواقعة الآيات 10 - 40. (¬9) انظر: سورة الإنسان، الآية 5 - 22. (¬10) انظر البخاري مع الفتح 6/ 318، 362، ومسلم 4/ 2180. (¬11) انظر البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء باب خلق آدم وذريته 6/ 362.

وفواكههم (¬1) ولباسهم (¬2) وأعظم نعيم أهل الجنة النظر إلى وجه الله الكريم (¬3) فالداعية إذا استخدم هذا النوع من الترغيب يجذب قلوب الناس إلى الرغبة س في هذا النعيم الدائم. القسم الثاني: الترغيب في أنواع الطاعات: وهذا القسم مهم جدا لا يقل أهمية عن القسم الأول، والناس يحتاجون إليه، ليشمروا عن ساعد الجد في عمل أنواع الطاعات، فينبغي للداعية إلى الله أن لا يغفل هذا الجانب، ويهتم بترغيب الناس بالأقوال الحكيمة في أنواع البر والإحسان، وجميع أنواع الطاعات: كحثهم على تحقيق كلمة الإخلاص، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد لإعلاء كلمة الله، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وإصلاح ذات البين، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام، وغير ذلك. وكذلك ينبغي ترغيب الناس في أنواع الفضائل النفسية: كالشجاعة، والعفة، والصدق، والوفاء، والأمانة، والإخلاص، والحلم، والتواضع، والكرم، والصبر، وطهارة الضمير، وحث الخير للناس، والعدل والإحسان، وغيرذلك مما ينفع الأمة في العاجل والآجل بذكر ما جاء فيها من الترغيب من الكتاب والسمنة الصحيحة والحسنة والآثار الثابتة مع شرح ذلك شرخا وافيا حسبما تدعو إليه الحاجة (¬4). ومن أمثلة الترغيب في هذه الأنواع: قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] (¬5) ¬

(¬1) انظر: سورة الرحمن، الآيات 52 - 68، والواقعة الآيات 19 - 33. (¬2) انظر: سورة الكهف، الآية 15، وسورة الحج، الآية 23. (¬3) انظر: سورة يونس، الآية 26، وسورة ق، الآية 35، وسورة القيامة، الآيتان 22، 23. (¬4) انظر: هداية المرشدين ص 199. (¬5) سورة البقرة، آية 177.

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ - الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 16 - 17] (¬1). وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ - وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 134 - 135] (¬2) وغير ذلك كثير من كتاب الله تعالى (¬3). وكذا قد جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الترغيب في أنواع الطاعات من الأحاديث ما لا يحصى، ومن ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لعبد الله بن عمرو: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة" (¬4). ومن هذا النوع حديث معاذ بن جبل حينما سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عما يدخله ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان 16، 17. (¬2) سورة آل عمران، الآيتان 134، 135. (¬3) انظر: سورة النساء، الآية 114، والتوبة، الآية 71، والمؤمنون، الآيات 1 - 11، والفرقان، الآيات 63 - 77، ولقمان، الآيات 13 - 19، والأحزاب، الآية 35، والصف، الآيات 10 - 13، وغير ذلك من الآيات في الترغيب في أنواع الطاعات. (¬4) أخرجه أحمد في المسند بإسناد جيد 2/ 177، وانظر: صحيح الجامع الصغير 1/ 301 برقم 886.

المسلك الثاني الترهيب والإنذار

الجنة ويباعده عن النار، فعد له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم اثنتي عشرة خصلة من أنواع الطاعات (¬1). فالداعية إذا استخدم هذه الأنواع وفق بإذن الله -عز وجل- للصواب (¬2). المسلك الثاني: الترهيب والإنذار: من حكمة القول أن يذكر الداعية إلى الله من هذا المسلك الأمور النافعة المفيدة في حمل الناس على ترك الجرائم والذنوب، والتحذير والإنذار من كل المعاصي، والإصرار عليها. والترهيب قسمان: القسم الأول: الترهيب بذكر الوعيد بالعذاب والعقوبات على جنس المعاصي والذنوب. القسم الثاني: الترهيب بذكر الوعيد والعقوبات على أنواع الذنوب وآحادها. القسم الأولى: الترهيب بذكر الوعيد بالعذاب والعقوبات علي جنس المعاصي والذنوب: وهذا القسم له أنواع وصور متعددة، أذكر منها على سبيل المثال ما يلي: النوع الأول: الترهيب لذكر الوعيد بالحرمان من الخير العاجل، أو الأخذ بالعذاب العاجل: ¬

(¬1) انظر. سنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، 5/ 11، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، 2/ 1314، وأحمد 5/ 231، وانظر صحيح الترمذي، وانظر أحاديث أخرى في الترغيب في أنواع الطاعات في البخاري مع الفتح 6/ 11، 10/ 415، ومسلم 4/ 1982. (¬2) ويفيد الداعية في هذا القسم الترغيب والترهيب للمنذري، وكتاب المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح للدمياطي، ورياض الصالحين للنووي.

الإصرار على المعاصي والسيئات من أسباب الابتلاء بالفقر، والضيق في العيش، والإصابة بالأمراض والأسقام، والحرمان من الخيرات العاجلة والآجلة، وهي أعظم الأسباب في إهلاك الأمم والجماعات والأفراد بالدمار والهلاك (¬1) قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] (¬2). وهو سبحانه يعفو عن كثير من السيئات فلا يجازي {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45] (¬3). وكل ما يحدث في الأرض من المصائب، وقلة الثمار، وقحط الأمطار، فإنما هو من عقوبة بعض ما عمل الناس من الذنوب (¬4) {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] (¬5). ويمكن للداعية أن يستخدم هذا النوع في دعوته على ضربين: الضرب الأول: ذكر ما حل بالقرى من الأخذ بالدمار أو الحرمان من الخيرات التي كانت بين أيديهم بسبب ظلمهم أنفسهم واستكبارهم، وعدم شكرهم لله الرزاق، ومن ذلك ما حل بفرعون وقومه: ¬

(¬1) انظر تفسير ابن كثير1/ 133، 234. (¬2) سورة الشورى، الآية 30. . (¬3) سورة فاطر، الآية 45. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 574، 4/ 117. (¬5) سورة الروم، الآية 41.

{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 25 - 27] (¬1) وغير ذلك كثير مما حل بالقرى المكذبة للرسل، عليهم الصلاة والسلام (¬2). الضرب الثاني: الترهيب بذكر ما وقع لجماعات أو أفراد من الأخذ العاجل أو الحرمان من الخيرات، ومن ذلك ما حل بالجماعات والأفراد الآتي ذكرهم: 1 - ما ذكره الله عن قوم سبأ، وما كانوا فيه من النعم والغبطة والسرور، فلم يشكروا الله، فحل بهم الدمار والخراب والحرمان (¬3). 2 - وما ذكر الله في قصة قارون (¬4). 3 - وصاحب الجنتين الذي تكبر على صاحبه الفقير (¬5). 4 - وأصحاب الجنة الذين تعاهدوا أن يحرموا الفقراء والمساكين فحرمهم الله جنتهم ودمرها (¬6) وغير ذلك من الأمثلة كثير. النوع الثاني: الترهيب بالإنذار من حلول العذاب العاجل: هذا النوع يوجهه الداعية إلى المعرضين عن طاعة الله إذا ظلوا على إصرارهم وعنادهم واستكبارهم عن قبول الحق بعد وضوحه، ولزوم الحجة، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46] إلى قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 47] (¬7). ¬

(¬1) سورة الدخان، الآيات 25 - 27. (¬2) انظر سورة الأنعام، الآيات 42 - 45، والأعراف، الآيات 94 - 100، والنحل، الآية 112، والقصص، الآية 58. (¬3) انظر سورة سبأ، الآيات 15 - 19. (¬4) انظر: سورة القصص، الآيات 76 - 81، وتفسير البغوي 3/ 454، وابن كثير 3/ 99. (¬5) انظر. سورة الكهف 33 - 43، وتفسير ابن كثير 3/ 84. (¬6) انظر. سورة القلم، الآيات 17 - 27، وتفسير ابن كثير 4/ 407. (¬7) سورة الأنعام، الآيتان 46 - 47.

وقال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (¬1) {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] (¬2). وغير ذلك كثير في كتاب الله - تعالى- وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (¬3). النوع الثالث: الترهيب بذكر مصير الأمم التي كذبت رسلها: وهذا النوع له أعظم الأثر والوقع في النفوس؛ لأنه من أعظم العبر لمن اعتبر، ولأنه تبين سنة الله -عز وجل- فيمن كذب الرسل عليهم الصلاة والسلام أو وقف من دعوتهم موقف الإعراض والاستكبار، ثم بعد إقامة الحجة عليهم وقع بهم الدمار والهلاك، وهذا باب واسع لا يمكن حصره، ومن ذلك قوله عز وجل لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ - وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ - وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ - فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 42 - 45] (¬4). . . . {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} [العنكبوت: 39] إلى قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] (¬5). ¬

(¬1) سورة النور، الآية 63. (¬2) سورة الأنعام، الآية 65. (¬3) انظر. سورة الأنفال، الآيتان 24، 25، وفصلت الآية 13، والسجدة، الآية 22. والبخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة هود، باب: " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة"، 8/ 354، ومسلم، البر والصلة، باب تحريم الظلم 4/ 1997، والبخاري مع الفتح 8/ 295، 301، 9/ 319، 13/ 383، ومسلم 4/ 2114. (¬4) سورة الحج، الآيات 42 - 45. (¬5) سورة العنكبوت، الآيتان 39 - 40.

ومن أنواع عذاب بعض هؤلاء المكذبين على سبيل المثال: 1 - قوم نوح: أهلكهم الله- عز وجل- بالغرق {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ - وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 11 - 12] (¬1) 2 - عاد قوم هود: سلط الله عليهم الريح فألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل منقعر، خاوية، فدمرت الريح كل شيء بأمر ربها (¬2) 3 - ثمود قوم صالح: أرسل الله عليهم الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم فأصبحوا في دارهم جاثمين (¬3). 4 - قوم لوط: رفع الله قراهم إلى السماء، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعهم بحجارة أمطرها عليهم، ولإخوانهم أمثالها (¬4) 5 - مدين قوم شعيب: أظلتهم سحابة وأمطرت عليهم شررا من نار، ولهتا ووهجا، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض من أسفل منهم (¬5). ¬

(¬1) انظر سورة القمر، الآيتان 11 - 12. . (¬2) انظر سورة الأحقاف الآيتان 24 - 25، والحاقة الآيات 6 - 8، والقمر الآيتان19 - 20. . (¬3) انظر: سورة الأعراف الآية 78، والذاريات 43 - 45، والقمر الآيات 29 - 31، والحاقة الآية 5. (¬4) انظر: هود الآية 81، والحجر الآية 82، والذاريات: الآية 33. . (¬5) انظر: الشعراء الآية 178، وهود الآية 94، والأعراف الآية 91.

6 - فرعون وقومه: أغرقهم الله في البحر (¬1). 7 - قارون. خسف الله به وبداره الأرض (¬2). النوع الرابع: الترهيب بالوعيد بالعذاب الآجل في الآخرة: الوعيد بالعذاب الآجل يوم القيامة هو من الأقوال العظيمة الحكيمة التي تلين لها قلوب أهل العقول حين تذكر ببطش الله ونقمته وعذابه الأليم لمن حاد الله ورسوله وتعدى حدوده، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] (¬3) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] (¬4) {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] (¬5). وهذا النوع كثير في كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (¬6). النوع الخامس: الترهيب بوصف حال الكفار والمجرمين وما أعد الله لهم من عذاب في الآخرة: من المعلوم يقيتا أن وضف الداعية الحكيم أحوال الكفار والمنافقين والغصاة وهم يتلفون أنواعا من العذاب الأليم، وذكره لبعض ما أعد الله ¬

(¬1) انظر سورة يونس الآيات 88 - 91، والزخرف الآيات 51 - 56. (¬2) انظر سورة القصص الآية 76، وانظر التفصيل في ذلك في كتاب الجواب الكافي لابن القيم، ص84 - 86 وسورة الأعراف الآيات59 - 141، وهود 25 - 110. (¬3) سورة النساء، الآية 14. (¬4) سورة الجن، الآية 23. (¬5) سورة النساء، الآية 115. (¬6) انظر كتاب التخويف من النار لابن رجب ص13.

لهم في الآخرة من أصناف العذاب والعقاب، مما يثير الخوف والرعب والفزع في النفوس، ويحملها على أن تفر إلى الله ربها فتخلص له العبودية وتتوب إليه؛ لتنجو من عذابه، ومن خزي هذا اليوم العظيم، ومن ذلك قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] إلى قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72] (¬1) وقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] (¬2) {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ - يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ - وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج: 19 - 21] (¬3). وقد ذكر سبحانه لباسهم في النار وشرابهم (¬4) وطعامهم (¬5) وسلاسلهم وأغلالهم، وأنكالهم، ومقامعهم، وعظم أجسادهم (¬6) وهذا لهم من أعظم الخسران المبين: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15] (¬7). ¬

(¬1) سورة الزمر، الآيتان 71، 72. (¬2) سورة الزمر، الآية 60. (¬3) سورة الحج، الآيات 19 - 21. (¬4) انظر سورة محمد، الآية 15، وإبراهيم الآية 9، والكهف الآية 29. (¬5) انظر سورة الدخان الآية 43، والمزمل الآية 12، والحاقة الآية 35. (¬6) انظر سورة غافر، الآيتان 71، 72، والحاقة، الآية 12، والمزمل، الآيتان 12، 13، والحج، الآيتان 21، 22 وانظر عظم أجسادهم وأضراسهم في البخاري مع الفتح، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 11/ 415، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، 4/ 2189، 2190. (¬7) سورة الزمر، الآية 15.

النوع السادس: الترهيب بالعذاب النفسي يوم القيامة: من الحكمة القولية التي توجه إلى الغافلين والمعرضين والمصرين على الجرائم والذنوب ذكر بعض ما بينه الله- عز وجل- من العذاب النفسي لأهل النار أعاذنا الله منها، ومن هذا النوع على سبيل المثال: قال الله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] (¬1) وقال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ - رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ - قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 106 - 108] (¬2) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ - قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ - ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 10 - 12] (¬3) وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ - لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77 - 78] (¬4). ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية 22. (¬2) سورة المؤمنون، الآيات 106 - 108. (¬3) سورة غافر، الآيات 10 - 12. (¬4) سورة الزخرف، الآيتان 77 - 78.

وغير ذلك من أنواع العذاب النفسي، فإنهم عندما يسألون الخروج من النار، ثم ترد عليهم مسألتهم تتقطع قلوبهم هما وغما (¬1). القسم الثاني: الترهيب بذكر الوعيد بالعذاب والعقوبات على أنواع الذنوب وآحادها هذا قسم مهم، والناس بحاجة إليه، ليبتعدوا عن آحاد المعاصي، ويقلعوا عما تلبسوا به منها، ويظهروا توبتهم الصادقة. فينبغي للداعية إلى الله- تعالى- أن يهتم بهذا القسم، ويذكر ما ورد في الكتاب والسنة من الوعيد بالعذاب والعقوبات والنقم على آحاد الذنوب وأنواعها كالتهاون ببعض أمور العقيدة الإسلامية، وكالتهاون بالصلاة والزكاة والصوم والحج عند الاستطاعة، والتحذير من عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، والتهاجر بين المسلمين، والشحناء، والإنذار من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والزنا، واللواط، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، وشرب الخمر، ولعب الميسر، والقذف، والغيبة، والنميمة، وأعظم من ذلك التحذير من الشركيات والبدع المحدثة في الدين والسحر، وإتيان الكهنة والعرافين، والتعلق بالأولياء والصالحين، وغير ذلك من أنواع المعاصي. ويلزم الداعية أن يحذر الناس بالقول الحكيم من أنواع الرذائل الخلقية: كالجبن، وعدم العفة، والكذب، ونقض العهد، والغدر، والخيانة، والنفاق، والرياء، والغضب، والكبر، والبخل، والشح، والجزع عند ¬

(¬1) انظر: أنواع وأصناف عذاب أهل النار وصفاتهم وبعض ما أعد الله لهم في جامع الأصول لابن الأثير 10/ 512 - 523، ثم 10/ 537 - 564، والتخويف من النار لابن رجب ص 64 - 283.

المصائب، والحقد، والحسد، والتحذير من كل ما يضر الأمة في دينها ودنياها (¬1). فإذا ذكر الداعية ما ورد في ذلك من التحذير بالقول الحكيم أثمر ذلك مجتمعا مستقيما- بإذن الله تعالى-. ونظرا لسعة هذا القسم وكثرة أنواعه فسأكتفي بالأمثلة التالية: قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] (¬2) وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] (¬3) وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25] (¬4). أما الأمثلة من السنة فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" (¬5). وقال صلى الله عليه وسلم: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم ص180 - 305، وهداية المرشدين ص 215. (¬2) سورة المائدة، الآية 72. (¬3) سورة النساء، الآية 93. (¬4) سورة الرعد، الآية 25. (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب الوصايا، باب قوله تعالى: " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما. . . " 5/ 393، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وكبرها 1/ 92.

الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا الزكاة إلا من منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» (¬1). وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد وقع ذلك كله بمن وقع في هذه المعاصي، ومن الأدلة المحسوسة على ذلك مرض الإيدز، الذي وقع بمن أباحوا الفواحش. وقد لعن صلى الله عليه وسلم من لعن والديه، ومن ذبح لغير الله، ومن آوى محدثا، ولعن على فعل ذنوب كثيرة غير ذلك (¬2). وذكر الداعية ذلك مما يدفع العصاة على الفرار من الذنوب والرجوع إلى الله - تعالى-، والندم على ما مضى، والله الموفق سبحانه (¬3). ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات 2/ 333، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي 4/ 540، وانظر: صحيح ابن ماجه 2/ 370، وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1/ 7، برقم 106. (¬2) انظر أنواعا من المعاصي التي لعن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب الكافي لابن القيم، ص 115 - 119. (¬3) انظر في الترهيب بالوعيد بالعذاب على أنواع الذنوب وآحادها: كتاب الترغيب والترهيب للمنذري، وكتاب الكبائر للذهبي، وكتاب تنبيه الغافلين عن أعمال الهالكين وتحذير السالكين من أفعال الهالكين، للإمام محي الدين أبي زكريا، أحمد بن إبراهيم بن النحاس الدمشقي، المتوفى سنة 814 هـ.

المطلب الثالث حكمة القول التصويرية

المطلب الثالث حكمة القول التصويرية من حكمة القول في الدعوة إلى الله -تعالى- استخدام الأساليب التصويرية التي تدخل على القلوب مباشرة فتؤثر فيها، وتشد أذهان المدعوين، وتشوقهم إلى الاستماع والاستفادة، ومن ذلك على سبيل المثال ما يلي: المسلك الأول: القصص الحكيم: القصة من خير ما يتوصل به الداعية الحكيم لإبلاغ دعوته إلى أعماق القلوب؛ لأن النفس تميل إليها، وترغب فيها، يقول سيد قطب -رحمه الله-: "مما لا شك فيه أن للقصص طريقته الخاصة في عرض الحقائق وإدخالها إلى القلوب في صورة حية عميقة الإيقاع بتمثيل هذه الحقائق في صورتها الواقعية، وهي تجري في الحياة البشرية، وهذا أوقع في النفس من مجرد عرض الحقائق عرضا تجريديا" (¬1). وأفضل القصص ما جاء في القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، فقد بين الله -عز وجل- في كتابه العزيز أخبار الأمم الماضية أحسن بيان، ومن ذلك قصص الأنبياء وأقوامهم، وأثنى على أنبيائه ومن تبعهم من المؤمنين، وبين سنته في نصرتهم وتأييدهم، وذم الأمم التي كذبت رسلها، وبين سنته فيهم، وما أوقع بهم من العذاب والدمار، وغير ذلك من القصص العظيم الحسن كما قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] (¬2) {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف: 111] (¬3). ¬

(¬1) في ظلال القرآن 1/ 390. (¬2) سورة يوسف، الآية 3. (¬3) سورة يوسف، الآية 111.

المسلك الثاني التشبيه وضرب الأمثال

أما القصص من السنة فإن قدوة الداعية في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقص على أصحابه القصص الذي ينفعهم، ويرغبهم في الخير، ويخوفهم من الوقوع في ضده، ومن ذلك: قصة الأبرص والأعمى والأقرع (¬1) ففي هذه القصة التحذير من كفران النعم والبخل، والتشويق إلى شكر النعم، والاعتراف بها للخالق، والإحسان إلى الناس (¬2). وقصة الغلام مع الملك والساحر والراهب (¬3) وفيها تشويق الناس في الثبات على دين الله، والتضحية بكل غال ورخيص في سبيل نصرة دين الله وإظهاره. وقصة الرجل الذي قتل مائة ثم تاب فتاب الله عليه (¬4) فإن في هذه القصة الإيضاح للناس أن من تاب تاب الله عليه، وأن البيئة لها تأثير على الشخص، فلابد للتائب أن يلتمس الجليس الصالح، وغير ذلك كثير في السنة النبوية. المسلك الثاني: التشبيه وضرب الأمثال: في القرآن الكريم كثير من الأمثال المضروبة، والداعية لا بد له من ذلك في دعوته، ومن ذلك أن الله -تعالى- شبه المنفق في سبيله بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة سبع سنابل، اشتملت كل سنبلة على مائة حبة، والله يضاعف فوق ذلك لمن يشاء بحسب حال المنفق وإخلاصه (¬5). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع من بني إسرائيل، 6/ 500، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم 2964، 4/ 2275. (¬2) انظر: فتح الباري 6/ 503. (¬3) انظر: صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والغلام، 4/ 2299. (¬4) انظر: صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، 4/ 2118. (¬5) انظر: سورة البقرة، الآية 162.

المسلك الثالث لفت الأنظار والقلوب إلى الصور المعنوية وآثارها

ومثل المنفق رياء وسمعة وبطلان عمله كمثل حجر أملس عليه تراب فأصابه مطر شديد، فتركه أملس لا شيء عليه (¬1). وشبه سبحانه الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها بالماء الذي ينزل من السماء فأنبت الكلأ والعشب، ثم صار بعد هذه النضرة هشيما (¬2) وغير ذلك كثيرا في كتاب الله تعالى (¬3). وضرب النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال في دعوته، ومن ذلك تشبيهه الجليس الصالح بحامل المسك، والجليس السوء بنافخ الكير (¬4) وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه جمع بين الترغيب والحث على مجالسة من يستفاد من مجالسته في الدين والدنيا، وحذر من مجالسة من يتأذى بمجالسته فيهما (¬5) وهذا كثير في السنة (¬6). المسلك الثالث: لفت الأنظار والقلوب إلى الصور المعنوية وآثارها: من حكمة القول التصويرية لفت أنظار الناس إلى الأوصاف الحميدة المعنوية، وبيان آثارها العملية التي تحصل بسبب تطبيقها والعمل بها، ومن ¬

(¬1) انظر: سورة البقرة، الآية 264. (¬2) انظر: سورة الكهف، الآية 45. (¬3) انظر: أمثال القرآن لابن القيم ص 50 - 52. (¬4) انظر البخاري مع الفتح، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، 9/ 660، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين 4/ 2026. (¬5) انظر: فتح الباري 4/ 324، وشرح صحيح مسلم للنووي 16/ 178. (¬6) انظر كثيرا من الأمثال في السنة في صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة حافظ القرآن، 1/ 549 برقم 797، وكتاب الزكاة، باب مثل البخيل، 2/ 708، برقم 1021، وكتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله، 3/ 1498، برقم 1878، وكتاب الفضائل، 4/ 1787 - 1791، بأرقام 2282 - 2287، وكتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، 4/ 999 - 2000، برقم 2585 - 2586، وكتاب صفات المنافقين 4/ 2146، برقم 2784، و 4/ 2163 - 2166، بأرقام 2809 - 2812، وكتاب الأمثال للرامهرمزي، وسنن الترمذي، كتاب الأمثال 5/ 144 - 148، ومسند الإمام أحمد، 1/ 435، 465، 4/ 182، 183، 202.

المسلك الرابع لفت الأنظار والقلوب إلى الآثار المحسوسة

هذه الصور المعنوية ذكر الداعية أوصاف المؤمنين، وآثار هذه الأوصاف، وهذا كثير في كتاب الله -تعالى-، ومن ذلك قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ. أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (¬1). وهذه أوصاف تجذب القلوب الحية، وتلفت الأنظار إلى هذه الصفات العالية وآثارها الحميدة، ومن أعظم آثارها الفوز بالفردوس الأعلى في الجنة، وكتاب الله يزخر بأوصاف عباد الله المؤمنين، وآثار هذه الأوصاف في الدنيا والآخرة (¬2). فحري بالداعية أن لا يغفل هذا الجانب؛ فإن له الأثر الحميد بتوفيق الله تعالى. المسلك الرابع: لفت الأنظار والقلوب إلى الآثار المحسوسة: من حكمة القول التصويرية لفت أنظار الناس إلى آثار الأمم الماضية، والأفراد والجماعات الظالمة، والقرى والأمصار المكذبة المجرمة، وقد تكون الآثار في الأزمان القريبة أو الأماكن والأزمان المعاصرة المتأخرة؛ فإن في ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيات1 - 11. (¬2) انظر كثيرا من هذه الأوصاف وآثارها في سورة البقرة، الآية 177، وآل عمران، الآيات 15 - 17، 132 - 136، والتوبة، الآية 71، والفرقان، الآيات 63 - 74، والأحزاب الآية 35، والذاريات، الآيتان 15، 16، والمعارج، الآيات 22 - 35.

النظر فيما حل بهم من الهلاك والدمار والزلازل والمحن والأمراض، أعظم العبر لمن اعتبر وتفكر، ونظر واتعظ، والنظر في مساكنهم وديارهم، وكيف أبادهم وأهلكم وأذلهم، وخذلهم الملك الجبار، وجعل أخبارهم عبرة لأولى الأبصار (¬1)؟!. وقد أمر الله عباده بالسير والنظر والتأمل في هذه الآثار في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11] (¬2) وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9] (¬3). والأمر بالسير يشمل السير بالأبدان، والتفكر بالقلوب للنظر والتأمل في عواقب المكذبين والمجرمين، والنظر بالأبصار والبصيرة في آثار هؤلاء من المساكن الخاوية، والديار المهجورة، والسماع بالآذان الأخبار المفزعة، وإلا فمجرد نظر العين الجامدة، وسماع الأذن المسدودة، وسير البدن الخالي من القلب المتفكر المعتبر غير مفيد، ولا موصل إلى المطلوب (¬4). ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 125، 3/ 563، 428، والسعدي 2/ 377، 6/ 114، 135، 330، 519، 554، 7/ 68. (¬2) سورة الأنعام، الآية 11. (¬3) سورة الروم، الآية 9. (¬4) انظر: تفسير السعدي 6/ 135، 330.

الفصل الرابع حكمة القوة الفعلية مع المدعوين

الفصل الرابع حكمة القوة الفعلية مع المدعوين تمهيد: مراتب الدعوة. المبحث الأول: حكمة القوة الفعلية مع جميع الكفار. المبحث الثاني: حكمة القوة الفعلية مع عصاة المسلمين.

تمهيد

تمهيد مراتب الدعوة إلى الله تعالى قد دل كتاب الله على أن مراتب الدعوة - بحسب مراتب البشر- قال الله - تعالى-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (¬1) وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] (¬2) فاتضح بذلك أن مراتب الدعوة إلى الله أربع مراتب كالتالي: المرتبة الأولى: الحكمة. المرتبة الثانية: الموعظة الحسنة. المرتبة الثالثة: الجدال بالتي هي أحسن. المرتبة الرابعة: استخدام القوة. ولا بد أن تكون مرتبة الحكمة ملازمة لجميع المراتب التي بعدها، فالموعظة لا بد أن توضع في موضعها، والجدال في موضعه، واستخدام القوة في موضعه مع بيان الحق بدليله والإصابة في الأقوال والأفعال، وكل ذلك بإحكام وإتقان. وبهذا تكون مراتب المدعوين بحسب هذه المراتب كالتالي: ¬

(¬1) سورة النحل، الآية 125. (¬2) سورة العنكبوت، الآية 46.

1 - المستجيب الذكي، القابل للحق، الذي لا يعاند ولا يأباه، وهذا يبين له الحق علما وعملا واعتقادا، فيقبله ويعمل به. 2 - القابل للحق المعترف به؛ لكن عنده نوع غفلة وتأخر، وله أهواء وشهوات تصده عن اتباع الحق، فهذا يدعى بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترغيب من الباطل. 3 - المعاند الجاحد، فهذا يجادل بالتي هي أحسن (¬1). 4 - فإن ظلم المعاند ولم يرجع إلى الحق انتقل معه إلى مرتبة استخدام القوة إن أمكن. واستخدام القوة يكون بالكلام، وبالتأديب لمن له سلطة وقوة، وبالجهاد في سبيل الله -تعالى- تحت لواء ولي أمر المسلمين بالشروط التي دل عليها الكتاب والسنة (¬2) وهذا ما يقتضيه مفهوم الحكمة الصحيح؛ لأنها وضع الشيء في موضعه اللائق به بإحكام وإتقان وإصابة. ويزيد ذلك وضوحا وبيانا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي أعطاه ربه من الحكمة ما لم يعط أحدا من العالمين، فقد كان يضع العلم والتعليم ¬

(¬1) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 2/ 44، 45، 15/ 243، 19/ 164، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 1/ 194، 195، والتفسير القيم لابن القيم ص 344، ومعالم الدعوة في القصص القرآني للديلمي 1/ 53. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 416، 4/ 315، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب ص 89، وفتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، 1/ 90، وزاد الداعية إلى الله، لفضيلة العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص 15، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، 2/ 174 - 175.

والتربية في مواضعها، والموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها، والقوة والغلظة والسيف في مواضعها، وهذا من أحكم الحكم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9] (¬1) وهذا عين الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى (¬2). وقد تقدمت حكمة القول مع المراتب الثلاث الأولى من مراتب البشر السابقة، أما المرتبة الرابعة: وهم المعاندون الظالمون الذين لم يرجعوا إلى الحق، فهؤلاء من الحكمة في دعوتهم إلى الله -تعالى- استخدام القوة الفعلية معهم في المباحث التالية: المبحث الأول: حكمة القوة الفعلية مع جميع الكفار الظالمين. المبحث الثاني. حكمة القوة الفعلية مع عصاة المسلمين. ¬

(¬1) سورة التحريم، الآية 9. (¬2) انظر: تعليق الشيخ محمد حامد الفقي على التفسير القيم لابن القيم ص 344.

المبحث الأول حكمة القوة الفعلية مع الكفار

المبحث الأول حكمة القوة الفعلية مع الكفار المطلب الأول: أسباب استخدام القوة الفعلية مع الكفار. المطلب الثاني: قوة الجهاد في سبيل الله تعالى. المطلب الثالث: أسباب النصر.

المطلب الأول أسباب استخدام القوة الفعلية مع الكفار

المطلب الأول أسباب استخدام القوة الفعلية مع الكفار أصناف المدعوين: من الملحدين، والوثنيين، وأهل الكتاب، وغيرهم من الكفار إذا لم يؤثر فيهم ما تقدم من حكمة القول في دعوتهم، ولم يستفيدوا من حكمة القول العقلية، والحسية، والنقلية، والبراهين المعجزة، والجدال بالتي هي أحسن، وأعرضوا وكذبوا فحينئذ يكون آخر الطب الكي: وهو استخدام القوة؛ فإن لها الأثر العظيم في نشر الدعوة، وقمع الباطل وأهله، ونصر الحق وأهله، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] (¬1). فبين- سبحانه- أنه أرسل الرسل، عليهم الصلاة والسلام، بالبينات وهي: المعجزات، والحجج الباهرات، والبراهين الساطعات والدلائل القاطعات، التي يوضح الله بها الحق ويدفع بها الباطل، وأنزل مع الرسل الكتاب الذي فيه البينات والهدى والإيضاح، وأنزل معهم الميزان: وهو العدل في الأقوال والأفعال الذي ينصف به المظلوم من الظالم، ويقام به الحق، ويعامل الناس على ضوئه بالحق، وأنزل الحديد فيه قوة وردع وزجر لمن خالف الحق، فالحديد لمن لم تنفع فيه الحجة والبرهان وتؤثر فيه البينة، فهو الملزم بالحق والقامع للباطل بإذن الله -تعالى-. ولقد أحسن من قال في مثل هذا: ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية 25.

وما هو إلا الوحي أو حد مرهف ... تميل ظباه أخدعي كل مائل فهذا دواء من كل عالم ... وهذا دواء الداء من كل جاهل هو الحق إن تستيقظوا فيه تغنموا ... وإن تغفلوا فالسيف ليس بغافل! (¬1). وقال آخر: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا ... لقتل نفس ولا جاءوك لسفك دم جهل وتضليل أحلام وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم لما أتى لك عفوا كل ذي حسب ... تكفل السيف بالجهال والعمم (¬2). وما أحكم ما قاله الآخر: دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب ... وقد لان منه جانب وخطاب فلما دعا والسيف صلت بكفه ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا (¬3). فالعاقل ذو الفطرة السليمة ينتفع بالبيئة والبرهان ويقبل الحق بدليله، أما الظالم المتبع لهواه فلا يرده إلا السيف وأنواع السلاح (¬4) ولهذا يكون الجهاد في سبيل الله أعظم حكمة القوة في الدعوة إلى دين الله تعالى. ¬

(¬1) ديوان أبي تمام، بشرح الخطيب التبريزي، 3/ 86 - 87. (¬2) الشوقيات شعر أحمد شوقي، 1/ 201، ومنى العمم: اسم جمع للعامة. (¬3) انظر: فتاوى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، 3/ 184، 204. (¬4) انظر الإمام محمد بن عبد الوهاب: دعوته وسيرته للعلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز ص 28، وفتاوى ابن تيمية 28/ 37، 264 وتفسير ابن كثير 3/ 416، 4/ 315، وتفسير السعدي، 7/ 301.

المطلب الثاني قوة الجهاد في سبيل الله تعالى

المطلب الثاني قوة الجهاد في سبيل الله تعالى الجهاد في سبيل الله (¬1) من أعظم ما تقرب به العباد بعد الفرائض إلى الله - تعالى-، لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين وقمع الكافرين المعاندين الظالمين والمنافقين وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة، وله أهداف، وأطوار، وأنواع، ومراتب إذا علمها المجاهدون وعملوا بها فقد أحرزوا حكمة القوة الفعلية في الدعوة إلى الله. وسأتناول ذلك بإذن الله - تعالى- في المسالك الآتية: المسلك الأول: أهداف الجهاد وغايته. المسلك الثاني: أطوار الجهاد. المسلك الثالث: الإعداد للجهاد. المسلك الرابع: ضوابط قوة الجهاد. المسلك الخامس: مراتب الجهاد وأنواعه. ¬

(¬1) الجهاد في اللغة: بذل واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل وفي الشرع: بذل الجهد من المسلمين في قتال الكفار، والبغاة، والمرتدين ونحوهم. وهو فرض كفاية. ويكون فرض عين في ثلاث حالات: 1 - إذا حضر المسلم صف القتال. 2 - إذا حضر العدو بلدا من بلدان المسلمين. 3 - إذا طلب إمام المسلمين النفير. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب الجيم مع الهاء، والمصباح المنير، مادة "جهد" 1/ 112، والمغني لابن قدامة 3/ 5 - 8، والقتال في الإسلام، ص 11، وذكر ابن القيم أن جنس الجهاد فرض عين: إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد. فيجب على المسلم أن يجاهد في سبيل الله بنوع من هذه الأنواع حسب الحاجة والقدرة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بألسنتكم، وأنفسكم، وأموالكم، وأيديكم"، رواه أبو داود والنسائي والدارمي، وأحمد واللفظ له. 3/ 153، وانظر زاد المعاد 3/ 6، 10، 12.

المسلك الأول أهداف الجهاد وغايته

المسلك الأول: أهداف الجهاد وغايته: الجهاد جهادان: جهاد الطلب وجهاد الدفاع، والمقصود منهما جميعا والهدف هو: 1 - إعلاء كلمة الله، وتبليغ دينه، ودعوة الناس إليه، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] (¬1). 2 - نصر المظلومين، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75] (¬2). 3 - رد العدوان، وحفظ الإسلام، وحماية عقيدة التوحيد، قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] (¬3) وقال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 193. (¬2) سورة النساء، الآية 75. (¬3) سورة البقرة، الآية 194. (¬4) سورة الحج، الآية 40.

المسلك الثاني أطوار قوة الجهاد

المسلك الثاني: أطوار قوة الجهاد: قد كان الجهاد في الإسلام على أطوار ثلاثة: الطور الأول: الإذن للمسلمين بالجهاد من غير إلزامهم به وفرضه عليهم كما في قوله سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] (¬1). الطور الثاني: الأمر بقتال من قاتل المسلمين والكف عمن كف عنهم كما قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا - إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 89 - 90] (¬2). الطور الثالث: جهاد الكفار والمشركين كافة، وغزوهم في بلادهم وقتالهم بعد البلاغ والدعوة إلى الإسلام وإصرارهم على الكفر، فيجاهدوا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. وليعم الخير أهل الأرض، وتتسع رقعة الإسلام، ويزول من طريق الدعوة دعاة الكفر والإلحاد، وينعم العباد بحكم الشريعة العادل وليخرجوا بهذا الدين من ضيق الدنيا إلى سعة الإسلام، ومن عبادة الخلق إلى عبادة الخالق سبحانه، ومن ظلم الجبابرة إلى عدل الشريعة الإسلامية وأحكامها الرشيدة. ¬

(¬1) سورة الحج، الآية 39. (¬2) سورة النساء، الآيات 89 - 91، وانظر سورة الكهف، الآية 29، وسورة البقرة، الآيتان 190، 256.

ويستمر القتال حتى يدخلوا في دين الله أو يلتزموا بالجزية بشروطها إذا كانوا من أهلها (¬1) كما قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] (¬2). وهذا هو الذي استقر عليه أمر الإسلام وتوفي عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه آية السيف وهي من آخر ما نزل: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] (¬3). وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (¬4). وقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» (¬5). وهذا إذا استطاع المسلمون بدء عدوهم بالقتال وجهاده في سبيل الله. أما إذا لم يستطيعوا فعليهم أن يقاتلوا من قاتلهم واعتدى عليهم، ويكفون ¬

(¬1) انظر التفصيل فيمن تؤخذ منهم الجزية ومن لا تؤخذ منهم في زاد المعاد لابن القيم 3/ 153، وفتاوى ابن باز 3/ 190، وفضل الجهاد والمجاهدين لابن باز ص 21. (¬2) سورة التوبة، الآية 29. (¬3) سورة التوبة، الآية 5. (¬4) سورة الأنفال، الآية 39. (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم 1/ 75، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله 1/ 53.

المسلك الثالث الإعداد لقوة الجهاد

عمن كف عنهم عملا بآية النساء وما ورد في معناها في الطور الثاني من أطوار الجهاد (¬1) قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] (¬2) ولا تعارض بين هذه الآية وآية التوبة وما جاء في معناها، لأن آية التوبة فيها الأمر بقتال الكفار إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه آية الأنفال، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم (¬3). ويكون الأمر لولي الأمر إن شاء قاتل، وإن شاء كف، وإن شاء قاتل قوما دون قوم على حسب القوة والقدرة والمصلحة للمسلمين لا على حسب هواه وشهواته. فإذا صار عندهم من القوة والقدرة، والسلاح ما يستطيعون به قتال جميع الكفار أعلنوها حربا للجميع وأعلنوا الجهاد للجميع (¬4). المسلك الثالث: الإعداد لقوة الجهاد: ولا يمكن أن يكون الجهاد قويا إلا بإعداد قوتين عظيمتين. 1 - قوة الإيمان والعمل الصالح، كما قال عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] (¬5) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ - وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7 - 8] (¬6) {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 51] (¬7) ¬

(¬1) قال العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز- حفظه الله-: وهذا القول أصح وأولى من القول بالنسخ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- وبهذا يعلم أن قول من قال من كتاب العصر إن الجهاد شرع للدفاع لا للطلب قول غير صحيح ومخالف للنصوص. انظر فضل الجهاد لابن باز ص 26، وفتاوى ابن باز أيضا 3/ 171. (¬2) سورة الأنفال، الآية 61. (¬3) تفسير ابن كثير 2/ 324. (¬4) انظر فتاوى ابن باز 3/ 193، وفتاوى ابن تيمية 13/ 16. (¬5) سورة الروم، الآية 47. (¬6) سورة محمد، الآية 7، 8. (¬7) سورة غافر، الآية 51.

فالقيام بجميع الواجبات والابتعاد عن جميع المحرمات من أعظم أسباب النصر والتمكين. 2 - قوة الحديد وما استطاعه المسلمون من قوة مادية، قال الله - تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (¬1) والإعداد يكون على حسب الظروف والأحوال ويتناول كل وسيلة يستطيعها المسلمون، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» (¬2) فيجب إعداد القوات البرية، والجوية، والبحرية إذا استطاع المسلمون ذلك (¬3) ويجب عليهم أن يأخذوا حذرهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (¬4). وهذا يدل على وجوب العناية بالأسباب والحذر من مكائد الأعداء ويدخل في ذلك جميع أنواع الإعداد المتعلقة بالأسلحة والأبدان، وتدريب المجاهدين على أنواع الأسلحة، وكيفية استعمالها وتوجيههم إلى ما يعينهم على جهاد عدوهم والسلامة من مكائده، والله -عز وجل- أطلق الأمر بالإعداد وأخذ الحذر ولم يذكر نوعا دون نوع ولا حالا دون حال، وما ذلك إلا لأن الأوقات تختلف، والأسلحة تتنوع، والعدو يقل ويكثر، ويضعف ويقوى، فلهذا ينبغي على قادة المسلمين وأعيانهم ومفكريهم إعداد ما يستطيعون من قوة لقتال أعدائهم وما يرونه من المكيدة في ذلك وقد قال ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية 60. (¬2) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه 3/ 1522. (¬3) انظر: عناصر القوة في الإسلام، للسيد سابق، ص 223، وتفسير السعدي، 3/ 183. (¬4) سورة النساء، الآية 71.

المسلك الرابع ضوابط قوة الجهاد

صلى الله عليه وسلم: «الحرب خدعة» (¬1) ومعناه أن الخصم قد يدرك من خصمه بالمكر والخديعة في الحرب ما لا تدركه بالقوة والعدد، وذلك مجرب ومعروف (¬2). المسلك الرابع: ضوابط قوة الجهاد: ومع أن ما تقدم هو مفهوم القوة الصحيح في الدعوة إلى الله -تعالى-، فإن قوة الجهاد في سبيل الله لها ضوابط ينبغي أن يلتزم بها المجاهدون في سبيل الله- تعالى- ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] فيدخل في ذلك ارتكاب المناهي: من المثلة والغلول، وقتل النساء، والصبيان، والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال، والرهبان، والمرضى، والعمي، وأصحاب الصوامع؛ لكن من قاتل من هؤلاء أو استعان الكفار برأيه قتل (¬3). ويدخل في ذلك قتل الحيوان لغير مصلحة، وتحريق الأشجار، وإفساد الزروع والثمار، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت (¬4) ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال. . . " (¬5) ثم بينها صلى الله عليه وسلم كالآتي: (أ) الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين. ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الخداع في الحرب، 3/ 1361، وانظر: شرح النووي، 21/ 15. (¬2) فضل الجهاد والمجاهدين ص 28، وفتاوى ابن تيمية 28/ 253. (¬3) انظر: المغني لابن قدامة 13/ 175 - 179. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 227 وعناصر القوة في الإسلام ص 212. (¬5) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تفسير الإمام الأمراء على البعوث، 3/ 1357.

(ب) فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية. (ج) فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان بالله وقاتلهم (¬1). ومن هذه الضوابط قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] (¬2). فإذا كان بين المسلمين والكفار عهد أو أمان فلا يجوز للمسلمين الغدر حتى ينقضي الأمد، فإن خاف المسلمون من أعدائهم خيانة، بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة، فحينئذ يخبرهم المسلمون أنه لا عهد بيننا وبينكم حتى يستوي علم المسلمين وعلم أعدائهم بذلك. ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة من الأعداء لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم؛ لأنه لم يخف منهم بل علم ذلك. ودل مفهوم الآية أيضا أنه إذا لم يخف منهم خيانة؛ بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته (¬3). ولهذا قال سليم بن عامر: كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى عهدهم غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية -رضي الله عنه- فسأله، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي ¬

(¬1) انظر المرجع السابق 3/ 1357، وزاد المعاد 3/ 100. (¬2) سورة الأنفال، الآية 58. (¬3) تفسير ابن كثير، 2/ 321، وتفسير السعدي، 3/ 183 - 184.

المسلك الخامس مراتب قوة الجهاد وأنواعه

أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» فرجع معاوية (¬1). وهذا هو عين الحكمة في دعوة من ظلم وتجبر وصد عن سبيل الله تعالى. المسلك الخامس: مراتب قوة الجهاد وأنواعه: الجهاد له أربع مراتب: جهاد النفس، والشيطان، والكفار والمنافقين، وأصحاب الظلم، البدع والمنكرات. 1 - جهاد النفس له أربع مراتب: (أ) جهادها على تعلم أمور الدين والهدى الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. (ب) جهادها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها. (ج) جهادها على الدعوة إليه ببصيرة، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله. (د) جهادها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، وأن يتحمل ذلك كله لله. فمن علم وعمل، وصبر فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات. قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] (¬2). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه، 3/ 83، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 2/ 528. (¬2) سورة العصر، الآيات 1 - 3.

2 - جهاد الشيطان وله مرتبتان: (أ) جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان. (ب) جهاده على دفع ما يلقي إليه من الشهوات والإرادات الفاسدة، فالجهاد الأول بعد اليقين، والثاني بعد الصبر. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] (¬1). والشيطان من أخبث الأعداء، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] (¬2). 3 - جهاد الكفار والمنافقين: وله أربع مراتب: (أ) بالقلب. (ب) باللسان. (ج) بالمال. (د) باليد. وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان. 4 - جهاد أصحاب الظلم والعدوان، والبدع والمنكرات: وله ثلاث مراتب: (أ) باليد إذا قدر المجاهد على ذلك. (ب) فإن عجز انتقل إلى اللسان. (ج) فإن عجز جاهد بالقلب. قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (¬3). ¬

(¬1) سورة السجدة، الآية 24. (¬2) سورة فاطر، الآية 6. (¬3) مسلم كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان 1/ 69.

فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد وأكمل الناس عند الله من كمل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله محمد خاتم أنبيائه ورسله؛ فإنه كفل مراتب الجهاد وجاهد في الله حق جهاده (¬1) فصلوات الله وسلامه عليه ما تتابع الليل والنهار. ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا على جهاد العبد نفسه في ذات الله كما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» (¬2). كان جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج وأصلا له، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولا لتفعل ما أمرها الله به وتترك ما نهاها الله عنه، ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصار عليه، وعدوه الذي بين جنبيه غالب له وقاهر له؛ ولا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج. فهذان عدوان (¬3) وبينهما عدو ثالث لا يمكن للعبد أن يجاهدهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط الإنسان عن جهادهما ويخوفه ويخذله، ولا يزال يخوفه ما في جهادهما من المشاق، وفوات اللذات، والشهوات، فلا يمكنه أن يجاهد هذين العدوين إلا بجهاد هذا العدو الثالث وهو الأصل لجهادهما وهو الشيطان (¬4). ويتضح مما تقدم أن ميادين أو أنواع القتال في الجهاد كالآتي: ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد 3/ 10، 12. (¬2) أحمد بسند جيد، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1/ 11. (¬3) النفس والعدو في خارجها. (¬4) انظر. زاد المعاد 3/ 6.

1 - جهاد الكفار، والمنافقين، والمرتدين (¬1). 2 - جهاد البغاة المعتدين. 3 - جهاد الدفاع عن: الدين، والنفس، والأهل، والمال. ويدخل في هذا النوع جهاد قطاع الطرق أو المحاربين. قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد» (¬2). ¬

(¬1) انظر "التفصيل في ذلك، زاد المعاد 3/ 100، 6 - 11، والمغني لابن قدامة 12/ 264، والقتال في الإسلام لمحمد الجعوان ص 113. (¬2) أبو داود، كتاب الأدب، باب في قتال اللصوص، 4/ 246 والترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، 4/ 28 والنسائي، كتاب تحريم الدم، باب من قتل دون ماله، 7/ 194، وأحمد برقم 1652 - 1653.

المطلب الثالث أسباب النصر

المطلب الثالث أسباب النصر من المعلوم يقينا أن النصر على الأعداء له أسباب تحققه للمسلمين على أعدائهم بإذن الله -تعالى-، وسأذكر معظم هذه الأسباب بإيجاز في أربعة عشر مسلكا كالتالي: المسلك الأول: الإيمان والعمل الصالح: وعد الله المؤمنين بالنصر المبين على أعدائهم، وذلك بإظهار دينهم، وإهلاك عدوهم وإن طال الزمن قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ - يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51 - 52] (¬1). وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] (¬2). والمؤمنون الموعودون بالنصر هم الموصوفون بقوله تعالى. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4] (¬3). وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] (¬4). وقال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] (¬5). ¬

(¬1) سورة غافر، الآيتان 51، 52. (¬2) سورة الروم، الآية 47. (¬3) سورة الأنفال، الآيات 2 - 4. (¬4) سورة النور، الآية 55. (¬5) سورة النساء، الآية 141.

المسلك الثاني نصر دين الله تعالى

المسلك الثاني: نصر دين الله تعالى: ومن أعظم أسباب النصر: نصر دين الله- تعالى- والقيام به قولا، واعتقادا، وعملا ودعوة. قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] (¬1). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ - وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7 - 8] (¬2). وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ - إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ - وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] (¬3). المسلك الثالث: التوكل على الله والأخذ بالأسباب: التوكل على الله مع إعداد القوة من أعظم عوامل النصر لقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11] (¬4). وقال سبحانه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160] (¬5). وقال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (¬6). {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3] (¬7). ¬

(¬1) سورة الحج، الآيتان 40، 41. (¬2) سورة محمد، الآيتان 7، 8. (¬3) سورة الصافات، الآيات 171 - 173. (¬4) سورة المائدة، الآية 11. (¬5) سورة آل عمران، الآية 160. (¬6) سورة آل عمران، الآية 159. (¬7) سورة الأحزاب، الآية 3.

المسلك الرابع المشاورة بين المسئولين

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58] (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» (¬2). ولابد مع التوكل من الأخذ بالأسباب، لأن التوكل يقوم على ركنين عظيمين: (أ) الاعتماد على الله والثقة بوعده ونصره تعالى. (ب) الأخذ بالأسباب المشروعة. ولهذا قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (¬3). وعن أنس -رضي الله عنه- «أن رجلا قال: يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: "اعقلها وتوكل» (¬4). المسلك الرابع: المشاورة بين المسئولين: كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه مع كمال عقله وسداد رأيه امتثالا لأمر الله تعالى وتطييبا لنفوس أصحابه قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (¬5). {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] (¬6). ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية 58. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، باب في التوكل على الله 4/ 573، وانظر صحيح الترمذي 2/ 274. (¬3) سورة الأنفال، الآية 60. (¬4) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حدثنا عمرو بن علي 4/ 668، وانظر صحيح الترمذي 2/ 309. (¬5) سورة آل عمران، الآية 159. (¬6) سورة الشورى، الآية 38.

المسلك الخامس الثبات عند لقاء العدو

المسلك الخامس: الثبات عند لقاء العدو: من عوامل النصر الثبات عند اللقاء وعدم الانهزام والفرار، فقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم في جميع معاركه التي خاضها، كما فعل في بدر، وأحد وحنين. وكان يقول في حنين حينما ثبت وتراجع بعض المسلمين: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. اللهم نزل نصرك» (¬1) وثبت أصحابه من بعده. وهو قدوتنا وأسوتنا الحسنة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» (¬3). المسلك السادس: الشجاعة والبطولة والتضحية: من أعظم أسباب النصر: الاتصاف بالشجاعة والتضحية بالنفس والاعتقاد بأن الجهاد لا يقدم الموت ولا تؤخره؛ ولهذا قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] (¬4). قال الشاعر: من لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد ولهذا كان أهل الإيمان الكامل هم أشجع الناس، وأكملهم شجاعة هو إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ظهرت شجاعته في المعارك الكبرى التي قاتل فيها ومنها على سبيل المثال: ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من صف أصحابه عند الهزيمة 6/ 105، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، 3/ 1401. (¬2) سورة الأحزاب، الآية 21. (¬3) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء، 3/ 1362. (¬4) سورة النساء، الآية 78.

المسلك السابع الدعاء وكثرة الذكر

(أ) شجاعته البطولية الفذة في معركة بدر، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-: «لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسنا» (¬1). وقال- رضي الله عنه-: «كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون أحدنا أدنى إلى القوم منه» (¬2). (ب) في معركة أحد قاتل قتالا بطوليا لم يقاتله أحدا (¬3). (ج) في معركة حنين: قال البراء: «كنا إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم» (¬4). وهكذا أصحابه -رضي الله عنهم- ومن بعدهم من أهل العلم والإيمان فينبغي للمجاهدين أن يقتدوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] (¬5). المسلك السابع: الدعاء وكثرة الذكر: من أعظم وأقوى عوامل النصر الاستغاثة بالله وكثرة ذكره، لأنه القوي القادر على هزيمة أعدائه ونصر أوليائه، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] (¬6). {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] (¬7). ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 86. (¬2) أخرجه الحاكم قي المستدرك وصححه ووافقه الإمام الذهبي 2/ 143. (¬3) انظر زاد المعاد 3/ 199. (¬4) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، 3/ 1401. (¬5) سورة الأحزاب، الآية 21. (¬6) سورة البقرة، الآية 186. (¬7) سورة غافر، الآية 60.

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] (¬1). وقد أمر الله بالذكر والدعاء عند لقاء العدو، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] (¬2). لأنه سبحانه النصير فنعم المولى ونعم النصير. وقال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] (¬3). ولهذا كان النبي، صلى الله عليه وسلم يدعو ربه في معاركه ويستغيث به، فينصره ويمده بجنوده، ومن ذلك أنه نظر صلى الله عليه وسلم يوم بدر إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل صلى الله عليه وسلم القبلة ورفع يديه واستغاث بالله، وما زال يطلب المدد من الله وحده مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: (يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك)، فأنزل الله -عز وجل- {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] (¬4) فأمده الله بالملائكة. وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يدعو الله في جميع معاركه، ومن ذلك قوله: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب [مجري السحاب] [هازم الأحزاب]، اهزم الأحزاب. اللهم اهزمهم وزلزلهم، وانصرنا عليهم» (¬5). وكان يقول عند لقاء العدو: "اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل" (¬6). وكان إذا خاف ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية 9. (¬2) سورة الأنفال، الآية 45. (¬3) سورة آل عمران، الآية 126. (¬4) سورة الأنفال، الآية 9. (¬5) مسلم، كتاب، الجهاد والسير، باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو 3/ 1363. (¬6) أبو داود، كتاب الجهاد، باب ما يدعى عند اللقاء، 3/ 42 والترمذي، كتاب الدعوات، باب في الدعاء إذا غزا، 5/ 572، وانظر صحيح أبي داود 2/ 499.

المسلك الثامن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

قوما قال: «اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم» (¬1). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما-: «حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قال له الناس: "إن الناس قد جمعوا لكم» (¬2). وهكذا ينبغي أن يكون المجاهدون في سبيل الله- تعالى- لأن الدعاء يدفع الله به من البلاء ما الله به عليم. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم. «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر» (¬3). المسلك الثامن: طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: طاعة الله ورسوله من أقوى دعائم وعوامل النصر، فيجب على كل مجاهد في سبيل الله - تعالى- بل على كل مسلم أن لا يعصي الله طرفة عين، فما أمر الله- تعالى- به وجب الائتمار به، وما نهى عنه تعالى وجب الابتعاد عنه. ولهذا قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 46] (¬4). وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] (¬5). {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] (¬6). وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (¬7). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا خاف قوما، 2/ 89 وأحمد 4/ 414، وانظر: صحيح أبي داود، 1/ 286. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم "، 8/ 229. (¬3) الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء 4/ 448، وانظر صحيح الترمذي 2/ 225، والأحاديث الصحيحة برقم 154. (¬4) سورة الأنفال، الآية 46. (¬5) سورة النور، الآية 52. (¬6) سورة الأحزاب، الآية 36. (¬7) سورة النور، الآية 63.

المسلك التاسع الاجتماع وعدم النزاع

وقال صلى الله عليه وسلم: ". . . «وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم» (¬1). المسلك التاسع: الاجتماع وعدم النزاع: يجب على المجاهدين أن يحققوا عوامل النصر ولا سيما الاعتصام بالله والتكاتف، وعدم النزاع والافتراق، قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] (¬2). وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] (¬3). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (¬4). المسلك العاشر: الصبر والمصابرة: لا بد من الصبر في الأمور كلها ولا سيما الصبر على قتال أعداء الله ورسوله. والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله التي هي من عوامل النصر، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] (¬5). {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] (¬6). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم «واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر ¬

(¬1) أحمد، 2/ 92، والبخاري مع الفتح معلقا 6/ 98، وانظر صحيح الجامع الصغير3/ 8. (¬2) سورة الأنفال، الآية 46. (¬3) سورة آل عمران، الآية 103. (¬4) سورة النساء، الآية 59. (¬5) سورة آل عمران، الآية 200. (¬6) سورة الأنفال، الآية 46.

المسلك الحادي عشر الإخلاص لله تعالى

يسرا» (¬1). وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ - وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148] (¬2). المسلك الحادي عشر: الإخلاص لله تعالى: لا يكون المقاتل والغازي مجاهدا في سبيل الله إلا بالإخلاص، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47] (¬3) الآية. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] (¬4). «وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر (¬5). والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (¬6) وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن أول من يقضى عليه يوم القيامة ثلاثة، وذكر منهم من قاتل ليقال: هو جرئ- أي شجاع (¬7). ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد، 1/ 307. (¬2) سورة آل عمران، الآيات 146 - 148. (¬3) سورة الأنفال، الآية 47. (¬4) سورة العنكبوت، الآية 69. (¬5) أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة انظر فتح الباري 6/ 28. (¬6) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمته هي العليا، 6/ 28، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، 3/ 1513. (¬7) انظر صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 3/ 1514.

المسلك الثاني عشر الرغبة فيما عند الله تعالى

المسلك الثاني عشر: الرغبة فيما عند الله تعالى: مما يعين على النصر على الأعداء هو الطمع في فضل الله وسعادة الدنيا والآخرة، ولهذا نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، ومما يدل على الرغبة فيما عند الله تعالى ما يأتي: (أ) ما فعل عمير بن الحمام في بدر حينما قال صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض". فقال يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: "نعم" قال: بخ بخ (¬1) فقال صلى الله عليه وسلم: "ما يحملك على قولك بخ بخ؟ " قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: "فإنك من أهلها". فأخرج تمرات من قرنه (¬2) فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل» (¬3). (ب) ما فعل أنس بن النضر - عم أنس بن مالك - يوم أحد. تأخر - رضي الله عنه- عن معركة بدر، فشق عليه ذلك وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، وإن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراني الله ما أصنع (¬4). فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو واها لريح الجنة (¬5) أجده دون أحد فقاتلهم حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، فما عرفته أخته- الربيع بنت النضر - إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] ¬

(¬1) كلمة تقال لتعظيم الأمر وتفخيمه في الخير. انظر شرح النووي 13/ 45. (¬2) أي جعبة النشاب. انظر شرح النووي 13/ 46. (¬3) مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3/ 1510. (¬4) أي ليرى الله ما أصنع. انظر شرح النووي، 13/ 48. (¬5) كلمة تحنن وتلهف، انظر: شرح النووي، 3/ 48.

المسلك الثالث عشر إسناد القيادة لأهل الإيمان

فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه (¬1). والمسلم المجاهد في سبيل الله - تعالى- إذا رغب فيما عند الله، فإنه لا تبالي بما أصابه رغبة في الفوز العظيم. فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي المسلك الثالث عشر: إسناد القيادة لأهل الإيمان: من أسباب النصر تولية قيادة الجيوش، والسرايا، والأفواج والجبهات لمن عرفوا بالإيمان الكامل والعمل الصالح والشجاعة الحكيمة، ثم الأمثل فالأمثل، لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] (¬2). والله -عز وجل- يحب أهل التقوى، ومحبته- سبحانه- للعبد من أعظم الأسباب في توفيق عبده وتسديده ونصره على أعدائه قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76] (¬3). المسلك الرابع عشر: التحصن بالدعائم المنجيات: إن العباد لهم منجيات، ودعائم تنجيهم من المهالك والهزائم إذا حلت بهم، وهذه الأمور هي من أعظم العلاج لمن أصيب بالمهلكات أو الحروب والأوبئة، وهي كذلك وقاية من حلول المصائب قبل نزولها، وتتلخص في اتباع الدعائم المنجيات الآتية: ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب قول الله -عز وجل- من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، 6/ 21، و 7/ 355، ومسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3/ 1512. (¬2) سورة الحجرات، الآية 13. (¬3) سورة آل عمران، الآية 76.

(أ) التوبة والاستغفار من جميع المعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها، ولا تقبل التوبة إلا بشروط: 1 - الإقلاع عن جميع الذنوب وتركها. 2 - العزيمة على عدم العودة إليها. 3 - الندم على فعلها. فإن كانت المعصية في حق آدمي فلها شرط رابع وهو التحلل من صاحب ذلك الحق. ولا تنفع التوبة عند الغرغرة، أو بعد طلوع الشمس من مغربها. ولا شك أن التوبة النصوح والاستغفار من أعظم وسائل النصر {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] (¬1) {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] (¬2). (ب) تقوى الله تعالى وهي أن يجعل العبد بينه وبين ما يخشاه من ربه ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك. وهي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله. (ج) أداء جميع الفرائض وإتباعها بالنوافل؛ لأن محبة الله لعبده تحصل بذلك. (د) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» (¬3). وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] (¬4). ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية 11. (¬2) سورة الأنفال، الآية 33. (¬3) الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، 4/ 468، وأحمد واللفظ له، 5/ 388، وانظر: صحيح الترمذي 2/ 233. (¬4) سورة الأعراف الآية 165.

(هـ) الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع الاعتقادات، والأقوال والأفعال. (و) الدعاء والضراعة إلى الله تعالى.

المبحث الثاني حكمة القوة الفعلية مع عصاة المسلمين

المبحث الثاني حكمة القوة الفعلية مع عصاة المسلمين المطلب الأول: أسباب استخدام القوة مع عصاة المسلمين. المطلب الثاني: الكلمة القوية والفعل الحكيم. المطلب الثالث: التهديد الحكيم والوعيد بالعقوبة. المطلب الرابع: حكمة القوة بالعقوبات الشرعية.

المطلب الأول أسباب استخدام القوة مع عصاة المسلمين

المطلب الأول أسباب استخدام القوة مع عصاة المسلمين كما أن من الحكمة في الدعوة إلى الله استخدام القوة مع الكفار عند الحاجة إليها, فكذلك تستخدم مع من يحتاجها من المسلمين الذين لم ينتفعوا بالمواعظ من الترغيب والترهيب, ولم يستفيدوا من حكمة القول التصويرية: من ضرب الأمثال, ولفت الأنظار إلى الصور المعنوية كصفات المؤمنين وآثارها، ولفت الأنظار والقلوب إلى الآثار المحسوسة، كالأمر بالسير في الأرض, والنظر فيما حل بالمكذبين من الدمار والهلاك. فإذا لم يؤثر ما تقدم في عصاة المؤمنين فإن استخدام القوة حينئذ من الحكمة؛ لأن القوة كالعملية الجراحية للمريض إذا لم ينفع في علاج مرضه غيرها, فتستخدم عند الحاجة إليها بشرط الالتزام بالشروط والضوابط الشرعية. واستخدام القوة في هذه المرحلة يتنوع ويختلف باختلاف الداعية والمدعو, والأحوال والأزمان والأماكن, وإمكانية استخدام القوة مع أمن الوقوع في المفاسد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته الدعوة إلى الله - تعالى -, وإيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكاره المنكر يستلزم ما هو أنكر منه, وأبغض إلى الله ورسوله؛ فإنه لا يسوغ إنكاره, وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله, وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر, وقد «استأذن الصحابة -رضي الله عنهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: "لا ما

أقاموا الصلاة» (¬1) وقال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر [ولا ينزعن يدا من طاعة]» (¬2) ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من- إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر؛ فطلب إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه وأنكر؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك بعض الأمور المختارة، ويصبر على بعض المفاسد خوفا من أن يترتب على ذلك مفسدة أعظم؛ ولهذا لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على نقض بناء البيت ورده على قواعد إبراهيم، ولكن منعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في قتل عبد الله بن أبي، ولم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب على ذلك من وقوع ما هو أعظم منه (¬3). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم، 3/ 1482، وأحمد بلفظه، 3/ 28 - 29. (¬2) مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، 3/ 1477، وباب خيار الأئمة وشرارهم، 3/ 1482، واللفظ من الموضعين. (¬3) انظر: إعلام الموقعين لابن القيم، 3/ 15 - 16، وشرح النووي 16/ 139.

المطلب الثاني الكلمة القوية والفعل الحكيم

المطلب الثاني الكلمة القوية والفعل الحكيم 1 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما- «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: " يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده "! فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به. قال: لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). 2 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: " أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني» (¬2). 3 - «وعن عائشة - رضي الله عنها- أنها اشترت نمرقة (¬3) فيها تصاوير فقام النبي صلى الله عليه وسلم بالباب فلم يدخل، فقلت: أتوب إلى الله ماذا أذنبت؟ قال: " ما هذه النمرقة؟ " قلت: لتجلس عليها وتوسدها قال: " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم! وإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصورة» (¬4). 4 - وعنها- رضي الله عنها: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت بقرام لي (¬5) على سهوة (¬6) فيها تماثيل (¬7) فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه، وقال: ¬

(¬1) مسلم، كتاب اللباس، باب تحريم خاتم الذهب على الرجال 3/ 1655. (¬2) مسلم كتاب الإيمان، باب قوله صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا 1/ 99. (¬3) النمرقة: قيل: هي الوسائد التي يضم بعضها إلى بعض، وقيل: هي الوسائد التي يجلس عليها. انظر: الفتح 10/ 339، وشرح النووي 14/ 90. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب اللباس، باب من كره القعود على الصورة، 10/ 389. (¬5) القرام: ستر فيه رقم ونقش. انظر: شرح النووي 14/ 88، وفتح الباري 10/ 387. (¬6) قيل بيت صغير علقت عائشة - رضي الله عنها - الستر على بابه، وقيل: الكوة، وقيل: الرف. ورجح القول الأول الحافظ في فتح الباري 10/ 387. وانظر شرح النووي 14/ 88. (¬7) التصاوير. انظر: الفتح 10/ 387، وشرح النووي 14/ 88.

"إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله". قالت: فجعلناه وسادة أو وسادتين» (¬1). 5 - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي رأى في قبلة المسجد نخامة فحكها بيده، فتغيظ ثم قال: "إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإن الله حيال وجهه فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة» (¬2). فهذه كلمات حكيمة قوية مؤثرة تصحبها الحكمة الفعلية، وما ذلك إلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسوة الدعاة إلى الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (¬3). 6 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما؛ فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها» (¬4). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب اللباس، باب ما وطئ من التصاوير، 10/ 387، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم صور الحيوان وما فيه صور غير ممتهنة 3/ 1667. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله، 10/ 517. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، 1/ 69. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، 6/ 566، 12/ 86، 186.

المطلب الثالث التهديد الحكيم والوعيد بالعقوبة

المطلب الثالث التهديد الحكيم والوعيد بالعقوبة قال صلى الله عليه وسلم: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» (¬1). وفي هذا الحديث التخويف بتقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، والسر في ذلك- والله أعلم- أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفي به عن الأعلى من العقوبة (¬2) وهذا من حكمته صلى الله عليه وسلم فقد خوف وزجر عن التخلف عن صلاة الجماعة بهذا الوعيد والهم بالتعذيب، فللداعية الحكيم القادر أن يستخدم التخويف بالعقوبة الجائزة شرعا، أما التعذيب بالنار فقد نسخ (¬3). ولا بد في التهديد والوعيد بالعقوبة من مراعاة الشروط والضوابط الشرعية، والأصول التي دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه الشروط والضوابط والأصول تجعل الداعية في سلامة من الزلل، فلا ينكر منكرا ويقع ما هو أنكر منه، ولا يسعى في جلب مصلحة ويفوت ما هو أعظم منها؛ فإن من أعظم الحكم في الدعوة إلى الله دفع المفاسد وجلب المصالح، فإن تعارضت المصالح والمفاسد دفعت أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما وجلبت أعظم المصلحتين بترك أيسرهما (¬4). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، 2/ 125 ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها 1/ 451. (¬2) انظر: فتح الباري 2/ 130. (¬3) انظر: المرجع السابق 2/ 130، قال صلى الله عليه وسلم: " إن النار لا يعذب بها إلا الله " البخاري مع الفتح 6/ 149. (¬4) انظر: فتح الباري 1/ 325، وشرح النووي، 3/ 191، وإعلام الموقعين لابن القيم، 3/ 15 - 17.

المطلب الرابع حكمة القوة بالعقوبات الشرعية

المطلب الرابع حكمة القوة بالعقوبات الشرعية توطئة: قرر الإسلام العقوبات الشرعية على ارتكاب الجرائم؛ ليستوفي المجرم جزاءه، ويطهر من هذه الجريمة، ويرتدع أمثاله من ناحية أخرى، وهذا من أبلغ الحكم، ومن أعدل الأحكام، ومن أعظم وسائل حفظ الأمن والاستقرار، وبهذا حفظ الإسلام لأهله: الدين، والنفس، والنسب، والعرض، والعقل، والمال (¬1). والدعوة إلى الله - تعالى- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم ذلك كله إلا بتطبيق وتنفيذ العقوبات الشرعية، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وذلك واجب على ولاة الأمور، وذلك يحصل بالعقوبات على ترك الواجبات وفعل المحرمات، ولا يجوز لهم التهاون في تنفيذها؛ لأنها من شرع الله، وتعطيلها يؤدي إلى سخط الله كما يؤدي إلى فساد المجتمع، فإذا أقيمت الحدود ظهرت طاعة الله، ونقصت معصيته، وحصل الخير والنصر والتمكين (¬2) وتطبيق هذه العقوبات كما أمر الله من حكمة القوة في الدعوة إلى الله ونصر دينه. وسأذكر معظم هذه العقوبات الشرعية الحكيمة في عشرة مسالك بإيجاز كالتالي: المسلك الأول: عقوبة الهجر الحكيم: من حكمة القوة في الدعوة إلى الله هجر من يظهر المنكرات على وجه التأديب حتى يتوب، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم. ¬

(¬1) وهذا يعرف عند أهل الأصول بالضروريات. انظر: أضواء البيان 3/ 448. (¬2) انظر: الحسبة في الإسلام، لابن تيمية، ص 50، وأصول الدعوة، لعبد الكريم زيدان، ص 272، وعناصر القوة في الإسلام، ص 51.

وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كان هجره يضعف الشر كان مشروعا، وإن كان المهجور لا يرتدع بذلك ولا يرتدع به غيره، بل يزيد الشر والهاجر ضعيف وتكون مفسدة الهجر راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، كما كان الهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين (¬1) وينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق النفس، فالهجر لحق الله- تعالى- مأمور به والثاني منهي عنه. ولا شك أن الهجر لحق الله من العقوبات الشرعية، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله (¬2) وهذا يفعل؛ لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله. وهذا يدل على أن حكمة القوة لها الأثر الكبير عند وضعها في موضعها. ولهذا يجب على ولي أمر المسلمين- وهو الذي ينبغي أن ينصر الدعوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم- أن يعلم بأن إقامة الحدود والعقوبات الشرعية رحمة من الله بعباده، وأن يكون قويا في إقامة الحد لا تأخذه في الله لومة لائم، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، ويكون بمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، فيدخل المريض على نفسه المشقة ويشرب الدواء لينال به الراحة والشفاء (¬3). ¬

(¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية 28/ 204 - 207. (¬2) انظر: المرجع السابق، 28/ 208. (¬3) انظر: فتاوى ابن تيمية 28/ 329.

المسلك الثاني عقوبة التعزير

المسلك الثاني: عقوبة التعزير: التعزير هو العقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها (¬1) وقد اتفق العلماء -رحمهم الله- على أن التعزير مشروع في كل معصية ليس فيها حد. والمعصية نوعان: ترك واجب أو فعل محرم (¬2) كما يستتاب المرتد حتى يسلم، فإن تاب وإلا قتل، وكما يعاقب تارك الزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤدوها (¬3). والتعزير أجناس: فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب؛ فإن كان ذلك لترك واجب مثل الضرب على ترك الصلاة، أو ترك أداء الحقوق الواجبة مثل: ترك وفاء الدين مع القدرة عليه، أو على ترك رد المغصوب، أو أداء الأمانة إلى أهلها فإنه يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الواجب ويفرق عليه الضرب يوما بعد يوم، وإن كان الضرب على ذنب ماض جزاء بما كسب ونكالا من الله له فهذا يفعل منه بقدر الحاجة فقط، وليس لأقله حد. أما أكثر التعزير ففيه ثلاثة أقوال وأعدلها أنه لا يتقدر بحد، لكن إن كان التعزير فيما فيه مقدر لم يبلغ به ذلك المقدر مثل التعزير على سرقة دون النصاب لا يبلغ به القطع، والتعزير على المضمضة بالخمر لا يبلغ به حد الشرب، والتعزير على القذف بغير الزنا واللواط لا يبلغ به الحد (¬4). أما حديث «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» (¬5) فقد فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد بحدود الله ما حرم لحق ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة، 12/ 523. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية، 35/ 402. (¬3) انظر. المرجع السابق، 28/ 347، والحسبة في الإسلام لابن تيمية، ص 50. (¬4) انظر: فتاوى ابن تيمية، 28/ 108، والحسبة في الإسلام لابن تيمية، ص 52. (¬5) البخاري مع الفتح، كتاب الحدود، باب التعزير والأدب 12/ 175، ومسلم، كتاب الحدود، باب قدر أسواط التعزير 3/ 1332.

المسلك الثالث القصاص

الله، ومراد الحديث أن من ضرب لحق نفسه كضرب الرجل امرأته في النشوز وكتأديب الأب ولده الصغير فلا يزيد على عشر جلدات في التأديبات (¬1) ثم من لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل مثل: المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى البدع في الدين (¬2). المسلك الثالث: القصاص: أوجب الله - تعالى - القصاص في جريمة قتل العمد والاعتداء على الأطراف، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] (¬3) وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] (¬4) وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] (¬5). المسلك الرابع: حد الزنا واللواط: (أ) الزاني إن كان محصنا؛ فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت كما رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك الأسلمي، ورجم الغامدية، ورجم اليهوديين ورجم غير هؤلاء، ورجم المسلمون بعده (¬6). ¬

(¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 28/ 348، وفتح الباري 12/ 178. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية، 28/ 108، 112، 113، 348، والحسبة في الإسلام لابن تيمية أيضا، ص 52. (¬3) سورة البقرة، الآية 178. (¬4) سورة المائدة، الآية 45. (¬5) سورة البقرة، الآية 179. (¬6) انظر: فتاوى ابن تيمية، 28/ 333.

المسلك الخامس حد القذف

(ب) وإن كان الزاني غير محصن؛ فإنه يجلد مائة جلدة بكتاب الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] (¬1) ويغرب عاما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). (ج) وأما اللواط فالصحيح الذي اتفق عليه الصحابة أنه يقتل الاثنان: الأعلى والأسفل. فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (¬3) ولم يختلف الصحابة في قتله ولكن تنوعوا فيه (¬4). المسلك الخامس: حد القذف: حفظ الإسلام الأعراض من الاعتداء عليها، وجعل عقوبة القاذف ثمانين جلدة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4 - 5] (¬5). وهذا الحد جاء به الكتاب والسنة وأجمع عليه المسلمون؛ فإذا قذف ¬

(¬1) سورة النور، الآية 2. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية، 28/ 333. (¬3) أخرجه أصحاب السنن: أبو داود، كتاب الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط، 4/ 158، والترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في حد اللواط، 4/ 57، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب من عمل عمل قوم لوط، 2/ 856، وانظر: صحيح أبي داود 3/ 844، وصحيح الترمذي، 2/ 76، وصحيح ابن ماجه، 2/ 83. (¬4) انظر: فتاوى ابن تيمية 28/ 335. (¬5) سورة النور، الآيتان 4، 5.

المسلك السادس حد شرب الخمر

المحصن بالزنا أو اللواط وجب الحد على قاذفه، والمحصن هنا هو الحر العفيف، وفي باب حد الزنا هو الذي وطئ وطئا كاملا في نكاح تام (¬1). المسلك السادس: حد شرب الخمر: وحد الشرب ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب في شرب الخمر بالجريد والنعال أربعين، وضرب أبو بكر - رضي الله عنه- في خلافته أربعين، وضرب عمر - رضي الله عنه- في خلافته ثمانين، وكان علي - رضي الله عنه - يضرب مرة أربعين ومرة ثمانين. فمن العلماء من يقول يجب ضرب الثمانين، ومنهم من يقول: الواجب أربعون والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة إذا أدمن الناس الخمر أو كان الشارب ممن لا يرتدع بدونها، ورجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (¬2). المسلك السابع: حد السرقة: السرقة اعتداء على مال معصوم لا شبهة له فيه يأخذه خفية بشروط معينة منها: أن يكون المال محرزا، ولا تقل قيمته عن ربع دينار، وحينئذ يجب عليه حد السرقة بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 38 - 39] (¬3). ولا يجوز بعد اكتمال شروط القطع وثبوت الحد عليه بالبينة أو بالإقرار ¬

(¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 28/ 342. (¬2) انظر: المرجع السابق، 28/ 336. (¬3) سورة المائدة، الآيتان 38، 39.

المسلك الثامن حد المحاربين قطاع الطريق

تأخيره لا بحبس ولا مال يفتدى به ولا غيره بل تقطع يده اليمنى في الأوقات المعظمة وغيرها (¬1). المسلك الثامن: حد المحاربين قطاع الطريق: قطاع الطريق هم المحاربون الذين يتعرضون للناس بالسلاح في الصحراء والطرقات؛ ليغصبوهم المال مجاهرة بالقوة والقهر وسواء ارتكب هذه الجريمة فرد أو جماعة فإنه يسمى بالمحارب (¬2). والأصل في عقوبتهم قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34] (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في قطاع الطريق: «إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض» (¬4) وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي وأحمد، أما من كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتل حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما. ¬

(¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 28/ 329. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية، 28/ 309، والمغني لابن قدامة 12/ 474. (¬3) سورة المائدة، الآيتان 33، 34. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب السرقة، باب قطاع الطريق، 8/ 283، وانظر المغني 12/ 475، وفتاوى ابن تيمية، 28/ 310.

المسلك التاسع عقوبة المرتد

أما غير القاتل فمنهم من قال للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى في قتله مصلحة، والقول الأول قول الأكثر (¬1). المسلك التاسع: عقوبة المرتد: المرتد هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر بفعل، أو قول، أو اعتقاد، أو شك، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬3) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬4) فمن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وكان بالغا عاقلا استتيب ثلاثة أيام فإن رجع وإلا قتل بالسيف (¬5). المسلك العاشر: قتال أهل البغي: جريمة البغي هي خروج جماعة ذات قوة وشوكة على الإمام يريدون خلعه بالقوة والعنف، فعلى الإمام أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه فإن ذكروا مظلمة أزالها، وإن ادعوا شبهة كشفها، فإن رجعوا وإلا قاتلهم وعلى المسلمين القتال مع إمامهم والأصل في هذه الجريمة (¬6) وعقوبتها قوله ¬

(¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 28/ 310. (¬2) سورة البقرة، الآية 217. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله، 6/ 149، وفي كتاب حكم المرتد 12/ 267. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الديات، باب قوله تعالى: "أن النفس بالنفس"، 12/ 201، ومسلم، كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم، 3/ 1302. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 12/ 264، وفتاوى ابن تيمية، 35/ 99 - 206. (¬6) انظر المغني، 12/ 237، وفتاوى ابن تيمية، 35/ 5، وأصول الدعوة لعبد الكريم زيدان، ص 279.

تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9 - 10] (¬1). وقال، صلى الله عليه وسلم: ". . «. ستكون هنات وهنات (¬2) فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان» (¬3). وقال: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (¬4). ¬

(¬1) سورة الحجرات الآيتان 9، 10. (¬2) الفتن والأمور الحادثة. انظر شرح النووي 12/ 241. (¬3) مسلم، كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع، 3/ 1479. (¬4) مسلم، كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع، 3/ 1480.

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله الذي أعانني على إتمام هذه الرسالة على هذه الصورة، فالفضل والمنة له أولا وآخرا، و {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70] (¬1) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1] (¬2). بعد هذه الرحلة المباركة -إن شاء الله تعالى- التي طفت من خلالها بمفهوم الحكمة الصحيح في الدعوة إلى الله -تعالى- وأنواعها، ودرجاتها، وأركانها التي تقوم عليها، ومعاول هدمها، وطرق ومسالك اكتسابها، ومواقف الحكمة في الدعوة إلى الله - تعالى-، التي أعز الله بها الإسلام وأهله، وأذل بها الكفر والعصيان والنفاق وأعوانها، وحكمة القول مع أصناف المدعوين على اختلاف عقائدهم وعقولهم وإدراكاتهم ومنازلهم، وحكمة القوة الفعلية مع المدعوين: الكفار، ثم عصاة المسلمين، أقول: هذا ما من الله به، ثم ما وسعه الجهد، وسمح به الوقت، وتوصل إليه الفهم المتواضع، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن فيه خطأ أو نقص فتلك سنة الله في بني الإنسان، فالكمال لله وحده، والنقص والقصور واختلاف وجهات النظر من صفات الجنس البشري، ولا أدعي الكمال، وحسبي أني قد حاولت التسديد والمقاربة، وبذلت الجهد ما استطعت ¬

(¬1) سورة القصص، الآية 70. (¬2) سورة سبأ، الآية 1.

أهم النتائج

بتوفيق الله - تعالى-، وأسأل الله أن ينفعني بذلك، وينفع به جميع المسلمين؛ فإنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. أما أهم النتائج التي أعانني الله ويسر لي التوصل إليها في هذا البحث فمنها ما يلي: 1 - إن الحكمة في الدعوة إلى الله لا تقتصر على الكلام اللين والترغيب والرفق والحلم والعفو والصفح، بل تشمل جميع الأمور التي عملت بإتقان وإحكام، وذلك بأن تنزل في منازلها اللائقة بها، فيوضع القول الحكيم والتعليم والتربية في مواضعها، والموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها، ومجادلة الظالم المعاند، والمستكبر في موضعها، والزجر والغلظة والقوة في مواضعها، وكل ذلك بإحكام وإتقان، ومراعاة لأحوال المدعوين، والواقع والأزمان والأماكن، في مختلف العصور والبلدان، مع إحسان القصد والرغبة فيما عند الكريم المنان. 2 - إن الداعية الحكيم هو الذي يدرس ويعرف أحوال المدعوين: الاعتقادية، والنفسية والاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية، ويعرف مراكز الضلال ومواطن الانحراف، وعاداتهم ولغتهم ولهجاتهم، والإحاطة بمشكلاتهم، ومستواهم الجدلي، ونزعاتهم الخلقية، والشبه التي تعلق بأذهانهم، ثم ينزل الناس منازلهم ويدعوهم على قدر عقولهم وأفهامهم، ويعطي الدواء على حسب الداء. 3 - إن النبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة الحسنة للدعاة الحكماء، فقد كان يلازم الحكمة في جميع أموره، وخاصة في دعوته إلى الله -عز وجل-، وهذا من فضل الله عليه وعلى أتباعه، فقد أرسل جبريل ففرج صدره ثم غسله بماء زمزم، ثم أفرغ في صدره طستا من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا (¬1) وأقبل ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، 1/ 458، ومسلم 1/ 148، وتقدم تخريجه.

الناس، ودخلوا في دين الله أفواجا بفضل الله ثم بحكمة هذا النبي الكريم، وما من خلق كريم ولا سلوك حكيم إلا كان له منه أوفر الحظ والنصيب. 4 - إن أحسن الطرق في دعوة الناس ومخاطبتهم ومجادلتهم طريقة القرآن الكريم، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم، وسوق النص القرآني والحديث النبوي في ألصق الأمور مساسا بها من أعظم الحكم التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا. 5 - إن الحكمة تجعل الداعي إلى الله يقدر الأمور ويعطيها ما تستحقه، فلا يزهد في الدنيا والناس في حاجة إلى النشاط والجد والعمل، ولا يدعو إلى الانقطاع والانعزال عن الناس، والمسلمون في حاجة إلى الدفاع عن عقيدتهم وبلادهم وأعراضهم، ولا يبدأ بتعليم الناس البيع والشراء وهم في مسيس الحاجة إلى تعلم الوضوء والصلاة، فالحكمة تجعل الداعية ينظر ببصيرة المؤمن، فيرى حاجة الناس فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب، وتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المنقذ الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم. 6 - إن البصيرة في الدعوة إلى الله هي أعلى درجات الحكمة والعلم، وهذه الخاصية اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه، والمخلصون من أتباعه، وهي أعلى درجات العلماء، وحقيقتها الدعوة إلى الله على علم ويقين وبرهان عقلي وشرعي، وترتكز البصيرة في الدعوة إلى الله على ثلاثة أمور: (أ) أن يكون الداعية على بصيرة، وذلك بأن يكون عالما بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه. (ب) وأن يكون على بصيرة في حال المدعو حتى يقدم له ما يناسبه. (ج) وأن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة. 7 - إن العلم النافع المقرون بالعمل الصالح، والحلم والأناة من أعظم

الأسس التي تقوم عليها الحكمة في الدعوة إلى الله- تعالى-، ولهذا فقد يكون المرء عالما أو حليما، ولا يكون حكيما حتى يجمع هذه الأسس الثلاثة. 8 - إن العلم والحلم والأناة لها أسباب تؤدي وتوصل إليها، وأسباب تعين على التمسك بها، والمحافظة عليها. 9 - إن العلم لا يكون من دعائم الحكمة إلا باقترانه بالعمل الصالح، وقد كان علم الصحابة مقرونا بالعمل والإخلاص والمتابعة، ولهذا كانت أقوالهم وأفعالهم وسائر تصرفاتهم- في دعوتهم إلى الله وأمورهم- تزخر بالحكمة. 10 - إن العجلة وعدم التثبت والتأني والتبصر أو التباطؤ والتقاعس، كل ذلك يؤدي إلى كثير من الأضرار والمفاسد، والداعية أولى الناس بالابتعاد عن ذلك كله، فمقتضى الحكمة أن يعطي كل شيء حقه، ولا يعجله عن وقته، ولا يؤخره عنه، فالأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها، ونهايات تصل إليها ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر. 11 - إن الحلم من أعظم ركائز الحكمة ومبانيها العظام، وقد كان خلقا من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم عظماء البشر، وقدوة أتباعهم من الدعاة إلى الله، والصالحين في أخلاقهم كافة، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه. 12 - إن الأناة عند الداعية تسمح له بأن يحكم أموره، فلا يقدم على أي عمل إلا بعد النظر والتأمل ووضوح الغاية الحميدة التي سيجنيها، ولا يتعجل بالكلام قبل أن يديره على عقله، ولا بالفتوى قبل أن يعرف دليله وبرهانه الذي اعتمد عليه وبنى عليه فتواه. فالداعية بحاجة ماسة إلى الأناة، لما يحصل بذلك من الفوائد الكثيرة،

والكف عن شرور عظيمة، وهذا يجعل الداعية بإذن الله -تعالى- في سلامة عن الزلل. 13 - إن الداعية لا يكون حكيما في أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته وأفكاره وموافقا للصواب في جميع أموره إلا بتوفيق الله - تعالى- له، ثم بسلوك طرق الحكمة، وذلك بالتزام السلوك الحكيم، والسياسة الحكيمة مع مراعاة التسديد والمقاربة والأساليب الحكيمة، وفقه أركان الدعوة، وأن يكون عاملا بما يدعو إليه مخلصا متخذا في ذلك محمدا صلى الله عليه وسلم قدوة وإماما. 14 - إن الخبرات والتجارب والمران من أعظم ما يعين الداعية على التزام الحكمة واكتسابها، فهو بتجاربه بالسفر ومعاشرة الجماهير سيكون له الأثر الكبير في نجاح دعوته، وابتعاده عن الوقوع في الخطأ في منهجه ودعوته إلى الله؛ لأنه إذا وقع في خطأ مرة لا يقع فيه أخرى، فيستفيد من تجاربه وخبراته. 15 - إن تحري أوقات الفراغ والنشاط والحاجة عند المدعوين وتخولهم بالموعظة والتعليم من أعظم ما يعين الداعية على استجلاب الناس وجذب قلوبهم إلى دعوته. 16 - إن المصالح إذا تعارضت أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم، فيدفع أحد المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما. 17 - إن لتأليف القلوب بالمال والعفو والصفح والرفق واللين والإحسان بالقول أو الفعل أعظم الأثر في نفوس المدعوين. 18 - إن من أعظم الأساليب البالغة في منتهى الحكمة عدم مواجهة الداعية أحدا بعينه عندما يريد أن يؤدبه أو يعاتبه أو يزجره ما دام يجد في

الموعظة العامة كفاية، وذلك إذا كان المدعو المقصود بين جمهور المخاطبين أو يبلغه ذلك، كأن يقول الداعية: ما بال أقوام، أو ما بال أناس، أو ما بال رجال يفعلون كذا، أو يتركون كذا. 19 - إن الداعية لا يكون حكيما في دعوته إلا بفقهه لركائز الدعوة، وذلك: بمعرفة ما يدعو إليه، وما هي الصفات والأخلاق والآداب التي ينبغي أن يلتزم بها الداعية، ومعرفة المدعوين وأصنافهم، والوسائل والأساليب التي تستخدم في نشر الدعوة وتبليغها. 20 - إن الدعوة بالمواقف الحكيمة المشرفة، لها الأثر البالغ قي قلوب المدعوين؛ لأنها تدفعهم إلى التفكر والتأمل، ثم تكون نقطة التحول في نظام حياتهم بإذن الله تعالى. 21 - إن اطلاع الداعية على مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الحكيمة في عفوه وصفحه، ورفقه وحلمه وأناته، وشجاعته، وجوده وكرمه، وإصلاحه، من أعظم ما يفيد الداعية في حياته، وخاصة في دعوته إلى الله- تعالى-. 22 - إن للصحابة وأتباعهم ومن سار على نهجهم مواقف حكيمة في دعوتهم إلى الله- تعالى-، تدل على صدقهم ورغبتهم فيما عند الله - تعالى-، وتبين مدى جهودهم، وتغذي وتربي من اطلع عليها من الدعاة إلى الله - تعالى-. 23 - إن من أعظم الحكمة في دعوة الملحدين أن تقدم لهم الأدلة الفطرية على وجود الله- تعالى- وربوبيته، والبراهين العقلية القطعية بمسالكها التفصيلية، والأدلة الحسية المشاهدة، ثم يختم ذلك بالأدلة الشرعية. 24 - إن من الحكمة في دعوة الوثنيين بالحكمة القولية أن يقدم لهم الداعية الحجج والبراهين العقلية على إثبات ألوهية الله - تعالى-، وأن

الكمال المطلق له من كل الوجوه، وما عبد من دونه ضعيف من كل وجه، وأن التوحيد الخالص دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام والغلو في الصالحين سبب كفر بني آدم، والشفاعة لا تنفع إلا بإذن الله للشافع ورضاه عن الشافع والمشفوع له، وأن البعث ثابت بالأدلة العقلية والنقلية القطعية، وأن الله الذي سخر جميع ما في هذا الكون الفسيح لعباده فهو في الحقيقة المستحق للعبادة وحده. 25 - إن دعوة اليهود بالحكمة القولية إلى الله - تعالى- ترتكز على إثبات نسخ الإسلام لجميع الشرائع، وإظهار وإثبات وقوع التحريف في التوراة، واعتراف المنصفين من علمائهم، وإثبات رسالة عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام. 26 - إن دعوة النصارى بالحكمة القولية إلى الإسلام تقوم على إبطال عقيدة التثليث، وإثبات وحدانية الله - تعالى-، وتقديم الأدلة العقلية والبراهين القطعية على إثبات بشرية عيسى صلى الله عليه وسلم، وأنه عبد الله ورسوله، ثم تقديم البراهين على إبطال قضية الصلب والقتل، وإثبات وقوع النسخ والتحريف في الأناجيل، وتتويج ذلك بالاعترافات الصادقة من المنصفين من علماء النصارى. 27 - إن من حكمة القول مع أهل الكتاب وغيرهم من الكفار أن تقدم لهم الأدلة والبراهين القطعية على صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك ببيان معجزات القرآن الكريم التي عجز عنها جميع الجن والإنس، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية المشاهدة، ثم تتويج ذلك بالأدلة القطعية على عموم رسالة الإسلام في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة. 28 - إن من مقتضى العقول السليمة والحكمة السديدة أن لا يخاطب المسلم- في توجيهه وإرشاده وحثه على الالتزام بدينه- كما يخاطب الملحد، أو الوثني، أو الكتابي، أو غيرهم من الكفار.

29 - إن من الدعوة إلى الله بالحكمة أن يبدأ الداعية بالمهم، ثم الذي يليه، وأن يجعل للمدعو من الدروس ما يسهل عليه حفظها وفهمها، والتفكر التام فيها، وأن يعلم العوام ما يحتاجون إليه بألفاظ وعبارات قريبة من أفهامهم تناسب مستواهم مع مراعاة التنويع في الأسلوب والتشويق. 30 - إن مراتب الدعوة بحسب مراتب البشر، فالقابل للحق يدعى بالحكمة، فيبين له الحق بدليله: علما وعملا واعتقادا، فيقبله ويعمل به. وهذا هو القسم الأول من المسلمين، والقابل للحق الذي عنده شهوات تصده عن اتباع الحق يدعى بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، ويغذى بالحكمة التصويرية: من القصص الحكيم، وضرب الأمثال، ولفت القلوب والأنظار إلى الصور المعنوية وآثارها، والآثار المحسوسة. وهذا هو القسم الثاني من المسلمين وهم العصاة. والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن. والظالم الذي عاند وجحد ولم يقبل الحق بل وقف في طريقه، فهذا يدعى بالقوة إن أمكن. فهذه مراتب الدعوة بحسب مراتب البشر، ويلاحظ أن مرتبة الحكمة ملازمة لجميع المراتب الأخرى، وذلك؛ لأن الحكمة في الحقيقة هي وضع الشيء في موضعه والإصابة في الأفعال والأقوال والاعتقادات إصابة محكمة متقنة. 31 - إن استخدام القوة الفعلية في الدعوة إلى الله- تعالى- من أعظم الحكم عند الحاجة إليها، وهي تكون بقوة الكلام، والتأديب، وبالضرب، وبالجهاد في سبيل الله تعالى. ومفهوم القوة الحكيمة في الدعوة إلى الله تعالى ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: حكمة القوة مع جميع الكفار: من الملحدين، والوثنيين، وأهل الكتاب، وغيرهم من الكفار، فهؤلاء إذا لم ينفع فيهم جدالهم بالتي هي أحسن، ولم يستفيدوا من حكمة القول: العقلية والحسية، والنقلية، والبراهين والمعجزات، وأعرضوا وكذبوا، فحينئذ يكون آخر الطب الكي: وهو استخدام القوة بالجهاد في سبيل الله- تعالى-: بالسيف، والسنان، والحجة، والبيان، وبجميع ما يستطيع المسلمون من قوة، بشرط مراعاة الشروط والضوابط الشرعية، مع الإعداد المعنوي والحسي للجهاد، والعمل بأسباب النصر على الأعداء. القسم الثاني: حكمة القوة مع عصاة المسلمين، فهؤلاء، إذا لم ينفع فيهم الوعظ، والترغيب، والترهيب، والقصص الحكيم، وضرب الأمثال، ولم يؤثر فيهم ما يلقى إليهم من الحكمة التصويرية، ولفت أنظارهم إلى الصور المعنوية والآثار المحسوسة، فحينئذ يكون من الحكمة في دعوتهم إلى الله استخدام القوة: بالكلمة القوية مع الفعل الحكيم، وبالتهديد الحكيم والوعيد بالعقوبة، وبالتعزير، والهجر لله - تعالى-، وإقامة الحدود الشرعية بالشروط والضوابط التي دل عليها الكتاب والسنة.

التوصيات والمقترحات

أما التوصيات والمقترحات 1 - فإني أوصي نفسي وإخواني الباحثين والدعاة بتقوى الله- تعالى-، فهي وصية الله للأولين والآخرين، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] (¬1). 2 - التزام الحكمة في جميع الأمور، وخاصة في الدعوة إلى الله -تعالى- قولا وفعلا، وتفكيرا، ومنهجا، وسلوكا، صدقا وإخلاصا ورغبة فيما عند الله -عز وجل-، وهذا من أعظم العطايا وأجل الهبات، ولا يكون ذلك إلا بالتزام أحكام القرآن الكريم والسنة المطهرة الشريفة، والعناية بهما حفظا وفهما وعملا، وتعليما للناس ودعوة، فهما المنبعان الصافيان، من أخذ بهما سعد وفاز في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنهما وعن هديهما خاب وخسر وضل مسعاه، وتشتت شمله. 3 - أقترح عقد دورات تدريبية علمية وميدانية للعاملين في مراكز الدعوة ومراكز هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لرفع مستواهم العلمي وتدريسهم كيفية دعوة الناس بالحكمة. وأسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يجعلني وإياهم وجميع المسلمين من القائلين بالحق وبه يعملون، وأن يحسن لنا جميعا النية والقصد والعاقبة، إنه حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية 131.

§1/1