الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم

الميداني، عبد الرحمن حبنكة

المقدمات

المقدمات: فاتحة كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم: الحمد لله الرحمن الرحيم، ذي السلطان العظيم، والمن القديم، والوجه الكريم، والكلمات التامات، والدعوات المستجابات، والمشيئات النافذات، الذي لا يتم شيء من ذوي الإرادات إلا بإذنه وتيسيره، وإمداده بالحول والقوة، فإنه لا حول ولا قوة إلا به. والصلاة والسلام على خاتم أنبياء الله ورسله محمد بن عبد الله الذي ختم به وبما أنزل عليه رسالاته للناس، وعلى سائر الأنبياء الطاهرين الأبرار، والمرسلين المصطفين الأخيار الذين بلغوا رسالات ربهم، فأدوا الأمانة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وكانوا بناه مخلصين صادقين في صرح الحضارة المجيدة التي اصطفاها الله للناس أجمعين، وكان كل لاحق منهم عاملًا في إكمال بنائه النظري الفكري والتدريب على بنائه العملي، حتى ختم الله ذلك بمحمد بن عبد الله العربي الهاشمي الأمين، الذي أنزل عليه القرآن المبين، ومثله معه من وحي وتبيين. وبعد: فقد مضى قرابة "28" سنة على إخراجي لكتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها" الذي كنت قد وعدت فيه بأن أُتِم -إن شاء الله- الخطة العامة لكتاب "الحضارة الإسلامية" بكتاب لاحق يشتمل على البابين الثالث والرابع من الخطة

- صورة من تطبيقات المسلمين للحضارة الإسلامية النظرية. - لمحات من تأثير الحضارة الإسلامية وتطبيقاتها في سائر الأمم التي لم تدن بالإسلام، ولكنها التقت بالمسلمين لقاء مودة أو لقاء خصام. وخلال هذه المدة الطويلة قضى الله جل جلاله بأن تشغلني عن إكمال الكتاب بهذين البابين اجتهادات في إخراج مؤلفات كثيرات زادت على "28" مؤلفًا، في موضوعات مختلفات، وبعد طبعتين من كتاب "أسس الحضارة ووسائلها" توقفت دار القلم بدمشق التي تنشر كتبي عن تجديد طباعته؛ لانشغالها بطباعة المؤلفات الأخرى. وقبيل أواخر سنة "1417هـ" اتصل بي صاحب دار القلم وطلب مني أن أوافق على إعادة طبعه، فألهمني الله جل جلاله أن أطلب منه التريث، لعل الله جلت قدرته يقضي لي بإكمال ما سبق أن وعدت به، فوجهت العزيمة والمهمة، وسألت الله العون والتوفيق والإمداد بالحول والقوة، وشرعت في إعادة النظر في الكتاب، وفي كتابة البابين الذين كنت وعدت بأن أوافي القراء بهما إن شاء الله تبارك وتعالى. وقد شاء الله بفضله ومنه وكرمه بعد نحو "28" عامًا بأن أحقق ذلك؛ إذ كان وعدي معلقًا على مشيئته جل جلاله كما أمرنا في كتابه بقوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 23، 24] . واخترت أن أجعل الأصل واللاحق في كتاب واحد بعنوان "الحضارة الإسلامية" أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها، ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم. فالحمد لله على ما يسر ووفق وقضى، وأسأله أن يعينني على ذكره وشكره وحسن عبادته. والآن أدفع الكتاب للنشر، بعد أن تمت العناصر التي كانت مرسومة في خطته.

والله أسأل أن ينفع به علمًا للجاهلين، وتنبيهًا للغافلين، وإقناعًا للشاكين، وتبصيرًا للمتأثرين بزيوف الضالين المضلين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الطائف في صباح يوم السبت 13 من ربيع الآخر 1418هـ الموافق لـ"16" من شهر آب "أغسطس" 1997م. عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني

مقدمة الطبعة الثانية لكتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها"

مقدمة الطبعة الثانية لكتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها": بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وجعل دينه الذي اصطفى للناس دين حضارة سليمة وارتقاء صحيح إلى مجد الإنسان في دار الابتلاء ثم في دار الجزاء. وبعد: فأقدم لقراء العربية الطبعة الثانية من كتابي هذا "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها" بعد أن نفدت نسخ الطبعة الأولى منه، سائلًا الله تعالى أن ينفع به شباب هذه الأمة، فيعملوا على بناء الحضارة الإسلامية بناء صحيحًا، مستهدين في ذلك بكتاب الله وسنة رسوله محمد خاتم الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليه- والمتمم لرسالات من سبقه من رسل الله. والمطلع على هذا الكتاب من ذوي الثقافة الواعية، يرى أنني في تصور الحضارة الإسلامية وتحديد مفاهيمها قد جعلت مرجعي كتاب الله وسنة رسوله وسيرته في حياته، ولم تحرفني عن ذلك مفاهيم قاصرة أو منحرفة للحضارة، أخذت بها الحضارات غير الإسلامية القديمة والحديثة. والحق الذي جاء به الإسلام بطريقة فذة كاملة لا بد أن يتفق مع عناصر الحق الموجودة لدى المفاهيم الإنسانية، ويختلف مع عناصر الباطل الموجودة لديها، فما كان من لقاء بينه وبينها فهو اتفاق في الحق، وما كان من افتراق بينه وبينها فهو اختلاف بين الحق الذي جاء هو به، والباطل الذي أخذت هي به.

رب أرزقنا العلم الصحيح، والعمل الصالح، والإخلاص في القول والعمل، واجعلنا هادين مهديين، ولا تجعلنا ضالين ولا مضلين، بفضلك ومنك وكرمك يا رب العالمين. مكة المكرمة 1/ 1/ 1398هـ عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني

فاتحة كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها"

فاتحة كتاب؛ "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها": الحمد لله، والصلاة والسلام على رسله منشئي الحضارات الإنسانية الراقية، وفاتحي سبل التقدم والرقي الإنسانيين، وأتم الصلاة والتسليم على من كملت ببعثته الأسس الحضارية محمد النبي العربي الذي اصطفاه الله لتبليغ رسالته للناس جميعًا، فأدى الأمانة، وأخلص النصيحة، ووضع الإنسانية بتعاليمه وتربيته في طريق المجد الصاعد إلى قمم الحضارة المثلى الفكرية والروحية والنفسية والمادية، الفردية والاجتماعية، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان من الذين أسهموا في بناء حضارة المسلمين، مستهدين بهدي كتاب الله، وسنة رسوله، وبعد فقد كلفت تدريس مادة "الحضارة الإسلامية" في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة، بدءًا من العام الدارسي 1389-1390 للهجرة النبوية، فأمعنت النظر في هذه الحضارة المجيدة، فوجدت أن البحث فيها لا بد أن يتناول عدة جوانب تقع في مخطط كلي عام ذي أربع شعب: الشعبة الأولى: البناء الفكري لهذه الحضارة، وهو يشمل الأسس الفكرية، والكليات الكبرى التي تقوم عليها هذه الحضارة. الشعبة الثانية: وسائل بناء هذه الحضارة بناءً واقعيًّا. الشعبة الثالثة: أثر البناء الفكري للحضارة الإسلامية، وأثر وسائلها في المسلمين، ونماذج وأمثلة مما أنجزه المسلمون من أعمال حضارية، دفعتهم إليها أسس الحضارة الإسلامية. الشعبة الرابعة: أثر الحضارة الإسلامية في الأمم الأخرى التي احتكت بالمسلمين، غالبة أو مغلوبة.

ومن أجل ذلك قسمت البحث في هذه المادة العلمية إلى أربعة أبواب، فجعلت لكل شعبة من الشعب الآنفة الذكر بابًا خاصًّا بها، التزامًا بمتطلبات التقسيم المنطقي السليم، وتسلسلًا مع ما تمليه طبيعة البحث العلمي المتدرج من أسس موضوع البحث إلى فروعه، فثمراته، فكل مظاهر زينته. وبعد البحث المقرون بشيء من الأناة والتبصر كان هذا الكتاب الذي أقدمه إلى طلاب المعرفة، عسى أن يستنير به المستبصرون، وينتبه به الغافلون، ويصحو به المفتونون، ويفرح به المؤمنون. وكلي أمل ورجاء أن يعود المسلمون إلى رشدهم، ويأخذوا بأسباب الحضارة الإسلامية المجيدة، حتى يعود لهم مجدهم الغابر، ومجد جديد يبنونه عليه في ارتقاء وتقدم تتطلبهما حاجات التطلع الإنساني إلى الكمال. والله أسأل أن يهيئ للمسلمين وسائل النصر والتأييد، والرجوع إلى مركز القيادة الذي كانوا يحتلونه من قبل يوم كان الإسلام فيهم عقيدة وعملًا، ولقد تصادف أيها القارئ الكريم كثرة في الاستشهادات القرآنية بالنسبة إلى بعض البحوث، والداعي إلى ذلك أن البحوث أبكار، ومما تختلف فيه وجهات الأنظار، وقد أردت أن تشاركني ما استبان لي منها بالتأمل، فرأيت أن أضع بين يديك الشواهد القرآنية، وما تتضمنه من دلالات واضحات. وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. مكة المكرمة في 1/ 6/ 1390هـ عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني

الفصل الأول: تحليل معنى الحضارة وموقف الإسلام من التقدم الحضاري

الفصل الأول: تحليل معنى الحضارة وموقف الإسلام من التقدم الحضاري المقولة الأولى: تحليل معنى الحضارة والسبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري ... المقولة الأولى: تحليل معنى الحضارة والسبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري 1- تحليل معنى الحضارة: إذا كانت الحضارة تعني في أصل اللغة إقامة مجموعة من الناس في الحضر، أي في مواطن العمران، سواء كانت مدنًا أم حواضر أم قرى، فإن معناها قد توسع عند المؤرخين والباحثين الاجتماعيين حتى صار شاملًا لجميع أنواع التقدم والرقي الإنسانيين؛ لأنهما لا يزدهران إلا عند المستقرين في مواطن العمران. وبإحصاء صور التقدم والرقي عند الإنسان نستطيع أن نرجعها إلى الأصناف الثلاثة التالية: الصنف الأول: ما يخدم الجسد ويمتعه من وسائل العيش، وأسباب الرفاهية والنعيم، ومعطيات اللذة للحس أو للنفس. ويدخل في هذا الصنف أنواع التقديم العمراني والزراعي والصناعي والصحي والأدبي والفني، والتقدم في الإنتاج الحيواني، واستخراج كنوز الأرض، والاستفادة من الطاقات المنبثة فيها، وما أشبه ذلك. ويدخل ضمن هذا جميع أنواع العلوم والثقافات التي تخدم هذا الصنف. الصنف الثاني: ما يخدم المجتمع الإنساني، ويكون من الوسائل التي تمنحه سعادة التعاون والإخاء والأمن والطمأنينة والرخاء، وتمنحه سيادة النظام والعدل والحق، وانتشار أنواع الخير والفضائل الجماعية. ويدخل في هذا الصنف أنواع التقدم الاجتماعي الشامل للنظم الإدارية، والحقوقية، والمالية، والأحوال الشخصية، والشامل للأخلاق والتقاليد والعادات

الفاضلات، وسائر طرق معاملة الناس بعضهم بعضًا في علاقاتهم المختلة. وكل أنواع الثقافات والعلوم التي تخدم هذا الصنف. الصنف الثالث: ما يأخذ بيد الإنسان فردًا كان أم جماعة إلى السعادة الخالدة التي تبدأ منذ مدة إدراك الإنسان ذاته والكون من حوله، وتستمر مع نفسه وروحه الخالدتين إلى ما لا نهاية له في الوجود الأبدي، الذي ينتقل من حياة جسدية مادية يكون فيها الابتلاء، إلى حياة نفسية روحية برزخية يكون فيها بعض الجزاء، ثم إلى معاد جسدي نفسي وروحي يكون فيه كامل الجزاء. ويدخل في هذا الصنف أنواع التقدم الفكري القائم على التأملات الحكمية، التي توصل الإنسان إلى معرفة الخالق، وسر وجود الإنسان، وغايته ومصيره، وواجبه في الحياة الدنيا، وسبل سعادته الأبدية الخالدة, وهي الأمور التي تحمل اسم المعتقدات والواجبات الدينية وسائر التكاليف والآداب الشرعية الإسلامية. 2- السبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري: ولتحقيق التقدم والرقي الحضاريين عدة سبل: 1- ما ينزل به الوحي، أو يفيض به الإلهام. 2- ما يتوصل إليه العقل بالبحث العلمي. 3- ما يكتسبه الإنسان عن طريق الاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية مع الملاحظة الدقيقة لجوانب الخطأ والنقص، وما يستدعيه الكمال. أما الصنف المادي لصور التقدم والرقي عند الناس فالسبيل الطبيعي إليه إنما هو استخدام العقل في البحث العلمي والاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية العملية، مع الملاحظة الدقيقة لجوانب الخطأ والنقص وما يستدعيه الكمال.

وقد يُسعف الوحي أو يفيض الإلهام بشيء من ذلك فنجده أخصر طريق إلى الكمال فيه. وأما الصنف الذي يخدم المجتمع الإنسان فللتقدم والرقي فيه سبيلان: السبيل الأول: التلقي التعلمي عن طريق الوحي، وذلك في كل ما تكفلت الشرائع الربانية ببيانه، ولا يعدل عن ذلك إلا متنكب سواء السبيل. السبيل الثاني: استخدام العقل في البحث العلمي والاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية العملية، مع الملاحظة الدقيقة لجواجب الخطأ والنقص، وما يستدعيه الكمال. وأما الصنف الذي يأخذ بيد الناس إلى السعادة الخالدة، وهو المشتمل على المعتقدات والواجبات الدينية، وسائر التكاليف والآداب الشرعية التعبدية فالسبيل إلى تحقيق التقدم والرقي فيه إنما يكون بالتلقي التعليمي عن طريق الوحي فقط. وبدهي أن تلقي ما يأتي به الوحي وينطق به الرسل عليهم الصلاة والسلام لا بد أن يرافقه إعمال العقل في التأمل، والتدبر، والفهم الصحيح، والتحليل والتركيب، والاستنباط، وقياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض، ولا بد أن يرافقه أيضًا إعمال العقل في التحقق والتثبت من سلامة النصوص من التحريف والتبديل، بحثًا في الرواية، ونظرًا في صحة المعنى. ترتيب الأصناف الثلاثة: بالنظر إلى الثمرات التي يجنيها الإنسان من كل صنف من أصناف التقدم والرقي السابقة لا بد أن نلاحظ أن سلم الرقي مرتب الدرجات بشكل صاعد، بدءًا من الصنف الأول الذي يخدم الجسد الفانين وارتقاء إلى الصنف الثاني الذي يخدم المجتمع الإنسان، ثم إلى الصنف الثالث الذي تنضوي تحته أسباب

سعادة الإنسان الخالدة، بما فيه من سمو المعرفة الكبرى وبما فيه من تحقيق لرضا الله تعالى. وبذلك يكون سلم الرقي الإنساني والحضارة المثلى ذا مراتب ثلاث، أسماها مرتبة ما يأخذ بيد الإنسان فردًا كان أم جماعة إلى السعادة الخالدة، ومن دونها تأتي مرتبة الرقي الذي يمنح المجتمع الإنساني سعادة التعاون والإخاء، والأمن والطمأنينة والرخاء، وسيادة النظام والحق والعدل، ثم تأتي من دونهما مرتبة الرقي المادي الذي يخدم الجسد الفاني ويمتعه. ولكل من هذه المراتب درجات كثيرات يتفاضل الناس فيها بمقدار ما يرتقون منها، وفي درجات هذه المراتب يتنافس المتنافسون من الأمم في إحراز السبق الحضاري الأمثل. وقد تحرز أمة من الأمم سبقًا حضاريًّا في إحدى هذه المراتب في حين أنها قد تكون في أقصى دركات التخلف الهمجي بالنسبة إلى غيرها من المراتب. أما الإسلام فإنه قد هيأ للملتزمين به كل أسباب التقدم والرقي الحضاريين، ودفعهم بقوة إلى قمم المجد المادية والمعنوية، الفردية والاجتماعية، أما عوامل التخلف في عصور الانحطاط، فهي من صنع الجاهلين، وتضليلات المعادين.

المقولة الثانية: موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري

المقولة الثانية: موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري بدراسة موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري تبين لنا أن الإسلام قد تولى تحديد المرتبة العظمى، وإقامة معالمها، وإنارة سبيلها، ودعا الناس جميعًا إلى الأخذ بها، والانتفاع من ثمراتها العاجلات والآجلات. ورسم للناس المنهاج القويم الذي يكفل لهم سبقًا عظيمًا في درجات المرتبة الوسطى، فأنزل لهم الشرائع والأحكام الكفيلة بأن تقيم لهم مجتمعًاإنسانيًّا فاضلًا، إذا التزموا بتطبيقها، وترك لهم مجالًا واسعًا للاستزادة من النظم الحضارية التي أذن لهم بأن يتابعوا تطويرها وتحسينها بحسب ما تقضي به مصالح معاشهم ورفاهيتهم، أما المرتبة الدنيا التي تحتوي على ما يخدم الجسد ويمتعه فقد أطلق الإسلام للناس مجالات الابتكار فيها والتحسين والتنافس، استجابة لدوافع غرائزهم وشهواتهم، ومختلف أنواع ميلهم النفسي إلى زينة الحياة الدنيا ما لم يتجاوزوا في شيء من ذلك بالاستعمال جانب الخير إلى جانب الشر. وحثهم في جانب كل ذلك على العمل والإتقان، والانتفاع من كل ما جعل بين أيديهم من كنوز وطاقات في الأرض وفي السماء. وبذلك تكون الحضارة الإسلامية معنية بالبدء من القمة نظرًا إلى شرف الغاية التي توصل إليها المرتبة العليا من مراتب الحضارة الإنسانية، ثم توجه عنايتها البالغة إلى المرتبة الوسطى، ثم تنتقل بالناس إلى المرتبة الدنيا، وتأخذ بأيديهم، وتدفعهم للارتقاء في درجاتها بكل ما يستطيعون من قوة ابتكار وتحسين من التقدم الحضاري أوفى نصيب وأسماه، وذلك لأن الإسلام قد أحب للناس كل أنواع التقدم والرقي الحضاريين، إلا أنه باشر بنفسه الأهم فتولاه تداركًا لبني آدم حتى لا يطول أمدهم في الهمجية والانحراف والشتات، وتحقيقًا لحكمة الابتلاء التي يكمن فيها سر خلق الله الإنسان كائنًا ذا عقل وإرادة ومقدار من القدرة على التنفيذ، وهذه هي الشروط اللازمة للابتلاء. أما المهم فقد تركه الإسلام للعمل الإنساني الذي يقوم على التطوير والتحسين والابتكار والتنافس، لإحراز السبق في شتى الميادين الحضارية. وربما نلاحظ في أمم الأرض صورًا حضارية كثيرة، لكنها في معظم أحوالها لا تعدو درجات المرتبة الدنيا، وبعض درجات المرتبة الوسطى من مراتب الرقي الحضاري، وكثيرًا ما تصاب الإنسانية بويلات جسام نتيجة لسبق حضاري مادي مجرد عن حضارة خلقية ونفسية ذات سلوك فاضل، فيكون هذا

السبق المادي وسيلة للطغيان وخراب العمران، والإفساد في الأرض، وحلول الشر المستطير. وبذلك تنقلب الصورة الحضارية المادية إلى وجه همجي متجهم كالح، مقعم بالخشية واللؤم والشر والفساد. وذلك لأن الغرائز النفسية في الناس إذا بقيت على حالتها الهمجية، ووجدت بين يديها الوسائل المادية المتقدمة، فإنها ستحرض الناس على استخدام هذه الوسائل المتقدمة في السطو والظلم والعدوان والتكالب على الشهوات واللذات، استخدامًا مفرطًا في الهمجية بعيدًا عن كل معنى حضاري كريم. وحينئذ يكون التقدم الحضاري في تحسين الوسائل المادية فقط سببًا من أسباب الإمعان في البعد عن المنهج الحضاري الأمثل للإنسانية الفضلى، وسببًا من أسباب الإغراق في الهمجية المفرطة، التي لا تعرف إلا الأنانية المادية، والتكالب على الشهوات، وتناهب اللذات، والرغبة بالسطو والظلم والعدوان. وقد كان من الخير لهذه الهمجية المفرطة المنصرفة عن كل رقي في المفاهيم الفكرية والعقائد والأخلاق والعلاقات الاجتماعية أن تظل على وسائلها البدائية، حتى لا تجد بين يديها ما توسع به دائرة الإثم والشر والإفساد والضر، والفتك بالآخرين، إرضاء للغرائز المتوحشة التي لا تحد أنانياتها ومطامعها وغضبها وكراهيتها وحقدها حدود من الغريزة. وإن إنسانًا من هذا النوع لا بد أن يكون أضل سبيلًا من الأنعام، بل أضل سبيلًا من الوحوش المفترسة العقورة. وذلك لأن هذه الأحياء المتوحشة ذات غرائز محدودة المطامع والآمال بحدود حاجاتها العضوية، فإذا أخذت حاجاتها كفت واستغنت، ريثما تتجدد حاجاتها مرة أخرى.

بيد أن الإنسان مفطور على غرائز ترافقها آمال ومطامع نفسية غير ذات حدود، فهي لا تكف عن الطلب والمتابعة، والرغبة بالحيازة والتملك، أو السطو والتسلط، مهما نالت ما يكفيها ويغنيها، ومهما جمعت ما يكفي ذرياتها ويغنيهم، ولو إلى ألوف الأجيال من وارئها، فلو أوتي ابن آدم واديًا من ذهب لابتغى إليه ثانيًا، ولو أتى لابتغى إليه ثالثًا، وهكذا تتجدد مطامعه إلى ما لا نهاية له، وكم أدى الحقد ببعض المتسلطين إلى أن يدمروا مدنًا، ويقوضوا حضارات، ويقتلوا مئات الألوف من الناس. ولما جعل الخالق العظيم غرائز الإنسان منفتحة الحدود وهبه العقل والإرادة ليكبح جماح غرائزه وشهواته ومطامعه، ويحدها في الحدود النافعة، ويكفها عن التجاوز الضار به أو بالمجتمع الإنساني المشارك له في سكنى الأرض، والعيش في هذه الحياة الدنيا، وأنزل له الشرائع السماوية تعليمًا وتربية، وترغيبًا وترهيبًا، وذلك ليبلوه في ظروف الحياة الدنيا، ثم ليحاسبه ويجازيه يوم الدين. وحينما يعطل الإنسان عقله وإرادته عما خلقا من أجله، فإنه سيهوي حتمًا إلى همجية سحيقة، أحسن مرتبة من همجية الأنعام، بل أخس مرتبة من همجية الوحوش المفترسة. إذن فلا يصح أن تقاس حضارة الإنسان المثلى على وجه العموم بمقدار ما يتوصل إليه من تقدم في ابتكار الوسائل المادية، التي تخدم الجسد الفاني، وتحقق لذاته، ومتعه وراحته وقوته، واختصاره الزمن له، وتقريب المسافات وإنما هي لون حضاري يتناول جانبًا من جوانب النشاط الإنساني، وهو الجانب المادي. ولا يرتقي هذا النشاط المادي في سلم الخير ما لم يرافقه تقدم حضاري اجتماعي ونفسي وفكري ضمن الأسس الدينية الربانية، وإلا كان تدنيا في درك الشر، وسببًا للإفراط في الهمجية، والبعد عن كل مرتقى حضاري كريم.

وهنا نلاحظ أنه يعسر على كثير من قصيري النظر أن يفهموا الرقي الحضاري إلا في مجال التقدم المادي، القائم على إمتاع الجسد ورفاهيته، واختصار الزمن، وتنمية وسائل القوة، وهؤلاء هم الذين يقعون في الغالب فريسة تضليلات أعداء الإسلام. مع أن الرقي الحضاري في جانب الوسائل المادية فقط، والمقرون بالتخلف الحضاري في جوانب المفاهيم الفكرية الراقية، عن الكون والإنسان والحياة والوجود بأسره، والمقرون بالتخلف الحضاري، في العقائد الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والعلاقات الاجتماعية الخيرة، والمراقي النفسية والروحية المشرقة، لا بد كما أوضحنا آنفًا من أن يسوق الإنسانية إلى شر مستطير، تقوض فيه بنفسها أركان حضارتها، التي تصنعها في أجيال وقرون، وتذمر فيه بنفسها أبنية مجدها المادي الذي بلغته، مهما تكن درجته تبهر الناظرين، وتدهش الأنفس، فيأخذ بتمجيدها قصار النظر الذين ينظرون إلى السطوح فقط، ولا يتفكرون فيما وراء هذه السطوح من شرور كمينة، سيصيبها الانفجار، الذي يحدث به الدمار، متى لامستها شرارة من الغضب أو الحقد أو الطمع أو الحسد، أو الأنانية الضيقة، أو التعصب الذميم، أو الجنوح الفكري عن منهج الحق والعدل والخير للإنسانية جمعاء. وذلك لأن التقدم في تحسين وسائل الرفاهية وقوى الفتك، مع همجية المفاهيم الفكرية، والمعتقدات الفاسدات، ومع الأخلاق الشرسة، والغرائز المتوحشة، والشهوات العارمات، والرغبة بالتسلط والانتقام، والاستئثار بكل خيرات الدنيا، أشد خطرًا على الإنسانية ومعالم حضارة القرون الزاهرة من التخلف في هذا المجال، مهما يكن تخلفًا قبيحًا. فالوسائل المتقدمة ستغري الغرائز المتوحشة الهمجية بالفتك والعدوان والظلم، كما تثير نزوات الغضب، وحفائظ الحقد والتعصب في طبائع الإنسان الهمجي، وذلك بما تشعره من قدرة على تلبية نزواته وأهوائه، ورعوناته، دون أن يكون عرضة لانتقام الآخرين منه بشكل مؤكد.

أما الإسلام فإن مثله -إذا يسير بالإنسانية في جوانب التقدم المختلفة، ومنها جانب التقدم المادي- كمثل الذي يصنع القنبلة الذرية، ويصنع معها صمام الأمان، الذي يحمي من خطر انفجارها في غير الوقت والمكان اللذين يحسن أن تنفجر فيهما. وقنبلة التقدم المادي إنما يحسن انفجارها في نظر الإسلام حينما يكون ذلك وسيلة خير للإنسانية جمعاء، ودرء لضر مردة الشياطين من الإنس، وصمام الأمان لكل أنواع التقدم المادي لا يكون إلا بالتزام ما جاءت به الشرائع السماوية الصحيحة من عقائد وأخلاق وفضائل وأنظمة اجتماعية وفردية.

الفصل الثاني: أثر الأسس الفكرية والنفسية في بناء الحضارات

الفصل الثاني: أثر الأسس الفكرية والنفسية في بناء الحضارات لكل حضارة من الحضارات الإنسانية أسس فكرية ونفسية كانت لها هي القوة الدافعة، والموجهة، والمحددة لخط سيرها. ولذلك لا بد أن تكون المظاهر الحضارية لكل أمة نتائج ملائمة لمجموعة الأفكار والعقائد والتقاليد والعوامل النفسية المهيمنة عليها، يشهد لهذه الحقيقة الأمثلة التالية. أولًا: كانت الأسس الفكرية عند اليونان الإغريق قائمة على تمجيد العقل. ولذلك كانت مظاهر حضارتهم ذات صلة وثيقة بهذه الأسس؛ إذ أثمرت لهم خلال قرون علومًا فلسفية ورياضية ونفسية وطبية، وفنونًا جمالية مختلفة. ولما كانت أسسهم الفكرية غير شاملة لحاجات الحياة كلها لم تستطع حضارتهم أن تعطي الصورة المثلى للحضارة الإنسانية. ثانيًا: وكانت الأسس الفكرية عند الرومان قائمة على تمجيد القوة، والرغبة ببسط السلطان الروماني على الشعوب، لذلك كانت مظاهر حضارتهم ذات صلة وثيقة بهذه الأسس؛ إذ أثمرت لهم خلال قرون إعداد أجساد قوية، وجيوش متقنة البناء، حسنة الاستعدادات والتدريبات الحربية، وأورثتهم هذه القوة سلطانًا ممتدًا في الأرض على شعوب كثيرة، غلبوها واستعمروها، واستغلوا خيراتها، كما أثمرت لهم أيضًا اشتراع مجموعة من القوانين والتنظيمات المدنية والعسكرية.

ولما كانت أسسهم الفكرية والنفسية غير شاملة لحاجات الحياة كلها لم تستطع حضارتهم أن تعطي الصورة المثلى للحضارة الإنسانية. ثالثًا: وكانت الأسس الفكرية عند الفرس قائمة على تمجيد اللذة الجسدية، والسلطان، والقوة الحربية، ولذلك كانت مظاهر حضارتهم ذات صلة وثيقة بهذه الأسس؛ إذ أثمرت لهم خلال قرون قصورًا فخمة، ومجالات كثيرة للترف المفرط، وجيوشًا حربية ذات بأس، بسطت سلطانهم على شعوب كثيرة غلبوها واستعمروها، واستغلوا خيراتها. ولما كانت أسسهم الفكرية والنفسية غير شاملة لحاجات الحياة كلها، لم تستطع حضارتهم أن تغطي الصورة المثلى للحضارة الإنسانية. رابعًا: وكانت الأسس الفكرية عند الهنود قائمة على تمجيد القوى الروحية وتنميتها بقهر مطالب الجسد وكبت غرائزه، ولذلك كانت مظاهر حضارتهم ذات صلة وثيقة بهذه الأسس؛ إذ أثمرت لهم خلال قرون مجموعة كبيرة من التعاليم الروحية التي أخذت بتطاول الأمد صبغة ملل ونحل وديانات، ووجهتهم للتعلق بالعلوم الروحانية المختلفة، كالسحر، وفنون الحيلة الخادعة للحواس، التي تعتمد على التلاعب بها، والتأثير على النفوس من ورائها، ومنحتهم مهارات مختلفة في التأثير على الأحياء الشرسة، فكثر فيهم حواة الثعابين والحيات والعقارب، ونحو ذلك من الهوام السامة المؤذية. ولما كانت أسسهم الفكرية والنفسية غير شاملة لحاجات الحياة كلها لم تستطع حضارتهم أن تُعطي الصورة المثلى للحضارة الإنسانية. خامسًا: أما حضارة القرون الحديثة التي بدأت منذ أواخر القرن الثامن عشر للميلاد واستمرت في نموها المادي تمتد وتنتشر من مهدها في أوروبا إلى كثير من بلاد العالم فأسسها قائمة على تمجيد العلوم المادية، والاستفادة من جميع الطاقات الكونية الكمينة والظاهرة لخدمة الجسد، ومنحه وافر الرفاهية والمتعة واللذة؛ واختصار الزمن له، وتقريب المسافات، وتخفيف الجهد عنه،

ودفع الآلام الجسدية، وقائمة أيضًا على الرغبة ببسط السلطان على الشعوب، واستغلال خيراتها، وإعداد القوة الكفيلة بتحقيق ذلك بدءًا واستمرارًا. ولذلك نلاحظ أن مظاهر هذه الحضارة الحديثة ذات صلة وثيقة بهذه الأسس؛ إذ أثمرت لإنسان هذه القرون الحديثة ولمن يأتي من بعده مجموعة كبيرة جدًّا من العلوم المادية المتطورة المتقدمة، ومجموعة ضخمة من المبتكرات والمخترعات التي أفادت الإنسان في مختلف نواحي مطالبه المادية، السلمية والحربية، ومجموعة ضخمة من النظم والتشريعات الوضعية، التي ساهمت في تنظيم علاقات الناس أفرادًا وجماعات وأممًا وشعوبًا ودولًا، كما أثمرت له ذخائر كبيرة جدًّا من القوى الحربية الدفاعية والهجومية. ولا بد أن يلاحظ الباحثون المنصفون في هذه الحضارة الحديثة أن أسسها الفكرية غير شاملة لحاجات الحياة كلها، وذلك لإهمالها جوانب مهمة من حياة الإنسان النفسية والروحية والخلقية والسلوكية، ولاستهانتها بالجوانب الفكرية العليا، المتصلة بمنشأ الإنسان ومعاده، والغاية من وجوده. من أجل ذلك فإن هذه الحضارة الحديثة لن تستطيع أن تعطي الصورة المثلى للحضارة الإنسانية الراقية، وربما يكون تقدمها الباهر في وسائل الرفاهية وأعتدة القوة سببًا من أسباب دمارها المذهل إن عاجلًا أو آجلًا. سادسًا: وأما الحضارة الإسلامية فهي الحضارة الوحيدة التي تشتمل أسسها الفكرية والنفسية على حاجات الحياة كلها، من مختلف جوانبها الفكرية والروحية والنفسية والجسدية والمادية، الفردية والاجتماعية، ومن جميع المجالات العلمية والعملية. لذلك فهي جديرة بأن تمنح الأمم التي تلتزم بها وتسير في منهجها سيرًا قويمًا الصورة المثلى للحضارة الإنسانية الراقية. وقد استطاعت أسس هذه الحضارة ووسائلها ومناهجها أن تدفع الأمة الإسلامية في حقبة من الدهر للارتقاء في سلم الحضارة المجيدة المثلى، على مقدار التزامهم بأسسها ووسائلها ومنهجها السديد، وكانت نسبة الارتقاء الذي

أحرزته هذه الأمة نسبة مدهشة إذا قيست بالزمن والطاقات التي تيسرت لهم حينئذ، واستمروا في ارتقائهم المدهش حتى أدركهم الوهن والانحراف عن أسس الحضارة الإسلامية الصحيحة، ووسائلها الفعالة، ومنهجها السديد. ويظل ارتقاء قمم الحضارة المثلى أبد الدهر رهنًا بالتزام أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها ومنهجها. ولكن أعداء هذه الحضارة يوجهون قوى شتى خفية وظاهرة لمنعها من أن تسير في منهجها الإنساني القويم، لذلك فهي في صراع مستمر مع عوامل الهدم والشر والإفساد في الأرض، الأمر الذي يعوق تقدمها، ويعرقل سبيلها باستمرار.

الباب الأول: البناء الفكري للحضارة الإسلامية

الباب الأول: البناء الفكري للحضارة الإسلامية الفصل الأول: الحق والباطل 1- تعريفات: الحق: اسم عام يطلق على كل صورة فكرية أو قولية مطابقة لما عليه حال الشيء الذي تحكيه هذه الصورة وجودًا أو عدمًا. الباطل: نقيض الحق، فهو اسم يطلق على كل صورة فكرية أو قولية مخالفة لما عليه حال الشيء الذي تحكيه هذه الصورة وجودًا أو عدمًا. وقد تكون الصورة الفكرية أو القولية مطابقة من بعض الوجوه، ومخالفة من بعض الوجوه، فيكون فيها من الحق على مقدار المطابقة ومن الباطل على مقدار المخالفة. الأمثلة: فالصورة الفكرية أو القولية التي تحكي أن مكة المكرمة تقع في أرض الحجاز من شبه الجزيرة العربية من قارة آسيا حق. وصورة فكرية أو قولية أخرى تحكي أن مكة المكرمة موجودة في قارة أمريكا باطل. والصورة الفكرية أو القولية التي تحكي أن الله موجود وهو خالق كل شيء حق. وصورة فكرية أو قولية أخرى تحكي أن الله غير موجود أو أن لله شريكًا في خلقه وأمره باطل.

استعمالات قرآنية: أ- قال الله عز وجل في سورة "الحج: 22 مصحف/ 103 نزول": {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . الصورة الفكرية الاعتقادية التي تثبت أن الله هو الرب الخالق الذي لا إله غيره حق. والصورة الفكرية الاعتقادية التي تجعل مع الله إلهًا آخر باطل. ب- وقال الله عز وجل في سورة "الأحزاب: 33 مصحف/ 90 نزول": {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} . فكل صورة قولية يقولها الله تعالى هي حق لا شك فيه. ج- وقال تعالى في سورة "الكهف: 18 مصحف/ 69 نزول": {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} . وهذه الآية تعلن أن الصور القولية التي يجادل بها الكافرون لا سند لها من الواقع فهي باطل، وغرضهم منها أن يدحضوا بها الحق الذي جاء به المرسلون من عند ربهم. 2- نشدان الحقيقة: اقترن الدفع الإسلامي إلى مجد القمم الحضارية بنشدان الحقيقة أنى كانت، وطرح الخرافات والأباطيل من أية جهة صدرت، وتبصير الناس بالطرق المنطقية السليمة التي تهدي إلى الرشد، حقًّا كان أم خيرًا أم جمالًا.

فهو إذ يعرض على الناس الحقائق العلمية والاعتقادية يقدمها إليهم مقترنة بأدلتها المنطقية، وحينما ينكر على الناس خرافاتهم وأباطيلهم الاعتقادية أو غيرها يقيم الأدلة المنطقية على بطلانها، ويطالبهم بالأدلة المثبتة لها، إن كان لهم أدلة عليها، ويناقشهم ضمن الأسس المنطقية السليمة، ومع ذلك فهو لا يُعفي أدلته من مناقشات الناس الحرة المنطقية السليمة أيضًا، إذا كانت له مناقشات حولها. ويرى أن من كان الحق بيده فإنه لا يخشى عليه من أي بحث أو مناقشة بريئين من الاحتيال والمكر، والتضليل والتشويه. ولذلك نجد في القرآن العظيم حشدًا كبيرًا من الأدلة المنطقية المثبتة للحقائق والعقائد الإسلامية، وحشدًا كبيرًا من المناقشات والمجادلات للمشركين والكافرين، وسائر ذوي المعتقدات المخالفة للحق، والمجافية للصواب، ويعلم القرآن العظيم المسلمين أن يقولوا لمخالفيهم لدى بحث أي موضوع من الموضوعات الإسلامية كما جاء في سورة "سبأ: 34 مصحف/ 58 نزول": {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . وذلك ليشعروهم بالنزاهة التامة في طلب الحقيقة والبحث عنها، وليهونوا عليهم التنازل عن عصبياتهم وتقاليدهم وموروثاتهم الفكرية القديمة ويضعوا ما لديهم منها على منصة البحث والنقد، وتمييز الحق من الباطل. ويتضمن هذه الأسلوب الإسلامية الرباني تمجيدًا رائعًا للعقل الإنساني، وتحريرًا له من رواسب الخرافات والأباطيل، وسائر الموروثات الفاسدات، سواء كانت اعتقادية، أم عملية، أم خلقية، أم تربوية، أم سلوكية، فردية أم اجتماعية. 3- أسماء أنواع الأدلة: ومن الأسماء التي سُمى القرآن بها أنواع الأدلة التي تقدم لإثبات فكرة ما الأسماء التالية:

الاسم الأول: الحجة، قال الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول": {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} . وقال تعالى أيضًا: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} . ويطلق اسم "الحجة" على أي دليل يقدمه صاحب الدعوى، سواء كان دليلًا صحيحًا، أم دليلًا فاسدًا. ومن أمثلة الحجج الفاسدة حجة منكري البعث؛ إذ قالوا فيما حكى الله عنهم في سورة "الجاثية: 45 مصحف/ 65 نزول": {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وظاهر أن الاحتجاج على إنكارهم للبعث بعدم إتيان الرسل بآبائهم احتجاج فاسد، لا تقوم به حجة صحيحة، فإثبات الرسل للبعث قائم على أدلة منطقية مستندة إلى قدرة الله القادر على كل شيء، وإخباره فيما أنزل للناس عن طريق الوحي وهؤلاء المنكرون لم يستطيعوا أن ينقضوا أدلة الإثبات، ولا أن يعارضوها، وإنما جاءوا باحتجاج فاسد. الاسم الثاني: البرهان، ويطلق لفظ البرهان في القرآن على الدليل القاطع المثبت للحقيقة، الذي لا يحتمل النقض. أ- قال الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 93 نزول": {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} . فالبرهان الذي جاء من عند الله دليل قاطع لا يحتمل النقض. ب- وقال تعالى في سورة "المؤمنون: 23 مصحف/ 74 نزول": {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} .

فمن المعروف أن الذين يدعون مع الله إلهًا آخر لهم حجج ولكنها حجج فاسدة، والمطلوب منهم أن يقدموا براهين، والبراهين هي الحجج القاطعة التي لا تحتمل النقض، ولن يستطيعوا ذلك لأن الحقيقة على خلاف ما يدعون. ج- وقد أمر الله رسوله محمدًا صلوات الله عليه بأن يطلب اليهود والنصارى ببرهانهم على بعض ما يدعون مما هو مخالف للحقيقة بقوله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول". {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . ولن يستطيعوا أن يقدموا البرهان على هذا القول الباطل. د- وكذلك فعل بالنسبة إلى مزاعم المشركين الذين يثبتون مع الله إلهًا آخر، قال الله تعالى في سورة "الأنبياء: 21 مصحف/ 73 نزول": {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . الاسم الثالث: السلطان، ولفظ سلطان حينما يراد به الدليل المثبت يطلق غالبًا على النصوص الإخبارية أو التعليمية المنزلة من عند الله؛ لأنها منزلة من عند من له هيمنة وسلطان على الحقائق كلها الغيبية والمشهودة. فمن ذلك قوله تعالى في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} . فالمراد من السلطان هنا الدليل الشرعي المنزل من عند الله المثبت لما يدعون، ولن يستطيعوا الإتيان به لأن الله لم ينزل شيئًا من ذلك. ومن ذلك أيضًا قوله تعالى في سورة "غافر: 40 مصحف/ 60 نزول": {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . فهؤلاء الذين يجادلون في آيات الله إنما يجادلون بحجج باطلة، ولن

يستطيعوا أن يجادلوا بسلطان جاءهم من عند الله؛ لأن الله لم ينزل شيئًا من ذلك ينقض به دلائل آياته. 4- من أسس الحضارة الإسلامية؛ الالتزام بمبدإ الحق ومناصرته والنفور من الباطل ومكافحته: الالتزام بمبدأ الحق: لما كان مبدأ الحق من أهم الأسس التي قامت عليها الحضارة الإسلامية كان من البدهي أن يحتل هذا المبدأ مركز الصدارة والتمجيد، في نصوص الدفع الإسلامي إلى القمم الحضارية المثلى، وأن تحمل هذه النصوص حربًا شعواء على الباطل حيث وجد، ومن أي مصدر ظهر. ونظرة سريعة في القرآن الكريم كافية لأن تكشف لنا مبلغ اهتمام هذا الكتاب الرباني بمبدإ الحق، وذلك بوصفه أساسًا للدعوة الإسلامية، ورسالة الإسلام الحضارية للناس جميعًا. وبالتأمل نلاحظ أن مادة الحق قد وردت في القرآن قرابة مائتي مرة. أ- فالإسلام دين الحق؛ لأن أصوله الاعتقادية مطابقة للواقع، ولأن أخباره ومواعيده مطابقة للواقع، ولأن تعاليمه وشرائعه موافقة لأكمل صورة ممكنة تتحقق بها سعادة الناس في حياتهم الأولى وحياتهم الأخرى، قال الله تعالى في سورة "التوبة: 9 مصحف/ 113 نزول": {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . ب- وآيات الله تتلى على نبيه بالحق، وذلك لأن مضمون آيات الله لا يعدو صراط الحق، قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} . ج- والقرآن الكريم أنزله الله بالحق، وذلك لأن كل ما فيه حق لا ريب فيه، قال الله تعالى في أول سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {الم، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} . د- ويأمر الله رسوله أن يدعو الناس إلى الحق الذي جاءهم من ربهم، وفي ذلك تنبيه لهم أن يتبينوا الحق الذي جاءهم به، بالنظر الشديد والبحث العلمي والمناقشة، قال الله تعالى في سورة "يونس: 10 مصحف/ 51 نزول": {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} . هـ- ومن صفات المؤمنين بشكل مستمر أنهم يتواصون بالحق فيما بينهم، قال الله تعالى في سورة "العصر: 103 مصحف/ 13 نزول": {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . وعلى هذا النسق تسير آيات كثيرات في القرآن الكريم، وعلى هذه الصورة الرائعة يبرز مبدأ الحق محتلًّا مركز الصدارة والتمجيد في أسس الحضارة الإسلامية. النفور من الباطل: أما الباطل الذي هو نقيض الحق فقد لقي من أسس الحضارة الإسلامية ما يستحق من نفرة وتجهم وحرب مركزة، كلما حاول أن يظفر بعلو في الأرض، واستحواذ على نفوس الناس أو عقولهم، أو أعمالهم، وبمقدار ما أبرزت الحضارة الإسلامية مبدأ الحق، وشددت على الالتزام به، بوصفه أساسًا من أسسها، وجهت ضد الباطل نفرتها وتجهمها وحربها المركزة.

أ- فالله جل وعلا إذ يرسل المرسلين مبشرين ومنذرين، حاملين للناس لواء الحق، يقابلهم الكافرون بالمجادلة بالباطل، ليغلبوا به الحق الذي يرفع المرسلون لواءه، قال الله تعالى في سورة "الكهف: 18 مصحف/ 69 نزول": {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} . ب- ومن عجيب أمر المنحرفين عن سنن الحق وضعهم الأشياء في غير مواضعها، فهم يؤمنون بالباطل لا خير عنده، ولا نعمة ترجى من قبله، ويكفرون بنعمة الله، وهذا الانتكاس الفكري يجعلهم يعبدون من دون الله ما لا يجلب لهم نفعًا ولا يدفع عنه ضرًّا، ولا يملك شيئًا من ذلك، قال الله تعالى في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول": {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} . ج- أما القرآن فإنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كيف يأتيه الباطل وهو تنزيل من حكيم حميد؟ قال الله تعالى في سورة "فصلت: 41 مصحف/ 61 نزول": {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . د- ويضع القرآن المؤمنين والكافرين في طريقين متعاكستين متنافرتين، فالذين آمنوا اتبعوا الحق، والذين كفروا اتبعوا الباطل، قال الله تعالى في سورة "محمد: 47 مصحف/ 95 نزول": {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} .

إحقاق الحق وإبطال الباطل: فليس بدعًا بعد هذا أن تحمل أسس الحضارة الإسلامية رسالة إحقاق الحق وإبطال الباطل؛ لأنه لا وجود لا ناصر له، ولا متمسك به، ولا ظهور لحق ما دام للباطل أنياب تفترس وأظفار تنشب، وأنصار مستأسدون تحركهم الغرائز الجانحة، والمطامع الجامحة. أ- فالله يريد بما ينزل للناس من شرائع أن يحق الحق ويبطل الباطل، قال تعالى في سورة "الأنفال: 8 مصحف/ 88 نزول": {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} . ب- ومن شأن الحق المقرون ببراهينه القاطعة أن يدمغ الباطل ويزهقه، ومن أجل ذلك يقذف الله بالحق على الباطل، قال تعالى في سورة "الأنبياء: 21 مصحف/ 73 نزول": {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} . ج- ويدخل الإسلام مكة ظافرًا يوم الفتح، فيقول الله لرسوله في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} . وتذكر المسلمون يومئذ أيام خرجوا من مكة مهاجرين يتسللون لواذًا، فارين بدينهم، من كيد المشركين، ومكرهم، وأذاهم، وإكرامهم لهم على أن يعودوا إلى الكفر، بعد أن أنقذهم الله بالإسلام، وهداهم إلى صراط الحق. لقد برز الصراع بين الحق والباطل على مسرح الأحداث الإنسانية في تلك الحقبة من الزمن؛ إذ تجمعت هيئات المنتفعين من الباطل، للدفاع عما في أيديها من مغتصبات لا حق لها بها، وأخذت تصارع الحق النامي على مراحل. بدأت أول الأمر تلفق الحجج المزورة التي لا سند لها من العقل، ولكن

سرعان ما تهاوت حجمها، وتساقطت واهنة ضعيفة أمام براهين الحق الإسلامي الدامغة القاطعة. ثم انتقلت إلى سلاح آخر، إنه سلاح الهزء والسخرية والتعاظم والتكبر وازدراء أنصار الحق واحتقارهم، فما كان من المؤمنين أنصار الحق ودعائه إلا التغاضي والحلم والصبر وكل خلق كريم، وهنا تنتصر الفضائل على الرذائل في ميادين العلاقات الاجتماعية، ويزداد بذلك أنصار الحق. وعند ذلك ضربت الجاهلية في رءوس المبطلين ففزعوا إلى إسكات كلمة الحق بالقوة، والحرب المسلحة، ووجد المؤمنون أنصار الحق أنفسهم أمام أمر لازب، فأخذوا يدفعون بما أوتوا من قوة فيقتلون ويقتلون، حتى إذا أبلوا بلاء حسنًا، وأثبتوا صدقهم وإخلاصهم، ببذل ما عندهم من طاقة تداركهم الله بحكمته ومعونته فوهبهم النصر، ودخلوا فاتحين، وبمجيئهم جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا، إنه لما لم يكن للحق أنصار استعلى الباطل واستكبر، فلما صار للحق أنصار عاد الباطل إلى طبيعته زاهقًا. ولقد صور القرآن الصراع بين الحق والباطل أبدع تصوير بقوله تعالى في سورة " الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول": {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} . الانحراف عن الحق: ونظرة مستقصية تكشف للباحث أن الانحراف عن الحق يكون بعدة أمور منها الأمور التالية: الانحراف الأول: يكون بجعل الباطل حقًّا والحق باطلًا، ومن أمثلة هذا الانحراف حال الكافرين إذ يؤمنون بالباطل ويكفرون بنعمة الله، ولما أصر الكافرون على انحرافهم هذا بعد بيان الحق لهم على لسان رسول الله

صلوات الله عليه أنكر الله عليهم ذلك بقوله تعالى في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول": {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} . الانحراف الثاني: يكون بلبس الحق بالباطل، وذلك بإدخال صور من الباطل ضمن مجموعة صور من الحق، للإيهام بأنها حق كلها، ولا بد أن يكون الباعث عليه هوى من أهواء النفوس المنحرفة. الانحراف الثالث: يكون بكتمان الحق مع العلم به، والسكوت عن الباطل مع معرفة أنه باطل، ولا بد أن يكون الباعث على هذا الانحراف هوى من أهواء النفوس المنحرفة أيضًا. ومن أمثلة هذين الانحرافين الثاني والثالث ما عليه حال أهل الكتاب، فهم يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون, ولذلك خاطبهم الله عز وجل بكثير من التأنيب والتثريب بقوله تعالى في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . خاتمة: وهكذا تظهر أسس الحضارة الإسلامية لا دجل فيها ولا تخريف، ولا تعرج فيها ولا التواء، إنها ذات منهج وضاح مشرق؛ إذ أخذت بمبدإ الحق، والتزمته في كل ما انطلقت إليه من مجد فكري واعتقادي، أو عملي تطبيقي، والتزامها بمبدإ الحق جعلها تنفر من الباطل وتتجهم له حيث كان، وجعلها تقاومه وتصارعه مهما وقف في سبيلها وأعاق تقدمها وارتقاءها. وأعداء الحق وأنصار الباطل هم أعداء الحضارة الإسلامية الصحيحة، وهم الذين يصنعون العثرات في طريقها. وأنصار الحق يكسحون باستمرار هذه العثرات وهم يقولون: "حسبنا الله ونعم الوكيل".

الفصل الثاني: الخير والشر

الفصل الثاني: الخير والشر المقولة الأولى: تعريفات للخير والشر تطلق لفظتا الخير والشر على وجوه ثلاثة: الوجه الأول: يطلق الخير على ما يرى فيه الإنسان لنفسه نعمة أو منفعة أو لذة. فهو يحبه لذلك، وقد يكون في حقيقة حاله شرًّا أو سوءًا أو سببًا لوقوع الشر، أو السوء به، وقد نبه الله عز وجل على هذه الحقيقة بقوله في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . ومن هذا الوجه ما اشتهر في لسان العرب من تسمية المال وسائر أسباب الرزق خيرًا، ويدخل في هذا الوجه ما يصيب الإنسان من نعم ومنافع ولذات مما لا كسب له فيه، ومن ذلك الخصائص الجسدية والنفسية التي تتجلى فيها نعم الله على عبده. ويستعمل في مرادف كلمة الخير على هذا الوجه كلمة: نعمة، أو منفعة، أو مصلحة أو لذة أو نحو ذلك. وفي مقابل هذا تطلق كلمة الشر على كل ما يرى فيه الإنسان لنفسه سوءًا أو ضرًّا أو أذى، فهو يكرهه لذلك، وقد يكون في حقيقة حاله خيرًا له، أو سببًا لحصول خير كثير له، كما جاء في الآية التي سبق الاستشهاد بها. ويستعمل في مرادف كلمة الشر على هذا الوجه كلمة: سوء، أو ضر، أو أذى، أو مصيبة، أو نحوها. استعمالات قرآنية على هذا الوجه: وقد ورد في القرآن الكريم استعمال لفظتي الخير والشر على هذا الوجه من وجوه الاستعمال العربي، فمن ذلك الأمثلة التالية:

أ- قول الله تعالى في وصف الإنسان في سورة "العاديات: 100 مصحف/ 14 نزول": {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} . أي: لحب المال وسائر الوسائل التي يرى الإنسان فيها لنفسه نعمة أو منفعة أو لذة أو جاهًا. ب- وقول الله تعالى في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . أي: ولو كنت أعلم ما ستجري به المقادير في الدنيا لأخذت بالأسباب التي قضى الله بأن تأتي المنافع والخيرات من ورائها، ولابتعدت عن كل جهة قضى الله بأن يأتي السوء من قبلها، واختيرت كلمة السوء هنا للاستعمال في مقابل كلمة الخير للدلالة على أن المراد بكلمة الخير هنا المنافع الدنيوية التي يتولاها القضاء والقدر بنفسه دون أن يكون لإرادة الإنسان وساطة فيها، بخلاف الخيرات الأخروية فإن لإرادة الإنسان دخلًا في استحقاقها بحسب وعد الله. ج- وقول الله تعالى في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . فقد أطلقت كلمة الخير هنا مرادًا بها النعم الدنيوية التي يبتلي الله بها عباده بمحض مشيئته، فإتيان الملك، ومنح العز وما أشبه ذلك أنواع من المتع والخيرات الدنيوية التي هي بيد الله، فهو يختبر بها من يشاء من عباده. د- وقول الله تعالى في سورة "الأنبياء: 21 مصحف/ 73 نزول": {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} . وهذه الآية أوضحت أن الشر "ويراد به هنا المصائب والمؤلمات الدنيوية" وأن الخير "ويراد به هنا النعم والأمور السارة الدنيوية" ما هما إلا مظهران لابتلاء إرادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا، فمن اجتاز الابتلاء بنجاح كانت المصائب

والمؤلمات الدنيوية سبب خير كبير له في الآخرة، ومن تجاوز حدود الله وآثر الحياة الدنيا لم تنفعه النعم والخيرات الكثيرات التي تمتع بها في دنياه، بل تكون عليه وبالًا يوم القيامة، وسبب شر كبير يجازي به على ما فرط في جنب الله. هـ- وقول الله تعالى في سورة "يونس: 10 مصحف/ 51 نزول": {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . وفي هذه الآية جاء استعمال كلمة الضر في مقابل كلمة الخير للدلالة على أن المراد بالخير هنا النعم الدنيوية، جريًا مع الاستعمال الشائع عند الناس. الوجه الثاني: وتطلق لفظة "خير" أيضًا على أنها أفعل تفضيل بمعنى أخير ويرادها بهذه المعنى كلمة أفضل أو نحوها، وقد يستعمل في مقابل لفظة خير على هذا المعنى كلمة أدنى أو نحوها. كما قد تطلق كلمة "شر" على أنها أفعل تفضيل بمعنى أشر ويرادفها بهذا المعنى كلمة أدنى أو أخس أو نحوهما. استعمالات قرآنية على هذا الوجه: وقد ورد في القرآن الكريم استعمال كلمتي "خير وشر" على هذا الوجه من وجوه الاستعمال العربي، فمن ذلك الأمثلة التالية: أ- قول الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} . فقد أنكر موسى صلوات الله عليه على قومه أن يطلبوا استبدال البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل بالمن والسلوى، مع أنهما أفضل لذة وغذاء من هذه النباتات التي يطلبونها ويشتهونها، وظاهر هنا أنه لا معنى للخيرة إلا الأفضلية المادية؛ لأن كلا من الرزقين، من نعم الله على عباده.

ب- وقوله الله تعالى في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} . فقول إبليس الذي يحكيه الله عنه: أنا خير منه، يريد به أنه أفضل تكوينًا من آدم، ودلل على ذلك بحجته الساقطة: خلقتني من نار وخلقته من طين، فاعتبر النار أشرف من الطين، وبنى على ذلك استعلاءه بالنظر في أصله الناري عن السجود لآدم، متجاهلًا أن الذي خلقه هو الذي يأمره بالسجود، وأمره واجب التنفيذ على أي وجه. الوجه الثالث: وهو الوجه المقصود في أسس الحضارة الإسلامية. ويطلق الخير ويراد به ما يكسبه الإنسان بإرادته في الحياة الدنيا من عمل قلبي أو نفسي أو جسدي يحقق له عند الله خيرًا باقيًا، وسعادة خالدة، وثوابًا حسنًا، ولو كان ذلك العمل شاقًّا أو مضنيًا أو مؤلمًا، أو فيه تعرض للضر والأذى. ويرادف الخير بهذا المعنى الطاعة لله والبر ونحوهما. وفي مقابل هذا يطلق الشر ويراد به ما يكتسبه الإنسان بإرادته من عمل قلبي أو نفسي أو جسدي يستحق عليه جزاء سيئًا، ولو جلب له في الدنيا متعة أو منفعة أو لذة. ويرادف الشر على هذا المعنى المعصية لله والإثم ونحوهما. وقد لوحظ في هذا الوجه المراد من الخير والشر أمران: الأمر الأول: ما سيؤول إليه العمل يوم القيامة من جزاء بالثواب أو بالعقاب، لما يتضمن من طاعة الله أو معصية له. الأمر الثاني: ما يؤدي إليه العمل من آثار ونتائج حسنة أو سيئة على الفرد أو على المجتمع في الحياة الدنيا، وذلك لأن الأحكام الإسلامية تهدف إلى

تحقيق أكبر نسبة من الخير، وتفادي أكبر نسبة من الشر، في نظرة كلية جامعة ينظر بها الإسلام إلى الإنسانية على وجه العموم، ثم إلى الحياة، ثم إلى الوجود بأسره. ولا يظن ظان أن الإسلام يرفع من حسابه على هذا المفهوم للخير والشر ملاحظة المنافع والمتع واللذات، أو ملاحظة المضار والآلام والأكدار، بل الإسلام يدخل كل ذلك في حسابه، ولكن ضمن نظرة كلية شاملة، سيأتي تفصيلها، وتوضيح جوانبها إن شاء الله. ويدني هذه الحقيقة من الفكر المثال التالي: يشتهي الطفل المريض قطعة من الحلوى، وفي تناوله لهذه القطعة لذة عظيمة له، ومتعة تندفع إليها نفسه بإلحاح، وذلك في تقديره من الخير الذي يصح أن يسعى إليه، ولكن هذه القطعة من الحلوى ستسبب له آلامًا كثيرة إذا هي وصلت إلى أمعائه، وهذا شر أكبر نسبة من الخير الذي يهفو إلى تحقيقه من طريق متعة الفم، وهو للنتيجة المؤلمة جاهل، أو عنها غافل. فماذا يحكم العاقل البصير على تناول هذا المريض لهذه القطعة من الحلوى؟ هل هو خير أم شر؟ إنه لا شك يحكم على تناولها بأنه شر. وهنا يقال: هل رفع العاقل البصير من حسابه متعة الفم ولذته بتناول قطعة الحلوى؟ الجواب: إنه لم يرفع ذلك من حسابه، ولكنه أدخل في حسابه أيضًا أشياء أخرى؛ إذ نظر إلى الأمر نظرة كلية شاملة، تناولت العمل، وجميع ما يؤدي إليه. إن عاجلًا أو آجلًا. وكذلك الإسلام في كل أحكامه وشرائعه. وهنا لا بد من لفت النظر إلى واقع هذه الحياة الدنيا؛ إذ بث الله فيها أسباب اللذة وأسباب الألم، ونشر فيها عوامل المنفعة وعوامل المضرة، ومزج كل ذلك بعضه في بعض، وجعل كثيرًا من الآلام جسورًا لتحقيق الخير العظيم،

وجعل كثيرًا من اللذات مزالق تُقضي إلى الشر المستطير، لتتم بكل ذلك حكمة الابتلاء التي أرادها الله في هذه الحياة، وبدون ذلك لا تتم حكمة الابتلاء على الوجه الأكمل، وفي حكمة الابتلاء يكمن سر خلق الله الإنسان. استعمالات قرآنية على هذا الوجه: لدى تتبع النصوص القرآنية نجد أن أكثر ما جاء فيها من مادتي الخير والشر مستعمل في حدود هذا الوجه الثالث، ومن أمثلة ذلك ما يلي: أ- قول الله تعالى في سورة "الزلزلة: 99 مصحف/ 93 نزول": {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . فالخير والشر هنا تابعان للعمل الإرادي الذي يمارسه الإنسان في حياته الدنيا ضمن حدود الابتلاء الرباني. ب- وقول الله تعالى في سورة "الحج: 22 مصحف/ 103 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . ففي هذه الآية يأمر الله سبحانه الذين آمنوا بفعل الخير، ويرتب عليه رجاء فلاحهم، وفعلهم الخير هو من الأعمال الإرادية التي يمارسونها في حياتهم. ج- وقول الله تعالى في سورة "المزمل: 73 مصحف/ 3 نزول": {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فما يقدمه الإنسان لنفسه إنما هو عمله الإرادي، سواء كان عملًا قلبيًّا أم نفسيًّا أم جسديًّا. د- وقول الله تعالى في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} .

أي: لكان إيمانهم خيرًا لهم، والإيمان مما يكسبه الإنسان بإرادته، وهو من أعمال القلوب. هـ- وقول الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} . وما يوعظون به شامل لكل مواعظ الشريعة الإسلامية، وتعاليمها، وفعل ما يوعظون به خير؛ لأنه سبب في جلب الثواب الحسن لهم، واستحقاقهم له عند الله تعالى، ولأنه سبب في تحقيق أكبر نسبة يمكن تحقيقها من الخير في الحياة الدنيا، ودفع أكبر نسبة يمكن دفعها من الشر في الحياة الدنيا. ونظرًا إلى أن هذا الوجه الثالث هو الوجه المقصود من الخير والشر في أسس الحضارة الإسلامية، فهو الوجه الذي يعنينا التركيز عليه فيما يأتي من بحوث تنضوي تحت عنوان "الخير والشر".

المقولة الثانية: من أسس الحضارة الإسلامية "مبدأ فعل الخير والعمل على نشره، وترك الشر والعمل على قمعه"

المقولة الثانية: من أسس الحضارة الإسلامية "مبدأ فعل الخير والعمل على نشره، وترك الشر والعمل على قمعه " توضيح لمعاني الخير والشر: سنعالج في الفقرات التاليات توضيح معاني الخير والشر وفق الوجه الثالث الذي سبق بيانه في التعريفات، وهو الوجه المقصود في أسس الحضارة الإسلامية، ويستدعينا هذا التوضيح أن نلمح إلى نظرات الباحثين من الفلاسفة وعلماء الأخلاق في هذا المضمار، وأن نمر بشكل تفصيلي على المفاهيم العامة التي تشتمل عليها معاني الخير والشر، والنظرات الدقيقات التي تهدف إليها هذه المفاهيم، وفق المدركات الإسلامية الشاملة، وعندئذ يتبين لنا المستوى الرفيع الذي ارتقى إليه الإسلام؛ إذ جعل مبدأ "فعل الخير والعمل على نشره، وترك الشر والعمل على قمعه" أساسًا راسخًا من أسس حضارته المجيدة التي رفع لواءها، ودعا الناس إليها.

نظرات الباحثين: يختلف الباحثون من الفلاسفة وعلماء الأخلاق في تحديد معنى الخير، وتحديد معنى الشر؛ إذ يرجعهما بعضهم إلى مبدأي المنفعة والمضرة، ضمن حدود المنافع والمضار الدنيوية العاجلة، التي لا يرافقها نظرة شاملة للزمن والإنسانية والكون والحياة على وجه العموم، ويرجعهما بعضهم إلى مبدأي اللذة والألم ضمن حدود الإحساسات الجسدية والنفسية التي يحسها الإنسان، ويرجعهما بعضهم إلى مبدأي المصلحة والمفسدة في حدود النظرات الضيقات التي ينظر بها فرد أو مجموعة من الناس، ويلاحظ بعضهم جانب الفرد مهملًا حق الجماعة الإنسانية كله أو بعضه، ويلاحظ بعضهم جانب الجماعة مهملًا حق الفرد كله أو بعضه، ويجعلهما بعضهم من الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها في الحقيقة، فهي تختلف باختلاف الأزمنة والأوضاع الاجتماعية والعادات والتقاليد، ويخضعها بعضهم إلى المؤثرات الاقتصادية أو السياسية أو غيرهما. وهكذا اضطربت مفاهيم الناس لحدود الخير والشر. نظرة الإسلام: أما الإسلام فإن له نظرته الخاصة الفاذة العامة الشاملة، فهو يشرق على العالم بتحديد رائع للخير والشر، ذي مستويين: 1- مستوى قريب يفهمه كل إنسان مهما ضعفت مداركه وقل تتبعه وبحثه. 2- ومستوى رفيع يرتقي إليه ذوو الأفهام الرفيعة، وأصحاب الهمم الغالية في التتبع، والبحث العلمي. المستوى القريب: أما المستوى القريب الذي يفهمه كل إنسان ويريح به نفسه من عناء التأمل والبحث، فهو المفهوم الذي سبق أن عرفنا به "الخير والشر" وفق الوجه الثالث من وجوه استعمال هذين اللفظين؛ ونعيد ذلك فيما يلي مع بعض توضحيات:

الخير: هو ما يكسب الإنسان بإرادته في الحياة الدنيا من عمل قلبي أو نفسي أو جسدي يحقق له عند الله خيرًا باقيًا، وسعادة خالدة، وثوابًا حسنًا، ولو كان ذلك العمل شاقًّا أو مضنيًا أو مؤلمًا، أو فيه تعرض للضر والأذى في الحياة الدنيا. ويلحق بالخير المباحات الشرعية الممتعة النافعة التي لا ضرر فيها، ولا أذى يأتي من قبلها، فإن اقترنت بنية تستحق ثوابًا عند الله كانت خيرًا أصليًّا لا محالة. ويرادف الخير على هذا المعنى الطاعة لله والبر ونحوهما. الشر: هو ما يكتسبه الإنسان بإرادته في الحياة الدنيا من عمل قلبي أو نفسي أو جسدي يستحق عليه عند الله جزءًا سيئًا، ولو جلب له في الدنيا متعة أو منفعة أو لذة. ويلحق بالشر المباحات الشرعية إذا اقترنت اقترانًا ملازمًا بما يفضي إلى معصية الله تعالى. أما الأعمال الإرادية التي لا تشملها أوامر الله أو نواهيه نصًّا ولا قياسًا فهي متروكة للإنسان يفعلها أو يتركها بحسب مشيئته التي توجهها حكمته في تصريف الأمور المباحة له. المستوى الرفيع: وأما المستوى الرفيع الذي يرتقي إليه ذوو الأفهام الراقية، وأصحاب الهمم العالية في التتبع والبحث العلمي، فقائم على نظرة شاملة للحياتين الفانية والخالدة، وشاملة للفرد والجماعة، وللروح والفكر، وللنفس والجسد، وللغرائز والطبائع، وشاملة للحياة كلها، بل وشاملة للوجود كله مع العدل والحكمة، وإعطاء كل شيء في الوجود حقه بحسب التوزيع العام المقترن بالموازنات الدقيقات العادلات؛ وهذه النظرة الشاملة لا يستطيع الإحاطة بها إلا خالق الوجود والحياة، وهو منزل الشراع السماوية، والذي جعل رسالة محمد خاتمة رسالاته للناس. وضمن هذه النظرة الشاملة العادلة الحكيمة أنزل الله للناس أحكام الشريعة

الإسلامية، فأعطي كل ذي حق في الوجود حقه بالعدل، دون أن يطغى بعض ذلك على بعض. وبعد أن منح الله جل وعلا الإنسان في هذه الحياة الدنيا العقل والإدارة ومقدارًا من القدرة على تنفيذ بعض ما يريد، وزوده إلى جانب ذلك بالغرائز والشهوات والأهواء النفسية، ودفعه إلى محيط مشحون بكل وسائل الامتحان الدقيق، وظروفه المحكمة، وضعه موضع السيادة على دونه من جهة، وموضع الابتلاء بين يدي خالقه من جهة أخرى، وحدد له معالم طريق الخير والشر، وكلفه أن يسلك في حياته طريق الخير على مقدار استطاعته، وأن يتجب طريق الشر ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. تفصيلات تحدد معالم هذا المستوى الرفيع: وفي محاولة تفصيل موجز لمفهوم الخير والشر انطلاقًا في آفاق المستوى الرفيع الذي ألمحنا إليه في الفقرة السابقة نجد أنفسنا مضطرين إلى تحليل عناصره، وتمييز خصائصه، وتوضيح حدوده، وعرض طائفة من أمثلته، وبيان كيف جعل الإسلام مبدأ "فعل الخير والعمل على نشره وترك الشر والعمل على قمعه" أساسًا راسخًا من أسس حضارته المجيدة. وهذا العمل يتطلب منا أن نضع أيدينا على المفاهيم العامة التي يشتمل عليها الخير والشر، لتساعدنا على تحليل العناصر، وتمييز الخصائص، وتوضيح الحدود، فهي المفاتيح التي تفتح لنا أبواب التبصر الصحيح. وفي المقولة التالية بيان لهذه المفاهيم العامة.

المقولة الثالثة: مفاهيم عامة تشتمل عليها حدود الخير والشر

المقولة الثالثة: مفاهيم عامة تشتمل عليها حدود الخير والشر المفهوم الأول: لا بد في هذا المجال من أن تنحصر نظرتنا إلى الخير والشر ضمن دائرة السلوك الإنساني الذي ينشأ عن إدارة الإنسان وتصميمه، ويترتب عليه بسبب ذلك المدح أو الذم. أما ما لا دخل للسلوك الإنسان فيه فخارج عن نطاق المسئولية الإنسانية، ولا علاقة له ببناء حضاري يفخر به الإنسان؛ إذ يرفع من قيمته، أو تخلف حضاري يخجل منه الإنسان إذ يحط من قيمته. المفهوم الثاني: يطلق على السلوك الذي يمارسه الإنسان بإرادته مع العلم به وبنتائجه خير أو شر، نظرًا إلى ما يتضمنه ذلك السلوك أو يترتب عليه وينجم عنه من خير أو شر. المفهوم الثالث: يدخل في مفهوم الخير كل عمل يتم به تلبية مطلب أو أكثر من مطالب النفس أو الغرائز، وتلبية حاجة أو أكثر من حاجات الجسد، مما فيه جلب لذات أو دفع آلام. ويدخل في مفهومه أيضًا كل عمل يتم به تحقيق منافع ومصالح، أو دفع مضار ومفاسد، للفرد أو للجماعة. وكل ذلك ضمن شروط أربعة: الشرط الأول: الاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. الشرط الثاني: ألا يكون في شيء من ذلك عدوان على حدود الله التي حدها لعباده، في أوامره ونواهيه، سواء كانت متعلقة بالأمور الاعتقادية أم العبادية أم بأي سلوك آخر في حياة الإنسان. الشرط الثالث: ألا يكون في شيء من ذلك عدوان على حق ثابت للفرد أو للجماعة. الشرط الرابع: ألا يكون في شيء من ذلك ضرر أو مفسدة للفرد أو للجماعة، بنسبة مساوية لما يتحقق به من منفعة أو مصلحة، أو بنسبة راجحة عليه.

فإن كان ما ينجم عنه من ضرر أو مفسدة للفرد أو للجماعة مساويًا لما يجلب به من منفعة أو مصلحة للفرد أو للجماعة أو راجحًا عليه لم يكن من أعمال الخير، وإنما هو من الأعمال التي يغلب فيها جانب الشر على جانب الخير، أو يترجح تركها على فعلها صيانة للعمل الإنساني من العبث، وعملًا بقاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح المساوية لها". أما عند تعارض الحقوق أو المصالح أو المنافع، وكذلك عند تعارض الأمور التي فيها دفع المضار والمفاسد، سواء كان ذلك التعارض بين الأفراد أم بين الفرد والجماعة، فالطريقة الإسلامية لحل التعارض هي أن يلجأ إلى التوفيق بالعدل، وذلك ضمانًا لأكثر نسبة من الخير يمكن تحقيقها، وتفاديًا لأكثر نسبة من الشر يمكن تفايدها. وهذه الطريقة الإسلامية هي طريقة المنطق السديد، والعقل الرشيد، لمن أدرك حقائق الأمور ووعاها. ومن الأمثلة التطبيقية لهذه القاعدة ما لو تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة، ولكن كانت مصلحة الفرد راجحة على مصلحة الجماعة، فإننا نقدم هنا مصلحة الفرد، ونعتبرها هي الأحق بأن يستجاب لها شرعًا وعقلًا، ومن ذلك ما لو توقفت حياة إنسان في طعامه أو شرابه أو ملبسه أو مسكنه أو معالجته الطبية على تحميل الجماعة خسارة مالية من صندوقها العام، وهذه الخسارة لا تؤثر على كيان الجماعة أمام عدوها، ولا تعرض الآخرين إلى هلاك أو مضرات مساويات لمضرة فرد واحد أو راجحة عليها فإن أحكام الشرعية الإسلامية تقضي بتحميل الجماعة هذه الخسارة الطفيفة، لدفع المضرة البالغة عن الفرد. أما إذا كانت خسارة الجماعة هي الأكثر مضرة كأن يكون فيها تعريض كيانها العام لخطر من قبل عدوها، فإن أحكام الشريعة الإسلامية تقضي بالحرص على المصلحة الكبرى للجماعة، ولو أدى ذلك إلى هلاك الفرد. ومن أمثلة رجحان مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد ما لو توقفت توسعة طريق عام تقضي المصلحة الجماعية بتوسيعه على هدم بعض الدور أو الدكاكين للأفراد، وتوفيت بعض المصالح عليهم، فإن أحكام الشريعة الإسلامية تأذن

للدولة بأن تنفذ هذه التوسعة الضرورية، ولو لم يأذن بها أصحاب الأملاك الخاصة، ولكن عليها في مقابل ذلك أن تعوض عليهم تعويضًا عادلًا من الأموال العامة، لإقامة التوازن بين المصالح على أسس العدل. ولما كانت مضرة موت الإنسان من الجوع أشد من المضرة التي تحصل بأكل الميتة أذن الله للمضطر بأن يأكل من لحم الميتة ما يدفع به ضرورته، درءًا لأشد الضررين بارتكاب أخفهما، قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول". {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . ووفق هذه الفلسفة الراقية والمنطق السديد تسير الشريعة الإسلامية في الموازنة على أسس العدل بين المتعارضات من المصالح والمفاسد والمضار والمنافع واللذات والآلام العاجل من كل ذلك والآجل، ضمن حساب دقيق شامل، في معادلات رياضية عالية. وفي مقابل ما يشتمل عليه معنى الخير ضمن هذا المفهوم يدخل في مفهوم الشر كل عمل يتم به جلب آلام أو مضار للفكر أو للنفس أو للجسد، للفرد أو للجماعة، ما لم يتضمن شيء من ذلك تحقيق منافع أو مصالح أو لذات أرجح منها للفرد أو للجماعة، فعندئذ تميل كفة الميزان إلى جانب الخير، تحقيقًا لأكثر نسبة من الخير يمكن تحقيقها، وتفاديًا لأكثر نسبة من الشر يمكن تفاديها. المفهوم الرابع: لدى إحصاء الأعمال الإنسانية ونتائجها وما تؤدي إليه نجد أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: خير محض، لذلك فلا يكون منه إلا خير ويدخل في هذا

القسم ما أمر به الإسلام أمرًا جازمًا، وجعله فرضًا لازمًا، في كل وقت وكل حال. ومن أمثلة ذلك التعلم الموصل إلى معرفة الله وجليل صفاته، والاعتراف بالحق، والإذعان إليه، وشكر المنعم، والثناء عليه، وعبادة الله وطاعته، والعمل لدفع المضار المادية أو المعنوية العاجلة أو الآجلة بقدر الإمكان. القسم الثاني: شر محض، فلا يكون منه إلا شر. وجميع ما في هذا القسم قد نهى الإسلام عنه نهيًا جازمًا، وحرمه الله على عباده. ومن أمثلة هذا القسم جحود الحق، والكفر بالنعمة، ومعصية الخالق، وكل عمل يقضي إلى مضار حتمية لا منافع ترافقها، أو تُجنى من ورائها. القسم الثالث: وسط بين الخير والشر، وهذا الوسط له أحوال: أ- فتارة يؤدي إلى خير كثير أو قليل، فيكون خيرًا بنسبة ما يؤدي إليه. ب- وأخرى يؤدي إلى شر كثير أو قليل، يكون شرًّا بنسبة ما يؤدي إليه. ج- وثالثة يؤدي إلى خير وشر معًا، متعادلين أو مع رجحان أحدهما على الآخر. د- ورابعة لا يؤدي إلى خير ولا إلى شر فيظل هو ونتائجه في منزلته الوسطى بين المنزلتين. ولذلك تعتري هذا القسم الثالث أحكام متخالفة في الشريعة الإسلامية، بحسب النتائج التي تنتج عنه في كل حالة. وأحكام الشريعة الإسلامية التي تتردد بينها أحوال هذا القسم هي ما يلي: الأول: الفرض وهو الذي يجب فعله. الثاني: الحرام وهو الذي يجب تركه، وهو يقابل الفرض. الثالث: المندوب إليه وهو الذي يترجح في الإسلام فعله على تركه.

الرابع: المكروه، وهو الذي يترجح في الإسلام تركه على فعله، وهو يقابل المندوب إليه. الخامس: المباح، وهو الذي يتساوى في حكم الإسلام فعله وتركه لاستواء طرفي الفعل والترك فيه، من وجهة النظر الإسلامية. وكثيرًا ما يخفى على الناس ما في الأعمال الإنسانية من نتائج خير أو شر، فتختلف أنظارهم فيها، وتختلف أحكامهم بالنسبة إليها، إلا أن الشريعة الإسلامية لما كانت منزلة من لدن حكيم عليم بما كان وما هو كائن وما سيكون، وعليم بخصائص الأنفس، وبما يصلح الناس وبما يفسدهم، وبما يكون لهم أنفع وأصلح وأكمل كانت أحكامها مطابقة لما عليه أحوال هذا القسم مطابقة تامة، في كل مسألة من مسائله، وكل جزئية من جزئياته. وحينما تخفى على الناس الحكمة التي يهدف إليها بعض هذه الأحكام فما ذلك إلا لقصور في مداركهم، ونقص في معارفهم، وعدم استيعابهم لأحوال الناس المختلفة، وللعوامل الداخلية، والنتائج العاجلة والآجلة. وإلى هذه الأقسام الثلاثة جاءت الإشارة في الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول صلوات الله عليه: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" 1. أمثلة لما تعتريه الأحكام الخمسة مما يدخل تحت القسم الثالث: وفي مجال التمثيل لما تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة؛ لأنه يدخل تحت القسم الثالث "وهو الوسط بين الخير والشر" نستطيع أن نمر على أمثلة كثيرة

_ 1 انظر شرح هذا الحديث في كتاب "روائع من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم" للمؤلف وهو الحديث "13" فيه.

جدًّا، ولكن نقتصر على بعض منها، لنبرز القواعد العامة في بعض صورها الجزوئية التي تقرب الحقيقة إلى مستوى التصور الكامل. فمن الأمثلة "التعلم والتعليم" عملان يؤديان في معظم أحوالهما إلى خير كثير عاجل وآجل، لذلك كانا من أشرف الأعمال التي يقوم بها الإنسان ومع ذلك فإنهما من الأمور التي تعتريها الأحكام الخمسة في الشريعة الإسلامية، فقد يكونان فرضين، وحرامين، ومندوبين، ومكروهين، ومباحين. يكونان فرضين لازمين بالنسبة إلى الأمور التي يفضي الجهل بها إلى ضرر محقق عاجل أو آجل في الدنيا أو الآخرة. ولما كان الجهل بأركان الإيمان وأركان الإسلام وأحكام الشريعة الربانية، المتعلقة بالأعمال التي يقوم بها كل إنسان مفضيًا إلى ضرر محقق ينزل بالإنسان، وهو عقاب الله يوم القيامة بالإضافة إلى المضار الدنيوية الأخرى كان تعلم هذه الأمور وتعليمها مما هو مفروض في الشريعة الإسلامية، وكان الاستمرار على الجهل بها مع توافر الوسائل لتعلمها محرمًا لا يعذر به صاحبه. ولما كان الجهل بأسباب القوة التي تدرأ كيد أعداء الحق ومكرهم مفضيًا إلى ضرر محقق تتعرض به الأمة الإسلامية إلى خطر تسلط عدوها عليها كان تعلم هذه الأسباب وتعليمها من الأمور المفروضة على المسلمين، وكان الاستمرار على الجهل بها مع توافر الوسائل لتعلمها محرمًا لا تعذر به الأمة. ولما كان الجهل بالأمور الصحية مفضيًا إلى ضرر محقق تتعرض به الأجسام إلى خطر انتشار الأمراض والأوبئة كان تعلم هذه العلوم وتعليمها من الأمور المفروضة. وهناك نوع من العلوم يغلب فيه أن تعلمه يفضي إلى الضرر المحقق، لما فيه من مزالق خطرة لا يسلم منها الإنسان كالسحر، ولذلك يحرم تعلمه وتعليمه. أما العلوم النافعة التي لا يؤدي الجهل بها إلى ضرر محقق فإنه تعلمها مندوب إليه، وليس بواجب، وذلك كتعلم بعض أنواع الفنون الجمالية.

ومن المسائل ما يكون الجهل بها نافعًا ولا يؤدي العلم بها إلى ضرر محقق، ولذلك يكون البحث عنها مكروهًا، ومنها معرفة المسلم عيوب أخيه المسلم، فإن الجهل بها نافع، والعلم بها يفوت هذه المنفعة، لذلك كان التعرف عليها مكروهًا. أما تتبع المسلم عيوب أخيه المسلم عن طريق التجسس والتلصص فهو من الأمور ذات الضرر المحقق، ولذلك كان هذا التتبع حرامًا ومنهيًّا عنه في نصوص القرآن. ثم إن تعلم المسائل التي لا تناظر واحدًا مما سبق؛ إذ ليس في تعلمها ولا في الجهل بها منفعة تقصد، ولا مضرة تخشى، هو من الأعمال المباحة، ونظير ذلك اختيار أحد العلوم النافعة لشغل الوقت به دون مساويه من العلوم النافعة أيضًا، هذا الاختيار هو من الأمور المباحة، أما ملء الوقت بنافع مفيد فهو أمر مندوب إليه. وعلى هذا القياس وعلى ما يشبهه تسير الشريعة الإسلامية في تقدير كل مسألة، وإعطاء الحكم الشرعي لها. المفهوم الخامس: يدخل في مفهوم الخير كل أنواع الترقي في مراتب الكمال الإنساني. ويدخل في مفهوم الشر كل أنواع الهبوط في دركات النقص الإنساني. ومن أنواع الكمال الإنساني التي يشعر بها معظم الناس الكمالات التاليات: أ- الكمال الفكري. ب- الكمال الخلقي. ج- الكمال السلوكي. د- الكمال الإبداعي. هـ- كمال التعايش الجماعي.

ويقابلها تمامًا أنواع النقص في حدود هذه المجالات الإنسانية. وشرح هذه الأنواع وتفصيلها فيما يلي: أولًا: الكمال الفكري ويكون الكمال الفكري بالعلم والمعرفة، وطريقة الأخذ بوسائلهما، ويكون الترقي في سلم هذا الكمال بمقدار الترقي في درجات العلم والمعرفة، ولما كان الترقي في سلم هذا الكمال من أهم ما يكسبه الإنسان من خير، حث الله رسوله عليه وقال له في سورة "طه: 20 مصحف/ 45 نزول": {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} . ولما كان أفق هذا الكمال أوسع من قدرة الإنسان على استيعابه، قال الله عز وجل مخاطبًا الناس جميعًا في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} . وقال في سورة "يوسف: 12 مصحف/ 53 نزول": {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} . ومجال الحديث عن حث الإسلام على اكتساب المعارف والعلوم مجال واسع جدًّا والنصوص فيه بالغة الكثرة، وحسبنا في هذا المقام الإلماح اليسير إلى ذلك. ومما لا ريب فيه أن الكمال الفكري خير مطلق بحد ذاته، وأن الترقي في مراتب هذا الكمال ترق في مراتب الخير. فالسلوك الذي يمارسه الإنسان فيقضي به إلى الترقي في مراتب الكمال الفكري عمل من أعمال الخير التي يأمر بها الإسلام. لذلك فهو أساس من أسس الحضارة الإسلامية. وأهم المعارف التي تُرقي الإنسان في سلم الكمال الفكري معرفة الله جل

وعلا، ومعرفة صفاته الجليلة، وحكمته العالية، وآثار صنعته الباهرة، ومعرفة تعاليمه المنزلة على رسله. وتحقيق الارتقاء في سلم الكمال الفكري يكون بالأخذ بأسباب التعلم المختلفة، ومنها تلقي المعارف المستقرة، والبحث العلمي السديد، والملاحظة والاختبار والتجربة. ويقابل الكمال الفكري النقص الفكري، ويكون هذا النقص بالجهل، وبالهبوط في دركاته، وأحط دركات الجهل منزلة الجهل المركب، وهو الذي يتصور صاحبه فيه الحق باطلًا والباطل حقًّا، ولا غرو أن الجهل البسيط أخف منه. والجهل البسيط هو عدم المعرفة بالشيء مع الاعتراف بالجهل به، الذي لا يعرف مثلًا ما هو التفاح فإذا سألته عنه قال: لا أعلم، وهو جاهل بسيط، لكن الذي يزعم أن التفاح حيوان بحري ذو خمس أرجل وثلاث أعين هو جاهل مركب. والذي ينشأ في واد منعزل فيجهل أن لهذا الكون خالقًا هو جاهل بسيط، أما الذي يتصور أن ربه فرعون، أو حيوان من الحيوانات، أو ثالث ثلاثة فهو جاهل مركب. ثانيًا: الكمال الخلقي الخلق: صفة مستقرة في النفس فطرية أو مكتسبة، ذات آثار في السلوك محمودة أو مذمومة. والكمال في خلق ما يكون حينما تكون آثار الصفة الخلقية المستقرة في النفس محمودة كلها، أما النقص في خلق ما فيكون حينما تكون آثار الصفة الخلقية المستقرة في النفس مذمومة كلها أو بعضها. وبملاحظة كون آثار الخلق قابلة للحمد أو الذم يتميز الخلق عن الغريزة

ذات المطالب المكافئة لحاجاتها الفطرية، ذلك لأن الغريزة المعتدلة ذات آثار في السلوك إلا أن هذه الآثار ليست مما يحمد أو يذم، فالأكل عند الجوع بدافع الغريزة ليس مما يحمد أو يذم في باب الأخلاق، لكن الشره الزائد عن حاجات الغريزة العضوية أمر مذموم، فهو أثر لخلق في النفس مذموم، والحذر من وقوع المكروه أثر من أثار غريزة حب البقاء، وليس محلًّا للذم أو المدح في باب الأخلاق، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر لخلق في النفس مذموم. وهكذا يتميز الخلق عن الغزيرة. وللكمال الخلقي صور كثيرة، منها الإقرار بالحق، والاعتراف بالجميل، وشكر المنعم وحمده، وحب الخير للآخرين، وكراهية الشر والإضرار والإيذاء، ومنها الإنعام والإحسان والمعاونة إذا كانت في محالها، ومنها الصفح الجميل إذا كان في محله، ومنها حسن ضبط الطبائع والغرائز بقوة الإرادة وتوجيهها لما يتضمن خيرًا، أو ينجم عنه خير. وقد مجد الإسلام الكمال الخلقي، وحث على مكارم الأخلاق حثًّا شديدًا، ونظرًا إلى شرف منزلة الكمال الخلقي أثنى الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بقوله له في سورة "القلم: 68 مصحف/ 2 نزول": {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} . وحصر الرسول مهام بعثته بإتمام مكارم الأخلاق فقال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ولا ريب في أن الكمال الخلقي خير مطلق، وأن الترقي في مراتب هذا الكمال ترق في مراتب الخير، فكل سلوك يمارسه الإنسان فيثمر له ترقيًا في مراتب الكمال الخلقي عمل من أعمال الخير التي يأمر بها الإسلام، لذلك فهو أساس من أسس الحضارة الإسلامية. وللترقي في سلم الكمال الخلقي وسائل كثيرة:

أ- منها الأخذ بأسباب المعرفة التي تدرك بها الفضائل والرذائل الخلقية، وتعلم بها آثارها المحمودة والمذمومة، وثمراتها العاجلة والآجلة، في الدنيا والآخرة. ب- ومنها وسائل التربية والتأديب التي يتولاها المربون والمؤدبون العقلاء والحكماء الحازمون. ج- ومنها التدريب العملي والممارسة التطبيقية، ولو صاحب ذلك تكلف وجهد نفسي أو جسدي. د- ومنهما الانغماس في البيئات الصالحات، لاكتساب فضائلها، عن طريق السراية والمحاكاة والتقليد. هـ- ومنها القدوة الحسنة، إذا تيسرت. إلى غير ذلك من وسائل تربوية نافعة يتفتق عنها الفكر الإنساني بالتأمل، أو يتوصل إليها المربون بالاختبار والتجربة والملاحظة وقياس النتائج. ويقابل الكمال الخلقي النقص الخلقي، ويكون بالهبوط في دركات الرذيلة الخلقية، وأخس هذه الدركات منزلة جحود الخالق، وكفران نعمه، وإنكار الجميل، ومن النقص الخلقي الشنيع عقوق الوالدين، والرغبة بالظلم والعدوان، والبغي والطغيان، ومن النقص الخلقي الأنانية المتوحشة بكل أنواعها وأشكالها، وهكذا حتى آخر الرذائل الخلقية الشائنة. ولتمييز الكمال والنقص في جانب الخلق عن سائر أنواع الكمال والنقص في الجوانب الأخرى الفكرية وغيرها نضع مميزات هذا الجانب من غيره بين يدي النظر المتفكر في حقائق الأمور، ومن هذه المميزات ما يلي: أولًا: كل دافع ذاتي في الإنسان فطري أو مكتسب يدفعه حتى يعترف لغيره بما له من كمال أو حق -ولو كان في ذلك الاعتراف مساس بما يشتهي الإنسان لنفسه من كمال أو مجد أو أي حظ من حظوظ النفس أو الجسد- هو ولا شك مثال من أمثلة الكمال الخلقي.

أما الدوافع التي تدفع الإنسان حتى يجحد ما لغيره من كمال أو حق ابتغاء وجه الشيطان، أو استجابة لما يشتهي لنفسه من كمال أو مجد أو أي حظ من حظوظ النفس أو الجسد، ضمن المؤثرات الأنانية في الإنسان، فهي من أمثلة النقصان، والانحطاط الخلقي. لذلك فإننا نستطيع أن نعتبر الاعتراف للخالق العظيم بكمال ربوبيته وإلهيته والإذعان لذلك بدافع ذاتي في الإنسان من بدهيات أمثلة الكمال الخلقي فيه، أما الإلحاد به، وجحود ربوبيته وإلهيته بعد قيام الأدلة على ذلك في فكر الإنسان وشعوره فمن أبرز أمثلة النقص الخلقي في الإنسان، ومن أخس مراتبه. وعلى هذا يدخل في أمثلة الكمال الخلقي الاعتراف للوالدين بفضلهما، والاعتراف للمعلم ولكل ذي فضل بفضله، والاعتراف لكل ذي مزية علمية أو فكرية أو إدارية أو جسدية بمزيته، وعدم غمطه حقه، وكذلك الاعتراف لكل صاحب حق بحقه، مهما كانت العوامل النفسية محرضة على الغمط والجحود، ويدخل في أمثلة النقص الخلقي جحود فضل ذوي الفضل، وإنكار مزايا ذوي المزايا، وغمط الحق لأصحابه، استجابة لدافع من دوافع النفس الأنانية أو لشهوة من شهواتها. ثانيًا: كل دافع ذاتي في الإنسان فطري أو مكتسب يدفعه حتى يؤدي الحقوق التي عليه كاملة، أو حتى ينعم على غيره بعطاء من علمه أو من قدرته أو من جاهه، أو من ماله متجاوزًا في ذلك عوامل نفسه الأنانية هو ولا شك مثال من أمثلة الكمال الخلقي. أما الدوافع التي تدفع الإنسان حتى يعتدي على ما ليس له به حق بغية حيازته لنفسه، أو حتى يبخل بعطاء ينفع آخذه ولا يضر باذله، ويبخل بما يدفع الضرورة الملحة عن غيره، مع عدم اضطراره إليه، أو مع عدم حاجته إليه إلا حاجة الاستجابة للطمع أو الشره، وشهوة الاستئثار، أو الاستجابة للرغبة بالاستزادة من الرفاهية المفرطة، فهي من أمثلة النقصان الخلقي. ثالثًا: كل دافع ذاتي فطري أو مكتسب يدفع الإنسان حين ينظر إلى كل

المنح التي يختص الله بها عباده، ويورعها بينهم، إنما هي مظاهر حكمة الله وعدله، فهو ينظر إلى ما لديه منها بعين القناعة والرضا دون أن تمتد إلى ما وهب الله غيره منها امتداد اعتراض أو حسد، وهو ولا شك مثال من أمثلة الكمال الخلقي. وعكس ذلك من أمثلة النقص الخلقي في الإنسان. ثالثًا: الكمال السلوكي هو طراز راق من السلوك في الحياة، يتمثل بالحكمة في تصريف الأمور، وتكون الحكمة بوضع الأشياء في مواضعها، وإعطاء كل أمر ما يناسبه. ويقابل هذا الكمال السلوكي النقص السلوكي، ويتمثل بالحماقة في تصريف الأمور، وتكون الحماقة بوضع الأشياء في غير مواضعها. ويسمى الصاعد في سلم الكمال السلوكي حكيمًا، ويسمى الهابط في درك النقص السلوكي أحمق. ولهذا الكمال مجالات يبلغ عددها عدد ما في الحياة من أنواع السلوك، ومن هذه المجالات المجالات التربوية، والشخصية، والإدارية والسياسية، والاجتماعية، وغيرها. ولما كان الكمال السلوكي جزءًا من مفهوم مبدأ "فعل الخير والعمل على نشره، ترك الشر والعمل على قمعه" الذي هو أساس راسخ من أسس الحضارة الإسلامية وجدنا الإسلام يدفع الإنسان المسلم كيما يرتقي باستمرار في سلم هذا الكمال، وذلك في كل مجال من مجالات الحياة، كما وجدناه يأخذ بيد الإنسان المسلم بعيدًا عن كل حماقة في السلوك، في كل مجالات الحياة أيضًا، وذلك بغية أن يصل به وبالمجتمع الإنساني كله إلى قمة الحضارة الإنسانية المثلى في ميدان السلوك. وكان دفع الإسلام الإنسان المسلم إلى الكمال السلوكي من عدة طرق:

طرق الدفع إلى الكمال السلوكي: الطريق الأول: البيان الإجمالي العام. الطريق الثاني: البيان التفصيلي الشامل لأهم جزئيات السلوك في الحياة. الطريق الثالث: التدريب العملي الذي يشكل في الفرد المسلم عادة متمكنة فيه على ممارسة السلوك الكامل الحكيم. الطريق الرابع: القدوة الحسنة التي تضع أمام الإنسان المثال الحي للسلوك الكامل في الحياة. وفيما يلي تفصيل موجز لهذه الطرق الأربع: طريق البيان الإجمالي: جاء في المصادر الإسلامية نصوص متعددة تدفع الإنسان المسلم إلى الكمال السلوكي بصفة مجملة غير مفصلة، فمن ذلك النصوص التالية: أ- قول الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . ولدى التبصر نلاحظ أن الحكمة في السلوك ذات وجهين: 1- وجه في النفس إذ يدرك الحكيم فيها صورة السلوك الأكمل، فتتجه إرادته إلى مباشرته ولو خالف هواه. 2- ووجه في التطبيق إذ يمارس الحكيم بعمله تلك الصورة الإدراكية الفضلى. ولا يغيبن عن تصورنا أن القرآن يشير في هذه الآية إلى أن الحكمة في السلوك عنصر من عناصر الخير؛ إذ يقول: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} . ولا يغيبن عن تصورنا أيضًا أن الحكمة في السلوك مسبوقة دائمًا بتدبر

فكري يدرك فيه الحكيم صورة السلوك الأكمل، والآية تنبه على هذا يقول الله عز وجل فيها: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . ب- وقول الله تعالى في سورة "هود: 11 مصحف/ 52 نزول": {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . وفي هذه الآية نلاحظ توجيهًا شديدًا للناس أن يتنافسوا في الارتقاء في درجات سلم الأعمال الحسنة، ويتسابقوا إلى نيل الكمال السلوكي في الحياة؛ إذ يجعل الله الغاية من خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان فيها أن يبلو الناس أيهم أحسن عملًا، وكلما زادت نسبة الأعمال الحسنة لدى الإنسان زاد ارتقاؤه في سلم الكمال السلوكي حتمًا. إلى غير ذلك من نصوص كثيرة: طريق البيان التفصيلي: أما البيان التفصيلي لدفع الناس إلى الكمال السلوكي فقد زخرت مصادر الشريعة الإسلامية بالشيء الكثير منه، وقد حدد الإسلام في بياناته التفصيلية المنهج التفصيلي الذي يتناول أهم جزئيات الحياة، وترك مع ذلك للفكر الإنساني المشرق المستنير بنور التعاليم الإسلامية الإجمالية والتفصيلية ما بقي منها، ليستنتج وجه الحكمة فيها بالاستنباط والقياس والبحث والاختبار والتجربة والملاحظة. فمن بياناته التفصيلية النصوص التالية: أ- في مجال الدعوة إلى الله قول الله تعالى في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول": {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . فالإسلام يدعو في هذه الآية إلى اتخاذ الحكمة في الدعوة إلى سبيل الله،

والبعد عن كل حماقة مقترنة بالعنف، والغضب، وسوء التصرف، وارتكاب المنفرات عن طريق الله، ويدعو إلى أخذ الناس بالموعظة الحسنة، لا بالموعظة الفظة الغليظة المنفرة، ويدعو أيضًا إلى المجادلة بالتي هي أحسن. وكل ذلك من البيانات التفصيلية للكمال السلوكي في مجال الدعوة إلى سبيل الله. ب- وفي مجال السلوك الشخصي قول الله تعالى في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . إن الإسلام يدعو في هذه الآية إلى اتخاذ الحكمة في أنواع من السلوك الشخصي، وقد ذكر هذه الأنواع بشكل مفصل، وحدد صورة الكمال السلوكي فيها فأخذ الزينة عند كل مسجد صورة من صور الكمال السلوكي في الحياة، وهو أمر يدعو إليه الذوق الجمالي الرفيع، ويدعو إليه أيضًا تكريم حاضري المسجد من الناس، وذلك يتجنب ما يؤذي حواسهم من منظر قذر، أو رائحة كريهة. والاعتدال في الطعام والشراب صورة من صور السلوك الحكيم في الحياة، أما الإسراف المضر فهو ضرب من الحماقة. ومن أجل ذلك اهتم الإسلام بإدخال هذه الأمور في بياناته التفصيلية للكمال السلوكي. ج- وفي مجال تثبيت الحقوق المالية جاء الإسلام ببيانات تفصيلية تتضمن توجيه المؤمنين بالإسلام إلى كتابة المداينات، والإشهاد عليها، أو التوتق عن طريق الرهان المقبوضة، وذلك في آية المداينة وما بعدها من آخر سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} . إلى آخر الآيتين "282 و283".

د- وفي مجال الآداب الاجتماعية جاء في الإسلام بيانات تفصيلية كثيرة توجه المسلمين إلى الكمال السلوكي فيها، منها قول الله تعالى في سورة "النور: 24 مصحف/ 102 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . ففي هذا النص طائفة من الآداب الاجتماعية داخل الأسرة الواحدة، يوجه فيها الإسلام الذين آمنوا إلى بعض ما يجب عليهم أن يتقيدوا به من كمال سلوكي. إن موضوع هذا النص يدور حول استئذان العبيد والإماء والذين لم يبلغوا الحكم من ساداتهم أو أوليائهم قبل أن يدخلوا عليهم حجراتهم الخاصة، وقد قيد النص وجوب هذا الاستئذان بثلاثة أوقات يكون الناس فيها عدة مشتغلين في شئونهم الخاصة، وغير متحفظين، لذلك فهي ثلاثة أوقات عورات لهم، أما فيما عدا هذه الأوقات فلهم أن يطوفوا دون استئذان خاص. وهذه الأوقات هي كما في النص: 1- قبل صلاة الفجر. 2- عند القيلولة وقت الظهيرة. 3- بعد صلاة العشاء. وظاهر أن هذا الحكم خاص بالعبيد والإماء والذين لم يبلغوا الحلم، أما الآخرون فيجب عليهم الاستئذان في كل الأوقات، ما لم تكن الأبواب مفتحة، أو الإذن معلومًا مما سبق. هـ- ومن بيانات الإسلام التفصيلية التي تتناول جزئيات كثيرات من أنواع السلوك الإنساني سبع عشرة آية من سورة "الإسراء" مختومة بقوله تعالى

لرسول: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} إشارة إلى أن ما أرشد إليه القرآن من صور السلوك الإنساني في هذه الآيات إنما هو من الحكمة التي هي حسن التصرف في الأمور، ووضع الأشياء في مواضعها الملائمة لها، والتي يرتقي بها الإنسان في سلم الكمال السلوكي، متوجهًا إلى قمة الحضارة الإنسانية المثلى، فقال الله عز وجل في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا، وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا، وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا، وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا، وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا، ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} . ففي هذا النص من الشمول لجزئيات كثيرات من أنواع السلوك التي أرشد الله عز وجل فيها إلى وجه الحكمة، ما يعطي صورة رائعة لاهتمام الإسلام بدفع الإنسان إلى الكمال السلوكي، في كل تصرف يمارسه في حياته.

1- فالعبادة التي هي لون من ألوان السلوك في الحياة يجب أن تكون لله وحده. 2- وحق الوالدين من السلوك هو الإحسان لهما، وخفض جناح الذل لهما من الرحمة، والدعاء لهما. 3- وحق ذي القربى والمسكين وابن السبيل من السلوك هو إيتاؤهم والإحسان إليهم. 4- والحكمة في جانب التصرف بالأموال التوسط الذي لا إمساك فيه ولا تبذير. 5- والحكمة في حالة الإعراض عن بذل الصدقة، لعدم وجود ما يَجُود به الإنسان، تكون بمواجهة ذوي الحاجة بالقول الميسور. 6- ومن أمثلة الحكمة في السلوك رعاية حق الأولاد في الحياة، وعدم قتلهم خشية الفقر. 7- ولما كان من أنواع سلوك الإنسان في حياته تلبية مطالبه الجنسية، كان من الحكمة في السلوك أن لا يتم ذلك عن طريق الزنا، بل عن طريق ما شرع الله. 8- وهكذا تمضي الآيات فتنهى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وتنهى عن الإسراف في الانتقام، وتنهى عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وتأمر بالوفاء بالعهد، وتأمر بإيفاء الكيل، والوزن بالقسطاس، وتنهى عن إتباع ما ليس للإنسان به علم، وتنهى عن الكبر والعجب والاختيال. وما أمر الله به من ذلك إنما هو من أوجه الحكمة في السلوك، ولذلك أمر الله به، وما نهى الله عنه إنما هو من أوجه الحماقة في السلوك، ولذلك نهى الله عنه. وأخيرًا يقول الله تعالى بعد تحديد أوجه الحكمة فيما سبق من جزئيات السلوك في الحياة:

{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} . وعلى مثل هذه الصور الراقية تمر البيانات التفصيلية في القرآن والسنة، محددة صورة السلوك الأكمل، أخذًا بيد الإنسان إلى قمة الكمال السلوكي المنشود، في أسس الحضارة الإسلامية. طريق التدريب العلمي: التدريب العملي طريق من طرق التقويم السلوكي؛ إذ يشكل في الإنسان ذكرًا كان أم أنثى صغيرًا أم كبيرًا عادة متمكنة فيه تدفعه باستمرار إلى ممارسة ما تدرب عليه. ومن أجل ذلك استخدمه الإسلام في تكوين صور السلوك الكامل الحكيم لدى المسلمين. ونلاحظ هذا التدريب العملي ظاهرًا فيما أوجده الإسلام داخل المجتمع المسلم من أعمال جماعية في مجالات العبادات الدينية، والعلاقات الاجتماعية والنظم المختلفة السلمية والحربية. والطابع الجماعي لهذه الأعمال يضع كل فرد ينخرط في سلك هذه البيئة الجماعية للمسلمين ضمن آلة متحركة عامة، تقسر كل فرد فيها على أن يتقبل التدريبات العملية التي تمارسها الجماعة بشكل عام. ويساعد على ذلك الوازع الديني، الذي يحرك الفرد من داخله للاستجابة للقيام بهذه الأعمال، وبالتكرار ومرور الزمن تصبح هذه التدريبات جزءًا من عادات الفرد المتمكنة فيه، ذات الجذور العميقة في قرارة نفسه. ولما كان منهج الإسلام الذي حدده الله لسلوك الفرد المسلم، والجماعة المسلمة ملتزمًا جانب الكمال والحكمة الرفيعة في كل أمر، كان تأصيل هذه الصور من السلوك في عادات الإنسان عن طريق التدريب العملي، من أقوم الطرق وأخصرها، لترقية المجتمعات المسلمة في سلم الكمال السلوكي، والحضارة الإنسانية المثلى.

فالإنسان الذي ينخرط في بيئة تدربه على النظام الكامل حينما يقوم بعادته لربه في الصلاة وبخاصة صلاة الجماعة يسهل عليه أن يتلقى تعليمات تنظيمية في مختلف أنواع السلوك في الحياة. والإنسان الذي يجد نفسه في بيئة لهجتها الصدق، وخلقها الأمانة والوفاء بالعهد، والصدق بالوعد، يصعب عليه جدًّا أن يخرج على هذا الأسلوب من السلوك في الحياة، وإن كانت نفسه نزاعة إلى ذلك، ثم متى طال عليه العهد وهو ملتزم بما تمليه عليه البيئة وجد هذه الصفات الكريمات ذات جذور متغلغلة في أعماق نفسه، وأصبح يحس بنفرة شديدة من أضدادها، فلو حلا له أن يكذب لم يطاوعه خلقه المكتسب على ذلك، ولو بدا له أن يخون تلجلج واضطرب وفر من نزعات نفسه ونزعات شيطانه، وابتعد عن طريق الخيانة، وهكذا في كل ما اكتسبه بالتدريب العملي والتخلق طويلي الأمد، ضمن البيئة الخيرة التي لفته في دوامتها. فمن خطوات الإصلاح التي أخذ بها الإسلام تكوين المجتمع الإسلامي المثالي الأول، الذي يملي على كل من ينشأ أو يندمج فيه صور الكمال السلوكي في كل مجال من مجالات الحياة. ومن أجل ذلك حرص الإسلام الحرص البالغ على إيجاد المناسبات المتكررات التي يجتمع فيها المسلمون على سلوك واحد، الأمر الذي من شأنه أن يملي صور السلوك العملي الكريم على الأفراد، ويدربهم على كل فضيلة نفسية وعملية، ويشجع المتنافسين في الخيرات على تنمية أمثلة الكمال السلوكي في المجتمع، وترقية مظاهر الحكمة في السلوك. بخلاف المجتمعات المنحرفة فإنها تؤدي هذا الدور نفسه، ولكن في اتجاه معاكس؛ إذ تعمل على تدريب من ينخرط فيها على كل رذيلة من الرذائل السلوكية وكل قبيحة من القبائح المنتشرة فيها، كما تكون بؤرة ملائمة لتزايد الحماقات السلوكية، حتى تفسد المفاهيم العامة، فتمسي مآثر الأفراد فيها ما أصابوه من جرائم وسيئات وانحرافات في السلوك.

ومجتمع من هذا النوع لا بد أن يقدم للناس نموذجًا فريدًا من الهمجية، والتخلف الحضاري، وهذا ما يقاومه الإسلام أشد مقاومة؛ لأنه لا يرضى للناس إلا أمثلة الرقي والتقدم الحضاريين في كل ميدان من ميادين الحياة. طريق القدوة الحسنة: ولما كانت القدورة الحسنة طريقًا من طرق اكتساب أنواع الفضائل والكمالات السلوكية في الواقع الإنساني، كان من شأن الإسلام أن يتخذها وسيلة من وسائله، لترقية المجتمعات المسلمة في سلم الكمال السلوكي. والقدوة الحسنة هي المثال الحي للسلوك الأمثل في الحياة. ولقد جعل الله للناس رسوله محمدًا صلوات الله عليه خير قدوة يقتدي بها الأفراد العاديون والأفراد الطامحون لبلوغ الكمال الإنساني في السلوك، وجعل الذين آمنوا معه وصدقوا وأخلصوا واستقاموا أمثلة رائعة يُقتدى بها في كل عمل كريم من أعمال الخير والبر والجهاد والبذل والتضحية والفداء والتواد والتراحم والتحابب والإخاء والانتظام في الأعمال الجماعية والتسابق في الخيرات، وهكذا إلى آخر جدول الفضائل السلوكية في الحياة. ولئن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه فإن سيرته التي تحتوي على جزئيات سلوكه ماثلة لنا، فيما أثر عنه صلوات الله عليه، من قول أو فعل أو صفة أو إقرار. وفيما بلغنا من تراجم أصحابه رضوان الله عليهم ما يكفي لتجسد القدوة الحسنة للمجتمع المسلم، ثم إن كل عصر بعدهم لا يخلو من وجود طائقة من أمة محمد -قلت هذه الطائفة أم كثرت- تصلح لأن تكون قدوة حسنة في عصرها، فقد بشر رسول الله صلوات الله عليه بذلك في قوله: $"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله". ولقد أرشد القرآن الكريم إلى أهمية القدوة الحسنة، لما لها من أثر في تقويم السلوك ونبهنا عليها، وعرض علينا كثيرًا من أمثلة التربية الربانية للنبي صلى الله عليه وسلم

عن طريق تنبيه الله ورسوله على نماذج القدوة الحسنة فيمن سبقه من المرسلين، وفيما يلي أمثله من ذلك: أ- خاطب الله الناس بقوله في سورة "الأحزاب: 33 مصحف/ 90 نزول": {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} . ففي هذا النص القرآني إرشاد عظيم من الله للمؤمنين أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة لهم، يقتدون به في أعماله، وأقواله، وأخلاقه، وكل جزئيات سلوكه في الحياة، لما للقدوة الحسنة من أثر في النفس يشجع على ارتقاء درجات الكمال المكتسب بالعمل والاجتهاد. ب- وخاطب الله رسوله محمدًا بعد ذكر طائفة من الرسل بقوله في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول": {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} . وهكذا كان يقول الرسل السابقون لأقوامهم، وبما كانوا يقولون يأمر الله رسوله محمد صلوات الله عليه أن يقول. وحينما اشتدت صنوف الأذى على الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه خاطبه الله بقوله في سورة "الأحقاف: 46 مصحف/ 66 نزول": {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} أي ولا تستعجل لهم العذاب. ج- وخاطب الله رسوله والمؤمنين معًا بقوله في سورة "الممتحنة: 60 مصحف/ 91 نزول": {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا

وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} . ففي هذا النص إرشاد من الله للرسول والمؤمنين أن يتخذوا إبراهيم والذين آمنوا معه أسوة لهم في التبرؤ ممن كفر بالله، وفي معاداة من حاد الله، وإعلان بغضهم في الله حتى يؤمنوا، واستثنى الله من هذه الأسوة تعهد إبراهيم لأبيه الكافر بأن يستغفر له، فلم يأذن الله بمثل ذلك. أسباب تأثير القدوة: وإنما كان للقدوة الحسنة أثرها الفعال في تقويم السلوك للأسباب التالية: السبب الأول: أن في فطرة الإنسان ميلًا قويًّا للمحاكاة والتقليد، الأمر الذي يسهل عليه عملية تعلم الأعمال الراقية، التي لم تصل إلى معرفتها الأجيال السابقة إلا بعد تطوير كثير، اعتمد على الاختبار والتجربة والتحسين واختيار الأفضل. السبب الثاني: أن المثال الحي الذي يتحلى بجملة من الفضائل السلوكية يعطي غيره قناعة بأن بلوغها من الأمور التي هي في متناول القدرات الإنسانية، فمما نشهده في مجال التربية أن كثيرًا من الناس يرون بعض الأمور مستحيلة الوقوع؛ لأنهم لم يعالجوا قدراتهم للقيام بها، فإذا شاهدوا غيرهم يفعلها أخذوا يطوعون قذراتهم حتى يكسبوها المهارات المطلوبة لذلك العمل، بالمعالجة والمحاكاة والتدريب. السبب الثالث: إن المثال الحي المرتقي في درجات الكمال السلوكي يثير في الأنفس الاستحسان والإعجاب، ومع هذين الأمرين تتهيج دوافع الغيرة فيها، وعند ذلك يحاول الإنسان الخير تقليد ما استحسنه وأعجب به، بما يتولد لديه من حوافز قوية تحفزه لأن يعمل مثله، حتى يحتل درجة المجد التي سبقه إليها. رابعًا: الكمال الإبداعي لقد أودع الله في الإنسان قدرات يستطيع بها عن طريق التأمل الفكري

والتخيل من جهة، وعن طريق الاختيار والتجربة والملاحظة من جهة أخرى، أن يبتكر من المواد المنبثة في الوجود صورًا جديدة، ومصنوعات جديدة ذوات فائدة ونفع، أو ذوات متعة وجمال. فما ينجزه من ذلك نستطيع أن نعتبره بحسب مقاييس الأعراف الإنسانية عملًا إبداعيًّا ابتكاريًّا، وإن كان الإبداع فيه للهيئة التركيبية فقط، لا للمادة؛ لأن المادة جاهزة في الوجود بمحض خلق الله، لم تتوسط في إبداعها القدرات البشرية، ولا تستطيع القدرات البشرية أن تبدع فيها شيئًا مهما بلغت. وبعد هذا نستطيع أن نقول: إن من العناصر الأولى الدافعة للترقي في سلم الكمال الإبداعي ما يلي: 1- الرغبة بالابتكار والتحسين والإتقان في مظاهر الوجوه، وفي وسائل العيش، وفي فنون التعبير عن المشاعر النفسية، مع حس راق بالجمال. 2- ما لدى الإنسان من قدرات فكرية وتخيلية وعملية يستطيع بها أن يبتكر ويحسن ويتقن، أو يعبر عن مشاعره النفسية بما يبتكر من أقوال أو حركات أو أعمال جميلة تنم عن ذوق رفيع، وذكاء بديع. ولا ريب في أن الكمال الإبداعي خير بحد ذاته، ما لم ينجم عنه شر بسبب من الأسباب المرافقة له، كسوء استعمال، أو مخالفة لمحظور ديني حرمه الله، لما يترتب عليه من إخلال بالعقيدة، أو فتنة في السلوك، تفضي إلى الانحراف عن طريق الخير. وقد شجع الإسلام على الترقي في سلم الكمال الإبداعي، ولم يمنع منه إلا ما غلبت فيه دواعي الفتنة في الدين، عقيدة أو سلوكًا، أو كان في معظم أحواله ذريعة لنشر الفساد في الأرض. ومن أمثلة ذلك تحريم الإسلام تحت الأوثان، وصنع التماثيل، وإبراز المرأة فنون زينتها لغير من تحل له، ممن يغلب في معتاد الناس بحسب غرائزهم افتتانه بها.

أما اختراع وابتكار وتحسين الوسائل التي تيسر أعمال الناس في حياتهم، وكذلك اختراع وابتكار وتحسين الأشكال والألوان وسائر أنواع الفنون الجميلة التي تمتع النفس والحس مما لا تأثير له على عقيدة أو سلوك تأثيرًا يفضي إلى الشر ومعصية الله، فكل ذلك مجالات واسعات منفتحات أمام الإنسان المسلم، يسابق فيها على مقدار استطاعته الإنسانية، وعلى مقدار ما لديه من خيال خصيب، واختيار وتجربة وملاحظة وتقويم. والإنسان المسلم يجد لديه ميدانًا واسعًا لتحسين وسائل النقل البري والبحري والجوي، على مقدار حيلته في التصرف بالقوى الكمينة فيما خلق الله من شيء في الأرض وفي السماء، مع تزويدها بكل ما فيه أمن وراحة ومتعة للإنسان، ضمن الحدود التي لا إثم فيها ولا شر، ولا معصية لله. والإنسان المسلم يجد أمامه أيضًا ميادين واسعة للإبداع والابتكار والتحسين، في مجالات العلوم الطبية والكيميائية والفيزيائية والحسابية والهندسية والزراعية، المصحوبة بالتطبيق وبالانتفاع، مما تهدي إليه النتائج العملية، مع الالتزام في كل ذلك بالبعد عن الشر والإثم والمعصية، والبغي والعدوان والظلم. والإنسان المسلم يجد أمامه أيضًا ميدانًا واسعًا لتحسين العمران وتزيينه بالأشكال والفنون الهندسية، وفرشه بما ييسر الله للإنسان من أثاث ورياش، وإحاطته بكل ممتع مما خلق الله في أرضه من شجر وثمر ورياحين وزهور، وطير غريد، وغدير طريد، وحيوان أليف أو شرود، مع إبداع في التنسيق والتوزيع، والعرض والتصنيع، وانتقاء كل آسر للنفس والحس مما تجود به الأرض والسماء، أو يفيض به خيال النبغاء، أو توحي بمحاكاته كل حديقة غناء. وأحبب بكل تقدم حضاري يعمر الأرض ويزينها على ما يرضي الله، والشروط التي يشترطها الإسلام للتقدم في مجالات الكمال الإبداعي تتلخص بما يلي: أولًا: البعد عن الشر والإثم والمعصية

ثانيًا: البعد عما حرمه الإسلام لما يتضمن من دواعي الفتنة في الدين عقيدة أو سلوكًا. ثالثًا: وجوب الاحتفاظ بالتوزيع العام للزمن على واجبات الحياة الدينية والدنيوية، فكل تقدم مادي يكون على حساب نهب الحصص الزمنية المستحقة لأداء الواجبات الدينية عمل منهي عنه، لا لذاته، ولكن لما رافقه من الاستيلاء على حصص الواجبات الأخرى من الزمن. ويقابل الكمال الإبداعي النقص في هذا المجال، ومن أسبابه التواني والكسل، وعدم المبالاة بالتحسين، وقصور النظر، والرضا بأيسر الوسائل، المهيأة في الطبيعة، مما لا يتطلب جهدًا فكريًّا، أو جهدًا عمليًّا. ومن لوازم هذا النقص التخلف في مظاهر التقدم الصحي، والعمراني، والزراعي، والصناعي، والفني، من الناحيتين العلمية والعملية، ومن لوازمه أيضًا تراكب أسباب الفقر والحاجة ونمو عواملهما. خامسًا: كمال التعايش الجماعي ويقصد بالتعايش الجماعي الصورة العامة التي يعطيها مجتمع من المجتمعات الإنسانية، عن العلاقات المختلفة السائدة بين أفراده. ولا بد هنا من أن نلاحظ أن من عناصر كمال التعايش الجماعي سيادة العدل والنظام والرخاء، والأمن والطمأنينة والمحبة والإخاء. وأن من عناصره أيضا كفالة ذوي الضرورات والحاجات، والتعاون بين أفراد المجتمع، لتحقيق الكمالات المختلفات، ولتحقيق حاجات الشركاء في ظروف الحياة الاجتماعية، سواء كانت هذه الحاجات حاجات جسدية أم نفسية، مادية أم معنوية، والعمل على توفير أسباب السعادة والرفاهية والهناء لكل فرد من أفراد الجماعة.

ومن الوسائل لتحقيق هذا الكمال الوسائل التالية: الوسيلة الأولى: بذل كل قادر على العمل نصيبه من الجهد، إسهامًا منه في بناء كمال التعايش الجماعي، وقد أمر الإسلام بالعمل كل قادر عليه ضمن نظام شامل. الوسيلة الثانية: رضا كل فرد بحقه والتزامه بحق الآخرين عليه. الوسيلة الثالثة: التنسيق والتوفيق بين حركات العمل الجماعي العام، ضمن نظام شامل، يحمي من التجاوز والتصادم والفوضى والإهمال والتقصير. وقد وضع الإسلام للقواعد العامة كثيرًا من التفصيلات الجزئية التي تحتوي على الأسباب والشروط الهامة، الكفيلة بترقية المجتمعات الإنسانية في درجات كمال التعايش الجماعي، وحث المسلمين على متابعة تنظيم المجتمعات الإنسانية، والعمل على ترقيتها، والصعود بها في سلم الحضارة الفضلى، وكلف أولي الأمر وضع الخطط اللازمة لتحقيق الترقي الممكن في هذا الكمال، والعمل على ذلك. ويقابل كمال التعايش الجماعي النقص في هذا المجال، ومن مظاهر هذا النقص سيادة الظلم والفوضى، والتعادي والتباغض، والخوف والقلق والإضراب، وتناهب الحظوظ، وعدوان الناس بعضهم على بعض، وعدم الرضا بالحق، ومن مظاهره أيضًا كثرة عدد البؤساء، وذوي الحاجات، وانتشار الفقر والجهل والمرض، وكثرة الآلم، ونمو الأنانيات المختلفات، ونحو ذلك من السيئات الاجتماعية. وقد نهى الإسلام نهيًا شديدًا عن كل ما فيه ضرر بالجماعة، وإخلال بالنظام العام، وعدوان على الحقوق، وإفساد في الأرض، ونهى عن كل ما يقضي إلى النقص والتخلف في مجال التعايش الجماعي الأفضل. وهذه النظرة الجماعية ظاهرة في نصوص الإسلام، في كل مجال من مجالات الحياة، ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف 92 نزول":

{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} . السفهاء: هم ناقصو العقل الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم. أي لا تسلموا السفهاء أموالهم. ولكن ليكن من عقلائكم أولياء عليهم يرزقونهم ويكسونهم في هذه الأموال، ويقومون على حفظها من الضياع والتبذير. وهذا الخطاب لجماعة المسلمين عامة، ويمثلهم في ذلك القضاء الإسلامي القويم. ونلاحظ في هذا النص أن الله تعالى أطلق على الأموال التي هي أموال السفهاء بالملك الشخصي، أطلق عليها أنها أموال جماعة المسلمين عامة، فقال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} وذلك نظرًا إلى أن تبديد الفرد أموال نفسه الخاصة يؤثر على مصلحة المسلمين عامة؛ لأنه أمر يضعف الكيان المالي العام، وهو ما يسمى في مصطلحات العصر الحديثة "الثروة العامة" أو "الثروة القومية". وفي هذا النص أيضًا بيان للحكمة من النهي، وهي أن الأموال وإن كانت ملكًا للأفراد هي في الوقت نفسه قيام للجماعة؛ نظرًا إلى الأثر الذي تحمله للجماعة، ونظرًا إلى أن ضرورات المصلحة العامة قد تقضي بالاستفادة منها بالعدل، عن طريق البذل الطوعي، أو عن طريق الضرائب العادلة التي يأمر بها الحاكم المسلم. ومما شرعه الإسلام لما له من أثر في تحقيق كمال التعايش الجماعي تحريم أكل أموال الناس بالباطل، كالسرقة والسلب والنهب والغش والربا والرشوة، وتحريم الظلم والعدوان بكل أنواعهما وصورهما، كقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والجور في الحكم، والسب والشتم والتعيير والتنقيص والتنابز بالألقاب والقذف ونحو ذلك. ومنها أيضًا الأمر بصلة الرحم والإحسان إلى الجار، والحض على التهادي

والتزاور والقرض الحسن، والتآخي والتحاسب في الله ونحو ذلك مما له أثر في ترابط الجماعة، وتعايشها على أكمل صورة مسعدة لأفرادها. وهكذا دفع الإسلام المسلمين إلى بلوغ كمال التعايش الجماعي واختلال قمة الحضارة المثلى. تلخيص عام: بهذا البيان الذي حاولنا فيه إلقاء الأضواء المناسبة على مبدأ "فعل الخير والعمل على نشره، وترك الشر والعمل على قمعه" أحد الأسس الراسخة للحضارة الإسلامية يتضح لدينا الملخص التالي: أولًا: إن الخير والشر اللذين يترتب على فعلهما مدح وثواب أو ذم وعقاب محدودان بحدود العمل الإنساني، المصحوب بإرادة الفاعل وعلمه. ثانيًا: إن أبرز الخصائص لكل من فعل الخير وفعل الشر ما في أنفس فاعليهما من إرادة تصميم على فعل الخير حبًّا بالخير وطاعة لله، أو فعل الشر تلبية لهوى من أهواء النفس، أو نزوة من نزواتها مع العلم بأنه شر. ثالثًا: يدخل في مفهوم الخير ما يلي أ- كل عمل يحقق رضوان الله وثوابه. ب- كل عمل يكون وسيلة للترقي في مراتب أحد الكمالات التاليات: الكمال الفكري - الكمال الخلقي - الكمال السلوكي - الكمال الإبداعي - كمال التعايش الجماعي. ج- كل عمل يكون وسيلة لتحقيق ما يلي: - اللذات التي لا ضرر فيها ولا عدوان على حدود الله. - المنافع التي لا مضار فيها مساوية لها أو راجحة عليها. - المصالح التي لا مفاسد فيها مساوية لها أو راجحة عليها.

رابعًا: يدخل في مفهوم الشر ما يلي أ- كل عمل يؤدي إلى سخط الله وعقابه. ب- كل عمل يكون وسيلة للهبوط في دركات النقص المقابل للكمالات السابقات. ج- كل عمل يكون وسيلة للسيئات التاليات: - الآلام التي لا طاعة لله فيها ولا منافع أو مصالح تُرجى عن طريقها وهي راجحة عليها، ولا سبيل لتحقيقها إلا بتحمل هذه الآلام. - المضار التي لا تتضمن منافع راجحة عليها، ولا سبيل لتحقيق هذه المنافع الراجحة إلا بارتكابها. - المفاسد التي لا تتضمن مصالح راجحة عليها، ولا سبيل لتحقيق هذه المصالح الراجحة إلا بارتكابها. خامسًا: لدى تساوي المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، واللذات والآلام، يرجع إحالة العمل المفضي إلى ذلك على جانب الشر، فيمنع الإنسان من ممارسته، صيانة له من العبث، والتزامًا بقاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح المساوية لها". سادسًا: متى أمكن تحقيق المقصود من المنافع أو المصالح أو اللذات بطريق خال من المضار والمفاسد والآلام امتنع سلوك طريق آخر فيه شيء من ذلك، ولو كان دون ما يتحقق به من خير مقصود، وذلك لأن الحاجة أو الضرورة لم تلجئ إلى تحمل هذه المؤذيات، ولو كانت خفيفة، ما دام بالإمكان تحقيق المطلوب دون تحمل شيء منها، وذلك باختيار طريق آخر. سابعًا: إن نظرة الإسلام إلى مفهوم الخير والشر تشمل في وقت واحد، ضمن ميزان دقيق حساس اللذات والآلام، والمنافع والمضار، والمصالح والمفاسد، الفردية والاجتماعية، العاجلة والآجلة، الدنيوية والأخروية، كما تشمل مع كل ذلك علاقة الإنسان بربه، وتزن أعمال الإنسان بهذا الميزان الحساس، المتعدد الكفات، وتجري عليها حسابًا عادلًا ضمن معادلات رياضية

عالية، فتعطي قيمة العمل الإنساني، من الخير والشر، بما تعطيه له من حكم شرعي. خاتمة: ليس غريبًا أن تكون نظرة الإسلام عامة شاملة لكل ما في الوجود الإنساني وغيره، وعامة شاملة لكل الاحتمالات الممكنة في مجال العمل الإرادي للإنسان، مع تقدير قيمة كل منها بميزان محكم، الأمر الذي نتج عنه تحديد شامل ودقيق لمعنى كل من الخير والشر، تحديدًا كليًّا، وتحديدًا تفصيليًّا يتناول كل جزئية من جزئيات العمل الإرادي للإنسان. ليس غريبًا أن تكون نظرة الإسلام بهذا الشكل الرائع من الشمول، فالإسلام تنزيل من لدن خالق عليم حكيم، قال الله تعالى في سورة "الملك: 67 مصحف/ 77 نزول": {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . والعالم بمن خلق، وبما خلق فيه، وبما خلق له، وبما أحاطه من أشياء أعلم بما يصلحه وما يفسده، وبما ينفعه وما يضره، وبما يمتعه وما يؤلمه، وبما هو خير له من كل ذلك، وبما هو له شر؛ لأن علمه سبحانه محيط بكل شيء، ولن ترقى المدارك الإنسانية إلى هذا المقدار من الشمول، في الزمان والمكان والأشخاص، فحري بالإنسان أن يقف موقف الاستسلام لحدود الخير والشر التي حدها الله له، ولا يمنعه ذلك من أن يتابع بحثه وتأملاته في دقائق الأمور الفلسفية التي قامت عليها الأحكام الإسلامية، وفي أسرار الحكم الربانية التي تضمنتها هذه الأحكام، فالتسليم ميزة القلب المؤمن، والبحث العلمي ميزة العقل المفكر. وهكذا تتربع الفلسفة الإسلامية على ذروة المجد العظيم، ومع ذلك يقف أعداؤها في المنحدرات، فيقذفونها بالحصى والصخور التي لا تلبث أن تريد على رءوسهم، ثم يظلون هم وقذائفهم في المنحدرات، ويظل الإسلام في قمة المجد.

المقولة الرابعة: الفلسفة الإسلامية بالنسبة إلى الوسائل الكونية

المقولة الرابعة: الفلسفة الإسلامية بالنسبة إلى الوسائل الكونية تقوم الفلسفة الإسلامية بالنسبة إلى الوسائل الكونية على أساس أن جميع ما خلق الله في الوجود من وسائل سلط أيدي عباده عليها لا توصف لذاتها بأنها خير أو بأنها شر، وإنما هي وسائل يمكن أن تستعمل في الخير، ويمكن أن تستعمل في الشر، وقد وضعها الله تحت أيدي الناس ليبتليهم فيها، هل يستعملونها في الخير أم يستعملونها في الشر؟ فالاستعمال الإنساني هو الذي وجهها لجهة الخير أو لجهة الشر. وتمشيًا مع الفلسفة الإسلامية لا نستطيع أن نطلق على أي شيء مما خلقه الله أو ألهم الإنسان ابتكاره وصنعه أنه شر لذاته أو أنه خير لذاته، وإنما هو وسيلة يمكن أن تستعمل في الخير، ويمكن أن تستعمل في الشر، وإرادة الإنسان المقرونة بعمله هي التي تحدد ذلك، وفي هذا التسليط الرباني لها على الأشياء يتم ابتلاؤها وامتحانها، وفق حكمة الله في الابتلاء، الذي من أجله خلق الموت والحياة. فأدوات السلم كلها وأدوات الحرب التي توصل الإنسان إلى معرفتها، والتي سيهتدي إليها في المستقبل، لا تغدو أنها وسائل قابلة لأن تستعمل في الخير، ولأن تستعمل في الشر. لذلك فإن المسلم لا يتوجس خيفة من أية وسيلة حديثة مبتكرة؛ لأن لديه الأسس الإسلامية العامة التي تهديه إلى طريقة استعمالها في الخير، وتحذره من استعمالها في الشر. والمسلم البصير بإسلامه ينظر إلى السم القاتل على أنه مادة خلقها الله في كونه ليستعملها الإنسان فيما ينفع ولا يضر، فإذا أحسن استعمالها جلبت له خيرًا، فكم من أمراض فتاكة لا يشفي منها إلا السم، وفي مقابل ذلك ينظر إلى أطيب الأغذية على أنها مادة خلقها الله في كونه كذلك، ليستعملها الإنسان فيما ينفع ولا يضر، فإذا أساء استعمالها جلبت له شرًّا، فكم من أمراض فتاكة جلبتها

أغذية طيبة نافعة، وكان ذلك بسبب سوء استعمالها، وفي الحديث الشريف: "رب أكله منعت أكلات". ويقاس على ذلك الطائرات والصواريخ والقنابل الذرية والهيدروجينية والمواد الكيماوية، والعقاقير الطبية، والأجهزة المصورة، والأجهزة الناقلة للصوت والصورة، وغيرها مما يفوق الحصر، حتى الخمر التي حرم الله شربها لما فيها من مضار صحية وفكرية ونفسية واجتماعية ودينية باستطاعة الإنسان أن يحسن استعمالها في غير الشرب، لقتل الجراثيم الضارة، وتعقيم الجروح، وتخليل المواد الكيميائية، ونحو ذلك. والأدلة على هذه الفلسفة الإسلامية كثيرة في القرآن والسنة. فمن الأدلة القرآنية قول الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} . وقول الله عز وجل في سورة "الجاثية: 54 مصحف/ 65 نزول": {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . وكونه جل وعلا خلق لنا ما في الأرض جميعًا وسخر لنا ما في السماوات وما في الأرض يدل على أن كل شيء في الكون يملك الإنسان التصرف فيه موضوع تحت يده ليحسن الانتفاع منه، ولكنه جل وعلا ضم إلى هذا النص نصوصًا أخرى توضح للناس طرق الخير وطرق الشر، وتبين أنه ما من شيء في الوجود إلا يمكن استعماله في طريق الخير واستعماله في طريق الشر، وأن كل شيء في الوجود له عدة وجوه يمكن استعماله في أي منها، وبعض هذه الوجوه وجوه خير وبعضها وجوه شر، ومعنى ابتلاء الإنسان في هذه الحياة هو اختباره أمام هذه الوجوه المختلفة، التي يمكن أن يستعمل فيها ما سلط يده عليه، والإنسان الشرير يمكن أن يقتل أخاه بمصحف ثقيل عنده، مع أن فيه كلام الله وآياته، أو أن يخنقه بثوب الكعبة، أو أن يدسه حيًّا تحت مقام إبراهيم، أما

الإنسان الخير فيستطيع أن ينقذ حياة غصَّان بجرعة خمر، ويستطيع أن ينشر العدل والأمن والسلام بأخطر الأسلحة الفتاكة، وأن يبني الحضارة الإسلامية بأن يحسن استخدام كل وسيلة خلقها الله ووضعها تحت سلطة الإنسان. إذن فلا بد لفهم المراد من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} من قرنه بالنصوص الأخرى التي توضح للناس طرق الخير وطرق الشر، والنصوص المبينة لفكرة ابتلاء الإنسان في هذه الحياة. ومن الأدلة النبوية ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس فقال: "لا والله ما أخشى عليكم أيها الناس إلا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا". فقال رجل: يا رسول الله أياتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: "كيف قلت"؟ قال: قلت يا رسول الله أيأتي الخير بالشر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الخير لا يأتي إلا بخير، إن الخير لا يأتي إلا بخير، إن الخير لا يأتي إلا بخير، أو خير هو؟ إن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطًا 1 أو يلم 2 إلا آكلة الخضر حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس ثلطت 3 أو بالت ثم اجترت 4 فعادت فأكلت، فمن يأخذ مالًا بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالًا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع" 5. فقد أنكر الرسول صلوات الله عليه في هذا الحديث أن يكون ما يخرجه الله للناس من زهرة الحياة الدنيا خيرًا، وأثبت للرجل السائل أن هذه

_ 1 الحبط: أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها. 2 يلم: يقارب. 3 ثلطت: أي سلحت سلحًا رقيقًا. 4 اجترت: أي أخذت تمضغ ما تخرجه من بطنها. 5 انظر شرح هذا الحديث في كتاب "روائع من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم" للمؤلف.

الأشياء التي تسمونها خيرًا ما هي إلا وسائل يمكن أن تستعمل في الخير، ويمكن أن تستعمل في الشر، وضرب على ذلك مثلًا ماديًّا محسوسًا في الأنعام، فمنها ما يأكل من الربيع الذي يسميه الناس خيرًا فتكثر منه، وتسيء التصرف، فيقتلها. أو يجعلها قريبة من الهلاك، ومنها أنعام تقنع بما يكفيها فتنتفع منه وتربو عليه. ومن الأدلة النبوية أيضًا ما تضمنه الحديث التالي: مر النبي صلوات الله عليه بشاة ميتة لميمونة، فقال: "هلا انتفعتم بإهابها". فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة، فقال: "إنما حرم أكلها" وقال أيضًا: "أيما إهاب دبغ فقد طهر". الإهاب: الجلد. فدل بذلك على أن تحريم وجه من وجوه الاستعمال لشيء من الأشياء، لما فيه من ضرر، لا يغني تحريم ذات الشيء، أو اعتبار ذلك الشيء شرًّا بذاته، ولا يغني أيضًا تحريم سائر وجوه الاستعمالات الأخرى، التي لا ضرر فيها، فلكل وجوه من وجوه الاستعمال حكمه المناسب له بحسب القواعد العامة التي تستند إليها الأحكام الشرعية. وهكذا ترقى الفلسفة الإسلامية إلى قمة سامقة، لا تدانيها قمة أخرى، ما لم تكن متفقة معها من كل الوجوه.

المقولة الخامسة: فلسفة الإسلام في الوسائل والغايات

المقولة الخامسة: فلسفة الإسلام في الوسائل والغايات هل الغاية تبرر الوسيلة؟ سؤال يطرحه شبان العصر الحديث على أسس الإسلام وقواعده، ليتعرفوا على فلسفة الإسلام المتعلقة بموضوع هذا السؤال. وما كان من شأن هذا السؤال أن يكون ذا موضوع كبير لولا أن صاحب فلسفة منحرفة في السياسة يدعى "مكيافلي"1 نادى في كتابيه: "الأمير" و"المطارحات" بمبدأ في السياسة يتضمن أن السياسة غير ذات أخلاق بالمعنى المفهوم عند الأخلاقيين، فكل غاية سياسية تبرر للسياسي أن يتخذ أية وسيلة تضمن له تحقيقها، ولو كانت هذه الوسيلة غير أخلاقية في عرف الأخلاقيين. وقد أخذ معظم أرباب السياسية في الشرق والغرب بهذا الاتجاه الميكيافلي في أقصى صوره المنحرفة. وهذا الاتجاه المنحرف الشاذ عن الكمال الإنساني -إذا أخذ على إطلاقه- هو طريق كل المنحرفين الظالمين في الأرض، قبل كيافلي وبعد، في السياسة وفي غيرها. واليهود من أبرز أمم الأرض التي تمارس هذا الانحراف الآثم الظالم عبر تاريخهم الطويل. ويتساءل كل من عنده عقل، بل كل من عنده مقدار يسير منه، عن التفسير المنطقي لهذه المقولة الشاذة في الحياة التي لا يستطيع إنسان في الدنيا أن يقبلها إطلاقًا، مهما بلغت به الجريمة، ومهما بلغ به الشذوذ الفكري والنفسي. ومن المعروف في الحياة أن لكل إنسان ولكل مجموعة بشرية مطالب نفسية وحاجات جسدية، وأنه لا بد لتحقيق أي مطلب من مطالب النفس، وأية حاجة من حاجات الجسد، من اتخاذ وسيلة إلى ذلك. فهل يصح في عقل أي إنسان عاقل اتخاذ أية وسيلة في الدنيا، مهما كان شأنها عظيمًا لأية حاجة مهما كان شأنها حقيرًا خسيسًا؟ وحينما يروج السفهاء أو المجرمون مقولة مكيافلي هذه: "إن الغاية تبرر الوسيلة" ويدعون هذا الكلام يسير على إطلاقه، دون قيود المنطق السليم، والحق الثابت، والفضيلة المثلى، فإنهم لا بد أن يتصرفوا في حياتهم تصرف

_ 1 ميكيافيلي: هو نيقولا مكيافلي ولد في فلورنسا من إيطاليا سنة 1469م وتوفي سنة 1527م.

المجانين، أو أن يكون شياطين مجرمين يخادعون الناس بهذه المقولة، ليفعلوا كل جريمة معهم، دون أن يسموهم مجرمين؛ إذ ستروا أنفسهم المجرمة، بطلاء من مقوله مكيافلي، التي أطلقوا عليها كذبًا وزورًا اسم "نظرية". وفي محاكمة هذا الكلام الفاسد -إذا أخذ على إطلاقه- لا بد أن نضع على سبيل التطبيق الفلسفي مجموعة من مطالب النفس وحاجات الجسد، ونفرض أنها غايات، ثم نضع في مقابل ذلك مجموعة مما يمكن أن يكون وسيلة لهذه الغايات، ونفرض أنها وسائل. إنه من المتحتم عند ذلك أن تبدو لنا أمثلة تطبيقية مضحكة جدًّا أخف منها بدرجات كثيرات ما يجري داخل مستشفيات الأمراض العقلية. إنه يلزم من هذه المقولة المكيافلية إذا أخذت على إطلاقها دون قيود -أن لا يرى المكيافليون مانعًا من أن يُحرق إنسان مثلًا مجموعة من أوراق النقد ذات الأرقام العالية ليغلي عليها ماء يصلح فيه كأسًا من الشاي، أو فنجانًا من القهوة، ذلك لأن غايته التي هي شرب الشاي أو القهوة تبرر له وسيلة إحراق الأوراق النقدية الكبيرة، وخسارة الألوف مقابل كأس لا تساوي عددًا من الفلوس. وأن لا يروا مانعًا من أن تُرمى مخطوطات أغنى مكتبة عالمية بالمخطوطات العلمية القديمة، في نهر كبير، ليتخذ منها جسر مؤقت تعبر عليه جيوش الغزاة، وليس من المهم بعد ذلك أن تخسر الإنسانية ذخائر المنجزات الحضارية التي خلفتها القرون الأولى، فالغاية تبرر الوسيلة، وأن لا يروا مانعًا أيضًا من تجويع الألوف من البشر، وسرقة خيراتهم ليتمتع مجرم واحد بمظاهر الترف والرفاهية، فالغاية تبرر الوسيلة، وأن لا يروا مانعًا من أن يقطع إنسان يد آخر ليجعل من عظم ساعدها عصًا لمكنسة، وأن يسلخ جلد إنسان حي ليصنع منه طبلا يتسلى بدقه والنقر عليه في جلسات السمر، وأن يحرق مدينة كاملة ليتمتع بمشاهدة لهيب نار عظمى عن بعد، كما فعل نيرون حاكم روما. وأن يقذف إلى حلبة صراع دام وحشًا ضاربًا وإنسانًا بريئًا، ليتمتع بمشاهدة ظفر الغالب منهما ومصرع المغلوب، وقد مارست روما في أوج حضارتها من ذلك الشيء الكثير. كل ذلك ينبغي أن يكون مقبولًا عندهم لأن الغاية تبرر الوسيلة.

وما هذه الأعمال الجنونية أو الإجرامية إلا وسائل لغايات، فإذا كانت الغايات مطلقًا تبرر أية وسيلة دون قيد أو شرط فما أجدر الإنسان الذي يتبنى هذه المقولة الفاسدة أن يهوي إلى أحس مرتبة يمكن أن تتصور في الوجود، وأحر به عند ذلك أن يخلع هذا الثوب الإنساني الكريم، وأن يلبس ثوب أخس الأحياء شراسة أو دناءة. وإذا كانت المكيافلية العامة تقول: "إن الغاية تبرر الوسيلة" في شئون السياسة، دون أن تضع لقاعدتها هذا أي قيد من قيود المنطق السديد، والحق الثابت، والفضيلة المثلى. وإذا كانت الميكافلية اليهودية تأخذ بهذه القاعدة نفسها في مختلف الشئون السياسية والمالية والعلمية وغيرها من الشئون التي تحقق لليهودي غاية من غاياته مهما كانت حقيرة، ولو كانت الوسيلة إلى تحقيقها إهدار حق أي إنسان، وأي شعب لا ينسب إلى اليهودية، ولو كانت الوسيلة إلى تحقيقها إهدار الفضيلة الخلقية، وارتكاب الجريمة القذرة، ونشر الكفر بالله، وبث الإلحاد به. فإن الإسلام يتربع على قمة المجد في مراعاة الحق والعدل والفضيلة والتزام ما أمر الله به، ويكلف المسلمين أن يراعوا ذلك مع الناس جميعًا، دون تفريق بين الأفراد وبين الأمم والشعوب، سواء منهم من دان بالإسلام، ومن لم يدن به. وموقف الإسلام بين الوسائل والغايات تحدده أروع نظرية تلتزم بالحق والعدل والفضيلة، وبسائر ما أمر الله به من خير، وتفسح صدرها إلى اتخاذ بعض الوسائل التي يوجب المنطق السليم اتخاذها، ارتكابًا لأخف الضرريين، ووسيلة لدفع أشدهما، وذلك حينما يتعذر اتخاذ وسيلة أخرى لا ضرر فيها مطلقًا. وقاعدة الإسلام في ذلك تحددها البنود التالية: البند الأول: من المتحتم أولًا أن تكون غايات الإنسان في حياته مقيدة بالأنواع التي

أذن الله بها في شريعته لا تتعداها، فما كل غاية تبدو للإنسان يصح له أن يجعلها إحدى غاياته، ما لم تكن غاية مأذونًا بها شرعًا. البند الثاني: من المتحتم ثانيًا أن يكون سعي الإنسان إلى غاياته المأذون بها شرعًا مقيدًا باتخاذ الوسائل التي لا إهدار فيها لحق أو عدل أو فضيلة أو واجب، وليس فيها ارتكاب محرم في المحرمات الشرعية. البند الثالث: إذا تعارض في حياة الإنسان -ضمن أصول الحق والعدل والفضيلة والواجب- واجبان ولم يمكن بحال من الأحوال تحقيقهما معًا، أو ممنوعان ولم يمكن بحال من الأحوال تركهما معًا، أو ضرران ولم يمكن بحال من الأحوال دفعهما معًا، فقاعدة الإسلام عند وجود هذا التعارض الذي لم يمكن تفاديه بوسيلة من الوسائل الأخرى المشمولة بحدود البند الثاني إهدار أدنى الواجبين لتحقيق أكدهما، وارتكاب أخف المحرمين لدفع الوقوع بأشدهما، وتحمل أهون الضررين وسيلة لدرء أعظمهما. وميزان الإسلام لتحديد قيم الواجبات والمحرمات وأنواع الضرر ميزان دقيق جدًّا، يعتمد على مبدأين أساسيين: في أولهما تصنيف عام للمنافع واللذات والمصالح الفردية والاجتماعية والإنسانية، الدينية والدنيوية، المادية، والمعنوية، مع العلم بأن ما يمس منها الجوانب الدينية الكبرى كالإيمان بالله يحتل مركز الصدارة لأنه يمثل الحق الأول لله على عباده. وفي ثانيهما تصنيف عام للمضار والآلام والمفاسد الفردية والاجتماعية والإنسانية المادية والمعنوية، والدينية والدنيوية، مع العلم بأن ما يمس منها الجوانب الدينية الكبرى كالشرك بالله يحتل مركز الصدارة؛ لأنه يمثل العدوان الصارخ على حق الله الأول على عباده.

أمثلة لأحوال البند الثالث: أ- فمن أمثلة "إهدار أدنى الواجبين لتحقيق أكدهما" من كان في صلاة مفروضة، فداهم العدو بلاده غازيًا، ولو تأخر حتى أنهى صلاته أعطاه فرصة سانحة للظفر بالمسلمين، فمن واجبه والحالة هذه أن ينصرف من الصلاة لجهاد العدو؛ لأن واجب الجهاد والحالة هذه أكد من واجب إتمام الصلاة، مراعاة للنتائج التي تتحقق بكل منهما. ومن أمثلة ذلك أيضًا ما لو تعارض في حياة أمة واجب التنمية الاقتصادية، وواجب صيانة الدين والخلق والفضيلة والعلم، فمن واجبها -والحالة هذه- أن تحرص على صيانة هذه الأمور، ولو أفضى ذلك إلى إهدار واجب التنمية الاقتصادية كله أو بعضه، على أن الله سوف ييسر لها وسائل التنمية الاقتصادية مكافأة لها على ما التزمته من واجب أجل في شريعة الله. ب- ومن أمثلة "ارتكاب أخف المحرمين لدفع الوقوع بأشدهما" ما لو هدد إنسان بالقتل المحقق إذا لم يرتكب مثلًا جريمة السرقة أو الزنا الموجب لحد الجلد فمن واجبه والحالة هذه أن يختار أخف المحرمين ليدفع به الوقوع بأشدهما، أما الاستسلام إلى القتل فهو محرم عظيم، ولكنه لم يستطع دفعه إلا بأن يرتكب محرمًا أدنى منه، فلزمه تطبيقًا لقاعدة الإسلام ارتكاب الأدنى مخافة الوقوع بالأشد. ومن أمثلته أيضًا ما لو تعرضت حياة إنسان للقتل على يد ظالم، ولم يمكن دفع ذلك عنه إلا بارتكاب وسيلة الكذب، كان من الواجب -والحالة هذه- دفع أشد الأمرين بأخفهما، وظاهر أن الكذب على الظالم أخف عند الله من تعريض مسلم لجبروته. ومن الأمثلة أيضًا ما لو تعارض في حياة الأمة الإسلامية واجب إعلاء كلمة الله في الأرض، وواجب صيانة أنفسها وصيانة غيرها من مضار القتال، ولم تجد الوسائل الأخرى لتحقيق الواجب الإلهي الذي هو حق على عباده جميعًا، فمن واجبها -والحالة هذه- أن تعرض أنفسها وغيرها إلى مضار القتال،

الذي يُرجى تحقيق الغاية الدينية العظمى به، وذلك التزامًا بقاعدة الإسلام التي نحن في صدد الحديث عنها، ونظرًا إلى أن سيادة الكفر بالله في الأرض ستؤدي بالإنسانية إلى ما هو شر من المضار التي قد تحدث بالجهاد المقدس. ج- ومن أمثلة "تحمل أهون الضررين وسيلة لدرء أعظمهما" ما لو أصيب عضو من أعضاء الإنسان بمرض لا يستطاع إيقاف سريانه إلى سائر الجسد إلا ببتره، وإلا سرى فقتل صاحبه، فمن الواجب -والحالة هذه- بتر العضو العليل لأن في تحمل هذا الضرر دفعًا لضرر أشد منه، ومن البدهي أن فقد العضو الواحد أهون من فقد الأعضاء كلها. ولما توقفت سلامة الأمة في أخلاقها ودينها وأمنها على قطع أيدي السارقين، وجلد الزناة أو رجمهم، وإنزال أشد العقوبات بقطاع الطرق كان ذلك أمرًا متحتمًا في الشريعة، تقضي به ضرورة ارتكاب أخف الضررين وسيلة لدرء أعظمهما. وهكذا نجد الإسلام على قمة المجد في مراعاة الحق والعدل والفضيلة والواجب بين الوسائل والغايات. بينما نجد المكيافلية العامة هاوية إلى حضيض الخسة في ميادين السياسة، والمكيافلية اليهودية هاوية إلى حضيض كل خسة. ومن النصوص اليهودية في هذا المجال ما يلي: جاء في البروتوكول الأول مما يسمى "بروتوكولات حكماء صهيون": "إن السياسة لا تتفق مع الأخلاق في شيء، والحاكم المقيد بالأخلاق ليس بسياسي بارع، وهو لذلك غير راسخ القدم على عرشه. لا بد لطالب الحكم من الالتجاء إلى المكر والرياء، فإن الشمائل الإنسانية العظيمة من الإخلاص والأمانة تصير رذائل في السياسة. إن الغاية تبرر الوسيلة: وعلينا ونحن نضع خططنا ألا نلتفت إلى ما هو خير وأخلاقي بقدر ما نلتفت إلى ما هو ضروري ومفيد. من غير اليهود أناس قد أضلتهم الخمر، وانقلب شبانهم مجانين بالكلاسيكيات والمجون المبكر الذي أغراهم به وكلاؤنا، ومعلمونا وخدمنا وقهرماناتنا في البيوتات الغنية، وكتبتنا، ومن إليهم، ونساؤنا في أماكن لهوهم". وهكذا يضع اليهود المبادئ الإجرامية ليسير عليها جميع اليهود في العالم، وليعملوا بكل جهدهم على تطبيقها، وكذلك يفعلون.

المقولة السادسة: فلسفة الإسلام فيما يجري به القضاء والقدر من نعم ومصائب

المقولة السادسة: فلسفة الإسلام فيما يجري به القضاء والقدر من نعم ومصائب لدى التأمل فيما يجري به القضاء من نعم ومصائب في الحياة الدنيا نلاحظ أنها أمور أقتضتها حكمة الخالق العظيم في عالم الابتلاء. وعالم الابتلاء هو الطريق الحتمي لعالم الجزاء. فألوان النعم التي يسميها الناس خيرًا، وألوان المصائب التي يسميها الناس شرًّا مما لا دخل لإرادة الإنسان فيه، لا تغدو أنها مظاهر تكمن فيها حكمة الخالق العظيم، فليس شيء من المصائب الربانية لدى التحقيق بشر لذاته، وإن كان يسمى في مفهوم الناس شرًّا نظرًا إلى صورته الظاهرة فقط، كما يُسمي قصير النظر من المرضى عمل الطبيب الجراح الناصح شرًّا، متى شعر بالألم من عمله، وكما يسمي الطفل وسائل التربية الحازمة التي يربيه بها أبوه العقال العالم الناصح شرًّا، إذا آلمه في شيء، أو حجر على هوى من أهوائه الجانحة عن سبيل الرشاد، وكما يسمي الطالب قصير النظر وفرة ما يقدم له من مغارف متعلقة بمادة مقررة عليه شرًّا، ويسمي صور الامتحان المختلفة التي يمتحنه بها مدرسه الناصح الأمين ليكتشف بها مدى معرفته شرًّا كذلك، وكما يسمي شدة ملاحظة المراقبين له شرًّا، مع العلم بأن هذه الأمور كلها هي في الحقيقة خير وليس شيء منها بشر. ونظيرها المصائب التي يمتحن الله بها عباده، ومكاره كثيرة من مكاره

الحياة التي لا يتم تحقيق الخير العظيم المقصود إلا عن طريقها، هي داخلة في عموم الخير وإن كان الشعور بالألم منها يصورها في النفس على أنها شر. ولكل من النعم والمصائب الربانية أبواب تتجلى فيها حكمة الخالق العظيم، فمنها ما يكون للابتلاء، ومنها ما يكون للتربية، ومنها ما يكون للجزاء، وقد يحمل القضاء الواحد أكثر من غاية من هذه الغايات الثلاث، فهي إذن ثلاثة أنواع، وفيما يلي بيان لكل منها: النوع الأول: "وهو ما كان من النعم والمصائب للابتلاء". في كثير من النعم والمصائب الربانية تتجلى حكمة الابتلاء، قال الله تعالى في سورة "الملك: 67 مصحف/ 77 نزول": {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} . فهذه الآية تدل على أن الحكمة من خلق الله الموت والحياة امتحان الناس فيما وهبهم من إرادة وعقل وقدرة، وفيما وضع تحت سلطتهم من أشياء مسخرة لهم في كونه. ومن الملاحظ أن الله جلت حكمته قد جعل أساليب الامتحان ومظاهره متنوعة، فقد يمتحن طائفة من الناس بنوع منها في حين أنه يمتحن طائفة أخرى بنوع آخر منها، وطائفة ثالثة بنوع ثالث وهكذا. ويدل على هذه الحقيقة عدة نصوص من القرآن الكريم: أ- فمنها قوله تعالى في سورة "الأنبياء: 21 مصحف/ 73 نزول": {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} . أي: ونمتحنكم بالمصائب والنعم امتحانًا، أما المصائب فتغري بالضجر، وأما النعم فتغري بالبطر، وبذلك يظهر معنى الفتنة التي تصاحب الامتحان الإلهي بالمصائب تارة وبالنعم أخرى. ب- ومنها قوله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول":

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . فالحكمة من اختلاف درجات الناس في الحياة الدنيا إنما هو استكمال ظروف الامتحان المقصود. ج- ومنها قول الله تعالى في سورة "طه: 20 مصحف/ 45 نزول": {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . فالحكمة من تمييز أصناف الناس بمتع من زهرة الحياة الدنيا إنما هي الفتنة فيها، والفتنة هنا هي الامتحان المقترن بما يغري بالبطر والاستكبار والطغيان. ولدى التبصر الدقيق نلاحظ أن كل نوع من أنواع الامتحان المختلفة أو المتباينة يؤدي الغاية ذاتها التي يهدف إليها الامتحان المشمول بالعدل الإلهي، والملاحظ فيه استعدادات الفرد التي وهبه الله إياها، مادية كانت أم معنوية، وذلك كله ضمن معادلات رياضية دقيقة، لا تستطيع القدرات الإنسانية -مهما بلغت- متابعة حسابها، وذلك لأن المحاسبة الربانية لا تهمل أي جانب من جوانب الإنسان التي تتأثر بإرادته، سواء كانت فكرية، أم نفسية، أم سلوكية. ونستطيع أن نقرب ذلك إلى الفهم بملاحظة الأمثلة التالية: أ- فيمكن أن نقول: إن امتحان درجة الصبر بالفقر أو المرض أو فقد الحبيب بنسبة توافق الاستعداد الفطري الموهوب لإنسان موضوع تحت الامتحان الرباني يساوي امتحان درجة الشكر بالغني أو الصحة أوالسرور بلقاء الأحبة، بنسبة توافق الاستعداد الفطري الموهوب لإنسان آخر موضوع تحت الامتحان الرباني. وإذا كان من واجب الإنسان أن يعترف بأن الله أكرمه إذا فتح عليه أبواب الرزق والنعمة، فإن عليه أيضًا أن يراقب مع ذلك أن الله تعالى قد أكرمه بها في الدنيا لابتلائه، واختبار شكره، وحسن علمه.

وأما إذا قدر الله عليه رزقه، وضيق عليه مسالك العيش، فليس له أن يقول: "إن ربي أهانن" بل عليه أن يلاحظ دائمًا أن الله ابتلاه بذلك بعد أن وهبه ما وهبه من جلائل المنح التي ميز الإنسان بها، ثم يسعى جهده حتى يبرهن على استحقاقه لهذا الكمال الإنساني، وذلك بالصبر والرضا عن الله تعالى، في قضائه وقدره، وبالاستقامة على الطريقة التي شرعها الله لعباده. وإلى هذه المعاني نجد الإشارة في قول الله تعالى في سورة "الفجر: 89 مصحف/ 10 نزول": {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} . ب- ويمكن أن نقول: إن امتحان درجة الطاعة بالجهاد في سبيل الله بالنفس والمال، في ميدان الدفاع عن شريعة الرحمن، بنسبة توافق الاستعداد الفطري الموهوب لإنسان موضوع تحت الامتحان الرباني، يساوي امتحان درجة الطاعة بالتزام أحكام الله وضبط النفس عن الطغيان في ميدان الحكم والسلطان، فالجندي في المعركة ممتحن على قدر استعداده بمثل امتحان ذي السلطان على كرسي حكمه، الأول منهما تمتحن إرادته لمقاومة جبن النفس في ساعة الشدة والفزع، والآخر تمتحن إرادته لمقاومة طغيان النفس في ساعة الرخاء والطمع. يضاف إلى ذلك ما في التفاوت بين الناس من ابتلاء بعضهم ببعض، فتبتلى إرادة الغني في الإحسان والتواضع أمام فقر الفقير، وتبتلى إرادة الفقير في الرضا والقناعة ومجانبة الحسد أمام غنى الغني، وهكذا يبتلى الصحيح بالسقيم والسقيم بالصحيح، والقوي بالضعيف، والضعيف بالقوي، ويبتلى الراعي برعيته، والرعية براعيها، ومن ذلك ابتلاؤه سبحانه المؤمنين بمجاهدة الكافرين، ويشهد لهذا قول الله تعالى في سورة "محمد: 47 مصحف/ 95 نزول": {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} . وقوله تعالى أيضًا في سورة "محمد: 47 مصحف 95 نزول":

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . وفي الوجود أمثلة كثيرة متنوعة معقدة لأنواع الامتحان الرباني للإنسان، وذلك لأن النفس الإنسانية أعقد ما في الوجود، ولكن عدل الله العليم بكل شيء يتناول كل صغيرة وكبيرة، ويشمل الكليات والجزئيات بالقانون الرباني المبين بقول الله عز وجل في سورة "الزلزلة: 99 مصحف/ 93 نزول": {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . وذلك لأن الإنسان قد يفتتن بما يراه ضرًّا وشرًّا، فيتخاذل أو يثبت، وقد يفتتن بما يراه نفعًا وخيرًا فيتخاذل أو يثبت، وفي كل منهما يتم الابتلاء والاختبار، والابتلاء بأي منهما يؤدي إلى الغاية نفسها المبتغاة من امتحان الإنسان. إلا أن الفتنة بالضراء تغري بالضجر والتذمر، والتطاول على مقام الربوبية، والعناد في رفض الطاعة، لمرارتها على النفس، أما الفتنة بالسراء فتغري بالبطر والجحود، والبغي والطغيان، والتمادي في مخالفة الله، والبعد عن طاعته؛ اغترارًا بحلاوة مذاقها. وربما كان الابتلاء بالضراء بالنسبة إلى بعض الناس أصلح من الابتلاء بالسراء؛ لأن استعداداتهم للصبر على المصيبة أكثر من استعداداتهم للصبر على ضبط النفس عن التمادي في البغي والإثم، إذا هم انغمسوا في زينة الدنيا، واغتروا بحلاوة إقبالها. ونجد الإشارة إلى ذلك في قول الله تعالى في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . وقوله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} . وقوله تعالى في سورة "الكهف: 18 مصحف/ 69 نزول":

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} . أليس في هذه الآيات بيان واضح لفكرة الابتلاء الرباني للإنسان بالحسنات وبالسيئات، وبالضراء وبالسراء، وذلك لامتحان درجة صبر الإنسان ودرجة شكره لكل ما يأتيه من قبل الله مهما مر أو حلا؟ ومن أمثلة مصائب الابتلاء التي يتعرض لها أهل الطاعة ليبتلى الله بها صبراهم، فيرفع درجاتهم عنده، ويزيد من حسناتهم، ما تضمنه قول الله تعالى في سورة "التوبة: 90 مصحف/ 113 نزول": {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وهكذا تبدو الفلسفة الإسلامية في مجال نعم الدنيا ومصائبها فلسفة مشرفة سامية، شأنها في كل ما عالجته من أمور الكون والإنسان والحياة والوجود كله. النوع الثاني: "ما كان من النعم والمصائب الربانية للتربية والتأديب". وفي كثير من النعم والمصائب الربانية نلاحظ آثار الحكمة الإلهية في التربية والتأديب ظاهرة جلية. فمن الآثار التربوية للنعم الزائدة لدى بعض الناس تربية اليقين بالله في قلوبهم، وتربية خلق الجود والإحسان وحب الخير للناس، وتربية النفس على الطمأنينة والاستقرار والقناعة، في حين أن كثرة النعم لدى آخرين قد تكون وسيلة إفساد لهم، وذلك بحسب استعداداتهم وخصائصهم النفسية. ومن الآثار التربوية للمصائب تربية النفس على الصبر، وتحمل الشدائد، ومقارعة الخطوب، وإيقاظ القلب من غفلاته التي قد يستغرق فيها مع توالي النعم ومن آثارها إعطاء دروس وعظات في سنن الحياة، وتذكير المؤمن بأن هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء، وليست دار استقرار، حتى يتسابق الناس فيها إلى تناول

المتع واللذات، ورد المنحرف عن صراط الله إلى طاعته؛ لأن للمصائب والآلام تأثيرات خاصة في النفس الإنسانية، تشعرها بما هي عليه من ضعف وعجز يلجئانها إلى ذي القوة المطلقة، الذي لديه وحده فيض النعم، وبيده وحده دفع البلاء، ورفع المصائب والخطوب. وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببًا ما مثله سبب وكثيرًا ما يكون طريق العناية الإلهية بعبده أن يقذفه في غمرات الشدائب ليعرفها، ويذوق بعض آلامها، ثم يخرجه منها سالمًا أو بأذى يسير، ولكن وراء ذلك خيرًا كثيرًا له. ونستطيع أن نقول: إن اليتم الذي ذاق محمد صلوات الله عليه وسلامه طفولته قد كان له مرحلة تربوية من أجل المراحل في حياته، وعناية ربانية به، ليعده الله لمهام الرسالة التي اختار جل وعلا أن يصطفيه بها. والتربية الربانية التي اكتسبها أصحاب محمد صلوات الله عليه في نعمة النصر الذي أحرزوه في بدر والأحزاب لون عظيم أفادهم توكلًا على الله وثقة به، وتثبيتًا للإيمان في قلوبهم، وعقيدة راسخة بأن النصر بيد الله يعطيه من يشاء، وأن الله لا محالة ناصر دينه، ومؤيد نبيه والمؤمنين معه. أما التربية التي اكتسبوها في المصيبة التي مستهم آلامها في أحد، وحنين فذات لون آخر، إذا علمتهم أن للنصر شروطًا وأسبابًا مادية ومعنوية، لا يمكن إحرازها إلا بها، فليست قضية المسلمين مع أعدائهم، قضية معجزات، وخوارق عادات، ولكنها سنن كونية، لا تبديل لها، وإنما يكتب الله النصر والتأييد لأوليائه على أعدائه، إذا فعلوا ما أوجب عليهم، وتقيدوا بالسنن التي أرشدهم إليها. ويمكن أن نجعل من مصائب التربية المصائب التي يتعرض لها من وهم دون التكليف، فهي من جهة مصائب ابتلاء أو تربية أو جزاء لأوليائهم، وهي من جهة أخرى مصائب تربية لمن هم دون التكليف، وذلك لأن كثيرًا من صفات الكمال في الإنسان لا توجد ولا تنمو إلا في ظروف المصائب.

على أن عدل الله لا بد أن يتحقق فيمن يصيبهم بالمصائب، وهم دون التكليف، فلا بد أن يعوض الله عليهم من فضله ثوابًا على ما أصيبوا به، سواء في الدنيا أم في الآخرة. ويشير إلى هذا النوع وهو ما كان من النعم والمصائب للتربية والتأديب نصوص كثيرة في القرآن والسنة، ومنها قول الله تعالى في سورة "التوبة: 9 مصحف/ 113 نزول". {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} . ففي الذي أصاب المسلمين يومئذ تربية عظيمة لهم، حتى لا يكرروا الاغترار بأنفسهم، وإن كثر عددهم وعظمت عدتهم، فالاغترار بالنفس من عوامل الهزيمة بما فيه من التهاون والتواكل. النوع الثالث: "ما كان من النعم والمصائب الربانية للجزاء بالثواب أو بالعقاب". ولدى التدبر في حكم الله الجليلة نلاحظ في كثير من النعم والمصائب الربانية أنها من الجزاء الإلهي المعجل في الدنيا. وللجزاء المعجل في الدنيا أثر ظاهر في حفز همم أهل الطاعة للاستزادة من الخير، وفي تذكير أهل المعصية حتى يتوبوا، وينتهوا عن فعل الشر، وفي كل منهما عناية ربانية جليلة. فالمعجل من الجزاء بالثواب في الدنيا أنواع كثيرة لا تحصى من الرغائب المادية والمعنوية التي يحبوها الله للمحسنين، منها النصر والتأييد والعز والسؤود، ومنها الشعور بالسعادة وطمأنينة القلب، ومنها اللذة بفيض المعرفة والحكم الربانية التي يلقيها الله في قلوبهم، ومنها البركة في الوقت والمال.

والزوج والولد، ومنها التوفيق الذي يدلل الصعاب، ويرافق الأعمال إلى غير ذلك مما لا يحصي. والمعجل من الجزاء بالعقاب في الدنيا أنواع كثيرة أيضًا مادية ومعنوية، مشتملة على صنوف المذلة والخزي، والعيش الضنك، يجزي الله بها المسيئين، ومنها الفضل والخذلان، ومنها الشعور بالشقاء والقلق، ومنها الألم وضيق الصدر وتبلبل الفكر، واضطراب النفس، ومنها محق البركة والخير من الوقت والمال والزوج والولد، ومنها المصائب والبلايا الكثيرة في النفس والمال والأهل، ومنها مجانبة التوفيق في الأمور، ومنها الإذلال والإهانة، ومنها العذاب الماحق الذي ينزله الله على أهل الكفر والعناد، ومنها تنفيذ العقوبات المقررة في الشريعة الإسلامية على بعض الكبائر، إلى غير ذلك مما لا يحصى. فمن سنن الله الدائمة تحقيق معجل الجزاء بقسميه الثواب والعقاب، وشواهد ذلك كثير في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والأحداث التاريخية اليقينية، والوقائع المستمرة، وفيما يلي طائفة من النصوص القرآنية الدالة على ذلك. أ- قال الله تعالى معلنًا عن معجل الثواب للمحسنين في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول": {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} . فقد قرر الله في هذه الآية أن للذين أحسنوا ثوابًا معجلًا ينالونه في هذه الحياة الدنيا، إلا أن ما ادخره الله لهم إلى الدار الآخرة خير وأفضل. ب- وقال الله تعالى مبينًا كلا من معجل الثواب والعقاب في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

وفي هذه الآية أيضًا بيان من الله تعالى أن من سنته في الحياة الدنيا أن يجازي بالثواب الدنيوي المؤمنين المتقين، وذلك بأن يفتح عليهم البركات من السماء والأرض وأن يجازي بالعقاب المكذبين، وذلك بأن يأخذهم بالعذاب بما كانوا يكسبون. ج- وقال الله تعالى في شأن سيدنا نوح عليه السلام في سورة "القمر: 54 مصحف/ 37 نزول": {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} . ففي هذه الآية بيان من الله العظيم أن تأييد الله لرسوله نوح عليه السلام بحمله في السفينة بعد أن كفر به قومه وكذبوه، وإنقاذه مع من آمن به محفوظًا بعناية الله ورعايته، قد كان من الجزاء الدنيوي له، على ما كان من أذى قومه له بالكفر والتكذيب وصبره الطويل. د- وقال الله تعالى: مبينًا معجل العقاب للمسيئين في سورة "الزمر: 39 مصحف/ 59 نزول": {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . هـ- وقال الله تعالى في سورة "طه: 20 مصحف/ 45 نزول": {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} . فالمعيشة الضنك في الدنيا تكون جزاء لمن أعرض عن ذكر الله وعظات كتابه بعد معرفته لها، وتبصره بحقيقتها الناصعة. و وقال الله تعالى في سورة "الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول": {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} . وهكذا يتبين لنا من ألوان النعم والمصائب الدنيوية ما يقضي به الله

تعالى لعباده، جزاء معجلًا لهم على أعمالهم الحسنة أو السيئة، فتكون النعم منها جزاء بالثواب، وتكون المصائب منها جزاء بالعقاب. ومرة ثانية نقول: وهكذا تبدو الفلسفة الإسلامية في مجال النعم والمصائب التي يصيب الله بها عباده فلسفة مشرفة سامية، شأنها في هذا كشأنها في كل ما عالجته من أمور الكون، والإنسان، والحياة، والوجود كله.

الفصل الثالث: العالمية والشمول في رسالة الحضارة الإسلامية

الفصل الثالث: العالمية والشمول في رسالة الحضارة الإسلامية المقولة الأولى: مقدمات عامة أولًا: واقع حال معظم الحضارات البشرية تقف معظم الحضارات البشرية ضمن حدود ضيقة فكرية ونفسية ومادية. أ- فنلاحظ أن أسسها الفكرية غير شاملة لكل ما في الحياة من مجالات التقدم والارتقاء. فإذا اهتمت بالجانب الوحداني النفسي أهملت المجالات الأخرى العلمية والجسدية، وميادين العمل والإنتاج والابتكار والتحسين. وإذا اهتمت بالمجال المادي أهملت المجالات الأخرى الخلقية والسلوكية، ومجالات السمو النفسي الوجداني. وهكذا حالها بين اهتمام في جهة، وتقصير في أخرى. ب- ونلاحظ أيضًا أن أسسها النفسية غير شاملة، فهي في معظم أحوالها سجينة الدوائر الأنانية، العنصرية، أو القومية، أو الطبقية، أو غيرها، فلا هي منطلقة وراء حدود دوائرها الأنانية إلى الشمول الإنساني بوجه عام، ولا هي مفتحة أبوابها لاستقبال الواردات الكريمات، المشبعات بإرادة الخير للإنسانية جمعاء. ج- ونلاحظ أيضًا أن ميادين نشاطها محدودة لا تتجاوز رقعات من الأرض متميزة الحدود، وإن تسنى لها أن تمد نشاطها إلى غيرها، ومحدودة في طائقة من المجالات دون غيرها. وهكذا نلاحظ أن الأسس الفكرية، والنفسية، والمادية، لمعظم هذه الحضارت البشرية قاصرة، تدور ضمن حدود فكرية ونفسية ومادية غير شاملة.

ثانيًا: الحضارة الإسلامية مفتوحة الحدود أما الحضارة الإسلامية فإنها مفتوحة الحدود، ممتدة الأرجاء، شاملة كل ما في الحياة من مجالات تقدم وارتقاء، في أسسها الكفرية والنفسية، والمادية. أ- فهي حضارة لا تجدها حدود ضيقة من الفكر، فتحجبها من أي كمال من الكمالات. ب- ولا تحدها حدود ضيقة من النفس فتحصرها ضمن الدوائر الأنانية العنصرية أو القومية أو الطبقية، أو غيرها. ولكنها منفتحة الحدود النفسية انفتاحًا مقرونًا بالتحريض على الانطلاق إلى الأبعاد الإنسانية كلها، تحمل إليها المحبة والرحمة، وإرادة الخير والسعادة للناس أجمعين، ثم إلى أبعاد أخرى أوسع من المجتمع الإنساني حتى تشمل كل ذي حياة بالرحمة والإحسان، وشواهد ذلك في النصوص الإسلامية كثيرة منها النصوص التالية: - جاء في الحديث الصحيح: "دخلت النار امرأة بهرة حبستها؛ لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض". - وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة". رواه البخاري. - وجاء في الحديث الصحيح أيضًا: "أن الله تعالى شكر لرجل رأى في الفلاة كلبًا يلهث من شدة العطش، فنزل الرجل إلى بئر فيها فملأ خفه ماء، ثم خرج فسقى الكلب". وهكذا تمتد أبعاد الحضارة الإسلامية حتى تشمل بالرحمة والإحسان كل ذي حياة.

ج- وأخيرًا فإن الحضارة الإسلامية لا تحدها حدود مكانية، ولا حدود زمانية، فكل مكان من الأرض هدف لإقامة الحضارة الإسلامية عليه، وكل زمان من الدهر هدف لإقامة الحضارة الإسلامية فيه. وبهذين العنصرين "العالمية والشمول" تحتل أسس الحضارة الإسلامية قمة رفيعة من المجد الخالد، لم ترق إلى مثلها آية أسس حضارية أخرى. وذلك لأن ضيق الحدود الفكرية والنفسية والمادية الذي تعاني منه معظم الحضارات البشرية يجعلها مهما ارتقت عاجزة قاصرة، واقفة في السفوح، أو على الروابي والتلال، أما القمة الرفيعة فلا تصل إليها إلا طاقة مزدوجة القوة، أحد عنصريها العالمية، والعنصر الآخر الشمول. وهذان العنصران مجتمعان في أسس الحضارة الإسلامية فحق لها أن تفخر بمجدها العظيم، وحق للمسلمين أن يفخروا بها، وأن يحتلوا بسببها قمة المجد الخالد، بين بناة الحضارات البشرية إذ هم عملوا بهديها، وطبقوا إرشاداتها تطبيقًا سويًّا، وفهموها الفهم الصحيح، ووعوها الوعي السديد، وبذلوا في سبيل ذلك ما يملكون من قدرات فكرية ونفسية وجسدية، فردية واجتماعية، وأحسنوا الانتفاع من الطاقات الكونية التي سخرها الله للإنسان. ثالثًا: وعي المسلمين الأولين وقد وعت القرون الأولى للمسلمين أسس الحضارة الإسلامية وعيًا مناسبًا، وفهمتها فهمًا سديدًا في معظم أركانها وشروطها وعواملها، فأثمر ذلك للمسلمين وللإنسانية جمعاء نسبة من التقدم الحضاري الباهر، في أقصر زمن عرفه تاريخ الإنسان الحضاري، للانتقال من مرحلة تخلف حضاري بين إلى تقدم حضاري فذ، في كل مجال من مجالات الحياة، تيسرت لهم فيه أسباب تقدم وارتقاء، حتى كان التقدم الذي أحرزوه معجزة تاريخية مدهشة، كما يعلن ذلك متتبعوا الحضارات الإنسانية بالبحث والتأمل، ودراسة المقدمات والنتائج التاريخية، من غربيين وشرقيين. وامتدت هذه الحضارة الفاذة تتنامي وتزدهر، وتتصاعد في سلم الكمال

الإنساني بسرعة عجيبة حتى أدركها الركود حقبة من الدهر؛ إذ خلف في المسلمين خلوف أضاعوا ما يجب عليهم من متابعة الفتح في الميادين الحضارية، وأهملوا ما فرض الله عليهم من متابعة مد هذه الحضارة الإسلامية مدًّا أفقيًّا، حتى يصيب خيرها الناس جميعًا، ويضيء نورها كل مظلمة من الأرض، واتبعوا لشهوات، وقطعوا ما بينهم وبين أسهم الحضارية من أسباب، وانشغلوا بالقشور عن اللباب، وأخلدوا إلى الأرض، وعصوا الله فيما وصلوا إليه من نعمة باذخة. وطالت مدة الركود، وانصرفت الهمة إلى المحافظة على المظاهر التي وصلوا إليها، ترميم المتداعيات من أبنيتهم الحضارية، وسد الثغور، ثم بعد ذلك الركود الطويل أخذ ذلك المد العظيم ينحسر من جوانبه، كيف لا ينحسر؟ وقد سد الخلوف على أنفسهم المنابع الثرة الصافية التي كانت سبب تقدمهم الباهر في ميادين الفتح كلها، المادية والمعنوية فلما فعلوا ذلك عدت عليهم عاديات الخطوب، وطمع بهم المتخلفون، واتجهت ضدهم أمواج الهمج من الشرق والغرب، تحطم وتدمر أبنيتهم الحضارية، العلمية والخلقية والاجتماعية والمادية. ولولا أن أسس هذه الحضارة الفكرية والنفسية كانت منذ نشأتها أسسًا راسخة عميقة في النفس الإنسانية عمق الروح فيها، ما بقي لهذه الحضارة آثار تشهد لها بسابق مجدها العظيم، وذلك لكثرة ما تعرضت له من عوامل هدم خارجية وداخلية. رابعًا: عوامل الهدم الداخلية التي مُني بها المسلمون وإذا كان المسلمون يتحدثون دائمًا عن عوامل الهدم الخارجية التي سببت لهم ما وصلوا إليه من تخلف وضعف في القرون الأخيرة، فإن عوامل الهدم الخارجية ما كان لها أن تظفر لو استمر المسلمون آخذين بأسس حضارتهم الإسلامية كما أخذ بها المسلمون الأولون، ولكانوا فوتوا على أعدائهم كل فرصة يمكن أن ينتهزوها لضرب المسلمين.

وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لذلك كان من واجبنا أن نتبصر بعوامل الهدم الداخلية التي منينا بها، فنصلح ما في أنفسنا، وعند ذلك نجد أنفسنا قادرين على إخباط مكايد أعدائنا، مهما كانت قوية، ومهما كانت ماكرة مقنعة. ولدى البحث الواعي عن عوامل الهدم الداخلية المثيرة للحزن والألم في معظم المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام تبدو لنا عدة عوامل كبرى، منها العوامل التالية: العامل الأول: فقدان الإدراك السليم الكامل الشامل لأسس الحضارة الإسلامية، وفقدان هذا الإدراك الشامل يسبب تشتت العاملين في بنائها في جهات متباينة، أو يسبب تصادمهم وتصارعهم. ومثل هذه الحضارة بين أيدي العاملين في سبيلها، مع فقدن هذا الإدارك الشامل يسبب تشتت العاملين، كمثل ثوب مفصل تفصيلًا محكمًا، أمسك كل فريق من الناس بطرف من أطرافه في الجهات الأربعة المتضادة، وأخذ كل فريق منهم يجذبه إليه بكل ما لديه من قوة وعنف. إنه لا يلبث حتى يمسي قطعًا ممزقة، فالكم الأيمن في أيدي فريق متجه إلى الغرب، والكم الأيسر في أيدي فريق آخر متجه إلى الشرق، والجيب في أيدي جماعة متجهة إلى الجنوب، والذيل في أيدي آخرين متجهين إلى الشمال، وسائر الثوب مطروح من الأرض لا يجد من يحمله، أو يهتم به ويصونه، واستغنى كل فريق بما لديه من قطع الثوب الممزق، معتزًّا به، ظانًّا أنه قد ظفر بما يكفيه من الثوب. وكذلك الحضارة الإسلامية بين أيدي أهلها اليوم. العامل الثاني: توجيه كل طاقات العمل الممكنة دفعة واحدة للقيام بأهون الجزئيات

وأيسرها، فإذا تحققت هذه الجزئيات بأقل هذه الطاقات سهل تفجير سائرها تفجيرًا هوائيًّا غير مثمر. ومما يؤسف له أن كثيرًا من هذه الجزئيات يدخل في الإشكال والصور والرسوم، لا في الجواهر والحقائق والحجوم. فبينما تنقض أسس الحضارة الإسلامية حجرًا حجرًا، وتعمل على اجتثاثها اجتثاثًا كليًّا جيوش كثيرة مستخفية ومستعلنة، نجد كتائب كثيرة من حماتها منشغلة في جدليات كلامية، ومصارعات عملية حول أفضل الألوان التي ينبغي أن يدهن بها الجدار الخارجي لبناء هذه الحضارة، مع أن جيوش الهدم الخارجية لا يستطاع دفعها إلا باجتماع طاقات أبناء هذه الحضارة، على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم، مع التجاوز عن الخلافات الجزئية التي لا تمس جوهر الإسلام في أسس عقائده ومبادئه وأخلاقه. العامل الثالث: سقوط كثير من المتطلعين إلى مجد حضاري رفيع في شباك التضليلات التي يصدرها أعداء الإسلام، وانسياقهم وراءها بحماسة قوية. وقد فوت هذا السقوط على الحضارة الإسلامية طاقات عظيمات كان من الممكن أن تتوجه إلى بنائها بناء راسخًا رصينًا، وإلى إعادة مجدها الباذخ، ولم يقف الأمر عند ذلك بل أخذت هذه الطاقات تعمل في صفوف أعداء الحضارة الإسلامية، وتهدم في أركانها، وتقتلع من أسسها,. العامل الرابع: الحرب الدائمة السافرة والمقنعة، التي تعوق كل تقدم حضاري للمسلمين، وتكتم أنفاس كل داع يدعو إلى الحق المشرق على هدى وبصيرة، مع الالتزام بالإخلاص والصدق. ويقوم بهذه الحرب جنود مقنعون من جنود أعداء الإسلام، منبثون في كل مكان، داخل البلاد الإسلامية، فمنهم منافقون، ومنهم أجراء أغبياء للأعداء. العامل الخامس: تشتت شمل المسلمين وتفرق كلمتهم، وتبديد طاقاتهم في البأس بينهم. فإذا أوقفت عوامل الهدم، وتوجه البناة الواعون المخلصون لإعادة بناء الحضارة الإسلامية تمكنوا من إقامة صروحها العظيمة، وإعادة مجدها التالد، السائر باستمرار شطر الكمال المطلق.

المقولة الثانية: الحضارة الإسلامية منفتحة الحدود

المقولة الثانية: الحضارة الإسلامية منفتحة الحدود انفتاح الحدود الفكرية ... المقولة الثانية: الحضارة الإسلامية منفتحة الحدود لدى المقارنة بين الحضارة الإسلامية وبين معظم الحضارات البشرية وجدنا أن أسس الحضارة الإسلامية تتميز عما سواها بأنها منفتحة الحدود الفكرية، والنفسية والمادية. ولنتبين هذه الحقيقة لا بد أن نتناول كل انفتاح من هذه الانفتاحات الثلاثة؛ الفكرية، والنفسية، والمادية، بالشرح المناسب، ليتأكد الناظر في أسس هذه الحضارة المجيدة من صحة هذه الحقيقة التي نثبتها بقوة. أ- انفتاح الحدود الفكرية: إن القوة المزدوجة الدافعة إلى قمة مجد حضاري فذ، والمؤلفة من عنصري العالمية والشمول، لا نجدها إلا في أسس الحضارة الإسلامية. وتتجلى هذه الحقيقة في المجال الفكري بما يلي: أولًا: بتقلبها للحق من أي مصدر ظهر حتى ولو جاء من قبل عدوها. ثانيًا: بشغفها بامتصاص العلوم والمعارف من أي المنابع تدفقت. ثالثًا: بحثِّها على اكتساب الكمالات الفكرية، في كل مجال من مجالات الحياة، وفي كل ميدان من ميادينها. والنصوص الإسلامية التي تدل على هذه الحقيقة الشاملة لكل هذه العناصر كثيرة في القرآن والسنة.

وقد سبق عرض كثر منها في موضوعات متنوعة، ونضيف إليها هنا طائفة أخرى. فمنها ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله به طريقًا إلى الجنة". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم. وعن ابن مسعوزد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها". متفق عليه. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". رواه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان، وقد جمع السيوطي طرق هذا الحديث حتى أوصلها إلى خمسين طريقًا، وحكم من أجل ذلك على الحديث بالصحة، وإن كان في كل منها ضعف، وحكى العراقي صحته عن بعض الأئمة. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكلمة الحكمة ضالة الحكيم فحيث وجدها فهو أحق بها" رواه الترمذي وابن ماجه1.

_ 1 سند هذا الحديث ضعيف، وقال الترمذي فيه: حديث غريب، إلا أن معناه صحيح فيما دلت عليه النصوص القرآنية والحديثية.

وقد جعل الرسول صلوات الله عليه فداء الأسرى من المشركين أن يعلموا فريقًا من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، فلم ير صلوات الله عليه حرجًا في أن يتعلم أبناء المسلمين هذا النوع من العلم على أيدي المشركين، وذلك حرصًا منه على دفع المجتمع الإسلامي في المدينة إلى الترقي في معارج الحضارة. وسيرًا في حدود هذا المنهج الإسلامي العام وجدنا العصور الذهبية للمسلمين تفتح صدرها لامتصاص المعارف الإنسانية المادية التي خلفتها في الأمم والشعوب حضارات سالفات منقرضات. وقد امتص المسلمون بسرعة فائقة ما خلفه اليونان الإغريق من علوم فلسفية وعقلية، وما خلفه الفرس من حكم وآداب وخبرات سياسية، وما كان لدى مختلف الأمم التي التفت مع المسلمين لقاء مودة أو لقاء خصام. ثم أخذوا بتحرير هذه العلوم، وتنقيتها من الشوائب, وتطويرها وتنميتها، وصقلها، وإصلاح فاسدها، مسترشدين بالمنهج العلمي العام الذي رسمه للمسلمين مصدرا التشريع الإسلامي العظيمان القرآن والسنة، كل ذلك فيما لم يكن من خصائص الشريعة الإسلامية بيانه، وتحديد أصوله وفروعه، كأصول الاعتقاد وأحكام العبادات، وأحكام المعاملات، ونظم الحياة الفردية والاجتماعية التي رسم الإسلام للناس طريقها، وأوضح لهم صراطها المستقيم. يقول المؤرخ الدمشقي المرحوم "محمد كرد علي"1: "وعمر بن عبد العزيز هو الذي أمر بنقل كتاب أهرن بن أعين في الطب إلى اللغة العربية، وهو الذي أمر عاصم بن عمر الأنصاري وكان عالمًا ثقة كثير الحديث أن يجلس في مسجد دمشق فيحدث الناس بالمغازي، ومناقب الصحابة، وقال له: إن بني مروان كانوا يكرهون هذا وينهون عنه، فاجلس فحدث الناس بذلك. وسبق حكيم آل مروان وعالم قريش خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان المتوفى سنة "85هـ" إلى ترجمة كتب الفلاسفة والنجوم

_ 1 في كتابه الإسلام والحضارة العربية ج1 ص165.

والكيمياء والطب والحروب والآلات والصناعات من اللسان اليوناني والقبطي والشرياني، وكانت الترجمة أحيانًا من لغة يونان إلى العبرانية، ومن العبرانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية. وخالد بن يزيد هذا أول من جمعت له الكتب، وجعلها في خزانة في الإسلام، والأرجح أنها كانت في دمشق. وقال أيضًا: "والعلوم تسربت إلى العرب من بقايا علوم القبط واليونان والسريان بعد أن توطد أمر الخلافة، وأخذت الجيوش تتقدم في أفريقية إلى الأندلس، وفي الشرق إلى ما وراء السند وسمرقند، وكانت في إنطاكية والرها ونصيبين وحران أول الفتح مدارس عامرة، تشبع أساتذتها بالثقافة اليونانية، وفلسفة أرسطو والعلوم والطب المعروفة عند القدماء. قال دييل: "وراجع خلفاء الأمويين هؤلاء الأساتيذ لينقلوا إلى السريانية وإلى العربية أهم كتب العلم والأدب عند اليونان وبيزنطية، وجاء العباسيون بعد الأمويين فكان همهم أن يجمعوا المخطوطات اليونانية، وأن ينقلوا إلى العربية أهم كتب العلم والطلب والفلسفة اليونانية. وقال: فبواسطة تراجمة شاميين عرف العرب العلم والفلسفة اليونانية، وبفضلهم نشأت في الإسلام من إسبانيا إلى الهند حركة عقلية عظيمة أتت بأينع الثمرات، وبفضل المدارس العربية في قرطبة عرف العرب النصراني نفسه فلسفة أرسطو. ا. هـ". ونحو نقول: إنه لجدير بالإعجار والإكبار تلك الثمرات الباهرات العلمية والعملية التي أنتجها للمسلمين في العصور الذهبية الراقية انفتاح الحدود الفكرية لديهم لتقبل الحق من أي مصدر ظهر، وللشغف بامتصاص العلوم والمعارف من أي المنابع تدفقت، وللسعي الحثيث لاكتساب الكمالات الإنسانية، في كل مجال من مجالات الحياة، وفي كل ميدان من ميادين العمل، وهو الأمر الذي أملته عليهم أسس الإسلام الحضارية. ولو أن حدودهم الفكرية كانت مغلقة، وعقولهم كانت منطوية على نفسها

لا تتقبل الحقائق العلمية التي تأتيها من الأمم والشعوب الأخرى، غابرة كانت أم حاضرة، لما بلغوا ما بلغوه من مجد عظيم، في أقصر حقبة عرفها تاريخ الحضارات الإنسانية. لكن الأسس الإسلامية علمت المسلمين أن يفتحوا عقولهم للناس جميعًا، بالأخذ والعطاء، وذلك لأن الحقيقة جوهرة عالمية، فهي ملك مشاع للناس جميعًا، لا تقبل استئثارًا ولا تتحمل قسمة ولا نزاعًا، فمن عرفها ابتكارًا أو اقتباسًا واعترف بها واهتدى بهديها فهو أحق بها، تنسب إليه وينسب إليها، ويدخل في زمرة أنصار الحقيقة، كما أن الحقيقة تتبرأ ممن لا يعترف بها، ولا يهتدي بهديها، وإن كان ممن ساهم باستنباطها، أو ابتكارها، أو انفرد بذلك. وكم حرمت أمم نفسها من التقدم والارتقاء بدافع الأنانية الذاتية، والعصبية القومية المقيتة، وبسبب عزوفها عن اقتباس معارف الآخرين وعلومهم الصحيحة. ولقد هيأ للمسلمين الأولين هذا الانفتاح الفكري لتلقف المعارف الحقة واقتباسها، واكتساب الكمالات الإنسانية سبقًا حضاريًّا فذا، لم يضارعه تقدم حضاري لأية أمة من الأمم السالفة. ويدهش المؤرخ الفرنسي العلامة "غوستاف لوبون" فيقول1: "إن حماسة المسلمين في دراسة المدنية اليونانية واللاتينية مدهشة حقيقة. والإنسان يقضي العجب من الهمة التي أقدموا بها على البحث، وإذا كانت هناك أمم قد تساوت هي والعرب في ذلك فإنه لا تجد أمة فاقت العرب على ما يحتمل". ويقول لوبون أيضًا: "كانت معارف اليونان واللاتين القديمة أساسًا لثقافة متعلمي العرب في الدور الأول، وكان هؤلاء كالطلاب الذين يتلقون في المدرسة ما ورثه الإنسان من علوم الأولين، وكان اليونان أساتذة العرب الأولين إذن، ولكن العرب

_ 1 في كتابه "حضارة العرب".

المفطورين على قوة الإبداع والنشاط لم يكتفوا بحال الطلب الذي اكتفت به أوروبا في القرون الوسطى، فلم يلبثوا أن تحرروا من ذلك الدور الأول. ولم يلبث العرب بعد أن كانوا تلاميذ معتمدين على كتب اليونان أن أدركوا أن التجربة والترصد خير من أفضل الكتب. ويُعزى إلى "بيكن" على العموم أنه أول من أقام التجربة والترصد اللذين هما ركن المنهاج العلمية الحديثة مقام الأستاذ، ولكنه يجب أن يعترف اليوم بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم. ويقول أيضًا: وقد منح اعتماد العرب على التجربة مؤلفاتهم دقة وإبداعًا لا ينتظر مثلهما من رجل تعود درس الحوادث في الكتب. ونشأ عن منهاج العرب التجريبي وصولهم إلى اكتشافات مهمة. ولما آل العلم إلى العرب حولوه إلى غير ما كان عليه، فتلقاه ورثتهم مخلوقًا خلقًا آخر. وأنشأ العرب بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارات التي ظهرت قبلها. ويتكلم لوبون عن المسلمين في الأندلس فيقول: لم يكد العرب يتمون فتح إسبانية حتى بدءوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحييوا ميت الأرضين، ويعمروا خرب المدن, ويقيموا فخم المباني، ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان واللاتين، وينشئون الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوروبة زمنًا طويلًا". ا. هـ. ونقل الأستاذ "محمد فريد وجدي" في كتابه "الإسلام دين عام خالد" ما يلي:

يقول "دريبر" الأستاذ بجامعة "نيويورك" في كتابه "النزاع بين العلم والدين": "تحقق علماء المسلمين من أن الأسلوب العقلي النظري لا يؤدي إلى التقدم، وأن الأمل في وجدان الحقيقة يجب أن يكون معقودًا بمشاهدة الحوادث ذاتها، ومن هنا كان شعارهم في أبحاثهم الأسلوب التجريبي، والدستور العملي الحسي. إن نتائج هذه الحركة العملية تظهر جلية في التقدم الباهر الذي نالته الصنائع في عصرهم، وإننا لندهش حين نرى في مؤلفاتهم من الآراء العلمية ما كنا نظنه من نتائج العلم في هذا العصر. وقد استخدموا علم الكيمياء في الطب، ووصلوا في علم الميكانيكا إلى أنهم عرفوا وحددوا قوانين سقوط الأجسام، وكانوا عارفين كل المعرفة بعلم الحركة، ووصلوا في نظريات الضوء والإبصار إلى أن غيروا الرأي اليوناني القائل بأن الإبصار يحصل بوصول شعاع من البصر إلى الجسم المرئي، وقالوا: بالعكس. وكانوا يعرفون نظريات انعكاس الأشعة وانكسارها، وقد اكتشف الحسن بن الهيثم الشكل المنحنى الذي يأخذه الشعاع في سيره في الجو، وأثبت بذلك أننا نرى القمر والشمس قبل أن يظهرا حقيقة في الأفق، وكذلك نراهما في المغرب بعد أن يغيبا بقليل". ونقل الفيلسوف الشاعر الباكستاني "محمد إقبال" في كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام" ما يلي: يقول "بريفولت" مؤلف كتاب "بناء الإنسانية": "لقد كان العلم أهم ما جاءت به الحضارة العربية على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج. إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في إسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد مضي وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام, ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد إلى أوروبا الحياة، بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى

الحياة الأوروبية، فإنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الأزدهار الأوروبي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون في نشأة تلك الطاقة التي تكون ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة، وفي المصدر القوي لازدهاره، أي: في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي". ويستطرد فيقول: "إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين هذا العلم للثقافة العربية بأكثر من هذا، إنه يدين لها بوجوده نفسه، فالعالم القديم -كما رأينا- لم يكن للعلم فيه وجود. وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علومًا أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم, وأخذوها عن سواهم، ولم تتأقلم في يوم من الأيام فتمتزج امتزاجًا كليًّا بالثقافة اليونانية. وقد نظم اليونان المذاهب، وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث في دأب وأناة، وجميع المعلومات الإيجابية وتركيزها، والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبي كل ذلك كان غريبًا تمامًا عن المزاج اليوناني، أما ما ندعوه العلم فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة، من طرق التجربة والملاحظة والمقاييس، ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان، وهذا الروح وتلك المناهج العلمية أدخلها العرب إلى العالم الأوربي". ويقول أيضًا: إن "روجر بيكون" درس اللغة العربية، والعلم العربي في مدرسة "إكسفورد" على خلفاء معلميه العرب في الأندلس، وليس لـ"روجر بيكون" ولا لسميه "فرنسيس بيكون" الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن "روجر بيكون" إلا رسولًا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا المسيحية، وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة.

والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي هو طرف من التخريف الهائل لأصول الحضارة الأوروبية، وقد كان منهج العرب التجريبي في عصر "بيكون" قد انتشر انتشارًا واسعًا، وانكب الناس في لهف على تحصيله في ربوع أوروبا". من أين استقى "روجر بيكون" ما حصله من العلوم؟ من الجامعات الإسلامية في الأندلس. والقسم الخامس من كتابه الذي خصصه للبحث في البصريات هو في حقيقة الأمر نسخة من كتاب "المناظر" "لابن الهيثم". ولا بد أن نلاحظ أنه حينما يطلق المؤرخون والباحثون الغربيون ومن درج على طريقتهم كلمة "عرب" فإنهما يريدون بها المسلمين، سواء كانوا عربًا أم غير عرب. وجدير بنا أن نعرف أن سر هذا التقدم الحضاري السريع الذي أحرزه المسلمون في القرون الأولى إنما يرجع إلى إدراكهم السليم الشامل لأسس الحضارة الإسلامية.

انفتاح الحدود النفسية

ب- انفتاح الحدود النفسية: يتمثل انفتاح الحدود النفسية في أسس الحضارة الإسلامية بأن رسالة هذه الحضارة ليست حكرًا على قوم، ولا خاصة بأمة، ولا منحصرة في زمن، لذلك فهي تقاوم كل ضيق نفسي ينبع من منابع الأنانية، التي تتحكم بنفوس كثير من الناس، فتقف بهم عند حدود قبائلهم أو شعوبهم أو أقوامهم أو أممهم، وتوجه أسسهم ومبادئهم وأعمالهم لما يخدم مواقعهم الضيقة، ويعالج مشكلاتها. ولانفتاح الحدود النفسية في رسالة الحضارة الإسلامية ظواهر كثيرة، منها الظواهر التالية: الظاهرة الأولى: عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. الظاهرة الثانية: إرادة الخير والسعادة للناس جميعًا.

الظاهرة الثالثة: التسوية بين الناس في أصل الإنسانية. الظاهرة الرابعة: الأخوة الإيمانية. الظاهرة الخامسة: مراعاة الفطرة الإنسانية بوجه عام في أسس الشريعة الإسلامية. الظاهرة السادسة: مراعاة العدل بين الناس. ويقتضينا البحث أن نعالج هذه الظواهر بشيء من البيان والتفصيل المدعم بالأدلة والنصوص الإسلامية، وفيما يلي شرح هذه الظواهر. شرح الظاهرة الأولى: عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تجلت عالمية رسالة الحضارة الإسلامية من منطلقاتها الأولى التي حددت الهدف من رسالة محمد صلوات الله عليه، وحددت مهمات هذه الرسالة. فهدف رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون رحمة للعالمين كل العالمين، فمن تعليمات هذه الرسالة أن يبلغ الناس جميعًا، ويعلمهم على سواء، بما أمره الله بتبليغه وإعلامه، دون تمييز ولا تخصيص، قال الله تعالى مخاطبًا رسوله في سورة "الأنبياء: 21 مصحف/ 73 نزول" وهي من السور المكية: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} . وقال الله تعالى في سورة "سبأ: 34 مصحف/ 58 نزول" وهي من السور المكية أيضًا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . ففي هذا البيان القرآني تحديد تام للهدف من رسالة محمد صلوات الله عليه، وبيان واضح لمسئولية التبليغ والإعلام الملقاة على عاتقه.

أليس في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} تحديد للهدف من رسالة محمد؟ إنها رسالة غايتها أن تكون رحمة للناس جميعًا، وليست رسالة خاصة بقوم، أو بعنصر، أو بفئة، أو بطبقة من العالمين. وقد جاءت الآية في سورة "سبأ": {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاس} مؤكدة هذه الحقيقة من حقائق هذه الرسالة الإسلامية. ولما كانت هذه الرسالة ذات هدف عالمي شامل كان الرسول صلوات الله عليه مأمورًا بأن يخاطب بها الناس على وجه العموم، دون تفريق بين قوم وقوم، ولا بين فئة وأخرى، فكل من بلغته دعوته فهو داخل في عموم خطابه، ولا يستثنى من ذلك شاهد ولا غائب، سواء عاصر رسالته، أم جاء بعدها، وسواء نطق بلغته أم لم ينطق بها، ولكن ترجمت له. وإعلانًا عن ذلك قال الله له في سورة "الأنبياء": {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} . وذلك عقب قوله له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} أي فقل للعالمين، إنما يوحى إلي إنما إلهكم أيها العالمون إله واحد، وأنتم جميعًا مدعوون إلى الإسلام، فهل أنتم مسلمون؟ فإن تولوا مدبرين فقل لهم: آذنتكم -أي أعلمتكم- على سواء، دون تفريق بين عربكم وعجمكم وأبيضكم وأسودكم وسائر ألوانكم وأجناسكم، ودون تفريق بين ذكوركم وإناثكم، ولا بين سادتكم وعبيدكم، ولا بين أغنيائكم وفقرائكم، فكلكم تجاه هذه الرسالة الربانية على صعيد سواء. وإعلانًا عن ذلك أيضًا قال الله له في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول". {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} .

ثم يأتي قوله تعالى في أول سورة "الفرقان: 25 مصحف/ 42 نزول" وهي من السور المكية: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} معلنًا ومؤكدًا حقيقة عالمية رسالة الإسلام في مهمة كتابها، ومهمة رسولها، وهما أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر. وإعلانًا عن رسالة القرآن العالمية قال الله تعالى في سورة "القلم: 68 مصحف/ 2 نزول" وهي من أوائل السور المكية: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين} . وقال في سورة "التكوير: 81 مصحف/ 7 نزول" وهي من أوائل السور المكية: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} . ومن أجل ذلك كانت رسالة الحضارة الإسلامية رسالة يشترك في تحقيقها العملي، وبنائها التطبيقي كل من استجاب لها من كل عرق ولون ولغة. فجدير بكل مسلم أن يفخر بتاج المجد الذي صنعه بناتها الصادقون من المسلمين، في كل بلد من بلاد الإسلام، في سالف العصور الإسلامية، التي استجابت للإسلام، وأحسنت تطبيق تعالميه، ومما لا ريب فيه أن المسلمين من العرب قد كانوا قادة الفتح الحضاري الظافر، الذي أحرزته الأمة الإسلامية جميعًا، ونعمت بخيراته، إلى أن سرى فيها داء الضعف والوهن والتخاذل، واتباع الشهوات، والانصراف عن متابعة أعمال الفتح الحضاري، في كل مجال من المجالات المادية والمعنوية. شرح الظاهرة الثانية: إرادة الخير والسعادة للناس جميعًا حينما يحمل المسملون رسالة الإسلام الحضارية للناس جميعًا فإنما يحدوهم إلى ذلك ما عرست مبادئ الإسلام في قلوبهم من حب الخير للناس جميعًا، والرغبة الملحة بأن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ويدفعوهم

إلى معارج المجد الإنساني، ويأخذوا بأيديهم إلى القمم الحضارية الراقية، والرغبة الملحة أيضًا بأن يذوق الناس معهم ما ذاقوا من إيمان منح قلوبهم الطمأنينة والسعادة والرضا، وبأن يشاركوهم في اقتباس العلوم الدينية، والمعارف الأخلاقية، وطرق تنظيم الحياة، ليطبقوها فيسعدوا بها، وبأن تسيروا معهم متعاونين متآزرين متآخين، لتحقيق أكبر مقدار ممكن من التقدم الحضاري الذي حضهم الإسلام عليه في مختلف المجالات الإنسانية، الفكرية والنفسية والسلوكية والمادية. فالأخوة الإنسانية التي أعلنها القرآن الكريم بقول الله تعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول": {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . والتي أعلنها الرسول صلوات الله عليه بقوله: "كلكم لآدم وآدم من تراب". تستدعي أن يحب الإنسان لأخيه الإنسان ما يحب لنفسه، ويتجلى ذلك واضحًا في قلوب المؤمنين التي تمكن منها قول الرسول صلوات الله عليه: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وقوله صلوات الله عليه: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير مما طلعت عليه الشمس أو غربت". والمسلم الفاهم لإسلامه قد أحب لنفسه الإيمان، والالتزام بتعاليم الإسلام، رغبة بتحصيل رضوان الله، وخير الدنيا وسعادة الآخرة، التي ينالها المؤمنون في دار النعيم التي أعدها الله للمتقين، فهو إذن يحب مثل ذلك للناس جميعًا، وبذلك يشعر أنه صار صادق الإيمان صحيح الإسلام. وإرادة المسلم الفاهم لإسلامه الخير والسعادة للناس جميعًا تجعله شديد الحرص على حمل رسالته الخيرة هذه إلى إخوانه في الإنسانية، وتجعله أيضًا

عظيم الجد والاجتهاد في سبيل تحقيق أمنيته الكريمة هذه، ولو بذل في ذلك ماله وراحته وكل طاقة في فكره ولسانه، وسائر جسده، ولو بذل في ذلك آخر الأمر حياته. والمسلم الفاهم لإسلامه ينظر إلى أعداء الرسالة الإسلامية التي يحملها إلى الناس بحب وصدق وإخلاص، كما ينظر الطبيب العاقل الرحيم، والحازم الحكيم، إلى مريض ذي مرض خطر معد، وهذا المريض شرس مشاكس، لا يقبل النصيحة الطبية، ويرفض تناول العلاجات اللازمات، ويصر على أنه سليم الجسم، ويزعم مع ذلك أن علم الطب كله خرافة من الخرافات التي يجب أن تهمل، ولا يكترث لها العقلاء. ونظرة المسلم الفاهم لإسلامه إلى أعداء الرسالة الإسلامية بمثل هذه النظرة الحكيمة مع حرصه على خير الإنسانية جميعًا تجعله يتصرف بمنتهى الحكمة، لإنقاذ الجانحين من شرور أنفسهم، ولإنقاد الآخرين في شرورهم. والحكمة تدعوه أن يسلك أجدى وسائل الإصلاح والإنقاذ، ويتدرج فيها من الدعوة الهادئة إلى الموعظة الحسنة، ثم إلى المجادلة بالتي هي أحسن، ثم إلى التهديد والإنذار، ثم إلى المجاهدة بأخف وسائلها، ثم إلى المدافعة بالوسائل العنيفة، وأخيرًا يجد نفسه ملجأ إلى أن يداهم الشر في عقر داره، لقتل جرثومته في معقلها، وإبادتها في بؤرة تكاثرها وتناميها، ليصون الإنسانية التي أحب لها الخير والسعادة ومن ويلات شياطين الإنس الذين أصروا على نشر الفساد في الأرض، وأن يكونوا جنودًا من جنود إبليس. شرح الظاهرة الثالثة: التسوية بين الناس في أصل الإنسانية لقد أعلنت أسس الحضارة الإسلامية: - أنه لا فرق بين عرق وعرق، ولا بين لون ولون، ولا بين ناطق بلغة وناطق بأخرى، لمجرد اختلاف الأعراف أو الألوان أو اللغات.

- وأن الناس كلهم متساوون في أصل الإنسانية، وإن اختلف أفرادهم في الخصائص والهبات الفكرية والنفسية والجسدية. - وأن اختلاف هذه الخصائص والهبات الربانية إنما هو أساس فقط لاختلاف المسئوليات في الحياة، وشرط طبيعي لتوزيع الأعمال فيها. أما التفاضيل بين الأفراد فإنما يكون بالمكتسبات الإرادية للإنسان بعد ذلك، كل ضمن حدود هباته، وأجل هذه المكتسبات العلم النافع، والعمل الخير في الحياة، ومجانبة الشر ولو دعا إليه الهوى. لكن التكريم عند الله مرهون بالتقوى، ومقداره يتناسب باطراد مع مقدار التقوى عند الإنسان، والتقوى أساسها الفكر السديد، وحقيقتها الإرادة الرشيدة ومظهرها العمل الخير، ومجانبة الشر وفعل السيئات، ويزيد التكريم عند الله بالارتقاء فوق التقوى على درجات البر والإحسان. وبهذا الإعلان عملت الحضارة الإسلامية على نقل المجموعات البشرية من الدوائر الضيقة العنصرية، والقومية، والإقليمية، والطبقية، إلى أجواء فسيحة مملوءة بالتآخي، والتواد، والتراحم، والتسامح في الحق، والتعاون على البر والتقوى، والأخذ على يد الظالم مهما دنت درجة قرابته، أو عظمت مودته وصداقته، والتعاون على نصرة المظلوم مهما بعدت درجة قرابته أو اشتدت كراهيته وعداوته. ونستطيع أن نلخص الفلسفة الإسلامية في هذا المجال بالعناصر التالية: أولًا: إن اختلاف الخصائص والهبات الفردية التي يفضل الله بها بعض الناس على بعض إنا هو أساس لتحديد المسؤوليات، وشرط طبيعي لتوزيع الأعمال في الحياة، قال الله تعالى في سورة "الزخرف: 43 مصحف/ 63 نزول": {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} . ومن هذا القبيل قول الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":

{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} . ومنه أيضًا قوله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا، انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} . ثانيًا: إن التفاضل بين الأفراد في الحياة إنما يكون بمقدار المكتسبات الإرادية الفاضلة، التي يجتهدون في تحصيلها، وأعلاها منزلة المكتسبات العملية النافعة، والمكتسبات العملية الخيرة. قال الله تعالى في سورة "الزمر: 39 مصحف/ 59 نزول": {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} . وهذا النص في مجال التفاضل بالمكتسبات العلمية النافعة. وقال تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول" مبينًا فضل المجاهدين على القاعدين: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} . وهذا النص في مجال التفاضل بالمكتسبات العملية الخيرة. ثالثًا: أما التكريم عند الله فهو مرهون بتقوى القلوب، ومقدار هذا التكريم يتناسب باطراد مع مقدار التقوى الحقيقية عند الإنسان، وما في القلوب منها لا يعلمه على حقيقته إلا الله جل وعلا، ويأتي فوق مرتبة التقوى مرتبة البر على تفاضل درجاتها فمرتبة الإحسان على تفاضل درجاتها. وإعلانًا عن حقيقة أن التقوى هي أساس التكريم عند الله قال الله تعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول":

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . وإعلانًا عن كون القلوب هي مركز التقوى الحقيقية قال الله تعالى في سورة "الحج: 22 مصحف/ 103 نزول": {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} . وإنما كانت التقوى محلها القلب لأن قيمة الأعمال عند الله إنما تكون بالنيات من ورائها، والنيات محلها القلوب. وكم من عمل ظاهره التقوى والغرض منه في قلب صاحبه مطلب آخر مناف لها، فهو لا قيمة له في نظر الله، وقد جاء في الحديث الصحيح: "التقوى ههنا، التقوى ههنا". ويشير صلوات الله عليه إلى صدره وعاء قلبه، ثم قال: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم". رواه مسلم. شرح الظاهرة الرابعة: الأخوة الإيمانية لقد كان من مستلزمات إلغاء الفوارق العرقية والعنصرية والإقليمية والطبقية التي نادت به أسس الحضارة الإسلامية إعلان الأخوة الإيمانية بين جميع المؤمنين، قال الله تعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول": {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} . وبهذا غدا المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من كل عرق ولون ولغة أسرة إسلامية واحدة، تربط ما بين أعضائها رابطة العقيدة والواحدة، والتشريع الواحد، والسلوك المتماثل، والمصالح المشتركة.

ويرجع سر وحدة المسلمين القوية إلى عدة عناصر راسخة الأسس في النفس الإنسانية، منها العناصر التالية: العنصر الأول: وحدة العقيدة إنه لما كانت العقيدة الإسلامية عقيدة حق، لا تشوبها شائبة الباطل، كانت قولهم حياة الإنسان العقلية والقلبية، ووحدتها بين جميع المسلمين المستمسكين بها جعلها بمثابة السلك الواحد الذي ينتظم عقول المسلمين بالحق، وقلوبهم بالعواطف الثابتة، في عقد جماعي واحد. العنصر الثاني: وحدة التشريع ولما كان التشريع الإسلامي الواحد هو النظام الضابط لحياة المسلمين في عباداتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم المادية والأدبية، وسياستهم الداخلية والخارجية كان هذا التشريع قوام حياة أفرادهم، وحياة جماعتهم من الناحيتين الخلقية والسلوكية. ووحدة أصول هذه التشريع بين جميع المسلمين المستمسكين بالإسلام الحق جعلها بمثابة سلك آخر ينتظم أعمال المسلمين وأخلاقهم وعاداتهم في عقد جماعي واحد، مؤكد بذلك وحدتهم الفكرية والاعتقادية التي جمعت عقولهم وعواطفهم في سلك واحد. العنصر الثالث: مشاعر الأخوة الإيمانية ولما كانت مبادئ التعاون والإيثار والتعاضد والتآزر والتآخي والتحابب بين المسلمين، من عناصر التشريع الإسلامي، التي تلزم بها الجماعة الإسلامية، وكان الكفر بالإسلام في مقابل ذلك يجمع الكافرين على مصالح مشتركة ضد المسلمين، كان كل ذلك بمثابة حزام متين يرص صفوف المسلمين في كتلة واحدة، كأنها جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وهذه الكتبة الواحدة من المسلمين تقوم بوظيفتين: الوظيفة الأولى: تماثل وظيفة الجسد الواحد، حينما تتعاون أعضاؤه وتتآزر فيما بينها, ويكمل بعضها بعضًا، ويمد بعضها بعضًا بالقوة والغذاء.

الوظيفة الثانية: تماثل قيام هذا الجسد كله بالدفاع الصادق إذا تعرض طرف من أطراف أو جانب من جوانبه لهجمات عدو طامع بلحمه أو دمه أو ثوبه أو ماله أو كرامته. وهذا كله يمثل المصالح المشتركة بين المسلمين مهما تباعدت بهم الديار، وتناءت بهم الأعراق والألوان واللغات والأقطار. وفي الحديث الصحيح: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". وفي الحديث الصحيح أيضًا: "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا". وفي الحديث الصحيح أيضًا: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه". رواه مسلم عن أبي هريرة. وتمكينًا لهذه الجسدية الواحدة قال الرسول صلوات الله عليه كما ثبت في روايات هذا الحديث: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم الله". وهذه الجسدية الواحدة هي الصورة المثلى لمعنى الأخوة الإيمانية التي أبانها ورسخها الإسلام في رسالته الحضارية للناس جميعًا. وجدير بنا أن نقول عند المقارنة بين الأخوة الإيمانية والأخوة في النسب

التي تعارف عليها الناس: إذا كان الاشتراك في النسب كافيًا لإيجاد رابطة الأخوة بين الأفراد وإن اختلفوا في العقائد والعواطف والمصالح، فإن الاشتراك في العقيدة الراسخة، والعاطفة المثلى، ونظام العيش الواحد، والمصالح المشتركة، أحق وأجدر بهذه الأخوة؛ لأن النسب تلاق في حدود الجسد فقط، أما هذه الأمور فإنها اتحاد في أكرم مقومات الإنسان. شرح الظاهرة الخامسة: مراعاة الفطرة الإنسانية ولقد كان من مظاهر العالمية والشمول في رسالة الإسلام الحضارية، ومن ظواهر انفتاح الحدود النفسية مراعاة الفطرة الإنسانية وأحوالها وأعراضها بشكل عام، في كل ما احتواه الإسلام من أحكام تشريعية دون تخصيص ولا تمييز عنصري أو قومي أو طبقي. فالباحث في أحكام الإسلام التشريعية يلاحظ بوضوح ثلاثة أمور: الأمر الأول: إنها راعت الفطرة الإنسانية بشكل عام، ولهذا لم تحاب فئة من فئات الناس، ولا طبقة من طبقاتهم، ولا عنصرًا من عناصرهم على حساب الفئات والطبقات والعناصر الأخرى، فيما قررته من أحكام، فأحكام الإسلام أحكام تشمل العرب والعجم، والأغنياء والفقراء، والأشراف والضعفاء، والسادة والعبيد، والنساء والرجال بنسبة سواء، إلا ما كان منها مقتضيًا بحسب العقل والحكمة والمصلحة الإنسانية بشكل عام شيئًا من الفروق في الأحكام، كتكليف الأغنياء الزكاة دون الفقراء، ومنح الرجال مسئولية القوامة دون النساء، ونحو ذلك. الأمر الثاني: أنها راعت في نظرة شاملة اختلاف الخصائص التكوينية، والفروق الفردية في تحديد مسئوليات الأفراد، فمن ارتقت خصائصه من الناس بشكل عام،

عظمت مسئوليته بمقدار ارتقائها، ومن انخفضت خصائصه منهم قلت مسئوليته بمقدار انخفاضها، ومن ارتبطت به مسئولية خاصة أو عامة كمسئولية الولاية كان من حقه على رعيته السمع والطاعة، مهما كان عرقه، أو لونه، أو طبقته الاجتماعية، وفي هذا قال الرسول صلوات الله عليه: "اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة". وقال الله تعالى على وجه العموم في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . الأمر الثالث: أنها راعت في شمول رائع اختلاف الأحوال والأعراض الإنسانية، التي تستدعي اختلافًا في الأحكام الشرعية، وذلك بشكل عام أيضًا. ومن أجل ذلك ترتفع مسئولية التكليف عن كل إنسان رجلًا كان أو امرأة حينما لا يملك شروط التكليف، أو حينما تسلب منه هذه الشروط، وفي هذا جاء قول الرسول صلوات الله عليه في الحديث الصحيح: "وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ومن أجل ذلك أيضًا أعفيت المرأة من مسئوليتي الصوم والصلاة في خالتي حيضها ونفاسها، وأعفيت من مسئولية الصوم في حالة حملها، إذا خافت على نفسها أو ولدها، رعاية لحالتها الجسمية والنفسية التي تعرض لها عندئذ. ومن مراعاة الإسلام الأحوال الخاصة التي تستدعي رفع حرج التكاليف الشرعية مراعاة أحوال الأعمى والأعرج والمريض فيما رفع عنهم من حرج التكليف للخروج إلى قتال العدو جهادًا في سبيل الله، قال الله تعالى في سورة "الفتح: 48 مصحف/ 111 نزول": {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} .

وجاء هذا النص عقب الحديث عن المخلفين الذين تخلفوا عن الخروج مع المسلمين إلى قتال عدوهم. ومن مراعاة الإسلام الأحوال الخاصة التي تستدعي التخفيف من حزم الأحكام الشرعية مراعاته أحوال القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا، وذلك في السماح لهن بوضع ثيابهن التي يتحجبن بها عن الرجال الأجانب، غير متبرجات بزينة، قال الله تعالى في سورة "النور: 24 مصحف/ 102 نزول": {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . ومنها مراعاته أحوال المرضى والمسافرين والشيوخ الهرمين في إباحة الفطر لهم في شهر رمضان، ومراعاته أحوال المسافرين أيضًا في قصر الصلاة الرباعية وجعلها صلاة ثنائية، ومراعاته أحوال المرضى والمسافرين كذلك في إباحة التيمم بدل الوضوء، قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . ففي هذا النص القرآني يتبين لنا كيف راعى الله أحوال المرضى والمسافرين والهرمين فأذن لهم بالفطر في شهر رمضان، ولكنه كلف المرضى والمسافرين القضاء، وجعل على الذين لا يقدرون على الصوم لأمر ملازم لهم تقديم فدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم. وقال تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} . وفي هذا النص يتبين كيف راعى الله أحوال المسافرين أيضًا، فجعل لهم

قصر الصلاة الرباعية رخصة محببة، وبين ذلك الرسول صلوات الله عليه بقوله: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه". وقال تعالى في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . ألسنا نلاحظ أن الله جل وعلا قد راعى في باب الطهارة أحوال المرضى والمسافرين فأذن لهم بالتيمم بدل الوضوء أو الاغتسال بالماء. وهكذا تظهر عالمية رسالة الإسلام الحضارية، كما يظهر شمولها في مراعاة الفطرة الإنسانية، ومراعاة اختلاف الأحوال والأعراض الإنسانية بشكل عام، دون أن يقف في طريق عالميتها وشمولها حدود نفسية أنانية من قبل أية دائرة من الدوائر العرقية أو العنصرية أو الطبقية أو غيرها من الدوائر الضيقة التي يصطنعها ضيق الحدود النفسية لدى بعض المجتمعات الإنسانية. شرح الظاهرة السادسة: العدل بين الناس وتتجلى هذه الظاهرة فيما ألزمت به أسس الحضارة الإسلامية قادة المسلمين وحكامهم وقضاتهم من مراعاة العدل في المعاملة بين المسلمين، دون تمييز بين عناصرهم وفئاتهم وطبقاتهم وقومياتهم، ودون تمييز بين من يحبون ومن يكرهون من الناس، وفيما ألزمت به جميع المسلمين من التقييد بحقوق التسوية ضمن إطار العدل بين عناصر المسلمين وفئاتهم وطبقاتهم وقومياتهم أيضًا.

فالمسلمون كل المسلمين سواء أمام الحق، وبين يدي القضاء، وفي تقدير الكفايات، وإيجاد فرص العمل المتكافئة للجميع، وهي اقتباس العلم والمعرفة، لا تمييز بين عنصر منهم وعنصر، ولا بين فئة وفئة، ولا بين طبقة وطبقة، ولا بين قوم وقوم، ولا بين نساء ونساء. وحينما تدعو طبيعة الحياة للتفاضل فإنما يكون التفاضل معتمدًا على التمايز بين الأفراد بخصائصهم الفردية الفطرية والمكتسبة، ففي مجال العلم يقدم العلماء، وفي مجال الشجاعة يقدم الشجعان، وفي مجال القوة يقدم الأقوياء، وفي مجالات الذكاء يقدم الأذكياء، وفي مجالات الأعمال يقدم الأكفياء لها، وفي مجالات التربية يقدم الأقدر عليها، وفي مجال الولاية يقدم الأجدار لها، وهكذا في سائر المجالات. وشواهد مراعاة العدل بين الناس في نصوص الشريعة الإسلامية كثيرة جدًّا، فلنأت منها بالكليات الكبرى. 1- العدل في مجال حق الحياة: لقد قرر الإسلام أن نفس المسلم مكافئة لنفس المسلم في حق الحياة، مهما كانت الفوارق الشخصية، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". وبناء على هذا كان من العدل أن يقتل القائل عمدًا وعدوانًا بحكم الاقتصاص -مهما كان رفيع المكانة الاجتماعية وعظيم الخصائص الفردية- بأخيه القتيل المسلم مهما كان وضيع المكانة الاجتماعية منحط الخصائص الفردية لأن أصل الحياة لأي إنسان مساوٍ لأصل الحياة لأي إنسان آخر، والحياة من هبات الخالق، فلا حق لأحد أن يعتدي عليها أو يطردها من الوجود إلا بإذن أو أمر من خالق الحياة وواهبها. فمن اعتدى عليها عرض نفسه للقصاص العادل بحكم الإسلام. وهنا نلاحظ أن القرآن يتجاوز في هذا المجال عن كل الفروق الشخصية

والاجتماعية، ولا يثبت إلا وصف الإيمان المشترك بين جميع المسلمين، فيقول تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} . فهل في الحضارات الإنسانية الراقية سمو مثل هذا السمو الذي يقرره الإسلام، وعدل مثل هذا العدل، الذي يهدف إلى صيانة حياة الناس هبة الله لهم، من أن تكون عرضة لظلم ذوي المكانات الاجتماعية، وأصحاب النفوذ والجاه والقوة والعنجهيات العنصرية، وصيانتها من أن تكون عرضة لنزوة غضب تضرب في نفس طائش غضوب، أو عرضة لكيد حاقد أو حاسد، أو طامع أو متكبر. وهكذا تقرر أسس الحضارة الإسلامية أن الناس في حق الحياة سواء، فلا تهدر دماؤهم إلا بأمر من واهب الحياة، وخالق الأرض والسماوات، أو إذن منه. هذه هي الحضارة الإسلامية، بينما نجد في حضارات أخرى تفخر برقيها المادي المدهش تمييزات عنصرية منتنة، تهدر فيها حياة أبرياء، لا جريمة لهم إلا ألوانهم السوداء، أو أنهم من أعراق وقوميات أخرى، أو من أحزاب ومذاهب مخالفة. 2- العدل في مجال الحكم والقضاء والشهادة: ولقد قرر الإسلام وجوب التزام جانب العدل في الحكم والقضاء، وفي أداء الشهادات، دون تمييز أو محاباة.

قال الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} . ففي هذا النص يأمر الله أولي الأمر من حكام المسلمين وقضاتهم بأقوى صيغة جازمة بأن يحكموا بين الناس بالعدل دون تمييز بين عناصرهم وأصنافهم وطبقاتهم وبعدائهم وذوي قراباتهم. ثم أكد ذلك بقوله تعالى في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . وفي هذا النص يأمر الله تعالى الذين آمنوا بأن يكونوا قوامين لله، أي: لا لأنفسهم وأهوائهم وشهواتهم، فهم منفذون أحكام الله ضمن حدود شريعته. وأي إخلال في ذلك أو تلاعب إنما هو خيانة للأمانة التي حملوها، ولا يتم كونهم قوامين لله ما لم يتقيدوا بأحكام شريعة الله ولو على أنفسهم وأهليهم وذوي قرابتهم، وذلك يتطلب من الشهداء أن يكونوا شهداء بالقسط، والقسط هو العدل المعتمد على الحق. ثم يناههم الله عن أن يحملهم البغض بينهم وبين قوم آخرين على مجانبة سبيل العدل معهم في الحكم والقضاء أو في الشهادات، وهذا ما تضمنه قوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا} . أي: ولا يحملنكم بغضكم الهائج ضد قوم على ألا تعدلوا معهم. وتدعيمًا لهذا المبدأ الذي تشتمل عليه أسس الحضارة الإسلامية يقول الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول": {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} . وفي هذا النص يأمر الله تعالى بالعدل في القول دون تأثر بعواطف القرابة، التي تنزع في نفس الإنسان، كيما يجانب سبيل العدل.

3- العدل في المعاملات الأدبية: وفي مجال تبادل المسلمين مظاهر الإخاء الإيماني، والبعد عن كل مظهر من مظاهر تعالي بعضهم على بعض يأمر الله تعالى أن يكرم المسلم أخاه المسلم فيرد تحيته بأحسن منها، أو بمثلها مهما كانت الفوارق بينهما، وينهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، مهما وجدت دواعي ذلك. قال تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} . وقال تعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . فقد جعل الله في هذه الآية السخرية واللمز والتنابز بالألقاب من الفسوق، الذي يطلق على مرتكب هذه المنكرات في شريعة الله، وبئس هذا الاسم بعد الإيمان الذي تجمل الإنسان المسلم باسمه، فأطلق عليه أنه مؤمن؛ إذ كان في زمرة المؤمنين. وفي قوله تعالى في هذه الآية: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} تعبير رائع يشير إلى أن المسلمين كلهم بمثابة أنفس واحدة، فمن لمز أخاه فقد لمز نفسه. وبهذا نلاحظ مبلغ الرقي العظيم الذي تتصف به أسس الحضارة الإسلامية في بنائها الفكري المجيد.

نتائج تطبيقة لانفتاح الحدود النفسية: ولما كانت رسالة الحضارة الإسلامية عامة شاملة، منفتحة الحدود النفسية، وليست حكرًا على قوم أو طبقة أو صنف من الناس، وغير منحصرة داخل الدوائر الأنانية الضيقة العنصرية أو القومية أو الطبقية أو غيرها، كان رواد هذه الحضارة، وحملة رسالتها، وطلائع مدها العالمي خيرة من الناس انفتحت حدودهم النفسية انفتاحًا تامًّا للإنسانية جمعاء، وذلك بإرادة الخير والمجد وسعادة الدنيا والآخرة لكل من خلق الله من إنسان، ثم جروا وراء ذلك ذيول الرحمة والإحسان والرفق على جميع ما خلق الله من حيوان. ولقد يدهش الباحثون ومؤرخو الحضارات الإنسانية لذلك التحول العجيب السريع، الذي تم في المجتمع العربي خلال القرن السابع للميلاد؛ إذ تحول الإنسان العربي بسرعة فائقة من إنسان قبلي عنصري أناني ضيق الحدود النفسية إلى إنسان عربي العرق والبيان، عالمي الفكري والجنان، إنساني النزعة، يحب الخير كل الخير، للناس كل الناس، ينادي وهو قائد الفتح، ورائد الحضارة العالمية: "لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى أو عمل صالح". ويقف الرسول صلوات الله عليه يوم فتح مكة فيقول: "يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب". ثم تلا قول الله تبارك وتعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول": {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . ولكن سرعان ما ينتهي دهش الباحثين ومؤرخي الحضارات الإنسانية ويزول عجبهم حينما يطلعون على أسس الحضارة الإسلامية، التي ألحت عليها مصادر الدين الجديد، الذي ختم الله به رسالات السماء للأرض، واصطفى لتبليغه النبي

العربي محمدًا صلوات الله عليه، واختار لحمل رسالته إلى الناس جميعًا الأمة العربية، بوصفها طليعة حملة هذه الرسالة الربانية. فلما تمكن الإيمان بالإسلام في القلوب والنفوس العربية، التي عبث مبادئ الإسلام وأسسه من منابعه الصافية العليا التي لم تكدرها المجاري البعيدة، تخلت هذه القلوب والنفوس عن أنانياتها وعصبياتها وعنصرياتها وطبقياتها الضيقة المقيتة، واتجهت نحو العالم منفتحة للناس جميعًا، حرصًا على إنقاذ المتردين في المهالك، ورد الجانحين إلى سبيل الرشاد، ودفع المجتمع الإنساني كله إلى الترقي في سلم الحضارة المثلى الجامعة لكل عناصر الخير والكمال الإنسانيين. وكما يتجلى الاتجاه الإنساني غير المحدود بحدود أية دائرة من الدوائر ذات الخصائص الأنانية لدى دراسة أسس الإسلام، ومبادئه، وأحكامه، ونظمه وسائر تعاليمه المختلفة، يتجلى تطبيق هذا الاتجاه بشكل عملي لدى دراسة المجتمع الإسلامي الأول، الذي كان خاضعًا للتوجيه الدقيق، والقيادة المثلى، من قبل الرسول صلوات الله عليه، فلقد كان في سيرته وقيادته وأخلاقه وكل تصرفاته صورة عملية حية للرسالة الإسلامية، التي اصطفاها الله للناس جميعًا. ثم تبرز للباحثين الأمثلة الرائعة في العصور الذهبية للتاريخ الإسلام بعد عصر الرسول صلوات الله عليه، وهي القرون المطبقة للإسلام، وهذه الأمثلة الرائعة تدل على أن المسلمين قد كانوا في رسالتهم الحضارية للناس جميعًا متمثلين أسس هذه الرسالة تمثلًا سويًّا. ومن أجل ذلك فتحت لهم الأرض والنفوس والقلوب أبوابها، في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا ما جعلهم يقودون موكب الحضارة العالمية، الرائدة الصاعدة إلى قمم المجد، وما زالوا كذلك حتى أدركهم الوهم والبعد عن المنهج الإسلامي العظيم. وكان لإلغاء الفوارق العرقية والعنصرية والإقليمية والطبقية الذي نادت به

أسس الحضارة الإسلامية أثره العميق في البناء الفكري للمجتمع الإسلامي، الذي وعى الإسلام حقًّا وتأدب بآدابه. ولم يقف ذلك عند حدود تعاليم مكتوبة أو محفوظة، وشعارت يتاجر بها حملتها، وإنما كان مثالًا حيًّا متحركًا يقدمه المسلمون أفرادًا وجماعات، في مختلف أعمالهم، وشتى أنواع سلوكهم الفردي والجماعي، نظرًا إلى ما أحدثه الإيمان بالإسلام في قلوبهم من قوى فعاله، تتحكم بأنواع سلوكهم، وتجعلهم متقيدين بتعاليم الإسلام وأحكامه تقيدًا تامًّا، ولو خالفت أهواءهم الخاصة، وناقضت المفاهيم التي كانت سائدة فيهم. أمثلة تطبيقية: 1- تغاضب أبو ذر وهو عربي من غفار، مع بلال الحبشي مولى أبي بكر رضي الله عنهم، وكان أبو ذر وبلال صحابيين، وتطور النزاع بينهما إلى أن أخذت أبا ذر الحدة، فقال لبلال: يابن السوداء، فشكاه بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله لأبي ذر: "طف الكيل، اتعيره بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية"! قال أبو ذر: على ساعتي هذه من كبر السن؟ ظانًا قصد الرسول بالجاهلية هو ما يغتري الشباب من طيش يخرجهم عن حد الاعتدال، فقال له الرسول صلوات الله عليه: "نعم هم إخوانكم"، أي: والأخوة تستلزم التحقيق بمعنى إلغاء فوارق العرق واللون واللغة والطبقة الاجتماعية، فندم أبو ذر رضي الله عنه وتاب، حتى إنه أمر بلالًا أن يطأه على وجهه، مبالغة منه في إعلان التوبة والندن، واسترضاء لبلال مما عيره به من سواد أمه. 2- سرقت امرأة من بني مخزوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنو مخزوم قبيلة من قبائل قريش، وهم من أشراف مكة ووجوهها، فجيء بها إلى رسول صلى الله عليه وسلم؛ ليقضي في شأنها، فثبت عنده أنها سارقة، وحكم الله يقضي بإقامة حد السرقة عليها، فأهم ذلك الأمر القرشيين من المسلمين، نظرًا إلى الطبقة

الاجتماعية التي يتمتعون بها بين العرب. وحرصًا على أن لا ينسب إلى واحد منهم أمر شائن يقام عليه فيه الحد الشرعي، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ويشفع لها عنده؟ فقالوا: ومن يجترئ على ذلك إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكلموه في أن يشفع لها عنده، فكلم أسامة رسول الله مستشفعًا بها، فغضب عليه الصلاة والسلام غضبًا شديدًا، وقال لأسامة: "أتشفع في حد من حدود الله"؟. وعلم رسول الله أن الأمر لم يكن من أسامة، وإنما هو من القرشيين، فجمع المسلمين وخطب فيهم، فقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". وهكذا أصل الرسول صلوات الله عليه في نفوس المسلمين إلغاء الفوارق الطبقية بين المسلمين، وأعلن أنه لو حصل من ابنته فلذة كبده، ما يوجب عليها حد الله لم يعفها من تنفيذ ذلك، ولم يستجب فيها لعاطفة قلبه نحوها، وهي ابنته، فضلًا عن أن يستجيب لعاطفة قبلية، أو عنجهية طبقية. 3- جاء قيس بن مطاطية "وكان منافقًا" إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل "يعني محمد صلى الله عليه وسلم" فما نال هؤلاء "يعني سلمان وبلالًا وصهيبًا" فقام إليه معاذ بن جبل فأخذ بتلابيبه ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي في الناس: "الصلاة جامعة" فاجتمع المسلمون فخطب فيهم الرسول فقال: "يا أيها الناس إن الرب واحد، والأب واحد، وإن الدين واحد، ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي". رواه ابن عساكر بسنده إلى الزهري.

انفتاح الحدود المادية

ج- انفتاح الحدود المادية: ويتمثل انفتاح الحدود المادية في أسس الحضارة الإسلامية بأمرين: الأمر الأول: أن ميادين نشاطها غير محدودة ضمن رقعات إقليمية من الأرض. الأمر الثاني: أن ميادين نشاطها غير محدودة في طائفة خاصة من مجالات الحياة. أما الأمر الأول، وهو أن ميادين نشاطها غير محدودة ضمن رقعات إقليمية من الأرض، فيظهر جليًّا في اعتقاد المسلم أن الأرض لله، يورثها من يشاء من عباده الصالحين، فكل أرض من أرض الله الواسعة صالحة لأن يقيم عليها المسلمون حضارتهم، ولأن يكونوا وارثيها الصالحين، وكل أرض من أرض الله الواسعة يتيسر فيها إقامة الحضارة الإسلامية على وجهها الصحيح، فهي الوطن المفضل عنه المسلمين، وكل أرض لا يستطيع المسلمون إقامة حضارتهم الإسلامية فيها بعد بذل ما لديهم من جهد إنساني، ثم يتيسر لهم خير منها لإقامة هذه الحضارة فإن أسس الإسلام الحضارية تدعوهم أن يهاجروا منها إلى ما هو خير. قال الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا، وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . فهذا النص يوجب الهجرة على الذين تضطرهم إقامتهم في بلادهم إلى مخالفة أوامر الله، والوقوع في معاصيه، الأمر الذي يكونون به ظالمين لأنفسهم ويستثنى هذا النص المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة تمكنهم من

الهجرة كالعجزة من الرجال والنساء، وكالولدان الذين لا يقدرون على الهجرة والسفر. والإلزام بالهجرة يعني أن الوطن الحقيقي للمسلم هو الأرض التي يستطيع أن يقيم فيها شرائع الإسلام وواجباته، وأن يبني فيها من الحضارة الإسلامية ما تمكنه من طاقاته. وأما الأمر الثاني: وهو أن ميادين نشاطها غير محدودة في طائقة خاصة من مجالات الحياة، فيظهر جليًّا بتناولها كل ما في الكون من ميادين نشاط مادي. فحينما كانت أوروبا تعاني من أزمة قيام حجب كثيفة من تقاليد دينية منحرفة عن أصول شريعة الله الحق، وكانت هذه الحجب تحجز عن الوصول إلى الحقائق الكونية المتطلعين إلى البحث العلمي بغية اكتشاف ما في الكون من حقائق وقوانين وطبائع كيميائية وفيزيائية وجغرافية وفلكية، وقوى كمينة في الأرض، وآفاق السماء، كانت العواصم الإسلامية تعج بالعلماء الباحثين في مختلف ميادين الكون المادية، دون أن يجد هؤلاء العلماء الباحثون من أسس الحضارة الإسلامية ما يصدهم عن متابعة بحوثهم، بل يجدون أنهم مسئولون في نصوص الشريعة الإسلامية عن متابعة البحث والاستنباط، والاختيار والتجربة، واكتشاف ما في الكون من أسرار وعلوم وحقائق ونظم ربانية، واستخدام ما أودع الله فيه من طاقات ضمن حدود خير الإنسان. ومن اللطائف أنهم إذا اهتدوا مثلًا بالبحث والتأمل والتجربة والاختيار والمتابعة إلى علوم طبية واسعة وأدركوا فيها بديع صنع الله، وإتقانه لكل شيء خلقه، قالوا: هذه ثمرة من ثمرات حكمة الله فيما خلق من أمراض في الحياة يتعرض إليها الإنسان فتدفعه إلى البحث عن سبب العلة وصفاتها وأفضل علاج لها. وبهذا الفهم اللطيف وأمثاله استطاع بناة الحضارة الإسلامية أن يرتقوا في درجات الكمال العلمي والعملي، وأن يحسنوا تصور حكمة الله الشاملة، وأن تطمئن قلوبهم بالإيمان، ويزيد انشراح صدورهم للإسلام.

وعلى هذا المنهج كانوا يسيرون في مختلف أنواع النشاط المادي، بحثا وتأملًا واختبارًا وتجربة، وكانوا في هذا أساتذة منشئي الحضارة الأوروبية المادية، التي يقطف العالم اليوم ثمارها المدهشة، وذلك قبل حقبة الركود التي أصيب بها المسلمون، والتي وليتها حقب التقهقر والتراجع الحضاري، بسبب هجر أسس الحضارة الإسلامية، وعبور مفاهيم فاسدة إلى المجتمعات الإسلامية، وإلقاء السمع لوساوس أعداء الإسلام. نتائج تطبيقية لانفتاح الحدود المادية: إن المؤرخين والباحثين في مظاهر الحضارة التي بناها المسلمون إبان عصور ازدهار الإسلام، لتتدفق إليهم كثرة كاثرة من الأمثلة التاريخية، التي تقدم شهادتها المادية الدالة على أن من عناصر الحضارة الإسلامية الكبرى انفتاح الحدود المادية أمام بناتها، ومن أجل ذلك كانت ميادين نشاطهم غير محدودة من طائفة خاصة من المجالات، بل كانت شاملة لكل ما في الكون من ميادين نشاط مادي علمي وتطبيقي. قال "درابر" في كتاب "تاريخ الارتقاء العقلي في أوروبا"1: "من موجب الأسف أن الأدب الأوروبي حاول أن ينسينا واجباتنا العلمية نحو المسلمين، وقد حان الوقت الذي ينبغي لنا فيه أن نعرفهم، إن قلة الإنصاف المبنية على الأحقاد الدينية وعلى المنهجية القومية لا تدوم أبد الدهر". وجاء في "التاريخ العام" لـ"لافيس ورامبو"2. "إذا وجب أن يذكر لكل واحد قسطه من العمل فلا يسع المنصف أن ينكر أن قسط العرب "المسلمين" منه كان أعظم من قسط غيرهم، فلم يكونوا واسطة نقلت إلى الشعوب الجاهلية في إفريقية وآسيا وأوروبا اللاتينية معارف الشرق الأدنى والأقصى وصنائعه واختراعاته، بل أحسنوا استخدام المواد المبعثرة، التي

_ 1 نقلًا عن الإسلام والحضارة العربية لمحمد كرد علي. 2 نقلًا عن المصدر السابق.

كانوا يلتقطونها من كل مكان، ومن مجموع هذا المواد المختلفة التي صبت فتمازجت تمازجًا متجانسًا، أبدعوا مدينة حية مطبوعة بطابع قرائحهم وعقولهم، وهي ذات وحدة خاصة وصفات فائقة". ا. هـ. أمثلة عن الميادين المختلفة لنشاط المسلمين: ولدى تتبع ميادين نشاط المسلمين المختلفة، لا بد أن نعرض أمثلة منها: نقدم فيها بيانًا موجزًا عامًّا يعتمد على نقول وشهادات، لنعود إلى التفصيلات المناسبة في الباب الخاص بالآثار التطبيقية للحضارة الإسلامية من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. التاريخ والجغرافية: لقد كان للمسلمين نشاط جم في علمي التاريخ والجغرافي، ولقد أعجب كثير من العلماء الأوروبيين الذين تفقهوا الحضارة الإسلامية من كتبها، وأكبروا أعمال المؤرخين والجغرافيين المسلمين، أمثال: المقدسي، وابن حوقل، وياقوب الحموي، والمسعودي، والطبري، وابن الأثير، والبلاذي، والبيروني، وأبي الفداء، وابن جبير، وابن سعيد، وابن سعد، وابن خلكان، وابن عساكر، والإدريسي إلى آخرين كثيرين كتبوا في هذين العلمين، وكتبهم تفخر بها المكتبة الإسلامية، ولقد استفاد منها الغربيون فوائد جلى، ونوهوا بها في شتى المناسبات. قال: "غوتيه": "إن الشريف الإدريسي الجغرافي كان أستاذ الجغرافية الذي علم أوروبا هذا العلم، لا بطليموس، ودام معلمًا لها مدة ثلاثة قرون، ولم يكن لأوروبا مصور للعالم إلا ما رسمه الإدريسي، وهو خلاصة علوم العرب "أي المسلمين" في هذا الفن، ولم يقع الإدريس في الأغلاط التي وقع فيها بطليموس في هذا الباب".

وقال أيضًا متسائلًا ومجيبًا: "من دار حول أفريقية؟ فاسكودي جاما. ومن كشف أمريكا؟ خريستوف كولومبوس". ثم قال: "ومن السهل أن ندرك أن هذين الكشفين اللذين فاقا جميع ما تقدمهما، قد نما على أيدي بخارة من العرب، وكان تحقيقهما متعذرًا بدون ارتقاء علم الجغرافية عند العرب "أي المسلمين" وتم هذان الكشفان العظيمان بعقول العرب وموادهم وأشخاصهم" إلى آخر ما قال هذا العالم المنصف. الفلك: وكان للمسلمين نشاط جم في علم الفلك. قال "دلامير" في تاريخ هذا العلم1: "إننا إذا أحصينا راصدين أو ثلاثة من الروم رحنا نعد كثيرين من العرب "المسلمين" في هذا الفن، مما دل على بعد غورهم في علم الأفلاك". ونقل نظير ذلك غوستاف لوبون عن "دولنير" ولكن بدل الروم الأغارقة2. وقال "بيكوردين"3: "نشأت مكانة علم الفلك عند العرب "أي المسلمين" من توسع الرياضيين منهم في الحساب؛ لأنهم اخترعوا أساس حساب المثلثات، وحقق العرب طول محيط الأرض بما كان لهم من الأدوات، وأخذوا ارتفاع القطب ودورة كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر، وحققوا طول البحر المتوسط الذي قدره بطليموس بـ"12" درجة فارجعوه إلى أربع وخمسين أولًا، ثم إلى "42" درجة أي: إلى الصحيح من مقداره تقريبًا".

_ 1 نقلًا عن كتاب الإسلام والحضارة العربية لمحمد كرد علي. 2 حضارة العرب لغوستاف لوبون. 3 نقلًا عن: الإسلام والحضارة العربية.

ويتابع "محمد كرد علي" قوله في هذا المجال فيقول مع بعض تصرف مني في العبارة: "وجمع المأمون بعض حكماء عصره على صنعة الصورة التي نسبت إليه، ودعيت الصورة المأمومنية، صوروا فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره، وعامره، وغامره، ومساكن الأمم والمدن، إلى غير ذلك. وهي أحسن مما تقدمها من جغرافية بطليموس، وجغرافية مارينوس. ووضع له علماء رسم الأرض -وكانوا سبعين رجلًا من فلاسفة العراق- كتابًا في الجغرافية، أعان عمال الدولة على معرفة البلاد والأمم التي أظلتها الراية العباسية، هذا إلى عنايته بالفلك، وفلكيه الفزاري أول من استعمل الإسطرلاب من العرب. وأقام المسلمون المراصد الفلكية في بغداد والرقة ودمشق والقاهرة وسمرقند، وقرطبة وفاس. ونظروا في المجسطي لبطليموس في الفلك، وعملوا جداول فلكية مدققة. وكشف المسلمون منابع النيل قبل أن يتصدى الإفرنج لها، وقام في أذهانهم أن في الأرض أقطارًا لم تعرف، حتى قال أحد عارفيهم قبل "كولومبس" بقرن ونصف: "لا أمنع أن يكون ما انكشف عنه الماء من الأرض من جهتنا منكشفًا من الجهة الأخرى، وإذا لم أمنع أن يكون منكشفًا من تلك الجهة فلا أمنع أن يكون به من الحيوان والنبات والمعادن مثل ما عندنا أو من أنواع أخرى". وقال "درابر" في حديثه عن المسلمين: "إن اعتمادهم على المراقبة والامتحان دعاهم إلى استعمال الربع1 والاستطرلاب في علم الهيئة، ولم يقرروا في علم الهيئة لوائح فقط، بل رسموا

_ 1 لدى الفلكيين أداة يقيسون بها تسمى الربع، وهي على شكلين: الربع المجيب، والربع المقنطر.

خرائط للنجوم المنظورة في فلكهم، مطلقين على ذوات القدر الأعظم أسماء عربية، لا تزال تتردد على كراتنا الفلكية، وقد عرفوا حجم الأرض بقياس درجة سطحها، وعينوا الكسوف، والخسوف، ووضعوا للشمس والقمر جداول صحيحة، وقرروا طول السنة، وأدركوا الاعتدالين، ولاحظوا أمورًا بعثت نورًا باهرًا على نظام العالم، واختص علماء الفلك منهم باختراع الآلات الفلكية لقياس الوقت بالساعات المتنوعة، وكانوا السابقين إلى استعمال الساعة الرفاصة لذلك". الاختراعات الصناعية والاكتشافات: وكان للمسلمين نشاط جم في مختلف البحوث والإنتاجات المادية التي تعتمد على الاختراع والابتكار والصناعة. قال "غوتيه" في كلام له عن المسلمين: "ولهم في باب الاختراعات شيء لا بأس به بالنسبة إلى عصورهم، وقد وجد في كتاب عربي قديم لم ينقل إلى اللغات الأوروبية أن العرب عرفوا طريقة عمل الجليد الصناعي، ولم تعرف أوروبة سر هذه الصناعة إلا في النصف الأول من القرن السادس عشر". وقال "غوتيه" أيضًا عن المسلمين: "وإنهم علمونا صنع الكتاب، وصنع البارود، وعمل إبرة السفينة، فعلينا أن نفكر ماذا كانت نهضتنا لو لم يكن من ورائها هذه المخلفات التي وصلتنا من المدينة العربية". ويجمع "محمد كرد علي" في كتابه "الإسلام والحضارة العربية" طائفة حسنة تدخل في هذا المجال، منها ما يلي: "وقد أدخل المسلمون على أوروبا الورق المعمول من القطن والورق الرخيص الثمن، وكان الناس من قبل يكتبون على ورق "البردي" وهو غال جدًّا،

وكانت معامل شاطبة في إسبانيا تصدر بضاعة الورق إلى أوروبا الغربية، بينما كانت أوروبا الشرقية تبتاع ورقها من بلاد الشرق الأدنى مباشرة، على ما يشهد لذلك اسم الورق الدمشقي "شارتا داماسينا". وقد صنع الورق من الحرير في سمرقند وبخارى سنة "650م" ثم استبدل يوسف بن عمرو سنة "706م" القطن بالحرير، ومنه الورق الدمشقي الذي ذكره مؤرخو اليونان. وقد عرف المسلمون آلة الظل، والمرايا المحرقة بالدوائر، والمرايا المحرقة بالمقطوع، وقطعوا شوطًا كبيرًا في الميكانيكيات. ولما بعث الرشيد العباسي إلى شارلمان الساعة الدقاقة الكبيرة تعجب منها أهل ديوان شارلمان، ولم يستطيعوا أن يعرفوا كيفية تركيب آلاتها، على ما حقق ذلك "سيديلو" في كتابه "تاريخ العرب". ونهض المسلمون في فارس والأندلس وصقلية وأفريقية لاستثمار المعادن، يستخرجونها من مناجمها، ويحسنون تطريقها والانتفاع بها، واستخراج المسلمون في الأندلس من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب. واستثمر المسلمون أيضًا المناجم التي صارت ملكًا لهم في بلادهم في الشرق والغرب، فاستخرجوا الحديد في خراسان، والرصاص في كرمان، واستخرجوا القار والنقط والكبريت وطينة الأواني الصينية، ورخام طوريس، والملح الأندراني. وقد سبق المسلمون في الأندلس إلى معرفة الطباعة قبل مخترعها المشهور الألماني "جوتنبرغ" وذلك بأربعمائة سنة، فقد كان عبد الرحمن بن بدر من وزراء الناصر، ومن أهل المائة الرابعة تكتب السجلات في داره، ثم يبعثها للطبع فتطبع، ثم تقدم إليه، فيبعثها إلى العمال في الجهات. وحاول بعض المسلمين اختراع طريقة الكتابة الخاصة بالعميان، فقد ذكرت كتب التاريخ أن علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر المشهور بزين الدين الآمدي المتوفى سنة "712هـ" وكان قد كف بصره في أول عمره، كان كلما

اشترى كتابًا لخزانة كتبه لف ورقة على شكل حرف من الحروف، ولصقها في الكتاب، وكانت هذه الحروف هي التي يستعين بها على معرفة الكتاب. وحاول "عباس بن فرناس" حكيم الأندلس الطيران، وهو أول من استنبط صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من صنع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف بها الأوقات، وكان ذلك على غير مثال سبق، ومثل في بيته السماء بنجومها وعيومها وبروقها ورعودها تمثيلًا يخيل للناظر أنه حقيقة. ويقول "ريسون" في بحوث له عن حضارة المسلمين: "وتوصل العرب إلى إثبات تناسب جيوب الأضلاع لجيوب الزوايا المقابلة لها في أي مثلث كروي، ووضعوا هذه القاعدة أساسًا للطريقة التي سموها الشكل الفني فيحل المثلثات الكروية. وعرفوا حامض الكبريت، استخرجوه من الزاج بوساطة التقطير، وعرفوا ماء الفضة، والقلي، وطرق إذابة الذهب، وعرفوا ملح النشادر، وحجر الكي، والسليماني، وكانوا يطبقون ما كشفوه على الطب والصناعة والحرب. وكانوا يعرفون صنع الصواريخ، أخذوا سرها، من الروم، وعملوا البارود للمدافع، وربما كان ذلك قبل الصينيين1، ولكن كان قبل الأوروبيين على التحقيق، فكانت جيوشهم تستعملها منذ القرن الثالث عشر الميلادي. وقالوا بكروية الأرض منذ ابتداء نهضتهم، وعنوا بصنع القاشاني، وغيروا طريقة صنعه وأشكاله. واشتهرت في القرون الوسطى الأواني الزجاجية، والمصابيح العربية الملونة، التي انتقلت من الشام إلى معامل البندقية، ونسجت هذه على منوالها، وكذلك تعلم أهل البندقية صنع المرايا، وكانت تصنع في صور، ومن البندقية انتقلت إلى أوروبا.

_ 1 يؤكد غوستاف لوبون أن البارود من اختراع المسلمين وأن الذي كان عند الصينيين إنما هو ملح البارود.

ونقل من الشام والعراق إلى الأندلس صنع السيوف الدمشقية، وصنع الأقمشة، ومنها "الدمقس" -وهو ما يسمى الدامسكو- نسبة إلى دمشق. ومنها "الموسلين" نسبة إلى الموصل، وهي الشفوف، كالذي يسمى الآن بالشاش، ثم عرفت هذه الأصناف بعد ذلك في بلاد الغرب". ويقول "درابر" في بحوث له عن حضارة المسلمين: "ومن عادتهم أن يراقبوا ويتمحنوا، وقد اعتبروا الهندسة والعلوم الرياضية وسائط للقياس. ومما تجدر ملاحظته أنهم لم يستندوا فيما كتبوه في الميكانيكيات والسائلات والبصريات على مجرد النظر، بل اعتمدوا على المراقبة والامتحان، بما كان لديهم من الآلات، وذلك ما هيأ لهم سبيل ابتداع الكيمياء، وقادهم لاختراع أدوات التصفية والتبخير ورفع الأثقال، ودعاهم إلى استخدام الموازنة في الكيمياء، مما خصوا به دون سواهم، وهيأ لهم صنع جداول للجاذبية النوعية، وفتح لهم باب تحسين عظيم في قضايا الهندسة وحساب المثلثات، واختراع الجبر، واستعمال الأرقام في الحساب. وكان هذا كله من نتائج استعمالهم طريقة الاستدلال والامتحان. وهم الذين أنشئوا في العلوم العملية علم الكيمياء، وكشفوا بعض أجزائها المهمة كالحامض الكبريتيك، وحامض الفضة "النتريك" والغول "الكحول". وهم الذين استخدموا ذلك العلم في المعالجات الطبية، فكانوا أول من نشر تركيب الأدوية، والمستحضرات المعدنية. وهم قرروا في الميكانيكات سقوط الأجسام، وكان لهم رأي جلي من جهة طبيعة الجاذبية، ورأي سديد في القوات الميكانيكية. واصطنعوا في نقل الموانع وموازنتها الجداول الأولى للجاذبية النوعية، وكتبوا مقالات في علوم الأجسان وغرقها في الماء

واصلحوا في علم البصريات خطأ اليونان بكون الشعاع يصدر من العين ويمس المرئي فيظهره، فقالوا: إن الشعاع يمر من المرئي إلى العين. وفهموا أساس انعكاس النور أو انكساره، وكشفوا عن طريق الشعاع المنحني في الهواء أننا نرى الشمس قبل الشروق وبعد الغروب، وبرهنوا على ذلك بانكسار الضوء. والذي يدهش كثيرًا أن نتصور أشياء تفاخر بأنها من مواليد وقتنا، ثم لا نلبث أن نراهم سبقونا إليها، فتعليمنا الحاضر في النشوء والارتقاء كان يدرس في مدارسهم، وحقًّا إنهم وصلوا به إلى الأشياء الآلية، وغير الآلية، فكان المبدأ الرئيسي في الكيمياء عندهم، والمظهر الطبيعي للأجسام المعدنية" إلى غير ذلك من أقوال له. أما "غوستاف لوبون" فله تحقيقات واسعات يشرح فيها فضل المسلمين على المدينة الغربية الحديثة، فمما جاء منها لدى حديثه عن مناهج المسلمين العلمية: "إن خزائن الكتب والمختبرات والآلات هي مواد للتعليم والبحث اللازم، ولكنها ليست إلا أدوات، وقيمتها منوطة بالطريقة التي تستعمل فيها، فقد يتلقف المرء علم غيره وهو عاجز عن أن يفكر فيه بنفسه أو يبتدع أي شيء، وقد يكون تلميذًا دون أن يوفق إلى أن يصبح أستاذًا أما العرب "أي المسلمون" فبعد أن كانوا تلاميذ عاديين أساتذتهم تآليف اليونان أدركوا للحال أن التجربة، والترصد خير من أفضل الكتب "يعني بذلك ما تدخل في مجالات العلوم المادية والصناعات" هذه الحقيقة اليوم معروفة لا يعد العمل بها بدعًا، ولكنها لم تكن كذلك في سالف الدهر، فقد ظل علماء القرون الوسطى يشغلون ألف سنة قبل أن يدركوها. ينسب إلى بيكون على العموم أنه أول ما أقام التجربة والترصد اللذين هما ركن المناهج العلمية الحديثة مقام الأستاذ، ولكنه يجب أن يعترف اليوم بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم، وقد أبدى هذا الرأي جميع العلماء الذين درسوا مؤلفات العرب.

وقال "سيديو": "إن أهم ما اتصفت به مدرسة بغداد في البداءة هو روحها العلمية الصحيحة التي كانت سائدة لأعمالها، وكان استخراج المجهول من المعلوم والتدقيق في الحوادث تدقيقًا، مؤديًا إلى استنباط العلل من المعلولات، وعدم التسليم بما لا تثبته التجربة، مبادئ قال بها أساتذة من العرب، وهذه هي الأصول التي لقنها العلماء، ولقد كان العرب في القرن التاسع متمكنين من هذه الطريقة الخصبة التي صارت عند المحدثين أداة استعملوها للوصول بها إلى أروع الاكتشافات". وقال "دولنبر" في كتاب "تاريخ علم الفلك": تعد راصدين أو ثلاثة بين الأغارقة، وتعد عددًا كبيرًا من الرصاد بين العرب، وأما في الكيمياء فلا نجد مجربًا واحدًا يونانيًّا مع أن المجربين من العرب فيها يعدون بالمئات. الطب: وكان للمسلمين نشاط جم في علم الطب النظري والتجريبي. يقول "سنيبوس" في كلام له عن حضارة المسلمين. "واستخرجوا من كتب الطب اليوناني الطب التجريبي وهو طب العقاقير والحبوب". ويقول "ريسون" في كلام له عن المسلمين: "وكشف كيماويوهم وأطباؤهم عن خواص الغول والنشادر وحامض الأزوت، والكبريت والمياه المعدنية، وأدخلوا في كثير من أدويتهم مواد من نبات بلادهم كالكافور والرواند والسنامكي". ويقول "غوتيه" في حديثه عن المسلمين:

"وقد أغنوا العلم ولا سيما علم النبات بمسائل جديدة كثيرة، ومعظم المستحضرات والأدوية المستعملة كالأشربة، والدهون, والمراهم، والغول "الكحول" واللعوق، والسنامكي، والراوند، والخيارشنبر، وجوزالقيء، هم الذين كشفوها، واستلزمت أصول تداويهم أن يعمدوا إلى استعمال الفتائل وإلى الحجامة في أمراض الصرع، واستعمال الماء البارد في الحمى الدائمة، واتخذ جراحوهم تفتيت حصاة المثانة، واستخرجوا من العين الجريم العدسي الشفاف، ويظهر أنهم عرفوا البنج". وفي "التاريخ العام" لـ"لافيس ورانبو": "وكل هذا المجد في الطب العربي إن لم يبدلنا أنهم كانوا فيه أرباب نظريات دقيقة، فهم على الأقل أرباب ملاحظة عاقلة، وأرباب تجارب حاذقة، وأطباء عمل على غاية من المهارة، وكان الرازي وابن جابر أول من وضع أساس الكيمياء الحديثة، وحاولا كشف الإكسير الذي يهب الحياة، ويعبد الشباب، وكانا يذهبان إلى معرفة حجر الفلاسفة الذي يحول المعادن إلى الذهب، ولم تذهب هذه الأبحاث الوهمية سدى: لأنهم عرفوا بها التقطير والتصعيد، والتجميد، والحل، وكشفوا الغول من المواد السكرية والنشوية الخاثرة". ومهما يكن من أمر فقد كان الطب العربي أساس علم الطب عند الفرنسيين، أخذوه مع كثير من الألفاظ العربية، كما كان الفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية تقرأ في أوروبا في كتب عربية إسلامية. وكان المسلمون في الأندلس يعرفون الجراثيم، حتى كانت وقايتهم من الأمراض تشبه الوقاية المعروفة بعد اكتشاف عالم الجراثيم. الزراعة: وكان للمسلمين نشاط جم في ميادين الزراعة. جاء في "التاريخ العام" لـ"لافيس ورامبو":

"ومضى دهر طويل كانت فيه شعوب المملكة العربية أول العارفين بالزراعة، وأحسن العمال، وأجرأ التجار في العالم القديم، وأصبحت الزراعة التي أخذوها عن أساليب بابل والشام ومصر علمًا حقيقيًّا للعرب، أخذوا نظرياتها من الكتب، ثم وسعوها بتدقيقاتهم وتجاربهم، وكانوا يطبقونها بمهارة، ليس بعدها مهارة، وكان رجال الطبقة الأولى منهم لا يستنكفون عن العمل بأيدهم في زراعة الأرض، بينما كان غيرهم يحتقرها ويعدها عملًا مهينًا". وقال "شارل سنيوبوس" في كتابه "تاريخ الحضارة": "جرى أمرأء العرب على قاعدة إسقاء الأرضين بفتح الترع، ففتحوا الآبار وجازوا بالمال الكثير من عثروا على ينابيع جديدة، ووضعوا المصطلحات لتوزيع المياه، ونقلوا إلى إسبانيا أسلوب النواعير لضخ المياه، والسواقي التي توزعها، وإن سهل بلنسية الذي جاء كأنه حديقة واحدة هو من بقايا عمل العرب "أي المسلمين" وعنايتهم بالسقيا، ونظم العرب ديوان المياه الذي كان يرجع إليه في مسائل الري". وقال أيضًا: "إن العرب استعملوا جميع أنواع الزراعة التي وجدوها في مملكتهم، وحملوا كثيرًا من النباتت إلى صقلية وإسبانيا وربوها في أوروبا فأحسنوا تربيتها، حتى لنظنها متوطنة متبلدة، وذلك مثل الأرز والزعفران والقنب والمشمش والبرتقال والكباد والنخل والهليون والبطيخ الأصفر والعنب والعطر والورد الأزرق والأصفر والياسمين بل والقطن والقصب". وقال "ويليام ويلكوكس" مهندس الري الكبير في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين: "إن عمل الخلفاء المسلمين في ري العراق في الأيام الماضية يشبه أعمال الري في مصر والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا في هذا العصر".

العمران: وكان للمسلمين نشاط عظيم في ميادين العمران وتخطيط المدن، وهذه آثار حضارتهم العمرانية شاهدة لهم في الشام والعراق ومصر وبلاد المغرب العربي وإسبانيا وإيران وتركيا والهند وسائر البلاد الإسلامية. وقد وصف المقدسي ميناء عكا التي بناها جده أبو بكر البناء المهندس لابن طولون، والطرق التي استعملها في هندستها حتى تدخل إليها المراكب آمنة، فعدت هذه الميناء من العجائب. ويقول "ريسون" في كلامه له عن المسلمين: "وكنت تراهم حيث نزلوا يمهدون السبل، ويعمرون المرافئ، ويصلحون الفنادق والرباطات، ويرتبون سير القوافل، وكانت المدن الإسلامية أوساطًا تجارية كبرى". وذكر المؤرخون أنه كان في حي من أحياء دمشق وحدها وهو حي الصالحية "جبل مشرف على دمشق القديمة" قرابة "360" مدرسة لتدريس مختلف العلوم من مختلف الاختصاصات التي كان لها شأن يومئذ، وهذه المدارس داخلة في نطاق الأوقاف الإسلامية، يضاف إليها المستشفيات، والبيمارستانات والملاجئ التي يأوى إليها ذوو العاهات وأصحاب الحاجات، وكانت هذه المنشآت الخيرية والتعليمية أحسن حالًا وأمتن وآنق من قصور الأثرياء، وذوي الجاه والسلطان آنئد. والكلام عن المؤسسات الخيرية التي بناها المسلمون وأنفقوا عليها الأموال الطائلة، وأوقفوا عليها الوقاف الكثيرة، ذو شجون، وسنعرض روائعها إن شاء الله في الباب الرابع ما تيسر لنا ذلك. ونقتطف من كتاب "حضارة العرب" تأليف "غوستاف لوبون" المقتطفات التالية من مواضع متعددة: "وأنشأ العرب في أفريقية مدنًا كالقيروان وتونس وفاس، وجددوا مدنًا قديمة كتلمسان وبجابة والجزائر".

"ويستدل على حضارة سورية أيام سلطان العرب بما رواه الكتاب وبما لا يزال قائمًا فيها من المباني، وروى المؤرخون أن سورية لم تلبث أن ازدهرت بعد أن فتحها العرب، فقد جد العرب في دراسة كتب اليونان والرومان، مثلما جدوا في ميادين القتال، وأنشئوا المدارس في كل مكان، وصاروا أساتيذ من فورهم بعد أن كانوا تلاميذ، وأنهضوا العلوم والشعر والفنون الجميلة أيما إنهاض". "وبلغت الصناعة والزراعة درجة رفيعة في سورية، وازدهرت كبريات المدن السورية، كالقدس، وصور، وصيدا، ودمشق، وكانت سورية من أغنى أقطار العالم دائمًا ما لم تنلها أيدي التخريب". "فلما قبض العباسيون على زمام الخلافة في سنة "132هـ - 740م" عزموا على تبديل العاصمة، فأقاموا بالقرب من بابل وعلى شاطئ دجلة مدينة بغداد التي لم تلبث أن صارت أشهر مدن الشرق". الفنون الجمالية: وكان للمسلمين نشاط جم في ميادين الفنون الجمالية، مبتعدين فيها عما لم تأذن به أسس الإسلام الاعتقادية والسلوكية. وقد ظهر ذلك في هندسة المنشآت العمرانية الكبرى، وتزيينها بفنون الزينة الجميلة، عدا التماثيل، وصور الإنسان والحيوان، وكل ما فيه دلالة على أي لون من ألوان الشرك والكفر بالله. وضمن المجالات المنفتحة أمامهم استطاعوا أن يبدعوا إبداعات رائعات، تشهد لهم بذلك النقوش والزخرفات البديعة، الباقية في آثارهم الحجرية والرخامية والخشبية والمعدنية وغيرها، وكذلك الرسوم البديعة فيما بقي من الفسيفساء التي زينوا بها جدران وأسقف الجوامع الكبرى. وفي المحاريب والمنابر والمنارات والقباب والمقنطرات والأقواس

والمتدليات المقرنصة والنوافذ والأبواب والدهانات التي نشاهدها في مختلف الأبنية الإسلامية الأثرية المنبثة في معظم بلدان العالم الإسلامي الشيء الكثير، من آثار فنونهم الجميلة، التي لم يجعل الإسلام من دونها حاجزًا. ولما كان الصور والتماثيل الحيوانية من الأمور المساعدة على غرس بزور الشرك بالله، ونشر الوثنيات المختلفة حرمها الإسلام، وإن كان الغرض منها الناحية الجمالية، وذلك لأن الصور والتماثيل، ربما تجعل المعجبين بمن تحاكيه يتقربون إليها بالتعظيم، تعبيرًا عن حبهم لمن تحاكيه، ومع تطاول الزمن وتوارث الأجيال ذلك عنهم، يتطور الأمر فيكون لونا من ألوان العبادة لها، وشركًا بالله ظاهرًا، وقد حصل نظير ذلك في القرون الأولى، ويحصل نظيره أيضًا مع تماثيل الزعماء المنقذين لشعوبهم في أمم كثيرة، ومنه تعظيم بعض المسلمين لقبور الصالحين، على أن الوثنية لم تنته بعد من العالم، والملاحظ أن الشعوب الوثنية ما زالت أكثر عددًا من الشعوب الأخرى. ولما كان عرض زينة المرأة وجمالها الفاتن لغير من تحل له وسيلة للإثارة غير المشروعة، وسببًا لنشر الفساد في الأرض حرم الإسلام ذلك، وإنما أذن به إذا كان لمن تحل له معاشرتها دون غيره، فإذا رأى منها ما يسره لم يكن أمامه مانع يمنعه من تلبية مطالبة العضوية الفطرية منها. وظهر نشاط المسلمين في ميادين الفنون الجمالية في مجالات الأدب القولي، عن طريق الشعر والنثر، على اختلاف أبوابهما، فأبدعوا في ذلك أيما إبداع، واهتدوا بروائع أدب الكلام الذي اشتملت عليه نصوص القرآن والسنة، وما فنون الشعر وعلوم الأدب والبلاغة بما اشتملت عليه من علوم "المعاني والبيان البديع" إلا بعض ثمرات هذا النشاط الجم في مجالات الفنون الجمالية الكلامية ذات الأهداف السامية. وكان للمسلمين سبق رائع في فنون زخرفة الألبسة والآنية، والمراكب والكتب وغيرها، مما تشهد به آثارهم الباقية التي تختال بها المتاحف الكبرى في معظم دول العالم.

وقد انفرد المسلمون من بين الناس بسبق بديع في فنون الخط، حتى غدا الخط العربي آية في الجمال بين سائر الخطوط العالمية، بل أصبح فنًّا قائمًا بذاته، فهو صورة رائعة للزخرفة الجميلة، مع ملاحظة أن هذه الزخرفة ليست ضائعة الدلالة، فهي ذات دلالات فكرية وعلمية بحسب ما تدل عليه كلمات هذه الخطوط، إلى جانب دلالاتها الفنية الجمالية. ومن الفنون الجمالية التي يحض عليها الإسلام مختلف الآداب الشخصية والجماعية، وبها يُعطي المسلم صورة بديعة لجمال المظهر، وجمال المحادثة، وجمال المعاشرة، وجمال المجالس، وجمال السير في الطرقات. ولما كانت القذارة منافية للجمال نهى الإسلام عنها، وأمر بالطهارة، فقال تعالى، لرسوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وقال الرسول صلوات الله عليه: "الطهور شطر الإيمان". ولما كان تشعيث الشعور منافيًا للجمال علمنا الإسلام تنظيفها وترجيلها وتنسيقها. ولما كان المشي بنعل واحدة منافيًا للجمال أيضًا نهى الرسول صلوات الله عليه عن ذلك. وتمشيًا مع هذا المنهج الجمالي المحبب للأنفس، قال صلوات الله عليه: "البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها". الخطيئة: هي المعصية، وإنما كانت معصية لأنها منافية للذوق الجمالي من جهة، ومنافية لتعاليم الصحة من جهة أخرى، ولا سيما في مواطن العبادة التي هي محل اجتماع المسلمين. وهكذا تسير الحضارة الإسلامية سيرًا شاملًا كل ما في الحياة من مجالات. وهكذا نلاحظ كيف أدرك المسلمون الأولون معنى العالمية والشمول في

أسس الحضارة الإسلامية، فأخذوا يشقون كل طريق نافع، ويجولون في كل ميدان خير، رغبة باغتنام أكبر مقدار ممكن من التقدم والارتقاء، في مظاهر الحضارة الإنسانية، حتى خطوا في ذلك خطوات عظيمات، كانت خلقة كبرى من حلقات سلسلة الرقي الإنساني، فلو أتيح لهم متباعة خطواتهم هذه، ولم يدب إليهم دبيب الضعف والوهن، والبعد عن مفاهيم الإسلام، لجاءت مظاهر حضارة القرن العشرين المادية على أيدي المسلمين، وقبل عدة قرون من ظهورها على أيدي غيرهم، ولكانت خالية من شوائب الفساد الاجتماعي والخلقي الذي تعاني منه هذه الحضارة الآن. ولكن شاءت حكمة الله وقضت سنته أن تكون النتائج مقرونة بمقدماتها دائمًا، فالتقدم ثمرة العمل والتفكير وبذل الجهد، والتخلف ثمرة التواني والتهرب من المسئولية، وعدم المبالاة، والانشغال باللهو واللعب ومحقرات الأمور، وثمرة الانغماس في الشهوات والملذات.

الفصل الرابع: المثالية والواقعية

الفصل الرابع: المثالية والواقعية المقولة الأولى: تعريفات وبيانات عامة للمثالية والواقعية 1- المثالية: إن المثالية من صور العمل الإرادي للإنسان هي أسمى الصور المحتملة الوقوع بالنسبة إليه في أرقى مستوياته، وهي التي ينبغي أن تكون محل التطلع الأسْمَى له عند العسر، ومحل التنفيذ عند اليسر، فردًا كان أم جماعة، وذلك في كل مجالات العمل الإرادي للإنسان الفكرية، والنفسية، والجسدية. 2- الواقعية: أما الواقعية في صور العمل الإرادي للإنسان فهي الصور المستطاعة التنفيذ بوجه عام من دون عسر، وهي التي ينبغي أن لا يهبط الإنسان عن مستواها الواجب، ضمن ظروفه النفسية والجسدية والاجتماعية، والزمانية والمكانية. فإذا كانت المثالية في عمل ما فكري أو نفسي أو جسدي، أو في مجموعة أعمال ومجموعة تصرفات في الحياة تقوم مثلًا بمائة درجة فإن الواقعية قد تقوم بخمسين درجة أو بما دون ذلك أو بأكثر من خمسين، وذلك على حسب العمل، أو مجموعة الأعمال، ضمن ظروف الإنسان المختلفة. ولدى تحديد درجة الواقعية التي يجب على الإنسان أن لا ينزل عن مستواها، حتى يكون من السويين بأعمالهم وتصرفاتهم في الحياة على وجه الإجمال، لا بد من ملاحظة واقع الإنسان بشكل عام، في قدراته، واستطاعته، ومطالب غرائزه في نفسه وجسده، ومدى العوامل النفسية والاجتماعية التي قد تؤدي به إلى الشرود، والانحراف، وفلتات الشذوذ.

3- مواقع المثالثة في أسس الحضارة الإسلامية: نظرة استقرائية شاملة للشريعة الإسلامية الدافعة إلى كل مجد حضاري كريم تكشف لنا أن من أسسها العامة الكبرى المثالية في العقائد والأهداف والغايات، والواقعية في الأعمال ومناهج الحياة. تفصيل هذه الحقيقة: أما المثالية فتنجلي في أمور ثلاثة: الأمر الأول: الإيمان والأصول الاعتقادية، فهي في الإسلام الحقيقة المثلى، والإيمان بها يجب أن يكون تامًّا، وللمثالية في الإيمان درجات تتفاوت بحسب تفاوت الأفراد، نظرًا إلى استعداداتهم وإلى مدى تمسكهم بها. الأمر الثاني: النيات وتكون المثالية فيها بابتغاء مرضاة الله في فعل الأعمال الحسنة، وفي ترك الأعمال السيئة، وملاحظة طاعته لدى فعل ما أمر به، أو ترك ما نهى عنه، أو فعل وترك ما أذن بفعله وتركه على السواء. وهذا الابتغاء عمل من أعمال القلوب، ويطلق عليه اسم "النية". ولا غرو أن المثالية في هذا الأمر أيضًا ذات درجات، تتفاوت بحسب تفاوت الأفراد، نظرًا إلى استعداداتهم، وإلى مدى تمسكهم بها. الأمر الثالث: نشدان الكمال في الأعمال، وذلك بالتطلع المستمر إلى الأحسن والأفضل والأنفع والأكمل من صور العمل واحتمالاته، وباستهداف الوصول إلى الغاية المثالية التي يمكن تحقيقها عن طريق العمل، ولو في أقل الأحوال الإنسانية، وأندرها. وهذا النشدان يدفع الإنسان إلى التحسين والترقية باستمرار؛ سعيًا في طريق الكمال.

4- وأما الواقعية في الأعمال ومناهج الحياة فتتجلى في خمسة أمور: الأمر الأول: التكليف ضمن حدود الطاقة الإنسانية. الأمر الثاني: رفع المسئولية في أحوال النسيان والخطأ والإكراه، التي لا يملك الإنسان دفعها. الأمر الثالث: مراعاة مطالب الفكر والنفس والجسد، وعدم إهمالها، وذلك ضمن حدود طريق الخير. الأمر الرابع: مراعاة واقع حال المجتمعات الإنسانية التي يتفاوت أفرادها في استعداداتهم، وخصائصهم، وذلك في البيانات الإسلامية، وفي أساليب التربية، وفي الأعمال الجماعية، وفي تحديد مناهج السلوك، وفي أصول المحاسبة والجزاء. الأمر الخامس: مراعاة واقع حال النفس الإنسانية، المفطورة على حب المخالفة، والنزوع إلى الشذوذ، والمغامرة بامتحان المسالك الوعرة، ولهذا الواقع الإنساني مؤيدات صريحة في نصوص الشريعة الإسلامية. منها ما رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون". حديث حسن. وتكون مراعاة هذا الواقع بفتح باب الغفران للإنسان، وتهيئة أفضل الوسائل ليتخلص من الإثم، وليلقي عن كاهله أثقال الأوزار. وهكذا تجمع أسس الحضارة الإسلامية بين المثالية والواقعية، جمعًا رائعًا، وتضع كلا منهما في محله الذي يليق به.

5- وأعداء هذه الحضارة فريقان: فريق يقول: إن الإسلام صورة مثالية غير ممكنة التطبيق بالنسبة إلى الجماهير الإنسانية، فهو يهاجم الإسلام بهذا. وفريق آخر يقول: إن الإسلام يعد على فعل الخير بالأجر والثواب، فهو ينزل بالإنسان عن مستوى المثاليات الراقية التي تدعو إلى فعل الخير حبًّا بالخير لا طلبًا لمنفعة، أو خوفًا من مضرة. وكلا الفريقين إما مضلل ماكر، أو جاهل بالواقع الإنساني وطبيعة النفس البشرية. ونحن نقول لهم: إن الإسلام جاء لإصلاح الناس جميعًا ولم يأت لطبقة معينة منهم، لذلك فهو يحوي لكل صنف من الناس وسائل إصلاح وتقويمه. 6- إن ما سبق بيانه عن المثالية والواقعية في أسس الحضارة الإسلامية لا يعدو أنه رسم للهيكل العام الذي يشتمل عليه هذا الأساس من أسس هذه الحضارة المجيدة. واستيفاء بيان هذا الرسم يحتاج إلى شرح وأمثلة، وشواهد من النصوص الإسلامية. وسأتناول -بعون الله- في المقولات التاليات من هذا الفصل شرح كل نقطة من النقاط المهمة، التي يشتمل عليها الهيكل الذي سبق رسم مخططه العام في هذه المقولة الأولى.

المقولة الثانية: شرح المثاليات في أسس الإسلام الحضارية

المقولة الثانية: شرح المثاليات في أسس الإسلام الحضارية أولًا: المثالية في العقائد إن المثالية في جانب الإيمان المطلوب من كل مسلم قضية لا مندوحة عنها، ولا اعتراض عليها؛ لأن المثالية ليست بالأمر الصعب العسير الوقوع حتى تتنافى مع الواقعية، وإنما هي بعض الاحتمالات الواقعية الممكنة، ولكن مطابقة صورة المعتقدات الإيمانية في الإسلام للحقيقة مطابقة تامة جعلها مثالية، وكذلك وجوب كونها في قلب المؤمن تامة غير منقوصة جعلها مثالية أيضًا، فهي لدى التحقيق مثالية لأنها الصورة المثلى، وواقعية لأن فهمها والأخذ بها ممكن الوقوع لدى كل ذي عقل وإرادة. وفي إيضاح ذلك أقول: لما كان الإيمان الذي هو الإقرار والإذعان القلبي بشكلهما الكامل التام أمرًا ميسورًا لكل ذي عقل وإرادة كانت المثالية فيه مطلوبة. ومن أجل هذا لا تقبل عند الله معرفة بالحقيقة لا إقرار ولا إذعان معها، ولا يقبل إيمان يخالطه تردد وشك؛ لأنه متى خالطه شيء من ذلك لم يكن إيمانًا. وتتضح هذه الحقيقة حينما نلاحظ أن مفهوم الإيمان يتضمن العلم اليقيني، والاعتقاد الراسخ المقرون بالإقرار والإذعان، وأن الإيمان يجب أن يتناول كل جزء من أجزاء ما يجب الإيمان به، مما هو ثابت بيقين، فمن تردد أو شك ببعض ما ثبت منها بيقين، أو اكتفى باعتقاد أنه الأصوب والأرجح لم يصح إيمانه، ولن تسلم عقيدته، وبهذا نلاحظ أن الإيمان وحتدة لا تتجزأ، ولا تقبل التجزئة، فمن آمن ببعض أركان الإيمان، وكفر ببعضها لم يكن مؤمنًا؛ إذ الجزء الذي كفر به يعود أثره على الجزء الذي آمن به فينقضه. وذلك لأن عقيدة الإسلام بدأت من الإيمان بالله، والإيمان بالله يستلزم الإيمان بكمال صفاته، وذلك يستلزم تصديقه في ملائكته وكتبه ورسله وأخبار

الغيوب التي أخبر بها، فمن أنكر شيئًا من ذلك فقد أنكر كمال صفات الله، ومن فعل ذلك لم يكن بالله عارفًا، ولم يكن به مؤمنًا. وقد أبان القرآن كفر اليهود إذ آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه، قال تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول" مخاطبًا اليهود: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . ولما كانت العبادة مظهرًا من مظاهر الإيمان لم يقبل الله المساومة فيها، وذلك حينما عرض كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبدوا إلهه، على أن يعبد آلهتهم، ويتذبذب معهم بين الإيمان والكفر، وإذ كانت هذه المساومة مرفوضة شكلًا وموضوعًا أنزل الله على رسوله قوله في سورة "الكافرون: 109 مصحف/ 18 نزول": {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} . ولا يعني اشتراط التزام المثالية في جانب الإيمان وكل ما يتصل به أن هذه المثالية متماثلة بين الأفراد، ولا تقبل التفاوت، فالحقيقة أن هذه المثالية مرتبة عظمى ذات درجات بعضها أرقى من بعض، ولكن أدنى هذه الدرجات لا تخرج عن دائرة المثالية. ومن أجل هذه قررت النصوص الإسلامية أن الإيمان يزيد وينقص، وسأعالج هذه النقطة بمزيد من الشرح إن شاء الله. ثانيًا: المثالية في النيات وتتجلى هذه المثالية كما سبق بابتغاء مرضاة الله في فعل الأعمال الحسنة،

وفي ترك الأعمال السيئة، وفي ملاحظة طاعته سبحانه، لدى فعل ما أمر به أو ترك ما نهى عنه، أو فعل وترك ما أذن بفعله وتركه على السواء. وليس بالعسير علينا أن ندرك أن المثالية في هدف الإنسان من عمله تتحقق حينما يبتغي به وجه الله تعالى، حتى ولو كان له في هذا العمل مصلحة مقصودة، كالطعام والشراب والكسب وتناول الشهوات، فإلى جانب المصالح التي تتحقق له بهذه الأمور يستطيع أن يضم إليها ابتغاء وجه الله، ويحقق الجانب المثالي، وأدنى ما في ذلك مع ملاحظة أن الله أباحها له، ولو أنه حرمها عليه لم يأت شيئًا منها. ويتضح لنا بجلاء أن ابتغاء وجه الله هو الهدف المثالي إذا وضعنا احتمالات النيات التي تمثل أهداف الناس المختلفة، ضمن سلم ذي مراتب، ورتبناها بحسب درجة كمالها. فلنضرب مثلًا على ذلك عملًا من الأعمال الإنسانية، ثم لنضع احتمالات النيات التي تمثل أهداف الناس في ذلك العمل، ثم لنجر فيما بينها المقارنة لنرتبها بحسب درجة كمالها، ثم لننظر بعد المقارنة المنصفة ما هو المثالي منها. المثال: من الأعمال الحسنة بذل المال لذوي الحاجات. فلنفرض أننا جمعنا في مدينة كبرى عددًا كبيرًا من ذوي المال، ودعوناهم إلى البذل، فبذل كل منهم ما جادت به نفسه بطريقة علنية، ثم سألناهم عن طريق الأوراق السرية ما هو هدف كل منهم فيما بذل، وطلبنا منهم الصدق في الإجابة لغرض الدراسة العلمية، فوضع كل منهم إجابته في الصندوق المقفل المعد لتلقي أوراق الإجابات، بعد أن حررها بصدق، لعلمه بأنه لن يعرف بحال من الأحوال أنه صاحب الإجابة. وبعد قراءة الأوراق التي لا يعرف كاتب كل منها استطعنا أن نجمع الإجابات التاليات بعد حذف المكررات: 1- حب الشهرة والرغبة بأن يلهج الناس بالثناء عليه.

2- مخافة أن يذمه الناس ويصفوه بالبخل فتنحط مكانته بينهم. 3- الخوف من نقمة القائمين على الجباية لأنهم أصحاب قوة وسلطان. 4- الرغبة باسترضاء المشرفين على الجباية: واستدرار المنافع المادية أو المعنوية التي تأتي عن طريقهم. 5- الطمع بربح مادي يأتي عن طريق الشهرة العامة. 6- الرغبة بسد حاجات من يجبي لهم المال، وذلك بغية درء الأخطار التي قد تأتي من قبلهم، إذا اشتدت بهم الحاجة، وعظم فيهم البؤس. 7- تلبية عاطفة إنسانية أثارها في نفس الباذل بؤس ذوي الحاجات. 8- ابتغاء مرضاة الله لأنه يأمر بالخير وينهى عن الشر. ولدى ترتيب هذه الإجابات التي تمثل أهداف هؤلاء الباذلين لأموالهم ترقى الإجابتان الأخيرتان عن الإجابات كلها، فتحتلان في سلم الأهداف درجة عالية. ثم لدى البحث والمناقشة ترقي الإجابة الأخيرة التي فيها ابتغاء مرضاة الله فتحتل أسمى الدرجات، وتنزل عنها كثيرًا درجة الإجابة التي تتضمن تلبية عاطفة إنسانية نبيلة فقط. وبذلك تكون نية ابتغاء مرضاة الله صاحبة المثالية العظمى. والدليل على هذا أن نية ابتغاء مرضاة الله تتضمن كل عاطفة نبيلة، مع ملاحظة أنها تتضمن معنى عبادة الله، ثم لا يكون إلا في الخير. وكون نية ابتغاء مرضاة الله تتضمن كل عاطفة نبيلة يظهر لنا حينما نلاحظ أن أوامر الله ونواهيه تربي فينا دائمًا كل العواطف النبيلة، مع صيانتنا عن الانزلاق في عواطف تقضي بنا إلى الوقوع في الشر، أو المساعدة عليه. بخلاف العواطف الإنسانية المجردة عن ملاحظة مرضاة الله فإنها ربما تكون في الخير، وربما تكون في الشر، أو تساعد عليه، وهي أيضًا خالية من معنى عبادة الله، التي هي فضيلة بنفسها.

ومن أمثلة العاطفة الإنسانية التي ربما تكون في الشر بذل المال لمدمن خمر أو قمار، ألحت عليه الحاجة الجانحة عن طريق الفضيلة أن يأخذ المال ليصرفه في الخمر أو في القمار، وربما تصل به الحاجة إلى مرحلة تستدر عطف الناس عليه، فيبذلون له المال، ويساعدونه على ما هو فيه من شر. أما الذي يعمل وهو يلاحظ ابتغاء مرضاة الله فإنه لا يمكن أن تضعف عاطفته فتستدرج للمساعدة فيما فيه شر، وبذلك يكون مصونًا عن الانزلاق، ويكون عمله منحصرًا في طريق الخير. وبهذا التحليل يتبين لنا أن ابتغاء مرضاة الله هي المثالية العظمى من كل الأهداف المحتملة، التي تحددها النيات في القلوب. حرص الإسلام على الالتزام بمثالية ابتغاء مرضاة الله تعالى: في المرتبة الثانية التي تلي مرتبة الالتزام بالمثالية في أركان الإيمان حرص الإسلام أشد الحرص، وأهتم أبلغ اهتمام بالالتزام بمثالية ابتغاء مرضاة الله تعالى في الأعمال. ولا حاجة بنا إلى إعادة أن هذه المثالية مطلب ميسور لكل عاقل مريد، فهي مثالية في ذاتها، واقعية في إمكان تطبيقها. ومن أجل هذا ربط الإسلام ثواب الأعمال الصالحة، وصحة العبادات بالنيات المقارنة لها، التي تعزم عليها القلوب. ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الأعمال بالنيا وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". وإلزامًا بهذه المثالية تأمر الآيات القرآنية في مجال الأعمال الصالحة بأن تكون الغاية منها ابتغاء مرضاة الله حتى يتحقق للإنسان كمال المثوبة عند الله

تعالى، ويقاس على هذا ترك الأعمال السيئة، فينبغي للإنسان أن يلاحظ أنه يتركها ابتغاء مرضاة الله تعالى: فمن النصوص القرآنية في هذا المجال النصوص التالية: 1- قوله تعالى في موضوع الصدقات في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . فهذا النص يبين أن الذي ينفق ماله رئاء الناس ضائع الثواب، محروم الثمرة عند الله. 2- وقوله تعالى في موضوع التناجي بين الناس في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} . وهذا النص يبين أن الأمر بالصدقة أو المعروف أو الإصلاح بين الناس من أعمال الخير لا محالة، ولكن استحقاق الأجر العظيم عند الله مرهون بأن تكون الغاية من هذا العمل ابتغاء مرضاة الله. 3- وقوله تعالى في موضوع الصبر على الطاعات في سورة "الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول": {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً

وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} . وفي هذا النص أيضًا توجيه قرآني إلى الالتزام بالمثالية في تحديد الغاية من الصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته، والمثالية في هذا هي ابتغاء مرضاة الله. وتصعيدًا للإرادة الإنسانية لدى طلب حظوظ النفس، وتلبية رغائبها المادية أو المعنوية، والاستجابة لغرائزها تأتي المثالية فيها بعدة أمور، منها أن يكون طلبها من فضل الله، ولا يتم ذلك إلا مع صحة الإيمان بالله، وصدق التوكل عليه، والتقيد بما أذن به. وحينما يلاحظ الإنسان هذه الحقائق لا بد أن يجد نفسه مشدودًا إلى طاعة الله، مدفوعًا عن معصيته. ونستدل على توجيه الإسلام لهذه المثالية لدى طلب الحظوظ النفسية وتلبية رغائبها، والاستجابة لغرائزها بقوله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . فهنا نلاحظ أن الله تعالى قد أخذ بناصية الإرادة الإنسانية، ووجهها لما هو أسمى من مجرد الاستجابة لمطالب الغريزة الشهوية فقال: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وهذا الابتغاء في الإرادة القلبية لا ينقص من أثر تلبية الغريزة شيئًا، فالإرادة يكفي أن تكون سابقة للعمل، على أن لكل منهما مكانًا قد يمكن معه التوزيع، فالغريزة مكانها الجسد وما يصاحبه من تصورات نفسية، والإرادة العليا مكانها القلب.

ومن ذلك قول إبراهيم عليه السلام لقومه فيما حكى الله عنه في سورة "العنكبوت: 29 مصحف/ 85 نزول": {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُون} . فالرزق مطلب من مطالب الجسد، وابتغاؤه عند الله الفعال لما يريد عمل قلبي لا يؤثر على النشاط الجسدي المادي أي تأثير سلبي، وهذا الابتغاء صورة من صور المثاليات المطلوبة لأنها يسيرة التنفيذ. ثالثًا: المثالية في نشدان الكمال في الأعمال أما المثالية في نشدان الكمال في الأعمال، فهي القوة المحرضة في داخل الإنسان، التي تجعله يتطلع باستمرار إلى الانتقال من واقع النقص الذي هو فيه إلى ما هو أفضل منه وأحسن وأدنى إلى الكمال. ومع هذا التطلع تنمو حوافز الترقية والتحسين، ومن راء ذلك تأتي المحاولات التنفيذية. وفي أجواء التنافس بين الأفراد مع التحريض الإسلامي على التحسين تتنامى الصورة الحضارية العامة، التي تعذيها باستمرار قوى الدفع الإسلامي إلى القمم الحضارية المثلى. ولما كان الناس يختلفون في تصوراتهم لأعمال الخير المثالية، وربما يحصرون المثالية في مجال منها، غافلين أو متغافلين عن المجالات الأخرى، وربما يرفعون الأعمال الناقصة أو غير ذات الشأن الكبير إلى مرتبة المثالية كان من روائع الإسلام أنه قدم في تعاليمه الصورة المثالية لأعمال الخير، وعرض في حياة الرسول صلوات الله عليه نموذجًا حيًّا لهذه المثالية. ثم لم يجعل الإسلام هذه الصورة المثالية أمرًا مفروضًا على كل إنسان، وإنما جعلها هدفًا أسمى، يتنافس المتنافسون في التسابق إليه، أما الصورة

المفروضة على كل إنسان فهي الصورة التي يحملها بيسر معظم الأفراد من الناس، وتلك هي الواقعية بكل معانيها المقبولة. ومن أمثلة الخطأ في تصور المثالية ما حصل لبعض أصحاب الرسول صلوات الله عليه وبعض الصحابيات من تصورات أدت بهم إلى مبالغات في العبادة نهاهم رسول الله عنها، وأرشدهم إلى ما هو أفضل وأدنى إلى الكمال. ففي صحيحي البخاري ومسلم من عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال: "من هذه"؟ قال: هذه فلانة تذكر من صلاتها. قال: "مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا". وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر فلا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" رواه البخاري ومسلم. وعن أنس أيضًا قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: "ما هذا الحبل"؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حُلُّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد" رواه البخاري ومسلم. وبهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم صورة المثالية الصحيحة في العبادات، وأنها ليست بالمبالغة، ولا بالزيادة عن المقدار الذي شرعه الإسلام، وأعطى مثله العملي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد سمى الرسول المبالغين في العبادات والمتشددين في الدين متنطعين، وحكم عليهم بالهلاك فقال فيما رواه مسلم عن ابن مسعود: "هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون". المتنطعون: هم المشددون في غير موضع التشديد. ملاحظات عامة حول المثاليات: بعد أن عالجنا المثاليات بشرح مناسب يجمل بنا أن ننظر في بعض الملاحظات العامة حولها. الملاحظة الأولى: لدى التأمل الدقيق نلاحظ أن المثالية في الأهداف والغايات والعقائد أمر ميسور وليس بمعسور في الواقع، بالنسبة إلى مستطاع الإنسان بوجه عام، وبذلك تعدو هذه المثالية مثالية واقعية معًا. أما مثاليتها فلكونها الصورة المثلى في مجال التصور، وأما واقعيتها فلكونها ممكنة التحقيق بيسر، بالنسبة إلى استطاعة معظم الناس، أو بالنسبة إلى استطاعة كل المكلفين منهم. إذ ليس عسيرًا على الإنسان أن يقوم بعمل من أعماله الخيرة الواقعية، وأن يبتغي منها في الجانب المثالي القلبي مرضاة الله. فالواقعية في العمل من الناحية المادية تتسع لتقصيرات كثيرات عن صورة الكمال المنشود، تملي هذه التقصيرات ظروف الإنسان المادية والنفسية والاجتماعية. أما الجانب القلبي الذي يتيسر فيه تحقيق المثالية في العمل، وذلك عن طريق تحديد الغاية منه بالنية المثالية، فلا يتسع هذا الجانب في نظر الإسلام لأي تقصير عن أدنى درجات الكمال فيه، وذلك بأن يلاحظ في نيته ابتغاء مرضاة الله، وبهذه المثالية في النية يستحق الإنسان رضا الله وثوابه. كما أنه ليس عسيرًا على الإنسان أن يتطلع إلى الكمال في الأعمال، وينشده مترقيًا إليه قدر استطاعته في حين أنه واقع في تقصيرات كثيرات لدى

التطبيق العملي، وذلك بتأثير من عوامله النفسية المختلفة، أو لعجز في قدراته الحالية عن التنفيذ، وهو يأمل أن يكتسب مهارات جديدة، وقدرات جديدة تمكنه من الزيادة على ما هو فيه. وقد سبق بيان أن تحقيق المثالية في جانب العقائد أمر ميسور لكل ذي عقل وإرادة، وإن كان ذلك في حدود أدنى درجات المثالية، فليس عسيرًا على أي إنسان أن يؤمن بالله وبسائر أركان الإيمان، وبكل الأمور التي جاء بها الإسلام. الملاحظة الثانية: ولدى التأمل الدقيق نلاحظ أن المثاليات ذوات درجات، بعضها أرقى من بعض، والواجب المفروض منها أدناها، وما زاد على ذلك فهو زيادة في الارتقاء المثالي. فالمثالية في الإيمان تتم بالإقرار والإذعان في القلب، ولكن هذا الإيمان قابل لأن ينمو في القلب ويعظم كما ينمو الوليد الجديد التام الخلقة، حتى يغدو رجلًا قويًّا كامل الرجولة، ويستمر الإيمان في القلب قابلًا لأن ينمو ويعظم، حتى يملأ القلب طمأنينة، ويزيل عنه كل أثر من آثار النفس، ويطرد عنه كل وسوسة من وساوسها ووساوس الشيطان، ويصبح لو انكشفت عنه فيها كل الأغطية عن الغيوب لم يزدد يقينًا. وفي درجات هذه المثالية ارتقى إبراهيم عليه السلام حينما قال لربه: كما حكى الله ذلك عنه في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . ومعنى صرهن إليك: أملهن إليك وقطعهن واخلط لحمهن وريشهن. فلما فعل إبراهيم عليه السلام ذلك زاد قلبه اطمئنانًا بالإيمان, وذلك لأن الشهود المادي لحادثة إحياء الموتى عظم حجم الإيمان في قلبه حتى طرد عنه

كل الوساوس التي قد تمر على قلوب المؤمنين الصادقين، دون أن تخلف فيها أثرًا من شك. والمثالية في النيات تتم بابتغاء مرضاة الله، تعظيمًا له، وطمعًا بثوابه، وخوفًا من عقابه، ولكن هذا الشيء المثالي ذو درجات أيضًا بعضها أرقى من بعض. فعبادة الله تعظيمًا له لأنه إله من حقه على عبيده أن يعبدوه، أرقى من عبادته طمعًا بالأجر، أو خوفًا من العقاب، مع أن كلا منهما لا ينزل عن مرتبة المثالية في النيات. وعبادات الرسول صلوات الله عليه بعد أن علم أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأعد له في الجنة أرفع مكانة، هي من أرفع درجات المثالية، ويشهد لهذا أنه لما تعجب بعض أصحابه من اجتهاده في عبادته وقد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر أجابهم بقوله: "أفلا أكون عبدًا شكورًا". رواه البخاري ومسلم. وما يروى عن المرأة الصالحة "رابعة العدوية" من قولها: "إلهي ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك وإنما علمت أنك إله تستحق أن تعبد فعبدتك". ونظر عمر بن الخطاب إلى صهيب رضي الله عنهما فرأى إحسانه في عبادته فقال: "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه". أي: فكيف به إذا خاف الله. إنما ذلك درجة عليا من درجات مرتبة المثالية، التي يشهد فيها الإنسان عظيم صفات الله تعالى، وينسى مع هذا الشهود مطامع نفسه ومخاوفها، فلا يشهد مع ذلك إلا استحقاق الله لأن يعبد فهو يعبده لذلك، غير ناظر إلى حظوظ نفسه من هذه العبادة.

أما الذي يلاحظ هذا المعنى حينما يعبد الله، ولكنه يلاحظ مع ذلك قدرة الله، وإحسانه، وعدلة، وشديد عقابه، وتهيمن عليه خشية الله، ورجاء ثوابه ومخافة عقابه، فإنه لا يخرج عن دائرة المثالية؛ لأن كل هذه المعاني تدور في حدود صفات الله ذات المثالية المطلقة، والفرق أن بعض هذه الصفات هي من كمال الله الذاتي، وبعضها من الكمالات ذات الأثر في سعادة عباده أو شفائهم. ولا يُنزل الإنسان عن مرتبة المثالية أن يفعل الخير للخير، ولحظ نفسه منه معًا، فمن الخير أن يريد الإنسان لنفسه الخير، وهو أولى بذلك من غيره. بل الذي يهبط بالإنسان حقًّا هو أن يتبع حظوظ نفسه، متجافيًا عن سبيل الخير. ومن أجل ذلك لم يمنع الإسلام في الجهاد من أن يطمع المسلمون بمجد النصر، وبمنافع الغنيمة، أو بثواب الشهداء عند الله، مع اشتراط أن تكون الغاية من الجهاد إعلاء كلمة الله، وابتغاء مرضاته، فإذا أثر الطمع بالنصر أو الغنيمة على أصل الهدف فسدت النية، ونزلت عن مرتبتها المثالية المطلوبة. ونقول نظير ذلك أيضًا في الحج ومنافعه، والصوم وفوائده، والزكاة وآثارها، ونحو ذلك.

المقولة الثالثة: شرح الواقعيات في أسس الإسلام الحضارية

المقولة الثالثة: شرح الواقعيات في أسس الإسلام الحضارية مدخل ... المقولة الثالثة: شرح الواقعيات في أسس الإسلام الحضارية بعد أن ألقى البحث لنا ضوءًا مناسبًا على المثالية في العقائد والأهداف والغايات، آن لنا أن نعالج الواقعيات في الأعمال ومناهج الحياة للناس بالشرح المناسب أيضًا. عرفنا فيما سبق أن الواقعية من صور العمل الإرادي للإنسان هي الصور المستطاعة التنفيذ بوجه عام من دون عسر، وهي التي ينبغي أن لا يهبط الإنسان عن مستواها الواجب، ضمن ظروفه النفسية، والجسدية، والاجتماعية، والزمانية، والمكانية.

وقد انكشف لنا بالبحث أن أسس الحضارة الإسلامية التزمت التزامًا تامًّا جانب الواقعية في أعمال الناس، ومناهج حياتهم، وقد تمثل ذلك -كما سبق- بالأمور الخمسة التالية: الأمر الأول: التكليف ضمن حدود الطاقة الإنسانية. الأمر الثاني: رفع المسئولية في أحوال النسيان والخطأ والإكراه التي لا يملك الإنسان دفعها. الأمر الثالث: مراعاة مطالب الفكر والنفس والجسد الإنسانية، وعدم إهمالها، وذلك ضمن حدود طريق الخير. الأمر الرابع: مراعاة واقع حال المجتمعات الإنسانية التي يتفاوت أفرادها في استعداداتهم وخصائصهم، وذلك في البيانات الإسلامية، وفي أساليب التربية، وفي الأعمال الجماعية، وفي تحديد مناهج السلوك، وفي أصول المحاسبة والجزاء. الأمر الخامس: مراعاة واقع حال الضعف البشري، وواقع حال النفس الإنسانية المفطورة على حب المخالفة، والنزوع إلى الشذوذ والمغامرة بامتحان المسالك الوعرة، وذلك بفتح باب الغفران للإنسان، وتهيئة أفضل الوسائل ليتخلص من الإثم، وليلقي عن كاهله أثقال الأوزار. وفيما يلي شرح لهذه الأمور الخمسة:

شرح الأمر الأول: التكليف ضمن حدود الطاقة الإنسانية

شرح الأمر الأول: التكليف ضمن حدود الطاقة الإنسانية تظهر لنا الواقعية في التكليف ضمن حدود الطاقة الإنسانية جلية واضحة إذا تدبرنا طائفة من النصوص الإسلامية، التي تناولت بيان مفاهيم التكليف الرباني للناس، أو بيان أسسه والحكمة منه. كما تظهر لنا واضحة حينما نمر بشروط التكليف التي ينص عليها الفقهاء في كل باب من أبواب الفقه الإسلامي، أخذًا مما دلت عليه الأصول العامة للشريعة الإسلامية. وتظهر لنا أيضًا حينما نلاحظ أن مسئولية الفرد ومسئولية الجماعة في الإسلام ترفعان بمقدار ارتفاع نسبة الخصائص والهبات، وتنخفضان بمقدار انخفاضها، فمسئولية العاجز والضعيف دون مسئولية القوي الصحيح، ومسئولية كل منهما تتناسب بشكل مطرد منعكس مع ما لدى كل منهما من قدرة واستطاعة، ومسئولية البليد الغبي دون مسئولية ذي الهمة الذكي، فمسئولية كل منهما تتناسب بشكل مطرد منعكس مع ما لدى كل منهما من استطاعة لتفهم الأمور وحل المعضلات، ومسئولية الأعمى والأعرج دون مسئولية البصير والسليم، وهكذا. وما هذا التفاوت في المسئوليات إلا من أثر التزام أسس الحضارة الإسلامية جانب الواقعية في التكاليف بالأعمال وفي تحديد مناهج الحياة للناس. ولقد وضع الله جل وعلا بين يدي المسلمين القواعد العامة للواقعية في التكاليف بالأعمال، وفي تحديد مناهج الحياة للناس، حتى يهتدوا بهديها، ويتخذوها أساسًا لكل ما يستنبطونه من أحكام تشريعية، ومناهج عملية. قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ففي قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . بيان ليس فوقه بيان يدل على أن التكاليف في الشريعة الإسلامية لا تزيد

مهما اشتدت عن حدود استطاعة النفس المكلفة، وأنه متى فقدت الاستطاعة ارتفع التكليف لا محالة. ومن أجل ذلك فلكل نفس ما كسبت من خير، وليست تكسبه إلا ضمن حدود استطاعتها، وعلى كل نفس ما اكتسبت من إثم، وليست تكتسبه إلا ضمن حدود استطاعتها أيضًا، واستطاعتها أن لا تكتسبه. فمن سقط من مكان عال على الإنسان فقتله، ولم يستطع وهو يهوي الانحراف عنه، فهو ملجأ لا مسئولية عليه عند الله؛ لأنه لم يكتسب إثمًا بعمله الناتج عن إرادته. وتطبيقًا لهذه القاعدة الإسلامية العامة وجدنا تكاليف العبادات وغيرها مقرونة بتوافر شرط الاستطاعة. وفيما يلي طائفة من النصوص على ذلك: أ- قال الله تعالى في تكليف الناس الحج في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . فجعل الله في هذا النص إلزام الناس بالحج مقرونًا بتوافر شرط الاستطاعة، والاستطاعة بالنسبة إلى هذه الفريضة ذات عنصرين: عنصر جسدي، وعنصر مالي، ويدخل في العنصر الجسدي قدرة الإنسان على حماية نفسه من مخاوف الطريق إذا كانت فيه مخاوف. ب- وفي مجال النفقة يراعي الإسلام جانب الاستطاعة لدى تحديد مقدارها، ويوجه القضاء الشرعي لمراعاتها، لدى إصدار أحكامه المتعلقة بها، والتي تختلف باختلاف الأشخاص، والبيئات، والأعراف، والأزمنة. ومن أجل ذلك لم يبين مقادير النفقة بحسب مستويات الناس، ولكنه أطلقها، مكتفيًا بالإرشاد العام إلى أن ذا السعة ينفق من سعته، وأما المقتر فينفق على مقدار استطاعته.

قال تعالى في سورة "الطلاق: 65 مصحف/ 99 نزول": {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} . وقال تعالى في سورة "البقر: 2 مصحف/ 87 نزول": {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . ج- وفي مجال إعداد القوة لإرهاب أعداء الله وأعداء المسلمين، يأمر الله بإعداد المستطاع منها، قال تعالى في سورة "الأنفال: 8 مصحف/ 88 نزول". {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} . د- وفي مجال الإلزام بالهجرة من بلاد لا يستطيع المؤمنون فيها القيام بواجباتهم الدينية الفردية أو الجماعية، يحكم الله على الذين لا يهاجرون منها بأنهم ظالموا أنفسهم، ولا يقبل منهم الاعتذار بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض مغلوبين على أمرهم، ولكنه سبحانه يستثني منهم المستضعفين العاجزين حقيقة عن الهجرة، وهم الذين لا يستطيعون حيلة للفرار بدينهم، ولا يهتدون سبيلًا. قال تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} . فقد راعى الله عدم استطاعة العاجزين المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة يتخذونها للهجرة من بلادهم التي عتا فيها الكافرون، وأخذوا يفتنون الناس عن دينهم، ويكرهونهم على الكفر بطريق مباشر أو غير مباشر، فاستثناهم لدى الحساب من عنف المؤاخذة قائلًا: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} .

شرح الأمر الثاني: رفع التكليف في أحوال النسيان والخطأ والإكراه التي لا يملك الإنسان دفعها

شرح الأمر الثاني: رفع التكليف في أحوال النسيان والخطأ والإكراه التي لا يملك الإنسان دفعها إن في قول الله تعالى يُعلم المؤمنين كيف يدعون ربهم: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . وفي قول الرسول صلوات الله عليه: "وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". في كلا هذين النصين دلالة كافية على عدم المؤاخذة، وعلى وضع المسئولية عن كاهل المكلف في أحوال النسيان، والخطأ، والإكراه، التي لا يملك دفعها، مع رغبته بدفعها، وحرصه على ذلك. والكلام على هذه الأحوال يحتاج إلى شيء من التفصيل، فلنفصل الكلام على كل من النسيان والخطأ والإكراه، بالمقدار الذي يكشف لنا موقف الإسلام منها، في مجال التكليف والمسئولية: النسيان: لدى التبصر في أحوال النسيان نجد أنه ينقسم إلى قسمين: قسم يعذر به صاحبه، وقسم لا يعذر به بل يؤاخذ عليه. القسم الأول: وهو القسم الذي يعذر به صاحبه -وهو الذي نحن في صدد الحديث عنه- هو النسيان الناشئ عن حالة من أحوال الإنسان الطبيعية الغالبة لإرادته، والتي يملك دفعها ولا يستطيعه. ومع هذا الأمر الواقع الذي هو أثر من آثار الخصائص الإنسانية المفطور عليها، تأتي الحكمة الربانية فتنظر إلى الإنسان نظرة عدل ورحمة، فتحكم برفع المؤاخذة عنه.

ومن أمثلة هذا النسيان الذي ترتفع معه المؤاخذة أن ينسى المسلم الحريص على أداء صلاته نسيانًا حقيقيًّا، لسبب فكري أو نفسي عارض إحدى الصلوات المفروضة، ثم يمر وقتها وينقضي دون أن يذكرها. وهنا ينظر الله إلى حقيقة ما في نفسه من أحوال يعتريها النسيان فيرفع عنه المؤاخرة على تأخير الصلاة عن وقتها، ويأتي كلام الرسول صلوات الله عليه وعمله1 مبينًا ما يجب على هذا الناسي. عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك، واقم الصلاة لذكرى". رواه البخاري. ومن أمثلته أيضًا أن ينسى المسلم في شهر رمضان أنه صائم فيأكل أو يشرب ناسيًا، ومثل هذا النسيان أحد العوارض التي تعرض للإنسان وهو صائم، لذلك ينظر الله إليه برفع المؤاخذة. عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نسي -أي الصائم- فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه". رواه البخاري. ومن أمثلته أيضًا أن ينسى الإنسان ما عهد إليه بحفظه فيضيع من ذاكرته، ومثل هذا النسيان أحد العوارض التي تعرض للنفس الإنسانية باستمرار، لذلك ينظر إليه برفع المؤاخذة، ما لم يكن ناشئًا عن هجر لما حفظه وإهمال له. ومن هذا نسيان آدم عليه السلام ما عهد الله إليه بحفظه، فعرضت له

_ 1 ومن عمله صلوات الله عليه في نسيان الصلاة ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش، قال: يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها"، فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.

عوارض النسيان، قال تعالى يخاطب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم في سورة "طه: 20 مصحف/ 45 نزول": {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا، وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . ففي توجيه الله رسوله أن يتأنى بتلقي القرآن الذي ينزل عليه، ويحفظه على رؤية، عرض له شاهدًا من احتمالات النسيان التي قد تعرض للإنسان مهما بلغت به قوة الذاكرة، فهذا آدم عليه السلام الذي علمه الله الأسماء كلها، فأثبت جدارة تامة في حفظها، وأدى ما حفظه ساعة الامتحان على مشهد من الملائكة أداء حسنًا، كوفئ عليه بالاحترام والتقدير؛ إذ أمر الله الملائكة بالسجود له، هذا الإنسان الأول قوي الذاكرة، عرضت له عوارض النسيان، ولم يجد الله له عزمًا مستمرًا يمكنه من حفظه ما عهد به إليه. وبهذا نلاحظ مبلغ مراعاة أسس الإسلام جانب الواقعية في الإنسان؛ إذ أعفته من المؤاخذة على النسيان الذي لا يملك دفعه، باعتباره أثرًا من آثار طبيعته المفطور عليها، وذلك بشرط أن لا يكون ناشئًا عن سبب من إرادة الإنسان نفسه. القسم الثاني: وهو القسم الذي لا يعذر به صاحبه من قسمي النسيان، هو النسيان الذي لا تفرضه حالة الإنسان الفطرية الطبيعية، وإنما هو ظاهرة من ظواهر الانحراف النفسي المقصود، أو أثر من آثاره، أو ثمرة من ثمرات التهاون والإهمال والتقصير وعدم المبالاة. ويبدو هذا القسم في نسيان الكليات الدينية الكبرى، التي ليس من شأن أي إنسان سوي أن ينساها ويستمر على ذلك. ومن أمثلة هذا النسيان نسيان الله جل وعلا، ونسيان الدار الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء، والاستمرار على نسيان الفروض والواجبات الدينية. وذلك لأن المذكرات بهذه الحقائق العظمى ونظائرها منبثة في الوجود كله، فهي إن نسيت في ساعات فلا يمكن أن يستمر نسيانها أمدًا طويلًا، أو مدى الحياة.

ومن أجل ذلك لا يكون نسيانها أو إدعاء نسيانها عذرًا مقبولًا عند الله جل وعلا؛ لأن نسيانها ناشئ عن انحراف نفسي في الإنسان، جعله يعرض عن موجبات التذكر. فالإعراض عن الإيمان، وعن النظر في أركانه، وعن التفكر في دلائله المنبثة في الكون، وعن التدبر في آيات الله، ينسي الإنسان ما وراء الأعمال السيئة من عواقب وخيمة. والإعراض عن تدبر القرآن باستمرار، وعن حضور مجالس العلم والذكر، ونحو ذلك، ينسي الإنسان ما كان تعلمه من خير. ولما كان هذا القسم من النسيان مما لا يعذر به صاحبه وجدنا طائفة من آيات الكتاب العزيز تضع صاحبه موضع المؤاخذة. فمن ذلك النصوص التالية: أ- قوله تعالى لداود عليه السلام فيما حكاه لنا في سورة "ص: 38 مصحف/ 38 نزول". {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} . فقد جعل الله سبحانه سبب العذاب الشديد لهؤلاء نسيانهم يوم الحساب، الذي جعلهم يضلون عن سبيل الله، وآخذهم على هذا النسيان؛ إذ ليس من شأن الإنسان السوي أن ينسى ركنًا من أركان الإيمان، وصفة من صفات الله العظيمة، وهي صفة العدل، وإذا بحثنا عن سبب نسيانهم الذي أزلقهم فجعلهم يضلون وجدناه الانحراف الأول الذي تمثل باتباع الهوى. ب- وقوله تعالى في سورة "الحشر: 59 مصحف/ 101 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .

ففي هذا النص نلاحظ أن الله جل وعلا أمر الذين آمنوا بالتقوى، ونبههم على أن التقوى ثمرة من ثمرات مراقبة الله وذكره، وحذرهم من أن يكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم. وأشار إلى أن سبب نسيان هؤلاء الله إنما هو فسقهم، أي اتباعهم الهوى، وانحرافهم عن طريق الحق، بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وهذا النص شبيه الدلالة بالنص السابق، هؤلاء المنافقون والمنافقات عصبة واحدة يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم عن البذل في الخير، فما هو السبب في هذا الشر الكبير الذي وصلوا إليه؟ والجواب في قوله تعالى: {نَسُوا اللَّه} فعاقبهم الله على ذلك بأن نسيهم، أي تركهم لأنفسهم ينزلقون في المهالك، فأصل معنى النسيان في اللغة الترك، أما النسيان بمعنى عدم التذكر فالله جل جلاله منزه عنه، إنه لا يضل ولا ينسى. وإنما آخذهم الله على نسيانهم هذا؛ لأنه أثر من آثار انحرافهم النفسي، وهو فسقهم، الذي يتبعون فيه أهواءهم. د- وقوله تعالى في سورة "الكهف: 18 مصحف/ 69 نزول": {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} .

فهؤلاء الظالمون ذُكروا بآيات الله فأعرضوا عنها، ولما أعرضوا عنها انغمسوا في المعاصي، ولم يهتموا لعاقبتها، فأمست السيئات كبارها وصغارها تمر في حياتهم دون أن يلقوا لها بالًا، فإذا مرت نسوها مع ما ينسونه في حياتهم من محقرات الأمور، أو نسوا آثارها وعقوباتها عند الله، ولم يحاسبوا أنفسهم عليها، فإذا جاء وقت الحساب نشرت عليهم صحائفهم التي تبين لهم كل ما كانوا فعلوا ونسوه، ثم يحاسبون حسابًا عسيرًا. هـ- وقوله تعالى في سورة "الزمر: 39 مصحف/ 59 نزول": {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} . وإنما كان النسيان في مثل هذا المقام محلًّا للمؤاخذة؛ لأنه ليس من شأن الإنسان السوي إذا مسه الضر فالتجأ إلى الله منيبًا إليه كيما يزيل الضر عنه أن ينسى ربه بعد أن يستجيب له، ويفتح له أبواب النعمة، وأن ينسى ما كان عليه من قبل، من ضرورة التجائه إلى ربه. وقد يكون المراد بالنسيان هنا معنى الترك. ونلاحظ في الأعراف الإنسانية أن الناس لا يعذر بعضهم بعضًا في نسيان من هذا القبيل. ويدخل في قسم النسيان الذي لا يعذر به صاحبه كل نسيان ناشئ عن التهاون والإهمال والتقصير وعدم المبالاة، وذلك لأن في استطاعة الإنسان أن يدفع عن نفسه مسببات هذا النسيان بما يقدر عليه من اهتمام بالواجبات الملقاة على عاتقه، واتخاذ الوسائل للتذكر، فإذا قصر بما هو ميسور له من ذلك فأهمله، ولم يكترث له، فنتج عن إهماله نسيان ما هو مطلوب منه لذاتهن فإن نسيانه هذا لا يعفيه من المسئولية، ولا يسقط عنه المؤاخذة. ومن أمثلة هذا النسيان أن ينسى المسلم الصلوات المفروضة عدة أيام متواليات؛ إذ لو لم يكن مهملًا متهاونًا غير مكترث لعبادة ربه، لم تعرض له

عوارض النسيان هذا، كيف ينسى وما في الأحداث الكونية والنفسية من مذكرات بها كثيرة متتابعة. ومن أمثلة هذا النسيان أيضًا أن ينسى السجان أحد سجنائه في غرفة مقفلة، ثم يعود إليه بعد أن مات صبرًا، فإنه لا يعذر بمثل هذا النسيان إذا كان ناشئًا عن تهاون وتقصير، وهل كان ينسى لو أن السجين ولده، أو أحد أقربائه وأحبائه. ولما كان هذا النوع من النسيان الذي يجلبه التهاون والتقصير وعدم المبالاة ومجالسة الغافلين، من اليسير على الإنسان أن يدفعه عنه، وذلك بدفع مسبباته، واتخاذ الوسائل المذكورة، مما هو بين يدي الاستطاعة الإنسانية بشكل عام، نهى الله عنه في مناسبات متعددات نهيًا مباشرًا أو غير مباشر. فمن ذلك النصوص التالية: أ- قول الله تعالى في مجال الترغيب بالعفو عن مطالبة من طلق قبل المس بنصف المهر المفروض في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول". {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . ففي هذا النهي عن النسيان تذكير بالفضل بين المسلمين من جهة، وتوجيه للنظر إلى ما يطرد عن الفكر عوامل النسيان، وإشعار بأن ما فضل الله به الرجال على النساء يقتضي من الرجال أن يعفوا، فلا يُطالبوا بنصف المهر الذي بذلوه لمطلقاتهم قبل الدخول بهن. ب- وقوله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . وفي هذا النص توبيخ من الله لأحبار اليهود على نسيانهم أحوالهم الخاصة، وهم يأمرون الناس بالبر، وذلك لأن أمرهم الناس بالبر من أقوى الدواعي المذكرة لهم بأنفسهم، ولكن عوامل نفسية منحرفة صرفتهم عن ذلك، وجعلتهم ينظرون إلى البر من زاوية عنصريتهم الضيقة، ذات الأنانية المغرقة. وقد يراد بالنسيان في هذه الآية معنى الترك، أي: أتأمرون الناس بالبر وتتركون أنفسكم؟!!

ج- وقوله تعالى بشأن حزب الشيطان في سورة "المجادلة: 58 مصحف/ 105 نزول": {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . فهؤلاء فريق من الناس نسوا ذكر الله، بسبب أنهم اتبعوا الشيطان ودخلوا في حزبه، فاستحوذ عليهم بالشهوات، وما في الحياة الدنيا من زينة ومتع ولذات، فعوقبوا على هذا النسيان؛ لأنهم هم الذين أسلموا أنفسهم لأسبابه، وكان باستطاعتهم أن يسلكوا طريقًا آخر، تتدفق عليهم فيه المذكرات بالله من كل جانب. استحوذ عليهم الشيطان: أي: استولى عليهم وساقهم بشدة، ومنه الحوذي، وهو سائق الدواب. علاج النسيان: وقد وضع الله بين يدي المسلم علاجًا مباركًا يطرد عنه عوامل نسيان أمور الخير، ويساعده على تذكرها، وهذا العلاج مؤلف من عنصرين: العنصر الأول: مفارقة مجالس الظالمين، وهذا العنصر يوحي بالبعد عن مسببات النسيان كلها، وأهمها الانغماس في البيئة المساعدة عليه، قال الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول": {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . العنصر الثاني: ذكر الله، وتدبر صفاته وأسمائه الحسنى، وهذا العنصر يوحي بتصفية النفس من شواغلها المادية، والغضبية، والشهوية، وغيرها، حتى تتفرغ للتذكر الخير، قال الله تعالى في سورة "الكهف: 18 مصحف/ 69 نزول": {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} .

الخطأ: وتظهر لنا الواقعية الإسلامية في رفع التكليف حالة الخطأ الذي لا يملك الإنسان دفعه. الخطأ: هو مجانبة سبيل الصواب مع قصده، أو عدم إصابة الهدف المرجو، أو إصابة غير الهدف المقصود، في العمل، أو في الفكر، أو في اللسان. وهو ظاهرة طبيعية من الظواهر الإنسانية التي لا يملك الإنسان بحسب قدراته العامة دفعها، وهذه الظاهرة تتجلى في أعمال الإنسان، وفي أقواله، وفي إدراكاته الحسية، وفي أفكاره. ومن الخطأ في الأفكار خطأ المجتهد في استنباطاته، وخطأ القاضي في أحكامه، وخطأ الباحث عن الحقيقة بصدق وإنصاف فيما توصل إليه بعد البحث. ولما كانت هذه الظاهرة أمرًا طبيعيًّا في الإنسان، لا يستطيع في كل الأحوال دفعه، على الرغم من حرصه الشديد على مجانبة الخطأ، وبذله وسعه في ذلك، واتخاذه كل الاحتياطات المطلوبة منه، اقتضت الواقعية في أسس الإسلام مراعاة هذه الظاهرة، التي لا يملك الإنسان دفعها، وذلك برفع المؤاخذة عنه ضمن شروط ثلاثة: الشرط الأول: أن يكون تصديه للأمر بعد تحقق غلبة الظن بأنه كفؤ له بحسب الأعراف العامة عند الناس. الشرط الثاني: أن يتخذ الوسائل والاحتياطات المستطاعة التي تدفع عنه احتمالات الخطأ، أو تخفف منها قدر المستطاع. الشرط الثالث: ألا يكون منه تقصير أو تفريط. فإذا تحققت هذه الشروط لديه، ثم وقع منه الخطأ بعد ذلك فهو معذور عند الله، أما إذا أخل بها كلها أو بعضها فإن المسئولية تلاحقه منذ شروعه في

الأمر الذي هو فيه، أصاب فيه أم أخطأ؛ لأن ما بني على غير مأذون به فالخطأ فيه غير معفو عنه. فمن قام بعمل لا يحسنه، أو مارس ما لا قدرة له على تصريفه، أو تصدى للقيام بأمر لا يستطيع القيام به، فوقع منه خطأ يؤاخذ به متعمده، فهو أيضًا كالمعتمد يؤاخذ به؛ لأنه قام بما لم يؤذن له فيه شرعًا. ومن أمثلة ذلك أن يتصدى لتولي القضاء من ليس هو أهلًا له، فإنه مسئول في الإسلام عن كل الأخطاء التي يقع بها في أقضيته، ومؤاخذ عليها؛ لأنه قبل أن يتولى أمرًا ليس كفئًا له. ومن أمثلة ذلك أن يتصدى لتطبيب الناس من لا علم له بالطب، فإنه لا يعذر في الإسلام عن الأخطاء التي يرتكبها في معالجته الطبية، فإذا أضر بمريضه أو قتله عوقب على ذلك بنسبة الجرم الذي ارتكبه، ولو كان ذلك منه على سبيل الخطأ في التطبيب؛ لأنه غير مأذون شرعًا بممارسة تطبيب الناس، وهو جاهل بالطب، ويسمى ممارس التطبيب وهو جاهل متطببًا، أي متعديًا على صنعة الطب التي لا يحسنها. ومن أمثلة ذلك أيضًا أن يتصدى للفتيا واستنباط أحكام الشريعة الإسلامية من لا قدرة له على ذلك، ولم تتوافر لديه الشروط الواجبة للاجتهاد والفتيا واستنباط الأحكام الدينية، فإنه مسئول عن كل الأخطاء التي يرتكبها في اجتهاداته وفتاويه واستنباطاته الشرعية، ومؤاخذ عليها شرعًا؛ لأنه تطاول على ما لا قدرة له عليه، وتجرأ على الله في الدين. وفي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".

ومن التقصير الذي يوقع في الخطأ وتكون معه المؤاخذ الإسراع فيما يجب فيه التأني، والاعتماد على أضعف الأدلة وأيسر الوسائل، في أمور يجب فيها التروي والبحث على أقوى الأدلة، ويجب فيها اتخاذ المستطاع من الوسائل الممكنة. ومن التقصير الذي يوقع في الخطأ وتكون معه المؤاخذة أن يقضي القاضي وهو شديد النعاس، أو يدفع أحد الأخبثين، أو في حالة من الحالات الإنفعال المضيع للصواب، والمشتت للذهن كالغضب ونحوه. ومن التقصير الذي يوقع في الخطأ وتكون معه المؤاخذة على الخطأ. أما من اتخذ ما يجب عليه اتخاذه، ولم يقصر، ولم يفرض ولم يتهاون فإنه إذا أخطأ فخطؤه معفو عنه، بهذا تقضي الواقعية في أسس الإسلام التكليفية، قال الله تعالى في سورة "الأحزاب: 33 مصحف/ 90 نزول": {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . ففي هذه الآية بيان واضح بأن من أسس الإسلام في التكليف أنه لا جناح على الإنسان فيما صدر منه على سبيل الخطأ، دون أن يكون قد تعمد ارتكابه، وهو يعلم أنه مجانب سبيل الصواب، ولكن الجناح على من تعمد مجانبة سبيل الصواب تلبية لهوى من أهواء النفس، أو شهوة من شهواتها، وهذا التعمد عمل من أعمال القلوب، ولذلك قال جل وعلا: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} . ومن أمثلته في هذا المجال العملي القتل دون تعمد، كأن يسدد صياد ماهر على حيوان ليصيده، فتصيب رميته إنسانًا على سبيل الخطأ فتقتله، والأصل في

مثل هذا الخطأ أن ترتفع معه المسئولية ارتفاعًا تامًّا. تطبيقًا للقاعدة الإسلامية العامة، ولكن هذا الخطأ أمر تحيط به الملاحظات التاليات: الأولى: أنه أمر جسيم يتعلق بحياة الناس. الثانية: احتمال ادعاء الخطأ على سبيل الكذب فرارًا من القصاص، وإسقاطًا لحق أولياء القتيل. الثالثة: احتمال وقوع تهاون وتقصير أفضيا إلى القتل الخطأ. ونظرًا إلى هذه الملاحظات المرافقة للقتل على سبيل الخطأ رفع الله عن القاتل خطأ حكم القصاص، عملًا بأصل القاعدة، التي تتضمن رفع المسئولية وألزم القاتل بالكفارة، لتشتد حيطة الناس في مثل هذا الأمر الجسيم. وليبالغوا في البعد عن كل مظان الخطأ الذي قد يفضي إلى قتل البراءة، وألزم بالدية صيانة لحق أولياء القتيل، ومراعاة لاحتمال أن يكون ادعاء الخطأ ادعاء كاذبًا، مهما كانت القرائن مؤيدة صدق الأدعاء؛ لأن التعمد الحقيقي عمل من أعمال القلوب. فربما يوجد دون أن تدل عليه إمارة ظاهرة، قال الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} . ورفقًا بحال القائل خطأ جعل الإسلام الدية تكليفًا تعاونيًّا تلزم به العاقلة "العاقلة: أقرباء القاتل خطأ". ومن أمثلة الخطأ في مجال الفكر خطأ المجتهد في استنباط الأحكام، إذا كان أهلا للاستنباط، وخطأ القاضي في الحكم إذا كان أهلًا للقضاء، وخطأ السلطان في الرأي إذا كان أهلًا لتصريف الأمور العامة، وخطأ كل راع في إدارة شئون رعيته. وتفصيلًا للقاعدة الإسلامية التي تتضمن رفع المسئولية عن الخطأ، إذا لم يرافقه إهمال أو تقصير، أو إخلال بالشروط الواجبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص ونظيره عن أبي هريرة. أما الأجران لمن أصاب فأجر اجتهاده، وأجر إصابته التي اعتمدت على تحريه الزائد، وأما الأجر الواحد لمن أخطأ فهو أجر اجتهاده، ولا إثم عليه فيما أخطأ به لأنه لم يتعمده، وقد كان على وجه الإجمال أهلًا للاجتهاد. ونظر الرسول صلوات الله عليه إلى خطأ القاضي في حكمه إذا نتج عنه هضم حق إنسان، وإعطاء آخر ما ليس له به حق فحمل المستفيد من هذا الخطأ وزر أخذه ما ليس به حق؛ لأنه أخذه وهو يعلم أنه ظالم فيه، فعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار" رواه البخاري ومسلم. ومن أمثلة الخطأ في اللسان الذي ترتفع معه المؤاخذة ما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح". الإكراه: وتظهر لنا الواقعية الإسلامية في رفع التكليف حالة الإكراه الذي لا يملك الإنسان دفعه

الإكراه: هو الإلزام على سبيل القهر والغلبة بالقيام بعمل من الأعمال تحت تأثير قوة ملجئة، أو تهديد بانتقام أشد ضررًا أو شرًّا من الضرر أو الشر اللذين يُفضي إليهما العمل المكره عليه، أو مساويين لهما، والملزم بالقيام بالفعل كاره له، مقهور عليه مغلوب على أمره فيه. وقد اقتضت الواقعية في أسس الإسلام مراعاة مثل هذا الأمر الذي يتعرض له الإنسان في حياته، مما هو خارج عن نطاق إرادته الحرة؛ إذ تكون إرادته فيه مغلوبة مستكرهة، ولذلك نلاحظ أن الأحكام الإسلامية قررت مع هذا النوع من الإكراه رفع مسئولية الإنسان عن العمل المستكره عليه. وهذا ما يقصد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". أي: وضع عنهم جزاء هذه الأمور، واعتبرت الأفعال الناجمة عنها مغفوًا عنها، وذلك ضمن شروط الإعفاء من المسئولية في كل منها. والشرط في رفع المسئولية عن المكره ألا تتفق إرادته القلبية مع إرادة من استكرهه على العمل، أو ألا تكون إرادته القلبية موافقة على القيام بالعمل ذاته بعيدًا عن ملاحظة حالة الإكراه الضاغطة عليه. ومن أمثلة ذلك إكراه أولياء الإماء على البغاء بسلطان الولاية، قال الله تعالى في سورة "النور: 24 مصحف/ 102 نزول": {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . أي: غفور لهن رحيم بهن؛ لأنهن كن مكرهات على ما فعلن كارهات له. ومن أمثلة ذلك أيضًا أن يكره المؤمن على إعلان الكفر بتهديده وتوعده بالقتل الذي لا يستطيع دفعه، أو بالعذاب الشديد الذي لا يستطيع تحمله، وهنا،

يوازن المؤمن بين إعلانه الكفر أمام الكافرين وبين قتله أو تعذيبه، فقد يرى أن مثل هذا الإعلان أخف شرًّا وضرًا من القتل والتعذيب، فينجي نفسه من ذلك بما يرضي عدوه من قول أو فعل، وقلبه مطمئن بالإيمان. قال الله تعالى في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول": {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . ولا يشمل هذا الحكم فيما أرى من إذا أعلن الكفر ولو على سبيل الإكراه كفر من ورائه ناس مقتدون به كفرًا حقيقيًّا، وذلك لأن الشر الذي ينجم عن إعلانه هذا أشد بكثير من الضر الذي يناله باستشهاده في سبيل الله. ومن أجل ذلك لم يأذن الله لحملة رسالاته للناس بمثل هذا الإعلان مهما نالهم من ضر وأذى، فهذا الإذن خاص بالأفراد العاديين، الذين لا يتأثر غيرهم بما يظهر منهم. وقد استطاع كثير من صادقي الإيمان واليقين بالله أن يصبروا، ويتحملوا ألوان العذاب التي لم ترفع عنهم حتى لاقوا حتفهم، ولو أنهم تنازلوا فتفوهوا ببعض كلمات الكفر لنجوا، ولكنهم آثروا الصبر والشهادة على التظاهر بالكفر، وهذا هو سبيل الأبرار والمحسنين. ولقد صبر المستضعفون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرًا عظيمًا على ألوان البلاء التي كان المشركين ينزلوها بهم، دون أن يتفوه هؤلاء المستضعفون بما يريد المشركون أن يقولوه من ألفاظ الكفر، ويمر الرسول صلوات الله عليه على بعضهم فيواسيهم ويعظهم بالثبات والصبر. وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، ثم

يُؤتي بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه" رواه البخاري. وكل إكراه يمكن التخلص منه بوسيلة لا ضرر فيها، أو بوسيلة ضررها أخف من ضرر ما حصل عليه الإكراه، ويستطيع المستكره مباشرتها فإنه إكراه ترتفع معه المسئولية، ولا يكون مناطًا للاعتذار به في استحقاق العفو. وليس من الإكراه حمل الإنسان على إثم كبير وجرم خطير عن طريق تهديد بإنزال ضرر فيه دون الضرر الذي يتحقق بذلك الجزم، ومن أمثلة ذلك حمل الجندي على قتل إنسان بريء، غير مدان في القضاء الشرعي بالقتل، فإن لم يفعل ما أمر به، سرح من عمله، أو سجن، أو حُسِمَ من راتبه مبلغ من المال، فإنه في مثل هذا غير مكره؛ لأنه آثر أن يرتكب جريمة القتل، خشية أن يسرح من عمله أو يسجن أو يحسم من راتبه مبلغ من المال، ولن يجد لنفسه عند الله عذرًا بأنه كان مكرهًا على العمل، ولكنه سيلاقي جزاءه فهو من شركاء الظالمين وأعوانهم. ومن روائع أمثلة إيثار العذاب على الوقوع في معصية الله ما كان من يوسف عليه السلام، فإنه لما سمع تهديد امرأة العزيز له إذا قالت: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} . قال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} .

شرح الأمر الثالث: مراعاة مطالب الفكر والنفس والجسد الإنسانية

شرح الأمر الثالث: مراعاة مطالب الفكر والنفس والجسد الإنسانية وتظهر الواقعية في أسس الإسلام في مراعاتها مطالب الفكر والنفس والجسد الإنسانية، وعدم إهمالها، وذلك ضمن حدود طريق الخير. ولدى شرح الواقعية في هذا المجال نلاحظ أن الله تبارك وتعالى لما فطر الإنسان على مجموعة كبيرة من الميول والدوافع الفطرية، ذات المطالب المتنوعة في الحياة، لم يشأ في شريعته للناس أن يحرمها من تلبية مطالبها، وإنما ارتضى لها أن تسلك في ذلك سبيلًا سويًّا، يضمن لها تحقيق العناصر الخمسة التالية:

العنصر الأول: تلبية المطالب الإنسانية باعتدال دون إفراط ولا تفريط مضرين. العنصر الثاني: إقامة العدل على أسس الحق بين مجموعة الميول والدوافع الفطرية ومطالبها، وواجبات الإنسان في الحياة، ثم إعطاء كل منها ما يناسبه، ويصلحه بالعدل، دون أن يطغى بعضها على حقوق بعض أو على حقوق سائرها. العنصر الثالث: ربط تلبية المطالب بالأسس الإيمانية، وتصعيد غايات النفس وأهدافها، لدى فسح المجال لتلبية مطالبها، وذلك بأن لا يكون هدف الإنسان وغايته مجرد تلبية مطالب الميول والدوافع الفطرية، وإنما يهدف مع ذلك إلى أمور أسمى. العنصر الرابع: الالتزام لدى تلبية مطالب الميول والدوافع الإنسانية بالبعد عن سبل الشر والإثم والإفساد في الأرض، وبالبعد عن سبل العدوان على حقوق الآخرين، ويكون ذلك بالوقوف عند حدود الله، التي حدها لعباده في تلبية مطالبهم الإنسانية. العنصر الخامس: توجيه كل من الدوافع الفطرية ذات المظاهر المتضادة كالشجاعة والجبن، والحب والكراهية، والزهد والطمع، والكرم والبخل، لما يحقق أكبر نسبة من الخير، يمكن تحقيقها عن طريقه، وعدم اعتبار شيء منها شرًّا بذاته، أو انحرافًا في أصل التكوين، وإنما هي مقادير من المنح الربانية اقتضت لونًا من ألوان الامتحان خاصًّا بالشخص الذي أودع الله فيه هذه الدوافع الفطرية ومقاديرها، وذلك كتوجيه عاطفة الحب نحو الله والحق والخير والفضيلة والمؤمنين الصالحين، وتوجيه عاطفة الكراهية نحو الباطل والشر والرذيلة ودعاة هذه الموبقات من شياطين الإنس والجن. وشرح هذه العناصر الخمسة فيما يلي: شرح العنصر الأول: وهو تلبية المطالب الإنسانية باعتدال دون إفراط ولا تفريط مضرين.

ويتحقق هذا العنصر بالتزام ما أمر به الإسلام، واجتناب ما نهى عنه، واتباع ما أرشد إليه بوجه عام، أما ما أباحه فللإنسان أن يفعله أو يتركه ضمن حدود مصلحته التي يراها. أ- ففي تلبية دوافع الطعام والشراب مثلًا أمر الإسلام الناس بأن يتناولوا من الطيبات ما يدفع عنهم مضرات الجوع والعطش، ونهاهم عن الخبائث من المآكل والمشارب، وعن الإسراف المضر وأباح لهم أن يختاروا من الطيبات من الرزق ما يشاءون, ورغبهم بالاقتصار على مقدار الحاجة، وعدم اتخاذ الطعام والشراب غاية من غايات الحياة، ووجههم إلى فهم أنهما وسيلة مزينة للنفس، وأن الغاية منهما المحافظة على الحياة من جهة، والابتلاء من جهة أخرى. قال تعالى في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه". رواه أحمد والترمذي والبيهقي والحاكم عن المقداد بن معديكرب. وفي بيان أن الإسلام يحل للناس الطيبات ويحرم عليهم الخبائث: قال تعالى في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وقال تعالى في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا

يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} . وفي تفصيل الخبائث المحرمة من الطعام والشراب: يقول الله تعالى في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول": {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} . ويقول أيضًا فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . ب- وفي تلبية دوافع غريزة بقاء النوع كان مظهر الواقعية في الإسلام ممثلًا ببيان وجودها، وإباحتها والحث عليها، ضمن شروط تحقق الخير منها، وتبتعد بها عن مزالق الإثم والشر. فمن بيان وجودها قول الله تعالى في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} . ومن الحث عليها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود. ومن إبعادها عن مزالق الإثم والشر قول الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} . وقوله تعالى يصف المؤمنين في سورة "المؤمنون: 23 مصحف/ 74 نزول".

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} . ج- وفي تلبية دوافع حب التملك كان مظهر الواقعية في الإسلام متمثلًا بإثبات وجودها من جهة، وبإعطاء حرية التملك الشخصي من جهة ثانية، وبالبحث على العمل لاكتساب الرزق، مع تحريم وسائل التملك التي فيها عدوان وظلم، وإضرار بالناس، أو بسياسة الدولة الإسلامية، أو إخلال بأصل من الأصول العامة للشريعة الإسلامية. فمن إثبات وجودها قول الله تعالى في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} . وقول الله تعالى في سورة "الكهف: 18 مصحف/ 69 نزول": {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} . ومن النصوص الدالة على إعطاء حرية التملك الشخصي ضمن الحدود التي حدها الإسلام قول الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وعن المقدام رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده". رواه أحمد والبخاري. وفي الحديث الصحيح أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم:

"أفضل الكسب بيع مبرور، وعمل الرجل بيده". رواه أحمد والطبراني عن أبي بردة بن نيار. ومن النصوص التي تتضمن الحث على اكتساب الرزق قول الله تعالى في سورة "الجمعة: 62 مصحف/ 110 نزول": {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وفي القرآن الكريم آيات كثيرات تبين ملكية الناس لأموالهم بشكل عام، وتحدد بعض طرق التملك المشروعة، كالميراث، وتبين بالإضافة إلى ذلك الوجوه المحرمة من وجوه الكسب، وتبين الحقوق المتعلقة بأموال الأفراد لصالح المحرومين ذوي الحاجات، أو لمن تجب لهم النفقة، أو للصالح العام الذي تشرف على رعايته وإدارته حكومة المسلمين. فمن النصوص التي تبين بعض وسائل الكسب المحرمة في الإسلام، قول الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} وبهذا يعلن الله حدود الإسلام في تحريم الربا. وقول الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} . ومن وسائل الكسب المحرمة الغلول، وهو الاستيلاء على الأموال العامة بغير حق، قال الله تعالى في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} . وبهذا يعلن الله حدود الإسلام في تحريم الربا. وقوله الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} . ومن وسائل الكسب المحرمة الغلول، وهو الاستيلاء على الأموال العامة بغير حق، قال الله تعالى في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .

وهكذا تمضي النصوص الإسلامية في تحديد الاقتصاد الموجه، وبيان المحرم من وسائل الكسب التي يقترف الناس بها أموالهم. شرح العنصر الثاني: وهو إقامة العدل على أسس الحق بين مجموعة الميول والدوافع الفطرية ومطالبها، وواجبات الإنسان في الحياة، ثم إعطاء كل منها ما يناسبه ويصلحه بالعدل، دون أن يطغى بعضها على حقوق بعض، أو على حقوق سائرها. لدى التبصر في مفاهيم الإسلام وأحكامه المختلفة نلاحظ أن هذا العنصر من عناصر الواقعية الإسلامية يتمثل بنظرة الإسلام الراقية إلى الإنسان كل الإنسان، لا إلى ناحية منه دون أخرى، وإلى جميع واجبات هذا الإنسان في الحياة الدنيا، وهي الواجبات التي تكون سبب سعادته فيها، وتأخذ بيده إلى أفضل مصير يمكن أن يصير إليه في الآخرة. وقد اقتضت إقامة العدل بين مجموعة الميول والدوافع الفطرية ومطالبها، وواجبات الإنسان المختلفة في الحياة أن يقوم كل منها تقويمًا ملائمًا، ويعطي من طاقة الإنسان وفكره وعواطفه وزمنه بالعدل. ومن أجل ذلك لم يرتض الإسلام في تربية المسلم السوي أن تسود فيه بعض الدوافع والميول الفطرية حتى تمتص معظم طاقاته، وتستهلك معظم عمره، وحتى يهمل بسبب ذلك ما لديه من دوافع خيرة، ويهمل واجباته الدينية والشخصية والاجتماعية في الحياة. ولم يرتض الإسلام في تربية المسلم السوي أيضًا أن تهيمن عليه فضيلة من الفضائل الدينية العبادية أو غيرها، أو مجموعة منها، حتى تمتص معظم طاقاته, وتستهلك معظم عمره، مع إهماله بقية الواجبات، وحرمان نفسه من مطالبة الضرورية في الحياة. وإنما رغب الإسلام في تربية المسلم حتى يكون إنسانًا سويًّا أن يصنع

المسلم لنفسه جدولًا محكمًا، يورع فيه طاقاته وزمنه توزيعًا عادلًا، على مطالب وفكره وجسده، وواجباته الدينية الشخصية والاجتماعية، ويمنح كلا منها من طاقاته وزمنه ما يناسبه بالعدل. وبهذا التوزيع العادل يغدو الإنسان المسلم متعادل الشخصية، في صفاته وعواطفه، وأعماله، حكيمًا فيأمره كله. فمن سوء التوزيع لطاقات الإنسان وزمنه الذي لا يرتضيه الإسلام أن ينصرف المسلم للعبادة تاركًا عياله في آلام الحاجة إلى وسائل العيش، ظانًّا أن هذا أفضل من المشي في مناكب الأرض لاكتساب الرزق من الطرق التي أحلها الله، وإنفاقه عليهم، ومن أجل هذا أمر الله بالانتشار في الأرض، ابتغاء لفضل الله عقب أداء الصلاة من يوم الجمعة، كما أمر بالسعي إلى ذكر الله وترك البيع، إذا نودي للصلاة، قال الله تعالى في سورة "الجمعة: 62 مصحف/ 110 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . ومن سوء التوزيع إشغال الإنسان فكره ونفسه وقلبه وجسده في جمع الأموال، وإهماله حظوظه النفسية والجسدية الأخرى، وإهماله واجباته الدينية الشخصية والاجتماعية. ومن سوء التوزيع تعليق الإنسان قلبه بحب شهوة من شهوات النفس أو الجسد، والاستغراق بها، وإهماله توجيه قلبه إلى حب الله ورسوله، وما يحبه الله ورسوله من خير. ولا يعارض مبدأ الحكمة في التوزيع أن يتجه الإنسان إلى اكتساب مهارة كبيرة في علم من العلوم، أو فن من الفنون، أو صناعة من الصناعات؛ لأن ذلك من حصر الطاقات المخصصة في التوزيع العام العادل لهذه الأنواع من حاجات الإنسان، أو واجباته في الحياة، في أفضل طريقة منتجة مدنية إلى

الكمال، بل حث الإسلام المسلم على أن يجمع أمره ولا يشتت عمله، وذلك ليتقن ما هو فيه من علم أو عمل، ولكن بشرط أن لا يكون ذلك على حساب أنواع من الواجبات والضروريات الأخرى. فليس للإنسان أن يضيع الصلوات المفروضة مثلًا زاعمًا أنه مشتغل عنها بعلوم الفقيه والحديث والتفسير، أو مشتغل عنها بإتقان صناعة من صناعات كسب الرزق، أو أن يضيع حقوق أهله وأولاده عليه بحجة انشغاله بعلم أو عبادة، أو عمل من أعمال الاكتساب، حتى تأخذ هذه الأمور من طاقته وزمنه أكثر من حصتها المقدرة لها في التوزيع العام، ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لربك عليك حقًّا. وإن لنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه". شرح العنصر الثالث: وهو ربط تلبية المطالب الإنسانية بالأسس الإيمانية، وتصعيد غايات النفس وأهدافها، لدى فسح المجال لتلبية مطالبها، وذلك بأن لا يكون هدف الإنسان وغايته مجرد تلبية مطالب الميول والدوافع الفطرية، وإنما يهدف مع ذلك إلى أمور أسمى. 1- أما ربط تلبية المطالب الإنسانية بالأسس الإيمانية فيكون بملاحظة أن الله تعالى هو الذي خلق مطالب الأنفس، وهو الذي ييسر سبل تلبيتها، وهو الذي وضعها ووضع مجالات تلبيتها تحت سلطة الإنسان، ليمتحن إرادته بين منهجي الحياة: الاستقامة على الطريقة، والانحراف عنها. فالمسلم بهذا الربط بالأسس الإيمانية إذا عمل لتلبية مطالبه الإنسانية فإنها يبتغيها من فضل الله، ويدعو الله مع كل مطلب أن ييسره له، ويستعيذ بالله أن يدفع عنه الشر والسوء والأذى، التي قد تنجم عن تلبيته، ولا بد أن يرافق ذلك مراقبة الله، والطمع بثوابه، والخوف من عقابه، وهذه المراقبة من شأنها أن تصد

الإنسان من أيمن الصراط ومن أيسره عن الانزلاق وراءهما، وذلك كلما نزعت فيه نفسه نحو الإثم، وكلما طاف به طائف من الشيطان. وقد أرشدنا الإسلام إلى ربط مطالبنا الإنسانية بالأسس الإيمانية في مناسبات كثيرات، منها ما يلي: أ- ففي مجال ما امتن الله به علينا من تسخير البحر لنا، وإزجاء الفلك فيه يرشدنا كيما نبتغي مطالبنا الإنسانية من فضله، قال الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . ب- وفي مجال ما امتن الله به علينا إذ جعل لنا الليل والنهار آيتين دالتين على قدرته وحكمته، يرشدنا كيما نبتغي مطالبنا الإنسانية من فضله، قال تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} . ج- وإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة يأمرنا الله بالسعي، إلى ذكر الله وترك البيع، فإذا قضيت الصلاة يرشدنا إلى أن ننتشر في الأرض، ونبتغي من فضل الله، ونحافظ على ذكر الله باستمرار، فقال الله عز وجل في سورة "الجمعة: 62 مصحف/ 110 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . 2- وأما تصعيد الغاية لدى تلبية المطالب الإنسانية فيكون بقصد غايات أخرى تقضي إليها هذه المطالب، وهذه الغايات أسمى من مجرد تحصيل شهوة، وإشباع غريزة، أو تلبية دافع من الدوافع الإنسانية.

ومن أمثلة ذلك: أ- أن يقصد المسلم بما يتناول من طعام وشراب التقوى على طاعة الله، كالعبادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، إضافة إلى قصد دفع مضرات الجوع والعطش عن نفسه، وأنه يقوم بذلك طاعة لله، وإضافة أيضًا إلى اعتقاد أنه يستمع بما تفضل الله به عليه من نعم تستوجب منه الحمد والشكر. ب- وأن يقصد بالزواج تكوين أسرة إسلامية، وإنجاب أولاد يسعى في تربيتهم تربية إسلامية، حتى يكونوا جنودًا صالحين من جنود هذه الرسالة الربانية الخالدة، وذلك إضافة إلى قصده إعفاف نفسه عما حرم الله، بوضع شهواته فيما أباح له، وحينما يمارس منعته في ذلك يلاحظ مِنَّة الله عليه فيما تفضل به عليه من نعم تستوجب منه الحمد والشكر. ج- وأن يقصد من أعمال كسب الرزق التي يقوم بها كف نفسه عن الحاجة إلى صدقات الناس، وأداء ما يجب عليه من نفقة على عياله, وأقاربه، ورحمه، وبذل الزكاة والصدقات والمبرات لمستحقيها، وإنما القوة المالية لجماعة المسلمين، والمساهمة في القوة الدفاعية التي تصد أعداءهم، والمساهمة أيضًا في نشر الدعوة الإسلامية على أوسع نطاق، عن طريق العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، والجهاد في سبيل الله. وعلى مثل ذلك يكوت تصعيد الغايات لدى تلبية المسلم مطالبه الإنسانية المختلفة. شرح العنصر الرابع: وهو الالتزام لدى تلبية مطالب الميول والدوافع الإنسانية، بالبعد عن سبل الشر والإثم والإفساد في الأرض، وبالبعد عن سبل العدوان على حقوق الآخرين، ويكون ذلك بالوقوف عند حدود الله، التي حدها لعباده في تلبية مطالبهم الإنسانية.

لدى التبصر في المجالات التي يتم فيها تلبية مطالب الميول والدوافع الإنسانية نلاحظ أن كلا من هذه الميول والدوافع يمكن تلبيته في مجالات مختلفات، ومن هذه المجالات ما يتضمن شرًّا أو ضرًّا أو أذى أو يفضي إلى شيء من ذلك، وهذه المجالات قد وضع الإسلام لها حدودًا، ووضع على هذه الحدود إعلانًا بالمنع من اقترابها، أو اختراقها، والتجاوز إلى ما وراءها، والدخول في المجالات المحظورة المطوقة بهذه الحدود، ويمكن أن نُسمي هذه المجالات بالمناطق المحرمة في الإسلام. وجل ما في الشريعة الإسلامية من محظورات كفت عنها لدى تلبية مطالب الميول والدوافع الإنسانية، هي مما يتضمن شرًّا أو ضرًّا أو أذى، أو يفضي إلى شيء من ذلك، وحينما كفت عن هذه المناطق فتحت لها مجالات كثيرات أخرى مباحة خالية من الشر والضر والأذى. وبعض المناطق المحظورة في الإسلام مثلها كمثل شجرة آدم، الغرض من الحظر فيها امتحان إرادة الإنسان بين يدي أوامر الله ونواهيه، هل يطيع الله أو يعصيه؟ سواء عرف الحكمة منها أم لم يعرف، وذلك لأن ما في الكون كله ملك الله تعالى الذي خلقه، والإنسان في هذا الكون ضيف على مائدة الرحمن، ولصاحب الملك أن يمنع ضيوفه المكرمين عنده من أن يقربوا بعض مناطق في ملكه، أو أن يأكلوا أو يشربوا من بعض الأطعمة والأشربة التي توجد فيه، وذلك لغاية هو أعلم بها، وأكثر تقديرًا لوجوه الحكمة فيما أباحه وفيما حرمه، وأدنى ما في ذلك من حكمة امتحان عفة ضيوفه، ومدى تقيدهم بحق من كرمهم في داره ومائدته، وأذن لهم بمعظم ما فيها، إلا أنه منع عنهم أشياء طفيفة، اختبارًا لمدى شكرهم له، كما أنه لم يأذن لهم بما فيه شر أو ضر أو أذى. وباستعراض ما حرمته الشريعة الإسلامية تتجلى لنا هذه الحقيقة، بوجهها المشرق. وفيما يلي أمثلة من ذلك: أ- فحينما حرم الإسلام الخمر والميسر بين لنا وجه الحكمة من التحريم قال الله تعالى في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول":

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . وفي مقابل هذه المنطقة المحرمة أذن بتلبية مطالب النفس في مناطق كثيرة مباحة؛ إذ أباح لنا كل الطيبات من أنواع الأشربة، وأباح لنا كسب الأمول من التجارة المبرورة، والأعمال الإنتاجية، والاستثمارية، والخدمات التي لا شر فيها ولا ضر ولا أذى، وأباح لنا أنواعًا من اللهو البريء الخالي من أسباب المنع. ب- وحينما حرم الإسلام الزنا بين لنا أنه سبيل سيئ لتلبية دوافع الغريزة النفسية والجسدية، قال الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} . وفي مقابل هذه المنطقة المحرمة أذن بتلبية مطالب هذه الدوافع عن طريق الزواج المشروع، أو ملك اليمين، بل حث على ذلك. ج- وحينما منع الإسلام من معاشرة الزوجة في المحيض بين لنا أنه أذى، قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . أما تحريم معاشرة الزوجات في نهار الصوم فأمر من الأمور التعبدية البحت التي يمتحن الله فيها إرادة الإنسان بين يدي أوامر الله ونواهيه التعبدية المجردة عن ملاحظة المضار والمنافع الخاصة، ونظير ذلك تحريم الأكل والشرب في الصوم وهما من الأمور المباحة في الأحوال العادية، ونظير ذلك أيضًا تحريم الأكل والشرب والكلام العادي في الصلاة، وما أشبه ذلك من الأمور التعبدية البحت.

د- وحينما حرم الإسلام الربا بين لنا وجه المضرة فيه، وأنه لون من ألوان الظلم، قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول" بعد بيان تحريم الربا: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . وفي مقابل هذه المنطقة المحرمة أذن لنا بتلبية مطالب دوافع حب التملك ضمن مجالات كثيرات لا عدوان فيها ولا ظلم. وهكذا تضع الشريعة الإسلامية حدودها دون كل منطقة تتضمن شرًّا أو ضرًّا أو أذى، أو تقضي إلى شيء من ذلك. شرح العنصر الخامس: وهو توجيه كل من الدوافع الفطرية ذات المظاهر المتضادة كالشجاعة والجبن، والحب والكراهية، والزهد والطمع، والكرم والبخل، لما يحقق أكبر نسبة من الخير، يمكن تحقيقها عن طريقه، وعدم اعتبار شيء منها شرًّا بذاته، أو انحرافًا في أصل التكوين، وإنما هي مقادير من المنح الربانية اقتضت لونًا من ألوان الامتحان خاصًّا بالشخص الذي أودع الله فيه هذه الدوافع الفطرية ومقاديرها. وفي كل إنسان نسبة ما من كل متضادين من الطبائع الفطرية، ففيه نسبة ما من الشجاعة، ونسبة من الجبن، ونسبة ما من عاطفة الحب، ونسبة من عاطفة الكراهية، ونسبة من الكرم ونسبة من البخل، ونسبة ما من الزهد ونسبة من الطمع، وهكذا إلى سائر الطبائع المتضادة في الناس. ومن الواقعية في أسس الإسلام أنه لا يعمد إلى إلغاء هذه الدوافع الفطرية المتضادة في الإنسان، أو إلغاء شيء منها إلغاء تامًّا، وإنما يعمد إلى قيادتها وتوجيهها الوجهة التي تثمر فيها الخير، وتبعدها من مزالق الشر والضر والإفساد، ويعتمد أيضًا إلى تدريب المسلم على استعمال كل منها في الموضع الملائم له.

وذلك إذ ينقل الإنسان عن طريق تصوراته الفكرية، فيوجه ما لديه من الدوافع الفطرية المتضادة لما يحقق أكبر نسبة ممكنة من الخير، ويتجافى عن أكبر نسبة ممكنة من الشر يمكن تجافيها. وفيما يلي طائفة من الأمثلة على ذلك: أ- فيوجه مثلًا ما لدى الإنسان من طبيعة الجبن شطر ما نهى الله عنهن وشطر ما أعتد من عذاب أليم للظالمين والآثمين، ويحسن امتصاص ما لديه منه في هذا المجال، ثم يوجه ما لديه من شجاعة وجرأة للدفاع عن حرمات الله، والجهاد في سبيله، والانتصار للحق، والتزامه باعتزاز، دون اكتراث بنقد أو سخرية أو ملام. وقيامًا بهذا التوجيه لفطرتي الجبن والشجاعة أنزل الله تعالى طائفة من النصوص القرآنية التربوية التي تحكم قيادة ما لدى الإنسان المسلم من كل منهما. منها قول الله تعالى في سورة "التوبة: 9 مصحف/ 113 نزول" يخاطب المؤمنين: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . ففي هذا النص يوجه الله ما لدى المؤمنين من شجاعة ضد الذين كفروا، ويوجه ما لديهم من جبن نحو خشية الله، ويستنكر استنكارًا شديدًا أن يخشوا من الكافرين، ويبين أن الله أحق أن يخشوه، وفي قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} تنبيه على أهمية التصورات الفكرية والعقائد القلبية في توجيه الطبائع المتضادة في الإنسان. ومنها قول الله تعالى في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول": {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} .

وفي هذا النص انتقال في التوجيه من مرحلة الاستنكار إلى مرحلة الأمر والتكليف للمؤمنين بأن لا يخشوا الذين كفروا وبأن يخشوا الله. ومنها قول الله تعالى في وصف الرسل في سورة "الأحزاب: 33 مصحف/ 90 نزول": {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} . ومقام الرسل هذا مقام عظيم لا يصل إليه إلا المخلصون، وعند هذا المقام تكون المرتبة المثالية في هذا الجانب من الإيمان. أما نزعات الشيطان ووساوسه فتعمل في الإنسان على العكس من ذلك؛ إذ توجه ما لدى الإنسان من طبيعة الجبن للحرص على الحياة، والخوف من مؤذيات الجسد المادية العاجلة، وتوجه ما لديه من شجاعة وبأس للجرأة على الله، وعدم المبالاة بما أعتد من عذاب أليم للظالمين والآثمين. ففي غزوة بدر يظهر الشيطان للمشركين فيزين لهم أعمالهم، ويشجعهم على مقاتلة المسلمين، بينما يحاول عن طريق وساوسه أن يقذف في قلوب المؤمنين. الخوف من ملاقاة المشركين، قال الله تعالى في سورة "الأنفال: 8 مصحف/ 88 نزول": {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . وقد أثمرت التربية الإسلامية في توجيه ما لدى المؤمنين بحسب التكوين الفطري من خشية وجرأة لما يلائم كلا منهما، فأورثتهم شجاعة نادرة في المواقف التي تحسن فيها الشجاعة، وذلك حينما يتوقف عليها تحقيق

مرضاة الله، وتثبيت الحق، وإقامة العدل، كما أورثتهم خشية زائدة في المواقف التي تحسن فيها الخشية؛ إذ تصد المؤمن عن محارم الله، وتكفه عن معصيته، قال الله تعالى في وصف المؤمنين في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . ولنا من عمر بن الخطاب مثل رائع في ذلك؛ إذ كان شجاعًا قويًّا ذا بأس لا يخاف في الله أحدًا، وكان إلى جانب ذلك وقافًا عند حدود الله، مشبعًا بالخشية منه، والخوف من عقابه. ب- وينظر الإسلام إلى ما لدى طبيعة الإنسان من كرم وما لدى طبيعته من بخل فيحسن الانتفاع من كل منهما في الجهة الملائمة له. وذلك إذ يمتص ما لديه من بخل في الحرص على ما عند الله من نعيم مقيم، والحرص على كل عمل يربح تجارته عند الله في دار البقاء، ويوجه ما لديه من كرم للبذل في سبيل الله، والإنفاق في مواطن البر التي يستحق بها رضا الله وثوابه. وتأثرًا بهذه التربية الإسلامية الرفيعة نلاحظ أولياء الرحمن يبذلون الألوف المؤلفة فيما يرضي الله، ويبخلون بأقل القليل من كل مجال يسخطه. أما نزغات الشيطان فتعمل على العكس من ذلك؛ إذ توجه ما لدى الإنسان من كرم وسخاء لبذل أمواله في الشهوات واللذات المحرمة ومواطن التفاخر بين الناس، وتوجه ما لديه من بخل للإمساك عن الإنفاق في سبيل الله ومواطن البر، وتحذره من الوقوع بالفقر والحاجة كلما اندفع للبذل في سبيل الله وابتغاء مرضاته. وتأثرًا بهذه النزعات نلاحظ أولياء الشيطان يبذلون الألوف المؤلفة في الفواحش والموبقات، ومواطن التفاخر بين الناس، ويبخون بالدارهم وأعشارها.

في المجالات التي فيها رضوان الله وصوابه، قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . ففي مجال الإنفاق في سبل الخير يخوف الشيطان الإنسان من الفقر؛ إذ يمنعه من الإنفاق، وفي مجالات الفواحش يأمر الشيطان بها مهما استدعت من إنفاق للأموال، ومن أجل ذلك كان المبذرون إخوان الشياطين، أما الله تعالى فيفتح أبواب مغفرته للمذنبين، ويفتح أبواب فضله للمنفقين في سبيله، ويخلف لهم ويضاعف لهم أجرًا. ج- وينظر الإسلام إلى ما لدى طبيعة الإنسان من زهد وطمع فيوجه كلا منهما لما يلائمه. فيوجه ما لديه من طمع مفرط لما ادخر الله للمقربين من عباده المستقيمين في الدنيا من أجر عظيم، ونعيم لا ينفد، ويمتص المقدار الأكبر منه في التعلق بهذه الخيرات الحسان. ويوجه ما لديه من زهد لما في الدنيا من شهوات ولذات محرمات، ولما فيها من تفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، ولعب ولهو وزينة فانية. أما نزغات الشياطين فعلى العكس من ذلك إذ تُزهد الإنسان بما عند الله من نعيم مقيم، وتوجه طمعه لما في الدنيا من زوائد عن الحاجات، ومحرمات تسخط الله، وتستوجب عقابه. ومنذ أول وجود هذه السلالة الإنسانية أطمع إبليس آدم وزوجه بأن يأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، فلما أكلا منها تأثرًا بوساوس إبليس أخرجهما الله من الجنة، وفي هذا الحدث التاريخي عظة كافية لبني آدم أن لا يتبعوا خطوات الشيطان، ولا يستجيبوا لوساوسه، قال الله تعالى في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول":

{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} . د- وينظر الإسلام إلى ما لدى الإنسان من رغبة بالمقاتلة، ونزوع إلى الشدة والعنف، فيوجهه ضد أعداء الحق والخير والفضيلة، وينظر إلى ما لديه من رحمة ورأفة وعطف، فيوجهه لصالح المؤمنين أنصار الحق والخير والفضيلة. ففي المواقف التي تلائمها الشدة يطالب الله المؤمنين بأن يكونوا أشداء، ويوجه ما لديهم من رغبة بالمقاتلة لما فيه خير للإنسانية بوجه عام، ففي مقام الحث على القتال في سبيل الله إقامة للحق والعدل، وكفاحًا للباطل والظلم، قال الله تعالى في سورة "محمد: 47 مصحف/ 95 نزول" {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} . وفي مقام الإلزام بإقامة الحدود الربانية قال الله تعالى في سورة "النور: 24 مصحف/ 102 نزول": {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . أما في المواقف التي تلائمها الرأفة والرحمة وخفض الجناح فيطالب الله المؤمنين بأن يتذوقوا الشعور بالعطف والرحمة والرأفة وخفض الجناح للآخرين، ومن أمثلة ذلك ما يلي: قال الله تعالى لنبية صلى الله عليه وسلم في سورة "الشعراء: 26 مصحف/ 47 نزول": {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . وقال الله له أيضًا في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ

فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} . وأوصى الله جل وعلا بخفض جناح الذل من الرحمة للوالدين بقوله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} . وقال الله تعالى في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . ووصف الله المؤمنين في سورة "الفتح: 48 مصحف/ 111 نزول" بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} . أما نزغات الشيطان فعلى العكس من ذلك؛ إذ تعمل على توجيه ما لدى الإنسان من رحمة ورأفة للعطف على المجرمين والمنحرفين الشاذين عطفًا شاذًّا، وذلك بأن ترفع عنهم عقوبات جرائهم، وفي الوقت نفسه تعمل على توجيه ما لديه من رغبة بالمقاتلة وشدة وعنف لمقاتلة المؤمنين، وقهر دعاة الحق والخير والفضيلة، ومؤازرة المجرمين. هـ- وينظر الإسلام إلى ما لدى طبيعة الإنسان من نزوع فطري إلى شيء يحبه وشيء يكرهه، فيوجه ما لديه من نزوع إلى المحبة نحو حب الله ورسوله، وحب الحق والخير والفضيلة، وحب الخير للناس جميعًا، وفي العواطف الخاصة يوجهه لحب من أحل الله له معاشرته، ويوجه ما لديه من نزوع إلى الكراهية نحو كراهية الشر والإثم والرذيلة، وشياطين الإنس والجن، ودعاة الشر وأنصار الباطل، وناشري الرذيلة، والأدلة على ذلك كثيرة:

منها قول الله تعالى في سورة "التوبة: 9 مصحف/ 113 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . ومنها قول الله تعالى موجهًا المؤمنين لكراهية من حاد الله ورسوله في سورة "المجادلة: 58 مصحف/ 105 نزول": {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . أما نزغات الشيطان فعلى العكس من ذلك؛ إذ تكره الإنسان بالخير ومصادره وأسبابه، وتحببه بالشر ومصادره وأسبابه، وتمتص ما لديه من عاطفه محبة في الموبقات المزينة للأنفس.

شرح الأمر الرابع: مراعاة حال واقع المجتمعات الإنسانية

شرح الأمر الرابع: مراعاة حال واقع المجتمعات الإنسانية وتظهر لنا الواقعية في هذا المجال في مراعاة واقع حال المجتمعات الإنسانية التي يتفاوت أفرادها في استعداداتهم وخصائصهم، وذلك في البيانات الإسلامية، وفي أساليب التربية، وفي الأعمال الجماعية، وفي تحديد مناهج السلوك، وفي أصول المحاسبة والجزاء. الشرح: لما كان الإسلام هداية للناس جميعًا على اختلاف خصائصهم وقدراتهم الفكرية والنفسية والطبيعية والجسدية، ولم يكن لفئة منهم دون فئة، اقتضت الواقعية في أسسه أن يراعي كل صنف من أصناف الناس بإعطائه ما يناسبه من

بياناته التعليمية، وأساليبه التربوية، وأن يراعي النسبة العامة من الناس في نظمه التي يحدد بها مناهج سلوكهم الواجب، ويراعي فروق الاستعدادات والقدرات والخصائص الفردية لدى محاسبة كل منهم، ومجازاته على ما كسب من صالحات وما اكتسب من سيئات. واقتضت الواقعية في هذا المجال أن يوجه الإسلام المربين والدعاة وأولي الأمر من المسلمين وكل راع في رعيته منهم لاتباع ما تقتضيه الواقعية في مجالات التربية والرعاية المختلفة. شرح الواقعية في مجال التعليم والتربية: في مجال التعليم والتربية نلاحظ تفاوتًا في أصناف الناس يستدعي تفاوتًا في المستويات العلمية التي تقدم لكل صنف منهم، ويستدعي تفاوتًا آخر في وسائل التربية التي تستخدم في تربية كل صنف منهم أيضًا، وذلك لتشمل الهدايتان التعليمية والتربوية جميع أصناف الناس وفئاتهم. وهذا ما راعاه الإسلام بحكمة بالغة، ولفت إليه أنظار الدعاة والمعلمين والمربين، ضمن أسس الواقعية التي التزم بها. الواقعية في التعليم: ولما كان في الناس عباقرة وأذكياء، ومتوسطون في الذكاء وأغبياء، وكانت الواقعية تقتضي أن يخاطب كل صنف من هؤلاء بالأسلوب والطريقة والمستويات العلمية الملائمة له، وأن لا يفترض فيهم جميعًا أنهم عباقرة أو متوسطون في الذكاء أو أغبياء، وجدنا معظم النصوص الإسلامية التعليمية تمتاز بأنها مصوغة بطريقة تصلح لكل المستويات الفكرية من الناس، ولكن كل ذي مستوى يتوسع في إدراك الحقائق التي تضمنتها على مقدار ارتفاع مستوى قدراته الفكرية، واتساع خبراته وتجاربه. كما وجدنا طائفة من النصوص الإسلامية تخاطب بأسلوبها ومضمونها العلمي فئة العباقرة والأذكياء من الناس؛ إذ تعتمد على المناقشات والبراهين

المنطقية البحت، مع إيجاز بديع، ونعتمد على الاكتفاء بعرض المجردات الفكرية، دون استخدام وسائل حسية، ودون مرور في طرق المشاعر الوجدانية. ووجدنا طائفة أخرى من النصوص تخاطب بأسلوبها ومضمونها العلمي فئة متوسطي الذكاء؛ إذ تمزج المناقشات والأدلة العقلية باللمسات الوجدانية، والخطابيات المثيرة للمشاعر الإنسانية، كمشاعر الطمع والخوف، مع استخدام الوسائل الحسية لذلك. ووجدنا طائفة ثالثة منها تخاطب بأسلوبها ومضونها العلمي الفئة الدنيا من الناس، وذلك إذ تبتعد قدر الإمكان عن عرض المجردات الفكرية، وإذ تجعل معظم اعتمادها على ما يثير المخاوف والمطامع من جهة، وعلى ما يلفت النظر إلى الوسائل الحسية والتجريبية من جهة أخرى. والخطة العامة لكل ذلك يشير إليها قول الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا، وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . فالفئة الممتازة من الناس الذين تكفيهم الهداية للتي هي أقوم في الحقائق العلمية، والحكام الشرعية، يجدون هذه الهداية في القرآن، والفئة الأخرى من الناس المحكومة لسلطان المطامع يجدون البشريات بالأجر العظيم في القرآن تجذبهم إلى سبيل الرشاد، والفئة الثالثة من الناس المحكومة لسلطان المخاوف يجدون في القرآن المنذرات بالعذاب الأليم تردهم عن سبل الضلالة. ومن الجدير بالملاحظة أن القرآن لفت أنظار الدهماء من الناس إلى معرفة الحقائق الدينية عن طريق دلائلها الكونية القريبة، التي لا تحتاج أكثر من تذكير بها، وراعى حالتهم الفكرية، غير العاملة في تصيد الدلائل وعقلها، وإدراك الحقائق بها، فهم بحاجة إلى من يذكرهم وينبههم عن طريق أسماعهم، ويكشف لهم اقتران الحقائق الدينية بأدلتها الكونية التي يشاهدونها، في أنفسهم وفيما حولهم من الأدلة القريبة التي لا تتطلب جهدًا فكريًّا فوق استطاعتهم المعتادة.

أما الفئة المتعلقة من الناس، وهم الذين تعمل أفكارهم عادة في تصيد الدلائل التي يشاهدونها، وفي عقلها وربطها بما تدل عليه من حقائق، فقد لفت القرآن أنظارهم إلى إدراك الحقائق التي تحتاج إلى شيء من التعقل والتأمل، ووضع أمامهم مجالات فكرية أرقى مستوى من المجالات التي وضعها أمام الدهماء. ثم ارتقى القرآن إلى مستوى ثالث من مستويات الناس، ألا وهو مستوى العلماء الباحثين عن دقائق الأمور، القادرين على الغوص إلى أعماق من المعرفة، لا يغوص إليها غيرهم في الأحوال العادية، فوضع أمام هؤلاء مجالات فكرية واسعة، تحتاج إلى بحث عميق، وتتبع دقيق، ليصلوا عن طريق البحث والتتبع إلى إدراك الحقائق الدينية إدراكًا يتناسب مع ما وهبهم الله من قدرات بحث، وتفكر دائم، واستنباط. ونستطيع أن نستدل لذلك بأدلة قرآنية كثيرة: ففي لفت نظر الدهماء من الناس بشكل عام إلى آيات الله في الكون عرض القرآن أدلة واضحة، لا تحتاج إلى تفكير كثير، وبين أن فيها دلائل لقوم يسمعون، إشارة إلى أن لفت نظرهم إليها بالقول كاف لأن يجعلهم يفهمونها، فليست هي من القضايا الصعبة حتى تحتاج إلى جهد عقلي، وليست من العويصات حتى تحتاج إلى تفكر وبحث متتابعين، مما لا يصبر عليه إلا العلماء الباحثون، وإنما هي من البدهيات، أو دلائل قريبة منها. فمن ذلك قول الله تعالى في سورة "الروم: 30 مصحف/ 84 نزول": {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} . وقول الله تعالى في سورة "يونس: 10 مصحف/ 51 نزول": {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} .

فنوم الناس بالليل والنهار، وحاجتهم إليه، وعمل الناس لاكتساب الرزق، يبتغونه من فضل الله، وحاجتهم إليه من الأمور البدهية التي يشترك في إدراكها الناس جميعًا، مهما تنازلت مستوياتهم الفكرية، فلا يحتاج التبصر فيها إلى أكثر من لفت النظر بالقول، وذلك كاف في أن يشعروا بعجزهم، ويشعروا بقدرة الله وحكمته، الذي خلق فيهم الحاجة، ويسر لهم وسائل قضائها. وكون الليل نعمة من الله ليسكن الناس فيه، وكون النهار مضيئًا ليعمل الناس فيه، ويعملوا في كسب أرزاقهم أمران واضحان بدهيان، لا يحتاج إدراكهما إلا إلى لفت النظر إليهما بالقول. فالذين يسمعون ممن توافرت فيهم شروط التكليف سيدركون ذلك، دون إجهاد عقلي، ولذلك ذيل الله الآيتين السابقتين بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} . وفي لفت أنظار الفئة الوسطى من الناس، وهي فئة المتعقلين، الذين يهتمون عادة بتصيد الأدلة وعقلها، وربطها بما تدل عليه، عرض القرآن أدلة تحتاج إلى قدر مناسب من عقل الأمور، وفهم ارتباطاتها. ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى في سورة "الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول": {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . فمستوى إدراك القطع المتجاورات من الأرض، والجنات، وما فيها من أشجار مختلفة الصفات، ومختلفة الثمرات إذ بعضها أفضل من بعض في الأكل، مع أنها تستقي بماء واحد، أمر يحتاج إلى تأمل وراء البديهة، وإلى تعقل مناسب، ولا يكفي فيه مجرد لفت النظر إليه بالقول، بل لا بد فيه من التأمل والتعقل، بضبط شرود النفس مع الأهواء، ولذلك ذيل الله الآية بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون} .

وفي لفت أنظار الفئة العليا من الناس، وهي فئة المتفكرين، الباحثين العلميين، للحقائق، واستنباطها من الأعماق، عن طريق أدلتها الدقيقة، عرض القرآن أدلة يحتاج استقصاؤها واستيعاب دقائقها إلى بحث وتتبع، وجهد فكري كثير، ونسب عالية من القدرات الفكرية. ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى في سورة "الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول": {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . فمستوى البحث في الأرض، وكيفية تكوينها، وفي الجبال وسر وجودها، وفي الأنهار ومسالك ينابيعها ومصادرها ومواردها، وفي الثمرات وكون كل منها مؤلفًا من زوجين اثنين مذكر ومؤنث، وفي النظام الدقيق الذي يغشي الله فيه الليل النهار، مستوى دقيق لا يحسنه ولا يستطيعه إلا الباحثون العلميون الذين يتابعون البحث والتفكر والاستنباط، ولذلك ذيل الله الآية بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . ومن أمثلة مراعاة الإسلام مستويات الناس الفكرية في بياناته التعليمية، نص قرآني في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول"، جمع الله فيه طائفة من الأدلة الكونية، ذات مستويات ثلاثة، تناسب مستويات فئات الناس الثلاث، وهي فئة الدهماء بشكل عام، ثم فئة المتعلقين، ثم فئة المتفكرين الباحثين العلميين، المتتبعين دقائق المعرفة. وختمت المجموعة الأولى منها بقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} وهم الذين يناسبهم أن توضع أمامهم أدلة قريبة، لا يحتاج إدراكها وفهمها إلى جهد فكري، بل يكفي لإدراكها التذكير القولي بها لبداهتها، أو لكونها قريبة من الأمور البدهية. وختمت المجموعة الثانية منها بقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُون} . وهم الذين تعمل أفكارهم عادة في تصيد الأدلة وعقلها، وربطها بما تدل عليه من حقائق، وهؤلاء يناسبهم أن تلفت أنظارهم إلى أدلة ذات مستوى

متوسط، مما يتنبه إليه عادة المتعلقون، الذين يلذ لهم فهم ارتباط الأمور بعضها ببعض، ويحلو لهم ربط الأدلة بما تدل عليه من حقائق. وحتمت المجموعة الثالثة منها بقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وهم الباحثون العلميون، الذين يتفكرون باستمرار في ظواهر الأشياء، ويغوضون إلى بواطنها، ويستنبطون من أعماق المباحث الفكرية حقائق المعرفة. أما النص القرآني من سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول" الذي جمع هذه المستويات الثلاثة، مع التدرج فيها من الأدنى إلى الأعلى فهو قول الله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . ففي المستوى الأول يلفت النص أنظار قوم يسمعون إلى الأدلة الكونية التي يحتوي عليها، إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، ويلاحظ أن إدراك هذه الظاهرة الكونية من الأمور التي لا يحتاج البحث فيها إلى جهد عقلي، بل يكفي فيها التذكير بالقول، حتى يدرك السامعون ما تحتوي عليه من أدلة كونية تدل على قدرة الخالق العظيم وحكمته. وفي المستوى الأوسط يلفت النص أنظار قوم يعقلون إلى الأدلة الكونية التي يحتوي عليها ما يخلقه الله في بطون النعام من اللبن الخالص السائغ للشاربين، يخرج من بين صنفين مختلفين اختلافًا شديدًا هما الفرث والدم المستقذران اللذان يحرم أكلهما، وإلى الأدلة التي يحتوي عليها خروج صنفين مختلفين اختلافًا شديدًا هما السكر الذي يحرم شربه، والرزق الحسن الطيب، وكل منهما يخرج من مصدر واحد، هو ثمرات كل من النخيل والأعناب،

ويلاحظ أن إدراك هذه الظواهر الكونية من الأمور التي تحتاج إلى تعقل وتبصر، لما فيها من حاجة إلى فهم الأصناف المختلفة المتباينة في خصائصها، وكيفية استخلاص صنف آخر منها، كاستخلاص اللبن السائغ من بين فرث ودم، أو استخلاصها من صنف آخر، كاستخلاص السكر والرزق الحسن من ثمرات كل من النخيل والأعناب. وفي المستوى الأعلى يلفت النص أنظار قوم يتفكرون إلى الأدلة الكونية التي لا يدركها إدراكًا تامًّا إلا الباحثون العلميون؛ إذ يلفت أنظارهم إلى دراسة مملكة النحل، دراسة مستفيضة، تتناول بحث سر الغريزة التي خلقها الله في النخل، وسر الإلهام الرباني الذي ألقاه الله إليها، فطفقت تتخذ بيوتها ذات الهندسة الرائعة، في الجبال والشجر وما يعرش الناس. وتتناول أيضًا بحث رحلاتها اليومية، لتأكل من كل الثمرات، وتمتص رحيق الأزهار المختلفة، وتسلك السبل التي ذللها الله لها. ثم بحث صناعة العسل في بطونها، وبحث أصنافه وألوانه، وبحث خصائصه التي فيها شفاء للناس. وبدهي أن إدراك هذه الآيات الكونية في مملكة النحل مما يحتاج إلى بحث عملي دقيق، وتفكر دائب. واختبارات وتجارب متتابعة، وهذه إنما يقوم بها الباحثون العلميون المتفكرون. رد الأمور إلى أهل الكفايات: ولما كان في الناس متفكرون باحثون عن الحقائق في المجالات العلمية البحت، ومتفكرون قادرون على تدبير الأمور، وتخطيط الخطط الحكيمة الرشيدة، في الأمور الإدارية، أو الأمور العسكرية، أو الشئون السياسية، في الأمن أو الخوف، في السلم أو الحرب، كان من مقتضيات الواقعية إرشاد الجماهير العامة إلى رد أمورهم ذات الوجوه المختلفة التي تحتاج تأملًا دقيقًا وبصرًا نافذًا إلى جماعة أولي الأمر منهم، القادرين على حل المشكلات، والتبصر السديد في المعضلات، والتوجيه إلى أرشد الآراء وأسدها، وذلك ليهتدي بعض هؤلاء إلى وجه الصواب عن طريق البحث والتفكر والاستنباط، قال الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":

{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا} . فهذا النص يرشد إلى رد الأمور إلى جماعة أولي الأمر من المسلمين وهم: العلماء المجتهدون القادرون على استنباط الأحكام الشرعية، في شئون الفقه الإسلامي. والإداريون القادرون على استنباط أفضل الأعمال والنظم في الشئون الإدارية. والمهرة في السياسة الشريعة القادرون على استنباط أسد الخطط وأحكامها في الشئون السياسية السليمة والحربية. والقادة العسكريون المخططون القادرون على استنباط أنجح الخطط في شئون القتال والحرب. وهكذا في كل مجال يبرز فيه متخصصون ذوو مهارات أو قدرات فطرية أو مكتسبة، فإن الإسلام يوصي بأن يرد السواد الأعظم من الناس كل أمر إلى ذوي الاختصاص فيه. حتى الأمور التي يعتمد العلم بها على الحفظ والذاكرة فإن الإسلام يوصي بالرجوع فيها إلى أهل الذكر، وهم حفاظ النصوص، ورواه التاريخ، العالمون بهذا الأمور. ومن أمثلة ذلك: لما اعترض المشركون على إنسانية محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يتوهمون أن الرسالة الربانية من شأنها أن تنزل على ملك لا يأكل الطعام، ولا يمشي في الأسواق، ولا يتزوج النساء، واستبعدوا أن يصطفي الله بها رجلًا من الناس، أنزل الله تعالى قوله في سورة "الأنبياء: 241 مصحف/ 73 نزول": {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . وقوله في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول":

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} . أي فاسألوا أهل العلم الحافظين لتواريخ الأنبياء والرسل السابقين، إن كنتم لا تعلمون بالبينات من الأدلة، ولا تعلمون بما في كتب الأولين، من مستحفظات تاريخية صحيحة، وهذا يتضمن تذكيرهم بأنهم يعترفون لبعض من سبق بأنهم كانوا رسلًا يُوحى إليهم، مع أنهم رجال من الناس، فإن كان لديهم مسكة من عقل فما هذه التفرقة. وهكذا يوصي الإسلام بالرجوع إلى أولي الأمر، وبسؤال أهل الذكر، ويقاس على ذلك إحالة كل أمر إلى ذوي الاختصاص فيه، العالمين به، بغية الوصول إلى أرشد ما في الفكر، وأسد ما في العمل. الواقعية في التربية: للتربية الإسلامية التي تهدف إلى صلاح الناس جميعًا، وتهذيب أخلاقهم، وتقويم سلوكهم، وسائل تربوية تناسب في النظرة إلى الأفراد الجوانب الإنسانية المختلفة، وهي الجوانب الفكرية، والجوانب النفسية، وتناسب في النظرة إلى الجماعات أحوال الناس المختلفة، وطبائعهم المتفاوتة. وتتلخص خطة الوسائل التربوية في الإسلام بثلاثة عناصر كبرى، تنضوي تحتها فروع كثيرة: العنصر الأول: الهداية للتي هي أقوم. العنصر الثاني: الترغيب. العنصر الثالث: الترهيب. وفيما يلي شرح لهذه العناصر الثلاثة: شرح العنصر الأول: "وهو الهداية للتي هي أقوم" إن عنصر الهداية للتي هي أقوم عنصر يتضمن استخدام كل الوسائل المتصلة اتصالًا مباشرًا بالإرشاد إلى الكمالات المختلفات التي هدى إليها الإسلام، ومن هذه الوسائل ما يلي.

1- التدريب العملي. 2- القدوة الحسنة. وقد سبق بيان هاتين الوسيليتن عند الكلام على الكمال السلوكي. 3- الإقناع الفكري من شتى طرقه الحكيمة، التي تستخدم فيها الحجج والبراهين العقلية والحسية والوجدانية، وتستخدم فيها المؤثرات على الأنفس، كالخطابة، والشعر، والحكم المأثورة، والأمثال، والتشبيه والتمثيل، والقصص التاريخية، وعرض النماذج الحسية من الواقع الكوني، ونحو ذلك. وفي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الشيء الكثير من استخدام هذه الطرق الحكيمة للوصول إلى الإقناع الفكري. ولا بد من ملاحظة أن بعض طرق الإقناع الفكري قد يجدي مع فريق من الناس، في حين أنه قد لا يجدي مع فريق آخر، والمربي الحكيم هو الذي يحسن معرفة خصائص الفرد الفكرية والنفسية، فيستخدم معه طرق الإقناع الملائمة له. ولما كان القرآن هداية خالدة للناس جميعًا، كان محتويًا على كل الطرق التي من شأنها أن توصل الناس إلى قناعة فكرية، بكمال ما يدعو إليه من خير، يضاف إلى هذا أنه كان إبان نزوله منجمًا على رسول الله صلوات الله عليه قد كان ينزل موافقًا للحكمة التربوية التي تقتضيها مناسبة النزول لطائفة الآيات المنزلة، سواء كانت التربية للرسول، أم للمؤمنين، أم للمنافقين، أم للمشركين، أم لأهل الكتاب، أم للناس بشكل عام. وقد بين الله جل وعلا أنه اتخذ كل وسائل التربية ذات الأثر الحسن، وأنزل في كتابه مثلًا من كل وسيلة منها، قال الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} . وقال فيها أيضًا:

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} . وقال سبحانه وتعالى في سورة "الكهف: 18 مصحف/ 69 نزول": {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} . وهذا التصريف هو التنويع في وسائل الإقناع وأساليبه، وفي سائر وسائل الهداية، والتحويل فيها من وجه إلى وجه آخر بحسب مقتضيات أحوال المخاطبين، الفكرية والنسية، الفردية أو الاجتماعية. فمن عرض لعناصر الهداية بشكل خال من العنف والجدال، إلى أسلوب آخر مقرون بالحجج، إلى أسلوب ثالث فيه شيء من الجدال بالتي هي أحسن، ثم إلى أسلوب رابع فيه شيء من العنف الجدلي، وهكذا ترتقي الأساليب، ومع كل أسلوب منها صور بيانية مناسبة له، ذات أثر صالح في النفوس البشرية، وهكذا يستجمع القرآن المجيد كل أساليب الإقناع الفكري، فيما صرف الله فيه من آيات بينات. أمثلة قرآنية: وفيما يلي طائفة من أمثلة أساليب الإقناع الفكري التي استخدمها القرآن الكريم: أ- فمن أمثلة الإقناع عن طريق عرض الحقائق المقرونة بحججها قول الله تعالى لرسوله محمد صلوات الله عليه في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . فظاهر في هذا النص أن الله جل وعلا يأمر رسوله بأن يعرض نفسه على الناس داعيًا إلى الإيمان والتوحيد، وفي الأسلوب المتبع في هذا العرض منتهى.

الهدوء والأناة، ونلاحظ أن الدعوة إلى توحيد الآلهية مقرونة بالدليل عليها، ألا وهو انفراد الله بالربوبية، فهو الذي له ملك السماوات والأرض، وهو الذي يحيي ويميت. ومما لا ريب فيه أن أسلوب الدعوة في مراحلها الأولى ينبغي أن يكون مملوءًا بالهدوء والأناة، خاليًا من كل عنف وجدال، وهذا ما أرشد الله رسوله إليه. ب- ومن أمثلة الإقناع بالأدلة ما فعله الله تعالى بالعزير الرجل الصالح من بني إسرائيل، إذا مر على قرية أموات، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه وبعث حماره وهو يشاهد بعثه، فبين له بالدليل الحسي كيف يحيي الله الموتى، كما رأى بنو إسرائيل من أهل قريته هذا الحديث التاريخي العجيب، قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . ج- ومن أمثلة الإقناع عن طريق تقريب الحقائق بالأشباه والنظائر والمساويات طائفة من الأدلة، عرضها القرآن لتقريب فكرة البعث لعقول المنكرين. رُوي أن جماعة من كفار قريش، منهم أبي بن خلف الجمحي، وأبو جهل، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، تكلموا في شأن الإسلام، فقال لهم أبي بن خلف: ألا ترون إلى ما يقول محمد إن الله يبعث الأموات ثم قال: واللات والعزى لأصيرن إليه ولأخصمنه، وأخذ عظمًا باليًا فجعل يفته بيده، ويقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم، قال: "نعم، ويبعثك

ويدخلك جهنم"، فأنزل الله تعالى في إقامة الحجة على هؤلاء قوله في سورة "يس: 36 مصحف/ 41 نزول": {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} . فقد بين الله جل وعلا في هذا الرد القوي التسوية بين الإنشاء الأول وبين الإحياء مرة ثانية، وأنه لا تفاوت بينهما مطلقًا، وأكد ذلك بقوله تعالى في سورة "مريم: 19 مصحف/ 44 نزول": {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} . وقرب الله هذه الحقيقة أيضًا عن طريق إيراد أشباه محسة لها، فقال تعالى في سورة "الحج: 22 مصحف/ 103 نزول": {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وذلك لأن جفاف الزرع وانقطاع تغذيته من الأرض وحصاده يشبه حالة الموت في الأحياء، ثم إن السنة الكونية الدائمة المشاهدة في انشقاق الحبوب، في بطن الأرض ونباتها، بعدما سبق من حالتها التي تشبه حالة الموت، وعودتها إلى الحياة والنضرة كَرَّة أخرى، وذلك عند وجود البيئة الملائمة، من ماء ممتزج بالتراب الصالح، لتعطي تقريبًا حسيًّا مشاهدًا باستمرار، في الظواهر الكونية، لقصة بعث الأحياء بعد موتها، وتفرق أجزاء أجسامها في تراب الأرض. د- ومن أمثلة الإقناع بالأدلة والبراهين العقلية الآيات القرآنية التي قدمت البراهين على وحدانية الله تعالى. منها قول الله تعالى في سورة "الأنبياء: 21 مصحف/ 73 نزول": {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} .

ومنها قول الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} . ومنها قول الله تعالى في سورة "المؤمنون: 23 مصحف/ 74 نزول": {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} . فمضمون البرهان العقلي في قوله تعالى قل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، أنه لو تعددت الآلهة الأرباب في الكون لفسد نظام السماوات والأرض، ولأختل تماسكهما القائم على وحدة نظام، ووحدة تسيير، وهذا من الأمور المسلم بها؛ لأن الإرادات الحرة إذا توجهت شطر مخلوق فلا بد أن تتعارض، ومتى تعارضت تنازعت، ومتى تنازعت فسد نظام المخلوق، والكون كله مخلوق مترابط بوحدة نظام وتسيير كما هو مشاهد، فلو كان فيه آلهة أرباب غير الله لفسد نظامه واختل وجوده وبقاؤه، وقد تضمنت هذه الآية في استدلالها برهانًا قاطعًا على نفي فكرة تعدد الآلهة الأرباب، وهذا البرهان هو ما يسمى ببرهان التمانع، كما يعرف ذلك المنطقيون. ومضمون الدليل في قوله تعالى في آية "الإسراء": {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} أنه لو كان مع الله آلهة أرباب تحكم في الكون وتتصرف، وتحيي وتميت، وترزق وتشفي، ومن أجل ذلك تستحق أن تعبد كما يقول المشركون، للزم أن تتخذ هذه الآلهة الأرباب سبيلًا إلى منافسة ومنازعة ومقاتلة رب العرش، الذي يعترفون به ربًّا خالقًا له، ولا ينكرون وجوده وقدرته، ولكنهم يشركون معه آلهة أخرى، وإنما يلزم أن تتخذ سبيلًا إلى هذه الأمور لأن الإلهية المتضمنة كمال التصرف وكمال القدرة لا تقبل الخضوع والاستسلام لرب هو إله معبود فوقها. أما وإنها لم تتخذ هذا السبيل لرب العرش، ورضيت بضعفها وإلهيتها

المزعومة في نطاق الأرض، فإن ضعفها هذا من الأدلة القاطعة على أنها مخلوقة كسائر المخلوقات، وقد انتحلت لها الإلهية انتحالًا باطلًا، لا يصاحبه دليل تقبله العقول السليمة. ومضمون الدليل في قوله تعالى في سورة "المؤمنون": {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أنه لو كان مع الله إله آخر له حق الإلهية بربوبيته لكان من أبسط النتائج البدهية أن يجمع كل إله رب مخلوقاته، ويذهب بها، متصرفًا فيها تصرفًا مستقلًّا، ثم لعلا بعض الآلهة الأرباب المتعدد على بعض، بمقتضى سيادة الربوبية واستقلالها، وأن كل واحد لا بد أن ينفذ مراداته ولو تعارضت مع إرادة غيره، ومن ذلك ينشأ التنازع، وغلبة الأقوى للأضعف، وعندها يقال: إن الأضعف لا يصلح للإلهية فهو ليس بإله، ولكن كل ذلك غير واقع؛ لأن الله واحد لا شريك له، فسبحان الله عما يشركون وسبحانه وتعالى عما يصفون. وعلى هذا النسق تسير الاستدلالات العقلية في القرآن الكريم، موجهة مناقشاتها لفئتي المتعقلين, الباحثين العلميين المفكرين. هـ- ومن أمثلة الإقناع بالأساليب الخطابية المؤثرة في النفوس، لما فيها من روائع أدبية، قول الله تعالى في سورة "الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول": {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} . إن هذا النص الرائع الذي جاء على صيغة مثل ليملأ الأنفس قناعة بأن الظفر في آخر الأمر للحق، وأن البقاء له، وأما الباطل فيضمحل ويزهق مهما ظهر له بروز في الأرض، ومهما طفا على السطوح، وبأن الظفر أيضًا لأنصار الحق على جنود الباطل مهما علا شأن المبطلين في أول الأمر. ولكن هذا الإقناع جاء على صورة خطابية ذات وقع شديد على مشاعر

الأنفس التي تعشق بطبعها الصور البيانية الجميلة، وذلك لأن المقام ليس بحاجة إلى حجج عقلية جدلية، ولكن يتطلب مثيرات مشاعر الشجاعة والإقدام في قلوب المؤمنين لمصارعة المبطلين، والثبات على ما هم عليه من حق، ويتطلب أيضًا مثيرات مشاعر الجبن، والإحساس بالخيبة والفشل في قلوب الكافرين الذين يتخذون الحق بالمظاهر التي لا وزن لها، ولا استقرار ولا ثبات. وذلك إذ وصل الأمر بين الإيمان والكفر، والمؤمنين والكافرين إلى مرحلة الصراع بين حق يغالب ليظهر ويظفر وليبسط في الأرض عدله ونوره وخيره الكثير، وباطل يدافع عن وجوده غير المشروع، ومبطلين يصارعون الحق المبين، ليحافظوا على مكاسب ظالمة، ما كانوا ليصلوا إليها لولا ظلمات الباطل الذي يدعمونه، ويعلنون أنه حق كذبًا وبهتانًا. لكن هذا الصراع مهما طالت مدته فلا بد أن يظهر فيه الحق على الباطل، ويكون له الاستقرار والاستمرار في الأرض، وإن بدا للباطل ظهور فارغ في أول الأمر، وانتفاخ طاف على السطح، حتى يغتر به الجاهلون، وينخدع بزيفه المغفلون إلا أنه لا يلبث أن يقذف به إلى جوانب الحياة مهملًا مستقذرًا لا قيمة له. وما مثله إلا كمثل الزبد الحقير الذي يصارع المادة النافعة، في عنفوان حركتها، فيطفو عليها مدة تسيرة، ثم لا يلبث أن يذهب جفاء، وأما المادة النافعة فإنها تمكث وتستقر بثقلها ورجاحتها؛ لينتفع بها الناس. هذا ما صورته الآية بأسلوبها البديع المفاجئ. أما موقف الصراع فقد أوردته الآية على صورة مثلين ماديين مشاهدين، جميعًا في صورة مثل واحد؛ لتشابههما في الشكل، وفي النتيجة. أما المثل الأول: فهو مشهد من المشاهد الكونية يلاحظه الذين يعيشون في متقلب الأحوال الجوية، في البوادي بين السهول والجبال والوذيان، إنه مشهد مياه غزيرة، تنزل من السماء بقضاء الله، فتعم السهل والوعر والجبل، فتجتمع منحصرة بين الجبال، هابطة من كل مرتفع، حتى تملأ الأودية، وتسيل فيها سيلًا

عنيفًا مخيفًا، يخيل للناظر إليه أن الأودية تسيل أيضًا مع تدفق الماء، ويصطرع الماء في مجراه مع أشواك وأعواد يابسة، وأكوام قمامات، كان لها بروز وظهور في الوديان وعلى السفوح وفي المرتفعات، فيقتلعها ويحتملها، فيكون لها بروز وظهور آخر على سطوح المياه، لخفتها وطيشها، وترغي وتزيد، فيغتر بها الجاهلون، ثم تستفر المعركة عن قذف هذا الجفاء الطافي، وطرحه إلى الشاطئين، حقيرًا مستقذرًا ينتظر البلى، وأما الماء الطهور الذي ينفع الناس، فيمكث في مجاريه ومساربه من الأرض. وأما المثل الثاني: فهو مشهد آخر من المشاهد التي يلاحظها أرباب الصناعات داخل مصانعهم، مهما كانوا بعيدين عن أجواء البوادي وتقلباتها الكونية، إنه مشهد المعادن وأشباهها، التي يصهرونها بوساطة النار الموقدة عليها، إنهم يلاحظون زبدًا آخر يطفو على سطوح منصهراتهم، بعد أن يشتد صراع الغليان بين الجوهر النافع، وبين الشوائب المفسدة، فالجاهل ربما يظن أن الزبد هو الشيء الثمين، لبروزه، أو لتلامع ألوانه لكن الخبير العارف يسرع إليه، فيقذف به خارجًا، لينقي معدنة من أخلاطه الدنيئة، ويصفي جوهره من خبثه، وأما ما يمكث من دون السطح فيحتفظ به؛ لأنه هو الجوهر النافع الثمين. وكذلك مثل الصراع بين الحق والباطل، قال الله تعالى في الآية: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} . وكذلك مثل الصراع بين المحقين والمبطلين، قال الله تعالى في الآية: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال} . والنتيجة مثل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} . ويناظر هذه النتيجة في المثل نتيجة في الممثل له، وذلك بأن نقول: فأما الباطل فيضمحل ويتلاشى ويزهق، وأما الحق فيستقر ويثبت ويكون له السلطان. شرح العنصر الثاني: "وهو الترغيب" عرفنا أن العنصر الثاني من العناصر الكبرى لخطة الوسائل التربوية الواقعية في الإسلام هو عنصر الترغيب.

إن الترغيب هو العنصر الذي يمثل القوة المحرضة والجاذبة الواقعة على جوانب وفي آخر طريق الخير، الذي يدعو إليه الإسلام، ووظيفة الترغيب دغدغة المطامع الإنسانية، فدغدغة هذه المطامع في اتجاه طريق الخير قد تدفع عن الإنسان الصوارف النفسية التي تصرفه عنه؛ إذ تستعطف شهواته مغريات أخرى، واقفة في اتجاهات سبل الشر المختلفة. ولما كانت سبل الشر في الحياة محفوفة بمغريات الأنفس كانت أصول التربية تستدعي إيجاد قوة محرضة وجاذبة في طريق الهداية، زائدة على الإقناع الفكري المجرد، وذلك لتنضم إلى قوة القناعة الفكرية -ذات الأثر في الأنفس بنسب تتفاوت بحسب تفاوت الناس- قوة أخرى هي قوة اندفاع نفسي، تحركها مطامعها الذاتية، وبهاتين القوتين يستطيع الإنسان أن يستهين بالمغريات الأخرى، الواقعة في سبل الشر، ويكف بصره ونفسه عنها، ويتجه اتجاهًا سويًّا في فكره وسلوكه. ومن الملاحظ أن النسبة العظمى من الناس أسراء أنفسهم ومطامعهم وشهواتهم، فهم يستجيبون لها أكثر من استجابتهم لعقولهم وأفكارهم. ومن الناس من تكون مطامعهم النفسية غلابة على تفكيرهم، فتحجب عنهم سبل التفكير السديد. فإذا لاحت لهؤلاء أو هؤلاء رغائب في طريق للخير نفسه تهيأت لهم الظروف الملائمة كلها، كيما تتجه مطامعهم لطريق الخير الذي يتجه له التفكير السديد، وتكون لهم هذه المطامع بمثابة القوة الإضافية للفكر، بما فيها من تحريض له على السعي الحثيث، والبحث لاستبانة غوامض الأمور، والإحاطة بجوانب المشكلات، وتكوين القناعة في النفس، المصحوبة بإرادة التنفيذ لما توجب القناعة عمله. وبهذا يتبين لنا أن الترغيب بشكل عام يمثل وسيلة استرضاء واستعطاف لما لدى الإنسان من طمع بمنافع ولذات وخيرات معجلة أو مؤجلة، فمتى استرضيت النفس بشيء من ذلك سكتت عن الإنسان الصوارف له عن طريق

الخير، وغدا سهل الأنقياد فيه، وانفتحت نفسه للاقتناع به، والتعلق الشديد بأسبابه. ولما كان الإسلام هداية للناس جميعًا، وواقعيًّا في جوانبه العملية، كانت الواقعية فيه تتطلب إيجاد عنصر الترغيب في وسائله التربوية للناس، وذلك في كل ما يهديهم إليه من خير، ويدعوهم إليه من فضيلة. ومن أجل هذا نجد نصوص القرآن والسنة مليئة بإعلان ما أعد الله للذين آمنوا ويعملون الصالحات من أجر عظيم، وثواب جزيل، ترغيبًا للناس بسلوك صراط الله المستقيم، وذلك إضافة إلى النصوص المشحونة بالإقناع الفكري. شرح العنصر الثالث: "وهو الترهيب" أما العنصر الثالث من العناصر الكبرى لخطة الوسائل التربوية الواقعية في الإسلام فهو عنصر الترهيب. إن الترهيب هو العنصر الذي يمثل القوة الصادة عن الانحراف إلى سبل الشر، التي ينهى عنها الإسلام، وذلك لأن إثارة المخاوف من سلوك سبيل ما، أو القيام بعمل ما، من شأنها أن تقلل من اندفاع الإنسان نحو ذلك السبيل أو ذلك العمل، وأن تضعف من قوته، وتجعله قلقًا حذرًا، حتى ولو غامر في الأمر، واستهان بالمخاوف، إلا أن محاذير سلوك سبل الشر عواقب وخيمة لا تستهين بها العقلاء بحال من الأحوال، متى تبصروا بها حقًّا، وعلى مقدار نمو الحذر من جهة من الجهات تخبو جذوة الأطماع والأهواء المتأججة نحوها، وبالتكرار والمعالجة المتابعة تنصرف النفس انصرافًا نهائيًّا. وتكتسب خلق الزهد والعفة عن المحارم، مهما كانت إغراءاتها آسرة للنفس، مثيرة لرغباتها وأهوائها. ولما كانت سبل الشر في الحياة محفوفة بمغريات الأنفس، وفواتن الأهواء والأفكار، كانت أصول التربية الواقعية تستدعي إيجاد قوة صادة عنها، زائدة على قوة الإقناع الفكري المجرد، ومضافة إلى وسيلة الترغيب، وهذه القوة الصادة إنما هي وسيلة الترهيب.

وقد أثبتت الدراسات النفسية أن الإنسان متى خاف من الأخطار الرابضة في جهة من الجهات خنست أطماعه واستخذت، وكفت حذرًا وإن لم تكن عفت، لكنها بالتدريب والتمرس تكسب العفة المطلوبة. وتستفيد التربية الواقعية لدى استخدام هذه الوسيلة مما لدى الإنسان من خوف وحذر من العواقب المؤلمة القريبة أو البعيدة. ومن الملاحظ أن طائفة من الناس لا يصلحهم الإقناع الفكري، ولا تكفي لإصلاحهم وسيلة الترغيب، وأن أنجع علاجات الإصلاح بالنسبة إليهم إنما هي وسيلة الترهيب، فهم يتأثرون بالمخاوف أكثر من تأثرهم بالمرغبات، وذلك لأنهم قد يكونون ممن يؤثرون اللذات العاجلات مهما كانت ضئيلة على الخيرات الآجلات مهما كانت جليلة، ومن أجل ذلك يضعف لديهم أثر الترغيبات بالثواب الجزيل على فعل الخير، وترك الشر، لكنهم إذا مثلت المخاوف المحققة في نفوسهم تيقظوا وحذروا واستقاموا. ولما كان الإسلام واقعيًّا في جوانبه العملية، وكان هداية للناس جميعًا، اقتضى ذلك منه أن يستفيد في هداية الناس من استخدام وسيلة الترهيب من العقاب العاجل والآجل، ليصدهم عن سلوك سبل الشر، وذلك بإثارة مخاوفهم من سلوك هذا السبل. يضاف إلى ذلك أن حكمة الابتلاء الرباني للناس اقتضت أن يقضي الله بتنفيذ قانون العدل، الذي قرره في محاسبة المكلفين من عباده، ومجازاتهم على ما يكسبون، إن خيرًا فخير، أو شرًّا فشر، وبعض ما يجازي به الله معجل في الدنيا، وبعضه الآخر مؤجل لما بعد الموت، والجزاء الأوفى قد أدخره الله إلى يوم الجزاء الأكبر. ومن أجل هذا نجد نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف مشحونة بإعلان ما اعتد الله للذين كفروا ويعملون السيئات من عذاب أليم، ترهيبًا للناس من سلوك سبل الضلالة، وذلك إضافة إلى نصوص الإقناع الفكري، ونصوص الترغيب.

نظرة عامة: فإذا نظرنا نظرة عامة إلى وسيلتي الترغيب والترهيب، معًا، وجدناهما قوتين كبيرتين، أولاهما تجذب النفس الإنسانية إلى طريق الخير، وتستعطفها نحوه، بما أعد الله لسالكيه من منافع، ولذات، وخيرات عظيمات، معجلات ومؤجلات، والثانية تصد النفس الإنسانية عن سلوك سبل الشر؛ إذ تملؤها بالخوف مما أعتد الله لسالكها من عقوبات معجلات ومؤجلات. وباستخدام التربية الإسلامية وسيلة الإقناع الفكري على أكمل صورها، ووسيلتي الترغيب والترهيب على أحكم صورهما، تمت للإسلام خطة الوسائل التربوية المثلى. ولهذه العناصر الكبرى الثلاثة فروع وتفصيلات كثيرات، ولدى التبصر نلاحظ أن كل الوسائل التربوية التي يتصورها الفكر، والتي يتوصل إليها المربون بالتجربة تندرج في هذه العناصر الكبرى، وتنضوي تحتها. شرح الواقعية في الأعمال الجماعية: ومن مظاهر الواقعية في الإسلام الواقعية في مجال الأعمال الجماعية، التي يشارك فيها الضعفاء من المسلمين، والمرضى، وذوو الحاجات. وتتجلى الواقعية في هذا المجال بمراعاة أحوال هؤلاء؛ إذ نلاحظ أن الإسلام يوجه أولي الأمر من المسلمين، وكل راع في رعيته منهم لمراعاة جانب التخفيف في الأعمال الجماعية العامة، وذلك حتى لا ينقطع الضعفاء والمرضى وذوو الحاجات عن المشاركة فيها، ولئلا يحصل لهم بها أذى. فمن الهدي النبوي أن الرسول صلوات الله عليه كان حينما يكون في سفر ومعه المسلمون يأمرهم بأن يسيروا بسير ضعفائهم، فيقول لهم: "سيروا بسير ضعفائكم" وذلك لئلا ينقطع هؤلاء عن الركب. ومن الهدي النبوي في هذا المجال أن يخفف الإمام في صلاته؛ لأنه يؤم أصنافًا من الناس مختلفين، ففي الحديث عن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري

رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتاخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال: "يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة". رواه البخاري ومسلم. وفي صحيح مسلم عن أبي عبد الله جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: "كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا" أي: كانت متوسطة بين الطول والقصر. شرح الواقعية في تحديد مناهج السلوك: ومن مظاهر الواقعية في الإسلام الواقعية في تحديد مناهج السلوك للناس. هذه الواقعية أمر يشهد له كل ما في الإسلام من مناهج ونظم عملية، في العبادات، والمعاملات، والأخلاق، وسائر ميادين العلم والعمل. إذ هي مناهج ونظم لا تزيد حدودها المفروضة عن استطاعة النسبة الوسطى من الناس. وأما من هم دون هذه النسبة الوسطى فإن الإسلام يقرر لهم استثناءات خاصة بهم، كالاستثناءات الخاصة بالأعمى، والأعرج والمريض، والمسافر، والحائض، والنفساء، ونحو هؤلاء وذلك بحسب نوع التكاليف، ومقدار ما تتطلب من جهد واستطاعة. وأما من هم فوق النسبة الوسطى من الناس فإن الإسلام يفتح لهم مجالات التسابق في اغتنام الخيرات، والعمل لبلوغ الدرجات العليا من درجات المقربين ذوي المجد عند الله، ولكن دون إلزام تكليفي بها، يجعلهم من المؤاخذين المذنبين إذا قصروا فيها، وذلك ما لم يكونوا في موضع المسئولية بالنسبة إلى أعمال خاصة تتطلبها جماعة المسلمين بشكل عام، وهم الأكفياء للقيام بها، فعند ذلك تكون واجبة عليهم، بنسبة كفايتهم، وبنسبة حاجة العمل الإسلامي العام إليه.

ومن أمثلة ذلك تكليف العلماء الأكفياء المختصين مقارغة أهل الباطل بالحجج والبارهين الدامغة، وتكليف ذوي المال بذل أموالهم إذا دعا داعي الجهاد الواجب، وتكليف الأشداء الأقوياء المدربين الوقوف في الصفوف الأولى عند لقاء العدو، وهكذا. شرح الواقعية في أصول المحاسبة والجزاء: ومن مظاهر الواقعية في الإسلام الواقعية في أصول المحاسبة والجزاء. إن الواقعية في هذا المجال تحددها في الإسلام جملة من القواعد العامة، التي جعلها الله تبارك وتعالى أساسًا لمحاسبة عباده ومجازاتهم على أعمالهم، ومن هذه القواعد ما يلي: القاعدة الأولى: المسئولية عند الله تعالى تناسب زيادة ونقصًا مع نسبة الخصائص والهبات الربانية للإنسان، والظروف المحاط بها. القاعدة الثانية: لا تزر وازرة وزر أخرى، فلا يحاسب الإنسان إلا على ما اكتسبه من إثم، ومما يكتسبه من آثام أن يسن سنة سيئة يتبعه فيها آخرون، فهو يحمل وزر عمله المباشر، ووزر إضلاله لمن اتبعه، دون أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا؛ لأنهم مسئولون أيضًا عما يعملون، ويدخل فيما يكتسبه من آثام أيضًا آثار أعماله السيئة الجارية ولو بعد موته، كنشر علم ضار، أو تأسيس دار لمعصية الله. القاعدة الثالثة: ليس للإنسان إلا ما سعى، فلا يثاب إلا على ما كسبه من أعمال صالحة، ومما يكسبه من أعمال صالحة أن يسن سنة حسنة، فله بذلك أجر عمله، وأجر مثل أجر من اتبعه، دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئًا؛ لأن هذه الثمرات الطيبات كانت من آثار عمله وسعيه، فهو ينال منها أجرًا، ويدخل فيها يكسبه من

أعمال صالحة آثار أعماله الجارية ولو بعد موته، كنشر علم نافع، أو صدقة جارية، أو تأسيس دار لعبادة الله أو خدمة المسلمين. ولا يقتضي هذا أن الإنسان لا يعطيه الله إلا ثواب ما سعى، بل فضل الله أوسع من سعيه بما لا حصر له. القاعدة الرابعة: لا تقبل الشفاعة للكافرين، ولا يقبل الاستغفار لهم. القاعدة الخامسة: لا تنفع الشفاعة للمؤمنين، إلا شفاعة من أذن له الرحمن ورضي له قولًا.

شرح الأمر الخامس: مراعاة واقع حال الضعف البشري

شرح الأمر الخامس: مراعاة واقع حال الضعف البشري تظهر لنا الواقعية في هذا المجال في مراعاة واقع حال النفس الإنسانية المفطورة على حب المخالفة، والنزوع إلى الشذوذ والمغامرة بامتحان المسالك الوعرة. وكانت الواقعية الإسلامية في مراعاة هذاالواقع الإنساني متمثلة بفتح باب الغفران للإنسان، وتهيئة أفضل الوسائل ليتخلص من الإثم، وليلقي عن كاهله أثقال الأوزار. الشرح: لقد فطر الله النفس الإنسانية، وجعل فيها نزوعًا فطريًّا للاستقلال الذاتي، والخروج عن الطاعة، كما جعل فيها أهواء تلح على الإنسان بالمطالب التي لا تتم تلبيتها إلا بالانحراف عن صراط الهداية، وبارتكاب السيئات، وجعل في الإنسان ضعفًا. وخلق الله في الإنسان إلى جانب ما سبق الدوافع الخيرة، والعقل المرشد

للصواب، والإرادة التي تمثل سلطة الحكم في داخله، ولا تكون هذه السلطة حكيمة ما لم تسترشد بالعقل، وما لم تتقيد بنصائحه ووصاياه. ثم أنزل الله الشرائع هداية للعقول، وإرشادًا لها حتى لا تضل عن سواء السبيل. وبهذه الأمور مجتمعة تمت الشروط الملائمة لابتلاء إرادة الإنسان في هذه الحياة. ولكن هذا الكائن العجيب الذي تتجاذبه قوى متناقصة، لا بد أن يكون عرضة لضعف الإرادة أمام أواسر الأهواء والشهوات، مع اختلاف النسبة في ذلك بين أفراد الناس شدة وضعفًا، فمنهم السابقون في الخيرات الذين تقوى إرادتهم فتكثر صالحاتهم، وتندر فلتات مخالفاتهم وسيئاتهم، ومنهم المتذبذبون بين الاستقامة والانحراف، الذين يخلطون عملًا صالحًا وآخر سيئًا، ومنهم الظالمون لنفوسهم الذين استخذت إرادتهم وضعفت ضعفًا كليًّا، فسقطوا في الانحراف، وانغمسوا في الموبقات، أما المعصومون من البشر عن المخالفات فنماذج صانها الله ليجعلها قدوة حسنة للناس. وإعلانًا عن هذا الواقع الذي عليه الإنسان بصفة عامة: قال الله تعالى سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . وقص علينا قصة المخالفة الأولى للإنسانين الأولين آدم وزوجه؛ إذ نهاهما الله عن أن يأكلا من شجرة معينة، بعد أن أباح لهما أن يأكلا من كل ما في الجنة سواها، فأكلا منها وعصيا، متأثرين في ضعفهما البشري بوساوس الشيطان، وأخرجهما الله من الجنة معاقبة لهما، وأهبطهما إلى الأرض، وبين لذريتهما أن الدوافع إلى المعصية منتقلة إليهم بالوراثة، وأن عداوة الشيطان تلاحقهم بالوساوس والإغواء، لتحجب عنهم الجنة التي تدعوهم إلى نفسها من طريق طاعة الله، وذلك بحسب وعد الله، إنه لا يخلف الميعاد.

ولما كانت الخطيئة في حياة الإنسان من الأمور الواقعية التي يعسر عليه جدًّا أن يصون نفسه عنها مدى حياته، ما لم يكن معصومًا بعصمة الله، كانت الواقعية في شريعة الله لعباده تستدعي أن من أخرجته الخطيئة عن طريق الجنة، ردته إليه حبال التوبة والاستغفار من جهته، المعقودة بحبال العفو والغفران من جهة الرحمن. ولكيلا تظل صورة الخطيئة القبيحة مائلة في نفس الإنسان جعل الله الشيطان للإنسان قرينًا يلصق به وجهًا من وجهي الصورة القبيحة للخطيئة، ليشعر الإنسان بأن القبح في الحياة ليس من شأنه، وإنما هو بتأثير وساوس قرينه الملازم له، وهذا الشعور من شأنه أن يدفعه إلى الكمال، والتخلص من الخطايا التي يوسوس له بها عدوه وعدو أبويه من قبل، ومن شأنه أن ينسيه خطيئته إذا هو استغفر الله وتاب إليه، واستعاذ بالله من الشيطان، وألصق به مسئولية الإغواء. وقد عرفنا في أصول التربية أن من وسائل الإصلاح أن نفتح لمن نربيه أبواب العذر إذا ارتكب الخطيئة ولو عاقبناه عليها، وذلك حتى نبقي له مجالًا يحتفظ فيه بصورة الكمال التي يريد أن يتصورها الناس فيه، وعرفنا أن من الخطأ في التربية أن نسد على من نربيه باب الاعتذار، ونشعره بأنه مهين، قد مارس الخطيئة عن عزم وتصميم وخبث في نفسه، وذلك لأن هذا الأسلوب من التربية المجانبة للصواب، من شأنه أن يغرس في الإنسان الوقاحة وعدم المبالاة، والإصرار على متباعة ارتكاب السيئات، فمن يفتضح بفعل المنكر ويعرف به بين الناس يكابر عليه بوقاحة لا استحياء معها، وفي الحديث الصحيح: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تتسح فاصنع ما شئت". رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه النظرة الواقعية من مختلف جوانبها قد أعلنتها النصوص الإسلامية في أكثر المناسبات التي تضع الإنسان موضع المسئولية في الحياة.

وفيما يلي طائفة من هذه النصوص: أ- ففي مجال بيان واقع حال النفس الإنسانية المفطورة على الضعف وحب المخالفة تستوقفنا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصوص كثيرة، تعرض هذه الحقيقة، أو تشير إليها: فمنها قوله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . في هذا النص أمور ثلاثة مترابطة: الأمر الأول: بيان واقع حال الإنسان المفطور على الضعف. الأمر الثاني: أن الله يريد أن يتوب على الناس نظرًا إلى ما هم عليه من ضعف، وأن يخفف عنهم أثقال الأوزار وأعباء التكاليف الشديدة. الأمر الثالث: أن دعاة الضلال متبعي الشهوات يريدون من المؤمنين أن يميلوا ميلًا عظيمًا إلى جانب المعاصي والمخالفات، حتى يبتعدوا عن مهابط رحمة الله وعفوه وغفرانه. وخلال ترابط هذه الأمور في هذا النص نلاحظ روعة الواقعية الإسلامية، التي تراعي بحكمة بالغة، ورحمة عظيمة، واقع حال النفس الإنسانية المفطورة على الضعف وحب المخالفة. ومن النصوص في هذا المجال قول الله تعالى في سورة "ق: 50 مصحف/ 34 نزول": {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . في هذا النص القرآني إشارة إلى ما عليه واقع حال النفس الإنسانية من تعرض لوساوس ذاتية متجددة ما استمرت فيها الحياة، والوسوسة لا تكون إلا بالأمر بالسوء، الذي فيه مخالفة ومعصية لله تعالى، ومع هذه الوساوس المتجددة.

لقد تضعف إرادة الإنسان، نظرًا إلى أنه خُلق ضعيفًا، فيسقط في بعض الخطايا، ولكن المؤمن توقظه الصدمة بعد السقوط، فيضحو من غفلته، فيتذكر الله، وعند ذلك يلجأ إلى التوبة والندم والاستغفار، فيجد الله توابًا رحيمًا. ومن النصوص فيه هذا المجال أيضًا قول الله تعالى في سورة "يوسف: 12 مصحف/ 53 نزول" حكاية وإقرارًا لما قالته امرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} . هذا النص يعلن أيضًا أن النفس في فطرتها أمارة بالسوء، ومع أوامرها المتكررة قد يغفل الإنسان وتضعف إرادته فيسقط في الخطيئة، ولكن المؤمن توقظه الصدمة بعد السقوط، فيضحو من غفلته فيتذكر الله، وعند ذلك يلجأ إلى التوبة والندم والاستغفار فيجد الله توابًا رحيمًا. ومن النصوص أيضًا الآيات التي تضمنت وصف الأنفس، ووصف الإنسان، ونسرد من ذلك الآيات التاليات: قوله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} . وقوله تعالى في سورة "التغابن: 64 مصحف/ 108 نزول": {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وقوله تعالى في سورة "العاديات: 100 مصحف/ 14 نزول": {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ} .

وقوله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} . وقوله تعالى في سورة "الإسراء أيضًا": {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} . إن هذه الآيات وأشباهها تبين جوانب الضعف في الإنسان التي قد يسقط بسببها في الخطيئة. ومن النصوص في هذا المجال أيضًا طائفة كثيرة من الأحاديث النبوية، ونذكر منها الأحاديث التالية: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون". أخرجه الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وصححه الحاكم وابن القطان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه". رواه ابن ماجه، ورواه البخاري مختصرًا. وفي الحديث القدسي: "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا اغفر الذنوب جميعًا". رواه مسلم. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم". رواه مسلم. وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

"لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقًا يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم". رواه مسلم. وفي كل ذلك دلالات واضحات على أن الله تعالى خلق في الإنسان ضعفًا، يجعله يتعثر فيسقط في المعصية، ليرتجع إلى ربه مستغفرًا تائبًا منكسرًا، ليغفر الله له، ويرحمه، ويكفر عنه سيئاته وبذلك يقف العبد بين يدي ربه موقف الضعف والاعتراف، ويتجلى الله له بالرحمة والإحسان. ب- وفي مجال تخليص الإنسان من خطيئته وردت نصوص التوبة والغفران من جهة، ونصوص إلصاق خبث دوافع الخطيئة بالشيطان من جهة أخرى. فمن نصوص التوبة والغفران النصوص التالية: قول الله تعالى في سورة "الزمر: 39 مصحف/ 59 نزول": {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . ففي هذا النص نداء من الله للمسرفين يدعوهم أن لا يقنطوا من رحمة الله، مهما تعاظمت ذنوبهم في جنب الله، ومهما كثرت سيئاتهم، فإن الله يغفر الذنوب جميعًا، وما على المسرفين إلا أن يستغفروا ربهم ويتوبوا إليه, ويمدوا أيديهم إلى رحمته. وقول الله تعالى يصف المتقين في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . فمن صفات المتقين أنهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم لم يستغرقوا فيما هم فيه من إثم، ولم يصروا على ما فعلوا، ولكنهم يتيقظون، فيذكرون الله، ويستغفرونه لذنوبهم، وعند ذلك يجدون الله توابًا رحيمًا. وقول الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} . وقول الله تعالى في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول": {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وفي الحديث القدسي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة". رواه الترمذي وقال: حديث حسن. عنان السماء: ما يبدو منها للناظر. قراب الأرض: أي: قريب من مقدراها. فهذه النصوص ونظائرها تثبت للإنسان أن وراء عثرة الخطيئة طمعًا برحمة الله، وأملًا بالمغفرة عن طريق التوبة والندم والعزم على الاستقامة، وفي هذا منتهى مراعاة الواقعية في أحوال الإنسان. ولكن لهذه الواقعية حدودًا لا تتجاوزها، وتبرز هذه الحدود واضحة في أمرين: الأمر الأول: الكفر بالله والشرك به، فمن مات على ذلك لم ينل من الله عفوًا ولا غفرانًا، قال الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} . الأمر الثاني: أن يملأ الإنسان حياته بفعل السيئات، ويعرض عن التوبة والاستغفار، حتى حضره الموت، وانكشفت له بعض الحقائق مما وراء الموت، قال: إني تبت الآن. فإن الله جل وعلا لم يتعهد لأمثال هذا المسرف على نفسه طوال حياته بأن يتوب عليهم، قال الله تعالى في سورة "النساء أيضًا":

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . ومن النصوص التي تحرر الإنسان من خبث دوافعه للخطيئة، وتفسح له مجالًا أن يلصق ذلك بالشيطان، رجاء أن يكون أقرب للإصلاح، وأكثر استعدادًا للاستقامة، النصوص التالية: قول الله تعالى في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} . وقول الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} . ومع ذلك فقد بين الله تبارك وتعالى أن الشيطان ليس له سلطان على الذين يتحققون بعبوديتهم لله تعالى، قال تعالى في سورة "الحجر: 15 مصحف/ 54 نزول"، يخاطب الشيطان. {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} . وذلك لئلا يتهرب الإنسان من المسئولية، فينغمس في الخطايا، ويلقي على الشيطان مسئوليتها. وبهذا يتم التوازن في أمور التكليف والتربية، ويوضع كل أمر منها في محله الملائم له.

جدليات حول المثاليات والواقعيات الإسلامية

جدليات حول المثاليات والواقعيات الإسلامية: أولًا: من الجدليات التي يثيرها فريق من أعداء الإسلام تضليل أبناء المسلمين بمثاليات عوراء، في معرض تهجماتهم على أسس الإسلام الحضارية، فهم عن طريق الخداع الجدالي الذي لا مضمون له في واقع فلسفتهم، المرتكزة على أسس مادية بحت، يحاولون أن يوهموا أبناء المسملين بأن الإسلام حينما يدعو إلى الحق والخير والفضيلة يرغب الناس بأنواع الثواب المعادي المعجل أو المؤجل، ويضللون بأن المثالية في التزام جانب الحق، وفي فعل الخير والفضيلة تقضي بأن يسعى الإنسان إلى تحقيق الخير لمجرد أنه خير، لا لما يترتب على فعله من ثواب وأجر يعود على الفاعل، ولهم في هذه التضليلات غرضان: الغرض الأول: صرف أبناء المسلمين عن جو المؤثرات الترغيبية والترهيبية المشحونة بها نصوص الشريعة الإسلامية؛ لأنها من أفعل وسائل الإصلاح والتقويم للنفس الإنسانية، التي تنزع فيها الغرائز والأهواء والشهوات إلى الإثم والظلم، ولا تقبض عليها المثاليات النظرية إلا قبضًا يسيرًا. الغرض الثاني التمويه على الصغار من أبناء المسلمين الذين لم يخبروا الحياة بعد، ولم يتكشفوا صور الخصائص النفسية للإنسان، ليجذبوهم بذلك إلى صفوفهم، وليخدعوهم بمثاليات جوفاء، حتى يقدموا أنفسهم ضحايا مجانية وهم يجهلون أنهم يحققون بتضحياتهم للقادة المضلين غاياتهم الموغلة في المادية، التي لا تعترف بشيء من المثاليات. إن هؤلاء المضلين يستخدمون كل ذكائهم ليقدموا هؤلاء الصغار، أحداث الأحلام وقودًا في مطبخ السلاح الذي يعدونه للتسلط على الشعوب، والتحكم بمصائرها، والانتفاع بخيراتها، في مادية مغرقة، ليس لها غاية إلا إشباع الغرائز الجسدية والنفسية، وتلبية الشهوة العارمة إلى استعباد الناس. وقد تبين لنا بالبحث المستفيض كمال رسالة الحضارة الإسلامية؛ إذ جعلت من أسسها الحضارية المثالية في العقائد والغايات والأهداف، والواقعية في الأعمال ومناهج الحياة.

وهذا أفضل ما يمكن تصوره ليكون أساسًا لبناء أرقى حضارة، لهذا الإنسان المزود بالعقل الذي من شأنه أن يتطلع إلى المثاليات ويبحث عنها، والمزود بطاقات مادية ومعنوية تقف به عند حدود لا يستطيع تجاوزها ولا الزيادة عليها، والمزود بغرائز وشهوات تنبح في داخله بإلحاح لتحقيق مطالبها. وأية فلسفة تحاول إصلاح هذا الكائن المركب من هذه العناصر الثلاثة على أساس تلبية واحد منها فقط، أو اثنين وإهمال سائرها فإنها فلسفة محكوم عليها بالفشل الذريع، وستضع الإنسانية في طريق الانحدار المهلك، بدل أن تأخذ بيدها صاعدة في سلم الكمال الإنساني. أما الفلسفة الإسلامية القائمة على الدعوة المثالية، والتطبيقات الواقعية، والوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية، فهي الفلسفة الراقية، التي استطاع بها الإسلام أن يقبض على نواصي شعوب مختلفة اللغات، وقوميات متباينة الاتجاهات، عن أجيال وقرون، وأن يسير بها متآخية متوادة في طريق السعادة الإنسانية، وأن يدفع بها إلى الصعود المتتابع في سلم الحضارة المثلى. وهذا ما أذهل أعداء الإسلام أعمتهم عصبياتهم الدينية والقومية، وأثار حقدهم وحسدهم، ولذلك أخذوا في تهديم الأسس التي كان بها للمسلمين ذلك المجد التليد. وأعداء الإسلام يخشون أن يعود المسلمون إلى الاستمساك بالأسس الإسلامية الصحيحة، فيعود لهم مجدهم السليب. وكل مثالية يدعيها أعداء الإسلام إنما هي مثالية مزورة، غايتهم منها التضليل والخداع، ولو كانت لهم مثاليات حقيقية صادقة قابلة للتطبيق الإنساني لرأي الناس أثرها في السلم أو في الحرب، ولكنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يسجلوا في تاريخهم الطويل إلا صورة المادية المفرطة، المرتبطة بالأنانيات الفردية، أو العنصرية، أو العصبية المذهبية.

ثانيًا: ومن الجدليات التي يثيرها فريق من أعداء الإسلام مزاعمهم التي يضللون بها أبناء المسلمين، إذ يقولون: "إن الإسلام تعاليم وأنظمة مثالية غير ممكنة التطبيق، وإن حياة الإنسان الواقعية تستدعي أنظمة وتعاليم، واقعية ممكنة التطبيق". ثم يبنون على هذه المقدمة الكاذبة فيقولون: "وبما أن الإسلام شيء مثالي غير واقعي فإنه غير صالح لأن يكون دستور حياة الناس، وما على الأجيال المسلمة إلا أن تسعى وراء أنظمة وضعية واقعية مستفادة من التجارب والاختبارات الإنسانية". هذا ما يقولون، وقد تبين لنا بالبحث المستفيض حول المثالية والواقعية في أسس الإسلام الحضارية فيما قدمناه من بحوث أن المثالية في الإسلام هي مثالية وواقعية معًا؛ لأنها مثالية ممكنة التطبيق، وذلك لأن المثالية فيه منحصرة في العقائد والأهداف والغايات، والمثالية في هذه الأمور لا تتعارض مع الواقعية بحال من الأحوال؛ لأنها ممكنة التطبيق، فليس من العسير على الإنسان أن يعتقد العقيدة المثالية، وليس من العسير عليه أن يجعل غايته من أعماله العبادية أو غيرها غاية مثالية، وليس من الصعب عليه أن يجعل الكمال في كل أمر من أموره مطلبًا أسمى يسعى إليه، دون أن يكون ملزمًا به لدى التطبيق العملي. أما التطبيق العملي فقد تبين لنا بالبحث أيضًا أن أسس الإسلام الحضارية فيه ملتزمة جانب الواقعية، التزامًا أكثر تسامحًا من أي نظام في العالم معتمد على الأسس الواقعية. ولدى المقارنة تتجلى هذه الحقيقة للباحثين تجليًا يدمغ كل مضلل متلاعب بكل زور من قول أو فكر. وليس من الواقعية في شيء أن يترك المجرمون والشاذون في الأرض يعيثون فسادًا وخرابًا، وينشرون الآلام الكثيرة مجاراة لواقعيتهم المنحرفة، وإن أي تفكير يحاول أن يبرر الجرائم وأنواع الشذوذ المفسدة في الأرض، ضمن

إطار الفلسفة الواقعية إنما هو تفكير شياطين المجرمين المفسدين في الأرض، الذين لا يريدون إصلاحًا، ولا ينشدون كمالًا، ولكنهم يريدون أن يخرجوا بني آدم من جنة الحق والخير والفضيلة ونشدان الكمال، وأن يقذفوا بهم في جحيم الباطل والشر والرذيلة وحضيض النقص، وأن يقذفوا بهم في جحيم الباطل والشر والرذيلة وحضيض النقص، وأن يوقعهم في سخط الله. وإن الذين يدعون الواقعيات في أنظمتهم لا يستطيعون أن يقيموا في دولهم إلا بسلطان الحكم الصارم، فلو أنها واقعيات كما يحاولون أن يصوروا معنى الواقعية لما احتاجت إقامتها إلى سلطان الحكم الصارم، الذي يعتمد على أسلوب واحد من أساليب التربية، وهو أسلوب الإرهاب فقط. لكنا وجدنا الإسلام يعتمد كما أسلفنا على أساليب الإقناع الفكري، ثم على وسائل الترغيب، ثم على وسائل الترهيب، وهذه هي الوسائل الواقعية التي يتم بها تقويم أكبر نسبة ممكنة من الناس، وما العقوبات المادية التي ينفذها الحكم الإسلامي إلا لون من ألوان الترهيب العام لكل من تحدثه نفسه بالمخالفة والانحراف الشائن، ووسيلة ضرورية لتأديب المذنبين مرتكبي الجرائم الكبيرة، ووسيلة ضرورية لقطع دابر الإفساد في الأرض. خاتمة: وهكذا تبين لنا كيف تحتل أسس الحضارة الإسلامية قمة مجد رفيعة، لا تصل إلى سفوحها أسس الحضارات الإنسانية الأخرى، مهما تطاولت بقاماتها وأعناقها. ألا فليحيى مجد الإسلام، ولتحيى الحضارة الإسلامية الخالدة.

الباب الثاني: وسائل بناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيا

الباب الثاني: وسائل بناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيا مقدمات عامة: تبين لنا مما سلف أن البناء الفكري للحضارة الإسلامية قائم على أسس عظيمة أهمها الأسس التالية التي سبق شرحها في الباب الأول بشكل مستفيض: الأساس الأول: الالتزام بمبدأ الاستمساك بالحق، ومحبته والعمل على نشره، والتبرؤ من الباطل وكراهيته ومصارعته والعمل على قمعه وإزهاقه. الأساس الثاني: الالتزام بمبدأ فعل الخير، والعمل على نصره ونشره، وترك الشر والعمل على خذله وقمعه. الأساس الثالث: العالمية والشمول. الأساس الرابع: المثالية في العقائد والأهداف والغايات، والواقعية في الأعمال ومناهج الحياة. وبعد أن اتضحت لنا أهم الأسس التي يقوم عليها البناء الفكري للحضارة الإسلامية فإن البحث الواعي المتدبر يستدعينا أن نلاحظ أن البناء الفكري حقائق مجردة تتصورها الأفكار، وتتعشقها الأنفس، وتطمئن بها القلوب، لكن لا بد لها من بناء واقعي تتجسد فيه على الطبية، لتظهر بشكل مادي مثمر، يُؤتي أكله كل حين بإذن ربه، وإلا كان البناء الفكري رسمًا من الرسوم يثير إعجاب العلماء والفلاسفة والباحثين المنصفين، ويقف عند حد إثارة الإعجاب فقط، وليس قوة فعالة تمد الحياة بصنوف السعادة وأنواع الخيرات. وبناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيًّا يحتاج إلى وسائل عملية تقيم أركان هذه الحضارة على أسس بنائها الفكري.

وبالتأمل الدقيق والإحصاء تنكشف لنا مجموعة من الوسائل التي يتوقف عليها رفع قواعد هذه الحضارة، وإقامة بنائها الصاعد، في تكامل مستمر إلى قمم رفيعة جدًّا من المجد الإنساني، مع العلم بأن الغايات القصوى لهذا المجد -وهي الغايات التي تدفع إليها أسس الحضارة الإسلامية- لا يستطيع الناس في أية حقبة من تاريخ الإنسان أن يقدروها حق قدرها وذلك لأنهم لا يحيطون علمًا إلا بما يتبوؤه المسلمون منها في الواقع التطبيبقي، ولا بد لنا هنا من ملاحظة تقصيرات المسلمين الكثيرة، وانحرافاتهم عن صراطها السوي لدى التطبيق العملي، في زوايا تكثر درجاتها أو تقل. ولو تهيأ لبناة الحضارة الإسلامية أن يستمروا في رفع بنائها وصيانته على أسسها الفكرية الراسخة، التي لا يمكن أن تنهار مهما ارتفع البناء، وثقلت أحماله، وكثر ساكنوه، وتنوعوا شعوبًا وأممًا، لكانت حضارتهم التطبيقية ومنجزاتها هي الحضارة المثلى، ذات الوجه الإنساني الجميل المشرق، المتدفق حياة وشبابًا مدى الدهر. ونستطيع قبل شرح الوسائل التي يتوقف عليها البناء الواقعي المادي، للحضارة الإسلامية بحسب السنن الكونية، أن نلخصها تلخيصًا إجماليًّا بما يلي: الوسيلة الأولى: السعي إلى معرفة حقائق الأمور وخصائص الأشياء، وسائر صفاتها والأعمال ونتائجها عن طريق التعلم والتعليم، وتجمع هذه الوسيلة طائفة من عناصر البحث، منها الشغف بالعلم، وحب البحث والمتابعة لإدراك حقائق الأمور، ومنها حث أسس الحضارة الإسلامية على العلم، وتمجيدها للعلماء والمتعلمين، ومنها بيان طرق اكتساب المعارف والعلوم، وموقف الإسلام منها. الوسيلة الثانية: تطبيق العلم بالعمل، وذلك عن طريق الاستفادة المباشرة من المعارف، وعن طريق الاختراع والابتكار والتحسين. الوسيلة الثالثة: التربية، وتكون بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، واستمالة الأنفس بترغيبها بمحابها الخيرة، وبترهيبها مما تكره من شر أو ضر أو أذى.

الوسيلة الرابعة: الجدال بالتي هي أحسن. الوسيلة الخامسة: إقامة الحكم الإسلامي المتقيد بأسس الإسلام وتعاليمه وإرشاداته ووصاياه، والذي يستخدم في السياسة الداخلية وسائله المادية والمعنوية للنهوض بالمسلمين، وتقويم سلوكهم، ورد المنحرفين فيهم إلى صراط الحق والخير، والأخذ على أيدي الظالمين وردعهم، وكل ذلك ضمن حدود الإسلام، ولهذه الوسيلة أثرها العظيم في الإصلاحات التاريخية للأمم، وفيما تبلغه من رقي سامق. وهي المأثور عن عثمان رضي الله عنه قوله: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". الوسيلة السادسة: الجهاد في سبيل الله بالقتال، ويكون بإعداد واستخدام وسائل القوة المادية؛ لإرهاب أعداء الله وأعداء المسلمين، ومقاومة شرورهم، ضمن قواعد السياسة الخارجية الإسلامية. وفي الفصول التالية شرح لهذه الوسائل، وكان نصيب كل وسيلة منها فصلًا خاصًّا. وبالله التوفيق والتسديد، وعليه التوكل، ولا حول ولا قوة إلا به.

الفصل الأول: التعلم والتعليم

الفصل الأول: التعلم والتعليم المقدمة: عرفنا أن بناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيًّا يحتاج إلى وسائل متعددة، وفي مقدمة هذه الوسائل السعي إلى معرفة حقائق الأمور، وخصائص الأشياء وسائر صفاتها، والأعمال ونتائجها، عن طريق التعلم والتعليم. لقد عمل الإسلام على غرس وتنمية الدوافع الذاتية في المسلمين، التي تحرضهم على تحقيق هذه الوسيلة، والأخذ بها على مقدار استطاعتهم الفردية والجماعية. فأخذ بتغذية ميل الإنسان الفطري لمعرفة ما يجهل، واستخدام كل وسيلة إنسانية مستطاعة لإبلاغ هذا الميل إلى مرتبة الشغف بالعلم، والتلهف المستمر لمتابعة المعرفة الشاملة لكل ما في الوجود من حقائق وسنن مادية، وقوانين مجردة. وذلك لأن من شأن متابعة المعرفة الشاملة شغفًا بالعلم أن تأخذ بيد الشعوب المتصفة بها، وتسير بها، صعدًا في طريق المجد الذي لا تتناهى قممه، فكلما بلغت الإنسانية إلى قمة منه تجددت أمامها معارج قمم أخرى كانت خفية عنها من قبل، ومن شأن متابعة المعرفة أيضًا أن تكشف للإنسان مجالات جديدة لأنواع من التقدم والترقي الحضاريين، يضيفها إلى حصائله الأولى، أو يحلها ملحها؛ لأنها أكمل وأنفع منها، أو أكثر اختصارًا للزمن والجهد، أو ألطف وأجمل، أو أكثر تحقيقًا للرفاهية، أو غير ذلك من المصالح المعتبرة في نظر الناس. وفي هذا السبيل حمل الإسلام للناس رسالة العلم فحث على التعلم،

وحث على التعليم، ومجد العلماء، ورفع منزلتهم بين الناس ووعد طالبي العلم بالأجر العظيم، وأعلن أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وجعل مجالس العلم أفضل من مجالس العبادة، وحصر الخشية من الله بالعلماء، واستخدم كل وسيلة ميسرة للمسلمين لنشر العلم بينهم، وحث على متابعة البحث العملي، في مختلف المجالات الممكنة الفكرية والتجريبية، في آفاق السماء، وفي بطون الأرض، وفي أغوار الأنفس، بشكل ليس له نظير. وحذر الإنسان من أن يندفع في سلوكه في الحياة اندفاعًا عشوائيًّا جاهلًا، ووضعه موضع المسئولية عن تصرفاته حتى لا يقفوا أمرًا ليس له به علم. ومن أجل ذلك لا يرضى الإسلام من المسلم أن يكون إمعة يتبع الناس على جهالة، وهو يقول: "أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت وإن أساءوا أسأت" ولا يرضى منه أن يقاتل تحت راية عُمِّيَّة "مجهولة الهدف" يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فإن قتل حينئذ مات في حكم الإسلام ميتة جاهلية، ولهذا ألغى الإسلام في مجتمع المسلمين العصبية الجاهلية التي جعلت الشاعر العربي يقول: وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد فالعلم في نظر الإسلام يقع في المرتبة الأولى، وتأتي من ورائه أنواع السلوك العملي في الحياة، وهذا هو الترتيب الطبيعي المنطقي، في حياة العقلاء. وضمن هذا المنهج تجلى موقف الإسلام الواضح في أمور الدين، وفي أمور الدنيا سواء بسواء، وفي ضوئه تدرج المسلمون المتقيدون بالإسلام في بناء حضارتهم المجيدة.

المقولة الأولى: الدفع الإسلامي إلي التعلم والتعليم

المقولة الأولى: الدفع الإسلامي إلى التعلم والتعليم ولما كان العلم هو الوسيلة الأولى لبناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيا في كل مجال من مجالاتها، وجدنا الإسلام يهيئ كل ما يلزم لدفع المسلمين، صغارهم وكبارهم، رجالهم ونسائهم إلى العلم، عن طريق التعلم والتعليم. وفي كنوز النصوص والتطبيقات الإسلامية ثروة ضخمة تعلن هذه الحقيقة بإلحاح وتأكيد شديدين. فمنها حياة الرسول صلى الله عليه وسلم التي كلها مدرسة تعلم وتعليم كبرى، منذ أول ما بدئ به من الوحي، حتى آخر نفس لفظه من رحلة الحياة الدنيا، إذ توفاه الله. فأول ما بدئ به من الوحي قول الله تعالى في سورة "العلق: 96 مصحف/ 1 نزول": {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . ولما اشتد به وجعه قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم قال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده ". رواه البخاري عن ابن عباس. وعلمنا ما يقوله المحتضر إذ كان يقول صلى الله عليه وسلم وهو في حالة الاختصار: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" 1. ويقول: "اللهم أعني على غمرات الموت وسكرات الموت" 2. ومن النصوص التي حث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على التعلم والتعليم النصوص التالية: 1- قوله فيما رواه مسلم عن أبي هريرة:

_ 1 رواه البخاري ومسلم عن عائشة. 2 رواه الترمذي عن عائشة.

"ومن سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة". 2- قوله أيضًا: "من دعا إلى هُدًى له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا". رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة. 3- وقوله أيضًا: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم عن أبي هريرة. 4- ولما خطب صلوات الله عليه في حجة الوداع قال فيما رواه البخاري عن أبي بكرة: "ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه". أي: أكثر فهمًا واستيعابًا لمعاني ما يبلغه من الذي سمعه مباشرة من الرسول صلى الله عليه وسلم. 5- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع" 1. 6- وعن أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير" 2. 7- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

_ 1 رواه الترمذي وقال: حديث حسن. 2 رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

"من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما صنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" 1. 8- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر الله امرأً، سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع" 2. 9- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" 3. ووضع القرآن للمسلمين في توجيهاته أسس حوافز المتابعة الدائمة للمعرفة، فمنها النصوص التالية: الأول: قول الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} . الثاني: قول الله تعالى في سورة "يوسف: 12 مصحف/ 53 نزول": {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} . هذان النصان أساسان فيهما هدم للاغترار بالنفس وحفز على المتابعة. الثالث: قول الله تعالى في سورة "فصلت: 41 مصحف/ 61 نزول": {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} . الرابع: قول الله لرسوله في سورة "طه: 20 مصحف/ 45 نزول":

_ 1 رواه أبو داود والترمذي. 2 رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. 3 رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.

{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} . ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علمًا يقربني إلى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم". وهكذا تتظاهر النصوص في مصادر الحضارة الإسلامية لدفع المسلمين إلى التعلم والتعليم بشكل لا نظير له في أية حضارة أخرى، والعلم المقصود الذي تهدي إليه الحضارة الإسلامية هو العلم الذي يهدي إلى الخير، ويحذر من الشر، ومن الخير كل ما فيه كمال إنساني، في أي نوع من أنواع الكمالات المعتبرة، في أسس الحضارة الإسلامية.

المقولة الثانية: إجمال طرق تحصيل المعارف المختلفة

المقولة الثانية: إجمال طرق تحصيل المعارف المختلفة من واجبنا أن نتبين المنهج القويم الذي رسمه الإسلام للمؤمنين به في مجالات البحث العلمي. وهنا نلاحظ أنه لما كانت المعارف المختلفة ذوات طرق، وذوات أدوات، فقد أوضح الإسلام المناهج السليمة لاكتساب المعارف، وحث على استخدام الأدوات الموصلة إليها. فمن المعارف ما يكتسب عن طريق استخدام الحواس الظاهرة بشكل مباشر، ذلك لأن في الوجود أشياء تشاهد ألوانها وأشكالها وحجومها بحاسة البصر فتعرف، وفيه أشياء تشم أو تذاق فتعرف، وأشياء أخرى يحسها اللمس فتعرف، وفي الوجود أيضًا مدركات يشعر بها الإنسان في جسده أو في نفسه أو في فكره كاللذة والألم والحب والكراهية، والميل والنفور، والمسرة والكدر، والتفكر والتذكر والتخيل فيعرفها. ومن المعارف ما يكتسب عن طريق التأملات الفكرية، واستنتاج حقائق غير مدركة بالحواس، بوساطة استخدام الحقائق المدركة بها استخدامًا فكريًّا مجردًا،

كاستنتاج وجود القوة الكهربائية من رؤية المصباح الكهربائي مضيئًا، أو رؤية الآلة الكهربائية تتحرك وتعمل، وكاستنتاج وجود القوة المغناطيسية من مشاهدة ظاهرة الجذب المغناطيسي، وكاستنتاج وجود الحياة والقوة الممدة لها من مشاهدة حركة الجسم حركة إرادية. ومن المعارف ما يكتسب عن طريق النقول والأخبار الصادقة، التي تشهد العقول بصدقها، أو تحكم برجحان ذلك. ومن المعارف ما يكتسب عن طريق الوحي الذي يصطفي به الله أنبياءه ورسله. وهكذا تتعدد طرق اكتساب المعارف في حياة الناس. والإنسان منذ بدء تكوينه يكون صفحة بيضاء خالية من آية معرفة سابقة، إلا أن فيه استعدادًا لاكتساب المعارف، ثم تبدأ واردات المعارف والعلوم تتجمع فيه منذ بدء حياته على الأرض، مارًّا بتجارب كثيرة تلامس أدوات المعرفة المنبثة في جسده، وتسمح لعقله بعد مدة مناسبة من نضج التجارب بأن يسبح في عالم التأملات. هذه الحقيقة من حقائق الإنسان قد أعلنت عنها آية كريمة في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول": {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . أما قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} . فإعلان عن نقطة بدء المعارف التي يكتسبها الإنسان في حياته، بعد أن كان خاليًا من أية معرفة، وعندها يبدأ شريط تسجيل المعارف يتحرك بعد أن يستهل الولد صارخًا عند ولادته. وأما قوله تعالى:

{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} . فإشارة إلى أدوات المعرفة التي زود الخالق بها الإنسان وأهمها السمع والبصر والفؤاد، والفؤاد هو القوة العاقلة في الإنسان، ومركز التفكير الذي تسجل فيه العلوم. ومن الأمور البدهية أن الله تبارك وتعالى لم يمنحه هذه الأدوات إلا من أجل أن يستعملها فيما خلقت له. وأما قوله تعالى في آخر الآية: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . فهو إعلان عن الغاية من منحه أدوات المعرفة، وتفضيله بها على كثير ممن خلق، ولن يتحقق شكر الإنسان لله على ما وهبه من نعم ما لم يتابع سيره في طريق المعرفة والعلم، دون انحراف أو شذوذ؛ لأنه متى استخدم هذه الأدوات، وسار ضمن منهج فطري سليم فإنه لا بد أن يصل إلى معرفة خالقه، ومعرفة ما أنعم به عليه، ومعرفة ما يجب عليه نحوه من شكر. فالمراحل لا بد أن تتابع وفق خطوات البحث العلمي، وبعد ذلك يأتي تحقيق واجب الشكر بالعمل على ما يرضي الله، تطبيقًا لما توصلت إليه المعرفة، التي استخدمت فيها أدواتها.

المقولة الثالثة: تكريم الإنسان بأدوات التعلم ومسؤوليته بالنسبة إليها

المقولة الثالثة: تكريم الإنسان بأدوات التعلم ومسؤوليته بالنسبة إليها ... المقولة الثالثة: تكريم الإنسان بأدوات التعلم ومسئوليته بالنسبة إليها أجل تكريم كرم الله به بني آدم هو أنه سبحانه منحهم أدوات التعلم والتعرف على حقائق الأمور، وصفات الأشياء وخصائصها، وذلك ليتابعوا في حياتهم بحثهم العلمي السليم، وليكتشفوا أسرار هذا الكون الدالة على عظمة خالقه، حتى يصلوا إلى معرفة عظيم صفات الله، وجليل حكمته، ومعرفة ما يجب عليهم نحوه من طاعة وعبادة وشكر، وحتى يحسنوا الانتفاع مما بث الله لهم في هذا الكون من قوى وخيرات، كما أذن لهم، دون إفساد في الأرض، أو إضرار بالنفس أو أذى، أو ظلم وعدوان.

أما الذين يعطلون أدوات المعرفة التي وهبهم الله إياها، أو يستخدمونها في حدود ظواهر الحياة الدنيا فقط، ثم لا ينتقلون من ذلك إلى معرفة خالقهم ورازقهم ومفيض النعم الظاهرة والباطنة عليهم، ولا يؤمنون به، ولا يعبدونه، ولا يشكرونه، فأحر بهم أن يقال عنهم صم وبكم وعمي فهم لا يعقلون، وذلك لأنهم قد عطلوا هذه الأدوات التي منحهم الله إياها عما خلقت من أجله، فهم وفاقدوها سواء، وأولئك شر الدواب عند الله، قال تعالى في سورة "الأنفال: 8 مصحف/ 88 نزول": {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} . وأولئك هم المحكوم عليهم بالعذاب الدائم في جهنم، قال تعالى في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} . وإنما كانوا أضل من الأنعام لأن لديهم أدوات المعرفة، فعطلوها عما حلقت من أجله، أما الأنعام فإنها لم تمنح الأداة الكبرى للمعرفة التي يكون بها التفكير والفهم والعقل، لذلك فهي غير مسئولة عن شيء ليس لديها أداته. ولما وضع الله الإنسان المكلف موضع المسئولية عن كل تصرف من تصرفاته الإرادية نبه على أن المناط الأول للمسئولية هي أدوات المعرفة التي لديه، وأن اتباعه، ما ليس له به علم يُعرض هذه الأدوات للسؤال بين يدي الله، ولمناقشة الحساب، قال الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/50 نزول": {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} . أي: لا تتبع أيها الإنسان في أي أمر من أمور حياتك ما ليس لك به علم، إن لديك من أدوات المعرفة ما تستطيع به التبصر في الأمور، فإذا اتبعت ما ليس

لك به علم فقد عطلت أدوات المعرفة التي لديك، لذلك فلا بد أن تكون هذه الأدوات مسئولة عن تأدية وظائفها الفطرية، أي: لا بد أن تكون أنت المسئول أيها الإنسان؛ لأن هذه الأدوات جزء من كيانك. فيقال للسمع: ألم تأتك أنباء المرسلين؟ ألم تسمع كلام الله؟ ألم ترشدك النصائح والنذر؟ فكيف اتبعت ما ليس لك به علم من وساوس الشياطين، ويقال له نحو ذلك في أمور الدنيا. ويقال للبصر: ألم تشاهد آيات الله في خلق الإنسان؟ وآياته في الأرض؟ وآياته في السماء؟ فكيف اتبعت ما ليس لك به علم من مغربات الحياة الدنيا؟ ويقال له نحو ذلك في أمور الدنيا. ويقال للفؤاد: ألم تستنتج من كل هذه الواردات التي وردت إليك عن طريق السمع والبصر وسائر الحواس من دلائل وجود الله وقدرته وعظمته وحكمته وعدله ما يكفيك للإيمان به ومراقبته، والقيام بواجب شكره، وإتباع رسله، والالتزام بشريعته التي أنزلها لعباده؟ فكيف اتبعت ما ليس لك به علم من ضلالات الأهواء؟ ويقال له نحو ذلك في أمور الدنيا التي أهملها فلم يبحث فيها على مقدار استطاعته، ليكتشف خصائص الأشياء وصفاتها، وكوامن طاقاتها، بغية الانتفاع بها في خيره وخير الإنسانية جمعاء، وكان جزاؤه في الدنيا حرمانه من خيراتها. وهكذا وقفت نصوص الشريعة الإسلامية موقف التحريض الشديد على المعرفة، وإلقاء كامل المسئولية على الإنسان إذا هو اتبع ما ليس له به علم.

المقولة الرابعة: مكافحة الإسلام التقليد الأعمى

المقولة الرابعة: مكافحة الإسلام التقليد الأعمى لما اعتمدت الحضارة الإسلامية على المعارف الحق واكتسابها عن طريق التعلم والتعليم، بالوسائل والطرق المنطقية السليمة، كان من الطبيعي فيها أن تذم طريقة التقليد الأعمى، وتنفر منها، وتوبخ ملتزميها، وتعلن أن هذه الطريقة هي طريقة الجاهلين، وطريقة الذين لا يعقلون، وأنى لهؤلاء أن يكونوا من المهتدين. وللتقليد في حياة الإنسان قصة ذات وجهين: الوجه الأول: وجه بصير، فيه منفعة للإنسان وخير. الوجه الثاني: وجه أعمى تقوده العصبية المقيتة، أو تسوقه الرعونة الحمقاء. أما البصير منهما فيختصر لصاحبه الزمن، إذ يعمل على امتصاص المعارف والعلوم الحق، التي سبقه إليها الكادحون في قرنه، أو في القرون الأولى، ويعمل على تقليدهم فيما توصلوا إليه من فضائل وخيرات حسان، وذلك بعد تمحيصها، والتبصر فيها، ونقدها نقدًا فكريًّا وتجريبيًّا. ومثلهم في ذلك كمثل تجار الجواهر الذين تتجمع لديهم أكوام مختلفة من كنوز البر والبحر، وهذه الأكوام قد عمل في جمعها واكتشافها ألوف مؤلفة من الغواصين والمنقبين الكادحين، فيضعون هذه الأكوام، ويمنحنونها حبة فحبة، فما وجدوه منها جوهرًا شريفًا حرصوا عليه واشتروه، وما وجدوه منها حسيسًا وضيعًا نفوه ورفضوا وتركوه لصاحبه. فإذا كان التقليد على مثل هذه الصورة فهو تقليد بصير حكيم، وسبيل قريب من سبل جمع المعارف والفضائل والخيرات، ولئن كان هذا النوع من الاقتباس تليدًا في أول طريق البحث فإنه ليس تقليد بعد البحث والنقد والاختبار والتمحيص؛ لأنه التزام بالحق بعد معرفته، سواء كان ملتزمه صاحب ابتكار له أم اكتشاف، أم كان غيره هو المبتكر أو المكتشف له، ولكنه نظر فيه فاستحسنه ووجده حقًّا فالتزمه. وأما الوجه الأعمى للتقليد، فهو إحدى المصائب الكبرى التي تنحرف بها عن الحق معظم المجتمعات الإنسانية، وذلك لأن الإنسان حينما ينشأ في بيئة من البيئات الاجتماعية لا بد أن يكتسب منها عن طريق التقليد معارف ومهارات

وعادات وأخلاقًا كثيرة، ومن هذه المكتسبات ما هو حق، ومنها ما هو باطل، ومنها ما هو صالح، ومنها ما هو فاسد، ومنها ما هو خير ومنها ما هو شر، وبمقتضى نشوئه في هذه البيئة يتكون في نفسه إلف لها مهما كان وضعها؛ إذ يعتبر نفسه جزءًا من هذه البيئة الاجتماعية يتكون لديه بدافع الأنانية الذاتية خلق التعصب لأهله وعشيرته وقومه، وسائر من هم في بيئته، وجميع ما هو في بيئته من مفاهيم وعادات وأخلاق؛ لأنه بتعصبه هذا يحاول أن يدافع عن كيانه الذاتي من وجهة نظره المنحرفة عن منهج التفكير السليم، دون أن يسمح لعقله المتجرد عن مؤثرات البيئة أن يبحث ويناقش، ويميز بين الحق والباطل، والصالح والفاسد، والخير والشر. وقد يفتتن بعض الناشئين بالمظاهر المادية المغرية التي يأتي بها الغزاة الأقوياء، فيتعلقون بهم، مقلدين لهم، في كل ما يجدونهم عليه، ولو كان معظمه ضلالة وشرًّا. فإذا نوقش المقلدون تقليدًا أعمى لتعديل اتجاههم: فإن كانوا من المبهورين بالغزاة قالوا: إننا نجاري الركب الحضاري المتقدم. ولدى التبصر في حقيقة أحوالهم نجدهم يتساقطون وهم عمي في شباك الصيد التي وضعها عدوهم وعدو أمتهم وحضارتهم في طريقهم، ليزيد من تخلفهم وتخلف أمتهم، ولكن في لباس تقدمي، ثم ليستخدمهم أجراء عنده، ويضمهم إلى جنوده المغفلين. وإن كانوا من المقلدين تعصبًا لما كان عليه آباؤهم وقومهم قالوا: إنا وجدنا آباءنا على طريقة وإنا على آثارهم مقتدون. وهذا النوع الأخير من التقليد هو الذي كان عليه الجاهليون لما أشرق عليهم الإسلام بنوره المبين، وهنا وجدنا الإسلام قد وقف صارخًا بشدة وعنف وتبكيت في وجه هؤلاء، قال الله تعالى في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول": {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} . وقال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} . أي: فكيف يقتفون آثار آبائهم دون تبصر بما كانوا عليه؟ أو ليس من المحتمل أن آباءهم كانوا لا يعملون شيئًا، ولا يعقلون شيئًا، ولا يهتدون؟ وهل يجوز للعاقل الذي يملك أدوات المعرفة أن يتبع الجاهلين الضالين.

المقولة الخامسة: تفصيل طرق اكتساب المعارف والعلوم

المقولة الخامسة: تفصيل طرق اكتساب المعارف والعلوم لدى تفصيل طرق اكتساب المعارف والعلوم لا بد لنا من أن نُخصي الطرق التي يسلكها الناس بشكل عام، لنعرف ما هو سليم منها ومقبول، وما هو فاسد ومرفوض. لا بد لنا من معرفة أن الحضارة الإسلامية لم تقبل من الطرق إلا ما كان منها مؤذيًا إلى يقين أو ظن راجح، ولم تقبل في أسس العقائد إلا ما جاء من طريق اليقين، أما ما يسلك مسالك الشكوك والأوهام والتخيلات والتقاليد العمياء فإن الحضارة الإسلامية ترفضه رفضًا باتًّا، ولا تقبل بحال من الأحوال أن يكتسب الناس معارفهم بشيء من ذلك. وبهذه اللمحة الإجمالية يتضح لنا أن الطرق ثلاثة: الطريق الأول: الطريق المنطقي السليم وهو ما يسلك مسالك اليقين الذي لا يقبل احتمال الخطأ. الطريق الثاني: الطريق المقبول بوجه عام، مع ملاحظة أنه قد يحتمل الخطأ، وهو ما يسلك مسالك الظنون الراجحة.

الطريق الثالث: الطريق المزيف المرفوض، وهو ما يسلك مسالك الشكوك والأوهام والتخيلات والتقاليد العمياء، وكل فكرة تعبر إلى فكر الإنسان من هذا الطريق إنما هي فكرة مرفوضة وإن كانت قد تحتمل الصواب توهمًا؛ لأن المعارف والعلوم لا يصح أن نثبتها بمجرد التوهم، أو التخيل، أو الشك، أو التقليد، ما لم تدعم ذلك أدلة تثبتها بيقين، أو بظن راجح على أقل تقدير. وفيما يلي شرح لهذه الطرق: الطريق المنطقي السليم: هو الطريق الذي يوصل إلى علم يقيني في أي أمر من الأمور الحسية أو غير الحسية، من عالم الشهادة أو من عالم الغيب. ولهذا الطريق مسالك أهمها المسالك التالية: الأول: مسلك الإدراك الحسي القاطع الذي يفيد العلم اليقيني. الثاني: مسلك الاستدلال العقلي الذي يفيد العلم اليقيني. الثالث: مسلك الخبر الصادق الذي يفيد العلم اليقيني. وفيما يلي معالجة لهذه المسالك بيان يوضح حقيقتها، ويعرض طائفة من أمثلتها. أ- أما مسلك الإدراك الحسي القاطع، فهو المسلك الذي يعتمد على ما تنقله الحواس الظاهرة والباطنة فينا، من صور الأشياء والمعاني المنبثة في الوجود، إلى ساحة الإدراك الفكري، وبتكرار نقل هذه الصور مع اليقين بسلامة الحواس من الخلل، وشهادة توافق الناس في الإحساس نفسه، تغدو هذه الصور حقائق ثابتة من خزائن المعارف الفكرية لدينا. ومن أمثلة ذلك علمنا بذواتنا، وبالأرض وبالسماء من حولنا، وبما نحسه فيهما من أجسام، وأشكال، وحركات، وسكنات، وألوان، وأصوات، وروائح، وطعوم، وحرارة، وبرودة، وخشونة، وملاسة، وصلابة، ولين، وثقل وخفة، وضغط وانفراج، ونحو ذلك مما نجسه بحواسنا الظاهرة.

ومن أمثلة ذلك أيضًا علمنا بما نحس به من لذة وألم، وانشراح وانقياض، وهو وأمل، واستحسان واستقباح، ومسرة وحزن، وحب وكراهية، وميل ونفور، وفرح وغيظ، ورحمة وشفقة وحنان، أو حقد ورغبة بالانتقام، وتفكر وتذكر وتخيل، ونحو ذلك مما نحسه في داخلنا بحواس باطنية فينا. ومتى وصلت صورة الإدراك الحسي إلى درجة القطع والجزم بما أدركناه دخلت هذه الصورة ضمن الحقائق العلمية التي لدينا، بشرط أن تكون أجهزتنا التي أدركتها سليمة من الخلل، ويشهد بسلامتها أن يتفق جمع من الناس سليمي الحواس على هذه الصورة الحسية نفسها. ب- وأما مسلك الاستدلال العقلي القاطع الذي يفيد العلم اليقيني فهو المسلك الذي يعتمد على العمليات العقلية التحليلية، والتركيبية، والقياسية، والاستنتاجية، مع استفادة العقل في كل ذلك مما نقلته الحواس إليه من صور الأشياء والمعاني المنبثة في الوجود. وبعد عمليات التخليل والتركيب والقياس والاستنتاج القطعية تتبلور النتائج لدى العقل بصورة علم جديد. ولا يقبل في هذا المسلك من مسالك الطريق المنطقي السليم إلا العمليات العقلية القطعية التي لا تحتمل الخطأ. ونستطيع أن نلاحظ أن كثيرًا من علومنا ومعارفنا القطعية إنما اكتسبناها بهذا المسلك العقلي الجازم. ومن أمثلة ذلك استنتاجنا العقلي بأن عدد الألف أكثر من عدد المائة، وأن كل الشيء أكبر من جزئه، وأن الشيء الواحد بالذات لا يمكن أن يكون في مكانين بآن واحد، وأن الشيء الواحد لا يمكن أن يكون موجودًا ومعدومًا بشكل فعلي في وقت واحد، وأن حاصل ضرب عدد بعدد أو طرح عدد من عدد أو قسمة عدد على عدد يساوي كذا. ومن أمثلة ذلك أيضًا كثير مما نستنتجه في حياتنا الدائمة من خلال بعض

الظواهر التي نحسها، كعلمنا بأن طارقًا ما طرق الباب علينا، حينما نسمع حلقة الباب تعطي صوتًا معينًا، وأن سببًا ما قذف الحجر حينما نرى الحجر مر في الفضاء واستقر في فناء الدار، وأن متعمدًا بَيَّت أمرًا ما حينما نرى انفجارًا وقع في مكان محروس لا توجد فيه متفجرات، وتحقق لدينا أنه لا يحتمل أن يكون من سبب آخر. وظاهر أن هذه الاستنتاجات تعتمد على حقائق فكرية لدينا اكتسبناها من اختبارات طويلة الأمد في الحياة، مع فطرة مركوزة فينا، وهي أن المسببات لا بد لها من أسباب قد أثرت فيها. ومن أمثلة ذلك أيضًا القوانين والقواعد الرياضية والهندسية، والقوانين والقواعد المنطقية، والقوانين الفلسفية، والسنن الكونية الثابتة، فهذه القوانين والقواعد والسنن قد تم استنتاجها عن طريق العقل، بعد الملاحظة والاختبار والتجربة الكافية لإثبات الحقائق القطعية. ألسنا نلاحظ أن هذه الاستنتاجات العقلية في حدودها القطعية تفيدنا العلم اليقيني؟ ومن أجل ذلك كان هذا المسلك القاطع من المسالك التي تعتمد عليها الحضارة الإسلامية، وتوجه الناس لاكتساب معارفهم وعلومهم بها. وهنا نلاحظ أن أصول الحضارة الإسلامية تلح على وجوب تتبع الظواهر الحسية بالملاحظة الدقيقة، وبالتجربة والاختبار، والاستقراء الشامل قدر الإمكان، لاستخلاص الحقائق الكامنة وراء الظواهر، واستنتاج القواعد العامة، والمعارف الكلية منها، إضافة إلى المعارف والعلوم الجزئية التي تقدمها لنا ظواهر الأشياء، بشكل مباشر، أو قريب منه. ج- وأما مسلك الخبر الصادق القاطع الذي يفيد العلم اليقيني، فهو المسلك الذي يعتمد على شهادة المخبرين الصادقين الذين يستحيل عقلًا اتفاقهم على الكذب، أو يعتمد على شهادة نبي من الأنبياء المؤيدين من عند الله بالمعجزات الباهرات.

وهنا نلاحظ أنه قد يقوم برهان العقل على أن مخبرًا ما فردًا، كان أم جماعة صادق قطعًا فيما يخبر به، فيمر خبره على مراكز الإدراك، للتأكد من صورة الخبر، وفهم المراد منه، ثم ينتقل مباشرة فيكون علمًا يقينيًَّا. الخبر المتواتر: كلنا نعلم علمًا يقينيًّا بوجود بلاد معينة نائية عنا، وبوجود حيوانات معينة غريبة عن بلادنا، دون أن نرى هذه البلاد، وهذه الحيوانات، ودون أن نستطيع بطريق العقل استنتاج وجودها، وإنما وصلت إلينا الأخبار المتواترة بذلك. وكذلك نعلم علمًا يقينيًّا بقيام الحرب الكونية الأولى ونحن لم نحضر هذا الحرب، ولم نشاهد وقائعها، وإنما علمنا بها عن طريق الأخبار المتواترة. ولو جاءنا مكذب لهذه الحقائق لكذبناه أو استسخفناه بلا أناة؛ لأنه في نظرنا يكابر في إنكار الحقائق المشهود لها بأدلة لا تحتمل الرفض. ومن هذا نرى أن الأخبار المتواترة تفيدنا العلم اليقيني بداهة، والأخبار المتواترة هي الأخبار التي ينقلها جمع من المخبرين يستحيل في العقل اتفاقهم على الكذب، ومن المستقر في نفوسنا أنه لا يمكن أن تتفق على صورة كذبة واحدة كثرة كاثرة من المخبرين اختلفت أحوالهم وتباينت أغراضهم، وهم في حالة لا يجمعهم فيها على الكذب جامع. ولهذا نجد أنفسنا مضطرين عقلًا أن نقبل خبر الذين لا يمكن عقلًا اجتماعهم على الكذب، وأن نعتقد به حقيقة واقعة غير قابلة للشك، وإلا حرمنا أكثر العلوم والمعارف، وحرمنا إدراك أية حقيقة من حقائق التاريخ. خبر الرسول: ولقد ثبت لدينا عقلًا صدق خبر النبي فيما أخبر به عن الله تعالى، من أحكام وتشريعات، وفيما أخبر به من أمور الغيب، وثبت لدينا أيضًا أن خبره

يفيدنا العلم اليقيني قطعًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مشهود له من قبل الله بلسان حال المعجزة التي أجراها الله على يديه أنه صادق فيما أخبر به عن ربه؛ لأنه أخبر عن وحي، وكل ما يأتي به الوحي حق لا شك فيه؛ لأن الله تعالى منزه عن الكذب، ولا يمكن أن يأذن لملك من ملائكته بأن يكذب عليه جل وعلا. وبهذا يتبين لنا أنه يجب عقلًا تصديق الرسول في كل ما أخبر به من أحكام الشريعة، ومن أمور الغيب؛ لأنه يفيد العلم اليقيني، سواء أخبر به في نص آية من كتاب الله أم أخبر به بكلام من عنده، لا فرق في ذلك مطلقًا. فأصحاب الرسول الذين عاصروه ما كانوا يفرقون قط في التسليم بما يبلغه الرسول إليهم من أحكام وغيوب، بين آية قرآنية يرويها وبين حديث يقوله من عنده. وأما بالنسبة إلينا فإذا لم نسمع من الرسول مباشرة بل سمعنا ممن رووا عنه -والذين رووا عنه ليسوا بمعصومين- وجدنا أنفسنا بحاجة إلى أن نفرق بين ما نقل إلينا عن الرسول بطريق متواتر يفيد العلم اليقيني، وبين ما نقل إلينا بطريق غير متواتر لا يفيد العلم اليقيني. وبعد البحث والاستقرار رأينا أن كتاب الله تعالى الذي وصل إلينا بروايات القراء العشرة بكل ما فيه منقول إلينا بطريق التواتر الذي يفيد صدق النقل عن الرسول قطعًا، وهذا يفيدنا العلم اليقيني بأنه كلام الله تعالى قطعًا. وأما أحاديث الرسول صلوات الله عليه فبضعها منقول بالتواتر الذي يفيد العلم اليقيني، وأكثرها منقول بما دونه، لهذا وجب علينا أن نفرق بينها، نظرًا لاحتمال الخطأ أو الكذب، فيما لا يتضمن منها إفادة العلم اليقيني بصدق الخبر، أي: لم ينقل إلينا بالتواتر اللفظي أو المعنوي. المتواتر من الأخبار: ما يرويه جمع عن جمع حتى مصدر الخبر يستحيل عقلًا تواطؤهم على الكذب في كل حلقات سلسلة الإسناد.

وسيأتي إن شاء الله تأييد هذا الكلام عن الأخبار، بالنصوص والشواهد القرآنية عند الكلام عن منهج الإسلام في الاعتماد على المستندات الإخبارية. الطريق المقبول بوجه عام: هو الطريق الذي يفيدنا ظنًّا راجحًا بتحقق ما توصلنا إليه من معارف بسببه، ولا يفيدنا علمًا يقينيًّا مقطوعًا به، بل تظل النتائج قابلة في عقولنا لاحتمال الخطأ ولو كان الاحتمال ضعيفًا. ومسالك هذا الطريق المقبول مشابهة لمسالك الطريق المنطقي السليم، إلا أنها دونها في قوة إثبات الحقائق العلمية، وبما أننا لا نستطيع أن نثبت حقيقة علمية إلا بأدلتها، فإن المدركات الفكرية مهما كانت محببة لنا منوطة بأدلتها قوة وضعفًا، فإذا كان الطريق إليها طريقًا يقينيًّا، والدليل عليها دليلًا قاطعًا كانت حقائق يقينية في عقولنا، وإذا كان الطريق إليها طريقًا ظنيًّا، والدليل عليها دليلًا غير قاطع، لكنه قوي، كانت معارف ظنية مقبولة، إلا أنها تحتمل الخطأ نظرًا إلى دليلها غير القاطع. وقد تكون في واقع حالها من الحقائق الثابتة، إلا أنه ليس في أيدينا دليل على ذلك، وربما تكون أمرًا باطلًا، إلا أن عذرنا في الأخذ بها واعتمادها اعتمادًا غير قطعي، أن دليلها جعلها راجحة على الاحتمالات المضادة لها، ونحن مكلفون عقلًا وشرعًا أن نعمل بالراجح. أما إذا كان الطريق إليها طريقًا ضعيفًا والدليل عليها دليلًا وهميًّا أو تخيليًّا أو تقليديًّا فإنها يجب أن تبقى في حدود الوهميات والتخيليات التي لا دليل عليها، وأن تظل قيد البحث والتتبع ما لم تقم الأدلة اليقينية على رفضها، فإنها عند ذلك يجب أن تنسخ من التوهم والتخيل نسخًا نهائيًّا، وتوضع مع أكوام المقطوع بنفيها. وفي تفصيل مسالك الطريق المقبول الذي يفيدنا الظن الراجح، وتظل النتائج المدلل عليها به عرضة لاحتمال الخطأ، نلاحظ أن أهمها المسالك التالية:

المسلك الأول: مسلك الإدراك الحسي الذي لم يبلغ مبلغ التحقق الكامل، وذلك لنقص بعض شروط الإدراك الحسي التام، ولكنه يغلب على الظن صدقه. كأن تحصل رؤية سريعة لا تسمح بالتحقق الكامل، وكأن تكون الرؤية في ضوء غير كاف للتحقق الكامل، وكأن تكون مع الرؤية زوغان في البصر، إلى غير ذلك من أحوال، لا تستكمل فيها شروط الرؤية التامة. ويقال نظير ذلك في حواس السمع والشم والذوق واللمس، وكذلك في الحواس الباطنة، فقد لا يكون الإنسان في حالة نفسية مستكملة شروط التحقق من إحساساته الوجدانية، فلا يستطيع أن يجزم جزمًا كاملًا بما أدرك منها، ولكنه قد يصل إلى درجة الظن الراجح، وهذا الظن الراجح كاف للعمل، إلا أنه يحتمل النقص ولو بنسبة ضعيفة، وذلك نظرًا إلى أنه قد كان منذ حصول الإدراك عرضة لاحتمال الخطأ. المسلك الثاني: مسلك الاستدلال العقلي الذي لا يبلغ مبلغ التحقق الكامل من النتائج التي تحصلت به، ولكن فيه من القوة ما يفيد غلبة الظن بصحة ما تحصل به، وذلك نظرًا إلى الأدلة والأمارات التي أرشدت العقل إلى هذه النتائج. ومن أمثلة ذلك ما تدل عليه الآثار والكتابات من أحوال الأمم السابقة وما تدل عليه آثار الجريمة التي تشير إلى شخص بعينه، وما تدل عليه ظواهر الأشياء من قوانين تتحكم بها، فإن مثل هذه الأدلة لا توصل العقل إلى درجة اليقين في كل ما تدل عليه، ولكنها قد توصله إلى درجة غلبة الظن. ومن أمثلة ذلك في العلوم استخلاص القواعد الكلية من الاستقراءات الناقصات، والاختبارات والتجارب المحدودة، واستخلاص الأحكام الفقهية من الاستنباطات الاجتهادية، التي هي عرضة لاحتمال الخطأ، فإن مثل هذه الأدلة لا توصل في الغالب إلى درجة اليقين، ولكنها قد توصل إلى درجة غلبة الظن، ونتائج هذا المسلك مقبول في العمل، ما لم يأت ما هو أقوى منها، نظرًا إلى الاستدلال.

المسلك الثالث: مسلك الخبر الذي لا يبلغ مبلغ القطيعة، إلا أن احتمال الصدق فيه أقوى وأرجح من احتمال الكذب، كأن يروي الخبر رجل واحد صادق أو رجلان أو أكثر دون الحد الذي يفيد القطع والجزم بيقين، والخبر من هذا القبيل يفيد غلبة الظن بأنه حق وصدق، إلا أن غلبة الظن هذه لا تنفي احتمال الخطأ أو الكذب في الخبر نفيًا كليًّا، بل تجعله احتمالًا ضعيفًا. ومن أمثلة ذلك شهادة شاهدين عدلين بحق من الحقوق المالية، فإن هذه الشهادة لا تفيد علمًا يقينيًّا قاطعًا بثبوت الحق المشهود به، ولكنها تفيد غلبة الظن، وغلبة الظن كافية لإثبات الحقوق بين الناس. وبهذا البيان رأينا أن مسالك الظنون الراجحة لا توصل الإنسان إلى علم يقيني، وإنما قد توصله إلى ظن راجح. الطريق المزيف المرفوض: وهو الطريق الذي يسلك مسالك الشكوك والأوهام والتخيلات والتقاليد العمياء، وهذا الطريق بكل مسالكه لا يفيد علمًا يقينيًَّا ولا ظنًّا راجحًا، ولكنه طريق يطرح بين يدي العقل فروضًا واحتمالات قابلة للبحث والتتبع وتجميع الأدلة حولها، وللعقل بعد البحث أن يجزم برفضها رفضًا نهائيًّا، أو يحكم بترجيح غيرها عليها، أو يتركها قيد البحث والمتابعة، ولن ترقى هذه الفروض والاحتمالات عن واقعها هذا ما لم تدعمها أدلة من مسالك اليقين، أو أدلة من مسالك الظن الراجح. وكثير من الجهلة بطرق اكتساب المعارف والعلوم يسمحون لعقولهم بأن تتقبل الشكوك والأوهام والتخيلات والتقاليد العمياء، وتدخلها ضمن معارفها وعلومها الثابتة. ولهذا الطريق مسالك مشابهة لمسالك طريقي اليقين والظن الراجح، وأنواع أخرى زائدة عليها تأتي من التوهم والتخيل المحضين، لكنها جميعًا لا تفيد علمًا

ولا معرفة مقبولة، ولو في أدنى حدود القبول، وذلك لأنها لا تحتوي على أدلة مرجحة، فضلًا عن أنها تحتوي على أدلة تفيد العلم اليقيني. ومن أمثلة ذلك الفكرة التي كانت شائعة عند الفلاسفة في تعليل كيفية رؤية الأشياء بالأبصار؛ إذ إنهم كانوا يتوهمون أن الشعاع يتجه من الأبصار إلى الأشياء القابلة للرؤية، فإذا مسها ذلك الشعاع رأتها الأعين، فهذه الفكرة عند الفلاسفة ليس لها مستند من الدليل إلا مجرد التوهم والتخيل وترجيح أحد الاحتمالين المتساويين من دون مرجح، ولما جاء المسلمون صححوا هذه الفكرة بالدليل المرجح، فأثبتوا أن أشعة الأضواء الكونية هي التي تصطدم بالأشياء فتنعكس عنها فتراها الأعين، وجاءت العلوم الحديثة فأيدت ما أثبته المسلمون. ومن أمثلة ذلك أيضًا ما يحدث لي ويحدث لغيري كثيرًا، نكون في محطة من محطات قطارات السكة الحديدية، فنركب أحد القطارات الواقفة، وفي جواره قطار آخر واقف أيضًا، فيسير القطار المجاور فنتوهم أن قطارنا هو الذي مشى، وقد يسير قطارنا فنتوهم أن القطار المجاور لنا هو الذي سار، فالذي يسمح لتوهماته أن تسيطر عليه دون أن يمتحنها بالدليل سيسجل ضمن معارفه الثابتة أوهامًا كثيرة يظنها علومًا، بيد أن المنطق السليم الذي رسم الإسلام لنا منهجه لا يقبل ذلك بحال من الأحوال. وإذا استعرضنا معارف الأمم والشعوب القديمة والحديثة وجدنا فيها خرافات كثيرات، وأوهامًا لا حصر لها، وإذا تتبعنا أصول هذه الخرافات والأوهام وجدنا أن مصدرها مستند إلى توهم أو تخيل أو تزوير من مضلل ذي مصلحة، أو مستند إلى انحراف عن أصل صحيح، أو نحو ذلك، ثم استمرت هذه الخرافات والأوهام في أجيال تلك الأمم والشعوب بعامل التعصب المقيت، والتقليد الأعمى. وأكثر الخرافات والأوهام انتشارًا في الشعوب تلك التي تدعمها نزعات سياسية معينة، سواء ظهرت بثوب معتقدات دينية، أم روايات تاريخية، أم أفكار واتجاهات إلحادية، أم مذاهب اجتماعية أم اقتصادية، وشياطين المصالح الخاصة هم الذين يزينون الأوهام والخرافات للناس، ويلبسونها الشعارات المحببة، بوساوسهم ودسائسهم، وذلك كي يسلموا بها ويعتقدوها، ويندفعوا لتأييدها جنودًا مطيعين، وبتأييدها والاندفاع وراءها ينال شياطين المصالح الخاصة ما يأملون من مال أو سلطان أو شهوات. وحرصًا على سلامة الناس من الزيغ الفكري وضع الإسلام المنهج السليم لاكتساب المعارف والعلوم وحذر تحذيرًا شديدًا من اتباع الأوهام والخرافات، وأمر باجتناب كثير من الظن، وأثبت أن بعض الظن إثم.

المقولة السادسة: نظرات من خلال النصوص الإسلامية حول اكتساب المعارف والعلوم

المقولة السادسة: نظرات من خلال النصوص الإسلامية حول اكتساب المعارف والعلوم لما دفعت أسس الحضارة الإسلامية الناس إلى اكتساب المعارف والعلوم؛ إذ هي من الوسائل الأولى لنباء الحضارة الإسلامية بناء واقعيًّا، ولما حثتهم على سلوك الطرق السليمة للمعرفة، واستخدام مختلف أدوات المعرفة التي وضعها الله بين يدي الإنسان، أخذت بأيديهم في طريق العلم، وأنارت لهم المسالك، وطرحت مبادئها وأسسها وأحكامها للبحث والمناقشة، وفتحت صدرها لكل باحث ينشد الحقيقة، مستفسرًا أو مناقشًا أو معترضًا. وتمشيًا مع هذا المبدأ وجدنا الإسلام حينما يدعو الناس إلى الإيمان بالله وعظيم صفاته، يحثهم على استخدام وسائل المعرفة ليهتدوا إلى هذه الحقيقة الأولى والكبرى من حقائق الدين استنباطًا من الأدلة الكثيرة التي بثها الله في كونه الكبير، ثم أخذ بأيديهم في طريق العلم يناقشهم حول الأسس والأحكام الإسلامية، ويقيم لهم الأدلة، ويضرب لهم الأمثال، ويبين لهم حقائق الأمور، ويعلمهم ما فيه خيرهم، ويهديهم إلى سبل سعادتهم، ويضع لهم أنظمة حياتهم، ويحضهم على استنباط الأحكام من نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلوات الله عليه، ويعلن لهم أن رسالته إنما يعقلها العالمون؛ لأنها مجموعة من الحقائق المشهودة والغيبية والتشريعية، ومجموعة من البيانات التعليمية والتربوية، وكلها

مواد علمية لا تدرك إلا باستخدام أدوات المعرفة، ولذلك كانت النصوص القرآنية زاخرة ببيان أن رسالة الإسلام إنما هي لقوم يعلمون، ولقوم يعقلون، ولقوم يتفكرون، ولقوم يتذكرون، ونحو ذلك. فمن النصوص القرآنية في ذلك النصوص التالية: 1- قول الله تعالى في سورة "الروم: 30 مصحف/ 84 نزول": {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . فالله جل وعلا يفصل الآيات لقوم يعقلونها، ويفهمون دلالتها، ويتبصرون فيها؛ لأنهم في أحوالهم العادية قوم يعقلون الأمور، ويأخذونها عن تبصر وروية. 2- وقول الله تعالى في سورة "العنكبوت: 29 مصحف/ 85 نزول": {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} . أي: فالعالمون هم المقصودون بضرب الأمثال القرآنية؛ لأنهم هم الذين يعقلونها، ويفهمون الغاية منها، أما الذين يعطلون أدوات المعرفة فيهم، ويضعون الأغشية على أسماعهم وأبصارهم وعقولهم، فليسوا جديرين بأن يعقلوها، أو يفهموا الغاية منها، أو يعملوا بهديها إذا هم فهموا معانيها والغاية منها. 3- وقول الله تعالى في سورة "النمل: 27 مصحف/ 48 نزول": {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . لقد ورد هذا النص في معرض قصة الرهط التسعة من ثمود الذين تحالفوا على أن يمكروا بنبيهم صالح عليه السلام، فيفتكوا به وبأهله مستخفين، دون أن يشعر بهم أحد من أقربائه ونصرائه، فدمرهم الله وقومهم أجمعين. وبدهي أن الاعتبار بالأحداث غابرها وحاضرها صفة من صفات العقلاء الذين يستخدمون عقولهم في البحث، وينتهون إلى التبصر بالحقائق العلمية،

ومن الحقائق العلمية سنن الله التي لا تبديل لها في مجرى الأحداث الكونية، وهذا التبصر من أرقى مسالك العلم التي يسلكها العلماء. ونظرًا إلى مكانة البحث العلمي في أسس الحضارة الإسلامية وجدنا القرآن الكريم يحيل الناس في تدبر آياته على الذين يحسنون الفهم والاستنباط من علماء المسلمين، قال الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا} . ويدخل في ذلك أيضًا كل ما يكون مستند العلم فيه الاستنباط والتدبر ومن أجل ذلك ينبغي الرجوع في كل أمر إلى ذوي الاختصاص فيه الذين يحسنون تدبره، واستنباط المعلومات النافعة منه. ونظرًا إلى مكانة الحفظ العلمي أمر القرآن المجيد الذين لا يحفظون المسائل العلمية التاريخية أو غيرها أن يسألوا أهل الذكر الموثوقين بأمانتهم وصدقهم، وأهل الذكر هم العلماء الحافظون الموثوقون، قال الله تعالى في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول": {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . أي: فاسألوا أهل العلم الحافظين أنباء الرسل السابقين، وتبينوا منهم كيف كانت أحوالهم، ويدخل في عموم سؤال أهل الذكر سؤال العلماء الحافظين الموثوقين، عن كل أمر يكون مستند العلم فيه الحفظ والتذكر، وذلك في مختلف مجالات العلوم والأخبار.

تقسيم القرآن نتائج البحث الإنساني إلى مراتب ثلاث: إذ تدفع النصوص الإسلامية الناس إلى استخدام أدوات المعرفة في تحصيل العلوم فإنها لا تسمح بأن يعتمد الباحث عن الحقيقة على الظنون والتكهنات التي لا ترافقها دلائل وأمارات مرجحة. ويقسم القرآن نتائج البحث الإنساني عن الحقائق إلى مراتب ثلاث، وذلك بحسب مستوى الأدلة والأمارات التي أوصلت إلى هذه النتائج. المرتبة العليا: وهي مرتبة اليقين، ويتوصل الباحث إلى هذه المرتبة حينما ترتقي أدلة البحث لديه إلى مرحلة لا يخالطها احتمال كون الحقيقة على خلاف ما أدت إليه أدلة البحث. وفيما يلي طائفة من الشواهد القرآنية: 1- لقد عبر الله على الموت باليقين؛ لأن العلم به عند جميع الناس قد ارتقى حتى انتقى معه أي احتمال آخر، فصار بذلك يقينًا، قال الله تعالى في سورة "الحجر: 15 مصحف/ 45 نزول": {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . أي: حتى يأتيك الموت الذي هو يقين لا تشوبه شائبة تنزله عن هذه المرتبة العليا من مراتب المعرفة، فالموت غاية كل حي في هذه الدنيا. 2- ولما أخبر الله بأن مكذبي الرسل لهم نزل من حميم، وتعذيب شديد بنار جهنم أكد هذا الخبر بأنه حق اليقين؛ لأنه خبر مستند إلى علم الله الحق، الذي لا يخالطه احتمال آخر، فقال الله تعالى في سورة "الواقعة: 56 مصحف/ 46 نزول": {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} . 3- وحينما كشف الله لإبراهيم عليه السلام ملكوت السماوات والأرض، فارتقت لديه أدلة البحث العلمي إلى مرحلة لا يخاطلها احتمال آخر استطاع.

إبراهيم أن يصل إلى مرتبة اليقين، قال الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول": {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} . 4- ولما جاء طير الهدهد يخبر سليمان عليه السلام بأنباء سبأ قال له فيما حكى الله عنه في سورة "النمل: 27 مصحف/ 48 نزول": {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} . وذلك لأن خبره قد كان مستندًا إلى مشاهدة وسماع مباشرين. 5- ولما كانت الأدلة التي يستطيع الإنسان الوصول إليها عن طريق البحث العلمي المتيسر له كافية للوصول به إلى مرتبة اليقين في أركان العقيدة الإسلامية، كانت دعوة الإسلام إلى الإيمان بها دعوة إلى الأخذ باليقين، قال الله تعالى في سورة "الذاريات: 51 مصحف/ 67 نزول": {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} . وقال تعالى في سورة "الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول": {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} . وقال سبحانه في سورة "الجاثية: 45 مصحف/ 65 نزول": {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وقال تعالى في وصف المؤمنين في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} . واليقين هو ما يسمى في مصطلح العلم الحديث: "الحقيقة العلمية" أو "القانون الثابت" أو نحو ذلك. ولا يصل الإنسان السوي إلى اليقين ما لم تكن أدلة البحث العلمي التي استنارت له موصلة إلى درجة من التحقق لا تشوبها شائبة احتمال أن يكون الواقع على خلاف ما أوصله إليه بحثه.

أما حينما تقصر أدلة البحث عن أن تصل بالإنسان إلى هذه المرتبة فإن نتيجة بحثه لا تسمى يقينًا. المرتبة الوسطى: ومن دون المرتبة العليا التي هي مرتبة اليقين تتدرج الظنون بحسب قوتها وضعفها، وبعض هذه الظنون -وهي الظنون الراجحة- يصح الاعتماد عليها عقلًا وشرعًا، في كثير من الأمور، فيصح الاعتماد عليها في تسيير أعمال الحياة، وفي اكتساب الرزق، وفي تحصيل النظريات العلمية ذات الآثار العملية، وفي أساليب التربية والتعليم، وفي استنباط الأحكام الشرعية، وفي الحكم والقضاء، والتبرئة والإدانة؛ لأنه لا سبيل إلى اليقين التام في كل مسألة، وإلا تعطلت أمور الحياة. وقد توسع الإسلام فسمى الظنون الراجحة نوعًا من العلم، نظرًا إلى الضرورة الملحة في حياة الناس، الداعية إلى الاعتماد عليها، والاكتفاء بها في كثير من الأمور. ويشهد لهذا قول الله تبارك وتعالى في سورة "الممتحنة: 60 مصحف/ 91 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . فقد جعل الله من العلم غلبة الظن التي تحصل بامتحان هؤلاء المهاجرات، والتي ترجح أنهن مؤمنات، فقال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} مع أنه لا سبيل إلى اليقين في ذلك؛ لأن حقيقة الإيمان كامنة في القلوب لا يعلمها إلا الله، ولذلك قال تعالى في الآية: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِن} . والدلائل التي تدل على الإيمان بالنسبة إلى الناس لا تعدو أن تكون ظواهر مرجحة، وقد يكون المكنون في القلوب

على خلاف ذلك، ومع هذا فقد جعل الله نتائج هذا الامتحان التي لا تصل إلى مرتبة اليقين، وإنما تصل إلى مرتبة الظن الراجح نوعًا من العلم، الذي يصح الاعتماد عليه، والاستفادة منه. وهذه هي المرتبة الثانية من نتائج مراتب البحث العلمي، ولهذه المرتبة درجات، يشترط لأنواع من قضايا الحياة أعلاها، ويُكتفى في بعضها بأوسطها، ويُكتفى في بعضها الآخر بأدناها، وقد توسع الإسلام كما رأينا فسماها نوعًا من العلم، لتعذر الوصول إلى اليقين في كل مسألة. ونستطيع أن نقول: إن معظم "النظريات" التي تقررها العلوم المادية القديمة والحديثة لا تتجاوز دائرة هذه المرتبة. فمما يشترط له الدرجات العليا من الظن الراجح الإتهام بالزنا، فإنه يشترط لإثباته قضاء أن يشهد به أربعة شهداء، مع أن رجحان الظن يتم بشهادة شاهدين عدلين، أو شاهد واحد، ولكن الإسلام أراد الاحتياط في هذا الأمر، صيانة لأعراض الناس من الفضيحة، ولكراماتهم من الإهانة، ولأجسامهم من الحد. وفيما يلي طائفة من النصوص القرآنية التي جاء الظن فيها، وهو من درجات هذه المرتبة الوسطى المقبولة، نظرًا إلى أنه من الظنون الراجحة: 1- قول الله تعالى في معرض الحديث عن داود عليه السلام في سورة "ص: 38 مصحف/ 38 نزول": {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} . فقد كان ظن داود ظنًّا راجحًا مقبولًا، اعتمد فيه على دلائل قوية. 2- وقول الله تعالى في سورة "القيامة: 75 مصحف/ 31 نزول": {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} .

فظن الموت عند وصول الروح إلى التراقي ظن راجح، مع احتمال عودتها بقدرة الله، واستمرار الحياة، ولكنه احتمال مرجوح. 3- وقول الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . فظنهما أنهما سقيمان حدود الله يجب أن يكون ظنًّا راجحًا مقبولًا، وهو الذي بنى عليه الشارع حكم إباحة تراجع الزوجين إلى الارتباط بعقد الزوجية مرة أخرى، بعد أن انفصلا عن بعضهما انفصالا أفضى إلى وجوب إجراء تجربة زوجية أخرى للمرأة. المرتبة الدنيا: ثم إن الإسلام نظر إلى الظنون المختلفة التي لا تصل إلى مرتبة الرجحان فجعلها في المرتبة الثالثة، وهي المرتبة الدنيا، ورفض الاعتماد عليها، إلا أنه سمح بأن توضع موضع الاختبار والتجربة، والدراسة ومتابعة البحث، وأن تكون عاملًا من عوامل اليقظة والتوجس والاحتياط في الأمور، أو عاملًا من عوامل التفاؤل بالخير، لشحذ الهمم، وتحريض الطاقات على العمل، وتدخل في هذا أمور الفراسة، والإمساك بخيوط الشبهات، بغية العثور على مكامن الخطر، ووسائل الإدانة بالجرائم. ولهذه المرتبة درجات تبدأ بالظن الخفيف فالشديد، فالأشد، حتى يصل الظن إلى إشارة النصف، ومتى تجاوزها ودخل في منطقة الرجحان دخل في درجات المرتبة الوسطى المقبولة. وعلى هذا يحمل مثل قول الله تعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول":

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} . وقد اصطلح علماء المسلمين على تسمية الظنون المزجوحة "وهمًا" تمييزًا بينها وبين الظنون الراجحة، وعلى تسمية الظنون المتكافئة في قضية واحدة "شكًّا" وفي العلوم الحديثة يسمى هذا النوع من الظنون "فرضيات" سواء كانت مرجوحة أم متكافئة. ولما كانت أنواع الظنون تتردد بين درجات المرتبة الثالثة غير المقبولة لاكتساب المعارف والعلوم، وبين درجات المرتبة الثانية المقبولة، كان من النصوص الإسلامية نصوص تورد الظن باعتباره داخلًا في درجات المرتبة الثالثة المرفوضة، ونصوص أخرى تورد الظن باعتباره داخلًا في درجات المرتبة الثالثة المقبولة، ويفصح عن ذلك قول الله تعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} . فهذا النص القرآني يأمر باجتناب كثير من الظن، ولا يأمر باجتناب الظن، إشارة إلى أن من الظنون ظنونًا راجحة مقبولة في كثير من شئون الحياة، كشئون التجارة والصناعة وغيرها، وكالأخبار التاريخية والعلمية وغيرها، وكالأقضية والتصرفات السياسية والإدارية، وكاستنباط الأحكام الفقهية الشرعية وغيرها. ولكن الظنون الراجحة في حياة الناس أقل نسبة من الظنون الأخرى المرجوحة، ومن أجل ذلك قال الله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} ولم يقل: اجتنبوا كل الظن، وقال: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم} ولم يقل: إن كل الظن إثم. فمن النصوص التي جاء فيها الظن وهو من درجات المرتبة الثالثة

المرفوضة في ميادين العلم والمعرفة قول الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول" حكاية لقول فرعون لموسى. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} . فظن فرعون ظن مرفوض لأنه من باب التوهم الذي لا رجحان معه. ويقابله تمامًا ظن موسى بفرعون إذا كان ظنًّا راجحًا، وذلك إذا قال موسى لفرعون كما حكاه الله في الآية التالية من السورة نفسها: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} . أي: مهلكًا، فقد كان ظن موسى بفرعون ظنًّا راجحًا لأنه اعتمد فيه على دلائل سنن الله الدائمة، أو على أمارات أُوحي إليه بها، وقد حقق الله ظن موسى فيما بعد بإهلاك فرعون. ومن أمثلة الظنون المرفوضة في منهج البحث العلمي الذي رسمه الإسلام للناس ظنون أكثر أهل الأرض، قال الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول": {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} . وذلك لأن أكثر الناس يتأثرون بأوهامهم، ويندفعون وراءها كأنها حقائق، ويتلاعب الخراصون الكذابون بعقولهم ليسخروهم في تحقيق مطامع أنفسهم في المال أو في السلطان أو في الشهوات. وشواهد هذه الحقيقة كثيرة في المجموعات البشرية، فكم من وهم باطل ساق جماهير كثيرة من الناس إلى التهلكة، وإلى شر مستطير، ويتخلى كل واحد

منهم عن تدبر الأمر بنفسه، والتفكر فيه اعتمادًا على رأي الكثرة المندفعة، ولدى التمحيص الدقيق، والبحث المستقصي، يتبين أن الفكرة ناشئة في أساسها عن وهم باطل سيطر على طائفة قليلة، فسرى وباؤه إلى الجماهير المأخذوة بعاطفة من العواطف، أو انفعال من الانفعالات، أو يتبين أن أصل الفكرة من وضع كذاب مضلل له غاية خبيثة، لا تتحقق إلا بسوق جماهير الناس في طريق معين. ومن الأمثلة أيضًا تعلل المشركين بمشيئة الله للإيهام بأن ما هم عليه من شرك، وحكم بغير ما أنزل الله حق، فهم بين الكذب المختلق والظن المرجوح الذي لا دليل يدعمه، قال الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول": {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} . أي: تكذبون وتتوهمون. فقد جعل الله سبحانه مقالة المشركين: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} كذبًا على الحقيقة، ومن أجل ذلك. قال الله سبحانه عقبها: {ذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} . ثم أمر الله الرسول بأن يطالبهم بالدليل على ما يفترون على الله فقال له: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} . أي: فأنتم إما متوهمون أو تكذبون على الله، وذلك لأنهم يقصدون من قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} أن إشراكهم إنما كان بمشيئة الله ورضاه، ومن أجل ذلك جعلهم الله كذابين في هذه المقالة؛ إذ لا دليل عليها من العقل، ولا دليل عليها من الشرع. والأمثلة القرآنية على الظنون الضعيفة المرفوضة كثيرة، ونسبتها أكثر من نسبة النصوص التي جاءت عبارة الظن فيها دالة على معنى الرجحان.

المقولة السابعة: منهج الإسلام في الإعتماد على المستندات الإخبارية

المقولة السابعة: منهج الإسلام في الاعتماد على المستندات الإخبارية لما كان الخبر الصادق طريقًا من طرق المعرفة، وقاعدة إنسانية لا مندوحة عن الاعتماد عليها في الحياة الاجتماعية، للتعرف على كثير من الحقائق التي لا يمكن لكل فرد أن يباشر معرفتها بنفسه عن طريق الحسن، أو عن طريق الاستدلال العقلي، فقد اعتمدت الشرائع الربانية عليه اعتمادًا كليًّا، في نقل العلوم الربانية إلى الناس، وتبليغهم الأحكام والتكاليف الإلهية، وغير ذلك، كما وجهت للاعتماد عليه في تحصيل كثير من العلوم التي توصل إليها العلماء بمسالكهم العلمية الصحيحة، وأمرت بسؤال أهل الذكر. ولكن الإسلام وضع منهجًا سليمًا للحكم بسلامة الأخبار وصحتها، والقطع بأنها حق وصدق، أو الحكم بأرجحية صدق الخبر، أو الحكم بضعفه، أو عدم صلاحيته للاعتماد عليه. ثم أوضح الإسلام ما يجب اتخاذه من الاحتياطات بالنسبة إلى بعض الموضوعات التي تتضمنها الأخبار، فحدد الشروط التي يجب توافرها فيها، حتى تكون الأخبار صالحة لبناء الأحكام القضائية أو غيرها عليها. الخبر المقطوع بصدقه: أما الخبر المقطوع بصدقه، والذي لا يخالطه احتمال الخطأ أو الكذب فقد أوضح الإسلام أنه لا بد أن يأتي عن أحد مسلكين كما سق: المسلك الأول: أن يرد الخبر على لسان نبي من أنبياء الله تعالى، وقد

أحاط الله الأنبياء الذين يبلغون عنه بوضع يجعل التسليم بنقولهم وأخبارهم عن الله قضية مقطوعًا بها، عند كل المنصفين من العقلاء، ذلك بسبب ما ضانهم به من العصمة عن الكذب وسائر المعاصي، وبسبب ما أيدهم به من المعجزات الباهرات التي لا يأتي بها أو بمثلها إلا رسول مؤيد من عند الله، ومصدق من قبيله بلسان حال المعجزات. وفيما يلي طائفة من الأدلة القرآنية تبين موقف الإسلام من الأخبار التي تبلغها الرسل عليهم الصلاة والسلام، وتبين الأصل العقلي الذي يلزم العقلاء بالتسليم بها: 1- جاء في قصة صالح عليه السلام مع قومه ثمود كما أوردها القرآن الكريم في سورة "الشعراء: 26 مصحف/ 47 نزول" قالت ثمود خطابًا لصالح: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . وأمام هذا المطلب الحق الذي يدل على أنهم يطالبونه بالبينة على أنه صادق فيها يبلغ عن ربه استجاب الله لمطلبهم، فأرسل لهم معجزة الناقة، وتوعدهم بالعذاب، إذا هم كذبوا بعد هذا التأييد من الله بها، قال لهم صالح فيما حكاه الله عنه في السورة نفسها: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . ونستطيع أن نستخلص من هذه القصة أصلين: الأصل الأول: أن خبر الرسول متى ثبتت رسالته أمر مقطوع بصدقه. الأصل الثاني: أن المعجزة التي يجريها الله على يد الرسول دليل قاطع على صدق رسالته.

2- وضع الله المشركين الذين يدعون من دون الله في مأزق خرج من المناقشة الحرة المنطقية، وفسح لهم مجال إقامة الدليل على ما يدعون بالخبر الصادق، إذا هم عجزوا عن إقامة الدليل على ما يدعون عن طريق المشاهدة الحسية، أو عن طريق الاستبدال العقلي، وذلك في قوله تعالى يُعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة "الأحقاف: 46 مصحف/ 66 نزول": {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . ألسنا نلاحظ أن هذه الآية العظيمة قد علمت الرسول كيفية مطالبة المشركين بالدليل الحسي، أو الدليل العقلي، على إثبات هؤلاء الشركاء الذين يدعون من دون الله، وذلك بقوله: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} . أي: أثبتوا لي بدليل المشاهدة الحسية أو بدليل الاستدلال العقلي من خلال الظواهر الأرضية ذلك الشيء الذي خلقوه من الأرض، حتى استحقوا بخلقه أن تجعلوهم شركاء لله. ثم علمته كيفية مطالبتهم بدليل الخبر الصادق على إثبات شركائهم الذين يدعون من دون الله، بقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . أي: فإن عجزتم عن إقامة الدليل الحسي أو العقلي، وأدعيتم شركتهم في السماوات وهي بعيدة عن مجال حسكم واستنتاجاتكم، فإننا نقبل منكم دليل الخير الصادق عن كتاب سماوي منزل من قبل القرآن، ونقبل منكم دليل الخير الصادق عن بقية من علم مأثور عن رسول من رسل الله، الذين تلقوا علومهم عن الوحي. 3- أخذ اليهود يعترضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكله لحوم الإبل وشربه ألبانها، مع أنه ينادي بأنه على دين إبراهيم عليه السلام، فقال لهم

الرسول صلوات الله عليه: "كان ذلك حلالًا لإبراهيم فنحن نحله"، فقال اليهود: إنها لم تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام. فنزلت الآيات من سورة "آل عمران" تعلم الرسول كيفية مناقشتهم، ومطالبتهم بالخبر الصادق على ما يزعمون، وبإحضار التوراة وتلاوتها إن كانوا صادقين، قال الله تعالى في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول". {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. فجاءت عصابة من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضًا شديدًا، فطال سقمه منه، فنذر لله نذرًا، لئن عافاه من سقمه ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها "؟. فقالوا: اللهم نعم. وهكذا أقام عليهم الدليل بالخبر الصادق عن طريق الوحي، وطالبهم بمعارضة ذلك إن استطاعوا بدليل الخبر الصادق المؤيد بنصوص التوراة، إن كانوا صادقين. المسلك الثاني: أن يخبر بالخبر جمع من الناس يستحيل في مقياس العقل السليم اتفاقهم على الكذب فيه. ويكون ذلك حينما يروي الخبر جمع غفير من الناس تباينت أعراضهم، واقترفت مصالحهم، وكانوا بحيث لا يجمعهم على الكذب جامع.

ويلحق به ما تواردت عليه مجموعة من شواهد النقول الإخبارية، ودلائل الآثار الأرضية والكتابية، وبعض الاستدلالات والاستنتاجات العقلية، حتى يصير التسليم بمضمون الخبر أمرًا حتميًّا لا شك فيه لدى العقلاء المنصفين وحتى يصل في نفوسهم إلى درجة اليقين، كخبر الجمع من الناس الذين يستحيل عقلًا تواطؤهم على الكذب. وهذا المسلك أصل مقطوع به شرعًا وعقلًا، وبه حفظ الله القرآن الكريم من التحريف والتبديل؛ إذ تكفل بحفظه كما قال تعالى في سورة "الحجر: 15 مصحف/ 54 نزول": {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وأما الاعتماد على دلائل الآثار فيمكن الاستئناس له بقول الله تعالى في سورة "الروم: 30 مصحف/ 84 نزول": {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . وأما الاعتماد على الخطوط والكتابات فنستطيع الاستدلال له بأمر القرآن لنا بأن نكتب عقود مدايناتنا لتثبيت الحقوق لأربابها، وذلك في قول الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} ولو لم يكن في الكتابة إثبات للحقوق لما كان في الأمر بها فائدة. ويدخل في الكتابات أو يلحق بها المخططات والمصورات الهندسية، وغيرها مما يتم به تثبيت الوقائع، وتوثيقها والتحقق منها، وكذلك ما

استحدث في العصور الحديثة من تسجيل الوقائع والأحداث بصورها وأصواتها عن طريق الآلات المصورة، والآلات المسجلة للصوت، وكل ذلك يجب أن يكون مصحوبًا بالتبصر العقلي، وبالتمحيص الكامل، والاحتياط التام، حتى يشهد العقل بنفي احتمال التزوير في الوثائق، والخطأ أو الكذب في الأخبار. الخبر الذي يترجح صدقه: وأما الخبر الذي يترجح في العقول صدقه فقد وضع الإسلام له منهجًا واضحًا؛ إذ نلاحظ أن الإسلام قد أقر الناس على أخبارهم فيما بينهم، شريطة توافر دلائل ترجيح الصدق فيها، ووضع لذلك منهجًا سديدًا لتحري الصدق في الأخبار، ونفي ما كان منها كذبًا واضحًا، أو مشكوكًا فيه، أو مشتبهًا بكذبه، واشترط للحكم بأرجحية صدق الخبر أن يتوافر في كل راوٍ له ثلاثة شروط: الشرط الأول: العدالة، وهي ألا يعهد على الراوي الكذب أو المعصية الظاهرة. الشرط الثاني: الأهلية الفكرية لتحمل الأخبار ونقلها كما حملت دون نسيان أو اضطراب. الشرط الثالث: اتصال الراوي بمصدر الخبر أو بمن رواه له. وهذه الشروط تستدعي الملاحظة الدقيقة لرواة الأخبار، والنظر في أحوالهم الفكرية والخلقية والسلوكية، للتأكد من أن أخبارهم صالحة للقبول وتستدعي النظر في صلتهم بمصادر الخبر أو بمن رواه لهم، وهنا تتسع مشكلة البحث العملي في تراجم الرجال، وتتبع أحوالهم، وتمحيصهم، لكشف الموثوقين الذين تقبل أخبارهم، وتمييز الضعفاء والوضاعين, وتحديد درجة كل منهم في القبول أو الرفض، ونحو ذلك من بحوث.

وقد تضافرت جهود علماء المسلمين للاطلاع بهذه المهمة الكبيرة على أحسن وجه عرفة التاريخ، فحرروا ما نقل عن الرسول صلوات الله عليه تحريرًا لم يسبقوا إلى مثله، لذلك فلا نجد لدى آية أمة من الأمم ولا شعب من الشعوب ذخائر علمية منقولة بالأخبار الصحيحة الموثقة مثلما نجد لدى علماء المسلمين، وذلك بسبب وضوح المنهج الذي اتبعوه في التثبت من صحة الأخبار، أو الحكم بأرجحية صدقها. وقد تكلفت كتب علم مصطلح الحديث النبوي بتحديد هذا المنهج وتحريره وبيانه، وتفصيل مسالكه على أحسن وجه، كما تكفلت كتب تراجم الرجال ببيان أحوالهم وأوضاعهم، ودرجة الثقة برواية كل منهم، والعصر الذي عاش فيه، إلى غير ذلك مما تستدعيه أصول البحث السليم. وفي العصر الحديث وجد العلماء الغربيون أنفسهم مضطرين للاهتداء بهدي هذا العلم، واتباع الأصول الإسلامية المقررة فيه، لتحقيق الأخبار والنقول التاريخية وغيرها، إلا أنهم لا يستطيعون استيفاء الشروط الإسلامية في بحث عدالة الرواة لدى التطبيق العملي؛ لأنه ليس لديهم أي مستند يكشف لهم أحوال رجالهم الغابرين، حتى يرجعوا إليه في تمحيص صادق الأخبار من كاذبها، وصادقي الرجال من كاذبيهم. وما كل خبر يترجح صدقه يصلح في كل موضوع من موضوعات الحياة، بل لا بد من نسب في الأرجحية تتفاوت بحسب نسب أهمية الموضوعات وبحسب النتائج التي تترتب على قبول الأخبار فيها. فما يقبل في رواية خبر تاريخي عادي لا يقبل في إثبات حق أو إدانة بجريمة، وما يقبل في إثبات حق مالي لا يقبل في الاتهام بالزنا، وما يقبل في رواية حديث نبوي لا يقبل في إثبات آية قرآنية. ولنتبين ذلك لا بد لنا من النظر في مراتب الأخبار، وما يشترط منها في كل نوع من أنواع موضوعات الحياة.

مراتب الأخبار بحسب الموضوعات التي تتضمنها: الذي يظهر لنا من الإحصاء الشرعي لمراتب الأخبار بحسب الموضوعات التي تتضمنها أنها تقع في ست مراتب، ولكل من هذه المراتب شروط محددة لقبول الأخبار التي تتضمنها، وهي كما يلي مرتبة من العليا إلى الدنيا: المرتبة الأولى: مرتبة النقل المباشر عن الوحي، وشرطه النبوة المستجمعة لصفتي العصمة والتأييد بالمعجزة، فمن لم يكن كذلك، ونقل عن الوحي مباشرة لم يقبل خبره، وإن كان في حكم الناس صادق الخبر، صحيح الرواية. المرتبة الثانية: مرتبة نقل الأخبار التي بلغها الرسل، المتضمنة إثبات عقيدة من عقائد الدين، أو أصل من أصوله الأولى، أو سورة من سور القرآن، أو آية من آياته، أو نحو ذلك مما نحكم بكفر جاحده. وهذا ينبغي لاعتبار الخبر فيها مضافًا إلى طائفة ما يكفر جاحده، أن تنقل بالتواتر اللفظي أو المعنوي، أو ما هو في قوة التواتر، وذلك لأن موضوعاتها من الموضوعات التي يجب بحسب مركزها من الدين وتكفير جاحدها، أن يتوافر عليها النقل بالتواتر، أو ما هو في قوته، فإذا لم تنقل بالتواتر أو ما هو في قوته مع وجود الدواعي لنقلها به لم يسغ لنا أن نحلها في مركز الأمور التي يكفر منكرها؛ لأن من يحكم عليه بالكفر والردة يحكم عليه بإهدار الدم لزومًا، وذلك لا يجوز إلا بيقين. المرتبة الثالثة: مرتبة الإتهام بالزنا، وهذه المرتبة ينبغي للتثبت من صحة خبر الإتهام فيها أن يتوافر على الشهادة بوقوع الزنا أربعة شهداء، ويشترط في كل منهم أن

يستجمع صفات العدالة، والضبط، وانتفاء التهمة، وفق البيانات الموضحة في كتب الفقه الإسلامي. وقد اشترط الإسلام الشهداء الأربعة لقبول خبر الاتهام بالزنا في القضاء الشرعي نظرًا إلى أهمية موضوع الخبر، ونظرًا إلى أن النفوس فيه قد يتجسم لديها الظن به حتى يصل إلى درجة التحقق دون أدلة مادية، فتشهد به، ونظرًا إلى ما يترتب عليه أيضًا من هدم الأسر، وإقامة الحد الشرعي، والخزي والعار والفضيحة لمن تثبت عليه التهمة، وحرصًا من الإسلام على أن لا تشيع الفاحشة بين المؤمنين. قال الله تعالى في سورة "النور: 24 مصحف/ 102 نزول": {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وقال الله تعالى في سياق حديث الإفك في سورة "النور" أيضًا: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . فقد جعل الله إشاعة الإتهام بالزنا دون إحضار أربعة شهداء عليه كذبًا يوجب إقامة حد القذف. المرتبة الرابعة: مرتبة إثبات الحقوق بين الناس بعضهم على بعض، وتتضمن هذه الحقوق الحقوق المادية، والأدبية، والجنائية، ونحوها. هذه المرتبة ينبغي للتثبت من صحة الخبر فيها أن يشهد بالخبر رجلان ذوا عدل من المسلمين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، ممن يرضى المسلمون من الشهداء، ويشترط في كل شاهد أن تتوافر فيه العدالة، والضبط، وانتفاء التهمة، وفق البيانات الموضحة في كتب الفقه الإسلامي، قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":

{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} . وقال الله تعالى في سورة "الطلاق: 65 مصحف/ 99 نزول نزول": {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} . ويدخل في حدود هذه المرتبة ما يثبت من الحقوق بشاهد ويمين، وما يثبت بأيمان القسامة، ونحو ذلك من أدلة الإثبات الشرعية، وما يقاس عليها في قوة التوثق. المرتبة الخامسة: مرتبة النقول العادية التي تتضمن أخبارًا علمية، أو تاريخية، أو رواية لحديث عن رسول الله صلى الله عيه وسلم يتضمن مواعظ وآدابًا وأحكامًا عملية، أو أخبارًا عن أمور ستحدث في المستقبل، كأشراط الساعة، وأحوال يوم القيامة، ونحو ذلك. وهذه المرتبة يكفي للاعتماد على الخبر فيها أن يرويها راو واحد ذكرًا كان أو أنثى، ويشترط فيه توافر صفتي العدالة والضبط، وتلقي الخبر من مصدره، أو ممن رواه له، وكل ذلك وفق البيانات والشروط الموضحة في علم مصطلح الحديث. وما أكثر الشواهد في النصوص الإسلامية على الاكتفاء بنقل خبر الواحد، في حدود هذه المرتبة، ما لم تقم التهمة على المخبر، بجرح في عدالته أو في أهليته لتحمل الخبر وأدائه، أو في صحة اجتماعه بمن روى عنه الخبر، فإن كان شيء من ذلك احتاج إلى معزز يعزز خبره. المرتبة السادسة: مرتبة النقول والأخبار التي تتناول مصلحة الشخص الذي يرد إليه الخبر،

في أمر من أمور دنياه، دون أن تتضمن هضمًا لحق آخر أو إتهامًا له، وذلك كأن تتضمن مثلًا التحذير من خطر لا ضرر من الاحتياط في الحذر منه، ولو بالظن الضعيف. وهذه المرتبة يكفي فيها انفتاح النفس لقبول صحة الخبر، والاقتناع به، دون النظر في حالة المخبر وصفته؛ لأن موضوعه لا يتطلب أكثر من اتخاذ الاحتياطات والأسباب اللازمة لدفع الخطر، أو الفرار منه. ويمكن أن نستأنس لهذا بما جاء في القرآن الكريم في حكاية فرار موسى عليه السلام من مصر، بعد قتله الرجل من أتباع فرعون، ثقة بخبر الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يخبره بأن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، قال الله تعالى في سورة "القصص: 28 مصحف/ 49 نزول": {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . ويلاحظ أن هذه المرتبة هي التي يعتمد عليها الناس في أكثر أمورهم الشخصية من تجارات وصناعات وزراعات وأمور سياسية وعسكرية وأشباه ذلك. وعلى مقدار تفاوت الناس في دقة ملاحظاتهم ومحاكماتهم لما يعرض لهم من أمور الدنيا ينالهم التوفيق، ويحالفهم النجاح فيها، بالنظر إلى الأسباب الدنيوية الظاهرة. هذه هي الخطوط العريضة لمنهج الإسلام في الاعتماد على الأدلة النقلية الإخبارية، والتثبت من الأخبار، عرضتها مجموعة في نسق فكري متماسك، وأما تفصيلاتها الجزئية، وأمثلتها فموزعة في كتب أصول الفقه الإسلامي، وأصول الحديث، وكتب الفروع الفقهية، وبهذا الجمع يتضح للباحث إشراقة بديعة من سمو المنهج العلمي في الإسلام.

المقولة الثامنة: البحث العلمي والإيمان

المقولة الثامنة: البحث العلمي والإيمان ... المقولة الثامنة: المبحث العلمي والإيمان حينما دعا الإسلام الناس إلى الإيمان بالله وبعظيم صفاته وجههم إلى بلوغه من طريق البحث العلمي، فحثهم على استخدام أدوات المعرفة التي لديهم في النظر والتفكر في دلائل قدرة الله وعلمه وحكمته وعدله وسائر صفاته الدالة على وجوده، وأرشدهم إلى أن هذه الدلائل منبثة في السماء وفي الأرض وفي أنفسهم، وأجل أدوات المعرفة التي لديهم العقل، وأسمى نوافذه إلى الوجود المادي حاسة البصر، ومن أجل ذلك كانت وظيفة العقل الطبيعية النظر والتأمل قال الله تعالى في سورة "ق: 50 مصحف/ 34 نزول": {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} . ففي قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} . إلى آخر الآيات توجيه للنظر الفكري في آيات الله المنبثة في كل ما خلق، في السماء، وفي كيفية بنيانها، وفي الأرض، وفي كيفية مدها، وإلقاء الرواسي فيها، وإنبات النباتات من كل زوج بهيج، ووسيلة النظر الفكري مشاهدة ظواهر هذه الآيات بالنظر الحسي، باعتبار أن البصر أسمى نوافذ العقل إلى الوجود المادي. وقال الله تعالى في سورة "الذاريات: 51 مصحف/ 67 نزول": {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} . وفي هذا النص أيضًا توجيه لما في الأرض وما في الأنفس من آيات دالات على عظيم قدرة الله وعلمه وحكمته وإرادته المطلقة. ولما كانت حاسة البصر أسمى منافذ العقل إلى الوجود المادي الذي يقدم للبصر صور الظواهر، ويدع للعقل مجال التفكر فيما وراء الظواهر، قال الله تعالى عقب هذا التوجيه: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} .

وحين وصى الله الإنسان بوالديه حُسْنًا، قال له بعد ذلك كما جاء في سورة "العنكبوت: 29 مصحف/ 85 نزول": {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} . ويثير الانتباه في هذا النص وجود هذا القيد: {مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} مع أنه ليس لله شريك قطعًا، فهي قضية من بدهيات التوحيد في الإسلام، ولكن الإسلام لا يريد من المسلمين حتى في المسلمات الكبرى في الدين أن يأخذوا قضية من القضايا إلا على أساس علمي. أليس في هذا إثارة للعقل الإنساني أن يبحث بحث التحري العلمي للحقائق مهما كان شأنها، حتى ولو كانت من حقائق الربوبية والإلهية المقطوع بها؟!! إذن فليس المفروض في المسلم أن يقبل الحقائق إلا عن علم بها ومعرفة لها، وبحث عنها وفق أصول المعرفة المنطقية السليمة. وهذا يجعلنا ندرك بحق مبلغ اعتماد الإسلام على أسس العلم والمعرفة في كل أمر من أمور الوجود، حتى في أصول الدين وكبريات العقائد. ومن خلال هذه النصوص ونظائرها التي تشتمل عليها سور القرآن الكريم، وأحاديث الرسول العظيم، نلاحظ مدى دفع الحضارة الإسلامية إلى البحث العلمي، تأملًا في السماء، وتأملًا في الأرض، وتأملًا في أغوار الأنفس، للوصول إلى الإيمان الحق، ولبناء الحضارة الإسلامية، بناء واقعيًّا مجيدًا على أسسها الفكرية الراسخة. ومتتبع القرآن الكريم يجد حشدًا عظيمًا من الآيات التي تلفت نظر العقلاء بشدة إلى التأمل في كل شيء: في خلق السماء، وفي خلق الأرض، وفي اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما، وفيما دخلت فيه يد الصناعة الإنسانية، فاستفادت في صنعه، من سنن الله الدائمة في الكون، وقوانينه التي رتب بمقتضاها طبائع الأشياء، كالفلك التي تجري في البحر، وفي السحاب، وفي المطر، وفي النبات، وفي الرياح، وفي الثمار، وفي الجبال، وفيما بث الله في

الأرض من دابة، وفي الشمس والقمر، والنجوم والاهتداء بها، وفي الألوان واختلافها، وفي علم المواقيت وحساب الزمن، وفي علم جغرافية الأرض وتقسيمها وطرفها وما فيها من كنوز، وفي البحار وما فيها من مستخرجات، وفي آثار الأولين وما فيها من دلالات، إلى غير ذلك من كل ما تتناوله يد البحث العلمي بالدراسة والتأمل، وحول هذه الأشياء تتجمع حشود العلوم الكونية، التي ينتقل الباحثون المنصفون المتتبعون للحقيقة من ظواهرها إلى الإيمان بالله خالقها ومحكم نظامها، والإيمان بعظيم صفاته جل وعلا، كما ينتفعون منها في مجال حياتهم الدنيا. وفيما يلي طائفة من النصوص الإسلامية الكثيرة التي تدفع الناس إلى البحث العلمي الشامل: 1- قول الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . ففي هذا النص من كتاب الله دعوة للذين يعقلون أن يتصبروا في خلق السماء، وفيما حوته من إتقان صنع وعجائب دالة على عظمة قدرة الله وواسع علمه، وجليل حكمته، وأن يتبصروا في النظام المحكم الدقيق، الذي يتعاقب به الليل والنهار على محيط الأرض، وفي الأنظمة الثابتة المحكمة التي تطفو بها الفلك في البحار، وتتخذ لها على الماء مجاري تجري فيها بما ينفع الناس، وأن يتبصروا في ظاهرة نزول الماء من السماء، بإرادة الله وضمن قوانين مادية ومعنوية ثابتة، ثم في ظاهرة حياة الأرض بالنباتات بسبب الماء، بعد أن كانت قفرًا كأنها ميتة، وأن يتبصروا في عالم الحيوان وما فيه من عجائب وآيات، وفي ظاهرة الرياح وتصريفها، وأسرار ذلك، وفي ظاهرة تصريف السحاب المسخر بين السماء والأرض، وما في كل ذلك من آيات وعجائب منطوية على كمال الإتقان ودالة على عظمة متقنها القادر العليم الحكيم.

2- وقول الله تعالى في سورة "فاطر: 35 مصحف/ 43 نزول": {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} . وفي هذا النص من كتاب الله دعوة إلى البحث العلمي في ظاهرة الألوان واختلافها، وهذه الظاهرة تتكرر في الثمرات ذات الألوان المختلفة مع أنها تُسقى بماء واحد، وفي الجبال فمنها جدد بيض وجدد حمر مع اختلاف نسب ألوان بياضها وألوان حمرتها، ومنها سود شديدة السواد، ثم تتكرر هذه الظاهرة في الناس، وفي كل ما يدب على الأرض بشكل عام، وفي الأنعام بشكل خاص؛ إذ هي تحت مجال ملاحظة الناس باستمرار، نظرًا إلى عنايتهم بها، في تربيتها والانتفاع منها، ففي كل هذه الأنواع ألوان مختلفة، واختلاف ألوانها من عجائب صنع الله الدالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته، وبقليل من التأمل نلاحظ أن جذر النبتة واحد، وأن التغذية واحدة، إلا أن للعود لونًا، وللورق لونًا، وللزهر لونًا، وللثمر لونًا، وكذلك طعام الإنسان واحد إلا أن للجلد لونًا، وللشعر لونًا آخر، وللعظام لونًا، وللحم لونًا، وللدهن لونًا، ولكل من بياض العين وسوادها لونًا خاصًّا به، ولا تطغى مقادير بعض كل أولئك على بعض، وكل ذي لون يأتيه نصيبه بمقدار، ومثل ذلك الدواب والأنعام. وإن بحوثًا علمية في هذا المجال لتكشف للعلماء الباحثين عجائب وغرائب وآيات تشعرهم بعظمة الله القادر على كل شيء، فتغشاهم الخشية منه، بعد أن تهيمن عليهم مشاعر الإيمان به، والخشية من الله مزيج عجيب من الخوف والحب والإجلال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . ولعلماء الفيزياء جولات في بحوث الألوان لم يستكملوا بعد معرفة أسبابها وخصائصها وسائر ما يتعلق بها، وأن أمامهم طريقًا طويلًا من طرق البحث العلمي، يدعوهم الإسلام إلى سلوكه.

3- وقوله تعالى في سورة "يونس: 10 مصحف/ 51 نزول": {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . 4- وقوله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول": {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} . وفي هذين النصين من كتاب الله دعوة إلى البحث العلمي في مصدري الضياء والنور العظيمين بالنسبة إلى كوكبنا الأرضي، وما يترتب عليهما في حالتي إشراقهما على الأرض، واختفائهما عنها من فوائد جليلة للناس. فبين ظهور الشمس واختفائها، وظهور القمر واختفائه وتزايده في مرأى العيون منذ مطلع الشهر حتى يتكامل في أوسطه، ثم تناقصه في مرأى العيون أيضًا حتى درجة المحو في آخر الشهر، تتم فوائد عظيمة للناس. وبين كل ذلك يتم تعاقب الليل والنهار، هذا مظلم للسكون والراحة، وهذا مبصر للسعي والعمل، وابتغاء المستطاع كسبه من فضل الله. وفي كل هذه المتغيرات يستطيع الناس تقسيم أزمانهم، وحساب ما يمر عليهم من ساعات وأيام وشهور وأعوام وقرون. ونلاحظ في هذين النصين أيضًا دعوة إلى معرفة حساب الزمن، وتحديد السنين، لتثبيت ما حصل فيها من أمور وأحداث، ففي ذلك من التحقيقات العلمية التاريخية المفيدة الشيء الكثير، كما يرتبط به كثير من الحقوق المادية والأدبية والسياسية بين الناس، ومن الأمثلة التطبيقية لذلك الواردة في القرآن الكريم، ما جاء في قصة أهل الكهف إذ قال الله تعالى في سورة "الكهف: 18 مصحف/ 69 نزول": {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} .

ففي هذا النص تسجيل لحساب السنين التي لبثها أهل الكهف، وذلك بحساب كل من التوقيتين الشمسي والقمري، فبالتوقيت الشمسي ثلاثمائة سنة، وهي بالتوقيت القمري زائدة تسعًا. 5- وقوله الله تعالى في سورة "الحج: 22 مصحف/ 103 نزول": {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . وفي هذا النص القرآني العظيم دعوة إلى البحث العلمي التاريخي في الآثار، لتبين ما تحمله من دلالات تدل على الأمم التي خلفتها، وما تتضمنه من عظات للأجيال المتلاحقة، يعتبر بها أولو الأبصار؛ إذ هي مظاهر لسنن الله الدائمة التي لا تبديل لها ولا تحويل. وأعمال البحث العلمي في هذا المجال تتضمن الدعوة إلى التنقيب عن القرى البائدة التي أهلكها الله بسبب ذنوبها، فهي خاوية على عروشها، وتتضمن الدعوة إلى التنقيب عن الآبار المعطلة والقصور المشيدة التي خلفتها القرون الأولى، والبحث عن آثار حضارتها، وأسباب انهيارها ودمارها، للاتعاظ والاعتبار بكل ذلك، والانتفاع بما توصل إليه السابقون من مكتشفات علمية أو عملية. فهل بعد دعوة الإسلام إلى البحث العلمي على هذه الصفة من الشمول الواسع شبهة مقبولة، يستطيع أن يثيرها عدو للإسلام، زاعمًا بأن الإسلام لا يساير دلائل البحث العلمي. والآن نستطيع أن نقول: إن من بدهيات أسس الفكر الإسلامي وأسس الحضارة الإسلامية أنها أسس قواعدها الحق، وطريقها العلم، وغايتها الارتقاء والتقدم وتحقيق الخير، ونيل السعادة العاجلة والآجلة.

المقولة التاسعة: مكانة العلماء في الإسلام

المقولة التاسعة: مكانة العلماء في الإسلام تأكيدًا لمجد العلم الذي حث عليه الإسلام واعتبره الركن الأول في حياة المسلم فقد أولى الإسلام العلماء عناية خاصة، فاصطفاهم بمجد لم يمنحه لغيرهم، حتى جعلهم الله شهداء في الأرض على إلهيته، ووحدانيته، وعزته وحكمته، وقيامه بالقسط، ورفعهم في درجات الفضل، كل على مقدار علمه ومعرفته وتطبيقه لما يعلم، وجعلهم وحدهم هم الذين يخشونه حق خشيته؛ لأنهم هم العالمون بعظيم قدرته وعدله وسائر صفاته العظمى وأسمائه الحسنى. فمن النصوص القرآنية التي مجد الله بها العلماء النصوص التالية: 1- قول الله تعالى في سورة "المجادلة: 58 مصحف/ 105 نزول": {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . ولم يقتصر رفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم على درجة واحدة يمتازون بها عن سائر الناس، وإنما جعل ذلك منطلقًا في درجات صاعدات حتى تتناسب مع مقادير العلم الذي يكتسبه كل فريق منهم، فيحتل الدرجة المكافئة لمستواه من العلم والمعرفة. 2- وقول الله تعالى في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وفي هذه الآية جعل الله العلماء في الأرض شهداء على إلهيته ووحدانيته، وعلى قيامه فيما خلق بالقسط، وعلى أنه هو وحده العزيز القادر الذي لا يغلب والحكيم في كل شيء، ولا يكون حكيمًا ما لم يكن عليمًا، وفي جعلهم شهداء على هذه الحقائق العظمى دلالة على أن الباحثين العلميين المنصفين لا بد أن تتجلى لهم في طرق بحثهم براهين هذه الحقائق التي تجعلهم يشهدون بها شهادة الاستدلال العقلي المكافئ للمشاهدات الحسية التي تسمح بالشهادة بها.

3- وقول الله تعالى في سورة "فاطر: 35 مصحف/ 43 نزول": {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} . وفي هذه الآية إشارة إلى أن من وظائف العلماء متابعة البحث العلمي في هذا المجال الواسع الذي يتضمن دراسة خصائص الألوان وعواملها، وذلك في الثمرات المختلفة الألوان، وفي الجبال، وفي الناس، وفي الأنعام والدواب، المختلفة الألوان كذلك. ومتابعة العلماء للبحث العلمي في هذا المجال ستهديهم إلى معرفة قدرة الله وعلمه وحكمته وعدله، ومتى عرفوا ذلك امتلأت قلوبهم بالخشية، والخشية بمعناها الصحيح الجامع -كما سبق- للإجلال والحب والخوف لا يعرفها بصدق إلا العلماء المؤمنون. 4- وقد اعتبر الإسلام العلم أعظم مرجح من مرجحات الإصطفاء بالحكم وهذا ما عرضه القرآن في قصة اختيار طالوت ملكًا على بني إسرائيل، مع أنه لم يكن من سبط الوجاهة فيهم، ولم يؤت سعة من المال، قال الله في سياق هذه القصة في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . فهل بعد هذا المجد الذي منحه الإسلام للعلماء مجد تشرئب إليه أعناق ذوي الهمم العالية، والنفوس الكبيرة؟!!

الفصل الثاني: تطبيق العلم بالعمل

الفصل الثاني: تطبيق العلم بالعمل المقدمة: لا يصعب علينا ملاحظة أن الوسيلة الثانية من وسائل بناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيًّا بعد وسيلة التعلم والتعليم، إنما هي وسيلة تطبيق العلم بالعمل، وذلك عن طريق الاستفادة المباشرة من المعارف، وعن طريق الاختراع والابتكار والتحسين. أما الاستفادة المباشرة من المعارف والعلوم فتتمثل بكل ما يمارسه الإنسان في حياته من عمل، وبكل ما يجتنيه من أمر، مستهديًا بحقائق المعرفة التي توصل إليها، وبالقواعد والقوانين والسنن والتجارب الكونية التي عرفها، بأي طريق من طرق اكتساب المعارف والعلوم الحسية أو الاستدلالية العقلية أو الخبرية. فالنار مثلًا حقيقة من الحقائق الكونية ذات صفات، والعاقل الذي يعرف حقيقة النار ويعرف صفاتها وخصائصها، من شأنه أن يحسن الاستفادة من الخصائص والصفات التي عرفها لها بشكل مباشر، فهو يبتعد عنها خشية أن تحرقه أو تحرق متاعه، ويبعدها عن كل مكان تؤذي فيه إذا حلت به، ثم هو ينضج طعامه عليها، ويصهر معدنه، ويستخدمها في كل ما يحتاج إصلاحه إلى درجة حرارة مرتفعة، إلى غير ذلك من منافع، مع اتخاذه كل الوسائل المستطاعة للوقاية من ضرها وأذاها. والماء أيضًا حقيقة من الحقائق الكونية، وهو ذو صفات وخصائص، والعاقل الذي يعرف صفات الماء وخصائصه يحسن الاستفادة منه بشكل مباشر، فيشرب منه، ويغسل به الأدران، ويسبح فيه، ويجري الجواري عليه، ويسقي

منه الأرض والدواب والأنعام، ويبحث عن أحواضه وينابيعه، ويستنبطه بكل وسيلة ممكنة، ثم هو يجتنب ما فيه من ضر وأذى، فيتخذ كل وسيلة ممكنة للوقاية من ضره وأذاه. وهكذا في كل الحقائق الكونية المادية والمعنوية ذات المنافع أو المضار، إذ يتعرف الإنسان العاقل بكل وسائل المعرفة التي لديه على منافعها ومضارها، فيستفيد منها استفادات مباشرات بنسبة ما لديه من معارف عنها، متقيًا ما فيها من مضار. وأما الاستفادة غير المباشرة من المعارف والعلوم، فتتمثل بما يمارسه الباحثون من الانتقال من المنافع المباشرة التي تتضمنها حقائق الأشياء وصفاتها وخصائصها، إلى الاختراع والابتكار وتحسين الوسائل وتطويرها، إلى ما فيه اختصار للزمن، وتوفير للجهد، ومضاعفة للقوة، ورفاهية للعيش، وراحة وأمن، ودفع للآلام أو تخفيف لها، وتحقيق للعدالة الاجتماعية، مستهدين في كل ذلك بأصول المعرفة التي لديهم عن حقائق الأشياء وصفاتها وخصائصها. فهم لا يقفون عند حدود الانتفاع من الأشياء بما تتضمنه من منافع جاهزة مهيأة فيها بوضعها الفطري، ولكنهم يجمعون المفردات القابلة للتلاؤم، فيوجدون منها أشياء جديدة، ذات خصائص أكثر منفعة وفائدة لبني آدم، ويدخلون على الأشكال الموجودة في الأشياء الفطرية أشكالًا جديدة، ويضيفون إلى صفاتها صفات جديدة أو يبذلون منها، عن طريق الجمع أو التفريق، لتكون الأشياء أكثر فائدة للناس، وأعظم منفعة. ولا يتم لهم ذلك إلا بقدرة عالية من حسن التخيل والتصور، مع اختيارات وتجارب حكيمة للاحتمالات الممكنة، ومع تتبع واستقصاء، وتأمل وتفكر، وأناه وصبر، ودقة في التنفيذ، واعتماد على الأصول الثابتة التي توصلت إليها المعرفة الإنسانية، خلال قرونها الخوالي. ومن شأن تطبيق العلم في أنواع الاستفادات المباشرات وغير المباشرات أن يجعل للتقدم الحضاري والمدني أثرًا ظاهرًا في نظم الحياة، وطرق العيش، والعلاقات الاجتماعية، وأثرًا ظاهرًا في العمران والزراعة، والصناعة والصحة والطب، ووسائل الرفاهية والقوة، إلى غير ذلك مما تحتوي عليه المدنيات الراقيات، من كل ما فيه خير الإنسانية أفرادًا وجماعات. والعمل التطبيقي تنفيذ وتجربة واختبار مع جهد حثيث لارتقاء كل مرتقى حضاري كريم، وهذا مما يدعو إليه الإسلام، وبحث عليه بإلحاح شديد.

المقولة الأولى: موقف الإسلام من تطبيق العلم بالعمل

المقولة الأولى: موقف الإسلام من تطبيق العلم بالعمل اهتم الإسلام بالعمل بما يهدي إليه العلم اهتمامًا بالغًا، وحث عليه حثًّا شديدًا، وأعلن أنه ثمرة العلم، ورتب على الأعمال الصالحة معظم صنوف الجزاء بالثواب، كما رتب على الأعمال السيئة معظم صنوف الجزاء بالعقاب، وجعل تفاوت درجات الناس في الأعمال سببًا في تفاوت درجاتهم عند الله وفي نيف وخمسين آية من القرآن الكريم جعل الله الأجر العظيم في الجنة ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أما الإيمان فهو الإذعان القلبي بنتائج المعارف الحق المتصلة بالله وبصفاته، وبما جاء من عنده، وأما الأعمال الصالحة فهي الصور التطبيقية لهذه المعارف. فمن النصوص القرآنية التي تبين موقف الإسلام من تطبيق العلم بالعمل النصوص التالية: 1- قول الله تعالى في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول": {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . 2- وقول الله تعالى في سورة "غافر: 40 مصحف/ 60 نزول": {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

ألسنا نلاحظ أن الله جل وعلا قد رتب في هاتين الآيتين على العمل الصالح المقرون بالإيمان الثواب بالحياة الطيبة في الدنيا ولآخرة، والجزاء الأوفى في الجنة يوم القيامة؟ 3- وقول الله تعالى في سورة "فصلت: 41 مصحف/ 61 نزول": {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وفي هذه الآية يربط الله سبحانه وتعالى بين الدعوة العلمية إلى طريق الله وبين العمل الصالح وإعلان الالتزام به ربطًا تامًّا، وباستجماع هذه العناصر الثلاثة يتحقق المقام الكريم عند الله الذي يظفر به الداعون إلى الله الذين يعلمون الناس الخير، وهذا المقام الكريم هو ما يشعر به المدح الذي يعلنه قوله تعالى في صدر الآية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا} . 4- وقول الله تعالى في سورة "فصلت" أيضًا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . وبهذه الآية يعلن القرآن أن ثواب العمل الصالح إنما يكون لصاحب العمل نفسه، وأن عقوبة العمل السيئ إنما تكون على صاحب العمل نفسه. 5- وقول الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول": {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} . وفي هاتين الآيتين يبين الله تعالى أن مراتب الناس يوم القيامة تتفاوت صاعدة ونازلة بنسبة تفاوت أعمالهم التي أسلفوها في الدنيا، صالحة كانت أم سيئة. 7- وجاء في حديث الرسول صلوات الله عليه، على ما رواه مسلم وغيره

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين" فقال تعالى في سورة "المؤمنون: 23 مصحف/ 74 نزول": {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} . وقال تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . وفي هذا النص أمر صريح بالعمل الصالح، والعمل الصالح إنما هو التطبيق الحسن للمعارف الحق. أما النصوص التي جاء فيها الوعد بثواب الله العظيم على الإيمان المقرون بالعمل الصالح فكثيرة، منها النصوص التالية: 1- قول الله تعالى في سورة "لقمان: 31 مصحف/ 57 نزول": {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} . 2- وقول الله تعالى في سورة "العنكبوت: 29 مصحف/ 85 نزول~": {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} . 3- وقول الله تعالى في سورة "الروم: 30 مصحف/ 84 نزول": {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} . وهكذا تتوارد النصوص الإسلامية مهتمة بتطبيق العلم بالعمل، إشعارًا بأن العمل هو الغاية المرجوة من العلم، وأن العلم بلا عمل فضيلة ضائعة الثمرة، عديمة الأثر، وبدهي لدى العقول أن كثيرًا من الحقائق العلمية إنما هي وسيلة لاغتنام المنافع العملية فإذا لم يعمل العالم بعلمه كان هو والجاهل بمنزلة سواء، بل ربما كان أضل من الجاهل؛ لأن الجاهل قد يعذر بجهله، لكن العالم لا يعذر بتقصيره أو انحرافه وعدم تطبيقه.

ولنا أن نتساءل الأسئلة التالية: ما فائدة علم الإنسان بأن النار محرقة إذا هو ألقى نفسه فيها؟ وما فائدة علم الإنسان بأصول الزراعة إذا هو أهمل أرضه فلم يزرعها؟ وما فائدة علم الإنسان بشروط الصحة إذا هو خالفها وعرض نفسه للأمراض؟ وما فائدة علم الإنسان بالكيمياء والفيزياء إذا لم ينتفع من علمه بالتطبيقات العملية؟ وما فائدة العلم بالأحكام الشرعية إن كان العالم بها مخالفًا لها في تطبيقاته العملية؟ وهكذا يقال في كل علم.

المقولة الثانية: قواعد العمل في الإسلام

المقولة الثانية: قواعد العمل في الإسلام لدى النظر بأناة في مجمل الوصايا والتعليمات القولية والعملية الإسلامية المتعلقة بالعمل، تظهر لنا القواعد الست التالية، التي ينبغي للمؤمن المسلم أن يراعيها في حياته، رجاء أن يكون من السابقين بالخيرات بإذن الله. القاعدة الأولى: اغتنام أوقات الحياة إن الوقت بمثابة نهر عابر من المستقبل إلى الماضي، ولا تدرك الخلائق المدركة منه إلا موجة الحاضر، وهي الساعة التي يستطيع المخلوق أن يُحدث فيها عملًا ما، فإن لم يحدث فيها عملًا نافعًا جرت إلى الماضي دون أن يستطيع استرجاعها، وخسرها من عمره المقدر له، وإن أحدث فيها عملًا ضارًّا، خسر مقدار العمل الضار من عمره، وحمل وزرًا يخسر به من سعادته مستقبلًا.

وقد أوصى الإسلام باغتنام الأوقات، كما سيأتي. القاعدة الثانية: اغتنام القوى والطاقات إن القوى والطاقات مرتبطات بأوقات الحياة، فالوقت الذي يمر دون أن ينتفع فيه الإنسان بعمل مفيد، يمر هو وكل مقادير القوى والطاقات التي يمكن أن يحدث الإنسان بها عملًا فيه. فقوى وطاقات الإنسان في يوم السبت مثلًا تجري مع يوم السبت، كجريان الزمن فتفنى، وتولد قوى وطاقات أخرى متتابعات مع ساعات يوم الأحد، وهي غير قوى وطاقات الإنسان يوم السبت. هاتان القاعدتان "الأولى والثانية" نستنبطهما من عدة نصوص: - فعن عمرو بن ميمون الأودي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". رواه الترمذي مرسلًا. "انظر مشكاة المصابيح رقم 5174" - وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبونان فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ". مغبون فيهما: أي: خاسر فيهما، فالغبن النقص من الشيء. - وفي سورة "العصر: 103 مصحف/ 13 نزول" بيان واضح أن الإنسان لفي خسر دائم من عمره ومن قواه وطاقاته، ما مر عليه حين من الدهر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، أي: لأن هؤلاء المستثنين قد اغتنموا في حياتهم أوقاتهم، وطاقاتهم النفسية والجسدية، فيما يجعلهم رابحين ربحًا عظيمًا يوم الدين، في جنات النعيم. القاعدة الثالثة: الإتقان والإحسان في العمل

إن من صفات أفعال الله عز وجل الإتقان في صنع كل شيء، وهو سبحانه وتعالى يجب المحسنين، ويحب من المؤمن المسلم إذا عمل عملًا أن يتقنه. هذه القاعدة قد دلت عليها عدة نصوص: - قال الله عز وجل في سورة "النمل: 27 مصحف/ 48 نزول": {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} . - وروى البيهقي عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يجب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" "حديث حسن. الجامع الصغير وزيادته رقم 1891". - وتكرر في القرآن بيان أن الله عز وجل يحب المحسنين وأنه تعالى مع المحسنين، وأنه لا يضيع أجر المحسنين، بل يزديهم ثوابًا. - وأبان الله عز وجل أن الإحسان من أوصاف الأخيار الأطهار من عباده، من الأنبياء والمرسلين والصالحين. القاعدة الرابعة: اختيار العمل الأيسر المحقق للمطلوب الذي لا معصية لله فيه. لكل غاية يرجى تحقيقها بالعمل طرق ومسالك، ووسائل وأسباب مختلفة ومتنوعة، إلا أن بعضها أيسر وأسهل من بعض. فيمكن مثلًا الوصول إلى مدينة ما، بصعود الجبال وتحمل ما فيها من عقبات شاقات وبعبور الطرق الوعرة، وبخوض غمار الوديان المليئة بالأشواق والحفر، والأنهار والأوحال، وتحمل ما فيها من مشقات ومتاعب. ويمكن الوصول إليها بسلوك السبيل الواضح المنير المعبد، على مراكب مريحة آمنة هينة لينة. وكل من الخيارين يمكن أن يحقق مطلوب الوصول إلى المدينة المقصودة.

ويعلمنا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالأسوة الحسنة التي كان يتحلى بها، أن نختار الأيسر والأسهل في كل أمر، إذا كان ذلك محققًا للمطلوب النافع المفيد، الذي لا معصية لله فيه. - روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما أنتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن ينتهك حرمة الله فينتقم لله بها". "مشكاة المصابيح رقم 5817". القاعدة الخامسة: المواظبة والدأب والمداومة على عمل الخير وإن قل بعض الناس يندفعون بقوة وهمة عالية إلى فعل الصالحات والخيرات والمبرات، وبذل الطاقات والأموال، لكنهم يملون بسرعة، فتفتر عما قريب همتهم، وتضعف أعمالهم، وقد ينصرفون عما كانوا فيه من عمل صالح، وقد يتحولون إلى فعل السيئات بمثل الاندفاع القوي الذي كانوا يعملون فيه الصالحات. وقد أبان الرسول صلى الله عليه وسلم أن المداومة على العمل الصالح القليل، أحب إلى الله عز وجل من العمل الصالح الكثير، الذي ينقطع عنه العامل، ولا يداوم ولا يواظب عليه. - روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل". إن النشاط الزائد في بدء ممارسة العمل يسمى شرة، وهذا النشاط الزائد قد لا ينجو منه معظم العاملين في أوائل أعمالهم الصالحات، ولكن إذا كانت الفترة بعد ذلك إلى المواظبة بهدوء وتؤدة على العمل الصالح القليل، كان صاحبها على هدى، وإن كانت الفترة بعد ذلك إلى انقطاع وتحول عن فعل الخير، كانت إلى هلاك.

- روى البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك". "حديث صحيح. الجامع الصغير وزيادته رقم 2152". وفي رواية عند أحمد: "ومن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح". القاعدة السادسة: متابعة العمل الصالح الذي يفرغ العامل منه بإنشاء عمل صالح آخر. لقد أمر الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي هو الأسوة الحسنة للناس أجمعين، والذي أمر المؤمنين بأن يقتدوا به، ويتأسوا بأخلاقه وعمله وسيرته، بقوله له مع أوائل تنزيل القرآن عليه في سورة "الشرح: 94 مصحف/ 12 نزول": {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَب} . أي: فإذا فرغت من إنجاز عمل صالح، فأنشئ عملا صالحا آخر، واجتهد فيه حتى تنصب. النصب: هو التعب. وهذا الأمر الموجه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم موجه أيضا لكل الذين أمرهم الله بأن يتأسوا به، في قوله تعالى في "سورة "الأحزاب: 33/ مصحف/ 90 نزول": {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} فعلى المؤمن المسلم العاقل الرشيد، أن يتحقق بمضمون قوله تعالى لرسوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَب} .

المقولة الثالثة: موقف الإسلام من العمل الصناعي والعمراني والاختراع والابتكار

المقولة الثالثة: موقف الإسلام من العمل الصناعي والعمراني والاختراع والابتكار للعمل الصناعي والعمراني المتقدم المتطور بالاختراع والابتكار أركان أربعة: الركن الأول: العلم الذي يعتمد على وسائل الاختبار والتجربة والملاحظة والاستنباط، وموقف الإسلام منه -كما سبق- موقف التحريض والحث وفتح كل مجالات المعرفة أمام المسلمين الملتزمين بإسلامهم، إلا ما كان من هذه المجالات مزلقًا من مزالق الشر والأذى كالسحر. الركن الثاني: التخيل الذي يرتبط به الابتكار والاختراع، فالتخيل أفق من آفاق البحث العلمي الذي من شأنه أن يتناول الأشياء الموجودة بالدراسة، والأشياء غير الموجودة من الممكنات العقلية بقوة التخيل من جهة، وبمعالجة الأشياء بالتحليل والتركيب، والجمع والتفريق، والامتحان والاختبار، من جهة أخرى، وموقف الإسلام من هذا الركن موقف الدفع والتحريض. الركن الثالث: اعتبار كل ما تصل إليه القدرات الإنسانية في هذا الكون الواسع الأرجاء مسخرًا لمنفعة الناس، ومباحًا لهم، وهذا الركن مما أعلنه الإسلام وحرض عليه، باستثناء ما يغلب ضرره على نفعه، أو يتساوى ضرره ونفعه، أو تكون نسبة ضرره كثيرة ويوجد بديل عنه لا ضرر فيه أو دونه في الضرر، وهذا الضرر يوجد نظيره في المباحات شرعًا. الركن الرابع: العمل الذي يرتبط به الإنتاج الصناعي والعمراني والاختراع والابتكار، وهذا الركن مما حرص عليه الإسلام أيضًا.

وبقليل من التأمل في نصوص الإسلام نجد أنه قد حرض القدرات الإنسانية على أن تستفيد من كل ما في هذا الكون، وحض على العلم والاختبار والتجربة والاستنباط، والاختراع والابتكار، والعمل الذي يرتبط به الإنتاج الصناعي. وحين ننظر إلى الركن الثالث وهو اعتبار كل ما تصل إليه القدرات الإنسانية في هذا الكون مسخرًا لمنفعة الناس، ومباحًا لهم، بشيء من التفصيل نجد أن الأدلة عليه من النصوص الإسلامية كثيرة، منها النصوص التالية: 1- قول الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول" ممتنًا على الناس: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} . ففي هذا النص دليل واضح على أن جميع ما في الأرض مسخر بإرادة الله وإذنه لمنفعة الناس، وحينما يُحرم الإسلام على الناس بعض الأشياء فإنما يُحرم عليهم أن يستعملوها فيما يضرهم، أو فيما للإسلام فيه هدف ديني من التحريم، أما إذا استعملوها في أمور أخرى نافعة غير ضارة فلا تحريم ولا منع، ومن أمثلة ذلك الكحول، فقد حرم الإسلام شربها، ولم يحرم استعمالها في قتل الجراثيم وتطهير الجروح منها، ولم يحرم استعمالها في تحليل المواد الكيميائية، وغير ذلك من أمور كثيرة تنفع الكحول فيها ولا تضر. 2- وقول الله تعالى في سورة "الحج: 22 مصحف/ 103 نزول": {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} . 3- وقول الله تعالى في سورة "الجاثية: 45 مصحف/ 65 نزول": {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وفي هاتين الآيتين نلاحظ أن الله تبارك وتعالى قد ذكر طائفة من

المسخرات للناس في الطبيعة، وذلك في قوله: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض} وقوله: {سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْر} وقوله: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} . وذكر طائفة من المسخرات التي دخلت فيها يد الصناعة الإنسانية في قوله: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} . وذلك لأن هذه المصنوعات ما كانت لتستطيع تأدية وظائفها لولا القوانين والسنن الدائمة التي طبع الله الأشياء عليها، وجعلها مسخرة لينتفع بها الإنسان. في هذه النصوص ونظائرها نلمح مبلغ الدفع الإسلامي الشديد إلى العمل الصناعي والعمراني، والاختراع والابتكار. والعمل الذي يرتبط به الإنتاج الصناعي والعمراني، والمستند إلى العلم وتحريض عوامل الاختراع والابتكار، هو الركن التطبيقي الذي لا يتم التقدم المادي الحاضري إلا به. ولما كانت خطة الإسلام التي رسمها الله للناس محتوية على فسح مجالات التقدم المادي الحضاري الخير، الذي لا إثم فيه، ولا ضرر يكون منه، ولا شر يخالطه، كان من شأن النصوص الإسلامية أن تحمل دلالات قوية وصريحة تكشف هذه الخطة، وتوضحها للناس. إن إعلان تسخير ما في السماوات وما في الأرض جميعًا للإنسان يتضمن بشكل قوي الدفع البالغ للعمل الصناعي، للانتفاع من هذه المسخرات؛ لأنه لا يستطاع الانتفاع بكل هذه المسخرات الكبرى ما لم تدخل فيها يد العمل، بالجني، أو بالاستنتاج، أو بالتعمير، أو بالتصنيع، أو بالتحليل والتركيب والجمع والتفريق، والاختبار والتجربة، والتخيل، والاستنباط، والاختراع والابتكار، ونحو ذلك. ثم نجد في النصوص ما هو أكثر صراحة مما سبق. 1- أليس في قول الله لنوح عليه السلام فيما قصه علينا في سورة "هود: 11 مصحف/ 52 نزول": {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} .

أمر من الله لرسول من رسله بصناعة مخترع جديد، لم يكن الناس على علم به؟ وقد أحاطت هذا المخترع الجديد عناية الله، ورافقه وحي منه، يدل على هذا قول الله تعالى في الآية: {بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} . فأية دعوة للاختراع والابتكار والعمل الصناعي أقوى من هذه الدعوة؟ ولقد كان الملأ من قوم نوح يمرون عليه وهو يصنع الفلك فيسخرون منه، قال الله تعالى في سورة "هود: 11 مصحف/ 52 نزول": {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} . وبهذا نلاحظ أن نقطة البداية لبناء السفن البحرية قد كانت وحيًا ربانيًّا لرسول من رسل الله، وهداية ربانية للناس، دفعهم الله بها إلى طريق العمل الصناعي الضخم لركوب البحار، والابتغاء من فضل الله على متونها. وما يعرضه القرآن من أحوال الرسل، وما أوحاه الله إليهم مما لم ينسخه بحكم جديد، إنما يعطي الله به صورة للإسلام الحق الذي اصطفاه الله للناس أجمعين، والذي بدأه بما أنزل على آدم عليه السلام، وختمه بما أنزله على محمد صلوات الله عليه. 2- أليس في قول الله تعالى في معرض الحديث عن داود عليه السلام في سورة "الأنبياء: 21 مصحف/ 73 نزول": {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ، وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} . بيان واضح من الله أن اختراع دروع الحرب وصناعتها قد كانا بتعليم من الله لداود عليه السلام، وبتحريض له على أن يصنعها بيده، وهو نبي من أنبيائه، لتكون حصنا للمؤمنين من بأس الكافرين؟؟ ولم يكتف الله تبارك وتعالى بذلك، ولكنه أمر داود عليه السلام أن يتقن

صناعته ويُحكمها، فقال له كما قص علينا في سورة "سبأ: 34 مصحف/ 58 نزول": {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} . فمن إحكام وإتقان صنعته الدروع أن تكون سابغات، وأن تكون حلقاتها ذوات مقادير متناظرة. وبهذا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قد شق للناس طريق الابتكار الاختراع والتصنيع مع مراعاة الإتقان، واستكمال الشروط التي تحقق الأهداف المقصودة من الصناعة. 3- وقد أمتن الله على الناس بما وهبهم من قدرة على تعمير البيوت، وصناعة الأثاث، وصناعة الألبسة المختلفة الأنواع، والمختلفة المصالح، فقال تعالى في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول": {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} . ألسنا نرى أن الله تبارك وتعالى أمتن علينا بالبيوت، وبالأثاث، وبالسرابيل، مع أن هذه الأشياء لا تتم بحسب السنن الأرضية المستمرة ما لم تدخل فيها يد الإنسان بالتعمير والصناعة. ويتضمن هذا الامتنان عدة عناصر: العنصر الأول: أن الله أوجد لنا المواد الأولى التي نستفيد منها، وذللها لقدراتنا. العنصر الثاني: أن الله أذن لنا بالانتفاع من جميع ما خلق لنا في الأرض وذلك في وجوه لا ضرر فيها.

العنصر الثالث: أن الله وهبنا القدرات التي نستطيع بها أن نعمر المساكن ونصنع الأثاث والرياش والملابس، من هذه القدرات الفكرية الشاملة لقدرات البحث والمعرفة والتذكر والتخيل والابتكار، ومنها القدرات العملية التي نستطيع بها أن نعالج الأشياء بالاختبار والتجربة، والتحليل والتركيب، والجمع والتفريق، وأن تستخدم قواها وطاقاتها الظاهرة والكمينة، ونوجهها لما نريد من مصالح ومنافع. وفي قول الله تعالى في آخر الامتنان: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم} إشارة إلى الأشياء الكثيرة التي لا تحصر، مما سيبتكره الإنسان، حينما يتابع مسيرته في البحث العلمي، وفي العمل التطبيقي، وفي اختراع الوسائل التي تمنحه في الحياة القوة، والصحة، ورفاهية العيش، والراحة، واختصار الزمن. 4- وفي قول الله تعالى في سورة "الحديد: 57 مصحف/ 94 نزول": {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} . حث ملح على الاستفادة من الحديد باستخدامه في مجالات القوة لإعلاء كلمة الله، وإقامة العدل، وباستخدامه في مجالات المنافع المدنية الكثيرة. أفيستفاد من الحديد مع إبقائه كتلًا غير مصنعة؟ أم لا بد من أن تدخل فيه يد الصناعة والاختراع؟. وأما الدعوة إلى استعمار الأرض، أي: العمل في عمرانها، فنجدها في قول الله تعالى في سورة "هود: 11 مصحف/ 52 نزول": {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيب} . أي: أنشأكم من الأرض، وطلب منكم أن تغمروها، ولا يتم ذلك على الوجه الأكمل إلا بالعمل بروية ودأب وإتقان، بعد اكتساب العلوم والمهارات العمرانية، التي منها الهندسة المختلفة وما يتعلق بها، ويشتمل الاستعمار أيضًا على كل الأعمال الحضارية المادية، على وجه العموم.

المقولة الرابعة: دفع شبهات

المقولة الرابعة: دفع شبهات وبعد أن تبينا موقف الإسلام من العمل الصناعي والزراعي والعمراني، ومن الاختراع والابتكار والتحسين في مختلف مجالات الحياة المادية، لا بد أن يشتد عجبنا من الذين يفترون على الإسلام فيقولون: نريد أن نتخلص من القيود الإسلامية لندخل في عالم الصناعة الحديثة والاختراع والابتكار من أوسع الأبواب، كأن الإسلام في نظرهم عدو الصناعة والاختراع والابتكار. إنهم بهذا يحاولون أن يطمسوا معالم الدعوة إلى الكمالات المادية التي نصبها الإسلام في طريق العاملين، وذلك ضمن دعوته المسلمين إلى العمل. وغرض هؤلاء المفترين أن يحجبوا الملتزمين بإسلامهم عن العمل الصناعي، الذي يتوقف عليه التقدم المادي الحضاري. ويردد بعض أبناء المسلمين الشبهات المستوردة من مصانع أعداء الإسلام التي تتهم الإسلام بالجمود، وعدم مسايرته لما يجد من ألوان الحضارة والتقدم المادي، التي تستند إلى متابعة البحوث العلمية، والمكتشفات المادية، والتجارب العملية. وهي شبهات تغري عشاق التقدم الحضاري المادي المستند إلى البحث والاختبار والتجربة بأن تساورهم الشكوك حول الإسلام. مع أن الحقيقة التي استبانت لنا عن الإسلام بالبحث الشامل تسير في طريق معاكس تمامًا للاتهامات التي تلصقها به هذه الشبهات، ما دامت المنجزات الحضارية المادية وغير المادية تحمل للناس الخير والقوة والرفاهية البريئة من الإثم، وتحمل الجمال الطاهر من عناصر الشر والفساد.

ولئن صح إطلاق مثل هذه الاتهامات في أوروبا يوم كانت الكنيسة تحارب كل تقدم علمي وترق حضاري، فإنه لا يصح بحال من الأحوال أن تعمم حتى تتناول المسلمين بوجه عام، وقد سجل تاريخهم الذهبي قبل عصور الانحطاط أروع صفحات العمل الحثيث لاقتباس كل علم، ومتابعة كل معرفة إنسانية، بالقدر الذي سمحت به ظروف نهضتهم وحضارتهم في المرحلة التاريخية التي تصدوا لقيادتها حينئذ. ومما هو بعيد عن الإنصاف كل البعد إتهام الإسلام أو المسلمين بالجمود؛ لأن دورًا من أدوار الانحطاط أصاب الشعوب الإسلامية بالتخلف بعد أن تراكبت عليهم مجموعة من الأسباب والعوامل الداخلية والخارجية فساقتهم إليه. ويمكن وصف هذه الأسباب والعوامل جميعها بأنها أمور دخيلة عليهم، وليست من جوهر تعاليم الإسلام، ولا من أسس تربيتهم الإسلامية التي توارثوها من منبعها الأساسي، الذي تفجر مع فجر الإسلام بالخير والخصب والعلم، وبكل عمل نافع، وبكل تقدم حضاري كريم، وكل حياة سعيدة رغيدة طاهرة من الإثم والشر والفساد في الأرض. هذه التربية الإسلامية التي قام عليها أول الأمر رسول الله صلوات الله عليه، ثم تلاميذ مدرسته التاريخية من بعده، فقدمت للعالم معجزة تاريخية لا تطاولها معجزة أخرى. هذه هي التربية العجيبة التي استطاعت أن تحول في ربع قرن شعبًا متخلفًا في ثقافته وحضارته ومدنيته فتجعل منه شعبًا قائدًا رائدًا للعالم المتحضر يومئذ، فاتحًا فكره للعلم، وقلبه للإنسانية جمعاء، ونفسه لحب الخير والسعي إليه حيث كان، ومقدمًا جميع قواه وطاقاته للعمل المثمر في سبيل مجد الإنسانية وسعادتها الدنيوية والأخروية، وفي سبيل تحرير الإنسان من العبوديات المختلفات، وربطه فقط بعبوديته للقوة القاهرة، العليمة الحكيمة غير المنظورة، وهي العبودية لله وحده لا شريك له، وهي العبودية الاعتقادية والعملية الموافقة للحقيقة التي عليها واقع كل مخلوق.

فدار بهم الزمن آنئذ دورة حضارة راقية خالية من الشر والإثم والضر، ورافقتها أفضل مدينة عرفتها تلك العصور، فلم يدعوا مجالًا من مجالات المعرفة التي تيسرت لهم حينئذ إلا خاضوا غماره، ولا ميدانًا من ميادين السبق العلمي إلا كانوا مجلين فيه، بينما كانت أوروبا وسائر الشعوب تعط في نوم التخلف العميق، وظلام الجهل الدامس. ولم يكن التقدم الذي أحرزه المسلمون آنئذ أثرًا من آثار طبائعهم القومية أو العنصرية، وإنما كان أثرًا من آثار التربية الإسلامية، وشواهد ذلك كثيرة جدًّا، من النصوص الإسلامية، والتاريخ الصحيح.

الفصل الثالث: التربية

الفصل الثالث: التربية لا غرو أن التربية من وسائل بناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيًّا على أسسها الفكرية الراسخة. والتربية العامة تكون بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، واستمالة الأنفس بالترغيب بمحابها الخيرة، وبالترهيب مما تكره من شر أو ضر أو أذى. الشرح: لو أن الإنسان كائن عديم الفكر والإرادة والدوافع والميول الذاتية ومطالب الأنفس، لكان من الممكن تسخيره وتوجيهه بالقوى المكافئة لقواه الجسدية، دون أن يقف فيه شيء موقف العناد والمعارضة، أو موقف الطلب وإملاء الشروط، لكنه كائن عجيب التركيب. ففيه الفكر المؤهل لمعرفة الحقائق واستنباط غوامض الأمور. وفيه الإرادة ذات النزعات المتضادة، كالاستجابة والرفض، والموافقة والمعارضة، والإقبال والإدبار. وفيه الدوافع والميول التي تحرضه على أنواع خاصة من السلوك لتحقيق مجموعة من المطالب النفسية المادية والمعنوية. ومن أجل ذلك كان انتظامه في سلك بناة الحضارة المجيدة انتظامًا طوعيًّا يتطلب شحن فكره وإرادته ودوافعه وأنواع ميوله الذاتية بقوى معنوية تجعله يستجيب لهذا الانتظام استجابة ذاتية، ويُسهم بنصيب من العمل في بناء صرح

الحضارة المجيدة، لا مسخرًا تسخيرًا فاقد الإرادة، بقوة خارجة عنه أو داخلة فيه. أما شحن فكره وإرادته ودوافعه وأنواع ميوله الذاتية بالقوى المعنوية التي تجعله يستجيب للانتظام في سلك بناة صرح الحضارة المجيدة استجابة ذاتية فأمر من أمور التربية العليا، ذات المسالك المختلفة، التي يجب أن تلاحظ فيها النصائح والوصايا التربوية المستندة إلى حصائل الدراسات النفسية المختلفة، وقد أرشد الإسلام إليها، منبهًا على كلياتها الكبرى وهي: أولًا: الدعوة بالحكمة. ثانيًا: الدعوة بالموعظة الحسنة. ثالثًا: استمالة الأنفس بالترغيب بمحابها الخيرة، وبالترهيب مما تكره من شر أو ضر أو أذى. ولنعالج هذه الكليات الثلاث بشيء من التفصيل، مستهدين بما جاء في مصادر الحضارة الإسلامية. الدعوة بالحكمة: أما الدعوة بالحكمة فهي التربية التي تعتمد على وسائل الإقناع الفكري المنطقي الحكيم، بالحجج والبراهين المثبتة للحقائق، وتكون الحكمة باتخاذ الأساليب الملائمة للحالة الفكرية والنفسية التي عليها الذين توجه لهم التربية. وللمربين في هذا المجال أصول وقواعد استخلصوها من تجارب الحياة، ومن الدراسات النفسية والنظرية والتطبيقية، ونلاحظ أن الإسلام يدعو إليها بشكل عام، ويعرض طائفة من جزئياتها، كما أنه لم يفته أن يقدم لنا من أمثلتها نماذج رفيعة قام بها النخبة الممتازة من الدعاة إلى الله، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونماذج أخرى قام بها بعض المربين الذين تخرجوا في مدارس الدعوة التي أسسها الرسل، كالنموذج التربوي الذي قصه لنا القرآن عن الحكيم لقمان في موعظته لابنه، قال الله تعالى في سورة "لقمان: 31 مصحف/ 57 نزول":

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . فمن حكمة لقمان في موعظته لابنه أنه حينما نهاه عن الشرك بالله قرن له ذلك بالدليل المقنع المؤكد، فقال له: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} . ومن بدهيات العقول أن الظلم قبيح، وعاقبته وخيمة، ومن أدرك هذه الحقيقة اكتسب قناعة كافية، تجعله يخشى خشية كبيرة من الشرك بالله. الدعوة بالموعظة الحسنة: وأما الدعوة بالموعظة الحسنة فهي التربية التي تعتمد على وسائل التأثير الخطابي، المقرونة بالأساليب البيانية المختلفة، ذات الخصائص التي تمكن المربي من القبض على نواصي الأنفس، وتحريك العواطف والانفعالات الإنسانية، وتوجيهها إلى طريق الحق والخير والجمال. ومن الأساليب البيانية فنون القصة، وروائع التصوير الفني، وطرق الكناية والاستعارة والتشبيه والمجاز، وضرب الأمثلة، إلى غير ذلك مما يعرفه مهرة البلغاء والبيانيين من أدباء وشعراء وباحثين. ونصوص الدعوة الإسلامية في كتاب الله المجيد وسنة رسوله الكريم ذاخرة بروائع الأساليب البيانية المختلفة، التي تملك مشاعر المتدبرين، وتلين القلوب القاسية بقوة تأثيرها، فتجعلها طيعة للاستجابة إلى الحق، وتصرف عنها كثيرًا من عقد العناد والكبر والحسد وسائر انحرافات النفس والفكر، وذلك لأن الأنفس إذا استحسنت أو استعذبت شيئًا من الأشياء مالت إليه، وانجذبت نحوه، وانفعلت به انفعال مسرة، ومع الميل والمسرة يتولد الحب، وبالحب تنحل معظم العقد، وأهمها العقد التي تنشأ عن النفور والكراهية وعدم الإلف، ومتى انحلت العقد النفسية عاد الإنسان إلى فطرته الصافية التي تقبل الحق وتستجيب له، بل ربما استطاع المضللون صرف الإنسان عن الحق الصريح الذي يستمسك

به بهذه الوسيلة نفسها، فكيف بدعاة الحق، وحملة مصابيح الهدى، إذا أحسنوا استخدام هذه الوسيلة في مجال الحق والخير والفضيلة. استمالة الأنفس: وأما استمالة الأنفس بالترغيب بمحابها الخيرة، وبالترهيب مما تكره من شر أو ضر أو أذى، فهي التربية التي تعتمد على وسائل تتجاوز حدود القول إلى مختلف الطرق العملية الترغيبية والترهيبية. ومن أهمها التآخي والمواساة، وبذل المال والجاه والخدمة، وعرض نتائج طرق الخير وطرق الشر بمشاهد واقعية تملأ الإنسان قناعة وإذعانًا، إلى غير ذلك. ويدخل في هذا ما شرعه الإسلام من إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيبًا من الزكاة لتأليف قلوبهم على الإسلام، ومنه ما كان يفعله الرسول صلوات الله عليه من العطاءات التي تهدف إلى تأليف القلوب، وفي الحديث الصحيح يقول الرسول صلوات الله عليه: "إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطي، ولكني إنما أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع وأَكِلُ أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير". رواه البخاري. ولهذا العنصر من قوة التأثير في حل كثير من العقد النفسية مثل ما للعنصر السابق، بل ربما كان أشد منه لدى بعض النفوس التي يأسرها الإحسان المادي، أكثر مما تأسرها الأساليب البيانية الرفيعة، فكم من عطاء أبلغ من بيان، وكم من إحسان أعظم أثرًا من برهان، وذلك إنما يعود إلى حالة كل إنسان توجه له التربية، ليكون جنديًّا في جيش بناة الحضارة الإسلامية المجيدة. شروط التربية: وللتربية بهذه الطرق شروط إسلامية متعددة نذكر منها فيما يلي سبعة شروط:

الشرط الأول: صحة ما يدعو إليه المربي الإسلامي والتزامه به، فإذا كان ما يدعو إليه باطلًا لم تكن رسالته رسالة بناة الحضارة الإسلامية المجيدة، مهما استطاع أن يجد لباطله أنصارًا ومؤيدين. الشرط الثاني: تقيد المربي الإسلامي في دعوته بالأصول المنطقية الفكرية السليمة، وذلك ليصون دعوته عن الخطأ والانحراف، وليسلح من يقوم على تربيتهم بالحجج والبراهين المنطقية التي تثبت الحق في نفوسهم، وتعطيهم القدة على بثه، ونشره، وغرسه في قلوب الجاهلين. ومن تقيده بالأمور المنطقية تدرجه من المعلومات إلى المجهولات، على مقدار حال الذين يقوم على تربيتهم ودعوتهم إلى سبيل الله. الشرط الثالث: تجرد المربي الإسلامي الذي يحمل رسالة الدعوة إلى بناء الحضارة الإسلامية المجيدة من الغرض الشخصي، وإعلانه هذا التجرد، فعنصر التجرد عن الغرض الشخصي في الدعوة إلى الإصلاح من أهم العناصر المؤثرة التي تجعل المنصفين يستجيبون للدعوة، ويتأثرون بإرشاد الداعي ونصحه وتوجيهه. ولذلك كان الرسل عليهم الصلاة والسلام يعلنون تجردهم عن الغرض الشخصي بأن يقولوا لأقوامهم: "لا نسألكم عليه أجرًا" "لا نسألكم عليه مالًا" ونحو ذلك. وقد أمر الله رسوله محمدًا عليه السلاة والسلام بأن يقتدي بهدي الرسل السابقين فيقول لقومه: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} قال الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول": {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} .

الشرط الرابع: ألا يحابي المربي الإسلامي أحدًا فيما يصدع به، فمن أهم وسائل تربية الجماهير الإنسانية عدم المحاباة في الصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي استخدام وسائل التربية المختلفة، ووضع الناس كلهم على قدم المساواة بين يدي الدعوة، وبين يدي المسالك التربوية. وكذلك كان رسل الله عليهم الصلاة والسلام، لا يفرقون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي تطبيق وسائل التربية بين قريب وبعيد، بل كانوا يبدءون بالأقربين يأمرونهم وينهونهم وينذرونهم، ويشهد لهذا قول الله لرسوله في سورة "الشعراء: 26 مصحف/ 47 نزول": {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} . الشرط الخامس: القدوة الحسنة، فمن أهم شروط التربية المؤثرة أيضًا كون المربي في ذاته وأخلاقه وأعماله قدوة حسنة، وذلك بأن يكون ملتزمًا جميع ما يأمرهم به، ومتجنبًا جميع ما ينهاهم عنه، وإلا كان القوم في شك من دعوته وأوامره ونواهيه، ولم يكن لدعوته أثر فعال في نفوسهم، ولا أثر تطبيقي في سلوكهم، ومن أجل ذلك قال النبي شعيب عليه السلام، فيما حكاه الله عنه في سورة "هود: 11 مصحف/ 52 نزول": {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . الشرط السادس: اتخاذ وسائل الرفق واللين في الدعوة، وتنزيل الناس منازلهم، وقد علم الله موسى ذلك حينما أمره بأن يذهب هو وأخوه هارون إلى فرعون، قال الله تعالى في سورة "طه: 20 مصحف/ 54 نزول" حكاية لما خاطب به موسى عليه السلام:

{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} . ولا تنيا: أي: ولا تضعفا ولا تفترا. وقد علمه الله صيغة القول اللين كما أخبرنا في سورة "النازعات: 79 مصحف/ 81 نزول": {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} . ففي قوله له: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} عرض متراخ مملوء باللين والرفق وإعطاء فرعون منزلته في قومه، وذلك من أساليب الحكمة في الدعوة التي يجب الالتزام بها. وسائل الدعوة: وللدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وسائل مختلفة، ومنها الوسائل التالية: الوسيلة الأولى: اللسان، ويقتدي الداعي الحكيم بطرق وفنون الدعوة التي قام بها الرسل عليهم الصلاة والسلام بصفة عامة, وبطرق وفنون الدعوة التي قام بها محمد صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، ثم بالطرق الناجحة التي سلكها النخبة الممتازة من أصحابه رضوان الله عليهم، والتي سلكها تابعوهم بإحسان. والدعوة الحكيمة باللسان تتضمن الإقناع الهادي بالحديث الخاص، والإقناع بالخطابة العامة، غير الموجهة لشخص بعينه، وباستمالة القلوب بكل قول لين كريم، وأدبي رفيع، وبياني مؤثر، وعرض الحقائق التي يراد الإرشاد إليها بطريقة غير مباشرة، كأن تكون قصة، أو على طريقة ضرب مثل، وكأن يضرب بها مثل لغيرها على اعتبار أنها من الأمور البدهية المسلم بها، مع تصيد المناسبات الملائمات، واستغلال الظروف النفسية التي تكون النفس معها مهيأة

للاستجابة والإصغاء، والداعي الحكيم يعمل على تهيئة الجو النفسي الملائم، ثم يحسن الاستفادة منه لدعوته الخيرة، ولعلماء النفس في هذا الباب نظرات يمكن الاستفادة منها بشكل واسع، وقد سبقهم في ذلك علماء المسلمين الذين اطلعوا بمهمات التربية الإسلامية العملية، والدارس لأحوالهم يجد أن لديهم أساليب كلامية محاطة بأجواء ملائمة تتغشى على الأنفس بالسكينة والطمأنينة، فتجعلها في ذروة الاستعداد للتأثر بما يملي عليها. الوسيلة الثانية: الكتابة نشرًا وشعرًا وما بينهما، ويكون ذلك عن طريق المؤلفات، والمقالات، وسائر المنشورات المكتوبة، التي تدخل إلى النفوس عن طريق الإقناع الفكري، أو عن طريق التأثير الوجداني. ولهذه الوسيلة أثرها الفعال عند كثير من الناس، ومنهم المصابون بعقدة الاستعلاء والاغترار بالنفس والإعجاب بالرأي، والمصابون بعقدة الكبر والعناد، فهؤلاء يصعب عليهم تلقي أية نصيحة مهما رق أسلوبها، وعذب لفظها، وتأخذهم العزة النفسية المقرونة بالإثم، متى وجه لهم ناصح أية موعظة مهما كانت حسنة لكنهم إذا قرءوا ذلك في كتاب أو في مقالة أو في شعر أمكن أن يدخل إلى نفوسهم دون أن يصطدم بما لديهم من عقد صماء. الوسيلة الثالثة: التربية والتعليم، وينبغي أن تهتم هذه الوسيلة بالمراحل الأولى لحياة الإنسان اهتمامًا كبيرًا، لما لها في هذه المراحل من آثار عظيمة، فهي في هذه المراحل أنفذ إلى أعماق النفوس، وأكثر تأثيرًا وأبقى مع الزمن، ثم تهتم بالمراحل الثانية التي تضم المراهقة والشباب، ثم تهتم بما وراء ذلك من مراحل في حياة الإنسان، وتغطي كل مرحلة ما يناسبها من الأصول والقواعد التربوية الحكيمة. وتتحقق هذه الوسيلة بتأسيس المدارس والمعاهد والجماعات الإسلامية، التي تتآزر فيها الخطط والمناهج والتطبيقات لتحقيق غاية بناء الحضارة الإسلامية المجيدة.

والشرط الأساسي لهذه الوسيلة أن تكون موجهة لما يخدم الرسالة الإسلامية بشكل عام، عقيدة وشريعة وسلوكًا وبناء حضاريًّا رفيعًا. الوسيلة الرابعة: نشر الوعي الثقافي الإسلامي عن طريق المربين والمعلمين والوعاظ والمرشدين الذين يحملون رسالة الدعوة الشاملة، في المجامع العامة والخاصة، وينبئون في معظم المجتمعات والحلقات والأسر، ضمن وحدة توجيهية وثقافية منسقة، تهدف إلى إقامة مجتمع صالح مؤهل لبناء الحضارة الإسلامية بناء صحيحًا، على أسسها الفكرية الراسخة. ويمكن أن تتحقق هذه الوسيلة باستخدام المساجد والجوامع لنشر الوعي الثقافي، وبتأسيس الأندية الثقافية الإسلامية، وجعلها تحت إشراف مخلصين أكفياء، وبالتنادي إلى المحاضرات المركزة تركيزًا إسلاميًّا يزود الجماهير بالمفاهيم الصحيحة عن أسس الحضارة الإسلامية وفروعها، وتطبيقها العملية، وباستخدام الإذاعة والتلفزيون وسائر الوسائل الإعلامية ليدخل الوعي الإسلامي الصحيح كل بيت، ويطرق كل سمع، ويهز كل قلب. الوسيلة الخامسة: تأسيس الجمعيات والأندية الخيرية والرياضية وغير ذلك، واتخاذها حقولًا غير مباشرة من حقول الدعوة. ولا يخفى تأثير الحقول غير المباشرة على النفوس الإنسانية، من أجل تحقيق أهداف أية دعوة من الدعوات، وجدير بالدعوات الخيرة ألا تهمل هذا الأمر، في تخطيطها وفي أعمالها. أيها الداعي إلى الله، إن من اليسير جدًّا أن تدعو فتى من الفتيان للانتظام مثلًا في ناد رياضي، يرضي فيه كثيرًا من غرائزه وميولاته الطبيعية التي لا شر فيها ولا إثم، ثم من السهل جدًّا بعد ذلك أن توجهه إلى طريق الخير بتشى الوسائل، ومنها أن تجعل الأهداف العامة التي ينتهي إليها كل مشروع رياضي هي أهداف الدعوة الخيرة التي تسعى لنشرها، وغرسها في قلوب الناس، إنه من

الممكن جدًّا أن تملأ قلوب المنتظمين في النادي الرياضي الذي أسسته أنت وأحكمت قيادته وتوجيهة بمعاني البطولة والرجولة والرغبة بالكفاح والنضال من أجل بناء الحضارة الإسلامية المجيدة بناء قويًّا متينًا، وذلك بدفعهم إلى التساؤل عن أسس لهذه الحضارة، وتطبيقاتها الفردية والجماعية، ووسائلها، والتساؤل هو المنطلق الصحيح إلى المعرفة، ومن ثم نلاحظ أن المعرفة قد أخذت تولد فيهم الرغبة بالتجند للعمل الفعال في البناء المطلوب. الوسيلة السادسة: القيام برحلات إسلامية جماعية تنور المشركين فيها بأنواع التقدم المادي والمعنوي، التي يجب أن تقوم بها الأجيال الإسلامية، كما تشكف لهم صور التخلف القبيحة، التي يجب عليها أن تجتنيها أو تتخلص منها. وفي الرحلات الإسلامية الجماعية المحاطة بالوقاية الكافية، والمشدودة بالقيادة الحكيمة تكتسب جملة من الأخلاق العملية المطلوبة في بناء الجماعة المسلمة، وتسنح الفرص الكثيرة التي تكون فيها أنفس المشتركين على أتم الاستعداد لتلقي المبادئ والاقتناع بها، والاستجابة لها. وعلى الداعي الإسلامي أن لا يهمل هذه الوسيلة، إذا تيسر له تحقيقها، والاستفادة منها لأهدافه الكبرى. خاتمة حول مهمة المرأة المسلمة: وبعد التنبيه على هذه الوسائل لا بد أن ألفت النظر إلى أن المرأة عنصر ذو شأن عظيم من عناصر المجتمع الإسلامي، المسئول عن بناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيًّا، على أسسها الفكرية الراسخة، ولهذا يجب على حملة رسالة الإصلاح العناية بها عناية كبرى، وإعداد المجتمع النسائي المسلم الذي يحمل نصيبه من العمل لإقامة البناء الحضاري المطلوب بهمة وصدق وإخلاص.

الفصل الرابع: الجدال بالتي هي أحسن

الفصل الرابع: الجدال بالتي هي أحسن المقولة الأولى: تعريف بالجدال بالتي هي أحسن وبيان لطائفة من قواعده العامة التعريف: الأصل في الرسالة الإسلامية أن تكون بعيدة عن الجدال، ولكن قد تدعو الضرورة إلى استخدامه وسيلة من وسائل الإقناع، وإثبات الحق الذي تنادي به أسس الحضارة الإسلامية، والتعريف بالخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وحينما تدعو الضرورة إلى استخدامه يجب أن يكون جدالًا بالتي هي أحسن. وللجدال بالتي هي أحسن شروط وقواعد وأصول يجب إتباعها، صيانة للجدال بالحق عن أن يتحول إلى مماراة بعيدة عن نشدان الحقيقة، أو إلى مشاحنات أنانية، ومشاتمات، ومغالطات، ونحو ذلك مما يفسد القلوب، ويهيج النفوس، ويورث التعصب، ولا يوصف إلى حق. الجدال في الأصل هو حوار كلامي يتفهم فيه كل طرف من الفريقين المتحاورين وجهة نظر الطرف الآخر، ويعرض فيه كل طرف منهما أدلته التي رجحت لديه استمساكه بوجهة نظره، ثم يأخذ بتبصر الحقيقة من خلال الانتقادات التي يوجهها الطرف الآخر على أدلته، أو من خلال الأدلة التي ينير له بها بعض النقاط التي كانت غامضة عليه. وهدف الجدال بالتي هي أحسن تعاون الفريقين المتناظرين على معرفة الحقيقة بتبصير كل منهما صاحبه بالأماكن المظلمة عليه، والتي خفيت عليه حينما أخذ ينظر باحثًا عن الحقيقة، وذلك حينما لا يكون أحدهما واقفًا على الحقيقة البينة وقوفًا قطعيًّا غير قابل للنقض، أما في هذه الحالة فإن هدف الجدال بالتي هي أحسن إنما هو تبصير الواقف على الحقيقة أخاه المناظر له بها، والأخذ بيده في طرق الاستدلال الصحيح لإبلاغه وجه الحق المشرق، وذلك

باستخدام الحوار البريء من التعصب، الخالي من العنف والانفعال، المتمشي وفق الأصول العامة للحوار، الذي يهدف فيه كل من الفريقين المحاورين إلى الوصول إلى الحقيقة، وكأنه جاهل بها، خالي الذهن والنفس من أي استمساك سابق بوجهة من وجهات النظر المختلفة، وذلك ابتعادًا عن كل أجواء التعصب والأنانية التي تصرف النفوس والأفكار عن تفهم الحقيقة، أو التسليم بها، ولو انكشفت لها واضحة جليلة. طائفة من القواعد العامة للجدال بالتي هي أحسن: ويحسن بنا بعد معرفة الهيكل العام للجدال بالتي هي أحسن، ومعرفة الهدف منه أن ننظر في بعض القواعد العامة له، وهي تسع قواعد استنبطناها بالتأمل في نصوص الشريعة، والتطبيقات الجدلية القرآنية، والأصول المنطقية البدهية. القاعدة الأولى: تخلي كل من الفريقين المتصديين للمحاورة الجدلية حول موضوع معين عن التعصب لوجهة نظره السابقة، وإعلانهما الاستعداد التام للبحث عن الحقيقة، والأخذ بها عند ظهورها، سواء كانت هي وجهة نظره السابقة أم وجهة نظر من يحاوره، أم وجهة نظر أخرى. وقد أرشدنا القرآن الكريم في سورة "سبأ: 34 مصحف/ 58 نزول" إلى الأخذ بهذه القاعدة؛ إذ علم الرسول صلوات الله عليه أن يقول للمشركين في مناظرته لهم: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . وفي هذا غاية التخلي عن التعصب لأمر سابق، وكمال الرغبة في نشدان الحقيقة أنى كانت. ولما كان موضوع المناظرة الذي وردت هذه الآية في صدده توحيد الخالق أو الإشراك بها، وهما أمران على طرفي نقيض، لا لقاء بينهما بحال من الأحوال

وهما يدوران حول أصل عظيم من أصول العقيدة الدينية، كان من الأمور البدهية أن الهداية في أحدهما إذ هو الحق، وأن الضلال المبين في الآخر إذ هو الباطل، ومن أجل ذلك كانت عبارة إعلان التخلي عن التعصب لأمر سابق تتضمن الاعتراف بهذه الحقيقة. القاعدة الثانية: تقيد كل من الفريقين المتحاورين بالقول المهذب، البعيد عن كل طعن أو تجريح، أو هزء أو سخرية، أو احتقار لوجهة النظر التي يدعيها أو يدافع عنها من يحاوره. وقد أرشدنا الإسلام إلى التقيد بهذه القاعدة في نصوص كثيرة، منها النصوص التالية: 1- قول الله تعالى لنبيه في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول": {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . 2- وقول الله تعالى للمؤمنين في سورة "العنكبوت: 29 مصحف/ 85 نزول": {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . أي: فإن سلك مجادلوكم مسالك غير مهذبة القول فتقيدوا أنتم بكل قول مهذب، واسلكوا كل طريقة هي أحسن وأفضل، فعبارة {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} تشمل بعمومها الأساليب الفكرية والقولية، وبهذا يتبين لنا أن المطلوب من المسلم أن يكون في مجادلته على حالة هي أرقى وأحسن باستمرار من الحالة التي يكون عليها من يجادله، أدبًا وتهذيبًا، أو قولًا وفكرًا. 3- وقول الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول": {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} . 4- وفي الحديث الشريف: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء".

5- وقد حكم الله بالويل "وهو العذاب الشديد" على الهمازين اللمازين، فقال الله تعالى في سورة "الهمزة: 104 مصحف/ 32 نزول": {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} . القاعدة الثالثة: التزام الطرق المنطقية السليمة لدى المناظرة والحوار. ومن التزام الطرق المنطقية السليمة التزام الأمرين التاليين: أولًا: تقديم الأدلة المثبتة أو المرجحة للأمور المدعاة. ثانيًا: إثبات صحة النقل للأمور المنقولة المروية. وهذان الأمران هما المقصودان بالقاعدة المعروفة عند علماء أدب البحث والمناظرة؛ إذ يقولون: "إن كنت ناقلًا فالصحة، أو مدعيًا فالدليل". وقد أرشد القرآن الكريم إلى مضمون هذه القاعدة في نصوص كثيرة، ومنها النصوص التالية: 1- قول الله تعالى في سورة "النمل: 27 مصحف/ 48 نزول": {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . 2- وقول الله تعالى في سورة "الأنبياء: 21 مصحف/ 73 نزول": {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} . ففي هذين النصين يأمر الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن يطالب المشركين بتقديم برهانهم على ما يدعون، ويشمل البرهان في مثل هذا الإدعاء البرهان العقلي، والبرهان النقلي الصادق عن رسول من رسل الله، وآية الأنبياء تُشير إلى مطالبتهم بالبرهان النقلي، أما آية النمل فتطالب بتقديم البرهان بشكل عام عقليًّا كان أم نقليًّا.

3- وقوله الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وفي هذه الآية يأمر الله رسوله بأن يطالب الذين ادعوا أنه لن يدخل الجنة إلا من كان من اليهود أو من النصارى بتقديم برهانهم على ما يدعون. 4- وقول الله تعالى في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وذلك أن اليهود أخذوا يعترضون على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في أكلة لحوم الإبل وشربه ألبانها، مع إعلانه أنه على دين إبراهيم عليه السلام، مدعين بأنها كانت محرمة في ملة إبراهيم، فقال لهم الرسول: كان ذلك حلالًا لإبراهيم فنحن نحله، فقال اليهود: إنها لم تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام، فنزل قول الله يأمر رسوله بأن يطالبهم بتقديم الدليل على ما يدعون من نقل صحيح، وذلك في قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . القاعدة الرابعة: ألا يكون المناظر ملتزمًا في أمر من أموره بضد الدعوى التي يحاول أن يثبتها، فإذا كان ملتزمًا بشيء من ذلك كان حاكمًا على نفسه بأن دعواه مرفوضة من وجهة نظره. ومن الأمثلة على سقوط دعوى المناظر بسب التزامه بضد دعواه، وقبوله له، استدلال بعض من أنكر رسالة محمد صلوات الله عليه بأنه بشر، وزعم هؤلاء أن الاصطفاء بالرسالة لا يكونو للبشر، وإنما يكون للملائكة، أو مشروط بأن يكون مع الرسول من البشر ملك يرى، وفي اعتراضهم على بشريته قالوا: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق" مع أنهم يعتقدون برسالة كثير

من الرسل السابقين كإبراهيم وموسى وعيسى، وهؤلاء في نظرهم بشر وليسوا بملائكة. ولذلك أسقط الله دعواهم بقوله في سورة "الفرقان: 25 مصحف/ 42 نزول": {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} . القاعدة الخامسة: ألا يكون في الدعوى أو في الدليل الذي يقدمه المناظر تعارض، أي: ألا يكون بعض كلامه ينقض بعضه الآخر، فإذا كان كذلك كان كلامه ساقطًا بداهة. ومن أمثلة ذلك قول الكافرين حينما كانوا يرون الآيات الباهرات تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سحر مستمر قال تعالى في سورة "القمر: 54 مصحف/ نزول": {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} . ففي قولهم هذا تعارض وتهافت ظاهر لا يستحق ردًّا، وذلك لأن من شأن السحر كما يعلمون أن لا يكون مستمرًا، ومن شأن الأمور المستمرة أن لا تكون سحرًا، أما أن يكون الشيء الواحد سحرًا ومستمرًا معًا فذلك جمع عجيب بين أمرين متضادين لا يجتمعان، هذا إذا كان مرادهم من عبارة: {مُسْتَمِر} معنى الدوام، أما إذا كان المقصود معنى شدة القوة فالعبارة لا تدمغهم بالتناقض. ونظير ذلك قول فرعون عن موسى عليه السلام حينما جاءه بسلطان مبين من الحجج الدامعة والآيات الباهرات: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون} قال الله تعالى في سورة "الذاريات: 51 مصحف/ 67 نزول": {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . وهذا أمران متضادان، فمن غير المقبول منطقيًّا أن يكون الشخص الواحد ذو الصفات الواحدة مترددًا بين كونه ساحرًا وكونه مجنونًا، وذلك لأن من شأن

الساحر أن يكون كثير الذكاء والدهاء، وهذا أمر يتنافى مع الجنون تنافيًا كليًَّا، فكيف صح في فكر فرعون هذا الترديد، إن في كلامه هذا لتهافتًا ظاهرًا يسقطه من الاعتبار لدى المناظرة، فهو لا يستحق عليه جوابًا. القاعدة السادسة: ألا يكون الدليل الذي يقدمه المناظر ترديدًا لأصل الدعوى، فإذا كان كذلك لم يكن دليلًا، وإنما هو إعادة للدعوى بصيغة ثانية. القاعدة السابعة: عدم الطعن بأدلة المناظر إلا ضمن الأصول المنطقية، أو القواعد المسلم بها لدى الفريقين المتناظرين. القاعدة الثامنة: إعلان التسليم بالقضايا والأمور التي هي من المسلمات الأولى، أو من الأمور المتفق بين الفريقين المتناظرين على التسليم بها، أما الإصرار على إنكار المسلمات فهو مماراة منحرفة عن أصول المناظرة والمحاورة الجدلية السليمة، وليست من شأن طالبي الحق. القاعدة التاسعة: قبول النتائج التي توصل إليها الأدلة القاطعة، أو الأدلة المرجحة، إذا كان الموضوع مما يكفي فيه الدليل المرجح. وإلا كانت المناظرة من العبث الذي لا يليق بالعقلاء أن يمارسوه.

المقولة الثانية: أمثلة جدالية من القرآن الكريم

المقولة الثانية: أمثلة جدالية من القرآن الكريم يمر المتبصر في القرآن الكريم بأمثلة جدالية كثيرة، منها صور علمها الله، ومنها صور جرت بين الرسل وأقوامهم حكاها الله لنا، ومنها إجابات وردود تولاها الله بنفسه للرد على مجادلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستطيع المتبصر في هذه الصور أن يتمثل الجدال بالتي هي أحسن في أرقى نماذجه، وأن ينتزع جميع الشروط المطلوبة للجدال بالتي هي أحسن، وجميع القواعد التي يجب مراعاتها فيه، نظرًا إلى أنها هي التطبيقات العملية الراقية له. وفيما يلي طائفة من هذه الأمثلة: المثال الأول: علم الله رسوله محمدًا صلوات الله عليه طريقة من طرق مجادلته المشركين في آية من سورة "الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول" وهي قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . الشرح: مرت سورة الرعد بدءًا من مطلعها حتى آخر الآية الخامسة عشر بمراحل من معالجة المشركين بوسائل الإقناع المختلفة، التي تكشف لهم عدم جدوى ما هم به مستمسكون، ثم دعت أساليب الدعوة الحكيمة إلى الانتقال بهم إلى مرحلة المجادلة بالتي هي أحسن، فأنزل الله على رسوله هذه الآية، يعلمه فيها أسلوب المجادلة بالحق، ويرشده إلى أن يستعمل معهم شيئًا من العنف في معاريض القول ردًّا على تهجماتهم الكثيرة، التي أفصحت عنها الآيات السابقات، مع التزام الأدب القولي الرفيع في ذلك. في هذه الآية يعلم الله رسوله كيف يجادل المشكرين ليردهم بالبرهان القاطع إلى توحيد الإلهية لله وحده، وذلك بنقلهم من الحقائق المسلم بها إلى حقائق أخرى لازمة لها لزومًا عقليًّا، ومرتكزة عليها بحكم البداهة. وذلك بأن يضع المشركين أمام احتمالين لا ثالث لهما بالنسبة إلى ما هم عليه من شرك: الاحتمال الأول: أن يكونوا ممن يعتقدون أن الله هو خالق السماوات

والأرض، وهؤلاء هم معظم كفار العرب، وبشأنهم قال الله تعالى في سورة "لقمان: 31 مصحف/ 57 نزول": {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . وقال أيضًا بشأنهم في سورة "العنكبوت: 29 مصحف/ 85 نزول": {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ، اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} . وهذا الاحتمال هو ما أشار إليه صدر الآية التي نُعالج ما فيها من تعليم جدالي للرسول صلوات الله عليه بقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} مع إضافة كل ما فيه معنى الخلق، كالرزق والحياة والموت والنفع والضر، والنصر والهزيمة، أخذًا من دلالة لفظ "رب" الشاملة لكل ذلك في الكون. الاحتمال الثاني: أن يكونوا ممن يعتقدون تعدد الخالقين، وأن لشركائهم خلقًا مثل خلق الله، وأن ما خلقوه مختلط مع آثار خلق الله من غير تمييز، أو أن لآلهتهم تأثيرات في بعض أعمال الربوبية كالرزق والنصر والهزيمة والنفع والضر ونحو ذلك. وهذا الاحتمال هو ما أشار إليه آخر الآية بقوله الله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . أما الاحتمال الأول فيقول الله لرسوله فيه: قل لهم على سبيل الاستفهام لتنتزع منهم الإقرار: {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وبما أن معظمهم ممن يعتقدون أن الله هو الخالق الأعظم، فلا بد أن يدركوا أن الله هو الرب فيقولوا في جواب السؤال: "الله" فإذا قالوا هذا فهو نقطة اتفاق بينكم، فأعلنها كما يعلنونها وثبتها كما يثبتونها "قل: الله" أي هو الله.

ثم انتقل بهم من هذه النقطة المسلم بها إلى النقطة الأخرى التي هي محل خلافهم، وهي نقطة توحيد الإلهية، وعند هذه النقطة لا تجد الموحد كبير عناء في إقامة الحجة على وجوب توحيد الإلهية عقلًا، بعد التسليم بتوحيد الربوبية لأن من تفرد بأنه هو الرب أي: الخالق المنعم القادر على كل شيء، والذي بيده النفع والضر، والحياة والموت، وكل من عداه مخلوقون له، فلا بد أن يكون هو وحده المستحق للعبادة، وهو وحده الذي إذا دعي أجاب. ومتى لزمتهم الحجة البينة حق لك أن تُوجه لهم النقد اللاذع إذا أصروا على شركهم، فقل لهم: {أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} . هذا استفهام إنكاري يتضمن الإنكار الشديد عليهم في اتخاذهم من دون الله أربابًا ونصراء يعبدونهم كعبادة الله: مع أنهم لا يملكون لنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فضلًا عن أن يملكوا شيئًا من ذلك لكم، وإذا قد وضحت الحجة ودمغهم البرهان الذي لا يستطيعون الرد عليه، وما زالوا يصرون على الباطل، فاكشف لهم أن طريقة الموحدين هي طريقة العقل السديد، والمنطق الرشيد، والبصر النافذ إلى حقائق الأمور، وهجر الظلمات والسير في النور، أما طريقة المشركين فهي طريقة الجهل والضلالة، والعمى الفكري عن الحقائق، وترك النور والسير في الظلمات، وهيهات أن تستوي طريقة هؤلاء وطريقة أولئك، ومن ثم فلن يستوي هؤلاء وأولئك، والفرق بينهما كالفرق بين الأعمى والبصري والفرق بين طريقتهما كالفرق بين الظلمات والنور. وإذا كان الأمر كذلك فاضرب لهم مثلين: أحدهما: يُوضح الفرق بين الموحد العالم بأصول عقيدته وبراهينها، وبين المشرك الذي يخبط في أخلاطه الاعتقادية على جهل. وثانيهما: يُوضح الفرق بين الحقائق الجلية التي يؤمن بها الموحدون، وبين الجهالات التي يتمسك بها المشركون. فقل لهم على سبل الاستهفام:

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} . وأما الاحتمال الثاني: وهو الذي أشارت إليه الآية بقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} . أي: أم هم ممن جعلوا لله شركاء في ربوبيته، وزعموا بأن هؤلاء الشركاء قد خلقوا مثل خلق الله، فاختلطت عليهم مخلوقات الله بمخلوقات الشركاء، فاشتبه عليهم الأمر، فحيرهم، فأوقع في أنفسهم أنهم قد يكونون مخلوقين من قبل هؤلاء الشركاء، أو أن بيدهم رزقهم أو حياتهم، أو أي شيء يتصل بهم مما ينفعهم أو يضرهم، ومن أجل ذلك عبدوهم، والتجئوا إليه بالدعاء. فإن كانوا كذلك فابدأ بهم من نقطة التوحيد الأولى، وهي توحيد الربوبية، فأثبت لهم أن الله خالق كل شيء، وأنه هو الواحد القهار، الذي تنفذ مشيئته في كل شيء بسلطان القوة والقهر، وليس لأحد مشاركة الله فيما يقضي به أو يأمر أو يخلق، فقال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . وقد أجمل الله لرسوله في هذا النص نقاطًا ثلاثًا من الاستدلال على توحيد الربوبية، فصلها وبسطها في متفرقات من القرآن المجيد: النقطة الأولى: كون كل شيء في الوجود الحادث مخلوقًا لله تعالى. النقطة الثانية: كون الله واحدًا في ذاته متفردًا في ربوبيته. النقطة الثالثة: كون الله قهارًا غالبًا، ومن له القهر على كل شيء فهو الرب حقًّا. وتفصيل أدلة هذه النقاط الثلاث قد جاء موزعًا في القرآن الكريم، وقد ترك للرسول صلى الله عليه وسلم بيانه للمشركين، في إقامة الحجج لهم على توحيد الربوبية لله تعالى بقدر الحاجة، الذي يلزم عنه عقلًا توحيد الإلهية له، أي: هو وحده المستحق للعبادة، وكل عبادة لغيره شرك به في إلهيته.

المثال الثاني: ومن المثلة الجدالية الواردة في القرآن الكريم جدال نوح عليه السلام لقومه، قال الله تعالى في سورة "هود: 11 مصحف/ 52 نزول": {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ، فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ، وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ، وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} . ففي هذه النص صورة جدالية بديعة جرت بين نوح عليه السلام وبين قومه، وفي هذه الصورة الجدالية ما يلي: يبدأ نوح عليه السلام بعرض الحقيقة الدينية التي أمره الله بتبليغها، فيقول لقومه: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} . فيعلن قومه رفض دعوته معللين ذلك بأمور ثلاثة: الأمر الأول: يقولون له فيه: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} . ويقصدون بذلك أنه لو كان رسولًا لما كان بشرًا مثلهم، لكنه بشر، إذن فهو ليس برسول. الأمر الثاني: يقولون له فيه: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} . ويقصدون بذلك أنهم يستنكفون عن أتباعه لوجود لفيف من حوله

قد آمنوا به واتبعوه، ممن يرونهم أراذل قومهم، الذين يستجيبون للأمور من غير روية ودون تفكير أو تبصر. ويحاولون أن يستدلوا على بطلان دعوته بكون هؤلاء الأراذل في نظرهم قد قبلوها، واستجابوا لها، وهؤلاء في تصورهم يندفعون وراء أفكارهم الأولية الغابرة، فيستجيبون للدعوات دون تأمل وتفكير. والحقيقة أن عامل الكبر في نفوس الذين كفروا به هو الذي ساهم في صرفهم عن الإيمان، وأن استكبارهم هو الذي جعلهم يتعللون بهذه العلة الضعيفة، ولم يكن عند الذين استجابوا له إلا صفاء فطرتهم التي أرشدتهم إلى الحق فاتبعوه، دون أن يجدوا في أنفسهم موانع تصرفهم عنه. الأمر الثالث: يقولون له فيه: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْل} ويقصدون بذلك أنهم لا يرون لنوح ومن آمن معه أمورًا دنيوية زائدة، قد فضلهم الله بها بسبب إيمانهم، كالغنى أو الجاه أو كثرة الخيرات المادية، وهم يزعمون بهذا أنه لو كان الله راضيًا عليهم بهذا الإيمان الذي التزموه ويدعون إليه لفضلهم بهذه الأمور الدنيوية على الذين كفروا برسالة نوح عليه السلام. وقد نتج عندهم من هذه الأمور الثلاثة، التي اعتبروها أدلة مرجحة، ظنهم بأن نوحًا ومن آمن معه كاذبون، ومن أجل ذلك ختموا استدلالهم بقولهم: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِين} كإعلان للنتيجة بعد تلك المقدمات الاستدلالية. رد نوح عليه السلام: وفي مقابل هذه الاستدلالات التي ساقها قوم نوح مستندين إليها في رفض دعوته كان على نوح عليه السلام أن يجادلهم بالطريقة التي هي أحسن من طريقتهم، ليبين لهم بطلان أدلتهم، ويثبت لهم أنه ومن آمن به على حق من ربهم، ولذلك أخذ يفند حججهم واحدة فواحدة، ضمن طرق المجادلة المهذبة الراقية. أولًا: أما احتجاجهم بأنه بشر مثلهم، ودعواهم أن البشرية تتنافى مع الرسالة، فقد أثبت لهم نوح عليه السلام بطلان ذلك بقوله المهذب الكريم:

{يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} . ويتضمن هذا الرد الكريم ما يلي: أ- أن الاصطفاء بالرسالة من خصائص الله، وأن الله يصطفي برحمته من يشاء، سواء كان من اصطفاه بشرًا أم غير بشر، فكيف تحجرون رحمة الله! وبأي دليل من العقل أو من الوحي؟ وهل يمتنع على الله أن يصطفي بشرًا رسولًا؟ ب- كيف تستطيعون رد البينة التي أكرمني الله بها، والبينة التي مكنه الله منها أمران: - أمر فكري يتضمن الحقائق الدينية المؤيدة بالبراهين العقلية. - وأمر مادي يتجلى بالمعجزة التي تشهد بصدقه. وبهذا الرد المحكم أسقط لهم حجتهم الأولى. ثانيًا: وأما تعللهم بوجود لفيف حوله قد آمنوا به واتبعوه ممن يرونهم أراذل قومهم يستجيبون للدعوات من غير تفكير ولا روية؛ إذ قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} . فقد رد نوح عليه بقوله: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ، وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . ويتضمن لهذا الرد الكريم من نوح عليه السلام أمرين: الأمر الأول: إنه ليس بطالب مال حتى يقرب إليه الأغنياء ويطرد الفقراء الذين يسمونهم أراذل بسبب فقرهم، وإنما هو مبلغ رسالة ربه للناس جميعًا أغنيائهم وفقرائهم، ومسئولية الفقراء نحو الإيمان والالتزام بشرائع الله كمسئولية الأغنياء سواء بسواء، فهم ملاقو ربهم أيضًا فسائلهم ومحاسبهم، ثم يختم حجته هذه بكشف جهل مجادليه بعناصر التكليف الرباني للناس، ويشعرهم بأن فروق الغنى والقوة والضعف، والشرف والضعة، لا تدخل في عناصر التكليف بالإيمان والتزام شرائع الله لعباده.

الأمر الثاني: أن الله سيؤاخذه ويعاقبه إذا هو اصطفى الأغنياء والشرفاء وطرد الفقراء والضعفاء، فمن ينصره، ويدفع عقاب الله عنه إذا هو فعل شيئًا من ذلك؟ ثالثًا: وأما تعللهم بأنهم لم يروا لنوح ومن آمنوا معه ميزات دنيوية فضلهم الله بها بسبب إيمانهم على الذين لم يؤمنوا، كالمال أو الجاه أو الخيرات الكثيرات؛ إذ قاموا: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} فقد رد نوح عليه بقوله: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} . ويتضمن هذا الرد تعريفهم بأن الدنيا هي مجال الابتلاء العام، والمؤمنون والكافرون فيه على سواء، وليست خزائن الله بيده حتى يفيض منها على من آمن برسالته، وليست الدنيا في الأصل دار التفضيل بالمال والخيرات بحسب الإيمان وصالح الأعمال، فخزائن الله بيد الله يفيض منها على من يشاء من عباده، لحكمة الابتلاء التي يعلمها سبحانه، وعلم الغيب الذي يرتبط به تحصيل المنافع المادية الدنيوية هو أيضًا من خصائص الله، وليس مما وضعه الله بين يدي، حتى استعمله في جلب المنافع الدنيوية لمن آمن معي. وبعد أن رد نوح صلوات الله عليه على أقوالهم بالحجج المقنعة أعلن إصراره على بشريته، فقال: {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} . وأعلن تكريمه لمن آمن معه، وأنهم أهل لاستحقاق الخير من الله بسبب إيمانهم بقوله: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} . أي: فهو يجازيهم عنده بحسب ما في أنفسهم من خير، ويتضمن هذا أيضًا رفضه أن يستجيب لمطالبهم بطرد الفقراء والضعفاء الذين آمنوا معه. ثم ختم نوح كل ذلك بقوله: {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} . أي: لو ادعيت أن عندي خزائن الله أعطيكم منها إذا آمنتم بي، أو ادعيت

أني أعلم الغيب، فأرشدكم إلى الطريق التي تحققون منها أرباحًا ومنافع دنيوية، أو ادعيت أني ملك كما تتوهمون في الرسل، أو زعمت كما تشتهون أن الفقراء والضعفاء ليسوا أهلًا للكرامة الإيمانية والجزاء على الإيمان والعمل الصالح بالخير العظيم عند الله، فطردتهم بناء على ذلك. فلم يجد الملأ من قوم نوح بعد هذه القوة الجدلية التي واجههم بها رسولهم فأقحمهم إلا أن يقولوا: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . فكان رد نوح الأخير على هذا المطلب أن قال لهم: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .

الفصل الخامس: إقامة الحكم الإسلامي

الفصل الخامس: إقامة الحكم الإسلامي المقدمة: من الوسائل الجليلة لبناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيًّا على أسسها الفكرية الراسخة، إقامة الحكم الإسلامي المتقيد بأسس الإسلام وتعاليمه وإرشاداته ووصاياه. ومن شأن هذه الوسيلة أن تكون مستمرة مع الزمن لمتابعة البناء الحضاري وصيانته. والمفروض في الحكم الإسلامي السوي أن يستخدم في دفع رعيته للقيام بأعمال البناء الحضاري المجيد مختلف الوسائل المادية والمعنوية التي توصي بها أو تبيحها أسس الإسلام وتعاليمه، وكل ذلك ضمن خطتين كبيرتين: الخطة الأولى: خطة إنشاء وتعمير. الخطة الثانية: خطة صيانة وترميم. ففي خطة الإنشاء والبناء يعمل الحكم الإسلامي على دفع مواكب رعيته لبناء الحضارة الإسلامية، والسير الحثيث بتقدم وارتقاء في كل ميدان من ميادين العمل المنتج، ويعمل أيضًا على توجيه مواكب البناء الحضاري توجيهًا تمليه أسس الإسلام الحضارية، ويبذل كل جهده لامتصاص مختلف الطاقات البشرية وغير البشرية، التي يمكن امتصاصها لتحقيق أكبر مقدار ممكن من البناء العظيم، الذي تهدف إلى إقامته أسس الإسلام الحضارية. وفي خطة الصيانة والترميم يعمل الحكم الإسلامي على مراقبة رعيته مراقبة شديدة، وتأديب المتوانين المتهاونين بواجباتهم، ورد المنحرفين إلى صراط الحق

والخير، والأخذ على يد الظالمين وردعهم, ومعاقبة من يستحق العقاب، وقطع دابر الفتن، وحفظ المجتمع من التفكك بإقامة الحق والعدل، وتوثيق الروابط الاجتماعية، وشد أواصرها، وكل ذلك ضمن منهج الإسلام القويم. وإن صحائف التاريخ لتشهد بأن إقامة الحكم السوي الرشيد من أفعل الوسائل التي تُرسي في المجتمعات الإنسانية قواعد الحضارات الراقيات، وتمنحها الطمأنينة والاستقرار والرفاه، ومن أفعل الوسائل التي تخلف آثارًا عظيمة في الإصلاحات الحضارية للأمم، وفيما تبلغه من رقي سامق. وجاء فيما روي عن عثمان رضي الله عنه قوله: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" أي إن الله ليدفع الناس إلى فعل الخير ويردعهم عن فعل الشر بقوة السلطان، ما لا يكون نظيره بمجرد موعظة القرآن. ولهذا اهتم الإسلام اهتمامًا بالغًا بإقامة الحكم الإسلامي عند أول فرصة يستطيع بها مجتمع مسلم إقامته على طائفة ما من أرض الله. وهذا ما فعله الرسول صلوات الله عليه بعد هجرته إلى المدينة مباشرة؛ إذ تهيأ له فيها أن يباشرها بإقامة الحكم الإسلامي في المجتمع الصغير، الذي أصبح المسلمون فيه ذوي كيان يمكن تمييزه عن غيره، وأصحاب سيادة مستقلة على طائفة من الأرض، ومعلوم أن مثل هذا يختلف تقديره باختلاف الأزمنة، وأحوال الأمم والشعوب، والظروف العالمية الدولية. وكان قيام الدولة الإسلامية في المدينة يتطلب تأسيس مكان جامع لها، فكان أول ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أن بنى مسجد المدينة، ولما كان مفهوم الدولة الإسلامية يشمل فيما يشمل جوانب العبادة والعلم والسياستين الداخلية والخارجية، كان مسجد المدينة هو المكان الجامع لها، وذلك نظرًا إلى أن حالة الدولة الناشئة الصغرى يومئذ لا تستدعي أكثر من ذلك. وكان اسم المدينة يثرب، ولا تعدو هذه البلدة أن تكون قرية غير كبيرة من القرى فغير الرسول اسمها، وأعلن أنها المدينة، إشارة إلى الرسالة المدنية الحضارية التي يحملها إلى الناس.

ونظر الرسول صلوات الله عليه إلى المجتمع الإسلامي، الذي تسلم منذ ذلك الحين رعايته الكاملة الدينية والمدنية، فبادر إلى توحيد أعضائه بالتآخي بين المسلمين بشكل عام، واهتم بشكل خاص بأن يعقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار، ليقف في وجهه ما يمكن أن يربو من فوارق عنصرية مع تطاول الزمن، وبلغ التآخي أول الأمر مبلغ التوارث، ولما استقر الأمر وتوطدت دعائم الدولة نسخ حكم التوارث على أساس التآخي، وبقي حكم التوارث بالنسب والمصاهرة والولاء. ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا إلى السياسة الداخلية والخارجية لهذه الدولة الإسلامية الفتية، فأعلن الوثيقة السياسية الأولى في تاريخ الإسلام، أو ما قد نسميه اليوم بدستور العمل السياسي لهذه الدولة في المدينة، وصدر هذه الوثيقة بالمادة الأولى من هذا الدستور وهي: "إن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وعاهد معهم أمة من دون الناس". وضم إليها طائفة من المواد الأخرى التي تبين بعض الحقوق العامة، وطائفة من المواد التي تبين علاقة المسلمين بمجاوريهم في المدينة من أهل الكتاب. وأمر صلوات الله عليه بتسجيل هذه الوثيقة في صحيفة، فكانت هي المرجع للعمل السياسي الذي استدعته ظروف المدة الأولى لإقامة الدولة الإسلامية.

المقولة الأولى: البيعة وواجبات الحاكم والمحكوم

المقولة الأولى: البيعة وواجبات الحاكم والمحكوم إن إقامة الحكم الإسلامي لا تتم إلا بشرطين أساسيين: أحدها: يكون عند بدء إقامته، وهي البيعة. وثانيهما: يلازم قيامه وهو عدل صاحب الأمر ونصحه لرعيته، وطاعة المسلمين له فيما لا معصية لله فيه، ونصحهم له. وقد اختار الإسلام أن يبدأ الحكم الإسلامي بالبيعة الكبرى المسبوقة بالشورى، والبيعة الكبرى التزام مشترك بين جمهور المسلمين وبين من اختاروه ليكون صاحب الأمر فيهم، والمطلع بمهام الخلافة الكبرى. وهذه البيعة في الإسلام تتضمن بالدرجة الأولى التزام كل من الطرفين جمهور المسلمين وصاحب الأمر منهم، بأسس الشريعة الإسلامية، وبأحكام فروعها، وتتضمن بالدرجة الثانية التزام جمهور المبايعين من المسلمين بالطاعة لأميرهم في كل أمر أو نهي لا معصية لله فيه، مع نصحهم له. ولما كان قيام الحكم الإسلامي ضرورة حتمية لإقامة المجتمع المسلم والدولة المسلمة على الوجه الصحيح. ولما كانت الوسيلة المختارة في الإسلام لإقامة هذا الحكم هي البيعة. كان حكم البيعة في الإسلام من واجبات كل مسلم مكلف ذكرًا كان أو أنثى. فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية". رواه مسلم. ونظرًا إلى أهمية البيعة في الإسلام قال الله تعالى في سورة "الفتح: 48 مصحف/ 111 نزول": {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} . فقد أعلن الله تبارك وتعالى في هذه الآية أن مبايعة المؤمنين للرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي مبايعة لله؛ لأن أهم شطر فيها إنما هو التزام كل من جمهور المؤمنين وولي أمرهم، بأسس الإسلام وأحكامه وتعاليمه، ولذلك كانت يد الله فوق

أيديهم، تعقد هذه المبايعة وتباركها، وتتكفل بدفع الثمن لمن أوفى بما عاهد عليه الله، وكل مبايعة بعد الرسول لأي خليفة يتولى أمور المسلمين، لها حكم مبايعة المؤمنين للرسول، وذلك إذا توافرت فيها شروط البيعة الإسلامية. والبيعة ملزمة لا يجوز خلعها إلا بكفر بواح "أي: ظاهر جلي". هذا هو الشرط الأول من شرطي إقامة الحكم الإسلامي. وأما الشرط الثاني وهو الذي يلازم قيام الحكم الإسلامي، وهو كما سبق عدل صاحب الأمر من المسلمين، ونصحه لهم، وطاعة المسلمين له فيما لا معصية لله فيه، مع نصحهم له، فقد تظاهرت عليه نصوص كثيرة من القرآن والسنة. قال الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . ولدى التأمل في هذا النص القرآني العظيم نلاحظ أنه يجمع الكليات الكبرى لإقامة الحكم الإسلامي. أ- ففي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} . أمر من الله لجميع المسلمين بأن يؤدوا أمانة الحكم والسلطان لمن هم أكفياء للقيام بواجبات هذه الأمانة منهم، وقد بينت نصوص أخرى الوسيلة العملية لتأدية هذه الأمانة، وأنها إنما تكون عن طريق البيعة الشرعية، المسبوقة بالشورى. قال تعالى في وصف المؤمنين في سورة "الشورى: 42 مصحف/ 62 نزول": {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} .

وفي حديث مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". ب- وفي قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} . أمر من الله موجه لأولي الأمر من المسلمين بأن يحكموا بين الناس بالعدل، وقد أوضحت أسس الإسلام طريق العدل ومناهجه العامة في مختلف شئون الحكم السياسية والإدارية والقضائية والحربية والداخلية والخارجية. وفيما يجب على الحاكم نحو رعيته تظاهرت نصوص الشريعة الإسلامية: فمنها النصوص القرآنية الكثيرة التي أمرت بالعدل وبالقسط، ونهت عن الجور والظلم. ومنها: عن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو عاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة". وفي رواية: "فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة". وفي رواية عنه عند مسلم: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم، وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به". رواه مسلم.

ج- وفي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . أمر موجه للمسلمين كافة حكامًا ومحكومين بأن يلتزموا جميعًا طاعة الله وطاعة رسوله، فإذا كانوا جميعًا مأمورين بهذه الطاعة فليس للحاكم أن يخالف، فيأمر بما فيه معصية لله، أو معصية للرسول، وليس للمحكوم أن يطيع في ذلك، وإنما تكون الطاعة واجبة فيما ليس فيه معصية لله أو للرسول. ومن هنا نفهم أن المباحث العامة إذا أمر بها أولو الأمر من المسلمين صارت أمورًا واجبة التنفيذ شرعًا، وإذا نهوا عنها صارت محرمة شرعًا ما لم تكن من حقوق الأفراد بالإباحة الربانية، ولكن أوامرهم ونواهيهم ليست لها صفة الاستمرار لذاتها فيما بعدهم، فلأولي الأمر الذين يخلفونهم أن يغيروا فيها بحسب المصالح التي يقدرونها. د- وفي قوله تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم} عطفًا على قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . أمر موجه من الله لجمهور المسلمين بأن يطيعوا أولي الأمر منهم، ولا بد أن يكون هذا مقيدًا بما ليس فيه معصية لله أو معصية للرسول؛ لأن أولي الأمر مأمورون بطاعة الله وطاعة الرسول، وجمهور المسلمين مأمورون كذلك بطاعة الله وطاعة الرسول، قبل طاعتهم لأولي الأمر منهم، والجمع بين ذلك لا يتم إلا بأن تنحصر أوامر الأمر ونواهيهم فيما لا معصية لله فيه. وهذه حقيقة تظاهرت عليها نصوص الشريعة الإسلامية. فعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". رواه البخاري ومسلم. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة". رواه البخاري.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليك السمع والطاعة عفي عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك". أي: ألزم السمع والطاعة. رواه مسلم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني". رواه البخاري ومسلم. والأمر بالطاعة منفصل عن الأمر بالبيعة، فمن تولى أمور المسلمين بمبايعة جمهورهم له، وفيهم أهل الحل والعقد كان من حقه على كل فرد من أفراد المسلمين أن يطيعه فيما لا معصية لله فيه، سواء بايعه أم لم يبايعه. وأما وجوب نصح عامة المسلمين لأئمتهم فيدل عليه نصوص كثيرة منها ما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة" فقال أصحابه: لمن يا رسول الله، قال: "لله ولرسوله ولأئمة المسملين وعامتهم". اسم الخليفة: وأما تسمية صاحب الولاية الكبرى في المسلمين خليفة فهو اختيار نبوي اقتبسه الرسول صلوات الله عليه من القرآن الكريم، وهذا الاختيار النبوي قد أخذ به المسلمون الأولون. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، سيكون بعدي خلفاء فيكثرون". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "أوفوا ببيعة الأول، ثم أعطوهم حقهم، واسألوا الله الذي لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم". رواه البخاري ومسلم.

المقولة الثانية: فلسفة الحكم الإسلامي

المقولة الثانية: فلسفة الحكم الإسلامي لدى النظر في أصول الحكم الإسلامي، وأركانه وشروطه وتطبيقاته، نلاحظ أنه سلطة تنفيذية تقوم بدور الإمامة في الأرض لمراقبة تنفيذ شريعة الله، ولسياسة الأمة سياسة عدل وحكمة، وللعمل على دفع الناس لبناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيًّا على أسسها الفكرية، التي أرشدت إليها تعاليم الإسلام ونصائحه ووصاياه، واتخاذ الوسائل المستطاعة لذلك ضمن حدود تعاليم الإسلام. فما قرره الإسلام من أصول وأحكام وغيات ووسائل في مصادره التشريعية الصحيحة الصريحة، فإن سلطة الحكم الإسلامي لا تملك فيه تعديلًا ولا تبديلًا، ووظيفة هذه السلطة بالنسبة إليه إنما هي مراقبة التنفيذ، واتخاذ الوسائل المستطاعة الكفيلة به. ولهذه السلطة التنفيذية أن تُسخر قوة سلطانها المعنوي والمادي لتحقيق تنفيذ مقررات الإسلام، وإلزام الناس بتطبيقها، ومراعاتها مراعاة تامة، فتصدر في ذلك التنظيمات والتعليمات الإدارية، وتوجه الأوامر المكتوبة، وترتب الجزاءات المعنوية والمادية، وتقرر الشروط اللازمة لمن يتولى أمرًا من الأمور العامة أو الخاصة، وتعتبر الالتزام بالأحكام الإسلامية جزءًا من الكفاءات التي تدخل في شروط التوظيف والترقيات، وتعتبر عدم الالتزام إخلالًا بالواجبات المسلكية التي تستدعي لفت النظر، فالإنذار، فالمعاقبة، فالصرف من العمل، إلى غير ذلك من وسائل كثيرة. ولسلطة الحكم الإسلامي أن تستعين بمن ترى فيه الخير من جند لحفظ الأمن ومراقبة التنفيذ الداخلي، وجند لحراسة الحدود، ونحو ذلك. ولسلطة الحكم الإسلامي أن تُؤسس مختلف المصالح والإدارات والوزارات، وتضع لها التنظيمات الإدارية، التي لا تتعارض مع شيء مما قرره الإسلام، ولها أن تسميها بالأسماء الملائمة لمهامها.

ويدخل في ذلك تنظيم القضاء الإسلامي العادل، للحكم بين الناس بالعدل، وتنظيم الهيئات التفتيشية، وتنظيم هيئات الدعوة والوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفق الأسس الصحيحة التي تعتمد على العلم الصحيح، والتربية الكريمة القويمة، والحكمة في الأمور. وأما ما لم يقرر فيه الإسلام تفصيلات جزئية، وإنما اكتفى فيه بتحديد الغاية، ووضع الحدود العامة للطرق والوسائل، فإن من وظيفة الحكم الإسلامي أن يبذل ما يستطيع من جهد للسير برعيته شطر الغاية الحضارية المثلى، التي حددها الإسلام في أسسه الحضارية العامة، وما تتطلبه المسيرة الحضارية المترقية للمجتمع الإسلامي، فعلى أولي الأمر فيه أن يتخذوه ويقوموا به، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ومن أمثلة ما يقوم به الحكم الإسلامي من ذلك ما يلي: 1- أن يضع السياسة التعليمية العامة، ويجعلها موجهة إلى ما يحقق بناء الحضارة الإسلامية بناء صحيحًا، وأن يشرف على تنفيذها إشرافًا دقيقًا يحميها من الانحراف والزيغ، والتهاون والتقصير. 2- أن يؤلف المجالس الاستشارية المختلفة من المختصين المخلصين لكل جانب من جوانب الحياة. 3- أن يهيئ تكافؤ الفرص لجميع أصحاب الكفايات الموثوقين بإخلاصهم لبناء الحضارة الإسلامية، وحسن إدارتهم، وبدلهم ما يستطيعون من جهد. 4- أن يُؤسس المؤسسات الاجتماعية المختلفة، ويُوزع فيما بينها أعمال البناء الحضاري المجيد وفق اختصاصاتها. 5- أن يشجع على القيام بمشاريع العمل الإنتاجية الزراعية والصناعية والعمرانية وغيرها، ولو بأن يقوم بشيء منها بشكل مباشر، بغية دفع الأمة إلى العمل، وتدريبهم عليه. 6- أن يتخذ الوجوه الصالحة لتحقيق مبدأ الشورى المقرر في الإسلام بقوله تعالى لرسوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر} وقوله تعالى يصف المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} . 7- أن يتخذ التنظيمات الإدارية المختلفة لضمان تيسير المصالح والأعمال وفق أخصر الطرق، وأضبطها، وأكثرها ضمانًا للحقوق، وأفضلها لتحقيق الغاية الإسلامية الدينية والمدينة، وهي الغاية الحضارية المجيدة. وهكذا، إلى غير ذلك من أمور كثيرة تتطلبها الحكمة الإدارية، والسياسية، والعسكرية، لإقامة الدولة الإسلامية الحضارية المتقدمة

المقولة الثالثة: الموظف المسلم ومسؤولياته

المقولة الثالثة: الموظف المسلم ومسؤولياته ... المقولة الثالثة: الموظف المسلم ومسئولياته 1- الوظيفة في الإسلام فرع من فروع الأمانة العامة: لدى الرجوع إلى جذور حكمة الله إذ خلق الناس ليبلوهم في ظروف الحياة الدنيا، ثم يحاسبهم ويفصل القضاء بينهم ويجازيهم في حياة أخرى، بعد برزخ فاصل بين الحياتين، نلاحظ أن الوظيفة في إدارات المجتمع الإسلامي فرع من فروع الأمانة العامة التي عرضت على النفوس الإنسانية، حين كانت في عالم الذر. لقد اعترف كل إنسان وهو في عالم الذر لله عز وجل بربوبيته، بعد أن أُعطي الإرادة الحرة، وقدرات الفهم، وأعلمنا الله بهذا الاعتراف الذي نسيناه وبقيت في ذواتنا الفطرة العقلية والمشاعر الوجدانية التي تهدينا إليه، فقال الله عز وجل في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} .

وبعد الاعتراف لله عز وجل بربوبيته، عرض الله على الإنسان الواعي لكل عناصر ما عرض عليه وشروطه ونتائجه، والمالك لحرية إرادته في القبول أو الرفض: أتريد أن تحمل الإمانة أو لا تريد؟، وهذا العرض نفسه عرضه الله عز وجل على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملن الأمانة، لكن الإنسان استعد لحملها، طمعًا بما في حملها من تشريف له وتكريم، وأملًا بالخلود السعيد في جنات النعيم. وتتلخص هذه الأمانة بأن يعبر رحلة امتحانه وهو يملك الإرادة الحرة، وقدرات الإدراك والفهم، ونوازع الخير والشر، والأهواء والشهوات، على أن تُسخر له بخلق الله الأشياء والقوى في ذات نفسه وجسده، وفي الكون الذي حوله، ليمتحن في ظروف حياة أولى، هي حياة دنيا، وتكون مادة امتحانه الإيمان والإسلام والعبادة. فمن كفر فأشرك بالله شيئًا، أو جحده وأنكر ربوبيته أو إلهيته، كان مصيره إلى الخلود في عذاب النار، ومن آمن وكسب في إيمانه خيرًا ما، كان مصيره إلى الخلود في جنات النعيم، وعليه إذا عصى أوامر الله ونواهيه -مع إيمانه به- أن يتحمل عقاب ما اكتسب من المعاصي والآثام التي هي من دون الشرك بالله. دل على هذا العرض وقبول الإنسان أن يحمل الأمانة، قول الله عز وجل في سورة "الأحزاب: 33 مصحف/ 90 نزول": {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . ولقد كان الإنسان ظلومًا جهولًا بعد حمله الأمانة، ودخوله رحلة الامتحان، ولم يكن ظلومًا جهولًا بسبب حمله الأمانة، فالأمانة تشريف عظيم من الله للإنسان، طمحت نفس الإنسان إليه حرصًا منه بحسب خصائص نفسه التي وهبها الله عز وجل له على أن يحتل المنزلة الرفيعة، التي تؤهلها له الإرادة

الحرة المصحوبة بشروط التكليف، الذي يعرضه للعبور في رحلة الابتلاء في الحياة الأولى الدنيا. لكن السماوات والأرض والجبال لم تطمح لحمل هذه الأمانة، بل خفن من حملها، بعد أن أعطاهن الله القدرة على إدراكها، وأبين أن يحملنها ما دام الأمر عرضًا لا جبر فيه؛ إذ لم تُعط في أصل التكوين الصفات التي تجعلها تطمح هذا الطموح، وتغامر في عبور رحلة الابتلاء. والأمانة تطلق على ما يوضع تحت سلطة الإنسان لحفظه وحمايته، والقيام بما يجب عليه نحوه، وتطلق على الوصف النفسي والسلوكي الذي يتم به حفظ وحماية ما استؤمن عليه، وقيامه فعلًا بما يجب عليه نحوه. والولاية بدءًا من الإمارة العظمى فما دونها حتى أدنى وظائف الدولة هي أمانة توضع في يد من استؤمن عليها، فإذا حفظها وحماها وأدى ما يجب عليه فيها كان أمينًا حقًّا، وإذا أهملها فلم يرعها ولم يحفظها ولم يحملها ولم يؤد ما يجب عليه فيها كان خائنًا. وكل شيء مادي أو معنوي يستأمن الإنسان عليه إذ يوضع في يده أمانة ويقبل متبرعًا لينال شرف الولاية عليه أو ثواب الله، أو يقبله مستأجرًا بمال أو نحوه، فعليه أن يقدم له من الرعاية والحفظ والخدمات ما يلائم حالة. فراعي الأنعام المستأمن عليها مسئول عن طعامها وشرابها وحفظها وحمايتها، ومداواتها ودفع المؤذيات عنها، دون تهاون ولا تقصير. وراعي المال المستأمن عليه، مسئول عن حمايته وحفظه، وعن القيام بما يجب عليه نحوه، ومسئول عن أداء الحقوق منه لأربابها دون هضم ولا نقص ولا توان، وإذا كان من وظائف أمانته أن يثمره فعليه أن يثمره كما يثمر أموال نفسه. وراعي نفسه وجسده وما حوله من أشياء، المستأمن عليها مسئول عن حمايتها وحفظها، وعن القيام بما يجب عليه فيها تجاه ربه وتجاه الناس، وتجاه كل ما خلق الله من شيء، ومسئول عن اجتناب ما لم يأذن الله له به.

والمستأمن على السر مسئول عن حفظه وعدم إفشائه، فإذا أفشاه خان الأمانة. والوظيفة في أي مجتمع إسلامي هي ولاية، سواء أكانت كبرى أم صغرى، وهي بدروها أمانة توضع في يد المسلم، فعليه أن يرعاها بالحفظ والحماية والقيام بالأعمال التي تتطلبها الأشياء التي استؤمن عليها فيها. ويعتبر الموظف الأدنى بمثابة النائب والوكيل عن الرئيس الأعلى في المؤسسة التي هو موظف فيها، وإذا كانت هذه المؤسسة فرعًا من فروع الدولة فهو وكيل ونائب بالتسلسل الإرتقائي عمن هو فوقه في الدرجة الوظيفة، حتى الرئيس الأول في الدولة، والوكيل والنائب يمثل في عمله رئيسة الذي هو نائب عنه. إن الرئيس في عوالم المخلوقات لا يستطيع بمفرده أن يقوم بالأعمال المسندة إليه كلها، فهو مضطر لأن يختار عنه وكلاء ونوابًا، بالتسلسل المتدني، فهو بالنسبة إليه كأعضاء الجسد الواحد، وفروع الأعضاء، وفروع الفروع، وكل واحد يؤدي من العمل ما يلائم تخصصه، وينبغي أن يوضع في الموضع الذي يحسن العمل فيه بإتقان. وقد أبان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإمارة وسلطة الحكم أمانة، فمن الخيانة أن يطلبها من ليس أهلًا لها، ومن الخيانة وضعها في غير من هو أهل لها. روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنها قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها". وروى البخاري عن أبي هريرة قال: بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث، إذ جاء أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال؛ فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال:

"أين أراه السائل عن الساعة"؟. قال: أنا يا رسول الله، قال: "فإذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة". قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة". وروى الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استعمل رجلًا على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين". هذه الأحاديث تدل على أن سلطة تولية الولايات، وإسناد الإمارات، والوظائف حتى الصغرى منها إلى غير أهلها الأكفياء لها خيانة. وعلى هذا فمن الأمانة أن لا يطلب الوظيفة في أي مستوى من مستويات الوظائف مهما كانت دنيا من ليس كفئًا لها. وحين يكون المجتمع مجتمعًا إسلاميًّا سليمًا فإنه لا تتم فيه تولية الوظائف إلا للذين هم الأكفاء لها، دون محاباة ولا أثره، ودون استجابة لضغوط الصراعات الشخصية، أو الحزبية أو التكتلية، التي يتكالب فيها الناس على اغتنام وظائف الدولة بغير حق، ولهذا نهى الرسول صلى الله عليه عليه وسلم عبد الرحمن بن سمرة عن طلب الإمارة. روى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وُكِلْتَ إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها". وبما أن الوظيفة ولاية في حدود دئارة العمل الذي يكلفه الموظف، فينطبق عليها ضمن حدودها ما ينطبق على الولاية العظمى مع إتساع في الولاية العظمى.

ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته". وبناء على هذا فمسئولية الوظيفة مسئولية جسيمة، وفضلها لمن قام بواجباتها فضل عظيم جدًّا، ولهذا كان في طليعة من يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا يظل إلا ظله". وأبان الرسول أن أولهم: إمام عادل. والموظف في دائرة من دوائر الأمة الإسلامية، هو بمثابة فرع من فروع الإمام الأعظم، يحمل من المسئولية بمقدار حدود دائرته. 2- الوظيفة عقد استئجار بين جهة العمل والموظف المسئول عن العمل الوظيفي الذي استؤجر له: لدي تحليل معنى الوظيفة نلاحظ أنها خدمة من قبل الموظف، واستئجار من قبل رب العمل، فهي عقد استئجار بين الدولة التي يمثلها رئيسها الأعلى، أو وكلاؤه ونوابه في مؤسساتها مهما تنازلت، إلى أدنى المؤسسات، وبين الموظف المسئول عن القيام بالعمل الوظيفي الذي استؤجر للقيام به. وإذا كانت المؤسسة مؤسسة غير تابعة للدولة فهي استئجار بين مدير

المؤسسة أو وكلائه ونوابه، وبين الموظف المسئول عن القيام بالعمل الوظيفي الذي استؤجر للقيام به. وبهذا نلاحظ أن كل موظف في الدولة، من أدنى الموظفين فيها حتى رئيس الدولة، أجراء للقيام بالأعمال والخدمات التي تتطلبها الوظيفة. إن أعمال رئيس الدولة، وأعمال موظفي الدوائر الرسمية، وأعمال العسكريين، وأعمال الأساتذة والمعلمين، كلها خدمات. فعلى الموظف أيًّا كانت وظيفته أن يدرك أنه مستأجر، وأن يشعر بمسئوليته التامة تجاه ما هو مستأجر فيه، وما هو مستأجر للقيام به، وأنه في الزمن الخاص للعمل الوظيفي مملوك الطاقات والقدرات الفكرية والجسدية للعمل الذي هو مستأجر فيه، فكل انتفاع من ذلك يجب أن يسخره لما هو مستأجر للقيام به، ما وجد سبيلًا لعمل نافع لوظيفته. ولا بد أن يكون وجدان الموظف يقظًا دوامًا للقيام بما يجب عليه أن يقوم به تجاه وظيفته في دائرته، وتجاه أصحاب المصالح عنده. إن الوظيفة ليست مغنمًا ولا مزرعة للاستثمار الشخصي، وتحقيق الربح المادي أو المعنوي الدنيوي الخاص بالموظف، بل هي استئجار لوقت محدد من عمر الموظف وقدراته الفكرية والنفسية والجسدية خلال هذا الوقت للقيام بالأعمال التي تتعلق بوظيفته. وسرقة بعض هذا الوقت دون إذن من رب العمل هو نوع من الغلول، باستثناء أوقات الفراغ التي تضيع هدرًا، وذلك حين لا تتطلب الوظيفة منه عملًا ما. وليس من حق الموظف أن يهدر الوقت بكلام خاص مع زميل أو زائر أو حاجات ومصالح خاصة للموظف -وهي ليست من متطلبات الوظيفة- وعنده عمل من متطلبات الوظيفة لا يؤديه؛ بل يُسوف فيه ويُماطل فيه بغير حق، أو يهدر فيه وقت مراجع ينتظر فراغه من ثرثرته، أو من عمله الخاص به الذي ليس هو من متطلبات وظيفته، أو من ضروريات حياة الموظف، وحاجاته التي لا غنى له عنها.

3- الأهلية العامة لإسناد الوظائف: ترجع الأهلية العامة لإسناد الوظائف إلى أصلين رئيسيين، هما القوة والأمانة. فالأصل الأول: القوة، يراد بها القدرة على القيام بأعباء الوظيفة التي تسند إلى من يُنتقى لها. وهذه القدرة تختلف باختلاف نوع عمل الوظيفة، فالأستاذ الجامعي يجب أن تكون لديه القدرة على تعليم نوع العلم الذي يوظف للقيام به، والمحاسب المالي يجب أن تكون لديه القدرة على إجراء الحسابات المالية التي يوظف للقيام بها، حتى من يوظف للقيام بإنشاء الحدائق ورعايتها وتحسين أشكالها، يجب أن تكون لديه القدرة على ذلك، والكاتب في الدوائر يجب أن تكون لديه القدرة على الكتابة الجيدة دون أخطاء. وهكذا حتى أقل الوظائف وأدناها، مما يحسبه الأميون الذين لم يتعلموا قراءة وكتابة ولا صناعة، فلا بد أن تكون لدى من يختار لها القوة للقيام بها، فإذا كان معوقًا عاجزًا فإنه لا يجوز اختياره لها. فلكل نوع عمل وظيفي نوع من القدرة يجب أن يتوافر في الذي يختار لوظيفة ذلك العمل. ويدخل في القوة العلم المطلوب للوظيفة، والقدرات العلمية المكافئة لأعمال الوظيفة، والشجاعة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ونصرة المظلوم، ومقاومة الظالم، والضرب على أيدي المفسدين في الأرض، والصبر والجلد والدأب والمتابعة. وبالأصل الثاني: الأمانة، ويراد بها هنا الصفة النفسية والسلوكية التي يجب أن يتحلى بها الموظف، ويكون بها الحفظ وحسن الأداء، وهذه الأمانة تقتضي أن يكون الموظف الأمين حريصًا على أمرين: الأمر الأول: أن يكون شديد الحرص على الزمن المستأجر للقيام خلاله

بالعمل المطلوب منه، فلا يهدر منه شيئًا، ولا يستغل منه شيئًا لخصائص نفسه أو ذويه الأقربين أو أصحابه أو جماعته وحزبه، إلا بإذن عام، أو بإذن خاص من قتل من استأجره، إذا كان يملك مثل هذا الإذن. فإن أهدر من الزمن شيئًا بغير حق، أو استغله لعمل آخر غير العمل المستأجر له، مع إهمال المطلوب منه في العمل المستأجر له، فقد خان الأمانة، إلا أن يأذن له صاحب العمل بذلك. الأمر الثاني: أن يكون حريصًا على بذل ما يستطيع من علم وقدرات فكرية ونفسية وجسدية في العمل الذي استؤجر للقيام به. وذلك بحسب ما يحتاجه العمل المطلوب منه في وظيفته، فإن لم يبذل مستطاعه من ذلك فقد خان الأمانة، وإن استغل العمل لخصائص نفسه أو ذويه الأقربين أو أصحابه أو جماعته أو حزبه بغير إذن خاص بذلك، أو أخذ الرشوة للقيام به من أصحاب المصالح عنده فقد خان الأمانة. وقد دل على هذين الأصليين: القوة والأمانة، عدة أدلة قرآنية: 1- وصف الله عز وجل جبريل عليه السلام رئيس الملائكة ذوي الوظائف القدسية بأنه ذو قوة، وبأنه أمين، فقال الله عز وجل بشأنه في سورة "التكوير: 81 مصحف/ 7 نزول": {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} . فهو ذو قوة، وهو أمين. 2- ما جاء في قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح من قوم مدين، وبنتيه اللتين سقى لهما موسى عليه السلام من ماء مدين، وعرض مقالة إحدى الابنتين لأبيها بإقرار مشعر بالثناء، إذ قالت له كما جاء في سورة "القصص: 28 مصحف/ 49 نزول" ثناء على موسى عليه السلام: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . 3- وطلب سليمان عليه السلام من الملأ الذين في مجلسه من الإنس

والجن أن يأتيه واحد منهم بعرش بلقيس، قائلًا لهم كما جاء في سورة "النمل: 27 مصحف/ 48 نزول": {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} . فانتدب لتحمل الوظيفة، وأبان أهليته لها بأنه يتحلى بوصفين: القوة على القيام بالوظيفة التي انتدب لها، والأمانة التي لا تخالطها خيانة ما. 4- ولما كان يوسف عليه السلام هو الرجل الوحيد القوي الأمين لتحمل وظيفة وزير التموين، للإعداد لسنوات القحط، كما جاء في الرؤيا التي عبرها يوسف عليه السلام لملك مصر، بعد أن استوثق من أنه صار لدى الملك مكينًا أمينًا، فهو في هذا بمثابة نائب الملك، قال له كما جاء في سورة "يوسف: 12 مصحف/ 53 نزول": {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} . وهو في هذا يطلب ضمن وظيفته التي منحه إياها الملك صلاحيات وزارة التموين، وأبان له الوصفين الواجبين للاطلاع بهذه الصلاحيات، وهما الحفظ والعلم بالجمع والتخزين والعدل في التوزيع، والحفظ والعلم من فروع القوة والأمانة. ولكن يقل في الناس اجتماع صفتي القوة والأمانة، ونظرًا إلى ندرة اجتماعهما. قال أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" الخبير بخصائص الرجال الإدارية، الفاحص المتتبع الشديد المراقبة والمحاسبة لعماله: "اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة". 4- مسئولية موظف دائرة معنية بالقضايا الإسلامية ونشر الإسلام: وتزيد مسئولية موظف دائرة معنية بالقضايا الإسلامية ونشر الإسلام عن

مسئوليات سائر موظفي المؤسسات العامة والخاصة؛ لأن مهماتها من فروع الجهاد في سبيل الله، لنشر الإسلام ولخدمة الإسلام وقضايا المسلمين. فعليه أن يملأ كل وقته بخدمة الإسلام والمسلمين، وكلما فرغ من العمل الموكول إليه، أو وجه له تكليفًا، فعليه أن يفكر في ما ينفع الأمة الإسلامية من خلال الموقع الذي هو فيه، ويقوم بما يستطيع من عمل في حدود صلاحياته العامة. فما من موقع من مواقع الأعمال إلا له سلم كمال، ومن فكر بإمعان وجد نفسه في أول درجات هذا السلم أو في بعض درجاته الوسطى، ووجد أن بإمكانه أن يقترح ما فيه ارتقاء تحسيني، وأن يُحسن أشياء يستطيع أن يفعلها بنفسه. وعليه أن يصبر ويدأب ويبذل غاية جهده واجتهاده للقيام بالأعمال التي يمكن أن يقوم بها من خلال موقعه الذي هو فيه. وإذا كانت لديه أفكار مناسبة يخدم فيها رسالة دائرته، ولا يملك هو تنفيذها ولا تنفيذ شيء منها، فعليه أن يقدم هذه الأفكار على سيل الاقتراح للذين بأيديهم الإقرار والتنفيذ، فالساعي في الخير كفاعله. وعلى الموظف أن يعلم أن إهدار الأموال العامة في غير السبل النافعة لمهماتها، حتى الأوراق المكتبية، والأقلام والأدوات، وأن هضمها أو اختلاسها أو استغلالها للمصالح الخاصة هو من أشنع صور الغلول، وهو بمثابة أكل الأغنياء غير المستحقين لأموال الزكاة، أو إتلافها وإضاعتها وحرمان المستحقين منها. وكذلك استغلال وقت الموظف فيها لمصالحه الخاصة أو مصالح ذويه أو أصحابه أو جماعته أو حزبه، أو إهداره وإضاعته بالكسل والخمول والنوم، أو بالعبث. والسبب في هذا الإثم المضاعف أن أعمال المؤسسة المعنية بنشر الإسلام من الجهاد في سبيل الله، وأموالها بمثابة أموال المجاهدين في سبيل الله، ووقت الموظف فيها وطاقاته قيم مالية من أموال الجهاد في سبيل الله، ومعلوم أن الجهاد في سبيل الله من المصارف الثمانية التي تبذل فيها الزكاة.

فالوظيفة فيها استئجار للقيام بأعمال الجهاد في سبيل الله، والموظف فيها مستأجر لهذه الغاية، فعليه أن يكون شديد الحرص والحذر من أن يغل في مال هو من أموال هذه المؤسسة، أو في وقت هو من أوقاتها، أو في طاقة هي من طاقاتها. إن الغلول جريمة عظيمة في الإسلام، قال الله عز وجل في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . - وجاء في أخبار خبير فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي، أن رجلًا من أشجع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "صلوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه الناس من ذلك، فقال: "إن صاحبكم غل في سبيل الله"، قال الراوي: ففتشنا متاعه فوجدنا خرزًا من خرز يهود ما يساوي درهمين، إن الغال يأتي بما غل يوم القيامة يحمله ليفتضح بغلوله أمام الخلائق، ثم لينال عذابه. - وقد شدد الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن الغلول وعظم أمره وحذر من عقوبته في حديث رواه البخاري ومسلم. - وروى البخاري عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: كان على ثقل1 النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له "كركره" فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو في النار" فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها، أي: أخذها من الغنائم قبل قسمتها وتوزيعها. - وروى مسلم والترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر، أقبل نفر من الصحابة فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى

_ 1 الثقل: المتاع.

مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلا، إني رأيته في النار في بردة غلها، أو عباءة". ويستهين بعض الموظفين بهذا الأمر، ويتحايل بحيل كثيرة ليصيب لنفسه منها منافع بغير حق، وهو من الغلول الشنيع. 5- الوظيفة ووقت عمل الموظف فيها: إن وقت عمل الموظف المخصص بحسب عقد التوظيف الذي هو عقد استئجار، ليس ملك الموظف لنفسه، بل هو وقدرات فكره ونفسه وجسده، ملك لأعمال وظيفته، ما دام فيها عمل هو مسئول عن أدائه، خلال ساعات العمل المرتبة له. وتوجيه هذه القدرات خلال ساعات عمله لأعمال خاصة به، أو أعمال لذويه، أو أصحابه أو جماعته التي ينتمي إليها هو من الغلول، إذا كان بإمكانه أن يستغل ذلك في الأعمال التي تتطلبها وظيفته. أما إذا لم يكن لوظيفته أعمال باستطاعته أن يقوم بها، فله عندئذ أن ينتفع من الفراغ لنفسه، أو لمن يحب، بعلم يستفيده، أو عبادة محضة، أو خدمة خاصة أو عامة، بشرط أن لا يؤثر ذلك على تأخير عمل يتعلق بالوظيفة مما يحتمل أن يأتيه وهو في فترة الفراغ. وإذا كان عمله يرتبط بإنجاز معاملات المراجعين عنده فوقته ملك لهم بحسب تسلسل حضورهم عنده، وحرام عليه أن يأكل من وقتهم شيئا بغير حق، وحرام عليه أن يكون جائرًا، فيؤخر سابقًا، ويقدم متأخرًا، محاباة لمن قدمه، إلا بإذن من السابقين وإلا كان ظالمًا، وسارقًا من وقت السابق بغير حق. إن الوقت ذو قيمة، وقد يكون الوقت الذي يراه الموظف قليلًا ذا قيمة عظيمة لدى بعض المراجعين، فالوقت الذي يضيعه أستاذ جامعي مجد، أو عالم باحث، أو مدير إدارة، أو صاحب مؤسسة، وهو ينتظر أن ينجزه له موظف

مهمل في عمله، قد يساوي في القيمة ساعات أو أيامًا أو شهورًا من أوقات بعض الناس. ورب ساعة واحدة لإنسان باحث مجد تساوي أعمار آلاف مؤلفة من الناس، إن مبدعًا واحد مبتكرًا يملأ وقته بالجد والاجتهاد والبحث والتنقيب قد يساوي عمر شعب بأكمله يأكل ويشرب ويستمتع كما تستمتع الأنعام. ومن الموظفين من لا يهتمون بأوقات المراجعين أصحاب المصالح عندهم، ويهدرون أوقاتهم الثمينة بغير حق؛ لأنهم لا يملكون شعورًا بالواجب الرباني، الذي فرضه الله عليهم تجاه الآخرين، ولا يملكون وجدانًا مسلكيًّا نحو وظائفهم، ولا يخطر في بالهم أنهم أجراء للأمة بوجه عام، ولأصحاب المصالح لديهم بوجه خاص، فهم يأكلون أجورهم بقبض الرواتب، ولا يؤدون العمل الذي يجب عليهم أن يؤدوه. إن كل فرد من أفراد الأمة يدفع ضريبة للدولة، هو مساهم في دفع أجور عمالها وموظفيها، فالموظف أجير عنده، وله عليه حق إنجاز معاملته له بالحق والعدل، متى تعلقت مصلحته الخاصة به1. ويترك بعض الموظفين مكتبة، وينصرف لقضاء مصالح لنفسه أو لمن يحب، هاضمًا حق الوظيفة في وقته وطاقاته، وغالًّا فيهما معًا. وهنا نلاحظ كم تحمل مشاجب غرف الموظفين أردية وأغطية رءوس، ومعاطف، وعباءات لموظفين لا يجلسون وراء مكاتبهم، والمراجعون ينتظرون، وأوقاتهم تهدر وتبدد بالانتظار غير المحمود، بينما يكون الموظفون خارجين لأعمالهم الخاصة، أو لأعمال ذويهم ومن يحبون، بعد أن أثبتوا توقيعاتهم على سجل الحضور، أو أثبتها لهم بعض زملائهم، أو يجلسون في مكاتب أخرى للثرثرة وإضاعة الوقت.

_ 1 ونطبق هذا القول سواء كانت الدولة تأخذ الضرائب من مواطنيها، أم كانت تستأجر الموظفين لخدمة أفراد الأمة.

وبعض الموظفين تهبط عليهم أنوار حب تأدية نوافل العبادات، كقراءة القرآن، أو أداء صلوات مسنونة كصلاة الضحى، واشتغال بالطهارة لهذه الصلوات المسنونة، فيضيع كثيرًا من وقت عمل الوظيفة في هذه النوافل، زاعمًا أنه من المتعبدين الصالحين، مع أنه غال مرتكب كبيرة من كبائر الإثم، في هضمه للوقت، وإراحة قدراته عن أن ينفقها في أعمال وظيفته التي هو مستأجر للقيام بها، وهو لا يملكها لنفسه في ذلك الوقت، وقد يظلم مع ذلك آخرين من المراجعين إذ يهدر أوقاتهم دون حق، ويرتكب بذلك معصية هي من الكبائر. وسبب ذلك سوء فهمه لشمول الدين وتكامله، وعدم علمه بالحقوق والواجبات العامة، أو تحايله متسترًا بما يشعر بأنه من المتعبدين الصالحين. إن نوافل العبادات لا يجوز أن تستغل لها الأوقات والقدرات التي هي ملك للعمل الوظيفي المسئول عنه شرعًا. إن الدين الحق يفرض عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، دون شطط ولا وكس، ودون ظلم بالزيادة أو بالنقص. لقد كان يقال: فلان الموظف ذو وجدان مسلكي ممتاز، إذا كان يعطي ما يملك من قدرات فكرية ونفسية وجسدية لأعمال وظيفته طوال ساعات عمله، إلا ما تدعو الضرورة والحاجة الماسة لاستثنائه. أما الموظف الذي يقصر في شيء من ذلك فيقال في وصفه: سيئ الوجدان المسلكي، فإن زاد كان فاسده، أو محرومًا منه نهائيًّا، لا يصلح للعمل الوظيفي بحال من الأحوال. إن المحرومين من الوجدان المسلكي في الوظائف هم لصوص الدوائر، يأكلون رواتبهم سحتًا. 6- سوء فهم معنى الوظيفة: كثير من الموظفين يرون أنه متى صدر قرار تعيينه في الوظيفة، فقد ملك

كل ما يتعلق بوظيفته من أمور مادية ومعنوية، ويرى أن راتبه يأخذه بحق التعيين فقط، ويستبعد أنه أجير يأخذ راتبه مقابل الأعمال التي يجب عليه أن يقوم بها خلال وقت الدوام الرسمي، ولو استهلكت هذه الأعمال كل وقته. وبعضهم يرى أنه سلطان يأمر وينهى، ويتعاظم ويستكبر على ذوي المصالح عنده، وينسى أن ذوي المصالح العاملين في بلده يساهمون ببذل الأجرة التي يأخذها راتبًا في نهاية الشهر؛ لأنهم يدفعون الضرائب للدولة من أموالهم، وقسم منها يذهب لتسديد رواتب الموظفيين، فهو أجير عندهم بطريقة غير مباشرة؛ إذ هو استئجار جاء عن طريق الدولة التي هي المؤسسة العامة للأمة. إن الولاية مهما علت درجتها أو نزلت خدمة مأجورة من قبل الأمة بوجه عام، والأمة هي التي تدفع من أموالها المجمعة في صندوق الدولة رواتب الموظفين الذين هم في الحقيقة أجراء. والوظيفة في أية مؤسسة من المؤسسات العامة أو الخاصة ليست مقعدًا في تكية لارتزاق الفقراء والمساكين، أو في مأوى للعجزة والمعوقين، أو في مقهى للكسالى ومبددي الأوقات. إن كل من يتسلم وظيفة من الوظائف، وهو لا يحسن الأعمال المتعلقة بها، بل كل همه أن يتقاضى راتبها المالي، ينتمي في الحقيقة إلى فئة فقراء التكايا، ومعوقي دور العجزة، الذين ليس لهم من يكفلهم، وليس لديهم ما ينفقون به على أنفسهم، إلا أنه مقنع زورًا وخداعًا بقناع أجير يحسن العمل الذي أجر نفسه ليقوم به. 7- أخلاق الموظف المسلم: كل الأخلاق الإسلامية الفاضلة يطالب الموظف المسلم بها بشدة؛ لأنه يمثل في حدود دائرة عمله إمام المسلمين، أو الرئيس الأعلى للمؤسسة، ومن أبرز الأخلاق المطلوبة وأكثرها وجوبًا الأمانة، والصدق، والعدل، والعفة، والرفق، والتواضع، والإخلاص في العمل، والاجتهاد في الإنجاز على أحسن

وجه وأتقنه، ومعاملة الآخرين من الزملاء والرؤساء والمرءوسين والمراجعين بما يجب أن يعامل هو به لو كان في أمكنتهم دون تجاوز لحدود الحق، ولا محاباة ولا أثرة. - أما الأمانة؛ فقد سبق بيان أنها ركن أساسي من أركان العمل الوظيفي، فلا يصلح لأي عمل وظيفي خائن لا أمانة له. - وأما الصدق؛ فهو شقيق الأمانة، ورفيقها الملازم لها وجودًا وعدمًا، والصدق يشمل الصدق في الحديث، والصدق في الوعد، والإخلاص في العمل. فإذا وعد الموظف وعدًا فعليه أن يوفي به، وإذا قال قولًا فعليه أن يكون صادقًا فيه. وكل من الخيانة والكذب لا يفطر عليهما المؤمن، أي: كل إنسان؛ لأن كل مولد يولد على الفطرة، وهي فطرة الإيمان والإسلام. روى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب". وأبان الرسول صلى الله عليه وسلم بعض علامات المنافق، فقال فيما روى البخاري ومسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". - وأما العدل؛ فقد أجمعت عقول الأولين وتجاربهم على أن العدل أساس الملك، والعدل يكون بإعطاء كل ذي حق حقه، دون وكس ولا شطط. والعدل من مبادئ الإسلام الدستورية العامة، قال الله عز وجل في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول": {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . ومما ينافي العدل عدم التسوية بين أصحاب المعاملات في الحقوق

والواجبات، وإيثار بعضهم بالتيسير والتسهيل؛ لقرابة أو صحبة أو هوى، ومعاملة آخر بالتعسير والتشديد، وتقديم بعض أصحاب المعاملات المتأخرين في الحضور على المتقدمين فيه، لدى إنجاز معاملاتهم وتأخير ذوي الاستحقاق بمقتضى سبقهم في الحضور. ومما ينافي العدل تكليف رئيس العمل بعض موظفيه بأعمال شاقة؛ مع إعفاء آخرين منها؛ محاباة لهم، وإيثارًا لقرابة أو صحبة أو هوى أو رشوة ظاهرة، أو مقنعة بالهدية، أو نزعة إقليمية. - وأما العفة فهي توجب على كثير من الموظفين أن يكونوا شديدي الحذر من أن تخدش عفتهم في المواقف بمقتضى وظيفتهم، لمثيرات ينزلقون بها إلى السقوط في بعض الفواحش، أو مقدماتها، وينجم عن ذلك طامات كبريات. وكم من رجال أسقطوا دولهم وجيوشهم وأمتهم في نكبات مهلكات مدمرات من خلال بعض أعمال خدشت عفتهم، فاستولى عليهم شياطين الإنس عن طريقها، وأسروهم وهددوهم بالفضيحة، إلا أن يحققوا لهم أغراضهم داخل شعوبهم، مستغلين سلطاتهم في وظائفهم. - وأما الرفق بالناس فقد اهتم به الرسول صلى الله عليه وسلم اهتمامًا بالغًا؛ لأنه أحد الأسس المؤلفة للقلوب، والناظمة لأفراد الجماعة، ومن النصوص في الرفق ما يلي: روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه". وفي رواية: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه". وروى مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"من يحرم الرفق يحرم الخير كله". وروى مسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به". ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في دعائه: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به". وروى البخاري ومسلم عن عائذ بن عمرو أنه دخل على عبيد الله بن زياد، فقال: أي بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن شر الرعاء الحطمة". الرعاء: جمع الراعي. والحطمة: هو الذي يشتد على إبله أو بقره أو غنمه فيسوقها سوقًا عنيفًا بلا رحمة ولا حكمة، ويدفع بعضها إلى بعض بالضرب، حتى يحطم بعضها بعضًا ويقتل بعضها بعضًا، وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم الولاة القساة الذين يأخذون الناس بالشدة والعنف بالراعي الحطمة. - وأما التواضع فهو من فضائل الأخلاق الأولى التي تُطلب من الموظف المسلم؛ لأن من طبيعة الوظيفة التي فيها أمر ونهي وقدرة على التسلط والتحكم بالناس، أن تُفسد صغار النفوس، فمن كان ذا نفس حقيرة صغيرة استكبر بنفسه واستعلى، ثم يفضي به استكباره إلى أن يكون جبارًا، لا يرى إلا نفسه، فلا تهمه إلا مصالح نفسه، ثم ينظر إلى الناس باحتقار. - وأما الإخلاص في العمل فهو أولى صفات المؤمن؛ لأن الأعمال بالنيات كما فهو معلوم. - وأما الاجتهاد في الإنجاز على أحسن وجه وأتقنه، فهو المطلوب الأول من كل عامل أجير، وقته وطاقته مملوكة لمن استأجره، طوال ساعات استئجاره. - والقاعدة العامة العظيمة لمكارم الأخلاق: أن يعامل الإنسان الآخرين بما يجب أن يعاملوه به، كما جاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

8- وصايا عامة للموظف المسلم: في هذه المقولة أسرد في فقرات ما ينبغي للموظف المسلم أن يتحلى به، وكثير منها جاء فيما سبق بيانه وشرحه، وبعضها قد يمكن ضمه إلى بعض: 1- على الموظف المسلم أن يتقي الله عز وجل في العمل الوظيفي الذي هو مسئول عنه بمقتضى وظيفته، وفي كل من له علاقة بعمله، من مواظفين آخرين في العمل، ومن مراجعين أصحاب مصالح عنده، وأن يتقي الله فيما تحت يده من أموال لا حق له فيها. 2- وعلى الموظف المسلم أن يراقب الله عز وجل في عمله، طالبًا ثوابه منه، قائمًا بواجبات وظيفته مبتغيًا مرضاة الله عز وجل، خائفًا من عقابه العاجل والآجل، وأن يضع في حسبانه أن الله فوقه يراقبه ويحاسبه ويجازيه، فمن جار أو ظلم أو أهمل واجبات وظيفته انتقم الله منه. 3- وعليه أن يكبح جماح أهوائه وشهواته، وأن يلتزم بما أوجب الله عليه، وأن يبتعد عما حرم الله عليه، مهما تعرض خلال وظيفته لمغريات مالية أو غير مالية: "كالغلول، والرشوة، وإيثار مصلحة نفسه على مصالح أصحاب الحقوق، إلى غير ذلك من المحرمات، ومنها الغيبة والنميمة والإضرار بالناس والإفساد فيما بينهم". 4- وعليه أن يتحلى بفضائل الأخلاق، ومنها على وجه الخصوص: الأمانة والصدق والعدل والعفة والرفق والتواضع ومعاملة الناس بما يحب أن يعاملوه به مع التزام الحق. 5- وعليه أن يكون رحيمًا بالناس، يعاملهم باللطف والمحبة والإكرام، وأن يكون عفوًّا كريمًا، يتغاضى ويصفح عن إساءات الآخرين، ولا سيما غلاظات بعض المراجعين الثقلاء. 6- وعليه أن لا ينظر إلى المراجعين على أنهم دونه؛ إذ صير الله حوائجهم إليه بمقتضى وظيفته.

7- وعليه أن يتواضع للناس، ولا سيما أهل الأقدار والمكانات العلمية والاجتماعية، وأن يحذر من أن تأخذه العزة بالإثم، والاستكبار عن النصح، وتقبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 8- وعليه أن يحذر من الظلم والجور وحرمان ذوي الحقوق حقوقهم، وإيثار غيرهم لهوى من الأهواء، فمن ظلم عباد الله في الدنيا كان الله يوم القيامة خصمه، ومن الظلم تيسير مصالح الأقربين والأصحاب وأعضاء الجماعة الحزبية التي هو منها وتفضيلهم على غيرهم دون وجه حق، وعدم التسوية بين ذوي الحقوق المتساوية، بل يجب عليه إتاحة الفرص لهم بالتساوي، وتفضيل من هو الأكفأ علمًا وإخلاصًا وعملًا ودينًا، وليس شيء أدعى إلى تعجيل نقمة الله على عبده، وتحويل نعمته عنه من الظلم، فليحذر من دعوة المظلوم؛ إذ ليس بينها وبين الله حجاب، وإن الله للظالمين لبالمرصاد. 9- وعليه أن يحذر الغلول، وهو اختلاس أي شيء من الأموال العامة، ومنه سرقة وقت عمل الوظيفة بغير حق أو إذن من رب العمل. 10- وعلى متسلم إدارة جديدة أن يحذر من الاعتماد على موظفين كانوا لمديرين سابقين ظالمين أعوانًا لهم على ظلمهم، فهؤلاء يحسنون صناعة النفاق، والاستدارج إلى المزالق، ويحيطون به إحاطة عامة تحجب عنه حقائق الأمور، ثم يدفعون به من حيث يشعر أو لا يشعر إلى أن يسير في السبل التي سلكها الظلمة من قبله، وخير له أن يجتلب خبراء من الذين لم يسبق لهم أن أعانوا ظالمًا على ظلمه. 11- وعليه أن يستدني أهل الورع والصدق، الذين يمحضون النصيحة، ولا يتخذون الإطراء وسيلة للتقريب، فالركون إلى مدح المداحين وإطراء المطرين يُفسد النفوس، بما يبذر في تربتها الخصبة من بذور الزهو والخيلاء، والإعجاب بالنفس، فمن أعجب بنفسه استكبر عن أن يسمع من أحد كلمة: اتق الله. وإذا سمعها أخذته العزة التي هو فيها بارتكاب الإثم، والانتقام ممن قال له ذلك.

12- وعليه أن يحسن إلى من هم تحت سلطته من موظفين، وإلى ذوي الحاجات عنده، ببشره، وحسن استقباله، ولين أقواله، وبما يستطيع ويتيسر له من ضيافة من ماله، أو مما هو مأذون به، مع معاملة الجميع بالعدل. 13- وعليه أن يسمع من أهل العلم والمعرفة، والسابقين له في الخبرة بالعمل الوظيفي نصائحهم، وأن لا يستبد برؤيته الخاصة، فللسابقين تجارب وخبرات مفيدة جدًّا، إذا كانوا من أهل العمل والرشد والحكمة والنصيحة المخلصة. 14- وعلى من بيده سلطة التعيين في عمل وظيفي أن يُحسن اختيار الأصلح والأكفأ الأخلص الأورع. 15- وعليه أن يحذر من المحاباة والأثرة ظالمًا بهما من هو الأحق والأفضل، فالمحاباة والأثرة من فروع الجور والخيانة. 16- وعليه أن يحذر من الوعد التسويفي الكاذب، الذي لا يهمه الوفاء به، فالخلف في الوعد يوجب المقت عند الله وعند الناس، وليضع نصب عينيه قول الله عز وجل في سورة "الصف: 61 مصحف/ 109 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . 17- وعليه أن يحذر من أن يستأثر لنفسه بشيء بحكم سلطته الوظيفية، في حين أن آخرين لهم فيه حق مساوٍ لحقه فيه. 18- وعليه أن يحذر من تصديق النمامين المعروفين بالنميمة، فهم مفسدون، وفي الغالب هم كذابون، يفترون أو يبنون على الأوهام والظنون، أو يصدقون أضعف الأخبار وأوهنها، فينقلونها على أنها وقائع ثابتة، فإذا بلغه خبر فعليه أن يتبين بنفسه ويتثبت. 19- وعليه أن يستمع إلى نصح الناصحين، ونقد الناقدين، ليصلح من أمره، أما المستكبر فإنه يغضب من نصح الناصحين ونقد الناقدين، فتتراكم

أخطاؤه وآثامه، حتى يفتضح ويسقط من أعين الناس أجمعين، وقد يخرج من عمله الوظيفي مطرودًا. 20- وعليه أن يحذر من أن ينفخ فيه كرسيه الذي يحتله في العمل الوظيفي نزعة الكبر والاستعلاء على المراجعين، أو على من هم دونه في السلم الوظيفي. 21- وعليه أن يعامل الآخرين كما يحب أن يعامل هو به لو كان هو المراجع صاحب الحاجة، أو هو الموظف الأدنى. 22- وعليه أن يبادر بكل ما لديه من استطاعة أن يقضي حاجات ذوي الحاجات عنده، أو يستطيع أن يقضيها لهم في دائرة عمله، ولو كان العمل مما جعل من واجبات غيره لدى توزيع أعمال دائرته، وعليه أن يحذر من الإهمال والتسويف والمماطلة. 23- وعليه أن لا يتهم بشكليات العمل الوظيفي التي لا تضبط حقًّا، ولا تمنع ظلمًا، ولا تقدم فائدة تذكر، بل تطول من إجراءات العمل، وتدير المعاملة التي يكفي فيها توقيع واحد على عدد من الموظفين، لا يقدمون للمعاملة إلا توقيعًا عليها، دون أن يكون له أثر يعتبر. 24- وعليه أن لا يشدد على أصحاب المعاملات، متى وجد الأمر حقًّا سليمًا لا ظلم فيه، ولا حيلة تهضم حقًّا، أو تستولي على ما لا حق فيه لصاحب المعاملة، فمن عيوب بعض الموظفين أنه مغرم بالتعقيدات الشكلية، ويتعلل باللوائح التي يجد فيها مخارج تحله من التعقيدات، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا. 25- وعليه أن لا يُرضي أحدًا من الناس بسخط الله، مستغلًّا موقعه الوظيفي، لكن عليه أن يجتهد في إرضاء الناس بحدود الشرع، فمن لم يرضه الشرع فلا أرضاه الله. 26- وعليه أن يرفق في الناس في أقواله وأعماله، وأن يخفف عليهم التكاليف والإجراءات، ويسهل عليهم الأمور، وما وجد إلى ذلك سبيلًا.

وأخيرًا أقول: إن مما يؤسف له أن الحضارة الغربية قد أخذت لمصالحها الدنيوية بكثير من هذه الوصايا التي جاء بها الإسلام في أسسه الحضارية، في حين أن التأخر الحضاري الذي أصيب به المسلمون اليوم، قد جعلهم يتركون العمل بهذه الوصايا مع علمهم بها، ويجلبون إلى دوائرهم التعقيدات التي تركها الناس من حولهم.

الفصل السادس: الجهاد في سبيل الله بالقتال

الفصل السادس: الجهاد في سبيل الله بالقتال المقولة الأولى: مقدمات عامة 1- دواعي الجهاد بالقتال في سبيل الله: في الواقع الإنساني القائم على التصارع بين حملة رسالة حضارية عالمية شاملة أساسها الحق والخير، وبين أحزاب وفرق شتى ذات أنانيات ضيقة يوجهها الباطل والشر، تدعو الضرورة إلى اتخاذ وسيلة القتال في سبيل الله، وذلك ليتسنى لحملة رسالة الحضارة الإسلامية العمل على بنائها بناء واقعيًّا على أسسها الفكرية الراسخة، وإلا لم يترك لهم الهدامون المنتشرون في طول الأرض وعرضها فرصة لإقامة بنائهم الحضاري المجيد. ويكون الجهاد بالقتال في سبيل الله بإعداد واستخدام القوة المادية، وذلك لإرهاب أعداء الله، ومقاومة شرورهم، ضمن قواعد السياسة الخارجية الإسلامية. وينظر المسلمون إلى مخالفيهم نظرة شفقة ورحمة، ما لم يمارس هؤلاء المخالفون عداوتهم بشكل عملي. والمخالفون في نظر بناء الحضارة الإسلامية جاهلون ومرضى، والرسالة الخيرة التي يحملها العلماء الأصحاء إنما هي تعليم الجاهلين، وتطبيب المرضى، ومساعدتهم، والرفق بهم، والأخذ بأيديهم في طريق الصحة والسلامة الفكرية والقلبية والنفسية والجسدية. فإذا لم تجد الوسائل الهينة اللينة، والبيانية والتربوية على اختلاف صورها وأشكالها الترغيبية والترهيبية، لإصلاح نفوس أعداء رسالة الحضارة الإسلامية، أو تجميد عداوتهم، وهدم أحاقدهم، وصرفهم عن مكايدهم ضد الإسلام

والمسلمين، فإن الضرورة قد تدعو بناه هذه الحضارة أن يلجئوا إلى وسائل أخرى تترقى فيه أساليب العنف شيئًا فشيئًا، مع ضبط النفس، وعدم اتباع الهوى، ومع الرغبة الملحة بالانتصار للحق فقط، دون أن تتدخل عوامل نفسية أخرى. وقد يغدو فريق من مخالفي رسالة الحضارة الإسلامية أعداء معلنين عداواتهم، متربصين بالمسلمين، أو شاهري أسلحتهم في وجوههم، وفي مواجهة هؤلاء يجد حملة رسالة الحضارة الإسلامية أنفسهم أمام أمر لا زب لا مناص منه، يفرض عليهم أن يكونوا مدافعين، أو مهاجمين بما لديهم من قوى مادية ومعنوية. وأمام هذا الأمر الذي لا مفر منه في الواقع الإنساني، فإن من واجب حملة رسالة الحضارة الإسلامية أن يتخذوا وسائل الدفاع الكافية، والمبادهة في بعض الأحيان قبل المباغتة، مع التزام شروط رسالتهم الربانية، التي يطلعون بمهمتها، ويكون ذلك بأمرين: الأمر الأول: إعداد القوة التي تربو على قوة العدو، من مال، وسلاح، ورجال، وخبرات، ومعارف، وحصون، وغير ذلك، قال تعالى في سورة "الأنفال: 8/ مصحف/ 88 نزول": {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} . الأمر الثاني: القتال لإعلاء كلمة الله، مع التأكيد على أن القتال وسيلة تكون في آخر الأمر، حينما لا تجدي الوسائل الأخرى من دونه، وحينما يصبح حملة رسالة الحضارة الإسلامية تحت الخطر المداهم، أو هدفًا للخطر المستوفز أو المتربص من قبل أعدائهم. وحينما تُلجئ الضرورة إلى سلوك سبيل القتال، فإن القتال يستدعي الجود بالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. ولذلك كان لمن يجود بنفسه في هذا السبيل حظ الشهادة في سبيل الله، وكان للمقاتل في هذا السبيل من الضمان

الرباني أن يدخله الله الجنة، وأن ينال ما لا يوصف من أجر عظيم عنده، أو يعود إلى أهله نائلًا ما نال من غنيمة وأجر. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي، فهو عليَّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون دم وريحه ريح مسك، والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين، ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل". 1- الركن الأساسي للجهاد بالقتال: وللجهاد بالقتال المأذون به أو المحرض عليه في أسس الحضارة الإسلامية ركن أساسي لا بد منه، وهو أن يكون في سبيل الله. هذا الركن العام يشمل في دلالته تحديد الباعث إلى القتال، والمطلب المنشود تحقيقه في الدنيا به، والغاية القصوى المرجوة عند الله منه. وذلك لأن الضمان الذي ضمنه الله للمجاهد من إدخاله الجنة، أو إرجاعه إلى منزله الذي خرج منه، بما نال من أجر أو غنيمة، إنما ضمنه لمن خرج مجاهدًا بالقتال في سبيله، لا يخرجه أي دافع دنيوي، وإنما يخرجه أمور ثلاثة: الأمر الأول: باعث أسمى في نفسه يحركه للخروج إلى القتال، ألا وهو باعث الإيمان بالله، والتصديق برسله. أما من خرج في سبيل ضلالات إلحادية، أو في سبيل وثنيات مادية، فإنه يعرض نفسه إلى تهلكتين:

الأولى: تهلكة الموت أو القرح في الدنيا. الثانية: تهلكه العذاب الأليم في الآخرة. ولا يدخل الدفاع عن المال أو العرض أو الأرض في هذا، فإنه دفاع مأذون به شرعًا، وإن لم يكن في مفهوم الإسلام جهادًا في سبيل الله، ما لم يتحقق فيه الركن الأساسي للجهاد في سبيل الله. الأمر الثاني: مطلب يسعى إلى تحقيقه في الدنيا؛ إذ يقذف بنفسه إلى معترك الموت بإذن الله وطاعته، فيَقتل أو يُقتل، ألا وهو نشر دين الله، وإعلاء كلمته، والسعي لبناء الحضارة الإسلامية المجيدة. وقد أوضح هذا الأمر الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، والرجل يقاتل لشجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل غضبًا، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". الأمر الثالث: غاية قصوى يرجوها عند الله، ألا وهي نيل رضوانه، وبلوغ جنته، والظفر بما أعد الله من أجر عظيم للمجاهدين المقاتلين في سبيله. وأما الظفر في الدنيا على الأعداء فهو أمر إن قضاه الله فتلك حُسْنَى عاجلة أكرم الله بها المؤمنين المجاهدين في سبيله، وإن لم يقضه الله فقد حقق المؤمنون غايتهم القصوى، وهي نيل رضوان الله وجنته، وتحصيل الأجر العظيم الذي أعده، ولذلك خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} . وهكذا تنحصر دوافع القتال في سبيل الله بالباعث الأسمى وهو الإيمان بالله والتصديق برسله، وبالمطلب العاجل وهو العمل على إعلاء كلمة الله ونشر دينه وبناء الحضارة الإسلامية المجيدة، وبالغاية القصوى وهي ابتغاء مرضاة الله، ونيل ثوابه الذي أعده للمحسنين. وهذه الدوافع التي تحرك بناه الحضارة الإسلامية المجيدة إلى القتال حينما تلجئهم الضرورة إليه، هي على النقيض تمامًا من دوافع العدوان الذي يقوم به أعداء الإسلام، ومهدموا أركان حضارته وأبنية المجد العظيم التي يبنيها للناس.

المقولة الثانية: الشروط التي يجب توافرها أثناء القتال

المقولة الثانية: الشروط التي يجب توافرها أثناء القتال حينما تلجئ الضرورة حملة رسالة الحضارة الإسلامية المجيدة أن يقفوا موقف القتال، في مواجهة من ناصبوهم العداوة، وكادوهم، وكادوا دينهم، فإن للقتال شروطًا تلزمهم بها رسالتهم المقدسة. بعد تحديد الغاية من القتال وإعداد العدة له، والتصميم على مباشرته دفعًا لعدوان المعتدين، وابتغاء نشر الدين القويم، وسعيًا للعمل في بناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيًّا على أسسها الفكرية الراسخة، يجب على المقالتين في سبيل الله أن يتقيدوا بالمنهج التطبيقي الذي شرعه الله في القتال، وأن يلتزموا جميع الشروط التي أمر الله بها فيه، وأن ينتهوا عما نهى الله عنه. وأجمل فيما يلي الشروط التي يجب توافرها في القتال اقتباسًا من القرآن المجيد، وهي ستة شروط: الشرط الأول: وحدة الغاية وذلك بأن تكون غاية المقاتلين واحدة، وهي بالنسبة إلى حملة رسالة الحضارة الإسلامية المجيدة ابتغاء مرضاة الله، بالعمل لنشر دينه، وإعلاء كلمته وبناء الحضارة المجيدة التي دفعهم إليها، بما أنزل في الإسلام من نصائح ووصايا وشرائع وأحكام.

ودليل هذا الشرط قول الله تعالى في سورة "التوبة: 9 مصحف/ 113 نزول" يخاطب المؤمنين". {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وقول الله تعالى في سورة "الأنفال: 8 مصحف/ 88 نزول": {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . ففي آية "التوبة" يأمر الله بأن يكون الجهاد بالأموال والأنفس في سبيل الله، وهذا إلزام بتوحيد الغاية من الجهاد، وهي أن تكون في سبيل الله وحده. وفي آية "الأنفال" يبين الله الغاية التي من أجلها أمر الله المؤمنين بالقتال، وهذه الغاية هي أن لا تكون في الأرض فتنة للمؤمنين من قبل الكافرين، وأن يكون الدين كله لله وحده، وما بينته هذه الآية نوع من التفصيل لما أجملته آية "التوبة". الشرط الثاني: وحدة صف المقاتلين، وتماسك جماعتهم وقد أمر الله بتحقيق هذا الشرط؛ لأن تفرق صفوف المقاتلين دون خطة مرسومة موحدة جامعة مبدد للقوى، موهن للعزائم، ممكن للعدو في أن يظفر بكل قسم على حدة. وتتم وحدة صف المقاتلين بتنفيذهم الدقيق لأوامر قيادتهم الحربية الواحدة، وقد تقضي الخطة الحكيمة التي تضعها القيادة أن يقاتل بعض المقاتلين، ويتربص بعضهم؛ ويكون قسم منهم في الكمائن، وأن يداهموا العدو من عدة جبهات مختلفات الشكل متنوعات السلاح، إلى غير ذلك من خطط. وليس معنى وحدة صف المقاتلين أن يواجهوا عدوهم على طريقة الصف المتراص كتفًا بكتف؛ لأن ذلك قد يمكن العدو من حصدهم بالأسلحة النارية الحديثة بسرعة خاطفة.

ودليل هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة "الصف: 61 مصحف/ 109 نزول": {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} . الشرط الثالث: الاعتماد على الله في تحقيق النصر، وعدم الاغترار بالنفس: وهذا الشرط مهم جدًّا لإحراز النصر، وذلك لأن الاعتماد على الله -مع ملاحظة أوامره بوجوب بذل قصارى الجهد لنيل تأييده ونصره- من شأنه أن يضاعف القوة، ويزيد من قدرات القتال، في نفوس حملة رسالة الحضارة الإسلامية المجيدة، الذين يمارسون الجهاد المقدس. أما الاغترار بالنفس فإنه يفضي إلى الاستهانة بقوة العدو، ومع الاستهانة يحصل التهاون والتباطؤ والتواكل، وهذه من أبرز عوامل الخذلان ومسبباته. ودليل هذا الشرط من القرآن الكريم قول الله تعالى في سورة "الأنفال: 8 مصحف/ 88 نزول": {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} . وقول الله تعالى في سورة "التوبة: 9 مصحف/ 113 نزول": {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} . الشرط الرابع: شدة البأس في القتال: وتبدو لنا الأهمية البالغة لهذا الشرط متى لاحظنا أن شدة البأس في القتال تجعل قلوب الأعداء فريسة للجبن والخوف، ومتى وجد الخوف سبيله إلى القلوب انهارت قوى الهجوم، ثم تنهار من ورائها قوى المقاومة، ويفضل المقاتل حينئذ الفرار أو الاستسلام.

ودليل هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة "الأنفال: 8 مصحف/ 88 نزول": {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} . فقوله تعالى: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} يدل على الإلزام بإيقاع البأس الشديد في العدو المقاتل، حتى تنخلع قلوب الذين من خلفهم ذعرًا، فيشردوا ويفروا من وجوه المقاتلين من المسلمين، طلبًا للسلامة، وإيثارًا للعافية، ومخافة أن يقع بهم مثل هذا البلاء العظيم. الشرط الخامس: الثبات والمصابرة وعدم تولية الأدبار، مع الاعتصام كئوس اليأس من الظفر، وبذلك تنهار قوته. ويساعد على الثبات والمصابرة الاشتغال بذكر الله، والأمل بمدده المادي ومدده المعنوي. ويدل على هذا الشرط من القرآن الكريم قول الله تعالى في سورة "الأنفال: 8 مصحف/ 88 نزول": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وقول الله تعالى في سورة "الأنفال" أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . الشرط السادس: طاعة القيادة وعدم التنازع في الأمر

ولهذا الشرط أهمية عظيمة لإحراز النصر، وذلك لأن فقد الطاعة يجعل القيادة غير قادرة على استعمال القوى من مواجهة العدو، وبذلك تتعطل القوى، أو تتصارع فيما بينها، أو تستعمل في غير صالح المعركة، وكل ذلك من أسباب الفضل الذريع، والهزيمة والخيبة. وليس أن التنازع في الأمر واختلاف وجهات النظر في القتال يؤديان إلى هذه النتائج التي تسبب الفشل والهزيمة والخيبة. وليس من شأن حملة رسالة الحضارة الإسلامية المجيدة والقائمين بواجب الجهاد المقدس العصيان أو التنازع. ودليل هذا الشرط من القرآن الكريم قول الله تعالى في سورة "الأنفال: 8 مصحف/ 88 نزول": {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . وقول الله تعالى في معرض الحديث من غزوة أحد في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . وبتحقيق هذه الشروط في القتال مع شروط إعداد العدة الكافية السابقة له، ومع تحديد الهدف منه كما أمر الله تعالى، يستطيع حملة رسالة الحضارة الإسلامية المجيدة أن يظفروا بالنصر كلما لاقوا عدوهم. سنة الله ولن تجد لسنته تبديلًا، ولن تجد لسنة الله تحويلًا.

المقولة الثالثة: الروح المعنوية لدى المقاتلين من حملة الرسالة الربانية

المقولة الثالثة: الروح المعنوية لدى المقاتلين من حملة الرسالة الربانية ... المقولة الثالثة: الروح المعنوية لذي المقاتلين من حملة الرسالة الربانية عند المقارنة بين الجيوش المقاتلة في العالم، الغابرة منها والحاضرة، يلاحظ الناظرون إلى قيم الروح المعنوية فيها أن جيوش حملة رسالة الحضارة الإسلامية الصادقين تتمتع بأعلى نسبة منها. وذلك لأن حملة رسالة الحضارة الإسلامية حينما تلجئهم الضرورة أن يقفوا موقف المقاتلين من مواجهة أعداء رسالتهم المجيدة، لا بد أن يلتمسوا في أنفسهم أن الباعث لهم على قتال أعدائهم أنبل غاية تقصد، وهي إعلاء كلمة الله، وابتغاء رضوانه والطمع بالأجر عنده، وصيانة حركة البناء الحضاري المجيد من شرور أعدائها المجرمين. وعند ذلك لا بد أن يجدوا أنفسهم مسوقين إلى التقيد بشروط القتال التي حددها الله لهم، وأمرهم بالتزامها، وهي كما سبق: وحدة الغاية، ووحدة الصف، والاعتماد على الله في تحقيق النصر، وعدم الاغترار بالنفس، وشدة البأس في القتال، والثبات والمصابرة وعدم تولية الأدبار، مع الاعتصام بالإكثار من ذكر الله، وطاعة القيادة، وعدم التنازع في الأمر. ومتى استجمعوا كل ذلك مع سبق إعداد المستطاع من القوة المادية المرهبة بتفوقها، كانوا كتلة رهيبة جدًّا من القوة والبأس والشجاعة والإقدام. فما من جيش استجمع كل ذلك إلا نزع الجبن من قلوب أفراده، فلم يخشوا الموت، وأقبلوا على القتال وهم شديدوا البأس، ثابتوا الإقدام، مستوقون إلى بلوغ إحدى الحسنيين: - النصر وإعلاء كلمة الله. - أو الشهادة عند الله وبلوغ رضوانه وجنته. ما توافرت في جيش من الجيوش كل هذه الشروط التي حددها الإسلام

وأرشد إليها إلا وجد معونة الله المعنوية والمادية مصاحبة له، مهما كر أو فر في مساجلات القتال. ومن المستعبد جدًّا أن يصاب في وقت من أوقاته بالضعف أو التخاذل والوهن، وذلك لأنه يعلم بأن وعد الله بالنصر للصادقين معه، والمخلصين له، لا بد محقق، فهو شديد الثقة بذلك؛ لأنه فيما يقوم به إنما يقاتل عدو الله وعدو دينه، وعدو رسالة الخير التي أمر بها عباده، وعدو بناة صرح الحضارة المجيدة، وهو يعتقد أنه يقاتل بإذن الله وأمره، مؤيدًا بعون الله وقهره، موعودًا بأجر الله ونصره. ومن أجل كل ذلك ترتفع قوة المقاتلين في سبيل الله بنسبة ما في قلوبهم من إيمان وصبره، وصدق مع الله، حتى يكون الواحد منهم كفئًا للعشرة من العدو في الحد الأعلى، ولاثنين من العدو في الحد الأدنى. ويدل على ذلك قول الله تعالى في سورة "الأنفال: 8 مصحف/ 88 نول نزول": {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . وكذلك تكون قوة المؤمنين الصابرين، بخلاف الذين يخرجون بطرًا ورئاء الناس، ويقاتلون حمية وعصبية أو للشجاعة، أو بغية الوصول إلى مال، أو مجد دنيوي، أو سلطان في الأرض، أو يقاتلون في سبيل فرد أو جماعة من الناس، أو غير ذلك من أمور لا تعادل غايتها بذل الروح في سبيلها، فإنهم إن يخرجوا إلى القتال فما أسرع ما يدب الذعر إلى قلوبهم، ويصيبهم الخوف والهلع، ثم إنهم في أغلب الأحوال متى وجدوا لأنفسهم منفذًا للفرار من المعركة أخذوا سبيلهم إليه، إلا أن يغلب على ظنهم أنهم بقوتهم منتصرون، وأن عدوهم ضعيف أو جبان، أو أن يقوم في أنفسهم أنهم قد أمسوا ملزمين بالقتال، وإلا قتلوا وأبيدوا، فهم يحاولون أن يقاتلوا ليدفعوا الموت عن أنفسهم بما استطاعوا من قوة وحيلة، ومن أجل ذلك نلاحظ أن الجيوش التي لا تحمل رسالة جهاد مقدس تعاني أكبر ما تعاني مما يسمى عند العسكريين بفقد الروح المعنوية، وتحاول قيادتها رفع هذه القوة بوسائل مختلفة دعائية ونفسية ومادية، ومن الوسائل المادية ما يتم به سلب الشعور العاقل عند الجندي المقاتل، عن طريق المسكرات، ولكن كل وسائلهم لا تحقق بعض النتائج التي يحققها الإيمان.

المقولة الرابعة: الجهاد بالقتال في تاريخ بناة الحضارة الإسلامية

المقولة الرابعة: الجهاد بالقتال في تاريخ بناة الحضارة الإسلامية حدثنا التاريخ عن الجهاد الصادق المقدس بإعداد القوة المادية واستخدامها، في القتال الذي قام به حامل لواء الحضارة الإسلامية الأول، رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والمسلمون معه، وذلك منذ هجرته حتى رحلته الأخيرة إلى جوار الله، وكان بهذا الجهاد المقدس ظهور الإسلام واستعلانه، وشق الطريق الطويلة لبناء الحضارة الإسلامية المجيدة، بناء واقعيًّا على أسسها الفكرية الراسخة. وحدثنا التاريخ أيضًا عن استمرار حركة هذا الجهاد العظيم على أيدي المؤمنين الصادقين، بعد وفاة رسول الله صلوات الله عليه في العصور الإسلامية الزاهرة الأولى، فأثمر جهادهم الصادق فتحًا مبينًا، لعشاق الخير، وناشدي الحضارة المجيدة، ونصرًا عزيزًا للبؤساء والمظلومين ومهضومي الحقوق، ومنح الأكفياء للمساهمة في بناء الحضارة أرضًا مستقرة آمنة، وزمنًا مباركًا، فأخذوا يبذلون ما لديهم من طاقة وجهد في بناء الصرح الخالد، الذي دفعتهم إلى بنائه أسس الحضارة الإسلامية الراسخة. وامتد الإسلام باستمرار حركة هذا الجهاد المقدس، وامتدت معه أصوله الحضارية شرقًا وغربًا، وحقق المسلمون به معجزة الفتح التاريخية، التي كادت تضم بين جناحيها معمور الأرض في مشارقها، ومغاربها، وكان ذلك في أقصر حقبة عرفها تاريخ الفتوحات في الأرض.

وما زال أمر المسلمين كذلك حتى تسرب إلى نفوسهم مرض الانحراف عن الهدف المثالي الحق، الذي حددته لهم أسس الحضارة الإسلامية، فدخل إلى قلوبهم داء الوهن، والطمع بالدنيا، وحب الشهوات، والتثاقل عن الجهاد في سبيل الله، والإخلاد إلى الأرض، فوكلهم الله إلى نفوسهم، وألقى الخلاف بينهم، وضرب بين قلوبهم، وسلط عليهم عدوهم. ولكن حركة المد والجزر في البحر الزاخر من المسلمين المنتشرين في الأرض، كانت توقظهم بين حين وآخر، إلى ما يجب عليهم نحو رسالتهم الحضارية العظمى، من الجهاد في سبيل الله جهادًا حقًّا، مستوفيًا كامل شروطه وأركانه، فكانت صحوات اليقظة هذه كافية لصد أعدائهم عنهم، ورد كيدهم في نحورهم، وإبقاء هيكل الدولة الإسلامية العام مهيبًا مرهوب الجانب. وبين ضعف هذا الكيان وعوامل اليقظة ومظاهرها، لاحظ أعداء الإسلام العقيدة القوية الراسخة التي تجعل جيوش حملة رسالة الحضارة الإسلامية المجيدة كأنها الجبال الراسيات قوة وثباتًا، وامتحنوها بشكل عملي خلال قرون صارعوهم فيها بكل وسيلة من وسائل القتال المحكم العنيف، وكانت النتيجة أن مستهم صدمة عنيفة من الذعر والدهش والحيرة، ثم لم يجدوا سبيلًا إلى تفتيت هذه القوة الهائلة، إلا بأن يأتوا إلى جيوش حملة رسالة الجهاد الإسلامي، فيفرغوها من سر قوتها الحقيقية أولًا، ويضعوا مكانها قوى خلبية باردة ثانيًا، ثم يوجهوا عليها ضرباتهم القاصمات ثالثًا، ورأوا أنه لن يتم لهم الظفر عليها إلا بذلك، وكذلك فعلوا. وقد وجه أعداء الإسلام جهودهم لإزالة قوة الإيمان بالله، وتهديم البواعث على الجهاد المقدس، وأتْبَعُوا ذلك بإلغاء شروط القتال في سبيل الله، ووضعوا مكان كل ذلك قوى صورية، تعطي صوتًا عظيمًا مدويًا، ولكنها لا تحدث إلا أثرًا يسيرًا، وقد لا تحدث أي أثر إلا أثرًا ضد حاملها، ووضعوا مكان الشروط الربانية شروطًا أخرى، فأحلوا محل الاعتماد على الله على إمدادات الدول الطامعة ذات المصالح الشخصية، والاغترار بالنفس، وأحلوا محل ذكر الله عبارات طاغوتية غير إسلامية، وأغاني مشحونة بتبجحات حقيره، وحميات

جاهلية، وبردوا حرارة الاندفاع الحقيقي إلى الجهاد، وفرقوا صفوف المسلمين، وأفسدوا بينهم وبين قادتهم، ففقدت الجيوش المسلمة بذلك عناصر قوتها الحقيقية، وألجئت بذلك إلى التخلي عن رسالتها الحضارية المجيدة. فهل إلى عودة من سبيل؟ إن العودة إلى مركز المجد العظيم رهن بالتزام أسس الحضارة الإسلامية، واتخاذ وسائلها. هذا هو المنهج الصحيح، فإلى المنهج الإسلامي الصحيح يا شباب الإسلام، إن كنتم من عشاق المجد العظيم، ومن بناة صرح الحضارة الخالدة. هذا هو المنهج الصحيح الذي امتحن بالتطبيق العملي فآتى ثماره العظيمة، التي لم يحظ بعشر معاشرها أي منهج آخر وضع موضع الامتحان والتجربة بالتطبيق العملي. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

الباب الثالث: صور ونماذج من تطبيقات المسلمين الحضارية في مختلف المجالات العلمية والعملية

الباب الثالث: صور ونماذج من تطبيقات المسلمين الحضارية في مختلف المجالات العلمية والعملية الفصل الأول: تلقي القرآن وتدوينه وتدبره المقولة الأولى: تلقي القرآن وتدوينه 1- القرآن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم: مع إشراق رسالة الإسلام التي اصطفى الله لتبليغها محمدًا صلى الله عليه وسلم، طفق الوحي يتنزل بآيات القرآن المجيد عليه، فيتلفقها الرسول صلى الله عليه وسلم بكل ما وهبه ربه من قدرة على الحفظ والاستيعاب، ويتبصر فيها بكل ما آتاه ربه من قدرة على الفهم والتدبر. وكان منه في بعض الأحيان تسرع في تلقي القرآن وتلاوته، قبل أن ينتهي جبريل عليه السلام من إملاء النجم القرآني الذي يوحي به إليه، اهتمامًا منه بتحمل المسئولية التي اصطفاه الله لها، وحرصًا منه على حفظه، فأنزل الله عليه قوله في سورة "القيامة: 75 مصحف/ 31 نزول": {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . ثم أنزل الله عليه قوله في سورة "طه: 20 مصحف/ 54 نزول": {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ كل ما كان ينزل عليه من القرآن، لا ينقص منه حرفًا، ولا يزيد فيه حرفًا. وكان يأمر أصحابه بكتابة القرآن، وحفظه، وتبليغه، وتداوله بين الناس نشرًا للعلم الرباني، وبثًا لأسس الإسلام ومفهوماته الاعتقادية والعملية.

وكان له كتاب اشتهروا في عصره بعبارة: "كتاب الوحي" فكان من كتاب الوحي1: 1- أبو بكر الصديق، عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي "51ق. هـ-13هـ". 2- عمر بن الخطاب، القرشي العدوي "40ق. هـ-23 هـ". 3- عثمان بن عفان، القرشي الأموي "47ق. هـ-35 هـ". 4- علي بن أبي طالب، الهاشمي القرشي "23ق. هـ-40 هـ". 5- معاوية بن أبي سفيان، القرشي الأموي "20ق. هـ-60 هـ". 6- زيد بن ثابت، الأنصاري الخزرجي "11ق. هـ-54 هـ". 7- أبي بن كعب، الأنصاري الخزرجي، كان من أحبار اليهود قبل الإسلام "000-21هـ". 8- خالد بن الوليد، القرشي المخزومي "000-21هـ". 9- خالد بن قيس، الأنصاري الخزرجي "000-12هـ". رضي الله عنهم، ولدى التبصر بهذا العلم العظيم نلاحظ أن أول قاعدة حضارية يمكن أن يعتمد عليها بناء حضاري مجيد. ومنذ ذلك الحين تحولت الأمة العربية الأمية من واقع الجهل الذي كانت تتقلب في أوحاله، وأخذت تسلك في طريق المعرفة والعلم بهمة عظيمة. واندفع المسلمون يحفظون القرآن، ويكتبونه، ويتدبرونه معانيه، وتنفتح عقولهم إلى آفاق كثيرة من المعرفة، وجهتهم لها آياته، ثم أخذوا يعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناته القولية والعملية، فيستوعبونها فهمًا، ويطبقونها عملًا،

_ 1 اعتمدت في ترجمة أعلام هذا الفصل على كتاب "الأعلام" للزركلي، وكتاب "سير أعلام النبلاء" للذهبي.

على مقادير استطاعاتهم, ويتداركون ما كان ينقصهم في سالف أميتهم من شروط العلم، فأسرعوا إلى زيادة أعداء الذين يتقنون صنعة الكتابة والقراءة فيهم، عملًا بما جاء في الإرشاد القرآني الذي اشتملت عليه أولى سور القرآن نزولًا، وهي سورة "العلق: 96 مصحف/ 1 نزول" وهو قول الله فيها: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . واستجابة للتوجيه النبوي، إذ جعل يدفع أبناء المسلمين إلى تعلم القراءة والكتابة، ضمن الوسائل التي كانت متيسرة حينئذ للمسلمين. وكثر في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حفاظ القرآن كله أو بعضه. ذكر القرطبي: أنه قد قتل منهم يوم بئر معونة سبعون رجلًا، وقتل منهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هذا العدد. على أن الشغف بالقرآن الكريم قد كان صفة مشتركة لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استمر بعدهم في المسلمين. الأمر الذي حفظ الله به كتابه، تحقيقًا لوعده الذي أبانه في سورة "الحجر: 15 مصحف/ 54 نزول" بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وحسب المسلمين أن يكون هذا القرآن المجيد قاعدتهم العلمية، ودستورهم الحضاري، ومنطلقهم إلى كل معرفة إنسانية، وبناء حضاري. وشغف المسلمين بالقرآن المجيد قد رافقه تعلق شديد منهم بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وبياناته وتطبيقاته العملية، ورغبة عامة في تحصيل كل معرفة إنسانية كان للعرب نصيب منها، كالشعر العربي، وأمثال الحكمة والأدب، وكلام فصحاء العرب وبلغائهم، والأنساب وأخبار الأولين، وما كانوا يعرفونه من علم النجوم، وما كانوا يعرفونه من أدوية نباتية وغيرها، للأمراض التي كانت معروفة لديهم في جزيرة العرب يومئذ، ونحو ذلك من معارف أخرى توصل إليها العرب بأنفسهم، أو وفدت إليهم من معارف الأمم المجاورة لهم.

2- القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ظل القرآن المجيد في قمة ما أولاه المسلمون بالغ عنايتهم واهتمامهم، بالإقبال على حفظه وتدبر معانيه، وكانوا يعلمونه أبناءهم قبل أن يعلموهم أي علم آخر. ورغبة في صيانته من أن يدخل إليه أي تحريف أو تغيير، عمد الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى كتابته كتابة كلية جامعة في نسخة أم، تكون هي المرجع لسائر المكتوبات التي يكتبها المسلمون للقرآن، وكان ذلك بإشارة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعد موقعة اليمامة، سنة اثنتي عشرة للهجرة، التي وقعت بين المسلمين وأهل الردة، من أتباع مسيلمة المتنبئ الكذاب، التي استشهد فيها سبعون رجلًا من حفظة القرآن، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهال هذا الأمر عمر بن الخطاب، فجاء إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فاقترح عليه جمع القرآن، في نسخة تكون هي الأم والمرجع المعتمد لدى جميع المسلمين. روى البخاري في صحيحه أن يزويد بن ثابت رضي الله عنه قال: "أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده. قال: أبو بكر، إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر1 يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن، فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل

_ 1 استحر: أي: اشتد.

جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو الله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف1 وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة "التوبة" مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع غيره. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر". ا. هـ. ومعنى قوله: "لم أجدها عند أحد غيره" لم أجدها مكتوبة عند أحد غير أبي خزيمة الأنصاري، أما كونها محفوظة فكل حفاظ القرآن من الصحابة قد كانوا يحفظونها. وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، ولكنه كان قد اشترط على نفسه أن يعتمد فيما يجمع على شهادتي الحفظ والكتابة معًا. وقد كان هذا الجمع للقرآن الكريم الظاهرة الأولى من ظاهرات تثبيت العلم المنزل من عند الله قرآنًا يتلى في نسخة أصلية جامعة، تكون هي الأم والمرجع الذي ترجع جميع المكتوبات من القرآن إليه، وقد تولى هذا الأمر العظيم أول خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده، باقتراح ممن صار الخليفة الثاني، وقام بالعمل أحد كتاب الوحي "زيد بن ثابت الأنصاري" وأعانه عليه كل صحابي كانت لديه كتابة قرآنية كتبها في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، مع الجمهور العظيم لحفاظ كتاب الله من الصحابة. وبهذا العمل المجيد استوفى هذا السفر العلمي الرباني العظيم أولى وسائل

_ 1 العسب: جمع "العسيب" وهي جريدة النخل المستقيمة يكشط خوصها، وقد كان يكتب على صفحتها. واللخاف: جمع "اللحفة" وهي حجر أبيض عريض رقيق.

توثيقه التاريخي بالكتابة الموحدة المجموعة، وبالحفظ في صدور الحفاظ الكثيرين الثقات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان. وهذا من توفيق الله وعنايته الجلية بهذا الكتاب. الذي جعله خاتمة كتبه المنزلة من لدنه، ليكون نورًا وهدى للناس أجمعين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وإذ كان من خطته جل جلاله أن ينزل هذا الكتاب الخاتم، على خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم، كان من مقتضى حكمته أن يتكفل بحفظه من أي تحريف أو تغيير أو زيادة أو نقص، بما يُسخر له من وسائل حفظ وتثبيت. وكان من مقتضى حكمته أن لا يتكفل بحفظ الكتب التي أنزلها على رسله السابقين، فلم يوجد للكتب السابقة ما وجد للقرآن من وسائل حفظ وتوثيق، فدخل فيها التحريف والتغيير، والزيادة والنقص والنسيان، فلا يوجد لدى أمة من الأمم السابقة ما يصحح نسبة كتبها المقدسة لديها إلى رسلها أو أنبيائها. وبهذا يلاحظ كل ذي فكر وعقل وإنصاف أن الأمة الإسلامية قد انفردت من بين جميع الأمم، بأنها الأمة التي تملك توثيقًا قطعيًّا للكتاب الرباني المنزل على الرسول الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. 3- القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه: اتسعت أراضي الدولة في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ودخلت في الإسلام شعوب كثيرة غير عربية الأصل، وأخذ بعض الذين دخلوا في الإسلام يقرءون القرآن على غير وجهه الذي أُنزل به. فأسرع الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، إلى الخليفة عثمان بن عفان، واقترح عليه أن ينسخ عددًا من المصاحف مطابقة للنسخة الأم التي كان قد تم جمعها في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وأن يُوزِّع هذه النسخ

على الأقطار الإسلامية، تداركًا للأمة الإسلامية من أن يقع بينها الخلاف في نصوص آيات القرآن المجيد. واستجاب الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه لتنفيذ هذا الاقتراح، فألف لجنة للقيام بهذا العمل الجليل الخطير، من أربعة رجال ثقات فضلاء من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم: 1- زيد بن ثابت المدني الأنصاري الذي كان قد كلفه الخليفة الأول "أبو بكر الصديق" أن يجمع النسخة الأولى. 2- عبد الله بن الزبير، وهو مكي قرشي أسدي "1-73هـ". 3- سعيد بن العاص، وهو مكي قرشي أموي "3-59هـ". 4- عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو مكي، قرشي، مخزومي "1-43هـ". فاجتمع هؤلاء الأربعة الأعلام الثقات، وشرعوا في تنفيذ أمر الخليفة عثمان رضي الله عنه، سنة خمس وعشرين للهجرة، ونسخوا بضع مصاحف لم تزد على سبعة. ولما تم نسخ هذه المصاحف بعث الخليفة عثمان إلى كل ناحية واحدًا منها. فأرسل إلى الشام، والكوفة، والبصرة، ومكة، واليمن، والبحرين، واحتفظ بواحدة عنده في المدينة. وتلقى المسلمون في الأقطار الإسلامية عمل الخليفة هذا بالقبول والاستحسان، وبه قطع الله دابر الاختلاف، وصار لدى المسلمين في كل قطر مصحف إمام مدقق على الأصل الذي هو الأم. وأقر ما فيه الحفاظ المتقنون المنتشرون في الأقطار، من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان عمل عثمان هذا عملًا مجيدًا حميدًا، في طريق نشر وتثبيت كتاب المسلمين الأول والأكبر، على وجه محقق مدقق موثق في مختلف الأقطار الإسلامية.

روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن شهاب، أن أنس بن مالك حدثه: "أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يُغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة، أن أرسلي إلينا بالمصحف ننسخها في المصاحف التي نردها إليك، فأرسلت به حفظة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الثلاثة، إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواء من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق". وكان رسم الكتابة العربية يومئذ خاليًا من النقط والتشكيل، وعلى ذلك تمت كتابة المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه، كما كانت كذلك كتابة القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي عهد أبي بكر. 4- ضبط حروف كلمات القرآن بالنقط وبالتشكيل: ظل رسم كتابة القرآن كما رسم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي عهود الخلفاء الراشدين، خالي الحروف من النقط ومن الشكل. وكان معظم المسلمين الأولين عربًا أصلاء، يقرءون القرآن بسليقتهم متقنًا، دونما لحن في نطق مفرداته أو في إعرابها بحسب موقعها من الجمل القرآنية. وظل المسلمون يقرءون القرآن على وفق الرسم الذي كتبت به نسخ مصحف عثمان الذي كان المصحف الإمام بضعًا وأربعين سنة، حتى خلافة عبد الملك بن مروان.

وكثر منذ ذلك الحين اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب التي دخلت في الإسلام، وبدأت العجمة واللحن يتسربان إلى أبناء العرب. وعندئذ تنبه فريق من رجال الفكر الإسلامي، وفريق من رجال الحكم والإدارة، إلى ضرورة صيانة القرآن الكريم من التصحيف واللحن في كلماته على ألسنة العامة، بسبب التشابه في رسم بعض الحروف العربية؛ إذ كانت خالية من فروق النقط عليها، وإلى ضرورة صيانته من اللحن الذي يكون بتغيير حركات الحروف، نظرًا إلى أن الكتابة العربية في أصلها خالية من الدلالة على حركات حروفها فتحًا، وضمًّا، وكسرًا وسكونًا. فاتجهت الأفكار لابتكار طريقة يضبط بها رسم القرآن، بشرط المحافظة على صورة بناء الرسم السابق، إلا ما تدعو الضرورة إلى تحسينه من الناحية الإملائية، كإثبات بعض الألفات التي كان اصطلاح الرسم قائمًا على حذفها. مثل ألف "كانت" ونحو ذلك. والطريقة المختارة التي تم الاتفاق عليها أن يكون الضبط على شكل علامات مرافقات غير ملاصقات، تحدد نوع الحرف، وتُشير إلى حركته في النطق، من فتح وضم وكسر وسكون. وأخذت العلامات المميزات للحروف، والمشيرات إلى الحركات، تدخل فيما يُكتب من مصاحف، ويُصاحب هذه العلامات التطوير والتحسين، حتى بلغت ذروتها في نهاية القرن الثالث الهجري، وهي الصورة التي استمرت حتى يوم الناس هذا. ومن الذين تذكر أسماؤهم في التاريخ ممن وجهوا لعمليات الضبط هذه من رجال الحكم: 1- عبد الملك بن مروان، "الخليفة الأموي 26-86 هجرية"1. 2- عبيد الله بن زياد. "والي خراسان، ثم البصرة للأمويين "27-67 هجرية"2.

_ 1، 2 عن الأعلام للزركلي.

3- الحجاج بن يوسف الثقفي "أحد القادة وولاة الحكم في العهد الأموي 40-95 هجرية"1. ومن أشهر الذين تتردد أسماؤهم بأنهم بدءوا أو ساهموا في وضع أصول النقط والشكل ثلاثة رجال: 1- أبو الأسود الدؤلي "ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني" واضع علم النحو، وجاء في صبح الأعشى أن أبا الأسود وضع الحركات والتنوين لا غير "1ق. هـ-69 هجرية"1. 2- يحيى بن يعمر الوشقي العدواني "متوفى 129 هجرية" قالوا: هو أول من نقط المصاحف، أي: ميز بين الحروف المتشابهة الرسم بالنقط1. 3- نصر بن عاصم الليثي من أوائل واضعي علم النحو "متوفى 89 هجرية"1. وهكذا تم في حقبة مبكرة من تاريخ المسلمين عمل حضاري عظيم، ضبطوا به كتابهم الأول أكمل ضبط وأتقنه، مع حفظه في صدور عشرات الألوف من الحفاظ المتقنين المنتشرين في كل موقع وصل إليه المسلمون. 5- كل القرآن المنزل من عند الله لهداية الناس هو ما كتب في النسخة الأم بعهد أبي بكر: عرفنا أن القرآن الذي جمعه "زيد بن ثابت" بأمر من الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنهما هو كل القرآن الذي أنزله الله على رسوله لهداية الناس، وعرفنا أن عمل الخليفة الثالث عثمان بن عفان لم يكن إلا نسخ سبع نسخ عنه وزعت في الأقاليم كما سبق بيانه. فلم تسقط ولم تضع من القرآن كلمة واحدة ولا حرف واحد، وكل حرف من القرآن قد ثبت بالتواتر القطعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضمن القراءات العشر التي حررها ودونها وضبطها علماء القراءات.

_ 1 عن الأعلام للزركلي.

أما لهجات أداء النطق العربي التي لا يرتبط بها اختلاف معنى، فقد أنزل الله الإذن بها ضمن سبعة أحرف، ولم يثبت علماء القراءات منها إلا ما بلغ التواتر. فما بين دفتي المصحف المنتشر بين المسلمين هو كل القرآن المنزل من لدن حكيم عليم لهداية الناس وتعليمهم علوم الدين، لم يضع منه شيء ولم يكتم منه شيء. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "من زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من الوحي فقد كذب". وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله بن السوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل1، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر". وقد نفذ الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره الله به من تبليغ جميع ما أنزل إليه من ربه؛ إذ قال الله له في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول": {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} . فمن زعم وجود كلمات أو آيات أو سور هي من القرآن، إلا أنها ليست في دفتي المصحف المنتشر بين عامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فهو كذاب يفتري على الله ورسوله، وعلى جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وقد تحقق بحفظ القرآن وعد الله عز وجل بقوله في سورة "الحجر: 15 مصحف/ 54 نزول": {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

_ 1 العقل: الدية.

المقولة الثانية: نشأة علم التفسير

المقولة الثانية: نشأة علم التفسير 1- عصر الصحابة والتابعين: 1- كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته هو المرجع في فهم كتاب الله، وتبيين ما نزل الله للناس من شرائع وأحكام ونصائح ووصايا، مما يتعلق بقضايا الإيمان، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات، وكل أنواع السلوك الظاهر والباطن، الجسدي والنفسي. 2- وكان كبار الصحابة وأذكياؤهم وفطناؤهم يفهمون القرآن بسليقتهم في فهم اللسان العربي، الذي أنزل به القرآن، على تفاضل فيما بينهم في مقادير ما يفهمون منه، ومن الذين كانت لهم مفهومات واستنباطات رائعات في كتاب الله علي بن أبي طالب وأبو بكر وعمر رضي الله عنهم. على أن القرآن بحر زاخر من العلوم الربانية لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد. وقد كان إيمان الصحابة ومن تبعهم بإحسان، بالله وبرسوله وبما في كتاب الله من حق وهدى، يدفعهم إلى التسليم الكامل بكل ما في القرآن من كنوز علم وهدى، وكان يكفيهم من المعاني التي يفهمونها ما يتصل بصفاء الاعتقاد، وفضائل الأخلاق والسلوك. وكان الصحابة يرجعون في الأحكام إلى ما يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بأقواله وأفعاله وتقريراته، وحسبهم ذلك في حياتهم الدينية والفكرية.

ولم يكونوا يكلفون أنفسهم أن يتعمقوا في استنباط دلالات آيات القرآن وعباراته، لكمال إيمانهم وتسليمهم، وعدم حاجتهم في حياتهم إلى إدراك التطابق بين دلالات النص وحقائق الواقع الكوني؛ إذ لم تكن العلوم الكونية قد توصلت إلى أمور خفية وراء الظواهر، حتى ينظروا بين ما توصل إليه الناس بوسائلهم، وبين ما تدل عليه العبارات القرآنية. فالمعارف العلمية عن الكون ما زالت في طفولتها، ولم يكن للصحابة أي صلة بعلوم اليونان والفرس وغيرهم من الأمم، حتى تكون لهم مقارنات بها، أو بحوث تكشف لهم الأخطاء التي كانت تشمل عليها علوم الناس، وتؤكد لهم صحة ما في الكتاب المنزل من لدن رب العالمين. وبرز في عصر الصحابة من العلماء بتفسير القرآن: - عبد الله بن عباس، خبر الأمة "3 ق. هـ-68هـ" وكان أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم رواية للتفسير، وقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. - عبد الله بن مسعود بن غافل "000-32 هـ" وقد كان من أعلام الصحابة الذين أخذ عنهم الشيء الكثير في التفسير. - علي بن أبي طالب، وقد كانت له نظرات ذات عمق وبصيرة، وقد كان رضي الله عنه بحرًا من العلم، وكان قوي الحجة "23ق. هـ-40 هـ". - أبي بن كعب بن قيس بن عبيد من بني النجار "000-21هـ". - وغيرهم. 3- ثم تكونت في عصر التابعين ثلاث مدارس للتفسير. - المدرسة الأولى: مدرسة التفسير بمكة المكرمة، وإمامها عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم "3ق. هـ-68هـ" واشتهر من تلاميذه: - التابعي: سعيد بن جبير "45-95هـ". - التابعي: مجاهد بن جبر، مولى بني مخزوم "21-104هـ".

- التابعي: عكرمة بن عبد الله البرير، مولى ابن عباس "25-105هـ". - التابعي: طاووس بن كيسان اليماني الخولاني "33-106هـ". - التابعي: عطاء بن أبي رباح أسلم بن صفوان، كان عبدًا أسود "27-114هـ". المدرسة الثانية: مدرسة التفسير بالمدينة المنورة، وإمامها الأول الصحابي: أبي بن كعب، من بني النجار، من الخزرج "000-21هـ". أحد كتاب الوحي، كان قبل الإسلام حبرًا من أحبار اليهود، واشتهر من تلاميذ هذه المدرسة في التفسير: - أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري. أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاب. وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ودخل عليه "000-90 أو 93 هـ". - التابعي: محمد بن كعب بن سليم القرظي المدني من حلفاء الأوس، كان أبوه كعب من سبي بني قريظة "000-108 أو 117 وقيل غير هذا". - التابعي: زيد بن أسلم العدوي، مولى عمر بن الخطاب "000-136هـ". المدرسة الثالثة: مدرسة التفسير بالعراق. وإمامها الأول الصحابي عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي "000-32 هـ" واشتهر من تلاميذ هذه المدرسة في التفسير: - التابعي: علقمة بن قيس النخعي الهمداني، كان فقيه العراق وكان يشبه ابن مسعود في هدية وسمته وفضله "000-62هـ". - التابعي: مسروق بن الأجدع الهمداني الوادعي، من أهل اليمن، سكن الكوفة، كان أعلم بالفتيا من شريح القاضي "000-63هـ".

- التابعي: الأسود بن زيد بن قيس النخعي، كان عالم الكوفة في عصره "000-75هـ". - التابعي: مرة بن شراحبيل الهمداني الكوفي "000-76هـ". - التابعي: عامر بن شراحبيل الشعبي الحميري، ولد ونشأ ومات بالكوفة، كان يضرب به المثل في الحفظ، وكان من رجال الحديث الثقات، وكان فقيهًا "19-103هـ". - التابعي: الحسن البصري، وهو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار، مولى زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، كان شيخ أهل البصرة، وكان سيد أهل زمانه علمًا وعملًا. "21-110هـ". - التابعي: قتادة بن دعامة السدوسي البصري، مفسر حافظ ضرير أكمه، قال الإمام أحمد بشأنه: قتادة أحفظ أهل البصرة "61-118هـ". 2- عصر التدوين: بدأ التوسع في تدوين تفسير كتاب الله وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وسائر علوم الدين، في أواخر عهد بني أمية وأوائل عهد العباسيين. وفيما يلي لمحات تفصيلية لهذا: أولًا: لقد كان تدوين تفسير كتاب الله عز وجل في معظمه بمثابة باب من أبواب تدوين السنة النبوية، المعتمدة على الرواية، ولو كان منفصلًا في كتاب خاص يأخذ عنوان تفسير لكتاب الله عز وجل، ولم يقتصر هذا على تدوين المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل اشتمل هذا التدوين على ما أثر عن الصحابة والتابعين. فكان ممن دون في التفسير من أئمة الحديث تدوينًا مشابهًا لتدوين المرويات من الأحاديث والآثار، الأعلام المذكورون فيما يلي: - يزيد بن هارون بن زاذان بن ثابت السلمي بالولاء، من حفاظ الحديث

الثقات، أصله من بخارى، ومولده ووفاته بواسط، ذكر البلخي أن له كتابًا فيه أحاديثه "118-206هـ". - شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي، الواسطي ثم البصري، من أئمة رجال الحديث حفظًا ودراية وتثبتًا، قال الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق "82-160هـ". - وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي، حافظ للحديث ثبت، كان محدث العراق في عصره، له كتب منها: "تفسير القرآن" و"السنن" "129-197هـ". - سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي، محدث الحرم المكي، من الموالي، ولد بالكوفة، وسكن مكة وتوفي بها، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز، له "الجامع" في الحديث، وكتاب في "التفسير" "107-198هـ". - روح بن عبادة بن العلاء القيسي البصري، كان محدثًا ثقة من أهل البصرة، وكان كثير الحديث، صنف كتبًا في السنن والأحكام، وجمع تفسيرًا "000-205هـ". - عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري الصنعاني، من حفاظ الحديث الثقات، من أهل صنعاء، له "المصنف" في الحديث وكتاب في "تفسير القرآن" "126-211هـ". - آدم بن أبي إياس، شيخ الشام، اسم أبيه ناهية بن شعيب، وقيل: عبد الرحمن، روى عنه البخاري في صحيحه، وهو محدث عسقلان وهي مدينة من أعمال فلسطين "132-نحو 225 هـ". - عبد بن حميد بن نصر الكسي، نسبة إلى "كس" من بلاد السند، من حفاظ الحديث، قيل اسمه: عبد الحميد، وخفف إلى "عبد" من كتبه "مسندخ" في سفر ضخم، وكتاب في التفسير للقرآن الكريم "000-249هـ". - وغيرهم.

ثانيًا: ثم انفصل التدوين في التفسير مع الحافظة غالبًا على منهج تدوين المرويات من الأحاديث والاثار؛ إذ صار علمًا قائمًا بنفسه. وبدأ المفسرون يكتبون مؤلفات في التفسير، تشتمل على تتبع كل آية من القرآن، وفق ترتيب السور في المصحف من "الفاتحة" في أوله، حتى سورة "الناس" في آخره، ما وجدوا لذلك مرويات وآثارًا. وبرز من هؤلاء الأعلام المذكورون فيما يلي: - ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد الربعي القزويني، من أهل قزوين، أحد الأئمة في علم الحديث، له كتاب السنن المعروف "بسنن ابن ماجه" وله كتاب في "تفسير القرآن" "209-273هـ". - محمد بن جرير بن يزيد الطبري، المؤرخ المفسر الإمام، لقب بشيخ المفسرين، له كتاب ضخم في التفسير بعنوان "جامع البيان في تفسير القرآن" ويعرف بتفسير الطبري "224-310هـ". - أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، فقيه مجتهد، عن الحفاظ، كان شيخ الحرم بمكة المكرمة، له مصنفات جليلة، منها "المبسوط" في الفقه، و"الوسط" في السنن، و"تفسير للقرآن الكريم" كبير، توفي بمكة "242-319هـ". - ابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن محمد بن أبي حاتم بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي، حافظ للحديث، له تصانيف عدة، منها: "الجرح والتعديل" ثمانية مجلدات و"التفسير" في عدة مجلدات، وغيرها "240-327هـ". - أبو الشيخ، أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، المعروف بأبي الشيخ، إمام حافظ صادق، كان محدث أصبهان، له تصانيف عديدة، وقد صنف في الأحكام، وصنف في التفسير، "274-369هـ". - الحاكم النيسابوري، هو محمد بن عبد الله بن حمدويه بن نعيم

الضبي، النيسابوري، المشهور بالحاكم، من أكابر حفاظ الحديث، والمصنفين فيه، صنف كتبًا كثيرة جدًّا، وكان من أعلم الناس بصحيح الحديث وتمييزه عن سقيمه "321-405هـ". - أبو بكر بن مردويه، وهو أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني، حافظ مؤرخ مفسر، من أهل أصبهان، له كتاب "التاريخ" وكتاب في "تفسير القرآن" و"مسند" وغيرها "323-410هـ". - وغيرهم. ومعظم تفاسير هؤلاء قائمة على عرض تفاسير مروية بالإسناد وبعضها مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وانفرد ابن جرير الطبري بذكر الأقوال وتوجيهها وترجيح بعضها على بعض، وذكر وجوه الإعراب، واللغويات، واستنباط بعض الأحكام. ثالثًا: ثم ظهر تدوين التفاسير التي تجمع التفسير بالمأثور، وما يستنبطه المفسر من دلالات النص القرآني، ضمن ضوابط اللغة العربية. ثم توسعت التفاسير فدخلت فيها الاستنباطات الفقهية، والتفسيرات، العقلية، والمفهومات الفلسفية، والتحليلات اللغوية والنحوية والصرفية. واستفاد كثير من أصحاب المذاهب لنصرة مذاهبهم من النصوص القرآنية، بفهمها على الوجوه التي تدل على ما ذهبوا إليه من مفهومات وآراء. وجنح مؤولون عن منهج الصواب لنصرة مذاهبهم الاجتهادية أو مذاهبهم الفلسفية، أو نصرة الآراء العلمية التي لم تتأكد بعد، ولم تصر حقائق علمية معترفًا بها، أو نصرة الآراء الاجتهادية الناقصة. ودخلت في بعض كتب التفسير عيوب الاعتماد على الإسرائيليات التي لا تؤيدها حقائق علمية، ولا أدلة ترجيحية، وكان هذا من الذين دخلوا في الإسلام من اليهود والنصارى، وكانت لهم دراسات في كتب أهل الكتاب، وتبعهم فيها آخرون.

والتزم باحثون منصفون بالفهم السليم الذي تساعد عليه قواعد العربية، والأصول العقلية وتؤكده الحقائق العلمية، دون شطط ولا تحكم لمناصره الرأي أو الهوى. على أن الاجتهادات الإنسانية مهما بلغت من النقاء والصفاء مبلغًا عاليًا، فقد لا تخلو من أخطاء غير مقصودة، والمتابعات العلمية كفيلة ببيانها، وتصويب الصواب منها، وتخطئ الخطأ فيها. واتسعت مكتبة تفسير كتاب الله إتساعًا عظيمًا، وملأت مجلداتها خزائن عديدة. وكل هذا العلم الذي اشتملت عليه كتب التفسير، قد كان إنشاء بتوجيه إسلامي، قام به المسلمون معتمدين فيه على مروياتهم عن أسلافهم، وعلى ما يستنبطونه فهمًا من نصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ولم يكن اقتباسًا من أمة سلفت، فهو ظاهرة حضارية علمية انفردت بها الأمة الإسلامية. على أن الظواهر الإنسانية الحضارية قد تشتمل على بعض العيوب، وقد تحتاج إلى النماء والتجويد والتحسين، ضمن حركة فكرية وتطبيقة متنامية صاعدة دوامًا، ما دام للناس فكر يتأمل، وطاقات متحركة تعمل، فالكمال لله وحده، أما الأعمال البشرية التي تنشد الكمال فلا بد أن تكون حركات صاعدات في اتجاه قمم غير منظورة، ولكل منها سلم أو جبل ترتقي عليه دوامًا.

الفصل الثاني: السنة النبوية المطهرة

الفصل الثاني: السنة النبوية المطهرة المقولة الأولى: السنة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ... الفصل الثاني: السنة النبوية المطهرة المقول الأولى: السنة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم 1- اهتمام المسلمين بالسنة النبوية في مجال اقتباس المعرفة التي جاء بها الإسلام، وصعودًا في سلم الإرتقاء الحضاري الذي دعا إليه، اتجه المسلمون بعد العناية التامة بالقرآن المجيد، شطر العناية ببيانات الرسول صلى الله عليه وسلم القولية والعملية، وصفاته الخلقية والذاتية، وإقراراته وموافقاته وسيرته. وهم في كل ذلك يعملون بهدي قول الله عز وجل لهم في سورة "الحشر: 59 مصحف/ 101 نزول": {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . وبهدي قول الله عز وجل لهم في سورة "الأحزاب: 33 مصحف/ 90 نزول". {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} . واندفع المسلمون طمعًا في الأجر العظيم الذي يظفر به مبلغو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما وعدهم به الرسول في عدة بيانات، منها: 1- جاء في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قوله: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع". 2- وروى الإمام الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله تعالى عبدًا سمع مقالتي فحفظها، ووعاها، وأداها، فرب، حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".

وأخرج هذا الحديث أحمد وأبو داود وابن ماجه، وراويه الصحابي "زيد بن ثابت الأنصاري" على ما أخرجه النسائي. وأخذ المسلمون في هذا المجال يضطلعون بجانب من المسئولية الحضارية التي ألقاها الإسلام على عاتق كل مسلم، وأدركها المسلمون الأولون بوعي سليم وعاطفة فعالة. ولهذا حرص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلقف ما يستطيعون تلقفه من سنته، واهتموا بحفظه وروايته وتبليغه لمن وراءهم. وقد كان حفظ العلم النبوي في صدورهم أكبر همهم، وتاج مجدهم، ومن أجل الأعمال المبرورة التي يطمعون في ثوابها عند ربهم، وكان هذا عند الكثير منهم مساويًا للجهاد بالقتال في سبيل الله، الذي كانوا يبذلون فيه أموالهم وأنفسهم. 2- كتاب السنة النبوية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم: لم يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم أول الأمر لعامة المسلمين بكتابة ما يسمعونه منه من أحاديث وبيانات، خشية اختلاط شيء منه بما كانوا يكتبون من القرآن الكريم؛ لأن المسلمين كانوا في بداية تحولهم من أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب إلا قليلًا، إلى أمة قارئة كاتبة تدون معارفها، وتأخذ طرقها ومسالكها صاعدة إلى العلم، ومترقية في معارج الحضارة المثلى. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتخذ ثلاث خطط لحفظ سنته: الخطة الأولى: أنه حمل أصحابه ومن يأخذ عنهم مسئولية حفظ أقواله وبياناته، ومسئولية تبليغها لمن وراءهم، كل منهم على مقدار استطاعته التي وهبه الله إياها. وقد كان استعداد العرب لحفظ ما يسمعون من أقوال، وما يشاهدون من أحداث، استعدادًا عاليًا، بسبب صفاء فطرتهم، وجودة أذهانهم، واعتمادهم على ذاكراتهم، وفراغ أدمغتهم ما تزدحم به أدمغة سكان المدن الكبرى من ضجيج

أعمال الناس، وعلاقاتهم الاجتماعية، وصخب مشكلاتهم المختلفات، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية. الخطة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم قد أذن لبعض خاصة أصحابه بكتابة ما يسمعونه منه أقواله وبياناته، حينما وثق من ضبط هؤلاء ويقظتهم، وحسن تمييزهم لعناصر المعرفة، قرآنًا كانت أو سنة أو غير ذلك، وأنهم مأمونون من أن يخلطوا ما يكتبونه من أحاديثه بما يكتبونه من القرآن الكريم. الخطة الثالثة: توجيه الإذن العام في آخر الأمر بكتابة سنته، وكان هذا حينما رأى أن اختلاط أقواله بكتاب الله عز وجل قد صار أمرًا غير محذور الوقوع لدى معظم الصحابة؛ إذ صار القرآن متميزًا بمكتوبات خاصة به، وصار لدى أكثر المسلمين من أصحابه ملكة التمييز العلمي العام بين عناصر المعرفة. ولئن بقي في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظل يُؤْثِر عدم كتابة سنة الرسول، فقد كان ذلك منهم استمرارًا لما استقر في نفوسهم من عدم الإذن السابق، ولم يكن قد بلغهم الإذن بها أخيرًا، وقد تبع هؤلاء الصحابة بعض التابعين. لكن الذي استقر عليه المسلمون بعد ذلك هو العمل بكتابة السنة، اتباعًا لبعض الصحابة الذين كانوا يكتبون بإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو لم يأذن لهم ما فعلوا ذلك. وقد ساق الدارمي في مقدمة سننه أحاديث وآثارًا تثبت بمجموعها إذن الرسول بكتابة الحديث عنه، فمنها: 1- قول أبي هريرة: "ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب". "رقم 489". 2- قول عبد الله بن عمرو بن العاص: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من

رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم في الغضب والرضاء؟. فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق". "رقم الحديث 490". 3- كتب الخليفة "عمر بن عبد العزيز" إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: "أن أكتب إلى بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحديث عمرة، فإني قد خشيت درس هذا العلم1 وذهابه". "رقم 493". وكتب أيضًا إلى أهل المدينة: "أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله". "رقم 494". 4- كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول لبنيه: "يا بني قيدوا هذا العلم". "رقم 497". 5- عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: "ما يرغبني في الحياة إلا الصادقة والوهط، أما الصادقة: فصحيفة كتبتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الوهط: فأرض تصدق بها عمرو بن العاص، كان يقوم عليها". "رقم 502". 6- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "قيدوا هذا العلم بالكتاب". "رقم 504". إلى آثار أخرى تؤكد اهتمام الحريصين على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من الضياع بأن يكتبوا ما لديهم منها، ثم شاعت هذه الكتابة وذاعت لدى كل حفاظ السنة ورواتها.

_ 1 درس هذا العلم: أي: ذهابه وضياعه ومحو آثاره.

3- المكتوبات الأولى من السنة النبوية: من أشهر الصحف المكتوبة في العصر النبوي، المشتملة على مجموعة من الأحاديث النبوية الصحف التالية: 1- صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، التي سماها الصحيفة الصادقة. وقد ذكر ابن الأثير أنها اشتملت على ألف حديث. 2- صحيفة لسعد بن عبادة الأنصاري، وكان ابن هذا الصحابي الجليل يروي منها، وروى البخاري أن هذه الصحيفة كانت نسخة من صحيفة عبد الله بن أبي أوفى، الذي كان يكتب الأحاديث بيده، وكان الناس يقرءون عليه ما جمعه بخطه. 3- صحيفة لسمرة بن جندب، فقد جمع سمرة أحاديث كثيرة في نسخة كبيرة، ورثها ابنه سليمان، ورواها عنه. 4- صحيفة لجابر بن عبد الله، أشار إليها الإمام مسلم في صحيحه، وكان التابعي الجليل قتادة بن دعامة السدوسي يكبر من قيمتها، ويقول: "لأنا بصحيفة جابر أحفظ مني من سورة البقرة". 5- وقد عُني الصحابي الجليل "عبد الله بن عباس" بكتابة الكثير من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، في ألواح كان يحملها معه في مجالس العلم. ومن المشهور عند المؤخرين أنه ترك حين وفاته حمل بعير من كتبه، وكان تلميذه التابعي "سعيد بن جبير" يكتب عنه ما يملي عليه. وظلت صحف ابن عباس معروفة متداولة مدة طويلة من الزمن، فقد ورثها ابنة علي، وتعاقب الناس على الرواية منها، والأخذ عنها، حتى امتلأت كتب التفاسير وكتب الحديث بمسموعات ابن عباس ومروياته. ولئن لم يبق شيء من هذه الصحف، فإن مضمونها موجود في كتب الحديث التي دونت فيما بعد. وبهذا ندرك أن حركة التدوين العلمي قد بدأت منذ العصر الإسلامي الأول، وبدهي أن حركة التدوين العلمي أولى خطوات مسيرة التطبيق الحضاري، وقد سارها المسلمون بصدق وإخلاص وجد، طاعة لما دعاهم الإسلام إليه.

المقولة الثانية: السنة بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهاية القرن الأول الهجري

المقولة الثانية: السنة بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهاية القرن الأول الهجري بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم غدا أصحابه الأجلاء هم المرجع للمسلمين في نقل صورة صادقة لحياته، في أقواله وأعماله وصفاته وإقراراته وسائر سيرته. وأخذ عشاق العلم الإسلامي الكثيرون من التابعين يتلقفون من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم جميع ما كانوا وعوه وحفظوه من سنته. وقامت حركة علمية نشيطة قادها نوابغ من التابعين، لحفظ العلم النبوي وجمعه، اقتباسًا من الذين أخذوه مباشرة من الرسول، أو شهدوه من حياته، أو أخذ بعض الصحابة عن بعض، وكانت عمدتهم الكبرى الأخذ مشافهة، وحفظ ما يسمعونه. وأخذ تدوين السنة النبوية يتزايد شيئًا فشيئًا، اعتمادًا على ما يتلقاه الحريصون عليها من التابعين، على سبيل المشافهة أو الأمالي من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. وإذ توزع بسبب الفتوحات الإسلامية علماء الصحابة وكبار علماء التابعين في بلدان العالم الإسلامي، وإذا كانت السنة النبوية موزعة في صدروهم، وغير مجموعة عند واحد منهم، وغير مجموعة في كتاب واحد، أو مدونة واحدة، فقد كان على طلابها أن يتابعوا العلماء بها إلى البلدان التي هم فيها، فظهرت في المسلمين الرحلات لطلب الحديث النبوي وسماعه وتسجيله، حتى كان بعض الصحابة يرحل لسماع حديث من صحابي آخر ليأخذه عنه، أو ليوثق به سماع نفسه من الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد رحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر

ليستوثق من عقبة بن عامر نص حديث سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يبق غيره وغير عقبه من الذين سمعوه من الرسول مباشرة، ولما استوثق منه ركب راحلته وقفل راجعًا إلى المدينة. وكذلك روي عن جابر بن عبد الله أنه رحل لسماع حديث من بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. وانتشرت الرحلات من طلاب العلم الإسلامي لتلقي السنة النبوية وسماعها، من الصحابة أو من التابعين، وتدوينها. وظهر في عصر التابعين التدوين الكثير للسنة النبوية، ثم أجمع المسلمون على ضرورة هذا التدوين خشية ضياع السنة، وخشية اختلاف الآراء في بيانات الرسول صلى الله عليه وسلم لأحكام الدين. ونشط طلاب العلم الإسلامي في كتابة المرويات من السنة، ونشطت معها الحركة العلمية الواسعة. والذين وجهوا لتدوين السنة النبوية من علماء التابعين كثيرون: - فمنهم: "سعيد بن المسيب" فقد شكا إليه تلميذه عبد الرحمن بن حرملة سوء حفظه فوجهه للكتابة. - ومنهم: الشعبي "عامر بن شراحيل" من كبار التابعين: وقد كان يضرب المثل بحفظه. فقد أخذ يقول: "إذا سمعتم مني شيئًا فاكتبوه ولو في حائط" وكان يردد العبارة المشهورة: "الكتاب قيد العلم" وهذه العبارة مقتبسة من قول عمر رضي الله عنه "قيدوا العلم بالكتاب". - ومنهم: "عطاء بن أبي رباح" فقد كان يكتب لنفسه. ويأذن بالكتابة لغيره. - ولما تولى الخلافة "عمر بن عبد العزيز" أصدر أمرًا بالشروع في تدوين الحديث؛ إذ خشي على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من الضياع، وكتب إلى عامله على المدينة "أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم":

"انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة ماضية، أو حديث "عمرة" أو حديث "القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق" فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله". عمرة: هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، فقد كانت ممن سمع الحديث من عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. وكذلك القاسم بن محمد بن أبي بكر فقد كان ممن سمع الحديث من عمته عائشة رضي الله عنها، وكان هو و"عمرة" أعلم الناس بأحاديثها عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد قام "أبو بكر بن حزم" بما عهد إليه الخليفة الصالح "عمر بن عبد العزيز" إلا أن الخليفة توفي قبل أن ينهي عمله. وكتب "عمر بن عبد العزيز" إلى أهل الآفاق، وإلى عماله في الأمصار بمثل ما كتب إلى عامله على المدينة. وكان أول من استجاب له في حياته وحقق له بعض أمنيته عالم الحجاز والشام. "محمد بن مسلم بن شهاب الزهري المدني" إذ دون له في ذلك كتابًا وأرسله إليه، وفيه يقول الزهري: "لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني". ومما دون في هذا العهد صحيفة رواها التابعي "همام بن منبه" عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، وكان سماعه لها من أبي هريرة في منتصف القرن الأول الهجري. وقد وصلت هذه الصحيفة إلينا كاملة شاملة، كما رواها ودونها "همام بن منبه" واشتهرت باسم: "الصحيفة الصحيحة" وهي موجودة في مخطوطتين متماثلتين في دمشق، وبرلين، أحادثها موجودة كلها في مسند الإمام أحمد، وكثير من أحاديثها مروي في صحيح البخاري في أبواب مختلفة، وعدد أحاديثها "138" حديثًا.

المقولة الثالثة: السنة بعد القرن الأول الهجري

المقولة الثالثة: السنة بعد القرن الأول الهجري مع نهاية القرن الأول الهجري انطلق فريق من علماء المسلمين إلى طلب الحديث النبوي من حفاظه الثقات، ومن مدونيه في صحفهم، فيتلقونه، ويدونونه، ويحفظونه، ويشدون الرحال في طلبه من حملته. واتسعت دائرة الحركة العلمية في هذا المجال اتساعًا كبيرًا، في ظاهرة حضارية عديمة النظير، لم تشهد أمة دينية ولا مدينة مثلها. وأولع المحدثون بالرحلة لطلب الحديث، ولو لحديث يجهلونه، أو لسماعه من راويه التابعي الذي سمعه مباشرة من الصحابي، أو لسماعه من تابع التابعي الذي سمعه مباشرة من التابعي، أو لسماعه من راوٍ ثقة، وإن كان محفوظًا من طريق آخر، أو من طريق طالت فيه سلسلة الرواة. ووضع علماء الحديث منهجًا رائعًا للتثبت من صحة رواية الأحاديث، ولنبذ ما وضعه الوضاعون الكذابون مما نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبًا وافتراء، إما تعرضًا واتباعًا للهوى، أو غفلة وجهلًا، ولتصنيف سائر الأحاديث المروية في درجات مناسبات لقوة الوسائل التي تمت بها صلة الخبر برسول الله صلى الله عليه وسلم. واعتمدت أصول هذا المنهج الرائع السوي للتحقق من صحة رواية الأحاديث على عدة عناصر، كل عنصر منها يتطلب جهدًا علميًّا واسعًا. العنصر الأول: النظر الدقيق في رواة الأحاديث، والبحث عن أحوال عدالتهم وضبطهم وأهليتهم لتحمل العلم وأدائه. ولتحقيق هذا العنصر انطلق علماء المسلمون الباحثون في تتبع مضمن وفحص دقيق، حتى نشأ ما يُسمى عند المسلمين بعلم الرجال، ونشأ علم الجرح والتعديل، وهو علم لم يكن عند أحد قبل المسلمين، وأما الذين قلدوهم به من بعدهم فإنهم لم يبلغوا ما بلغوه من تحرير ونقد، ومتابعة تامة لأحوال الرواة المحدثين.

العنصر الثاني: النظر في لقاء الراوي لمن روى عنه، وبالتتبع المضني المستند إلى وسائل التحقق التاريخية، تكون محققي الأحاديث مستندات ذوات وزن علمي لنقد ما يرويه الرواة عمن سبقهم، وبالنقد العلمي الدقيق يتمكن المحقق البصير من تقويم درجة رواية الحديث. العنصر الثالث: النظر في اتصال سلسلة الرواية راويًا فراويًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونشأ من نقد روايات الأحاديث بالاستناد إلى هذا العنصر ما يسمى في "علم مصطلح الحديث" بالحديث المتصل، والحديث المنقطع، والحديث المرسل، والحديث المعضل، والحديث المرفوع، والحديث الموقوف، ونحو ذلك. العنصر الرابع: النظر في الطريق أو الطرق المختلفة التي روت كل حديث، ونشأ من متابعة التحقيق العلمي بالاستناد إلى هذا العنصر تصنيف الأحاديث مع ذكر عدد طرق الرواة، واتخذ المحدثون لذلك عدة ألقاب في مصطلحهم، وهي "المتواتر، المشهور، المستفيض، العزيز، الآحاد، الغريب". العنصر الخامس: النظر في متون الأحاديث المروية من طرق مختلفة، بالمقارنة بينها، ولدى المقارنة لا بد أن تظهر وجوه اتفاق ووجوه اختلاف، ولا بد أن تلاحظ مع وجوه الاختلاف طرق الرواية للأحاديث التي حصل اختلاف في متونها. وقد نشأ من متابعة التحقيق العلمي بالاستناد إلى هذا العنصر ما يُسمى عند علماء الحديث الشاذ، وما يسمى بالمضطرب، وما يسمى بالمنكر. العنصر السادس: النظر بتحقيق علمي فيما يعرض لمتون الأحاديث وأسانيدها من خلل، كتقديم وتأخير، أو تصحيف في اللفظ، أو تبديل، أو دخول عنصر غريب فيها ونحو ذلك. وقد نشأ من متابعة التحقيق العلمي بالاستناد إلى هذا العنصر، ما يسمى عند علماء الحديث "المدلس، المقلوب، المدرج".

وعلى هذا المنوال تابع علماء الحديث المسلمون تحقيقاتهم العلمية، حتى استطاعوا أن يحرروا ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو صفة أو تقرير، واستطاعوا أن يضعوا المنهج السليم لوضع الأحاديث في مرابتها بحسب درجة الثقة بصحة روايتها. وكان عملهم في هذا المجال عملًا حضاريًّا جليلًا، لم تسبقهم إلى مثله أمة من الأمم. ومن الجدير بالتنويه به أن علماء العصر الحديث من غير المسلمين غربيين أو شرقيين لم يجدوا سبيلًا لتحقيق النصوص التاريخية الخبرية أوفى وأسد من منهج علماء المسلمين. لكن علماء العصر الحديث من غير المسلمين لا يستطيعون أن يلتزموا كل الشروط التي التزم بها علماء الحديث المسلمون.

المقولة الرابعة: حركة التصنيف الكبرى للسنة وزواتها

المقولة الرابعة: حركة التصنيف الكبرى للسنة وزواتها ... المقولة الرابعة: حركة التصنيف الكبرى للسنة ورواتها في ضوء المنهج الرائع الذي وضعه علماء الحديث من المسلمين لضبط ما روي مضافًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحريره وتنقيحه، ونفي الشوائب الدخيلة، اتسعت الحركة العلمية بتنافس عجيب للاستزادة من جمع وحفظ ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال وصفات وإقرارات، حتى ظهر في المحدثين من يختص بلقب الحافظ، أو يختص بلقب الحاكم، وربما بلغت محفوظات بعضهم مئات الألوف من متون الأحاديث وأسانيدها، وليس كل هذا الجم الغفير صحيح النسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن علماء الحديث كانوا يحفظونه ويسجلونه ويقدمونه للنقد والتحرير وتمييز الصحيح من غيره، وفق المنهج العلمي العام، الذي انتهوا إليه في تحرير مرويات الأخبار، فما صح منها حكموا بصحته، وما ترجحت صحته حكموا بحسنه، وما لم يكن كذلك حكموا بضعفه وتوهينه، وأما

ما اقترن بما يدل على أنه موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يعلنون الحكم عليه بالوضع والسقوط، مع بيان السبب الذي استندوا إليه في كل ما يحكمون به. وواكب هذا الاندفاع المنقطع النظير لجمع الحديث وحفظه ظاهرة حضارية متصلة به، ألا وهي ظاهرة تصنيف كتب الحديث، وكتب تراجم الرجال الرواة له، فظهرت خلال القرنين الثالث والرابع من التاريخ الهجري وما بعدهما مصنفات كثيرات، ذوات ميزات مختلفات، فمنها ما اقتصر على الصحاح، ومنها ما لم يقتصر عليها، ومنها ما كان الهدف منه جمع أحاديث في موضوع معين، ومنها المسانيد، والمسند هو ما تذكر فيه الأحاديث على أسماء الصحابة حسب سوابقهم في الإسلام، أو حسب أنسابهم، ومنها المختصرات، ومنها الجوامع الكبرى المرتبة على وفق حروف المعجم، إلى غير ذلك. وهذه هي كنوز جهودهم الحضارية المشكورة تزخر بها مكتبة المسلمين، فيما هو مطبوع منها، وما هو مخطوط، وهي مئات المصنفات المراجع. واستعرض فيما يلي ما هو مشهور منها: 1- كتاب "الموطأ" لإمام دار الهجرة "مالك بن أنس 93-179هـ" أمير المؤمنين في الحديث، وقد استغرق في تأليفه لهذا الكتاب قرابة أربعين سنة، انتقاه واصطفاه من نحو مائة ألف حديث، وعرضه على سبعين فقيها من فقهاء المدينة. 2- كتاب "الجامع الصحيح" للإمام "أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري 194-256هـ" وقد ظل البخاري يعمل في جمعه ست عشرة سنة. قال علماء الحديث: هذا الكتاب أصح الكتب بعد القرآن المجيد. وللبخاري هذا مصنفات كثيرات: "منها التواريخ الثلاثة "الكبير والأوسط والأصغر" وكتاب "الأدب المفرد"، وكتاب "الضعفاء" وغيرها.

3- كتاب "صحيح مسلم" وهو للإمام "أبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري 204-261هـ" وبنو قشير قبيلة عربية. ويأتي صحيح مسلم مكافئًا أو مقاربًا لصحيح البخاري صحة وثبوتا. وللإمام مسلم كتب غير هذا الكتاب، ومنها كتاب "المسند الكبير" وهو على أسماء الرجال، وكتاب "الجامع الكبير" وهو على الأبواب. وقد توفي في نيسابور. 4- كتاب "سنن أبي داود" وهو للمحدث "سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني 202-275هـ" إمام أهل الحديث في زمانه. 5- كتاب "الجامع الكبير" العروف بـ"سنن الترمذي" وهو للإمام الحافظ "محمد بن عيسى بن سورة بن موسى الضحاك السلمي 209-279هـ" وهو من أهل "ترمذ" على نهر جيحون، تتلمذ للبخاري، وشارك البخاري في بعض شيوخه. 6- كتاب "المجتبى" المعروف بـ"سنن النسائي" والنسائي هو الإمام الحافظ "أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب 215-303هـ" أصله من "نسا" بخراسان، واستوطن مصر، ثم خرج إلى الرملة بفلسطين، وله كتاب "الضعفاء والمتروكون". 7- كتاب "سنن ابن ماجه" وابن ماجه هو "أبو عبد الله محمد بن يزيد الربعي القزويني" من أهل قزوين، أحد الأئمة في علم الحديث "209-273هـ". 8- كتاب "مسند الإمام أحمد بن حنبل" وهو "أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل" الشيباني الوائلي، إمام المذهب الحنبلي "164-241هـ". وهذا المسند يحتوي على ثلاثين ألف حديث، وله كتب أخرى. 9- كتاب "مسند أبي داود الطيالسي" والطيالسي هذا هو "سليمان بن الجارود مولى قريش"، من كبار حفاظ الحديث، فارسي الأصل "133-204هـ". 10- كتاب "صحيح ابن خزيمة" وابن خزيمة هو "أبو بكر محمد بن

إسحاق بن خزيمة السلمي 223-311هـ" وهو إمام نيسابور في عصره، كان فقيها مجتهدًا عالمًا بالحديث. 11- كتاب "صحيح أبي عوانة" وأبو عوانة هو "يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم النيسابوري" ثم الإسفراييني 000-316هـ" من أكابر حفاظ الحديث. 12- كتاب "صحيح ابن حبان" وابن حبان هو "أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان التميمي البستي 000-354هـ" وهو مؤرخ علامة جغرافي محدث، وله عدة مؤلفات. 13- كتاب "سنن الدارمي" والدارمي هو "أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام التميمي الدارمي السمرقندي 150-214هـ" من حفاظ الحديث، كان عاقلًا مفسرًا فقيهًا، أظهر علم الحديث والآثار بسمرقند. 14- كتاب "سنن الدارقطني" والدارقطني هو "أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدارقطني 306-385هـ" إمام عصره في الحديث، ولد بدار القطن "من أحياء بغداد". إلى غير هذه المصنفات من كتب كثيرة أبرزت ظاهرة حضارية رائعة، في جانب من جوانب العلم، وهو علم السنة النبوية. وتبع مدونات الحديث والمرويات من السنة مؤلفات كثيرات تناولت السنة النبوية بالشرح والتفسير والتحليل، واستنباط الأحكام والتعليمات والتوجيهات، والعلوم التي اشتملت عليها. وقد قام بها جلة من علماء المسلمين، وكانت هذه من الظواهر الحضارية التي انفردت بها الأمة الإسلامية، دون أن تقتبسها من أمة سلفت.

الفصل الثالث: أثر القرآن والسنة في ابتكار كثير من العلوم الإسلامية

الفصل الثالث: أثر القرآن والسنة في ابتكار كثير من العلوم الإسلامية الإيمان بالقرآن والسنة دفع المؤمنين إلى ابتكار علوم كثيرة: آمن المسلمون الصادقون بأن القرآن المجيد كلام الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن الثابت من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر سنته، إما بيان لما جاء في القرآن، أو علم آتاه الله رسوله هو حق وصدق، أو هدي فيه حكمة ورشد وصلاح للعالمين. وتفرع عن إيمان المسلمين الصادقين بهذا إيمانهم بعدة حقائق كبرى، منها الحقائق التالية: الحقيقة الأولى: أن الله أنزل كتابه القرآن بلسان عربي مبين، ضمن قواعد لسان العرب، وأساليبهم البيانية، وطرقهم الكلامية التي كانت سائدة بينهم إبان نزول القرآن على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فبها يتخاطبون، وعلى وفق أسالبيها وارقي تعبيراتها البيانية يجودون ويحسنون في شعرهم، ونثرهم، وأمثالهم، وسائر آدابهم، وأن هذا القرآن معجز في بيانه، وقد تحدى الله فصحاء العرب وبلغاءهم أن يأتوا بمثله في روائع بيانه فعجزوا. وإيمان المسلمين بهذه الحقيقة، مع تخوفهم على لسان الأمة العربي من الفساد باختلاطهم الكثير بغير العرب، دفع نوابغهم لضبط اللغة العربية، وتقعيد قواعدها، ورسم قوانينها وأساليبها، أخذًا من واقعها العربي الصافي، الذي لم تعكره الشوائب.

ودفع نوابغهم للبحث عن سر إعجاز القرآن البياني، في جانب فصاحته وبلاغته وأدائه للمعاني، وللبحث عن العوامل التي تجعل الكلام فصيحًا بليغًا، وعن درجات السلم التي بها يتفاضل بعض الكلام على بعض، فصاحة وبلاغة وجمالًا ودقة أداء وروعة بيان. ونجم عن هذين الدافعين تأسيس علوم اللغة العربية: - فدونت معجمات مفرداتها مقرونة بشواهدها من شعر العرب الذين لم تفسد ألسنتهم بالاختلاط بالأعاجم، ومن نثرها، وأمثالهم الدارجة، وتتبع العلماء الباحثون العرب الأقحاح يأخذون عنهم مباشرة في بواديهم، ومنازلهم، ومضارب خيامهم. - وتوجه النابغون يضبطون قواعد مفرداتها وجملها فيما عرف بعد ذلك بعلم النحو والصرف، وما تبع هذين العلمين من ذيول. - واستخرجت ودونت قواعد علوم البلاغة فيما عُرف بعد ذلك بعلم النحو والصرف، وما تبع هذين العلمين في ذيول. - واستخرجت ودونت قواعد علوم البلاغة فيما عرف بعد بعلم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع. وأحرز المسلمون في هذه العلوم التي أسسوها سبقًا حضاريًّا لم تحظ بمثله أمة من الأمم قبلهم. الحقيقة الثانية: أن القرآن والسنة مشتملان على أصول العقيدة التي جاء بها الإسلام، وعلى طرق الهداية إليها البيانية والجدالية. وإيمان المسلمين الصادقين بهذه الحقيقة، مع ظهور مجادلين في بعض مسائل العقائد وأركان الإيمان، دفع أهل العقل والرشد والبحث العلمي الرصين، إلى تأسيس علم يشرح أركان الإيمان ومسائل العقائد، بالاعتماد على الأدلة النصية والعقلية، وقد اشتهر هذا العلم باسم: "علم الكلام" إذا برزت فيه جدليات كثيرة حول "الكلام" الذي هو أحد صفات الله الواردة في القرآن. واشتهر أيضًا باسم: "علم التوحيد" إذا برزت فيه الأدلة التي واجه بها المسلمون المشركين في قضية توحيد الله عز وجل في ربوبيته وفي إلهيته، وتقديم البراهين على أنه لا شريك له فيهما. ثم عرف هذا العلم باسم: "علم العقائد الإسلامية" أو "العقيدة

الإسلامية" وهذه التسميات المتأخرة أكثر مطابقة لمسائل هذا العلم. واقترن بتأسيس هذا العلم اصطفاء أهم الحقائق العقلية والفلسفية التي تخدم مسائله، من الفلسفة التي أسستها أمم سابقة للأمة الإسلامية، وأبرزهم الإغريق، لكن كان للراشدين من المسلمين ميزة اصطفاء وتحرير وتنقيح وإضافة، واستبعاد ونقد لكل ما لا تثبته الأدلة والبراهين العقلية الصحيحة. واقترن بتأسيس هذا العلم ابتكار علم آداب الجدل، فيما يعرف بعلم "آداب البحث والمناظرة". الحقيقة الثالثة: أن القرآن والسنة مشتملان على أصول الشريعة التي جاء بها الإسلام، الشاملة للعبادات والمعاملات والأخلاق، وسائر أنواع السلوك الفردي والجماعي الديني والدنيوي. وإيمان المسلمين الصادقين بهذه الحقيقة، دفع علماءهم وفقهاءهم إلى استنباط أحكام الشريعة الإسلامية ووصاياها في مختلف أنواع السلوك الإنساني، فنجم عن ذلك ما يلي: أولًا: تأسيس "الفقه الإسلامي" وهو علم يشتمل على الأحكام الشرعية العملية، المستمدة من أدلتها التفصيلية في الكتاب والسنة، والأدلة التي هديا إلى الاعتماد عليها. وظهرت المذاهب الفقهية المتعددة، ودونت فيها المدونات العظيمة والكثيرة جدًّا، واستنبط الفقهاء المسلمون الأحكام الكثيرة لمختلف أنواع السلوك الإنساني في العبادات والمعاملات والعلاقات والأحوال الشخصية والاجتماعية، المادية والمعنوية، والسياسية الداخلية والدولية، ولم يفتهم من ذلك إلا ما لم يكن قد استجد بعد في حياة الناس. وملأت كتب الفقه المشتملة على الأحكام التي استنبطها الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، خزائن تشهد بعظمة الثروة الفقهية التي توصل إليها علماء المسلمين، باجتهادهم الخاص الذي لم تسبقهم إليه ولا إلى مثله أمة من الأمم.

واكتسب علماء المسلمين قدرة عظيمة جدًّا على ضبط أنواع السلوك وتنظيمه، واستخراج الأحكام القائمة على الحق والعدل ومصالح الناس، مع ابتغاء رضوان الله، من خلال مصادر التشريع الإسلامي. أما الأحكام التي توصلوا إليها فقد كان بعضها من الأحكام القطعية التي دلت عليها المصادر، وهذه يندر الخلاف فيها عند الفقهاء، وكان الكثير منها اجتهادًا يعتمد على الترجيح بالدليل لرأي من الآراء الاجتهادية على ما يخالفه من الأراء، وهنا نلاحظ ظاهرة اختلاف الفقهاء في كثير من الأحكام الاجتهادية. على أن ما توصلوا إليه في اختلافهم يعتبر ثورة علمية عظيمة صالحة للاستمداد منها، وظاهرة حضارية انفردوا بها، ولم تسبقهم إلى مثلها أمة من الأمم. ثانيًا: تأسيس علم "أصول الفقه" وهذا العلم هو من مبتكرات الأمة الإسلامية، وهو علم يشتمل على القواعد الضابطة لاستنباط أحكام الشريعة من أدلتها التفصيلية. ثالثًا: تأسيس علم "الأخلاق والآداب" الإسلامية، فهمًا أو استنباطًا من مصادر التشريع الإسلامي. رابعًا: تدوين السيرة النبوية، وسير الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين، لما في هذه السير من خدمة للكتاب والسنة وما يستنبط منهما. خامسًا: تدوين التاريخ الإسلامي والإنساني تأسيًا بقصص القرآن والسنة. سادسًا: ضبط وتدوين الروايات الصحيحة الثابتة للقرآن الكريم في ألفاظه وتلاوته وأدائه، فيما يعرف بعلم "القراءات". سابعًا: وابتكرت فروع علوم كثيرة انطلاقًا من هذه الحقيقة الثالثة، ولا تزال هذه الحقيقة منبعًا ثرًّا لإضافة مبتكرات من العلوم في النفس والتربية والاجتماع البشري، والظاهرات الكونية، وكلما جد في البحوث الإنسانية جديد.

الفصل الرابع: تأسيس علمي النحو والصرف وتدوين المعجمات العربية

الفصل الرابع: تأسيس علمي النحو والصرف وتدوين المعجمات العربية 1- دوافع التأسيس والتدوين: لما بدأت بوادر اللحن تدب إلى ألسنة بعض أبناء العرب؛ بسبب كثرة اختلاطهم وامتزاجهم بالأعاجم الذين دخلوا في الإسلام، نتيجة الدعوة الإسلامية التي واكبت الفتوح، هب نوابغ من العلماء ذوي العقل والرشد من المسلمين لضبط اللغة العربية في متن مفرداتها، وقواعد تصريفها وما تدل عليه اختلاف الصيغ من المعاني، ولضبط حركات أواخر كلماتها باختلاف أحوال مواقعها من الجملة العربية. وكان الهدف من هذا العمل حفظ واقع هذه اللغة الرفيعة بين اللغات، بصورتها الكاملة التي كانت عليه إبان المدة التاريخية التي أُنزل فيها القرآن، وعاش فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين للناس ما نُزِّل إليهم، وغرضهم من هذا الحفظ حفظ القرآن كما أنزل، وحفظ السنة المبينة له، وأن يكون ضبط أصولها وقوانينها وسيلة لفهم معاني القرآن والسنة فهمًا صحيحًا، وإدراك دلالات نصوصهما إدراكًا دقيقًا سليمًا مهما تعاقبت العصور. وقد ذكر المؤرخون عدة روايات تاريخية حول دوافع هذا التأسيس: الرواية الأولى: جاء فيها أن "عمر بن الخطاب" مر على قوم يسيئون الرمي، فقرعهم على ذلك، فقالوا له: "نحن قوم متعلمين" فساءه اللحن الذي وقع في كلامهم؛ إذ لم يقولوا: نحن قوم متعلمون، أكثر مما ساءه خطؤهم في الرمي، وأعرض مغضبًا وقال: "ولله لخطؤكم في لسانكم أشد على من خطئكم في رميكم". الرواية الثانية: أرسل "أبو موسى الأشعري" وهو والي البصرة إلى الخليفة عمر بن الخطاب كتابًا ذكر فيه كاتبه: "من أبو موسى الأشعري" فلحن في هذا، وكان ينبغي أن يكتب: "من أبي موسى".

فكتب الخليفة "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه لأبي موسى: "عزمت عليك لما ضربت كاتبك سوطًا". الرواية الثالثة: سمع أعرابي مؤذنًا يقول: "أشهد أن محمدًا رسولَ الله" ففتح لأم "رسول" بدل أن يضمها. فقال هذا الأعرابي للمؤذن، ويحك يفعل ماذا؟ إن فتح اللام يجعل عبارة "رسول الله" صفة، وحينئذ تكون الجملة ناقصة لم يأت خبرها، فطلب الأعرابي الخبر بسليقته الأصلية، فقال له: ويحك يفعل ماذا؟ الرواية الرابعة: قدم أعرابي في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من يقرئني شيئًا مما أنزل الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقرأه رجل من بداية سورة "براءة" حتى إذا وصل إلى قول الله تعالى فيها: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} فنطق الرجل المقرئ بها "ورسولِهِ" بكسر اللام بدل ضمها وهذا اللحن الفاحش يفسد المعنى إفسادًا كبيرًا؛ إذ يجعل الله بريئًا من رسوله، مع أن المراد أن الرسول بريء من المشركين، أيضًا، بمقتضى دلالة: "ورسولُهُ" في حالة ضم اللام. فلما سمع الأعرابي من مقرئه ذلك، قال: أوقد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه. فبلغت مقالة الأعرابي أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" فدعاه فقال له: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقص عليه الأعرابي قصته، فقال عمر: ليس هذا يا أعربي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} برفع اللام. فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يقرئ القرآن إلا متقن للغة العرب، وأمر أبا الأسود الدؤلي أن يضع ضوابط اللسان العربي، وهو "أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني 1ق. هـ-69هـ" من أول واضعي علم

النحو، وكان معدودًا من الفقهاء والأعيان والأمراء والشعراء، وهو تابعي. الرواية الخامسة: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد بن أبيه "1-53هـ" وهو أمير البصرة فقال له: "إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ ". فقال له زياد: لا تفعل. ثم جاء رجل إلى زياد، فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا، وترك بنونا، بهذا اللحن الفاحش، بدل توفي أبونا وترك بنين. فقال زياد مستنكرًا لهذا اللحن الفاحش: توفي أبانا وترك بنونا؟!! ثم أمر بأبي الأسود الدؤلي أن يأتيه، فلما جاءه قال له: "ضع للناس ما كنت نهيتك عنه". ففعل ذلك أبو الأسود. الرواية السادسة: رُوي عن أبي الأسود الدؤلي أنه قال: دخلت على أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه، فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام العرب، فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء "يعني الأعاجم" فأردت أن أضع شيئًا يرجعون إليه، ويعتمدون عليه، ثم ألقى إليَّ الرقعة وفيها: "الكلام كله: اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى". وقال لي: أنح هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك. الرواية السابعة: روي أن أبا الأسود الدؤلي قالت له ابنته: ما أحسنُ السماءِ "برفع أحسن وجر السماء" فقال لها: نجومها، فقالت: إني لم أرد هذا،

وإنما تعجبت من حسنها، فقال لها: إذن فقولي: ما أحسنَ السماءَ، افتحي فاك، وحينئذ وضع علم النحو. أقول: مهما يكن أمر هذه الروايات فإن مجموعها يحدد السبب الذي دفع المسلمين إلى وضع العلوم الضابطة للسان العرب، ألا وهو حرصهم على صيانة كتاب الله القرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، من اللحن الذي يُفسد المعنى، ويَضيع به الدين، وذلك بعد تسرب اللحن إلى بعض أبناء العرب بسبب اختلاطهم بالأعاجم. ومعظم الروايات تشير باهتمام بالغ إلى أبي الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي الكناني، وقد كان من سادات التابعين، وكان عاقلًا حازمًا سكن البصرة في خلافة عمر، وولي إمارتها في خلافة علي، وكان من أعلم أهل عصره بكلام العرب، وقد أخذ العلم عنه كثيرون، فمنهم ابناه عطاء، وأبو حرب، ومنهم نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وقد توفي بالبصرة في الطاعون الجارف سنة "69هـ". ويؤكد دور أبي الأسود الدوؤلي في وضع علم النحو ما ذكره ابن النديم في الفهرس مما شاهده بعينه، فقد ذكر في معرض حديثه عن خزانة كتب أطلعه عليها أحد جامعي الكتب، أنه كان في جملة ما فيها قمطر1 كبير، فيه قرابة ثلاثمائة رطل جلود فلجان2، وصكاك، وقرطاس مصري، وورق صيني، وبينها أربعة أوراق، قال: أحسبها من ورق الصين، ترجمتها "أي: العنوان المكتوب عليها": هذه فيها كلام في الفاعل، والمفعول، عن أبي الأسود رحمه الله عليه بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا الخط بخط عتيق، هذا خط علان النحوي، وتحته خط النضر بن شميل. يقول ابن النديم: ثم لما مات هذا فقدنا القمطر.

_ 1 القمطر: ما تصان به الكتب، كمحفظة من جلد، قال الشاعر: وليس علمًا ما حوى القمطر لكن علمًا ما حواه الصدر 2 فلجان: نوع من الجلود كان يكتب عليها.

لهذه الدلائل ذكر كثير من أهل العلم أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من تكلم في علم النحو. - قال ابن قتيبة في المعارف، لدى حديثه عن أبي الأسود الدؤلي: "وهو أول من وضع العربية" أي: العلم الضابط للعربية. - وقال ابن سلام الجمحي: "أول من أسس العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها، أبو الأسود الدؤلي". أما تعليل تسمية العلم الذي اشتمل على قواعد اللغة العربية وضوابطها باسم "علم النحو" فقد ذكر أهل العلم فيه وجهين: الوجه الول: أنه سمي "علم النحو" لقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأبي الأسود: أنح هذا النحو. لما دفع إليه الرقعة التي كتب فيها سيدنا علي: "الكلام كله: اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى". الوجه الثاني: أنه سمي "علم النحو" لأنه أبا الأسود كان كلما وضع بابًا، عرضه على سيدنا علي رضي الله عنه، فكان يقول له: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت. والله أعلم. 2- خطة العمل: تعددت جوانب العلم الذي قام به نوابغ علماء المسلمين، لضبط اللسان العربي، فكان منها اتباع الخطة التالية: العمل الأول: استخدام طريقة الاستقراء، فالاستنباط والتعليل، فالقياس، مع وضع المصطلحات العلمية للنتائج التي توصلوا إليها، بعد جهد مضن، في عمل دائب، وصبر مديد.

فكان من نتائج هذا العلم، تقعيد قواعد اللسان العربي، ورسم قوانينه، وتمييز أساليبه، وتحديد ضوابطه التي ترتبط بها دلالات مفرداته وجمله وتراكيبه المختلفة. وكان من ثمرات هذا العمل ابتكار علوم النحو والصرف والاشتقاق، وطائفة أخرى من البحوث المتعلقة بهذا الشأن، حتى صار لدى المسلمين كنز حضاري ثمين، ثم به ضبط لسان العرب، بصورة لا نظير لها في ألسنة الشعوب غير العربية. العمل الثاني: جمع مفردات هذا اللسان العربي، في عملية إحصاء واسعة النطاق، مع ضبطها، وتصنيفها بحسبه اشتقاقاتها، وتحديد معانيها، وتسجيل النتائج التي توصلوا إليها مرتبة مصنفة في المعجمات الصغرى والكبرى، مع تدعيم ما توصلوا إليه من نتائج بالشواهد من كلام العرب. العمل الثالث: جمع النصوص العربية التي تمثل آداب العرب، في شعرهم، ونثرهم، وحكمهم، وأمثالهم، ونوادرهم، وقصصهم، ونحو ذلك. وتم هذا الجمع عن طريق رواية الشعر الذي يسمعه متتبعوا البحث، من شعراء العرب أنفسهم، أو من رواتهم له. وعن طريق رواية النثر مما يسمعه المتتبعون من رفيع كلام العرب، أو من رواتهم له، وفق منهج لم يتيسر لهم أفضل منه. وعن طريق التقاط الحكم والأمثال المتداولة بين العرب الذين لم يتسرب اللحن والتغيير إلى ألسنتهم. وعلى هذا النسق كان جمع سائر نصوصهم، وقد أثمر هذا العمل ثمرات عظيمات ظهرت في دواوين الشعر العربية الأصول، وفي كتب الأمثال، وكتب الحكمة، وكتب أخبار العرب وقصصهم. وكان للإسلام فضل عظيم على هذه الأمة وعلى لغتها، ولولا القرآن والإسلام لكانت اللغة العربية في عداد اللغات المندثرة منذ قرون.

3- مرحلة نضج علمي النحو والصرف: لم تطل المدة التي أخذ فيها علما النحو والصرف يتكاملان، حتى استوفيا حظهما من النضح؛ إذ تعهدهما بعد أبي الأسود الدؤلي علماء البصرة بالتنشئة والتربية حتى منتصف القرن الثاني للهجرة، ولم يستهل العصر العباسي إلا وهما يدرسان في البصرة والكوفة. ثم أخذا يتسارعان بالنماء إلى مرحلة النضج على أيدي علماء مدرستين متنافستين: - أركان إحداهما البصريون. - وأركان الأخرى الكوفيون. واستمر هذا التنافس قرابة نصف قرن، وما اقترب القرن الثاني الهجري من نهايته حتى كان علما "النحو والصرف" مندمجين علمًا شابًّا مترعرعًا قويًَّا، وبدأ ينضج ويكتمل، واستمر في هذا الطور حتى استوفى حظه من النضج في نحو نصف قرن آخر، على أيدي علماء البصرة، وعلماء الكوفة، في مدرستيهما المتنافستين، اللتين اجتمع شملهما وتوحدتا في بغداد منذ انتهى طور النضج. ولم يبق في هذا العلم لمن وراء علماء البصرة والكوفة ممن جاء بعدهم من البغداديين، فالشاميين، والمصريين، والأندلسيين إلا البسط والترجيح، والتفسير والتعليل والتنقيح، وحسن الجمع والتصنيف، وبعض تحريرات وزيادات. 4- لمحة عن الرواد: بعد المؤسس الأول البصري أبي الأسود الدؤلي يبرز للباحثين المتتبعين من رواد علم العربية "نحوها وصرفها" الأعلام الذين أجمل الحديث عنهم فيما يلي: 1- نصر بن عاصم الليثي "000-89هـ" كان من فقهاء التابعين، وعالمًا

بالعربية، وله كتاب في العربية، قيل: هو أول من نقط المصاحف. 2- عنبسة الفيل، وهو "عنبسة بن معدان المهري المتوفى سنة "100هـ". 3- أبو داود عبد الرحمن بن هرمز المعروف بالأعرج "000-117هـ" من موالي بني هاشم، حافظ، قارئ، وافر العلم، ثقة. 4- أبو سليمان يحيى بن يعمر الوشقي العدواني "000-129هـ" قيل هو أول من نقط المصاحف، كان من علماء التابعين، عارفًا بالحديث والفقه ولغات العرب، ولد بالأهواز وسكن البصرة. 5- عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، المتوفى سنة "117هـ". جاء في كتاب "المزهر" للسيوطي: "عن قتادة قال: أول من وضع النحو بعد أبي الأسود يحيى بن يعمر". وجاء فيه أيضًا: "وكان يقال: عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي أعلم أهل البصرة وأنقلهم، ففرع النحو وقاسه". 6- أبو عمرو بن العلاء وهو زبان بن عمار التميمي المازني البصري ويلقب أبوه بالعلاء "70-154هـ" من أئمة اللغة والأدب وأحد القراء، قال أبو عبيدة: كان أعلم الناس بالأدب والعربية والقرآن والشعر. وقال الخليل: كان أبو عمرو سيد الناس، وأعلمهم بالعربية والشعر ومذاهب العرب. 7- الأخفش الأكبر، أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد مولى قيس بن ثعلبة "000-177هـ" من كبار العلماء بالعربية، لقي الأعراب وأخذ عنهم، وهو أول من فسر الشعر تحت كل بيت. 8- أبو سليمان عيسى بن عمر الثقفي بالولاء "000-149هـ" من أئمة اللغة، وهو شيخ الخليل وسيبويه وابن العلاء، وهو أول من هذب النحو ورتبه، وعلى طريقته مشى سيبويه، وهو من أهل البصرة، وقد أخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وألف عيسى كتابين في النحو، أحدهما مبسوط سماه "الجامع". والآخر مختصر سماه "المكمل" وقد أشار الخليل في بعض شعره إلى هذين الكتابين بإطراء.

9- أبو جعفر الرؤاسي الكوفي، أخذ عن علماء الطبقة الثانية من الرواد البصريين، ثم استقر في الكوفة، وتزعم مدرستها، وألف كتابه "الفيصل" وهو أول كتاب تداوله الكوفيون بينهم، وغلبت عليه الناحية الصرفية التي اهتم بها الكوفيون، وسبقوا فيها البصريين، حتى عدهم المؤرخون هم الواضعين لعلم الصرف. قال السيوطي في كتابه "المزهر": "وكان لأبي جعفر الرؤاسي عم يقال له: معاذ بن مسلم الهراء، وهو نحوي مشهور، وهو أول من وضع التصريف". وقد أخذ الرؤاسي زعيم مدرسة الكوفة يناظر زعيم مدرسة البصرة في عصره: "الخليل بن أحمد الفراهيدي" ومنذ ذلك الوقت أخذ هذا العلم في طور الترقي والنمو، على أيدي علماء البصرة والكوفة. 10- أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي "100-170هـ" من أئمة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، وله عدة كتب، منها كتاب "العين" في اللغة. أخذ النحو عن "عيسى بن عمر" ثم طفق يتنقل بين عرب الحجاز ونجد وتهامة، ويستمع إلى أحاديثهم، ثم عاد إلى البصرة، واستجمع كل ما سمع، وكان له ذهن حاد، وذاكرة قوية، وعبقرية فذة، وقد أجمع الباحثون على أنه كان من أذكى العرب، مع ورع وزهد وتقوى، وقد تفتقت عبقريته عن ابتكار كثير من العلوم. وقد أخذ علم النحو يرتقي وينمو بفضل عبقريته بشكل سريع، ظهر في كتاب تلميذه سيبويه. 11- أبو عبد الرحمن يونس بن حبيب الضبي بالولاء "94-182هـ" علامة بالأدب، كان إمام نحاة البصرة في عصره، أخذ عنه سيبويه والكسائي والفراء وغيرهم.

قال أبو عبيدة: اختلفت إلى يونس أربعين سنة أملأ الواحي من حفظه. قال ابن قاضي شهبة: هو شيخ سيبويه الذي أكثر عنه النقل في كتابه. 12- أبو مسلم معاذ بن مسلم الهزاء "000-187هـ" أديب نحوي معمر، من علماء النحو في الكوفة. 13- سيبويه، وهو عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء "000-180هـ" لقب "سيبويه"1 إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو، ولد في إحدى قرى شيراز، وقدم البصرة، فلزم الخليل بن أحمد الفراهيدي، وفاقه في النحو. صنف كتابه المسمى "كتاب سيبويه" في النحو، قالوا: لم يصنع قبله ولا بعده مثله، وقد ارتقى علم النحو فجأة بهذا الكتاب إلى قمة رفيعة أدهشت علماء العربية. 14- أبو الحسن النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد المازني التميمي "122-203هـ" أحد الأعلام بمعرفة أيام العرب، ورواية الحديث، وفقه اللغة. ولد بمرو "من بلاد خراسان" وانتقل إلى البصرة مع أبيه. 15- الأصمعي، وهو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمعي الباهلي "122-216هـ" رواية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان. وكان كثير التطواف في البوادي، يقتبس علومها، ويتلقى أخبارها، ويتحف بها الخلفاء، تصانيفه كثيرة، وأخباره كثيرة جدًّا، مولده ووفاته في البصرة. 16- الكسائي، وهو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء، الكوفي. إمام في اللغة والنحو والقراءة من أهل الكوفة ولد في إحدى قراها، وتعلم بها "000-189هـ" له تصانيف، منها "معاني القرآن" و"القراءات" ومختصر في النحو، وغيرها، أخذ عن أبي جعفر الرؤاسي، وكان عالم أهل الكوفة وإمامهم باتفاق. ويأتي من دون هؤلاء من البصريين: الأخفش الأوسط المتوفى سنة "208هـ" وقطرب، وهو محمد بن المستنير المتوفى سنة "206هـ".

_ 1 سيبويه: عبارة معناها بالفارسية: رائحة التفاح.

ويأتي من دونهم من الكوفيين: الفراء، المتوفى سنة "207هـ" وقد كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي. واللحياني، أبو الحسن علي بن حازم المتوفى سنة "220هـ" وقد أخذ عن الكسائي وغيره. 5- أبرز الأعلام الذين نضج علم العربية على أيديهم: أما طول نضح علم اللغة العربية "نحوها وصرفها" فقد تم أيضًا على أيدي أعلام مدرستي البصرة والكوفة، فمنهم: 1- أبو عثمان بكر بن محمد المازني المتوفى سنة "249هـ" من أهل البصرة. 2- أبو الفضل العباس بن الفرج الرياشي البصري "177-257هـ". 3- أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني "000-248هـ" من أهل البصرة، كان المبرد يلازم القراءة عليه، له نيف وثلاثون كتابًا، وكتبه فيها استقصاء وحسن وبيان. 4- أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي الأزدي "157-224هـ" له مصنفات كثيرة، قال الجاحظ بشأنها: لم يكتب الناس أصح من كتبه، ولا أكثر فائدة. 5- ابن السكيت، وهو أبو يوسف، يعقوب بن إسحاق بن السكيت "186-244هـ" إمام في الأدب واللغة، له عدة مصنفات، تعلم ببغداد، ومات فيها. 6- المبرد: وهو أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزدي "210-286هـ" إمام العربية ببغداد في زمنه، مولده بالبصرة، ووفاته ببغداد، له مصنفات كثيرة، منها "الكامل". أخذ عن المازني وغيره، وبرع فبر أقرانه، ونبغ نبوغًا بارزًا.

7- ثعلب، وهو أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد، المعروف بثعلب "200-291هـ" إمام الكوفيين في النحو واللغة في زمانه، له مصنفات كثيرة، كان ثقة أمينًا، وكان أعلم بالنحو من ابن السكيت. ويلاحظ أنه لم يستهل النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، حتى كان علم اللغة العربية "نحوها وصرفها" قد أخذ طوره الأخير من النضج، ثم لم يبق لمن جاء بعد علماء القرن الثالث إلا التحسين والتريب وحسن التصنيف، والتعليلات المنطقية المتأثرة بالمنطق والفلسفة، وتطبيقات عملية، وترجيحات بين الأقوال. وانطلق علماء اللغة العربية يصنفون المصنفات الكثيرات في هذا الميدان، منها المطولات، ومنها المختصرات، ومنها الشروح والحواشي والتعليقات والتقريرات، وشروح الشواهد، ثم ظهرت المؤلفات المبسطة التي ذللت سبيل المعرفة لطلاب هذا العلم. وكان تأسيس علم اللغة العربية "نحوها وصرفها" عملًا حضاريًّا رائعًا مجيدًا، انفرد به المسلمون، وكان عملهم فيه معتمدًا على الاستقراء، والتعليل، وقياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض، أخذًا من واقع لسان الأمة العربية القحة، التي لم تخالطها العجمة. أما الاستقراء: فقد كان بجمع الجزئيات المختلفة، والنظر فيها لاستخلاص القواعد الكلية منها، وقد اعتمد علماء اللغة العربية فيه على السماع مباشرة من العرب الأصلاء في مختلف مجتمعاتهم، ثم على أقوال العرب الذين يُحتج بهم في اللغة من الذين سبقوا المدة التي تم بها الاستقراء، ومن الذين عاصروها، وتشمل هذه الأقوال الشعر والنثر والحكمة والأمثال السائرة والقصص والنوادر. وكانت عملية الاستقراء التي سلكوها كافية لاستنباط القواعد والضوابط اللسانية التي تهيمن على هذه اللغة بوجه عام، ولو لم يكن استقراء شاملًا لكل الجزئيات.

وأما التعليل: فهو يعتمد بعد الاستقراء على التأمل الفكري في العلل والأسباب، التي جعلت واضع اللغة يربط اختلاف ظواهر النطق باختلاف المعاني التي يقصد إفادتها، حينما تضم الكلمات بعضها إلى بعض في نطق متتابع. وأما القياس: فهو عمل فكري ذو وجهين: الوجه الأول: الحكم على كل مثال مستحدث مناظر للأمثلة التي استخلصت منها القاعدة، بضرورة التزام مضمون القاعدة فيه، فمثلًا: كل فاعل يصاغ في أية جملة عربية يجب أن يكون مرفوعًا، وكل مفعول به يجب أن يكون منصوبًا. الوجه الثاني: يكون بقياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض، وإعطائها مثل أحكامها، ولو لم يثبت بالسماع أن العرب قد استعملوها بأعيانها، وإنما استعملوها بنظائرها. ومن هذا جميع القواعد القياسية في أسماء الفاعل والمفعول والزمان والمكان، وكذلك التصريفات والجموع ونحوها. 6- مقدمة حول تدوين مفردات اللغة العربية في المعجمات: كما اتجه المسلمون لضبط قواعد اللسان العربي ورسم قوانينه وتمييز أساليبه، اتجهوا أيضًا لجمع مفردات هذا اللسان العربي، في عملية إحصاء واسعة النطاق، عن طريق الاستقراء، بتتبع الكلمات العربية، وكيفية النطق بها، وما تحمل من دلالات، ثم عن طريق القياس في المشتقات إذا توافرت شروط القياس الصحيح. وتطلب هذا العمل الحضاري العظيم تتبعًا مضنيًا وجهودًا كبيرة جدًّا، والسبب الأول الذي دعا علماء المسلمين إلى القيام بهذا العمل الجليل المضني، هو حرصهم على ضبط الأصول اللغوية التي بها يفهم القرآن الكريم، وبها تفهم السنة النبوية، وبها يمكن استنباط ما يتضمنان من معاني وتوصيات وأحكام.

ونظرًا إلى أن القرآن المجيد قد اصطفى الله عز وجل فيه أجود ما لدى القبائل العربية من مفردات، ليكون عنصرًا من عناصر إعجازه البياني، وليكون له أثر في جمع شمل العرب على الإسلام، وجدنا أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفون معاني بعض المفردات الواردات في القرآن، ومن أمثلة هذا ما يلي: 1- سأل الخليفة الراشد "عمر ابن الخطاب" رضي الله عنه وهو على المنبر عن معنى "التخوف" في قوله الله عز وجل في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول": {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} . فسكت المسلمون وفيهم جمع كبير من أقحاح العرب من قريش وغيرها، ثم قام شيخ من هذيل، فقال: هذه لغتنا، التخوف: التنقص. قال عمر: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال الهذلي: نعم، قال شاعرنا زهير: تخوف الرحل منها تامكًا قردًا ... كما تخوف عود النبعة السفن التامك: سنام الناقة. قردًا: أي متجعد الوبر. عود النبعة: أي: عود شجرة تنبت في قلل الجبال، تتخذ منها القسي والسهام. السفن: كل ما ينحت به الشيء ويلين به، كالفأس، والقدوم، والحجر الخشن، والمبرد. والمعنى: تنقص الرحل بثقله من الناقة سنامًا متجعد الوبر، كما تنقص عود النبعة ليكون قوسًا أو سهمًا صالحًا فأس أوقدوم أو نحوهما. وعن أبي بكر بن الأنباري قال: أتى أعرابي إلى ابن عباس فقال: تخوفني مالي أخ لي ظالم ... فلا تخذلين المال يا خير من بقي فقال ابن عباس: تخوفك، تنقصك؟

قال الأعرابي: نعم. قال ابن عباس: الله أكبر {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أي: على تنقص من خياركم. 2- ورُوي أن "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه سئل: ما الأب؟ في قوله الله عز وجل في سورة "عبس: 80 مصحف/ 24 نزول": {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} . فلم يعرف معنى هذه الكلمة؛ لأنها لم تكن متداولة في مكة، ولا في القبائل من حولها، وهي في فصيح كلام العرب ما تنبته الأرض من نباتها مما تأكله الأنعام. 3- وروي أن "عبد الله بن عباس" رضي الله عنهما سئل عن معنى "فاطر" فلم يعرف؛ لأن هذه الكلمة لم تكن متداولة في قريش ومن حولهم، وهي في فصيح كلام العرب بمعنى "خالق بأسلوب إخراج الشيء من باطنه". 4- وروي أن أبا بكر رضي الله عنه سئل عن معنى "الكلالة" في قول الله عز وجل في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول": {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} . فلم يعرف معناها؛ لأنها لم تكن متداولة في لسان القرشيين، ومن حولهم، والكلالة: أن يموت المرء وليس له والد أو ولد يرثه، بل يرثه ذوو قرابته. إلى غير ذلك من أمثلة. وقد كانت الدواعي الملحة تفرض على الأكفياء من أهل البحث والتتبع من المسلمين، أن يلموا شتات هذه اللغة الموزعة في قبائل العرب، ويجمعوا شملها، ويدونوها، ويضبطوا نطقها، ويحددوا معانيها، ويقدموا حصائل جهودهم في مؤلفات ومصنفات مختلفات الإشكال، ومتعددات الطرق، ثم في معجمات ضخمة محررة مدققة، خدمة للإسلام رسالة العرب والناطقين باللسان العربي للناس أجمعين.

ونظرة فاحصة تتبع العمل الجليل الذي قام به بناة الحضارة الإسلامية، لوضع كتب اللغة العربية ذات المناحي المختلفة، ووضع المعجمات الكبرى، تكشف مبلغ الجهد المضني الذي قام به المسلمون، لجمع شتات مفردات اللغة العربية، وضبط معانيها، مقرونة بالشواهد عليها، خدمة لكتاب الله وسنة رسوله. وخدمة لدين الإسلام الذي جعل الله صيغته الأخيرة المصونة ما أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين. ولا شك أن هذا العمل قد كان من روائع التأسيس الحضاري الذي قام به المسلمون. وتبدو أهمية هذا العمل لفهم كتاب الله وسنة رسوله حينما ندرك المغزى الذي دلت عليه الروايات التاليات: 1- روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله رجعنا إلى الشعر، فالتمسنا معرفة ذلك منه". وأنه قال: "إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر، فإن الشعر عربي". 2- وأخرج أبو بكر بن الأنباري بسنده عن عمر بن الخطاب أنه قال: "لا يُقرئ القرآن إلا عالم باللغة". 3- وروي عن ابن سيرين أن "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه قال: "كان الشعر علم القوم، ولم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب في الأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم كثيرة". ا. هـ. 4- وذكر السيوطي في الإتقان، أن نافع بن الأزرق، ونجدة بن عويمر، سألا ابن عباس مسائل كثيرة في التفسير، واشترطا عليه أن يؤيد كل كلمة بشاهد من كلام العرب، فكان ابن عباس عند شرطهما.

7- حركة تدوين مفردات اللغة العربية في المعجمات: أولًا: كان المنطلق لتدوين مفردات اللغة العربية في المعجمات جمع غريب المفردات العربية الواردة في القرآن الكريم، وشرح معانيها، وبيان أصولها اللغوية، وشواهدها من كلام العرب. وينسب إلى ابن عباس مدونة تجمع غريب القرآن، ولعلها من جمع من رووا عن ابن عباس. ويذكر المؤرخون أن أبان بن تغلب بن رياح الجريري "000-141هـ" من أهل الكوفة، ومن غلاة الشيعة، قد ألف كتابًا في "غريب القرآن" وذكر شواهد من أشعار العرب. وتبع هذا جمع غريب المفردات العربية الواردة في السنة النبوية. ثانيًا: وليس غريبًا أن يكون الجمع في أول الأمر حشدًا عامًّا من غير تصنيف ولا ترتيب، أو جمعًا للمفردات التي تتناول موضوعات معينة لإحصاء الكلام العربي المتعلق بها، كالخيل، والنخيل، والإنسان، والنحل، وأسماء المواضع والمياه والإبل، ونحو ذلك، أو بيانًا للمفردات التي تحتاج إلى تفسير في القرآن والسنة. ثالثًا: ولما كانت أعمال الجمع اللغوي أعمالًا فردية تولاها عشاق البحث والمعرفة، كان من الطبيعي فيها أن تسير وفق سلسلة من التطور والترقي، حتى انتهت هذه الأعمال بذخائر عربية ضخمة، فيها إحصاء وتصنيف مصحوبان بالضبط وشرح المعنى، وبالترتيب الذي يسهل على الباحث مراجعة أي كلمة عربية يريدها. رابعًا: واقترن بهذا العمل جمع آداب العرب المختلفة. وشرح غريبها. خامسًا: ونشط الباحثون من علماء المسلمين في جمع المصنفات ذوات الطابع اللغوي نشاطًا واسعًا وكبيرًا.

1- وأول من ألف في الخيل، وخلق الإنسان "أبو مالك عمرو بن كركرة" الأعرابي، صاحب النوادر، وأحد شيوخ الخليل بن أحمد الفراهيدي. 2- وألف "النضر بن شميل 122-203هـ" كتابًا في خلق الفرس. 3- وألف "أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني 94-206هـ" كتابًا في النحل والعسل. وكذلك الأصمعي "122-206هـ". 4- أما غريب القرآن وغريب الحديث، فقد كثرت فيهما التصانيف. سادسًا: ثم شهد القرن الثاني للهجرة أولى الخطوات المحكمات في جمع مفردات اللغة العربية، وضبط ألفاظها، وتحديد معانيها، وتنامت هذه الحركة في القرون التالية تناميًا واسعًا. 1- ويظهر أن "الخليل بن أحمد الفراهيدي 100-170هـ" كان صاحب مجد السبق إلى هذا العمل المجيد، فقد كان رجل اللغة العربية، وعبقريها، ومبتكر كثير من علومها، وقد حاول أن يحصر اللغة العربية حصرًا عقليًّا، وألف في هذا كتابًا سماه "العين" ملاحظًا أن حرف العين هو أول حرف يخرج من الحلق من حروف اللغة، وتبلغ صفحات هذا الكتاب قرابة "2500" صفحة، جمع فيه كثيرًا من لغة العرب، بطريقة مبتكرة لم يسبقه إلى مثلها سابق. وكان المنهج الذي سلكه الخليل منهجًا رصينًا، إلا أنه صعب جدًّا، ويحتاج إلى عباقرة أمثال الخليل يتابعون العمل حتى ينجزوه، وقد ألف تلميذه "النضر بن شميل" كتابًا سمكاه "المدخل إلى العين". 2- وممن كانت له الريادة في هذا المجال: "إسحاق بن مرار الشيباني بالولاء 94-206هـ" وهو كوفي نزل بغداد. وقد وصف بأنه من أعظم الناس علمًا باللغة والشعر، وكان صدوقًا فاضلًا، روى عنه الإمام أحمد بن حنبل، وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهما. ومما وصف به أنه جمع أشعار نيف وثمانين قبيلة من العرب ودونها.

وقد كان من السابقين إلى جمع مفردات اللغة العربية، وضبط ألفاظها وتحديد معانيها، فقد ألف كتابًا في اللغة سماه "الجيم". وله كتب أخرى في هذا المجال، منها كتاب في "غريب الحديث" وكتاب "النوادر الكبير". 3- ومنهم: "أبو عبيدة النحوي معمر بن المثنى البصري 110-209هـ" فقد ألف في غريب القرآن وغريب الحديث، وله نحو "200" مؤلف. 4- ومنهم "أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي الأزدي الخراساني البغدادي 157-224هـ" من كتبه "الغريب المصنف" وكتاب "غريب الحديث" ألفه في نحو أربعين سنة، وله مصنفات كثيرة. وجاء في ترجمته أن الناس رووا من كتبه المصنفة نيفًا وعشرين كتابًا في التفسير والفقه واللغة. 5- ومنهم: "كراع النملة أبو الحسن علي بن الحسن الهنائي الأزدي ... -بعد 309هـ" مصري له كتب متعددة في اللغة العربية. 6- ومنهم: "ابن دريد، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، من أرد عمان من قحطان 223-321هـ" ولد بالبصرة، وبها نشأ وتعلم ونبغ في علوم اللغة العربية، حتى صار علمًا من أعلامها، له مصنفات كثيرة في اللغة العربية وعلومها، منها "الاشتقاق" و"أدب الكتاب" وله كتاب "الجمهرة" وهو أحد المعجمات العربية الكبيرة، التي تعتبر من أمهات الكتب الولى، وقد ربته على حروف المعجم، ونهج فيه منهج من سبقه من رواد هذا الميدان الحضاري. 7- ومنهم: "الفارابي، أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الحسين الفارابي 000-نحو 350هـ" من أهل "فاراب" وراء نهر سيحون، انتقل إلى اليمن، وأقام في "زبيد" وتوفي فيها. وهو خال الجوهري، وفي زبيد ألف كتابه "ديوان الأدب". وعرفه بقوله: "ميزان اللغة ومعيار الكلام" ويعتبر هذا الكتاب أحد المعجمات الرائدة في مفردات اللغة العربية.

8- ومنهم: "الأزهري"، "أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي 282-370" أحد الأئمة في اللغة والأدب، وقد كان إمامًا عظيمًا من أئمة اللغة، وحجة من حججها، ألف في مفردات اللغة كتابه المشهور "تهذيب اللغة" وهو كتاب يمتاز بالدقة والتحري في الأخذ، اتبع فيه طريقة الخليل بن أحمد في كتابه "العين". 9- ومنهم: "الصاحب بن عباد، أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن العباس الطالقاني 326-385هـ" وزير غلب عليه الأدب، فكان من نوادر الدهر علمًا وفضلًا وتدبيرًا وجودة رأي. ألف كتبًا كثيرة، منها في ميدان اللغة كتاب: "جوهرة الجمهرة" وكتاب "المحيط" وهذا الكتاب معجم لغوي كبير، اتبع فيه مدرسة الخليل في كتابه "العين" وقد امتاز معجم الصاحب بن عباد بكثرة المواد اللغوية التي جمعها فيه، إلا أنه أغفل الشواهد من كلام العرب. 10- ومنهم: "ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي 329-395" من أئمة اللغة والأدب، ألف في اللغة كتابًا منهجًا لم يسبق إليه؛ إذ آخر سماه "مقاييس اللغة" وقد نهج في هذا الكتاب منهجًا لم يسبق إليه؛ إذ أخذ يرد كل مادة من مواد اللغة إلى أصولها المعنوية المشتركة، فلا يكاد يخطئه التوفيق. 11- ومنهم: "الجوهري، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري ... -393هـ" كان إمامًا في اللغة والأدب، وقد ترك الجوهري أثرًا عظيمًا خدم فيه اللغة العربية خدمة عظيمة هو كتابه: "تاج اللغة وصحاح العربية" وهو المشهور بالصحاح. وقد رتبه لأول مرة في تاريخ المعجمات بحسب تسلسل حروف الهجاء، معتمدًا فيه أواخر الكلمات، وجعل لكل حرف بابًا، ثم رتب الكلمات المنتهيات بحرف واحد وفق تسلسل حروف الهجاء، والتزام الجوهري في كتابه الصحيح، واقتصر عليه، حسبما وصل إليه اجتهاده في التحقيق اللغوي. وكان عمل الجوهري فتحًا جديدًا في ميدان المعجمات العربية، وظاهرة حضارية ميسرة في جانب من جوانب المعرفة.

12- ومنهم "أبو علي القالي، وهو إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون القالي 288-356هـ" أحفظ أهل زمانه للغة والشعر والأدب، ولد في أرمينية، وطلب العلم في بغداد، ثم رحل إلى الأندلس. أخذ العلم عن كثير من أئمة اللغة والنحو. وقد ألف عدة مؤلفات في العربية، ومن أشهر مؤلفاته كتاب "النوادر" وكتاب "المالي" ومن مؤلفاته معجم في العربية سماه "البارع" وهو من أوسع كتب اللغة. 13- ومنهم "البرمكي، وهو أبو المعالي بن تميم البرمكي اللغوي" من أعلام القرن الرابع الهجري. تلقف البرمكي كتاب "الصحاح" للجوهري، فزاد عليه قليلًا، وابتكر طريقة في تربيته غير طريقة الجوهري، وهذه الطريقة تعتمد على تسلسل الكلمات اللغوية، وفق تسلسل حروف الهجاء، اعتبارًا من أول حرف أصلي في الكلمة، فما بعده فالذي يليه حتى آخر الكلمة، وهي الطريقة التي أخذت بها جميع المعجمات الحديثة العربية وغير العربية لسهولتها. وسمى البرمكي كتابه "المنتهى". 14- ومنهم "ابن سيده، وهو أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلس 398-458هـ" ولد بمرسية "في شرق الأندلس" وانتقل إلى دانية، وتوفي فيها. كان ضريرًا، ونبغ في في آداب اللغة ومفرداتها، فصنف كتاب "المخصص" يقع في سبعة عشر جزءًا، وهو من أثمن كنوز العربية، وكتابًا آخر سماه "المحكم والمحيط الأعظم" إلى غيرهما من الكتب. قال السيوطي في كتابه "المزهر": "وأعظم كتاب ألف في اللغة بعد عصر الصحاح كتاب "المحكم والمحيط الأعظم" لأبي الحسن علي بن سيده الأندلسي الضرير". وقال "ابن منظور" في مقدمة معجمه العظيم: "لسان العرب": "ولم أجد في كتب اللغة أجمل من "تهذيب اللغة" لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، ولا أكمل من "المحكم" لأبي الحسن علي بن إسماعيل بن سيده الأندلسي، وهما من أمهات كتب اللغة على التحقيق".

498- ومنهم الزمخشري، وهو جار الله أبو القاسم محمود بن عمر بن أحمد الخوارزمي الزمخشري 467-538هـ ولد في "زمخشر" من قرى خوارزم، وسافر إلى مكة فجاور بها زمنًا فلقب بجار الله. كان من أئمة العلم في التفسير، وعلوم اللغة العربية وآدابها، ومن أشهر كتبه "الكشاف" وهو كتاب في تفسير القرآن. ومن مصنفاته في اللغة كتاب "أساس البلاغة" وهو كتاب نفيس يرشد إلى معنى الكلمة ومحلات استعمالها في كلام العرب، وكتاب "الفائق" في غريب الحديث، وغير ذلك. 16- ومنهم رضي الدين الصاغاني، وهو "الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري الصاغاني الحنفي 577-650" أعلم أهل عصره في اللغة، ولد في لاهور "بالهند" ونشأ بغزنة "من بلاد السند" ودخل بغداد، ورحل إلى اليمن، وتوفي ودفن ببغداد. له تصانيف كثيرة منها كتاب "العباب" ولم يتمه، قال الفيروزآبادي صاحب "القاموس المحيط" في مقدمة كتابه، متحدثًا عنه وعن المحكم لابن سيده، "فهما غرتا الكتب المصنفة في هذا الباب، ونيرا براقع الفضل والآداب" وله كتاب "التكملة" جعله تكملة لصحاح الجوهري، وكتاب "الشوارد في اللغات" وغيرها. 17- ومنهم "أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن علي بن منظور الإفريقي المصري الأنصاري الخزرجي 360-711هـ" الإمام اللغوي الحجة، من نسل رويفع بن ثابت الأنصاري، ترك بخطه نحو خمسائة مجلد. له مصنفات كثيرة، من أشهرها في كتب اللغة كتابه "لسان العرب" وهو معجم في اللغة غني عن التعريف، يأتي في عشرين مجلدًا، ويعتبر هذا المعجم درة من درات المعجمات العربية، التي تزدان بها المكتبة العربية الإسلامية الكبرى، وقد جمع فيه أمهات كتب اللغة. 18- ومنهم: "مجد الدين الفيروزآبادي، وهو أبو طاهر محمد بن

يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر 729-817هـ" من أئمة اللغة والأدب، ولد بكارزين من أعمال شيراز، وانتقل إلى العراق، وجال في بلاد كثيرة ثم رحل إلى "زبيد" سنة "796هـ" وولي قضاءها، حتى كان مرجع عصره في اللغة والحديث والتفسير، له مصنفات كثيرة. ومن أشهر مصنفاته في اللغة معجمه المعروب بـ"القاموس المحيط" وقد اعتنى به المؤلفون فيما بعد عناية فائقة، لم يحظ بمثلها غيره من المصنفات في اللغة، فمن شارح له، ومن متتبع ناقد، ومن متمم لما فاته، إلى غير ذلك. ويذكر الفيروزآبادي في مقدمة قاموسه المحيط، أنه قد صنف قبله كتابًا في اللغة كبيرًا جاء في ستين مجلدًا، سماه "اللامع المعلم العجاب الجامع بين المحكم والعباب" أي: الجامع بين "المحكم" لابن سيده، "والعباب" للصاغاني، ثم اختصره في كتابه: "القاموس المحيط" فلخص كل ثلاثين سفرًا في سفر؛ إذ حذف الشواهد، وطرح الزوائد. ومن أشهر شروح "القاموس المحيط" كتاب "تاج العروس من جواهر القاموس" وهو عشرة مجلدات، ومؤلفه "مرتضى الزبيدي، وهو أبو الفيض محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسني الزبيدي 1145-1205هـ" علامة باللغة والحديث والرجال والأنساب، ومن كبار المصنفين. أصله من واسط في العراق، ومولده بالهند، ومنشأه في زبيد باليمن، له مؤلفات ومصنفات كثيرة. وبعد هذا البيان الموجز أقول: إن ما قدمه المسلمون من عمل حضاري في ميدان اللغة العربية، مما يعسر إحصاؤه، يدل الباحث المنصف على مبلغ الجهد الحضاري الرفيع الذي أحرزه المسلمون في هذا الميدان، والذي خدموا به اللغة العربية صيانة للقرآن المجيد، وسنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ليقدموا الإسلام للعالمين صافيًا نقيًّا مصونًا من التحريف والتغيير في مفهومات نصوصه المصادر. وبكثير من الألم الممض، والحسرة على كنوزنا الحضارية، نذكر ما جنته أيدي الغزاة التتار، في منتصف القرن السابع الهجري، حين هجمت قبائلهم

الهمجية على بلاد المسلمين، وعواصم حضارتهم العلمية والعملية، فأخذت تقوض منجزاتهم الحضارية، وتخرق وتغرق وتتلف نفائس كتب العلم والمعرفة التي ألفوها، وكدح أفذاذ منهم في تصنيفها عبر ستة قرون. 8- تأسيس علوم البلاغة "المعاني والبيان والبديع": خدمة للقرآن كتاب الله المجيد، وحرصًا على إبراز بعض جوانب إعجازه البياني، اجتهد علماء المسلمين بحثًا، وتنقيبًا، واستخراجًا، حتى وضعوا علوم البلاغة الثلاثة: "المعاني، والبيان، والبديع". وما يزال الباحثون يبحثون ويستخرجون، ويكتشفون من عناصر إعجاز القرآن البياني ما لم يكتشفه السابقون. على أن كتاب الله عز وجل أوسع من أن يحصى كل عناصر إعجازه البياني الباحثون والمستخرجون والمكتشفون، مهما اجتهدوا ونقبوا؛ لأن كثيرًا من عناصر الجمال تدرك بالحسن الجمالي، ولا يستطاع تحديدها والتعبير عنها، ولا اكتشاف عناصرها. وسيظهر في كل عصر من جوانب إعجاز القرآن البياني روائع ما توصل السابقون إلى اكتشافها واستخراجها، فهو كتاب لا تفنى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، كما جاء وصفه في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان المهتمون باستخراج مسائل علم المعاني أئمة علماء النحو والأدب، وهذه المسائل منثورة في كتب النحو وكتب الأدب الكثيرة. وذكر علماء البلاغة أن أول من دون مسائل علم البيان أبو عبيدة "معمر بن المثنى" التيمي بالولاء، من أهل البصرة، كان من أئمة العلم بالأدب واللغة، ولادته ووفاته "110-209هـ". وظهر هذا في كتابه "مجاز القرآن".

وتبعه الجاحظ، وهو "عمرو بن بحر" لقب بالجاحظ لجحوظ عينيه وبروزهما، كناني بالولاء وهو كبير أئمة الأدب، معتزلي من أهل البصرة، ولادته ووفاته "163-255هـ". ثم ابن المعتز، وهو "عبد الله بن محمد المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد" ولادته ووفاته "247-296هـ". ثم "قدامة بن جعفر" وهو بغدادي، كاتب، يضرب به المثل في البلاغة، توفي سنة "337هـ" له مؤلفات منها: "نقد الشعر" وكتاب "الرد على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمام". ثم أبو هلال العسكري، وهو "الحسن بن عبد الله العسكري" عالم بالأدب، وله شعر، ألف مؤلفات كثيرات، توفي بعد سنة "395هـ". ثم جاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني، وهو "أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني" واضع أصول البلاغة، كان من أئمة اللغة، توفي سنة "471هـ". وذكر علماء البلاغة أن أول من دون في علم البديع: 1- "عبد الله بن محمد المعتز بالله" الآنف الذكر؛ إذ جمع ما اكتشفه في الشعر من المحسنات البديعية، وكتب فيه كتابًا جعل عنوانه: "البديع". وجاء من بعده من أضاف أنواعًا أخرى، منهم على ما ذكر البلاغيون: 2- "جعفر بن قدامة" المتوفى سنة "391هـ" أديب بغدادي، له مصنفات في صنعة الكتابة، ومن مؤلفاته: "نقد قدامة" ذكر فيه ثلاثة عشر نوعًا من أنواع البديع، إضافة إلى ما سبق أن اكتشفه من قبله "عبد الله بن محمد المعتز بالله العباسي". 3- ثم "أبو هلال العسكري" الآنف الذكر، فقد جمع سبعة وثلاثين نوعًا من أنواع البديع.

4- ثم "ابن رشيق الحسن بن رشيق القيرواني 390-463هـ" وهو أديب، نقاد، باحث، ولد في "المسيلة" بالمغرب، ورحل إلى القيروان، فقد جمع في كتابه: "العمدة" قرابة سبعة وثلاثين نوعًا من أنواع البديع. 5- ثم "شرف الدين أحمد بن يوسف القيسي التيفاشي 580-651هـ" من أهل تيفاش "من قرى قفصة بإفريقية" تعلم بمصر وولي القضاء ببلده، له عدة مؤلفات. 6- ثم "عبد العظيم العدواني، المشهور بابن أبي الإصبع 595-654هـ" البغدادي، ثم المصري، شاعر من العلماء بالأدب، له تصانيف حسنة، منها كتابه "بديع القرآن" فقد أوصل أنواع البديع إلى تسعين نوعًا. 7- ثم "صفي الدين عبد العزيز بن سرايا السنبسي الطائي الحلي 677-750هـ" وهو معروف باسم "صفي الدين الحلي" ولد في الحلة "بين الكوفة وبغداد" فأوصل أنواع البديع إلى مائة وأربعين نوعًا، يمكن جمع بعضها في بعض. 8- ثم "عز الدين علي بن الحسين الموصلي ... -789هـ" شاعر أديب، من أهل الموصل، أقام مدة في حلب، وسكن دمشق وتوفي بها. هل مؤلف سماه "بديعية" وشرحه، فذكر في كتابه ما ذكر "صفي الدين الحلي" وزاد زيادة يسيرة من ابتكاره. وكانت علوم البلاغة الثلاثة من نفائس الابتكارات، التي استخرج قواعدها وأصلها علماء الأدب المسلمون، ذوو الأذواق الأدبية الرفيعة بلسان العرب، اللسان الذي اصطفاه الله جل جلاله، لإنزال القرآن المجيد به، وهو خاتمة كتبه للناس أجمعين. فمن حق الحضارة الإسلامية أن تفتخر بابتكار علوم البلاغة "المعاني، والبيان، والبديع".

الفصل الخامس: تأسيس علم الفقه الإسلامي وعلم أصوله، وتدوينهما

الفصل الخامس: تأسيس علم الفقه الإسلامي، وعلم أصوله، وتدوينهما المقولة الأولى: تأسيس علم الفقه الإسلامي وتدوينه 1- مقدمة: نشأ الفقه الإسلامي، وهو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المستمدة من أدلتها التفصيلية" نشأة إسلامية فذة، بدءًا بعصر الرسول صلى الله عليه وسلم، فعصر الخلفاء الراشدين، فمن بعدهم، حتى ظهور الأئمة المجتهدين الذين قيض الله لهم من تلاميذهم من دون آراءهم الفقهية، ومذاهبهم ومن توسعوا في الاجتهاد ضمن أصول ومناهج الأئمة للتوصل إلى استنباط حكم شرعي لكل ما يتطلب حكمًا شرعيًّا من سلوك الناس الإرادي في الحياة. حتى كانت للأمة الإسلامية ثروة فقهية عظيمة، في مدونات جليلات مدهشات، منها الموسع المفصل المبسوط والمقرون بالأدلة، ومنها المتوسط، ومنها الموجز المختصر، ومنها الشروح والتعليقات والتقريرات والحواشي، ومنها الجامع لآراء المذاهب ومناقشاتهم وجدلياتهم وأدلتهم في آرائهم الفقهية المختلفة. ولم يؤسس المسلمون هذا العلم العظيم، المبين لأحكام السلوك الإنساني الإرادي، مستفيدين ولا معتمدين على أحد ممن سبقهم من الأمم، بل كانت عمدتهم فيه استنباط الأحكام من مصادر التشريع الإسلامي. ومن المعلوم المتداول عند العلماء بالقوانين الواضعية في العالم، أن الفقه الإسلامي قد كان هو القاعدة المنهجية التي اعتمد عليها واستفاد منها المقننون الفرنسيون، مع العلم بأن فرنسا هي أم القانون المدني الغربي، فقد جاءت لجان التقنين الفرنسي إلى بعض عواصم العالم الإسلامي، لدراسة الفقه الإسلامي والاستفادة من طرائق الفقهاء المسلمين في النظر إلى القضايا الإنسانية، وعلاقات

الناس في معاملاتهم، وإدراك الحقوق والمصالح الإنسانية، واستنباط الأحكام الشرعية الملائمة لها. ولما درسوا أحكام فقه المعاملات ودرسوا علم أصول الفقه الإسلامي، وعرفوا من الإسلام مناهج التقنين، واكتسبوا ملكة وضع القوانين، رجعوا إلى بلادهم يضعون بآرائهم قواعد الحقوق، وأصول التقنين، ملاحظين المصالح التي يهمهم ملاحظتها لدى وضع المواد القانونية، ثم أخذوا بالاستناد إلى ذلك يضعون القوانين المدنية. وقد مر الفقه الإسلامي في عدة مراحل، أذكر منها فيما يلي بإيجاز: "الفقه في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، الفقه في عصر الصحابة، الفقه في عصر التابعين، الفقه في عصر تابعي التابعين وتكون المذاهب الفقهية". 2- الفقه الإسلامي في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم: 1- كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته هو المرجع الأول للفتاوى في أحكام الفقه الإسلامي، وكان يعتمد فيما يفتي فيه على ما يوحى إليه، وعلى ما يفهمه من كتاب الله عز وجل، وكل ما أذن الله له به من تشريع، أو اجتهاد يجتهده، فإذا كان اجتهاده مطابقًا لما هو الأكمل والأحسن في علم الله أقره الله عز وجل عليه، ولم يتابعه فيه معدلًا ولا معاتبًا، وإن كان اجتهاده في القضية دون ذلك أرشده الله إلى ما هو الأهدى والأقوم والأكثر صوابًا، وربما عاتبه؛ إذ لم يأخذ بما هو الأكمل والأحسن. 2- وأقر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على بعض ما فهموا من كتاب الله من أحكام، وهذا يتضمن الإذن للمؤهلين منهم بفهم الأحكام من القرآن واستنباطها، والإذن لهم باستنباط الأحكام من أقوال الرسول التي حفظوها منه، مع العمل بما جاء فيها صريحًا واضحًا لا يحتاج إلى استخراج واستنباط. وأذن الرسول للمؤهلين من أصحابه بأن يجتهدوا لاستنباط الأحكام الشرعية برأيهم، قياسًا على الأشباه والنظائر، أو استبصارًا بمقاصد الشريعة وأحكامها، كلما اضطرهم الأمر إلى الاجتهاد؛ إذ يكونون بعيدين عنه، ولا يستطيعون التريث لمعرفة الحكم منه مباشرة.

يضاف إلى هذا تدريبهم على الاجتهاد، واستعمال ما لديهم من قدرات الفهم واستنباط الأحكام. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصوب من أصاب باجتهاده من أصحابه، ويرد من أخطأ إلى وجه الصواب؛ إذ كانوا يعرضون عليه فتاواهم أو تصرفاتهم التي اعتمدوا فيها على اجتهاداتهم الخاصة بعد مرور الحوادث التي اجتهدوا فيها. وقد برز طائفة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في علوم الدين وحفظ مسائله، وفي فهم نصوص القرآن والسنة، وفي معرفة مقاصد الشريعة، وفي استنباط الأحكام الفقهية، واثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على بعضهم في حياته. 3- الفقه الإسلامي في عصر الصحابة رضوان الله عليهم: كان الذين برزوا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في علوم الدين ومعرفة مسائل الفقه، وأحكام الشريعة وفي استنباط الأحكام، هم الذين يرجع إليهم في الفتاوى التي تختلف فيها وجهات النظر، مما لم يكن معلومًا عند جمهور الصحابة حكمه. وكانوا يرجعون إلى صريح القرآن، أو إلى الفهم منه استنباطًا، وإلى صريح أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم أو الفهم منها استنباطًا، أو إلى الاجتهاد بالرأي الذي سبق بيانه. وقد بلغ الذين حفظت عنهم الفتوى من الأصحاب والصحابيات قاربة نيف وثلاثين ومائة، كما ذكر ابن القيم. وكان منهم المكثرون في الفتوى، وكان منهم المتوسطون، فيها، وكان منهم المقلون. - فالمكثرون منهم في الفتاوى سبعة وهم: 1- عمر بن الخطاب رضي الله عنه "40ق. هـ-23هـ".

2- علي بن أبي طالب رضي الله عنه "23ق. هـ-40هـ". 3- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "000-32هـ". 4- عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها "9ق. هـ-58هـ". 5- زيد بن ثابت رضي الله عنه "11ق. هـ-45 هـ". 6- عبد الله بن عباس رضي الله عنه "3ق. هـ-68هـ". 7- عبد الله بن عمر رضي الله عنه "10ق. هـ-73هـ". - والمتوسطون منهم في الفتاوى، وهم: 1- أبو بكر الصديق رضي الله عنه "51ق. هـ-13هـ". 2- أم سلمة "هند بنت سهيل" أم المؤمنين رضي الله عنها "28ق. هـ-62هـ". 3- أنس بن مالك رضي الله عنه "10ق. هـ-93 هـ". 4- أبو سعيد الخدري، سعد بن مالك رضي الله عنه "10ق. هـ-74هـ". 5- أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه "21ق. هـ-59هـ". 6- عثمان بن عفان رضي الله عنه "47ق. هـ-35 هـ". 7- عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه "7ق. هـ-65 هـ". 8- عبد الله بن الزبير رضي الله عنه "1هـ-73هـ". 9- أبو موسى الأشعري، عبد الله بن قيس رضي الله عنه "21ق. هـ-44هـ". 10- سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه "23ق. هـ-55هـ". 11- سلمان الفارسي رضي الله عنه "000-36 هـ". 12 جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه "16ق. هـ-78هـ". 13 معاذ بن جبل الأنصاري رضي الله عنه "20ق. هـ-18 هـ". - والمقلون منهم في الفتاوى هم الباققون؛ إذ لم يرد عن الواحد منهم إلا الفتيا في بعض المسائل، وقد لا تتجاوز مسألة أو مسألتين.

4- الفقه الإسلامي في عصر التابعين: تورع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب الفتوحات الإسلامية، في كثير من أقاليم العالم الإسلامي يومئذ، وقد تتلمذ على علماء الصحابة وفقائهم كثير من عشاق المعرفة والعلم الإسلامي من التابعين لهم بإحسان. - فمن علماء الصحابة وفقهائهم الذين استقروا في المدينة المنورة: "عمر بن الخطاب، وابنة عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت" رضي الله عنهم. وقد أخذ عنهم من التابعين المقيمين في المدينة المنورة، أو الزائرين لها عدد وفير، تلقوا منهم علمًا غزيرًا، وفقهًا كثيرًا. - ومن علماء الصحابة وفقهائهم الذين أقاموا بالكوفة: "علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود" رضي الله عنهما، وقد أخذ عنهما من طلاب العلم الإسلامي من سكان الكوفة أو زوارها تابعيون كثيرون. - ومن علماء الصحابة وفقهائهم الذين أقاموا في الشام: "معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان" رضي الله عنهما، وقد أخذ عنهما من طلاب العلم الإسلامي من أهل الشام أو زوارها، تابعيون كثيرون. - ومن علماء الصحابة وفقهائهم الذين أقاموا في مصر: "عبد الله بن عمرو بن العاص" وقد أخذ عنه من طلاب العلم الإسلامي من أهل مصر أو زوارها تابعيون كثيرون. ومعظم الفقه الإسلامي انتشر في الأمة الإسلامية بعد عصر الصحابة، عن أصحاب عبد الله بن مسعود في العراق، وعن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر في المدينة، وعن أصحاب عبد الله بن عباس في مكة وما حولها.

وكثرت أسئلة المسلمين حول قضايا لم يجد فقهاء التابعين إجابة صريحة عليها، فيما أخذوه من علم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطروا أن يتوسعوا في الاستنباط والاجتهاد؛ عملًا بما فهموه من نصوص القرآن والسنة من وجوب قياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض، وإعطائها مثل الأحكام المنصوص عليها، ومن ضرورة العمل لاستنباط الأحكام التي يهدي إليها الرأي السديد لإحقاق الحق والعدل، ولتحقيق مصالح العباد على أحسن وجه وأكمله، استهداء بمقاصد الشريعة الإسلامية التي دلت عليها الأحكام المنصوص عليها، في القضايا التي جاء بيان أحكامها في القرآن الكريم، أو في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. واجتهد الفقهاء الباحثون في استخراج الأحكام الفقهية واستنباطها، وقامت بينهم المناظرات حول الأدلة التي استندوا إليها، في المسائل التي اختلفت آراء المجتهدين في أحكامها. وكان هذا العمل العلمي الاجتهادي ظاهرة حضارية عظيمة، في حدود مفهومات الشريعة الإسلامية، واستنباط الأحكام للقضايا المستجدة التي لم ينص عليها القرآن، ولم تنص عليها السنة ببيان صريح واضح, وإنما يمكن استنباط حكمها بالقياس على ما جاء فيهما، أو بإدراك مقاصد الشريعة التي دلت عليها الأحكام المبينة في الكتاب والسنة. وقد برز بالفتيا في قضايا الفقه الإسلامي من أعلام التابعين، الملتزمين منهج الصحابة، عدد جم في مختلف بلدان العالم الإسلامي، في المدينة المنورة، وفي مكة المكرمة، وفي الكوفة، وفي البصرة، وفي غيرها من الأمصار. أولًا: من برز في المدينة أما من برز في المدينة من التابعين الذين كانوا يفتون في مسائل الفقه الإسلامي فكثيرون، أشهرهم الفقهاء السبعة، وهم: 1- "سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي 13-94هـ" كان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته، لم يدركه الإمام مالك، ولكنه أخذ عن تلميذه "ابن شهاب".

2- "عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي 22-93هـ" كان أحد الفقهاء السبعة في المدينة، وهو ابن أسماء أخت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وشقيق عبد الله بن الزبير. 3- "أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي القرشي 000-94هـ" كان من سادات التابعين، وكان يلقب براهب قريش، ولد في خلافة عمر، وكان مكفوفًا، وقد أخذ عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وتوفي في المدينة. 4- "عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي 000-98هـ" روى عن عائشة وابن عباس وغيرهما، كان أستاذًا لعمر بن عبد العزيز، وكان له أثر في تفكيره واتجاهه. 5- "خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري 29-99هـ" وقد تلقى علم أبيه، واشتهر بالرأي كما اشتهر أبوه، وكان على علم بالفرائض كأبيه. 6- "القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه 37-107هـ" وهو ابن اخي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد نقل علمها، وقد كان فقيهًا راويًا للحديث، وكان فيه همة وكياسة. 7- "سليمان بن يسار 34-107هـ" مولى ميمونة أم المؤمنين روى عن زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وأم المؤمنين ميمونة، وأم المؤمنين أم سلمة، وكان سعيد بن المسيب إذا أتاه مستفت يقول له: اذهب إلى سليمان، فإنه أعلم من بقي اليوم. وقد نقل علم هؤلاء السبعة وغيرهم عالمان من صغار التابعين هما: - ابن شهاب الزهري، وهو "محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري القرشي 58-124هـ". - ربيعة الرأي، وهو "ربيعة بن فروخ التيمي بالولاء 000-136هـ" كان إمامًا حافظًا فقيهًا مجتهدًا وكان بصيرًا بالرأي.

وقد أخذ الإمام مالك إمام دار الهجرة، العلم عن هذين الرجلين في المدينة. ومن غير الذين عرفوا بالفقهاء السبعة في المدينة من التابعين، أتوه بالفقهاء التالية أسماؤهم: 1- "سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب 000-106هـ". 2- "عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب 000-147هـ". 3- "أبان بن عثمان بن عفان 000-105هـ". 4- "نافع المدني مولى عبد الله بن عمر 000-117هـ". ثانيًا: من برز في مكة المكرمة وأما أشهر من برز في مكة المكرمة من فقهاء التابعين فهم: 1- عطاء بن أبي رباح، وهو "عطاء بن أسلم بن صفوان 27-114هـ" كان عبدًا أسود، ولد باليمن، ونشأ في مكة، فكان مفتي أهلها ومحدثهم. 2- "طاوس بن كيسان الخولاني الهمداني بالولاء 33-106هـ" من أكابر التابعين فقهًا في الدين ورواية للحديث، وجرأة في موعظة الخلفاء والملوك. 3- "مجاهد بن جبير 21-104هـ" مولى بني مخزوم. 4- "عمرو بن دينار الجمحي بالولاء 46-126هـ" كان مفتي أهل مكة. ثالثًا: من برز في الكوفة وأما أشهر من برز في الكوفة من فقهاء التابعين فهم: 1- "علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي الهمداني 000-62هـ" كان فقيه العراق، ويشبه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في هديه وسمته وفضله، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى الحديث عن الصحابة، وقد سكن الكوفة وتوفي بها.

2- "الأسود بن يزيد بن قيس النخعي 000-75هـ" كان عالم الكوفة وفقيهها في عصره. 3- "مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني 000-63هـ" وهو تابعي ثقة فقيه، كان أعلم بالفتيا من شريح القاضي، من أهل اليمن وسكن الكوفة. 4- "عبيدة بن عمرو "أو قيس" السلماني المرادي 000-72هـ" أسلم باليمن، وهاجر إلى المدينة في زمان عمر، وسكن الكوفة، وتفقه روى الحديث، وكان يوازي شريحًا في القضاء. 5- "شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي 000-78هـ" أصله من اليمن، ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية، واستعفى في أيام الحجاج فأعفاه سنة "77هـ". كان ثقة في الحديث مأمونًا في القضاء، عمر طويلًا، ومات بالكوفة. وبعد أعلام الطبقة الثانية أمثال: "حماد بن أبي سليمان، منصور السلمي، المغيرة الضبي، سليمان الأعمش" انتهت رياسة مدرسة الكوفة إلى أربعة أعلام، وهم: 1- ابن أبي ليلى، وهو "محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى من بلال الأنصاري الكوفي 74-148هـ" قاض فقيه من أصحاب الرأي، ولي القضاء والحكم بالكوفة لبني أمية، ثم لبني العباس، مات بالكوفة. 2- شريك القاضي، وهو "شريك بن عبد الله بن الحارث النخعي الكوفي 95-177هـ" كان عالمًا بالحديث، وفقيهًا، اشتهر بقوة ذكائه وسرعة بديهته، استقضاه المنصور العباسي على الكوفة. كان عادلًا في قضائه، مولده في بخارى، ووفاته بالكوفة. 3- ابن شبرمة، وهو "عبد الله بن شبرمة بن طفيل بن حسان الضبي ... -144هـ" كان فقيه العراق، وكان قاضي الكوفة. 4- أبو حنيفة، وهو "النعمان بن ثابت، التيمي الكوفي 80-150هـ"

الفقيه المجتهد العبقري، إمام المذهب الحنفي المنسوب إليه، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، ولد ونشأ بالكوفة، رفض تولي القضاء ورعًا، فحبسه المنصور لرفضه تولي القضاء. رابعًا: من برز في البصرة وأما أشهر من برز في البصرة من فقهاء التابعين فهم: 1- "الحسن بن يسار البصري 21-110هـ" كان إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه، وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك، ولد بالمدينة، وشب في كنف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسكن البصرة. 2- "محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء 33-110هـ" تفقه وروى الحديث واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا. 3- "كعب بن سور الأزدي" قاضي البصرة، وليها لعمر وعثمان، كان من نبلاء الرجال وعلمائهم، قام يوم الجمل يعظ الناس ويذكرهم، فجاءه سهم غرب1 فقتله. خامسًا: بعض البارزين في الأمصار الأخرى وبرز في الأمصار الأخرى من الفقهاء آخرون، ومنهم: 1- "الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي بالولاء 94-175هـ" كان إمام أهل مصر في عصره حديثًا وفقهًا، أخباره كثيرة، وله تصانيف. قال الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به. 5- الفقه الإسلامي في عصر ظهور الأئمة المجتهدين وتكون المذاهب الفقهية: بعد عصر فقهاء التابعين ظهر في العالم الإسلامي تلاميذهم وهم فقهاء تابعي التابعين، وقد بدأ في هذا العصر ظهور الأئمة المجتهدين الكبار، وتكون

_ 1 السهم الغرب هو السهم الذي لا يُدرى راميه.

المذاهب الفقهية المؤيدة بالأتباع من تلاميذهم الفقهاء، والمصحوبة بتدوين فقه هذه المذاهب. - فتكونت بالعراق مدرسة فقهية ذات منهاج تستهدي به للتعرف على الأحكام الشرعية للسلوك الإرادي الإنساني في مختلف شئون الحياة وقضاياها. وقد برز في الكوفة شيخ القياس الإمام العبقري أبو حنيفة النعمان بن ثابت "80-150هـ إمام المذهب الحنفي، أحد المذاهب الفقهية المعتمدة عند أهل السنة. - ثم تكونت بالحجاز مدرسة فقهية ذات منهاج قد يلتقي وقد يفترق مع مدرسة العراق، وهي مدرسة تستهدي بمنهاجها للتعرف على الأحكام الشرعية للسلوك الإرادي الإنساني في مختلف شئون الحياة وقضاياها. وقد برز في المدينة المنورة إمام دار الهجرة "مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري 93-179هـ" أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه ينسب المذهب المالكي. طلب منه المنصور أن يضع كتابًا للناس يحملهم على العمل به فصنف كتابه المشهور: "الموطأ" وله مصنفات أخرى. وقد أفردت ترجمته في مصنفات للسيوطي، ولأبي زهرة، ولأمين الخولي. وقد قيض الله له تلاميذ دونوا آراءه في مسائل الفقه حتى كانت مذهبًا منفصلًا. - ثم تكونت بالشام مدرسة ثالثة قد تلتقي وقد تفترق في منهاجها مع مدرسة العراق. وقد برز في الشام الإمام الأوزاعي، وهو "عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي من قبيلة الأوزاع 88-157هـ" إمام الديار الشامية في الفقه، نشأ في البقاع، وسكن ببيروت وتوفي بها.

له كتاب "السنن" في الفقه، وكتاب "المسائل". إلا أن الله عز وجل لم يقيض لمذهبه من يقوم به وينشره، ويدونه. - وكان للشيعة مدارسهم الفقهية المنفصلة بمناهجها عن مناهج فقهاء أهل السنة، ودون تلاميذ كل إمام من أئمتهم آراءه الفقهية، حتى كانت مذهبًا مدونًا. - وكان للخوارج مدرستهم الفقهية التي تهيأ لها من يدونها مذهبًا منفصلًا. - وبرز في مصر الليث بن سعد، وقد سبقت ترجمته آنفًا، ولكن لم يدون أتباعه مذهبه. - ثم برز الإمام الشافعي، وهو "محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي 150-204هـ" أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه ينسب المذهب الشافعي. برز أولًا في العراق، ثم انتقل إلى مصر وبرز فيها، وقد قيض الله له تلاميذ دونوا آراءه في مسائل الفقه، حتى كانت مذهبًا منفصلًا، وتوفي بمصر. برع في الشعر واللغة وأيام العرب، ثم أقبل على الفقه والحديث، وأفتى وهو ابن عشرين سنة، وقد كان ذا ذكاء فذ، وحافظة نادرة. وله تصانيف كثيرة، أشهرها كتاب "الأم" في سبع مجلدات، جمعه تلميذه البويطي. وقد أفردت كتب كثيرة لترجمته وتفصيل سيرة حياته. - ثم برز الإمام أحمد بن حنبل في العراق، وهو "أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني الوائيل 164-241هـ" أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه يُنسب المذهب الحنبلي. ولد ببغداد، وطلب العمل وحفظ الحديث، ورحل رحلات كثيرة في طلب العلم، له مصنفات كثيرة أشهرها كتابه "المسند" في ستة مجلدات مضغوطة. وقد قيض الله له تلاميذ دونوا آراءه في مسائل الفقه، حتى كانت مذهبًا منفصلًا. وتميزت مذاهب الأئمة الثلاثة "مالك، والشافعي، وأحمد" بشدة التحري

بحثًا عن السنة النبوية، لاستنباط الأحكام الفقهية منها ومن القرآن، دون إهمال القياس وسواء في الاجتهاد الذي يعتمد على الرأي المستهدي بهدي القرآن والسنة في الأصول التي يصح الاعتماد عليها في استنباط الأحكام. وتميز مذهب الإمام أبي حنيفة -مع اعتماده على استنباط الأحكام من القرآن وما بغله من السنة- بشدة إعمال الرأي في قياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض، وإعطاء المقيس حكم المقيس عليه، وبشدة التعمق الفكري بغية إدراك الحق وتحقيق العدل، وبغية إدراك المصالح والمفاسد التي اقتضت حكمة الشارع أن تجعلها هي الأساس فيما يأمر به أو ينهى عنه أو يضع له من أحكام، ولا شك أن هذا المنهج له مستند من القرآن والسنة، وربما كان أكمل لو أضيفت إليه الأدلة التي لم تبلغ الإمام أبا حنيفة وأصحابه من السنة النبوية. أما التكاليف التعبدية التي قد يستوي في مدارك الناس المأمور به منها ونظيره، وقد يستوي في مدارك الناس المنهي عنه منها ونظيره، والغرض من هذه التكاليف مجرد امتحان الطاعة وتدريب المؤمنين عليها، مع اقتران ما اختاره الشارع من تكليف بالفعل أو بالترك بحكم معقولة، قابلة للاستخراج والاستنباط من قبل أهل الفكر والرأي، الذين يبحثون بعمق وبصيرة، فالحق فيها اتباع السنة على ما صح من بيانها، أو كان كافيًا للاحتجاج به، سواء أدركنا الحكمة أم لم ندركها. - وانفر داود الظاهري، وهو "أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني 201-270هـ" الملقب بالظاهري، وإليه تنسب الفرقة الظاهرية بالإعراض عن الرأي والقياس، والأخذ بظاهر الكتاب والسنة، وكان أول من جهر بهذا القول، وهو أصبهاني الأصل من أهل قاشان، ولد في الكوفة، وسكن بغداد، وتوفي بها. وتبعه في ظاهريته الإمام ابن حزم، وهو "علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري 384-456هـ" عالم الأندلس في عصره، وكان في الأندلس خلق كثير ينتسبون إلى مذهبه، يقال لهم: "الحزمية". ولد بقرطبة، له مصنفات كثيرة، وقد حمل حملة شعواء على أهل الرأي والقياس، وكتب كتبًا في إبطال القياس

والرأي، وغلا غلوًّا نفر من العلماء وتلاميذهم، فأقصته الملوك، فرحل إلى بادية "لبله" من بلاد الأندلس، وتوفي فيها. وأصل فقهاء المذاهب الأصول، وقعدوا القواعد، وبلغوا في استخراج أحكام الفقه وتأصيل أصوله وتقعيد قواعده ذروة حضارية عظيمة، وكانوا بهذا أمة فذة لم يسبقهم فيه سابق في تاريخ الأمم. وهذه كتب الفقه الإسلامي التي دُونت وحُررت فيها مذاهب الفقهاء التي تكاد تفوق كل تصور شاهدة على هذا العمل الحضاري النابع من منابع القرآن المجيد، والسنة النبوية المطهرة المبينة له.

المقولة الثانية: تأسيس علم أصول الفقه الإسلامي وتدوينه

المقولة الثانية: تأسيس علم أصول الفقه الإسلامي وتدوينه ظهرت جدليات حول اعتماد بعض الفقهاء في تقرير الأحكام الفقهية أو استنباطها، على بعض مناهج وأصول خالفهم فيها آخرون، فدعت الحاجة إلى إقامة البراهين والأدلة المقبولة شرعًا على صحة ما هو صحيح منها، وعدم صحة ما هو غير صحيح منها، وعلى ترجيح ما هو الأرجح منها على غيره، مع بعض اختلاف في وجهات النظر. فظهرت مكتوبات أولى على شكل رسائل تتضمن قواعد تأصيلية لما يجب الاعتماد عليه، ولما يجوز الاعتماد عليه، ولما لا يجوز الاعتماد عليه. ويعتبر أتباع المذهب الحنفي أن أول من صنف في علم أصول الفقه "أبو حنيفة النعمان" إمام المذهب في كتاب له اسمه "كتاب الرأي" قالوا: وقد بين فيه طرق الاستنباط. ويرى الآخرون أن أول من وضع "علم أصول الفقه" هو الإمام الشافعي،

في الرسالة التي كتبها لعبد الرحمن بن مهدي الإمام الحافظ، وأعاد تصنيفها لما رحل إلى مصر، والموجود الآن هي الرسالة الجديدة. قال بدر الدين الزركشي في كتاب البحر المحيط في الأصول1: "الشافعي أول من صنف في أصول الفقه، صنف فيه كتاب الرسالة، وكتاب أحكام القرآن، واختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وكتاب جماع العلم، وكتاب القياس". وقال ابن حجر عنه: فكان بحق أول من أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف. وقال فخر الدين الرازي2: "كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية ترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونًا كليًّا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع". ثم اجتهد علماء المسلمين من كل المذاهب الفقهية يستخرجون القواعد التأصيلية التي تحدد منهاج الفقه الذي يتوجه لاستنباط أحكام السلوك الإنساني الإرادي، من مصادر التشريع الإسلامي، لئلا يكون عمل المجتهدين الذين يستنبطون أحكام الفروع عملًا فوضويًّا، لا يخضع لقواعد مبينة محررة. ونجم عن هذا التوجه السديد ابتكار علم غاية في عمق النظر العقلي، وغاية في تحرير القواعد الأصول، وبيان المنهاج الذي يجب على مستنبط أحكام الفروع الفقهية أن يسير عليه. هذا العلم هو "علم أصول الفقه" الذي لم يوجد نظيره لدى أمة من الأمم السابقة. وتبارى العلماء الأذكياء والعباقرة من الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، في كتابة المؤلفات المحررة الدقيقة في هذا العلم، الذي اقترنت قضاياه ومسائله

_ 1 انظر مقدمة "الرسالة" لمحققها وشارحها "أحمد محمد شاكر". 2 انظر كتاب "مناقب الشافعي" له ص57.

بالبراهين والحجج المؤيدة لأمهاتها، والناصرة لمسائل الخلاف فيها، حتى توافر منها في المكتبة الإسلامية ذخائر تعتبر بحق مفخرة من مفاخر الأمة الإسلامية. والغرض من تأسيس هذا العلم العظيم خدمة الإسلام وأحكامه الضابطة لسلوك العباد الاختياري. أما واضعو القوانين التي تعتمد على الآراء البشرية, وعلى أهوائهم ومصالحهم أو مصالح من هم منحازون إليهم من فئات أو طبقات، فلم يجدوا مندوحة عن أن يعترفوا بمجد "علم أصول الفقه" عند المسلمين، وأن يستفيدوا من بعض قواعده في بحوث الألفاظ، وبعض مسائله في القياس، وفي المصالح المرسلة، وفي الاهتمام ببعض الكليات الخمس، التي تعتبر المحافظة عليها من مقاصد الشريعة الإسلامية، وهي "الدين، النفس، العقل، النسل، المال". فكل ما يحفظ هذه الكليات أو شيئًا منها فهو مصلحة، وكل ما يخل بواحد منها فهو مفسدة، على اختلاف المراتب والدرجات فيما بينها، فمنها ما هو من مرتبة الضروريات، وهي المرتبة العليا ولها درجات متعددات، ومنها ما هو من مرتبة الحاجيات، وهي المرتبة الوسطى ولها درجات متعددات، ومنها ما هو من مرتبة التحسينيات، وهي المرتبة الدنيا ولها أيضًا درجات متعددات. فعلم "أصول الفقه" ظاهرة حضارية عظمى، وهو من ابتكار واستخراج الأمة الإسلامية.

الفصل السادس: نشأة علمي التاريخ والجغرافية والتدوين فيهما

الفصل السادس: نشأة علمي التاريخ والجغرافية والتدوين فيهما المقولة الأولى: نشأة علم التاريخ البشري والتدوين فيه لدى المسلمين ... المقولة الأولى: نشأة علم التاريخ البشري والتدوين فيه لدى المسلمين 1- القرآن الكريم وعنايته بالتوجيه للاتعاظ والاعتبار بالتاريخ الإنساني: 1- أبان القرآن المجيد كيف أنشأ الله بحكمته الإنسان الأول وزوجه، وكيف بث منهما السلالات البشرية، وأن الغاية من هذا الخلق ابتلاء الناس المؤهلين للابتلاء في ظروف الحياة الدنيا. 2- وأبان القرآن المجيد قصة إسكان الله آدم وزوجه الجنة إسكان اختبار وابتلاء، وأنه حذرهما من عدوهما وعدو ذرياتهما إبليس وجنوده، وحذرهما من دسائسه ووساوسه وتسويلاته، وأنه حريص على أن يخرجهما من الجنة حقدًا وحسدًا؛ لأن الله فضلهما هما وذرياتهما عليه، وعلى ذريته، وأمره بالسجود لآدم مع الملائكة فأبى وعصى، فطرده الله ولعنه. وأبان القرآن أن الله عز وجل لما أسكن آدم وزوجه الجنة أذن لهما بأن يأكلا منها من كل ما يشاءان، باستثناء شجرة معينة نهاهما عن أن يأكلا منها، فإذا عصيا وأكلا منها أخرجهما منها عقوبة لهما على معصيتهما، وأهبطهما إلى الأرض، وعندئذ يكون دخول الجنة لآدم وزوجه وذرياتهما مشروطًا باجتياز رحلة الامتحان في الأرض بنجاح، ثم بعد برزخ موت يكون بعث إلى يوم الدين، يوم الحساب وفصل القضاء وتنفيذ الجزاء. فمن آمن وأسلم ولم يشرك بالله شيئًا دخل الجنة دخول جزاء، وكان فيها من الخالدين. ومن كفر وعصى ولو من مستوى الشرك بالله في ربوبيته أو إلهيته دخل النار دخول جزاء أيضًا وكان فيها من الخالدين.

ومن عصى من دون الشرك استحق من العقاب على مقدار معاصيه، ثم يكون مصيره دخول الجنة بسبب إيمانه الصادق وإعلانه الإسلام لله المقرون بعمل يدل عليه. 3- وأبان القرآن المجيد أول جريمة قتل وجدت في السلالات البشرية، ولقطات من أحداثها، بقصة قابيل وهابيل. وأشار إلى أول انحراف شركي في البشرية بقول الله عز وجل في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . 4- وأبان القرآن المجيد قصص طائفة من أنبيائه ورسله ورسالاته للأمم منذ عهد آدم حتى بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وكيف كانت دعوة الرسل لأقوامهم، وكيف واجهت الأقوام والأمم دعوات رسل ربهم عليهم الصلاة والسلام. ومن هذه القصص ما كان مجملًا، ومنها ما اقترن بتفصيل ما تدعو الحكمة إلى تفصيله من أحداث. وأبان أيضًا مصير مكذبي رسل الله من الأمم السابقة، وهو الهلاك والتدمير، بمقتضى حكمة الله العلي القدير. وأبان أن من الرسل من قص علينا لقطات من قصصهم، ومنهم من لم يقص علينا شيئًا من قصصهم، مشيرًا إلى أن أحوال من لم يقص علينا قصصهم مشابه لأحوال من قص علينا لقطات من قصصهم؛ لأن سنة الله عز وجل في الخلق واحدة، لا تبديل لها ولا تحويل. والمتتبع لقصص القرآن يلاحظ بوضوح أنها حقائق تاريخية منتقيات، لما فيها من عبر وعظات، ولما فيها من بيان لظاهرات الاجتماع البشري، في مجال السلوك الإرادي الإنساني، مقابل كون البشر موضوعين في الحياة الدنيا موضع الامتحان، ولما فيها من دلالات واضحات على سنة الله الثابتة في العدل

والجزاء، ضمن ظروف الابتلاء، وهذه السنة لا تبديل لها ولا تحويل. 5- ووجه القرآن المجيد لتتبع آثار أهل القرون الأولى والتنقيب عنها، لمعرفة ما جرى لهم والاتعاظ والاعتبار به. فمنه قول الله عز وجل في سورة "النمل: 27 مصحف/ 48 نزول": {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} . فجاء في هذا النص العطف بالفاء في "فانظروا" للدلالة على وجود آثار منظورة لعاقبة بعض المجرمين السابقين، وهي لا تحتاج إلى بحث وتنقيب. ومنه قول الله عز وجل في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول": {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} . فجاء في هذا النص العطف بحرف العطف "ثم" في: "ثم انظروا" للدلالة على وجود آثار مطمورة غير منظورة لعاقبة بعض المجرمين السابقين، الذين كذبوا رسل ربهم، وهي تحتاج إلى بحث وتنقيب، أي: فابحثوا في الآثار ونقبوا، فإنكم ستنظرون كيف كان عاقبة المكذبين. 6- وقد تتبع المؤرخون المسلمون القصص القرآنية بالجمع والتحليل والتكميل ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا، من الأخبار المروية بالسماع عن الأمم السابقة، ومن المكتوبات لدى أهل الكتاب ولدى غيرهم من الأمم، ودونوا ما توصلوا إليه فيما عرف بقصص القرآن. 7- وأبان القرآن المجيد صفات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الخلقية، وجاء في نجوم التنزيل منه بيان لأحداث مهمة من سيرته مع كفار قومه، وسيرته مع أصحابه، وسيرته مع زوجاته، وسيرته في غزواته. وتابع بالتعليق التوجيهي على أهم أحداث سيرته وسيرة الذين كانوا معه منذ بعثته حتى وفاته. وكان هذا التوجه القرآني هو الأساس الباعث والموجه لكتابة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده، استفادة مما جاء في القرآن، وتتبعًا للمرويات في السنة

من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأفعاله وإقراراته، نظرًا إلى أن السنة النبوية تشتمل على كثير من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. واشتملت كتب التفسير على تتبع مناسب لقصص الأنبياء والمرسلين وأقوامهم، وشرحت بعض ما جاء في القرآن من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. ودخلت قصص الأنبياء والمرسلين وأقوامهم، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في كتب التاريخ، باعتبارها جزءًا من التاريخ الإنساني، ثم أفرد كل منهما بمؤلفات خاصة، منها المطول ومنها المختصر، ومنها المحرر المنقح، ومنها الجامع الموسع الذي ينقصه التحرير والتنقيح والإتقان. 2- نشأة تدوين السيرة النبوية ومغازي الرسول صلى الله عليه وسلم: كانت سيرة حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأحداث مغازيه موزعة، فطائفة منها مذكورة أو مشار إليها في القرآن المجيد، ويحتاج استخراجها بالترتيب تتبع نجوم تنزيل القرآن بحسب ترتيب نزوله. وطائفة منها موجودة في روايات الأحاديث والأخبار التي اهتم بها المحدثون، وطائفة كانت متداولة بالروايات على ألسنة الصحابة الذين عاشوا أحداثها وشارك معظمهم فيها، ثم ما تلقاه التابعون منهم. ولما تم ترتيب مرويات الأحاديث في أبواب لدى بعض المحدثين، أفردت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبار مغازيه في أبواب من بعض كتب الحديث، ففي صحيح البخاري: "كتاب المغازي" وفي صحيح مسلم "كتاب الجهاد والسير" وفي مسند الإمام أحمد "المغازي". وأفردت أيضًا هذه السيرة النبوية وأخبار مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم في كتب خاصة تعتبر بدايات تدوين لهذا الموضوع من عموم التاريخ الإنساني. - فكان للتابعي: "عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي 22-93هـ" مرويات في السيرة والمغازي أخذها عنه: 1- ابنه "هشام بن عروة بن الزبير بن العوام 61-146هـ".

2- وابن شهاب الزهري، وهو "محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري القرشي 58-124هـ" أحد كبار المحدثين الحفاظ، والفقهاء، وهو تابعي من أهل المدينة. وكثير من مرويات "عروة بن الزبير بن العوام" مدونة لدى مؤرخي السيرة والمغازي، ضمن كتب التاريخ التي ألفوها، أو كتب السيرة التي أفتردوها بالتأليف، أمثال: "محمد بن إسحاق، والواقدي، والطبري، وابن سعد، وابن هشام" الآتي شيء من البيان عنهم إن شاء الله. - وكان للتابعي "أبان بن عثمان بن عفان 000-105هـ" صحف فيها أحاديث عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ثقة، إلا أنه كان قليل الحديث. وقد كان "أبان بن عثمان" واليًا على المدينة لـ"عبد الملك بن مروان" سبع سنين. وقد عرف بالفقه وبالحديث. - وكان من رواة المغازي النبوية التابعي "شرحبيل بن سعد الخطمي المدني مولى الأنصار 000-123هـ". فقد كان عالمًا بالمغازي والبدريين، وكان يفتي ويروي الحديث، وفي روايته ضعف. وقد روى كثيرًا عن الصحابي "زيد بن ثابت" والصحابي "أبي سعيد الخدري" والصحابي "أبي هريرة" رضي الله عنهم. ورُوي عنه أنه كتب كتبًا بأسماء من هاجر من مكة إلى المدينة، وأسماء من اشتركوا في غزوة بدر، وأسماء من اشتركوا في غزوة أحد. ودخل تدوين السيرة النبوية ضمن مدونات عموم التاريخ، ثم دونت مفردة في كتب كثيرة منها المطولات، ومنها المختصرات. وبعض كتب السيرة النبوية يحتاج إلى تنقيح وتحرير وانتقاء للصحيح، وبعضها أكثر ضبطًا وتحريرًا وتنقيحًا، واتجه الباحثون أخيرًا للاستفادة المدققة من كتب السنة، ولاستخراج فقه السيرة استنباطًا من وقائعها وأحداثها، ومن متابعات

القرآن المجيد لها، بالتعليقات والبيانات التوجيهية المنبهة على العظات، وأشير إلى أن هذا الموضوع يحتاج إلى متابعة وتكميل. وللمؤرخين المسلمين جميعًا كتابات مدونة في السيرة النبوية ضمن كتب التاريخ العام، وكثير منهم أفردوا السيرة النبوية بكتب خاصة، ومع هذا فيحسن التنويه بالرواد الذين أفردوا السيرة النبوية كلها أو بعضها بكتب خاصة، فمنهم على ما ذكر المتتبعون: 1- "موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي بالولاء 000-141هـ" مولى آل الزبير، كان عالمًا بالسيرة النبوية، ومن ثقات رجال الحديث، وهو من أهل المدينة، مولده ووفاته فيها. له "كتاب المغازي" قال الإمام أحمد بن حنبل: عليكم بمغازي ابن عقبة فإنه ثقة. 2- "معمر بن راشد بن أبي عمرو الأزدي من الموالي 95-153هـ" كان عالمًا بالسيرة، فقيهًا، حافظًا للحديث، متقنًا، ثقة، وهو من أهل البصرة، ولد واشتهر فيها، وسكن اليمن. له كتاب "المغازي" لم يعثر على نسخة منه، ولكن نقلت عنه مقتطفات في كتب التاريخ التي كتبها المؤرخون: "الواقدي، وابن سعد، والبلاذري، والطبري" الآتي شيء من البيان عنهم إن شاء الله. 3- "محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء المدني 000-151هـ" هو من أقدم المؤرخين المسلمين، له كتاب "السيرة النبوية" هذبه ابن هشام: "جمال الدين أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري 000-213هـ" كان عالمًا بالأنساب، واللغة، وأخبار العرب، ولد ونشأ في البصرة، وتوفي بمصر، أشهر كتبه "السيرة النبوية- ط" الذي هذب فيه كتاب "ابن إسحاق". "ومحمد بن إسحاق" من حفاظ الحديث، وله كتاب "الخلفاء" وكتاب "المبتدأ".

قال ابن حبان: لم يكن أحد بالمدينة يقارب ابن إسحاق في علمه، أو يوازيه في جمعه. 4- أبو معشر السندي، وهو "أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي 000-170هـ". فقيه، وله معرفة بالتاريخ، أصله من السند، أقام في المدينة، إلى أن اصطحبه المهدي العباسي معه إلى العراق سنة "160هـ". له كتاب "المغازي" نقل عنه: "الواقدي" و"ابن سعد" الآتي شيء من البيان عنهما. 5- ابن حبيش، وهو "أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الأنصاري الأندلسي 504-584هـ". اشتهر بابن حبيش، وحبيش خاله، وقد نسب إليه، ولي القضاء بجزيرة شقر، ثم بمرسية، وتوفي فيها. له كتاب "المغازي" في عدة مجلدات، وفي كتابة هذا أخبار كثيرة مقتبسة مما كتب الواقدي. ثم كثر المؤلفون في السيرة النبوية: - فمنهم: "محمد بن علي بن يوسف الشافعي الشامي المتوفى سنة 600هـ". - ومنهم: "ابن أبي طي يحيى بن حميد المتوفى سنة 630هـ". - ومنهم: "ظهير الدين علي بن محمد كازروني المتوفى سنة 694هـ". - ومنهم "علاء الدين علي بن محمد الخلاطي الحنفي المتوفى سنة 708هـ". - ومنهم: ابن كثير "عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير القرشي البصروي ثم الدمشقي 701-774هـ" في كتابه "السيرة

النبوية المطولة" وكتابة "السيرة النبوية المختصرة" وهو محدث حافظ مؤرخ فقيه، مكثر من التصانيف. - ومنهم: "ابن سيد الناس البصري الشافعي 661-734هـ". - ومنهم: "محمد بن يوسف الصالحي المتوفى سنة 942هـ" صاحب السيرة الشامية. - ومنهم "علي بن برهان الدين 975-1044هـ" صاحب السيرة الحلبية. وآخرون كثيرون. 3- نشأة تدوين التاريخ بصفة عامة: لكل أمة ذات حضارة تكتب وتقرأ تدوين تاريخي، لملوكها وشعوبها وأحداثها وحروبها وعلاقاتها بالأمم الأخرى، ولكل ما يهمها تدوينه من تاريخها قل ذلك أو كثر. وهذه الظاهرة من ظواهر الاجتماع البشري قد كان للأمة الإسلامية منها نصيب كبير وجليل. فللأمة الإسلامية تدوين تأريخي عظيم، وقد تميز هذا التأريخ بالدقة والإتساع، وانفرد عن تواريخ سائر الأمم بالتوسع العظيم في ترجمة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وترجمة أعلام التابعين، وأعلام العصور التالية، بتتبع عديم المثال بين الأمم، واقتدى بهم في هذا على قصور في بيان الصفات الخلقية، التي تميز خصائص الأعلام، المحددة لعدالتهم والثقة بأخبارهم ورواياتهم أو عدم الثقة بها، المؤرخون الغربيون والشرقيون، منذ ظهور الحضارة الغربية التي اقتبست نهضتها من الحضارة الإسلامية، التي أخذت بالانحسار والتقهقر بعد النكبات التي أصابتها في الحروب الصليبية، وفي الحروب الهمجية التي اندلعت نيرانها عليها من همج شعوب الشرق. وإذا تركنا تدوين السيرة النبوية الذي هو جزء من تدوين التاريخ الإنساني

العام، والذي سبق بيان موجز عنه، وتتبعنا أبرز كتاب التأريخ الإنساني العام، برز أمامنا الأعلام الآتي شيء من البيان عنهم بحسب تسلسلهم في التاريخ: 1- كعب الأحبار، وهو "أبو إسحاق كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري 72ق. هـ-32هـ". تابعي، كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن، وأسلم في زمن خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقدم المدينة في خلافة عمر رضي الله عنه، فأخذ عنه الصحابة وغيرهم كثيرًا من أخبار الأمم الغابرة، وأخذ هو عن الصحابة القرآن، وأخذ عنهم ما أخذ من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وخرج إلى الشام فسكن في حمص، وتوفي فيها عن مائة وأربع سنين. 2- وهب بن منبه، وهو "أبو عبد الله وهب بن منبه الأبناوي الصنعاني الذماري 34-114هـ". مؤرخ كثير الإخبار عن الكتب القديمة، عالم بأساطير الأولين، ذو معرفة واسعة بالإسرائيليات، معدود في التابعين، ولد ومات بصنعاء، ولاه عمر بن عبد العزيز القضاء فيها. 3- أبو مخنف الأزدي، وهو "أبو مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن محنف الأزدي الغامدي 000-157هـ". شيعي إمامي من أهل الكوفة، كان راوية عالمًا بالسير والأخبار، له تصانيف كثيرة في تاريخ عصره وما كان قبله بيسير، منها: كتاب "فتوح الشام" وكتاب "الردة" وكتاب "فتوح العراق" وله كتب في موقعة الجمل، وموقعة صفين، والنهروان، والأزارقة، و"الخوارج والمهلب" وغيرها من الكتب في التاريخ. قال المحدثون بشأنه: متروك الحديث يروي عن جماعة من المجهولين.

ولم يبق من كتبه الصحيحة النسبة إليه إلا ما نقله عنه ابن جرير الطبري في تأريخه. 4- سيف بن عمر، وهو "سيف بن عمر الأسدي التميمي 000-200هـ". كوفي الأصل، اشتهر وتوفي ببغداد، كان مؤرخًا من أصحاب السير، ومن كتبه: "الجمل" و"الفتوح الكبير" و"الردة". 5- الواقدي، وهو "محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي بالولاء 130-207هـ". من أقدم وأشهر المؤرخين في الإسلام، كان من حفاظ الحديث، ولد بالمدينة وانتقل إلى العراق سنة "180هـ" في أيام الرشيد، ولي القضاء ببغداد، واستمر إلى أن توفي فيها. له عدة مصنفات تأريخية، منها كتاب "الغازي النبوية" مطبوع و"فتح أفريقية" جزءان مطبوع، و"فتح العجم" مطبوع، و"فتح مصر والإسكندرية" مطبوع، و"أخبار مكة" و"الطبقات" و"فتوح العراق" و"سيرة أبي بكر ووفاته". قال الخطيب البغدادي: كان الواقدي كلما ذكرت له وقعة ذهب إلى مكانها فعاينه. أشهر من روى عنه كاتبه "محمد بن سعد" صاحب كتاب "الطبقات الكبير". 6- المدائني، وهو "أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله المدائني 135-225هـ". من أهل البصرة، سكن المدائن، ثم انتقل إلى بغداد، ولم يزل بها إلى أن توفي.

راوية، مؤرخ، كثير التصانيف، له ما يزيد على مائتي كتاب. قال ابن تغري بردى: وتأريخه أحسن التواريخ، وعنه أخذ الناس تواريخهم. 7- ابن سعد، وهو "أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الزهري مولاهم 168-230هـ". مؤرخ ثقة، وهو من حفاظ الحديث، ولد في البصرة، وسكن بغداد وتوفي فيها. صحب "الواقدي" المؤرخ زمانًا، فكتب له وروى عنه، وقد عُرف بكاتب الواقدي. قال الخطيب في تاريخ بغداد: محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدل على صدقه. له كتاب "طبقات الصحابة" اثنا عشر جزءًا، ويعرف هذا الكتاب بطبقات ابن سعد. 8- البلاذري، وهو "أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري 000-279هـ". مؤرخ جغرافي نسابة، من أهل بغداد، جالس المتوكل العباسي، من كتبه "فتوح البلدان" و"البلدان الكبير" ولم يتمه. 9- اليعقوبي، وهو "أبو يعقوب أحمد بن إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبي 000-بعد 292هـ". مؤرخ جغرافي كثير الإسفار، من أهل بغداد، كان جده من موالي المنصور العباسي.

صنف كتبًا جيدة، منها: "تاريخ اليعقوبي" مطبوع، و"البلدان" مطبوع، و"أخبار الأمم السالفة" كتاب صغير. 10- ابن جرير الطبري، وهو "أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري 224-310هـ". إمام محدث، مؤرخ مفسر، ولد في آمل طبرستان، واستوطن بغداد، وتوفي بها، له مصنفات متعددة ضخمة، منها: "أخبار الرسل والملوك" مطبوع في 11 جزءًا، وهو معروف بتاريخ الطبري، و"جامع البيان في تفسير القرآن" مطبوع في 30 جزءًا، ويعرف بتفسير الطبري. وهو من ثقات المؤرخين، قال ابن الأثير: أبو جعفر أوثق من نقل التاريخ. وقد اجتهد أن يتتبع في تأريخه طريقة المحدثين القائمة على الرواية بالإسناد. 11- المسعودي، وهو "أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي 000-346هـ" من ذرية الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. مؤرخ رحالة بحاثة من أهل بغداد، أقام بمصر وتوفي فيها. له تصانيف كثيرة، منها: "مروج الذهب ومعادن الجوهر" مطبوع و"أخبار الزمان ومن أباده الحدثان" في نحو "30" مجلدًا بقي منه الجزء الأول مخطوطًا، و"الاستذكار بما مر في سالف الأعصار" وغيرها. وكتاب "مروج الذهب ومعادن الجوهر" يعتبر من عجائب المكتبة الإسلامية علمًا وثقافة وإحاطة بكل معارف عصر المسعودي، ووصفه ابن خلدون بأنه إمام المؤرخين.

12- مسكويه، وهو "أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه 000-421هـ". مؤرخ بحاث، أصله من الري، وسكن أصفهان وتوفي بها. اشتغل بالفلسفة والكيمياء والمنطق مدة، ثم أولع بالتاريخ والأدب والإنشاء. وقد ألف كتبًا نافعة، منها: "تجارب الأمم وتعاقب الهمم" مطبوع. 13- البيروني، وهو "أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزي 362-440هـ". فيلسوف رياضي مؤرخ جغرافي من أهل خوارزم. صنف كتبًا كثيرة جدًّا، وصفت بالإتقان، منها في التاريخ "الآثار الباقية عن القرون الخالية" مطبوع، و"تاريخ الأمم الشرقية" مطبوع، و"تاريخ الهند". 14- ابن الجوزي، وهو "أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي 508-597هـ". علامة عصره في التاريخ والحديث، كثير التصانيف، مولده ووفاته ببغداد، له نحو "300" مصنف، منها: "تلقيح فهوم أهل الآثار في مختصر السير والأخبار". 15- ابن الأثير، وهو "عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري 555-630هـ". إمام مؤرخ، ولد ونشأ في جزيرة ابن عمر، وسكن الموصل، وتجول في البلدان، وعاد إلى الموصل. من تصانيفه في التاريخ: "الكامل" مطبوع في اثني عشر مجلدًا، وهو

مرتب على السنين، وأكثر من جاء بعده من المؤرخين عيال عليه. وله كتاب "أسد الغابة في معرفة الصحابة، وله كتب أخرى. 16- الذهبي، وهو "شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي 673-748هـ" تركماني الأصل. محدث حافظ، ومؤرخ، وعلامة محقق، مولده ووفاته في دمشق. له تصانيف كبيرة وكثيرة تقارب المائة، منها: "تاريخ الإسلام الكبير" مخطوط، في "36" مجلدًا، طبع منها بعضها. 17- ابن كثير "701-774هـ" سبق الحديث عنه لدى الحديث عن كتاب السيرة النبوية، ومن كتبه في التاريخ: "البداية والنهاية" مطبوع في 14 مجلدًا، على نسق "الكامل" لابن الأثير. 18- ابن خلدون: وهو "أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون 732-808هـ" من ولد وائل بن حجر. فيلسوف، مؤرخ، عالم اجتماعي بحاثة، تعتبر نظراته وبحوثه في الاجتماع البشري بدايات تأسيسية لعلم الاجتماع. أصله من إشبيلية، ومولده ومنشأة في تونس. له في التاريخ كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر" مطبوع في "7" مجلدات، أولها المقدمة، وهي تعد من أصول علم الاجتماع. 19- المقريزي، وهو "تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي بن عبدي القادر الحسني العبيدي 766-845هـ".

مؤرخ الديار المصرية، أصله من بعلبك، وذكر أنه من تلاميذ ابن خلدون. له في التاريخ كتاب "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" وهو مطبوع، ويعرف بخطط المقريزي. وله "السلوك في معرفة دول الملوك" وغيرهما من كتب التاريخ. وكثر المؤرخون المسلمون كثرة مذهلة؛ لأن التاريخ الإنساني متعدد المجالات، ومتجدد دوامًا على توالي الأيام والشهور والسنين، وهو يحتاج في كل زمن من يؤرخ لأحداثه ولأعلامه في كل أرض وفي كل بلد من بلاد الدنيا. والتاريخ يعم المجتمعات الإنسانية على اختلاف تخصصاتها. ولا يقتصر على تاريخ الملوك والحكام والسلاطين والسياسات والحروب. بل يشمل كل تخصصات الناس العلمية والصناعية والزراعية والفينة وغيرها. ولهذا اهتم مؤرخون من المسلمين بتأريخ أعلام علماء الأمة الإسلامية، وصلحائها، ومجاهديها، والبارزين بفضيلة جليلة فيها، في كتب جامعة. واهتم مؤرخون آخرون بتأريخ أحداث الناس ووقائعهم وكل ما له أهمية وفيه عبرة وموعظة من قصصهم. واهتم مؤرخون كثيرون بكناية تاريخ مدن وبلدان معينة تأريخًا يشمل كل ما يتعلق أو يتصل بها، كتاريخ مكة المكرمة، أو المدينة المنورة، أو دمشق، أو القاهرة، أو بغداد، أو الكوفة، أو البصرة، أو القدس، ونحو ذلك. واهتم مؤرخون بإفراد بعض الأعلام بدراسة شاملة، كالشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبي حنيفة، ومالك بن أنس، وأحد الخلفاء الراشدين، وهكذا عبر تاريخ الأمة الإسلامية وأعلامها البارزين.

المقولة الثانية: نشأة علم الجغرافية والتدوين فيه لدى المسلمين

المقولة الثانية: نشأة علم الجغرافية والتدوين فيه لدى المسلمين ... المقولة الثانية: نشأة علم الجغرافية والتدوين فيها لدى المسلمين الجغرافيون هم مؤرخون إلا أنهم وجهوا اهتمامًا خاصًّا وعناية متميزة لوصف الأرض، وأقسامها، وأقاليمها، وبحرها، ويابسها، وجبالها، ووديانها، وطرقها، وأنهارها، ومناخات أجزائها، ومدنها، وقراها، ومنازلها، وسهولها، وغاباتها، وباديتها، وعامرها، وغامرها، وآثارها، وأعلامها، ومعالمها، ومقادير الطول والعرض لأجزائها، والأعلام فيها، وسكانها، ولغاتهم، وعادتهم، ومصادر ثرواتهم ومعايشهم، وطرائق عيشهم ومعاملاتهم، وصلاتهم، وسلمهم وحربهم، وكل ما يفهم الباحثين معرفته من الأرض ومن عليها وما عليها وما فيها. فمن المعروف أن علمي التاريخ والجغرافية صنوان لا يفترقان، وفرعان من شجرة واحدة، فالمؤرخ لا يكون متمكنًا في التاريخ إلا إذا كان لديه علم بالجغرافية، والجغرافي لا بد له من اطلاع واسع على التاريخ. وقد اعتمد المؤسسون الجغرافيون من المسلمين في معرفة أماكن الأرض وما عليها ووصفها على الرحلات, والمشاهدات البصرية لها، وعلى دراساتهم الميدانية المباشرة، ولم يعتمدوا على النقل من مكتوبات الأمم السابقة لهم كالإغريق والفرس والروم والهنود. وكان للمسلمين ابتكاراتهم الخاصة في رسم الخرائط التي كانوا يسمونها رسومًا وصورًا. والجغرافي المتمكن "د. حسين مؤنس" في كتابه الكبير "أطلس تاريخ الإسلام" يرفض بشدة الزعم الشائع بين الناس الذي يرى أن المسلمين أخذوا فن الخرائط عن الإغريق، وأن خرائطهم قامت على أساس خرائط بطليموس الإسكندري المتوفى في القرن المسيحي الثاني. ويرى أن الخرائط الإسلامية الأصلية هي خرائط البلدانيين والمسالكيين

الذين زاروا في رحلاتهم البلدان وسلكوا المسالك، وقام علمهم الجغرافي على الرحلة والمشاهدة المباشرة. أما ما أخذه بعض المسلمين عن الإغريق من علم الخرائط فهو الخرائط الفلكية، التي هي فرع من فروع علم الفلك القديم، وهو علم وهمي كله، لا أساس له من الصحة. وذكر أن خريطة الشريف الإدريسي الذائعة بين أيدي الناس هي أول خريطة كاملة للأرض عملها إنسان، وقد نشرها في أطلسه المذكور1. والجغرافيون في تاريخ الأمة الإسلامية كثيرون، ذكر "عمر رضا كحالة" في كتابه "التاريخ والجغرافية في العصور الإسلامية" من أعلام مؤلفيهم في هذا العلم اثنين وأربعين، وذكر موجزًا في التعريف بكل منهم والتعريف بمؤلفاتهم. وأقتبس هنا موجزًا عن بعض الموسوعيين المسلمين من الجغرافيين، والمدارس الجغرافية الأصيلة، من "د. حسين مؤنس" في كتابه "أطلس تاريخ الإسلام" فقد أبان أن مدرسة البلدانيين والمسالكيين هي مدرسة الجغرافيين والخرائطيين المسلمين الأصيلة، وأبان أنها ابتكار إسلامي خالص، بدأ على أيدي أوائل الموسوعيين وذكر أهم أعلام هذه المدرسة، وفيما يلي موجز عن أبرزهم أعمالهم العلمية2. 1- الإصطخري، وهو "أبو إسحاق بن محمد الفارسي الإصطخري، ويقال له: الكرخي ... -346هـ"3. جغرافي رحالة، من العلماء، من أهل "إصطخر" بإيران، وقد طاف ببلاد المسلمين، وجمع معلومات جغرافية دقيقة ووافية.

_ 1 انظر الصفحة 24 من "أطلس تاريخ الإسلام" للدكتور حسين مؤنس. 2 انظر الصفحات من "25-27" من الأطلس المذكور. 3 أورد "د. حسين مؤنس" في أطلسه باسم "أبو القاسم محمد بن إبراهيم الكرخي" ولكني أوردته كما جاء في "الأعلام" للزركلي، وكما جاء عند "عمر رضا كحالة" في كتابه "التاريخ والجغرافية في العصور الإسلامية".

وقد ألف كتابه "المسالك والممالك فيما بين سنتي "318-321هـ" وهو أول من رسم خريطة لعالم الأمة الإسلامية، على مذهب أهل الرحلة والمشاهدة الشخصية، وكل المسالكيين المسلمين الذين جاءوا بعده تأثروا به، ونقلوا من خرائطه، وهو أول خرائطي مسلم رسم خرائط الأقاليم التي كتب عنها، دون أن يتأثر باليونانيين في مذاهبهم الفلكية. وقد قسم أقاليم العالم الإسلامي في عصره إلى عشرين إقليمًا، واختص كل إقليم منها بخريطة. 2- البلخي، وهو "أبو زيد أحمد بن سهل البلخي 235-322هـ" أحد الكبار الأفذاذ من علماء المسلمين، جمع بين الشريعة والفلسفة والأدب والفنون، ولد في إحدى قرى "بلخ" وساح سياحة طويلة، ويعتبر المؤسس الحقيقي لمدرسة المسالكيين المسلمين، وله مؤلفات كثيرة. وضع كتابًا يسمى "صور الأقاليم" ويسمى أيضًا "أشكال البلاد" أو "تقويم البلدان" ويظن أن هذا الكتاب أول ما ألف المسلمون في الجغرافية الوصفية المسالكية، وقد رسم خرائط الأقاليم الإسلامية بالألوان على قدر ما تيسر له، وقد قيل: إن كتاب "الإصطخري" نقل عن كتاب "البلخي". 3- الجيهاني، وهو "أبو عبد الله أحمد بن محمد بن نصر الجيهاني المتوفى سنة 375هـ". استوزره أمير خراسان "إسماعيل الساماني". ألف الجيهاني كتاب "المسالك في معرفة الممالك" اعتمد فيه على الإصطخري وخرائطه، وأضاف إلى ذلك معلومات قيمة عن بلاد الهند والسند وإيران والصين وآسيا، وهذا الكتاب مفقود إلا أن الجغرافيين نقلوا عنه، ومنهم الإدريسي.

وقد وصلت إلينا خريطة العالم كما تصورها، وهي أول خريطة للأرض لم تتأثر بآراء اليونان، وإنما قامت على أساس البلدان والمسالك. 4- ابن حوقل، وهو "أبو القاسم محمد بن حوقل النصيبي البغدادي الموصلي، توفي بعد سنة 367هـ". هو ثالث المسالكيين العرب الكبار بعد "البلخي" و"الإصطخري" رحالة جغرافي اعتمد في كتابة جغرافيته ورسم خرائطها على رحلاته ومشاهداته، وكتابات ابن خرداذبة والإصطخري، له كتاب: "المسالك والممالك". وقد وصل إلينا نص كتاب "صورة الأرض" لابن حوقل، وخرائطه كلها، كما يقول: "د. حسين مؤنس". 5- المسعودي، سبقت ترجمته في المؤرخين برقم "11". هو رجل موسوعي، وعلم من أعلام الجغرافيين المسلمين، وخرائطه التي ذكر أنه رسمها لبعض الأقاليم مفقودة، لكن ذكرها الجغرافيون الذين جاءوا بعده ونقولا عنها، وهو يعد من أعلام مدرسة المسالكين الخرائطيين المسلمين. وقد وصلت إلينا خريطته للعالم، وهي تعد من أدق الخرائط العربية الإسلامية، يقول "د. حسين مؤنس": ومنها نرى أن المسعودي من أعظم الخرائطيين العرب، وأحسنهم تصورًا لصورة الأرض. 6- المقدسي، وهو "شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي، ويقال له: البشارى 336-نحو 380هـ". رحالة جغرافي، ولد في القدس، طاف أكثر بلاد المسلمين، وصنف كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" وهو مطبوع، وقد أثنى بعض المستشرقين

المتخصصين في الجغرافية على المقدسي إذ امتاز بكثرة ملاحظاته وسعة نظره وحسن ترتيبه. ومن الخرائط التي عثر عليها للمقدسي خريطة تتضمن الحقيقة الكبرى التي أطلع عليها "كولومبوس" وكانت أساسًا للكشف الكولومبي لأمريكا، الذي غير وجه التاريخ، ولهذا تعد ذروة علم الخرائط الإسلامية قبل الإدريس. 7- البتاني، وهو "أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان الحراني الرقي المعروف بالبتاني. ولد قبل سنة 244هـ وتوفي سنة 317هـ". فلكي مهندس، وهو صاحب كتاب "الزيج" المعروف بريج الصابي، مطبوع في ثلاثة أجزاء، ترجم إلى اللاتينية، وقيل: إنه أصح من زيج بطليموس1. له مصنفات متعددة في الفلك، ولم يعلم أحد في المسلمين بلغ مبلغ ابن جابر البتاني في تصحيح أرصاد الكواكب وامتحان حركاتها. وقال "لاند" الفلكي الفرنسي: "البتاني أحد الفلكيين العشرين الأئمة الذين ظهروا في العالم كله"2. ويقول: "د. حسين مؤنس" في كتابه "أطلس تاريخ الإسلام": وخريطته للعالم التي نشرناها هنا تعد أول خريطة جامعة مفصلة للعالم بعد خريطة بطليموس، وهي أصح من خريطة بطليموس؛ لأنه اتّبع في رسمها طريقة التسطيح البسيط، وخطوط الطول والعرض فيها مستقيمة، أما خريطة بطليموس فعملت على أساس التسطيح المخروطي. 8- الإدريسي، وهو "الشريف أبو عبد الله محمد بن محمد بن

_ 1 الزيج: كل كتاب يتضمن جداول فلكية يعرف منها سير النجوم، ويستخرج بواسطتها تقويم السنين. 2 انظر الأعلام للزركلي ص68 ج6.

عبد الله بن إدريس الإدريس الحسني الطالبي 493-560هـ". من أكابر العلماء بالجغرافية، وهو من أدارسه المغرب الأقصى، ولد في سبتة، ونشأ وتعلم بقربطة، ورحل رحلة طويلة انتهى بها إلى صقلية، فنزل على صاحبها "روجار الثاني" ووضع له كتابًا سماه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، مخطوط" وهو أصح كتاب ألفه العرب في وصف بلاد أوروبة وإيطالية. وله كتاب "روض الأنس ونزهة النفس" ويعرف بالممالك والمسالك، وكان له ولع بعلم الجغرافية، وكان بفطرته ذا عقلية علمية ممتازة. يقول "د. حسين مؤنس" في أطلسه: والكرة التي صنعها للأرض بناء على طلب "روجار الثاني" النورمندي، ملك صقلية، تعتبر عملًا مبتكرًا في فن الخرائط من بدايته إلى يومنا هذا، فهي خريطة للأرض مجسمة، رسمها في أول الأمر على الورق، ثم جسمها في صورة كرة من الفضة، ورسم عليها اليابس بالذهب، وبعد ذلك سطحها تسطيحًا بسيطًا يشبه ما جرى عليه "مركاتور" في عمل مسقط لخريطة الأرض المبسوطة، وعمل كل الحسابات الرياضية التي يتطلبها التحويل من الاستدارة إلى التسطيح. هذه لمحة عن اهتمامات المسلمين الجغرافية، وهي بمثابة نموذج من مقدار كبير قام به المسلمون في هذا العلم، المقترن بعلم التاريخ، ولا حاجة بنا إلى أكثر من هذا في هذا الموجز عن الحضارة الإسلامية.

الفصل السابع: اهتمام المسلمين بالعلوم التي تتعلق بآيات الله في الكون وأدواتها العقلية والتجريبية

الفصل السابع: اهتمام المسلمين بالعلوم التي تتعلق بآيات الله في الكون وأدواتها العقلية والتجريبية المقدمة: 1- الباعث الإسلامي للبحث العلمي في الكونيات: وجد المسلمون في النصوص الإسلامية ما يحثهم على النظر والبحث في آيات الله الكونية، في الأرض، وفي السماء، وفي الأنفس، وكان هذا هو الباعث لهم على الاهتمام والاشتغال بالعلوم الكونية والطبيعية المختلفة؛ لأن الاشتغال بحثًا في الكونيات من شأنه أن يكشف للباحث المتفكر ذي النظر الفاحص المدقق صفات الأشياء، وخصائصها، وأسبابها، وعللها، وكيفيات معالجاتها، وقوانينها، وطرائق الاستفادة منها، مع ما تدل عليه من عظمة الخالق الذي أتقن كل شيء صنعًا بإبداع من لدنه، وأنه واحد في ربوبيته لكونه، وفي إلهيته لعباده، لا شريك له. والنصوص القرآنية التي تتضمن الأمر أو التوجيه للنظر والتفكر في آيات الله في الكون، في الأرض والسماوات والأنفس كثيرة، منها النصوص التالية: 1- قول الله عز وجل في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول": {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} . 2- وقول الله عز وجل في سورة "ق: 50 مصحف/ 34 نزول": {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} .

3- وقول الله عز وجل في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول": {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . 4- وقول الله عز وجل في سورة "فصلت: 41 مصحف/ 61 نزول": {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . والتوجيه للنظر والتفكر في آيات الله في كونه كثير في القرآن المجيد، وتأثرًا بهذا التوجيه الفياض انطلق المؤهلون من علماء المسلمين يبحثون في الكونيات، في الأرض وفي السماوات وفي الأنفس، لمعرفة خصائص الأشياء وقوانينها وطرائق الاستفادة منها، وكان لهم اكتشافاتهم الخاصة، وابتكاراتهم بحسب الإمكانات التي تهيأت لهم في سلم الإرتقاء الحضاري، حتى تجمعت عليهم نكبات مختلفات متواترات من الغرب والشرق، فأوقفت حركة ارتقائهم الحضاري المتجدد. 2- غمط معظم الغربيين ومن تأثر بهم للأمة الإسلامية في ميادين العلوم: لم يُنصف المسلمين، ولم يقل الحق، الذي أشاعوا من الغربيين وغيرهم أن المسلمين لم يكن منهم في مجالات العلوم الطبيعية، وسائر الكونيات وأدواتها، كالرياضيات والفلك والطب والكيمياء والصيدلة والفلسفة والزراعة والنبات والميكانيكا، إلا النقل عن اليونان أو غيرهم من الشعوب التي كانت لها قبل الإسلام حضارات. بل كان هؤلاء غامطين جاحدين عن قصد بدافع الحقد والكراهية، أو جاهلين متأثرين بالغامطين الجاحدين الحريصين على طمس الحقيقة التي كان عليها المسلمون، إبان العصور الذهبية لحضارة الأمة الإسلامية. لقد سبق أن عرفنا بالبيان التفصيلي، أن العلوم المتصلة بالمفهومات

الاعتقادية حول الكون والحياة والأنفس قد كانت إسلامية صرفًا، لم يقتبسها المسلمون من أمة سابقة، ولم يكن لدى الأمم السابقة نظيرها باستثناء الأديان الربانية التي أنزلها الله على رسله السابقين، والتي حرفها أتباعها فلم تبق على أصولها الصحيحة. وسبق أن عرفنا بالبيان التفصيلي، أن العلوم المتصلة باللغة العربية، وبالسلوك الإنساني الإرادي المسئول عنه عند الله، قد كانت علومًا من ثروات المسلمين الحضارية الخاصة بهم والتي كانت من ابتكاراتهم واجتهاداتهم أو استنتاجهم واستخراجهم من مصادر الدين الإسلامي، مع موازين الفكر وأصوله الصحيحة، والملاحظة ودراسة الوقائع بمقاييس الحق والباطل؛ لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ودراسة المشتبهات بتريث وأناة قبل الحكم عليها. أما العلوم الحضارية المادية، وأنواع السلوك المادي النافع للإنسان في معاشه، والتي هي شركة إنسانية عامة، فقد كان المسلمون فيها على أحسن أمثلة التنامي والتكامل الحضاري المتطور مع مرور الزمن، بابتكارات واكتشافات الأفذاذ من ذوي المواهب النادرة، وبالتحسينات المستمرة التي يهدي إليها الرأي والملاحطة والتجربة. إن الحضارات الإنسانية تخضع لسنة التنامي والتكامل، فما تُنتجه حضارة ما تنقل منه حضارة معاصرة، وما تُنتجه حضارة سابقة تنقل منه حضارة لاحقه. ولا توجد في الدنيا حضارة لأمة تقتصر على مجرد النقل عن غيرها، بل لا بد أن تضيف ما ينتجه أهلها ولا سيما العباقرة والأفذاذ من ابتكاراتهم، ولا بد أن تحذف ما لا يلائم عقيدتها ومفهوماتها في الحياة، وأساليب معيشتها في مناخها الطبيعي. فادعاء أن المسلمين لم يكن منهم إلا النقل عن حضارات اليونان والرومان والفرس والهنود والصينيين وغيرهم، إدعاء مناف لطبيعة التنامي والتكامل بين الحضارات، ومناف لواقع حال الأمة الإسلامية في تاريخها الحضاري. ولولا الحضارة الإسلامية التي نقلت وأضافت وحسنت ونمت وحفظت

ورعت، لم تُولد الحضارة الغربية المعاصرة ولا الحضارات التي تأثرت بها، فنقلت ونمت وحسنت في بعض إنتاجاتها الحضارية. فالحضارة الغربية المعاصرة، بنت حضارتها على ما أخذته عن الأمة الإسلامية، من منقولات ومبتركات وزيادات تحسينية، والحضارة الإسلامية المتفوقة قد كانت السبب في تغيير مجرى التفكير الغربي الكنسي الجامد، وكانت الباعث لنهضة أوروبا الفكرية والعلمية التي بنت عليها نهضتها الصناعية، ولا سيما المنهج الذي اتخذه المسلمون معتمدين فيه على الاستقراء، والسير، والملاحظة، والتجربة، وتسجيل النتائج، ولم يأخذوا منهج علماء اليونان القائم على النظرات الفكرية والتحليلات الذهنية، والتخيل والسبح في الأوهام، والسقوط في الغيبيات بتصورات لا أساس لها من الصحة. وقد كانت أوروبا قبل أن تبني حضارتها على ما أخذته عن الأمة الإسلامية، تعيش في ظلام دامس، وسبات عميق، وجاهلية منتشرة، وكانت الفتوح الإسلامية هي التي نبهت أوروبا على ضرورة الأخذ بالأسس الحضارية، التي كانت السبب في تفوق المسلمين على شعوب الأرض، علمًا وحضارة وقوة وبدايات تصنيع، إبان قرون حضارتهم الذهبية المتصاعدة. 2- النشأة والتأسيس: 1- كان "أبو هاشم خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي القرشي 000-90هـ" حكيم قريش، وعالمها في عصره، أول فلاسفة المسلمين، وقد كان موصوفًا بالعلم والدين والعقل. اشتغل بالكيمياء والطب والنجوم، فأتقنها بحسب عصره، وألف فيها رسائلن وكان أول من أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممن كان ينزل مصر، وكان ممن يتكلمون اللغة العربية، وأمرهم بنقل الكتب من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي، وذكر من هؤلاء "سفطانيوس" و"وماريانوس".

اختير خليفة بعد وفاة أخيه "معاوية بن يزويد" فقضى في الحكم مدة قصيرة، ثم زهد فيه وتخلى عنه، ليتفرغ للعلم فلقب بـ"حكيم آل مروان". قال الجاحظ: "خالد بن يزيد خطيب شاعر، وفصيح جامع، جيد الرأي، كثير الأدب، وهو أول من ترجم من كتب النجوم والطب والكيمياء". 2- وكان للخلفاء عناية بالعلوم الكونية، وبتوجيه طائفة منهم ترجمت إلى اللغة العربية كتب كثيرة، مما لدى الهنود والأغريق من هذه العلوم، وكانت مدينة بغداد مركزًا مهمًا لها في ظل الخلفاء العباسيين، وكان "أبو جعفر المنصور العباسي وهو عبد الله بن محمد بن علي بن العباس 95-158هـ" ثاني خلفاء بني العباس1، أول من عني بالعلوم الكونية والطبيعية من ملوك المسلمين، هو باني مدينة بغداد، وفي أيامه شرع المسلمون يطلبون علوم اليونانيين والفرس، وعمل أول إصطرلاب في الإسلام، صنعه "محمد بن إبراهيم الفزاري". 3- أما الخليفة العباسي "المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور 170-218هـ" سابع الخلفاء من بني العباس في العراق، وأحد أعاظم الملوك في سيرته وعلمه وسعة ملكه، فقد توسع في ترجمة كتب العلم والفلسفة. وأسس "بيت الحكمة" المشهور، وتمم ما بدأ به جده المنصور، من ترجمة كتب العلم والفلسفة. وأتحف ملوك الروم بالهدايا، وطلب منهم أن يبعثوا إليه ما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بعدد كبير من كتب "أفلاطون" و"أرسطاطاليس" و"أبقراط" و"جالينوس" و"إقليدس" و"بطليموس" وغيرهم، فاختار لها مهرة التراجمة، فترجمت، وحض الناس على قراءتها، وقامت دولة الحكمة في أيامه، وقرب إليه العلماء من مختلف التخصصات.

_ 1 وهو والد الخلفاء العباسيين من بعده.

وقد كان فصيحًا مفوهًا واسع العلم، محبًّا للعفو، فمن أقواله: لو عرف الناس حبي للعفو لتقربوا إليَّ بالجرائم. 4- وامتدت دراسة العلوم الكونية والطبيعية في معظم مراكز العلم والمعرفة في العالم الإسلامي، حتى النائية منها، مثل صقلية والأندلس. وبرز من أعلام المهتمين بالفلسفة والعلوم الكونية والطبيعية، والذين ترجموا بعض كتب العلوم من اللغات غير العربية أعلام كثيرون، منهم: - حنين بن إسحاق، وهو "أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي 194-260هـ" طبيب، مؤرخ، مترجم، كان أبوه صيدلانيًّا من أهل الحيرة "في العراق". وسافر حنين إلى البصرة، فأخذ العربية عن الخليل بن أحمد الفراهيدي، وانتقل إلى بغداد، فأخذ الطب عن "يوحنا بن ماسويه" وغيره، وتمكن من اللغات اليونانية والسريانية والفارسية، فانتهت إليه رياسة العلم بها بين المترجمين مع إتقانه العربية. اتصل بالمأمون فجعله رئيسًا لديوان الترجمة، وبذل له الأموال والعطايا، وجعل بين يديه كُتّابًا عالمين باللغات، كانوا يترجمون، وكان "حنين" يتصفح ما ترجموا فيصلح ما يرى فيه خطأ. وكان المأمون يعطيه من الذهب زنة ما ينقله إلى العربية من الكتب، فكان يختار لكتبه أغلظ الورق، ويأمر كتابه أن يخطوها بالحروف الكبيرة، ويفسحوا بين السطور، ليعظم وزنها. - الكندي، وهو "أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي 000-نحو 260هـ". وصف بأنه فيلسوف العرب والمسلمين في عصره، وهو أحد أبناء الملوك من كنده، نشأ في البصرة، وانتقل إلى بغداد، فتعلم، واشتهر بالطب والفلسفة

والهندسة والفلك، وقد ألف وترجم وشرح كتبًا كثيرة، يزيد عددها على ثلاثمائة. - الفزاري، وهو "محمد بن إبراهيم بن محمد بن حبيب بن سمرة بن جندب الفزاري 000-180هـ". كان عالمًا بالفلك، وهو أول من عمل في الإسلام إصطرلابًا. ذكر القفطي نقلًا عن نظم العقد للآدمي، أن رجلًا قدم على الخليفة المنصور من الهند سنة "156هـ" يحمل كتابًا في علم الفلك، فأمر المنصور بترجمته إلى العربية، وأن يؤلف منه كتاب تتخذه العرب أصلًا في حركات الكواكب فتولى ذلك "محمد بن إبراهيم الفزاري". - ابن موسى، وهو "أبو عبد الله محمد بن موسى بن شاكر 000-259هـ" عالم بالهندسة والحكمة والموسيقى والنجوم، وهو أحد الإخوة الثلاثة الذين تنسب إليهم "حيل" بني موسى في الميكانيك، واسم أخويه "أحمد" و"الحسن" وقد كان هؤلاء الثلاثة من المقربين عند المأمون العباسي، وكان يرجع إليهم في حل ما يعسر عليه فهمه من آراء متقدمي الحكماء. وقد أظهر هؤلاء الثلاثة عجائب الحكمة، ووضعوا كتابًا يشتمل على كل غريبة، أطلع عليه ابن خلكان، وقال: إنه من أحسن الكتب وأمتعها. قال الزركلي في كتابه "الأعلام": ورأيت في مخطوطات الفاتيكان مجموعًا أوله "كتاب الحيل لبني موسى بن شاكر المنجم". ولمحمد بن موسى بن شاكر كتاب "رسم المعمور من البلاد" فيكون بهذا في عداد الجغرافيين.

- ابن الهيثم، وهو "أبو علي محمد بن الحسن بن الهثيم 354-نحو 430هـ" مهندس من أهل البصرة، كان يلقب بـ"بطليموس" الثاني، له تصانيف تزيد على سبعين، منها كتاب "المناظر، خ" نشرت ترجمته إلى اللاتينية سنة "1072م" وكان لها كما يقول سوتر H. Sutr أثر بالغ في تعريف الغربيين بهذا العلم في العصور الوسطى. ومنها كتاب "كيفية الإظلال" ترجم إلى الألمانية ونشر بها مختصرًا. وكتاب "مساحة المجسم المتكافئ" نشر بالألمانية، وكتاب "الأشكال الهلالية، خ" وكتاب "تربيع الدائرة، خ" وكتاب "شرح قانون إقليدس، خ" وكتاب "مساحة الكرة، خ" وكتاب "المرايا المحرقة" ترجم إلى الألمانية ونشر بها. وله غيرها. و"ابن الهيثم" من الذين اشتغلوا في البصريات، وكان أنبغ علماء المسلمين فيها، وقد ترك تراثًا ضخمًا مليئًا بالابتكارات والموضوعات الجديدة، وكانت أساسًا لبحوث علماء القرون الوسطى، ولا سيما البحوث التي جاءت في كتاب جون بيكهام Pyckham في البصريات، وهذا الكتاب يعد من أجل الكتب التي أحدثت أثرًا بعيدًا في هذا العلم. - الخوارزمي، وهو "أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي ... -بعد سنة 232هـ" وينعت بالأستاذ. أقامه المأمون العباسي قيمًا على خزانة كتبه، وعهد إليه بجميع الكتب اليونانية وترجمتها، وأمره باختصار "المجسطي" لبطليموس، فاختصره، وسماه "السند هند" أي: الدهر الداهر، فكان هذا الكتاب أساسًا لعلم الفلك عند الأوروبيين. وللخوارزمي كتاب "الجير والمقابلة" وقد ترجم إلى اللاتينية، ثم إلى الإنجليزية. وقيل: إن الخوارزمي هو أول من صنف في الجبر والمقابلة، وكان لكتابه أثر عظيم في تقدم علم الجبر عند الغربيين. وكان للخوارزمي أثر عظيم في تعليم الناس الحساب.

وللخوارزي كتاب "الزيج"1 نقل عنه "المسعودي". وله كتاب "صورة الأرض من المدن والجبال ... إلخ". وله كتاب "رسم المعمول من البلاد". وعمل "الخوارزمي" الإصطرلاب2. - الروداني هو "شمس الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الفاسي بن طاهر الروداني السوسي المكي 1037-1094هـ" محدث مغربي مالكي، عالم بالفلك، رحال. ولد في "تارودانت" وجال في المغرب الأقصى والأوسط، ودخل مصر والشام والآستانة، واستوطن الحجاز، وكان له بمكة شأن. له مصنفات منها "جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد، ط" في الحديث، ومنها في الفلك "تحفة أولى الألباب في العمل بالإصطرلاب، خ" وكتاب "بهجة الطلاب في الإصطرلاب". ومن أشهر آثاره "كرة" في التوقيت والهيئة3، وصفت بأنها آلة في التوقيت والهيئة لم يُسبق إلى مثلها، وهي كرة مستديرة الشكل، يحسبها الناظر إليها بيضة مسطرة، كلها دوائر ورسوم، وقد ركبت عليها أخرى مجوفة منقسمة النصفين، فيها تخاريم وتجاويف لدوائر البروج وغيرها، مصبوغة باللون الأخضر، تغني عن كل آلة تستعمل في فني التوقيت والهيئة، مع سهولة المدرك، وتصلح لكل البلاد على اختلاف أعراضها وأطوالها. وتقول المصادر المغربية: إنه أحد حكماء الإسلام في العلوم الحكمية، والرياضية، وكان متمكنًا من الأدب والشريعة، وألف فيهما كتبًا قيمة.

_ 1 الزيج: كل كتاب يتضمن جداول فلكية يعرف منها سير النجوم، ويستخرج بواسطتها تقويم السنين. 2 الإصطرلاب: آلة فلكية لقياس بعد الكواكب ومراقبة مواضعها. 3 علم الهيئة: هو علم الفلك، وهو علم يبحث عن أحوال الأجرام السماوية، وعلاقة بعضها ببعض، وما لها من تأثير في الأرض.

المقولة الأولى: الرياضيات والفلك

المقولة الأولى: الرياضيات والفل ك 1 1- ثبت لدى الباحثين أن العلوم الرياضية ميدان اشتركت فيه القرائح المختلفة، من مختلف الأمم والشعوب، ولم يكن الابتكار والإنتاج التراكمي فيها منحصرًا في أمة من الأمم، فقد كان للبابليين والمصريين والإغريق والهنود والعرب وغيرهم من الشعوب، ثم المسلمين أنصبة من الابتكار والإنتاج فيها، ومساهمات في إنشائها وتنميتها، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه حين بدأت النهضة الغربية في أوروبا. 2- وثبت لدى الباحثين أن أقدم الآثار الرياضية قد وصلت إلينا من بابل، ومن مصر، وقد انتقلت هذه الآثار إلى الإغريق فأخذوها وزادوا عليها. وثبت أن بعض النظريات والبحوث التي كانت تنسب إلى اليونان هي من وضع علماء بابل ومصر. 3- وبالتفكر يظهر لنا أن عوامل نشوء ونمو العلوم الرياضية وارتقائها قبل النهضة الغربية متعددة، فمنها ما يلي: - ارتباط كثير من مصالح الإنسان ومنافعه الدنيوية الحياتية، ومعاملاته المالية، وأعماله العمرانية، بالرياضيات "الحساب والهندسة". - رغبة كثير من أهل النظر الفكري العميق في البحث عن المجهول للوصول إلى المعرفة وكشف الحقيقة، والاستمتاع بلذة العلم، قبل استغلال ما تم كشفه في المنافع المادية الحياتية، وتركيب الآلات وإنشاء المصانع.

_ 1 معظم معلومات هذه المقولة مقتبسة من "تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك" لقدري حافظ طوقان، ومن "العلوم البحتة في العصور الإسلامية" لعمر رضا كحالة.

- رغبة المتفكرين الموهوبين من أهل الإيمان في التعرف على سنن الله في كونه، وما يُسيطر عليه من أنظمة وقوانين حكيمة، لتقديمها أدلة وشواهد على وجود الرب الخالق المبدع الحكيم، وعلى ما تدل عليه من صفاته. - رغبة بعض ذوي المواهب في التقرب إلى الملوك والسلاطين، الذين كانوا يكرمون العلماء المبتكرين المبدعين، ويغدقون عليهم المكافآت الوافرات. 4- وقد برع المسلمون في العلوم الرياضية، وأجادوا فيها، وكانت لهم إضافات جليلات أثارت الإعجاب والدهشة لدى المنصفين من علماء الغرب وغيرهم، فاعترفوا بفضهلم وأثرهم الكبير في تقدم العلم والعمران تقدمًا ارتقائيًّا. 5- اطلع المسلمون على حساب الهنود، فأخذوا عنه نظام الترقيم بدلًا من الحروف الأبجدية، وقد كان لدى الهنود أشكال عديدة للأرقام، فاصطفى المسلمون منها وهذبوا صورتين للأرقام: - عُرفت إحداهما باسم الأرقام الهندية، وهي التي يستعملها المسلمون في معظم الأقطار العربية والإسلامية، وصورتها: "1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12" وهكذا. - وعرفت الأخرى باسم الأرقام الغبارية؛ لأن بعض الهنود الذين كانوا يكتبون على أشكال هذه الأرقام كانوا يبسطون غبارًا لطيفًا على لوح، ويرسمون بأصابعهم عليه هذا الشكل من الأرقام، وهي التي انتشر استعمالها في بلاد المغرب والأندلس، وعن طريق الأندلس دخلت صور هذه الأرقام إلى أوروبا، وعرفت لدى الأوروبيين باسم الأرقام العربية، وصورتها: وصور هذا الأرقام قائمة على حساب الزوايا في كل رقم، فرقم واحد له زاوية واحدة ورقم اثنين له زاويتان وهكذا. وبمرور الزمن دخل على هذه الأرقام تحسين في رسم خطوطها، وتنوسي حساب الزوايا فيها، حتى صارت كما هي عليه الآن في العالم الغربي وغيره. 6- وكان الهنود يستعملون الفراغ ليدل على الخانة التي ليس فيها رقم،

فوضع المسلمون رسم الصفر في خانة الفراغ، وكان لهذا التحسين أثر تسهيلي جليل في الحساب؛ إذ كانت صعوبة إيجاد فراغات في الخانات التي لا رقم لها قد يتطلب جعل الأرقام مربعات، وترك مربع الخانة التي لا رقم لها فارغًا. والأرقام التي اصطفاها المسملون من الأرقام الهندية تقوم على النظام العشري، وعلى أساس القيم الوضعية؛ إذ يكون للرقم قيمتان، قيمة في نفسه وقيمة بالنسبة إلى الخانة التي يوجد فيها، فرقم "7" مثلًا في الخانة الثانية إلى الشمال هو سبعون، وفي الخانة الثالثة إلى الشمال هو سبعمائة، وهكذا إلى سائر الخانات التي توضع إلى جهة الشمال بالتسلسل. وهذا النظام هو من الابتكارات الأساسية والرئيسية ذات الفوائد العظيمة في الأعمال الحسابية. 7- ووضع المسلمون علامة الكسر العشري، وعرفوا شيئًا عنه، ويذكر في هذا المجال اسم العالم الرياضي "غياث الدين جمشيد الكاشي" الذي ابتكر الكسور العشرية قبل "ستيفن" بأكثر من "175" سنة، على ما ذكر "قدري حافظ طوقان"1. 8- وللمسلمين مؤلفات كثيرة في الحساب مشحونة بوفرة من الأمثلة والتمارين. وقد ترجم الغربيون بعضها، وتعلموا مما ترجموا، وكان لها أثر كبير جدًّا في تقدم هذا العلم تقدمًا ارتقائيًّا. 9- وكان المسلمون هم أول من اشتغل في علم "الجبر" وأتوا فيه بالعجب العجاب. وهم أول من أطلق لفظه "جبر" على المعلم المعروف الآن بهذا الاسم، وعنهم أخذ الإفرنج هذه اللفظة، وهم أول من ألف فيه بصورة علمية منظمة. ويرجع الفضل في ابتكار هذا العلم إلى "الخوارزمي" وقد سبقت ترجمته.

_ 1 انظر كتابه "تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك" ص52.

10- ووضع المسلمون حلولًا جبرية وهندسية لمعادلات مختلفات التراكيب ابتدعوها. وسبق علماء المسلمين بعد الخوارزمي إلى استعمال الرموز في الأعمال الرياضية، وهذه الرموز قد سهلت في حل المعادلات، وتقدم الرياضيات العالية على اختلاف فروعها تقدمًا ارتقائيًّا. 11- وابتكر المسلمون في الرياضيات ابتكارات قيمات كانت محل إعجاب علماء الغرب، وقد سبقوا في بعض البحوث "رينيه ديكارت 1590-1650م" الفيلسوف والرياضي والفيزيائي الفرنسي. 12- وصار التراث الإسلامي في الرياضيات حافزًا لعلماء إيطاليا وإسبانيا، ثم لبقية علماء بلدان أوروبا، لدراسة الرياضيات والاهتمام بها. 13- ورجح "قدري حافظ طوقان" أن المسلمين قد مهدوا ببعض القوانين الجبرية التي وضعوها لاكتشاف "اللوغارتمات" عند علماء الفلك، على خلاف ما يدعي بعض علماء الإفرنج. 14- وترجم المسلمون من اليونانية كتاب "إقليدس" وهو مبدأ العلوم الهندسية، إلى اللغة العربية، وتفهموه جيدًا، وزادوا على نظرياته، ووضعوا بعض أعمال عويصة، وتفننوا في حلولها. وألفوا كتبًا على نسقه، وأدخلوا فيها قضايا جديدة لم يعرفها القدماء. ويبرز في هذا المجال العبقري "ابن الهيثم" وقد سبقت ترجمته. 15- وكان للمسلمين مؤلفات عديدة في المساحات والحجوم، وتحليل المسائل الهندسية، واستخراج المسائل الحسابية بجهتي التحليل الهندسي والتقدير العددي، وكان لهم استخراجات أخرى في موضوعات مختلفات، مع ربطها بمعادلات جبرية، إلى غير ذلك مما يتعلق بالموضوعات التي تحتاج إلى استعمال الهندسة. وللعبقري "ابن الهيثم" في هذا مقالات جليلات.

16- ووجه المسلمون عناية فائقة لعلم الفلك، وكانت البداية منذ عهد الخليفة "أبي جعفر المنصور" الخليفة العباسي الثاني، فقد كان شغوفًا بالمشتغلين بعلم الفلك، وشجع على ترجمة الكتب فيه إلى العربية، وشحذ همم الباحثين العلماء، وأغرق عليهم العطايا، وأحاطهم بالعناية والرعاية. واقتدى بالمنصور في هذا الخلفاء الذين أتوا بعده. ولم يقتصر علماء المسلمين على الترجمة، بل صححوا كثيرًا من أغلاط الكتب التي ترجموها، وأضافوا إلى الصحيح منها ما توصلوا إليه ببحوثهم الخاصة. وألف المسلمون جداول "تسمى الأزياج" في حركات الكواكب. وفي زمن "المأمون" ظهر علماء مسلمون كثيرون، ألفوا في علم الفلك، وعملوا أرصادًا وأزياجًا جليلة تقدم بها هذا العلم تقدمًا ارتقائيًّا مثيرًا للإعجاب، ولم يقفوا في علم الفلك عند حد النظريات، بل خرجوا إلى الرصد الفعلي والأعمال التجريبية. 17- ولعلماء المسلمين نظريات خاصة في البصريات وغيرها، وهي لا تزال معتمدة إلى وقتنا الحاضر، ومنها ما شرحه "ابن الهيثم" في كتابه "المناظر" وقد اكتشف بعض أخطاء السابقين في البصريات، وقدم وشرح ما رآه صوابًا، وأقرته عليه العلوم الفيزيائية التجريبية التي جاءت بعده بقرون. 18- والمسلمون أول من عرف أصول الرسم على سطح الكرة، وأثبت علماؤهم الفلكيون استدارة الأرض ودورانها على محورها. والمسلمون قد ضبطوا حركة أوج الشمس، وتدخل فلكها في أفلاك أخرى. وللمسلمين جداول دقيقة لبعض النجوم الثوابت. وبلغ ولع المسلمين بعلم الفلك إلى درجة جعلت بعضهم يصنع في بيته هيئة السماء، فالناظر إليها تترآى له أخيلة النجوم والغيوم والبروق والرعود.

19- ووجه المسلمون عنايتهم لبناء الأرصاد الفلكية، فأقاموا بعضها في دمشق، وفي بغداد، وفي القاهرة، وفي غيرها من بلدان العالم الإسلامي. واشتهرت الأعمال التي عملها الفلكيون المسلمون بالاستناد إلى هذه الأرصاد بالدقة، وقد اعتمد عليها علماء أوروبا في عصر النهضة وما بعدها في بحوثهم الفلكية. وابتكر المسلمون آلات مختلفات لأعمال الرصد، لا داعي لذكر أسمائها وصفاتها، وقد اعترف الإفرنج بأن المسلمين قد أتقنوا صناعة هذه الآلات، على الرغم من أنها كانت صناعات يدوية.

المقولة الثانية: الطب والصيدلة

المقولة الثانية: الطب والصيد له 1 1- لم يكن المسلمون في ميادين الطب والصيدلة مجرد نقلة ومقلدين متبعين لمن سبقهم من الأمم في هذا المجال، بل ترجموا ونقلوا وجربوا وهذبوا وابتكروا، وأقاموا معارفهم في هذه الميادين على التجربة والاختبار والملاحظة والتعليل والتفسير وإعادة التجربة، ودراسة مختلف الاحتمالات، وملاحظة النتائج، بغية الوصول إلى الأحسن فالأحسن تأثيرًا ونفعًا وجمالًا. 2- ونقح علماء المسلمين نظريات وآراء من سبقهم في الطب والعلاجات، وأضافوا إليها كثيرًا من اكتشافاتهم، وكانت زياداتهم مبنية على المنهج التجريبي العملي وملاحظة النتائج، ولم يتوقفوا عند التعليلات والتفسيرات الفلسفية التي أبعدت الفكر اليوناني عن أتباع المنهج التجريبي، فجعلته يتتبع أوهامًا كثيرة لا أسس لها من الصحة.

_ 1 المعلومات في هذه المقولة من كتاب "أثر العرب في الحضارة الأوروبية" لجلال مظهر، وكتاب "العلوم عند العرب" لقدري حافظ طوقان. وكتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" للمستشرقة الألمانية "زيغريد هونكه" ترجمة فاروق بيضون، وكمال الدسوقي. وغيرها من كتب.

3- واعتبر المسلمون الطب رسالة مقدسة يجب أن تكون بعيدة عن الهوى والمطامع والرغبة في تحصيل الأرباح والثروات. نقل الطبيب المسلم "داود بن عمر الأنطاكي 000-1008هـ" في أوائل كتابه: "تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب" في الطب عن بعض شارحي العهد الذي كان يأخذه "أبقراط"1 على من يريد أن يزاول مهنة الطب من تلاميذه، يقول هذا الشارح الذي لم يذكر اسمه داود الأنطاكي. "ويجب اختيار الطبيب حسن الهيئة، كامل الخلقة، صحيح البنية، نظيف الثياب، طبيب الرائحة، يسر من نظر إليه، وتقبل النفس على تناول الدواء من يديه، وأن يتقن بقلبه العلوم التي تتوقف الإصابة في العلاج عليها، وأن يكون متينًا في دينه، متمسكًا بشريعته، دائرًا معها حيث دارت، واقفًا عند حدود الله تعالى ورسوله، نسبته إلى الناس بالسوا، خلي القلب من الهوى، لا يقبل الارتشا، ولا يفعل حيث يشا، ليؤمن معه الخطأ، وتستريح إليه النفوس من العنا". هذه هي مهنت الطب في مفهوم الأطباء المسلمين: 4- ولم تكن أوروبا تعرف من الطب غير الشعوذة، وأضرحة القديسين والقديسات وأوثانهم، والتعاويذ والتمائم وأشباهها، وخزعبلات رجال الكنائس وتهويماتهم، حتى القرن الثاني عشر الميلادي، السادس الهجري، بينما كان الأطباء في العالم الإسلامي كثيرين، وذوي خطوة لدى الحكومات الإسلامية، ولدى الشعوب، وكانوا ذوي مهارات فائقات بالنسبة إلى أدوات عصورهم. 5- واشتهر الأطباء المسلمون بطريقة الفحص السريري للمريض، وحبس نبضه، والنظر في حالة تنفسه، وفحص بوله، والنظر في لون جلده، والنظر إلى ملتحمة عينيه، وحالة جلده عن اللمس، وسؤال المريض عما يشكو منه، وعن

_ 1 طبيب يوناني، أكبر الأطباء الأقدمين وأشهرهم "نحو 460- 377ق. م" كان قد وضع قسمًا يؤخذ على الطبيب إذا أراد أن يزاول مهنة الطب، بعد أن يؤذن له بمزاولتها.

طريقته في معيشته، والأمراض التي أصيب بها سابقًا، وحالة عائلته الصحية، مع النظر إلى مناخ البلاد التي يعيش فيها. المستشفيات: 6- أنشأ الخليفة الأموي "الوليد بن عبد الملك" في دمشق أول مستشفى عام "88هـ". ثم انتشرت المستشفيات في جميع أنحاء الدولة الإسلامية، ضمن أنظمة ضابطة، وكانت على نوعين: النوع الأول: خاص ببعض الأمراض المعدية، أو الأمراض التي لا يُرجى برؤها بعد تمكنها كالجذام. وفي هذا النوع قسم للرجال، وقسم للنساء. النوع الثاني: هو للأمراض غير المعدية وغير المتمكنة، وهي مستشفيات عامة. وفي هذا النوع أيضًا قسم للرجال، وقسم للنساء. مدارس تعليم الطب: 7- أسس خلفاء بني العباس مدارس لتدريس علم الطب، في البصرة، والكوفة، وبغداد، ودمشق، وغيرها. وكانت مدارس الأندلس الطبية هي المدارس الوحيدة في أوروبا، التي تخرج أطباء مؤهلين في الجراحة، وهي تحتوي على دراسة نظرية، ودراسة عملية تعتمد على تدريب الطلاب قبل التخرج، فمن نجح ونال الإجازة سمح له بأن يزاول مهنة الطب تحت رقابة الدولة. طب العيون: 8- واهتم المسلمون بطب العيون، وقد كانوا الفاتحين فيه، والمتفوقين. وقد وضع علماء المسلمين قواعد لطب العيون، وكان من النابغين في طب العيون:

- "عمار بن علي الموصلي 000-نحو 400هـ" امتاز بعلم أمراض العيون ومداواتها، له كتاب: "المنتخب، خ" في علم طب العين، وعللها ومداوتها. - و"علي بن عيسى بن علي الكحال 000-430هـ" كان طبيبًا حاذقًا في أمراض العيون ومداواتها، واشتهر بكتابه "تذكرة الكحالين". وكان يسمى طبيب العيون كحالًا. الجراحة: 9- ووضع علماء المسلمين قواعد للجراحة، وهم أول من جعل الجراحة علمًا له أصوله وقواعده التي يجب الالتزام بها. وقاموا بعمليات جراحية كثيرة في البطن والمسالك البولية، ونجحوا في شق القصبة الهوائية، وإيقاف نزيف الدم بربط الشرايين الكبيرة. طب الأطفال: 10- واهتم الأطباء المسلمون اهتمامًا كبيرًا بعلاج الأمراض التي تصيب الأطفال، مثل الإسهال، والربو، والبول في الفراش، والتشنجات، والحول، وأنواع الديدان التي تصيب الجهاز الهضمي، وشلل الأطفال والحميات. وبرز كثير منهم في علم الأجنة، والأمراض الناتجة عن الوراثة وكيفية معالجتها. وقسموا حياة الطفل إلى أربعة أقسام: القسم الأول: سن الولدان، وهي المدة المحصورة بين وقت خروج الجنين من الرحم، إلى أن يبلغ أربعين يومًا. القسم الثاني: سن الصبيان، وهي المدة ما بين الأربعين يومًا، وحتى تنبت له الأضراس. القسم الثالث: السن المحصورة بين وقت نبات الأضراس حتى بلوغ السابعة من العمر.

القسم الرابع: سن المحتلمين، وهي المدة ما بين سبع سنين حتى سن البلوغ. ولعل الطب المعاصر قد ورث هذا التقسيم من المسلمين. 11- ووجه المسلمون عناية خاصة لتغذية الطفل، فكانوا يعطون المولود خلال الأيام الأولى قليلًا من العسل قبل الرضاعة؛ لتنظيف الأمعاء من مادة الميكونيوم. العلاجات والعقاقير: 12- وكان الأطباء المسلمون يعدون بأنفسهم الأدوية والعلاجات والعقاقير، ويركبون المركبات الدوائية، ويعطونها لمرضاهم، فهم أطباء وصيادلة معًا. 13- ووضع المسلمون أول مؤلف في العقاقير، وأنشئوا أول صيدلية عرفها التاريخ البشري. واشتهرت مهارتهم في صناعة العقاقير العلاجية، حتى صارت مطلبوة من مختلف بلدان العالم، وازدهرت تجارة العقاقير المصدرة من بلدان العالم الإسلامي إلى سائر البلدان، لما رأى الناس فيها من نفع وتأثير، فقد كانت عقاقيرهم ترسل إلى أوروبا وإفريقية والصين والهند وسيلان، وكان استيراد عقاقير البلاد الإسلامية من أهم عناصر التجارة بينها وبين إيطاليا. الأدوات الطبية: 14- واهتم الأطباء المسلمون بصنع الآلات والأدوات الطبية، ومنها الآلات الجراحية المختلفة، وتوجد في كتبهم صور لها، وتوجد في المتاحف الغربية وغيرها نماذج عديدة منها. المصنفات في الطب والعقاقير: 15- ولأطباء المسلمين مصنفات ضخمة وكثيرة، في الطب والمفردات التي تستخدم في الأدوية والعلاجات، وتركيب الأدوية والعقاقير.

وبقيت مؤلفات أطباء المسلمين تدرس في جامعات أوروبا معتمدة، حتى بداية القرن الثامن عشر الميلادي، الثاني عشر الهجري. أبرز أعلام المسلمين في الطب والصيدلة 1. 16- برز في المسلمين أعلام كثيرون في الطب ومفردات الأدوية والعلاجات والتراكيب الصيدلانية. وأختار فيما يلي التعريف بطائفة منهم. 1- أبو بكر الرازي: هو "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي 251-313هـ" فيلسوف من الأئمة في صناعة الطب، من أهل الري "مدينة في شمال إيران بضاحية طهران" ولد وتعلم بها، وسافر إلى بغداد بعد سن الثلاثين. عكف على الطب والفلسفة في كبره، فنبغ واشتهر". تولى تدبير "بيمارستان"2 الري، ثم تولى رئاسة أطباء "البيمارستان المقتدري" في بغداد. له تصانيف كثيرة، ذكر منها ابن أبي أصبيعة "232" كتابًا ورسالة، منها: "الحاوي، خ" في صناعة الطب، وهو أجل كتبه، تُرجم إلى اللاتينية وطبع بها. وله كتب أخرى في الطب، وذكر أن الرازي أول من أدخل التركيبات الكيميائية في العلاجات الطبية، وكانت له ابتكارات في جراحة العيون، وفي الولادة وأمراض النساء. 2- ابن الجزار: هو "أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد القيرواني ... -369هـ" طبيب مؤرخ من أهل القيروان3، له عدة مؤلفات، منها:

_ 1 ترجمة الأعلام هنا مقتبسة من "الأعلام" للزركلي، وقد أضيف من بعض المترجمين الآخرين من الكتاب في الحضارة. 2 البيمارستان: المستشفى، فارسي معرب. 3 القيروان: مدينة تونسية، كانت عاصمة الأغالبة في القرن الثالث الهجري.

كتاب: "زاد المسافر وقوت الحاضر، خ" في الطب، وهو مجلدان، ترجم إلى اللاتينية واليونانية والإيطالية. وكتاب: "الاعتماد، خ" في الأدوية المفردة. وكتاب: "البغية" في الأدوية المركبة. وكتاب: "طب الفقراء، خ". وكتاب: "أسباب الوباء بمصر والحيلة في دفعه". ولشدة اهتمام غير المسلمين بهذا الطبيب المسلم ترجمت بعض مؤلفاته كما سبق بيانه. 3- علي بن العباس: هو "علي بن عباس ... -نحو 400هـ" كان أبوه مجوسيًّا، فارسي الأصل، من أهل الأهواز1، عالم بالطب، من تلاميذ "موسى بن يوسف بن سيار المتوفى سنة 384هـ. كان متصلًا بعضد الدولة ابن بويه، وصنف له كتاب: "كامل الصناعة الطبية الضرورية، ط" ويسمى الكتاب الملكي، ترجم إلى اللاتينية، وطبع في فيينا2 سنة 1492م. انتقد في كتبه ما اعتقد من الأغاليط في كتب أبقراط وجالينوس وغيرهما. 4- الرئيس ابن سينا: هو "شرف الملك أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا 370-428هـ" الفيلسوف الرئيس، كان فذًّا في مواهبه، له تصانيف كثيرة في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات. أصله من "بلخ"3 ومولده في إحدى قرى بخارى، نشأ وتعلم في بخارى، وطاف البلاد، وناظر العلماء، واتسعت شهرته. صنف نحو مائة كتاب، من أشهرها "القانون، ط" وهو كتاب كبير في

_ 1 الأهواز: مدينة في جنوب غربي إيران، عاصمة خوزستان. 2 فيينا: عاصمة النمسا على الدانوب. 3 بلخ: مدينة قديمة في أفغانستان، غربي مزار شريف.

الطب، ترجمه الفرنج إلى لغاتهم، وكانوا يدرسونه في مدارسهم الطبية، وبقي معولًا عليه في علم الطب لديهم ستة قرون1. 5- ابن رشد: هو "أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي 520-595هـ" من أهل قربطة، وهو ابن رشد الحفيد تمييزًا له عن جده. عُني بكلام أرسطو، وترجمه إلى العربية، وله مصنفات كثيرة في الفلسفة والفقه والطب وغيرها. قال ابن الأبار، كان يفزع إلى فتواه في الطب، كما يفزع إلى فتواه في الفقه. له في الطب "الكليات" مطبوع بالتصوير الشمسي، ترجم إلى اللاتينية والإسبانية والعبرية. 6- ابن البيطار: هو "ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقي المعروف بابن البيطار 000-646هـ". إمام النباتيين وعلماء الأعشاب، ولد في "مالقة" وهي: مرفأ في جنوب إسبانيا بالأندلس على البحر الأبيض المتوسط، وتعلم الطب، ورحل إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم؛ باحثًا عن الأعشاب والعارفين بها، حتى كان الحجة في معرفة أنواع النبات، وتحقيقه وصفاته وأسمائه وأماكنه. وجعله الملك "محمد الكامل الأيوبي" رئيسًا للعشابين في الديار المصرية، واستبقاه الملك "الصالح أيوب" واشتهر شهرة عظيمة.

_ 1 يوصف ابن سينا من آرائه في العقائد بالإلحاد، قال ابن قيم الجوزية: "وكان ابن سينا -كما أخبر هو عن نفسه- هو وأبوه من أهل دعوة الحاكم، من القرامطة الباطنيين". وجاء في حاشية ترجمته بكتاب "الأعلام للزركلي": يقال: كان الطب معدومًا، فأوجده أبقراط، وكان ميتًا فأحياه جالينوس، وكان متفرقًا فجمعه الرازي، وكان ناقصًا فأكمله ابن سينا.

وهو صاحب كتاب: "الأدولة المفردة، ط" في مجلدين، المعروف بمفردات ابن البيطار، وله كتاب: "المغني في الأدوية المفردة، خ" مرتب على مداواة الأعضاء. وله كتاب: "ميزان الطبيب، خ" وله غيرها من الكتب. 7- ابن النفيس: هو "علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي الملقب بابن النفيس 000-687هـ". أعلم أهل عصره بالطب، أصله من بلدة "قرش" فيما وراء النهر، ولد في دمشق، وتوفي بمصر. له كتب كثيرة، منها كتاب: "الموجز، ط" في الطب، اختصر به قانون ابن سينا. وكتاب: "المهذب، خ" في الكحل. وكتاب: "الشامل" في الطب، وهو كبير جدًّا. وكانت طريقته في التأليف أن يكتب من حفظه، وتجرباته، ومشاهداته، ومستنبطاته، وقل أن يراجع أو ينقل1. وقف كتبه وأملاكه على "البيمارستان المنصوري" بالقاهرة. كان أول وأشهر وأعظم عالم بوظائف الأعضاء، واستطاع أن يفهم جيدًا الدورة الدموية الصغرى ويصفها لأول مرة، وهو في هذا رائد لمن أتوا من بعده2. كان ابن النفيس الإمام الأول لـ"هارفي" الطبيب البريطاني الشهير. وقد كشف الدورة الدموية الصغرى، وقال: "إن الدم ينقى في الرئتين قبل "سرفيتوس" بثلاثة قرون3.

_ 1 عن الزركلي في كتابه "الأعلام". 2 عن جلال مظهر في كتابه "أثر العرب في الحضارة الأوروبية" صفحة 263. 3 عن قدري حافظ طوقان في كتابه: "العلوم عند العرب" ص215.

8- ابن خاتمة: هو "أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن خاتمة ... -بعد 770هـ". طبيب مؤرخ من الأدباء البلغاء من أهل المرية بالأندلس. له كتاب: "تحصيل غرض القاصد في المرض الوافد، خ" وضعه سنة "747هجرية". وبحثه في هذا الكتاب تفوق على جميع البحوث العديدة التي انتشرت في أوروبا عن الطاعون، فيما بين القرن الرابع والقرن السادس عشر الميلادية، وهذا موضوع لم يعالجه من قبل أطباء اليونان قط، ومر عليه الكاتبون في الطب في القرون الوسطى مر الكرام1.

_ 1 عن جلال مظهر في المرجع السابق.

المقولة الثالثة: الكيمياء

المقولة الثالثة: الكيمياء 1 1- كان للمسلمين اهتمام بالغ في علم الكيمياء المبني على التجربة، والملاحظة، ورصد النتائج، والاستعانة بالعلوم الرياضية، ودأب المشتغلون منهم في هذا المجال وتجولوا في البلدان بحثًا عن تجارب الناس وما اكتسبوه من خبرات عملية، ودونوا ما توصلوا إليه من معارف، حتى صارت الكيمياء علمًا صحيحًا بفضل جهودهم الطويلة، وتجرباتهم الكثيرة التي أفادوا منها علمًا، وأفادوا منها في حياتهم، وقدموا بها للصناعات منافع كثيرة كانت لها آثارها الطيبة في الرقي الحضاري. 2- ومما ينبغي التنبيه عليه أنهم استعملوا القياس في تجرباتهم، واجتهدوا

_ 1 المعلومات في هذه المقولة مقتبسة من كتاب "العلوم البحتة في العصور الإسلامية" لعمر رضا كحالة. ومن كتاب "العلوم عند العرب" لقدري حافظ طوقان.

اجتهادات مضنيات للحصول على معلومات جديدات لم تكن معروفة للناس من قبل. وكان اعتمادهم على التجربة المتابعة بالتكرار والتحسين والتجويد، والمصحوبة بالمراقبة ودقة الملاحظة، والمقترنة باختبار مختلف الاحتمالات وملاحظة نتائجها، مع استخدام ما كان لدى الناس وما ابتكروه من أدوات وآلات، سببًا في تمكينهم من استنتاج نتائج جديدة جليلة، وإضافة معلومات جوهرية في علم الكيمياء، وسببًا في توصلهم إلى ابتكارات واكتشافات كثيرة، وتقدم بهم علم الكيمياء تقدمًا واسعًا. 3- وقاد المنهج التجريبي علماء المسلمين الذين اشتغلوا بالكيمياء لاختراع التصفية، والتبخير، ورفع الأثقال، واستخدام الموازنة في الكيمياء. وبه توصلوا إلى استخدام عمليات التقطير، والترشيح، والتصعيد، والتذويب، وإلى اكتشاف واختراع وسائل ذلك. وبه اكتشفوا بعض الأجزاء الكيميائية ذات الأهمية، وبه استخرجوا الكحول "الغول" من المواد السكرية، والنشوية، واكتشفوا القلويات، والنشادر، ونترات الفضة، وحامض الطرطير، والراسب الأحمر. 4- وكانوا أول من استحضر حامض الكبريتيك، وحامض النتريك، والماء الملكي "حامض النتر وهيدروكلوريك" وماء الذهب، والصودا الكاوية، وكربونات البوتاسيوم، وكربونات الصوديوم. واستخدموا الزرنيخ، والإثمد، ومواد كثيرة أخرى. 5- وما توصل المسلمون إليه بالعمليات الكيميائية التي أجروها، وما اكتشفوه أو اكتشفوا تأثيراته من المواد الكيميائية، هو من العناصر التي تقوم عليها الصناعات الحديثة في القرن العشرين الميلادي. 6- واستخدام المسلمون علم الكيمياء في الطب، والصناعات، وصنع العقاقير, وتركيب الأدوية، وتنقية المعادن، وتركيب الروائح العطرية، ودبغ الجلود، وصبغ الأقمشة.

7- وكان من وصايا أهل البصيرة والرشد من علماء المسلمين المشتغلين بالكيمياء، وجوب الاعتماد في الكيمياء على العمل وإجراء التجارب، ومعرفة الأسباب في أجزاء كل عملية، مع الصبر والمثابرة والتآني في استخراج واستنباط النتائج، وكان من وصايا هؤلاء وجوب عدم إضاعة الأوقات فيما هو عديم النفع، أو ثبت بالتجربات المتكررات تعذر الوصول إليه، كتحويل المعادن الخسيسة كالرصاص والقصدير إلى معادن نفيسة كالذهب والفضة. 8- ولكن قد كان لبعض المسلمين أطماع شديدة في تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، فانفقوا أعمارهم في تجارب كثيرة لتحقيق هذه الغاية، فلم تتحقق لهم أمانيهم، إلا أنهم اكتشفوا في طريقهم الطويل، وعلى سبيل المصادفة أشياء ومعلومات لها شأن عظيم في علم الكيمياء، وهذه قد أفادت في تحقيق أغراض أخرى غير الهدف الأقصى الذي كانوا يطمعون في الوصول إليه. 9- وقد اعتمدت النهضة الغربية العلمية والعملية على منهج علماء المسلمين التجريبي، وعلى ما توصلوا إليه في علم الكيمياء، وكان هذان الأمران هما القاعدتان الأساسيتان، اللتان أقام عليهما الباحثون الغربيون في علم الكيمياء نهضتهم، التي انطلقت صاعدة منذ بدايات القرن السابع عشر الميلادي، وفي حركة البناء والصعود الحضاري طوروا وجودوا وحسنوا وابتكروا وتفوقوا. 10- وقد برز في تاريخ المسلمين في مجال الكيمياء أعلام كثيرون أذكر طائفة منهم فيما يلي: بعض أبرز أعلام المسلمين في الكيمياء 1 1- جابر بن حيان: هو "أبو موسى جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي 000-200هـ" فيلسوف كيميائي، من أهل الكوفة، وأصله من خراسان، ويعرف بالصوفي.

_ 1 التراجم مقتبسة من كتاب "الأعلام" للزركلي، ومن كتاب "العلوم عند العرب" لقدري حافظ طوقان، وكتاب "العلوم البحتة في العصور الإسلامية" لعمر رضا كحالة.

اتصل بالبرامكة، وانقطع إلى "جعفر بن يحيى" منهم، وتوفي بطوس. له تصانيف كثيرة قبل عددها "232" كتابًا، وقيل: بلغت "500" ضاع أكثرها، وترجم بعض ما بقي منها إلى اللاتينية. ولجابر بن حيان شهرة كبيرة عند الإفرنج بما نقلوه من كتبه، في بدء نهضتهم العلمية. قال "برتلو - M. Berthelot": "لجابر في الكيمياء ما لأرسطوطاليس قبله في المنطق". وجابر بن حيان أول من استخرج حامض الكبريتيك، وسماه زيت الزاج، وأول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استحضر ماء الذهب. وينسب إليه أيضًا استحضار مركبات أخرى، مثل: كربونات البوتاسيوم، وكربونات الصوديوم. وقد درس خصائص مركبات الزئبق واستحضرها. وقال: "لوبون G. Le Bon": "تتألف من كتب جابر موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء في عصره". وقد اشتملت كتبه على بيان مركبات كيماوية كانت مجهولة قبله. وهو أول من وصف أعمال التقطير، والتبلور، والتذويب، والتحويل1. وقد فحص "تدابر بن حيان" ما خلفه الأقدمون، فخالف "أرسطو" في نظريته عن تكوين الفلزات، وخرج بنظرية جديدة، ونظريته التي خرج بها قد بقيت معمولًا بها حتى القرن الثامن عشر الميلادي. وابتكر جابر في الكيمياء علم الموازين، فجعل لكل من الطبائع ميزانًا، ولكل جسد من الأجساد موازين خاصة بطبائعه. وكان "جابر بن حيان" أول من لاحظ ما يحدث من راسب كلورور

_ 1 عن الأعلام للزركلي.

الفضة، عند إضافة محلول ملح الطعام إلى محلول نترات الفضة. واستعمل ثاني أوكسيد المنغنيز في تلوين الزجاج، ودرس خصائص ومركبات الزئبق واستحضرها. وبحث "جابر بن حيان" في السموم، وله فيها كتاب "السموم ودفع مضارها" ولعل هذا الكتاب أروع ما كتب في هذا الموضوع. 2- ذو النون المصري: هو "أبو الفياص ثوبان بن إبراهيم الإخيمي المصري 000-245هـ" أحد العباد الزهاد المشهورين، من أهل مصر، نوبي الأصل، من الموالي. فقد كان له اشتغال في الكيمياء، وله كتاب: "الثقة في الصنعة" والمراد من الصنعة الأعمال الكيميائية. 3- ابن وحشية: هو "أبو بكر أحمد بن علي بن قيس بن المختار بن عبد الكريم بن حرثيا ويعرف بابن الوحشية 000-296هـ". ينعت بالصوفي، وهو كداني الأصل، نبطي من أهل قسين "كورة من نواحي الكوفة" وكان طبيبًا للعيون. له من الكتب في صناعة الكيمياء: كتاب "الأصول الكبير" وكتاب "الأصول الصغير" وكتاب "المدرجة" وكتاب "المذاكرة" وكتاب يحتوي على عشرين كتابًا في صناعة الكيمياء. 4- أبو بكر محمد بن زكريا الرازي: سبقت ترجمته في "أبرز أعلام المسلمين في الطب والصيدلة" ويعتبر أبو بكر الرازي هذا من مؤسسي الكيمياء العلمية، فقد سلك في تجاربه مسلكًا علميًّا خالصًا، الأمر الذي جعل لبحوثه في الكيمياء قيمة عظيمة. وقد ترجمت طائفة من كتبه إلى اللاتينية، وظلت مدة طويلة تدرس في جامعات أوروبة.

ويعد الرازي هذا من الأوائل الذين طبقوا معلوماتهم في الكيمياء على الطب. ويتجلى فضل الرازي في الكيمياء بصورة واضحة في تقسيمه المواد الكيميائية المعروفة في زمانه إلى أربعة أقسام أساسية، وهي: 1- المواد المعدنية. 2- المواد النباتية. 3- المواد الحيوانية. 4- المواد المشتقة. وقسم المعدنيات إلى ست طوائف فرعية هي: الأرواح، والأجساد، والأحجار، والزاجات، والبورقات، والأملاح. ومثل هذا التقسيم لا يكون إلا مستندًا إلى بحث وتجربة. واشتغل الرازي في حساب الكثافات النوعية للسوائل، واستعمل لذلك ميزانًا خاصًّا سماه الميزان الطبيعي. وله في علم الكيمياء كتاب يحتوي على اثني عشر كتابًا.

المقولة الرابعة: الفلاحة والنبات

المقولة الرابعة: الفلاحة والنبات اقتبس المسلمون من مختلف شعوب الأرض أحسن ما توصلوا إليه في الفلاحة، والاستنبات، والغرس، والتلقيح، والتطعيم، والسقي، وإمداد الأرض بالسماد، وتعهد الزروع والثمار حتى تبلغ غاية نضجها وصلاحها، ومعرفة ذكور النباتات وإناثها. واقتبسوا أحسن الطرق للانتفاع بالزروع والثمار رطبة أو يابسة، وأحسن الطرق لتجفيف الرطب منها وإدخاره. وكانت لهم عناية فائقة بالورود والرياحين ونباتات وأشجار الزينة، وعناية بالنباتات الدوائية، حتى كانت ساحات دور السكن عندهم بمثابة حدائق غناء، تجتمع فيها الورود والرياحين ونباتات وأشجار الزينة، وبعض الأشجار المثمرة، كالحمضيات، وكأشجار العنب التي تمتد على العرايش، فتعطي ظلًّا وثمرًا طيبًا. ونقلوا أنواعًا من النباتات الأرضية والشجرية إلى بلاد نائية لم تكن تعرف فيها، ورافق ذلك الفتوح الإسلامية التي امتدت في الشرق والغرب، ورافق ذلك تنقل المسلمين في مختلف قارات الأرض، وتنقلهم الآمن في أرجاء الدنيا. وكان لأمراء المسلمين في البلدان النائبة تأثير في جلب ونقل كثير من النباتات والأشجار التي يحبون أن تكون في حدائقهم وبساتينهم، مما كان في أرضهم التي نزحوا عنها، أو مما شهدوه في الأرض التي أقاموا فيها، أو مروا عليها. وبعد حسن الاقتباس، وانتقاء أجود تجارب الشعوب وأفضلها، كان للمسلمين تجرباتهم الخاصة، أضافوا بها تحسينات وابتكارات لم تكن معروفة من قبلهم. وعن بلدان العالم الإسلامي نقل الغربيون كثيرًا من النباتات الأرضية، فاستنبتوها في أراضيهم، وأخذوا كثيرًا من بروز الأشجار وفسائلها، وبذروها أو غرسوها في أرضيهم. وشواهد هذه الحقائق ما تزال ماثلة في مزارع بلدان العالم الإسلامي، وبساتينه، وحدائق كثير من دور السكن فيه. وتتبع علماء المسلمين خصائص النباتات وما في كثير منها من فوائد علاجية دوائية أو غذائية، ودونوا ما توصلوا إليه من معلومات منقولة، ومعلومات كانت نتيجة تجربات قاموا بها بأنفسهم. ويجد المتتبعون لما كتب في اللغة العربية بأقلام المسلمين مؤلفات كثيرات جدًّا، تذكر النباتات وتصفها وتبين ما فيها من خصائص للغذاء أو للدواء.

وامتلأت حوانيت ومخازن العطارين بأصناف كثيرة من مجففات النباتات العلاجية المجلوبة من الصحاري والجبال والبساتين؛ إذ كان الأطباء يصفونها في علاجاتهم، وكانت للشعوب تحريات لكثير منها، فهم يشترون من العطارين منها ما يعتقدون النفع فيه للتغذية أو التقوية، أو للدواء. وتعرف الغربيون عن طريق المسلمين على الفوائد العلاجية، لكثير من النباتات التي كانت تباع في أسواق العطارين في بلدان العالم الإسلامي، فصاروا يشترون منها مقادير وفيرة، ويصنعون منها الأدوية والعقاقير في بلدانهم، ضمن قوارير شراب، أو مضغوطة في حبوب، ويستعملونها في بلادهم، ويصدون منها إلى بلدان العالم الإسلامي وسائر بلاد الأرض. وما تزال الصناعات الدوائية في العالم تعتمد على خصائص النباتات التي كانت تركب منها الأدوية، إلا أن معظم مصانع الأدوية صارت تستخدم بدائل كيميائية للعناصر الكيميائية المؤثرة في العلاج، والتي تشتمل عليها النباتات الدوائية، لكن كثيرًا من العلماء المحققين يرون أن البدائل الكيميائة لا تطابق النسب الحكيمة الموجودة في النباتات، ومن أجل هذا تكون تأثيراتها الجانبية الضارة أكثر من التأثيرات الجانبية الضارة التي قد تشتمل عليها النباتات الدوائية، وقلما توجد هذه التأثيرات الجانبية الضارة في النباتات، إذا أخذت بالمقادير المناسبة، أو أضيف إليها ما يعدلها، ويدفع أضرارها.

المقولة الخامسة: الحيوان

المقولة الخامسة: الحيوان كان للعرب قبل الإسلام، ثم للمسلمين عناية بالغة بأنواع الحيوانات وأصنافها، من ذوات النفع من لحومها، أو ألبانها، أو أصوافها، أو أوبارها، أو أشعارها، أو ريشها، أو بيضها، أو ركوبها وحمل الأثقال عليها، أو الكر والفر على ظهورها، أو استخدامها في الصيد، أو في غير ذلك من المنافع. وكان لهم اهتمام شديد بتربيتها، وتحديد صفاتها، وتسمية أنواعها وأصنافها، ووضع أسماء اجزائها الظاهرة والباطنة. واهتموا أيضًا بالحيوانات الوحشية، وبالتعرف عليها وعلى صفاتها وخصائصها، والاستفادة من بعضها في العلاجات والاستخدامات الدوائية، ونجد ذكرًا لها وللمنافع التي تتصل بها في كتب المفردات الدوائية. وكذلك اهتموا بالحيوانات الزاحفة كبارها وصغارها، واعتنوا بالطيور وأنواعها وأصنافها وصفاتها وخصائصها ومنافعها. واشتملت كتب المسلمين التي تحدثت عن بعض الحيوانات، كالإبل والبقر والغنم والخيل، وكتبهم التي تحدثت عن الحيوانات، بصفة عامة، ككتاب "الحيوان" للجاحظ على ذكر ما يتعلق بكل حيوان على حدة، ونجد في وصف كل حيوان كتب عنه المسلمون ما اجتمع لديهم من معلومات موروثة عن العرب قبل الإسلام، وعن العرب المسلمين، وما توصل إليه الكاتبون بملاحظاتهم وتجرباتهم الخاصة، وما اطلعوا عليه من معلومات وصلت إليهم من الشعوب المختلفة التي دخلت في الإسلام كلها أو جلها أو بعضها، ومعلومات نقلوها من مؤلفات الأمم السابقة التي لها مؤلفات في الحيوانات، كاليونان، والفرس، والهنود وغيرها. ثم ما اكتشفه المسلمون عبر التاريخ الإسلامي من صفات وخصائص الحيوانات الداجنة وغير الداجنة، وحيوانات الصحاري والقفار والجبال والغابات والأنفاق. وقد اجتمع لدى المسلمين ثروة علمية وعملية عظيمة في هذا المجال. ومما لا شك فيه أن الغربيين في نهضتهم الحضارية قد استفادوا من هذه الثروة التي تجمعت لدى المسلمين، ثم بنوا عليها انطلاقتهم الحضارية العلمية والعملية في هذا المجال. وبناء على ما استفاده الغربيون من المنهج التجريبي الذي تعلموه من المسلمين في العلوم الكونية النظرية والتطبيقية، فقد انفتحت أمامهم آفاق علم

واسع جدًّا في هذا المجال، وأخذت تتراكم لديهم المعارف المبنية على المشاهدة والتجربة والاختبار والملاحظة والوصف وتدوين النتائج. ولا شك أن هذه المعارف في علم الأحياء تقدم لذوي العقول الحصيفة النظيفة الرشيدة التي تنشد الحق أدلة لا حصر لها، تدل على الخالق العليم الحكيم القدير الذي يخلق ما يشاء ويختار، والذي أتقن كل شيء صنعًا، إلا أن الآراء الداروينية الباطلة قد حجبت عن الذين كفروا هذه الأدلة.

الفصل الثامن: عناية المسلمين بالعلم والتعليم والتربية على الفضائل الإسلامية خلقا وسلوكا

الفصل الثامن: عناية المسلمين بالعلم والتعليم والتربية على الفضائل الإسلامية خلقا وسلوكا النشأة والتأسيس ... الفصل الثامن: عناية المسلمين بالعلم والتعليم والتربية على الفضائل الإسلامية حلقًا وسلوكًا 1- النشأة والتأسيس: 1- إن هدف العلم والتعليم والتربية على الفضائل الإسلامية الخلقية والسلوكية تحقيق السعادتين الدنيوية والأخروية. ويكون تحقيق هاتين السعادتين في المفهومات الإسلامية بما يلي: - بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وبكل ما جاء من عند الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالإيمان بأن الدنيا دار امتحان، وأن الآخرة دار حساب، وفصل قضاء، وتحقيق جزاء. - وبالعمل بأحكام الإسلام وشرائعه وتكاليفه ووصاياه، وبالعمل على نشر الإسلام في الأرض، ودعوة الناس إليه، وابتغاء الخير للناس أجمعين. - وبأن ينال الإنسان نصيبه من الحياة الدنيا، ضمن أحكام دين الله وطاعته، وبأن يعمل على إعمار الأرض واستثمارها متعاونًا مع غيره على البر والتقوى. 2- وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تاريخ رسالته للناس هو المعلم والمربي لأصحابه، وكان القرآن المجيد الذي أنزل عليه صلوات الله عليه، ومع بياناته القولية والعملية المادتين الأساسيتين للتعليم، تلقيًا وحفظًا وفهمًا وأداء، وللتربية المثلى على تطبيق ما اشتملا عليه من عناصر تربوية، وفضائل خلقية وسلوكية. ولا تزالات هاتان المادتان، هما الأساسيتان والرئيسيتان للتعليم وللتربية، لكل من أراد أن يحقق لنفسه أكبر حظ من السعادتين الدنيوية والأخروية. 3- ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كان معلمًا ومربيًا دوامًا، في كل موقع يكون فيه مع غيره من الناس، بحاله وبمقاله، ولو كان على ظهر دابة في سفر، إلا أن المسجد قد كان هو المدرسة الأم؛ إذ كان المسجد في سياسته التعليمية والتربوية للصلوات في أوقاتها، وكان مركز بث ضياء العلم ونور التربية في سائر الأوقات، مع قضاء مصالح إدارية للأمة الإسلامية، ودولتهم الآخذة في طور التأسيس والإنشاء.

4- واستمرت المساجد والجوامع في تاريخ المسلمين، مراكز مهمة لبث ضياء العلم ونور التربية، على فضائل الإسلام خلقًا وسلوكًا. وكان علماء المسلمين يتخذون منها أبراجًا لنشر ضياء علم الكتاب والسنة، وبث أنوار هدايتهما، مع نشر العلوم التي تخدم نصوصهما، أو تخدم مضامينهما، أو تكون ظواهر تطبيقية لما دعيا إليه، كالعلوم الكونية المختلفة الكاشفة لآيات الله في كونه. على أن العلماء والفقهاء والوعاظ كانوا يتأسون برسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمون ويعظون ويرشدون في كل موقع يتاح لهم فيه أن يؤدوا هذه الواجبات؛ إذ يرونها من وظائفهم التي كلفهم الله إياها، وهم يعقدون حلقات التعليم والموعظة والفتيا في بيوتهم، أو بيوت محبهم من أهل الخير واليسار. 5- واستمر الحرمان الشريفان: الحرم المكي، والحرم المدني، في معظم أدوار تاريخ المسلمين، قاعدتين كُبْرَيَيْن من قواعد بث علوم الكتاب المجيد، والسنة المطهرة. وفي الفقرات التاليات نظرات موجزات، حول مهمات العلم والتعليم والتربية، في بلدان المسلمين، عبر التاريخ الذي كان للمسلمين فيه حكم وسلطان في بلدانهم1.

_ 1 المعلومات التاريخية في فقرات هذا الفصل مقتبسة من كتاب "دراسات اجتماعية في العصور الإسلامية" تأليف "عمر رضا كحالة" مع الرجوع إلى بعض الموسوعات.

العلم والتعليم والتربية في بلاد الشام

2- العلم والتعليم والتربية في بلاد الشام: 1- بقيت المساجد والجوامع في بلاد الشام بيوتًا لله لإقامة الصلوات فيها، ومراكز مهمة للعلم والتعليم والموعظة، والتربية على الفضائل الأخلاقية والسلوكية الإسلامية. 2- وكان يُبنى إلى جوار أروقة معظم الجوامع وبعض المساجد حجرات لإقامة الأئمة والخطباء والمدرسين والعلماء فيها، ثم لإقامة الوافدين من طلاب العلم الغرباء. 3- وكان لعلماء المسلمين والواعظين المرشدين حلقات علم وتعليم وموعظة في هذه الجوامع والمساجد، يعقدونها لطلاب العلم، أو لمستمعي الموعظة. وكان طلاب العلم على فريقين: - فريق ينقطع لطلب العلم، منصرفًا من أعمال الدنيا، فساعات اليوم عند هذا الفريق مقسمة على دروس العلم الجامعة لمختلف المواد الدراسية، وقضاء مصالح حياتهم الأخرى. - وفريق يجمع بين طلب العلم، وبين أعمال الكسب، فيجعلون لطلب العلم الوقت الممتد من بعد صلاة الفجر وأورادها إلى ما بعد إشراق الشمس بنحو ساعة أو أكثر، ومن بعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، ومن بعد صلاة العشاء إلى غاية ثلث الليل الأول، وقد يضيف إلى هذه الأوقات ساعة بعد صلاة العصر. 4- وقد يكون في الجامع الواحد عالم أو اثنان أو ثلاثة، ولهم فيه حلقات يعلمون فيها الفقه وأصوله، والحديث ومصطلحه والتفسير والتوحيد، وعلوم اللغة العربية على اختلافها، والعلوم المساعدة على فهم نصوص القرآن والسنة كالمنطق، ومتعلمو علم الفرائض يتعلمون معه الحساب لأنه المساعد على تقسيم المواريث بالدقة المطلوبة. 5- وصارت مدينة "حلب" كعبة الأدب والأدباء في عهد سيف الدولة الحمداني. 6- واستمر حال التعليم والتربية في البلاد الشامية في المساجد والجوامع على ما سبق بيانه أكثر من أربعة قرون، وقد تخرج في هذه المراكز التعليمية التربوية كبار العلماء الصلحاء الموسوعيون، وذوو التخصصات في بعض العلوم،

الذين ذاع صيتهم، وانتشرت في أقطار البلاد الإسلامية مصنفاتهم المحررة النافعة. وكانت العلاقة بين الأستاذ وتلاميذه كعلاقة الأب بابنه، فالأستاذ معلم ومرب ومنفق، وإذا أعجب بتلميذه زوجه بنته. 7- ولم تؤسس في بلاد الشام مدارس ذات وضع نظامي للأساتذة وللطلاب، حتى أواسط القرن الخامس الهجري. ففي سنة "444هـ" أسس "رشأ بن نظيف بن ما شاء الله" الدمشقي مدرسة جعلها دارًا للقرآن، وهي المعرفة باسم "الرشائية". وفي سنة "510هـ" أنشأ صاحب حلب "بدر الدولة أبو الربيع سليمان بن عبد الجبار بن أرتق" مدرسة عرفت باسم المدرسة الزجاجية. وفي هذه الحقبة أقام "الحسن بن عمار" قاضي طرابلس للفاطميين مدرسة أطلق عليها اسم "دار الحكمة" لتكون بمثابة جامعة، على غرار "دار الحكمة" التي أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر، وكان الهدف منهما نشر الفكر الفاطمي الباطني. ولما استولى "نور الدين محمود بن زكي" على الشام، وجه همته الكبيرة، وعنايته العظيمة لبناء المدارس، واستدعى لها كبار علماء المسلمين من أهل السنة، من مختلف الأقطار. فبنى "نور الدين" في حلب مدرسة تعرف بالمدرسة "العصرونية" نسبة إلى العالم الفقيه "سنجار شرف الدين بن أبي عصرون" الذي استدعاه للإشراف عليها. وبنى عدة مدارس أخرى، مدرسة في "منبج" ومدرسة في "حماة" ومدرسة في "حمص" ومدرسة في "بعلبك" ومدرسة في "دمشق". وكثرت المدارس جدًّا، في عهد "نور الدين محمد بن زنكي" ثم في عهد "صلاح الدين الأيوبي" لشدة اهتمام وعناية هذين السلطانين السنيين، بالعلم.

والتعليم، والوقوف في وجه تيار المفاهيم الباطنة التي أراد الفاطميون أن ينشروها من خلال المدارس التي أسسوها، لتحريف الفكر الإسلامي، وإفساد أصوله وفروعه، مع إبقاء مظهر الانتماء إلى الإسلام نفاقًا. ولم يقتصر إنشاء المدارس في هذين العهدين على ما كان يأمر به السلطان، بل توجهت عناية كثير من المسلمين الموسرين من أفراد الشعب لإنشاء المدارس، ابتغاء مرضاة الله، على اختلاف مراكزهم الاجتماعية، ومنهم بعض بنات الأمراء والسلاطين. وكان من هذه المدارس مدارس خاصة بتخريج الأطباء، والصيادلة، والكحالين "= أطباء العيون" والمهندسيين وغيرهم من أصحاب التخصصات الدنيوية المدنية. وكان من هذه المدارس مدارس متخصصة ببعض العلوم الإسلامية، أو العلوم المساعدة كاللغة العربية. حتى بلغ عدد المدارس في دمشق وحدها قرابة عدد أيام السنة، وكانت هذه المدارس تستضيف الزائرين الوافدين إلى دمشق من طلاب العلم، وباستطاعة الوافد أن يتنقل زائرًا من مدرسة إلى أخرى طوال حول كامل، دون أن يكرر زيارته لأي واحدة منها، وفي زيارته يستضاف استضافة تامة. وكان الموظفون في هذه المدارس يخضعون لنظام توظيفي يحدد أعمال كل موظف، ومسئولياته في وظيفته، وراتبه. ولكل مدرسة من الأوقاف ذوات الغلة، ما تكفي غلتها النفقات التي تحتاجها المدرسة، للطلاب والأساتذة والموظفين، والترميمات وغيرها. ومن وظائف هذه المدارس التي اشتملت عليها صكوك الوقفيات ما يلي: - كاتب الغيبة: وهو المسئول عن تسجيل أسماء الذين يتغيبون من الطلاب عن حضور الدروس، وما فاته حضوره من أبواب أو فصول العلم الذي

غاب عن حضور بعض دروسه، ويرفع أمره إلى الناظر ليحسم من راتبه بمقدار تخلفه، ما لم يكن تخلفه بعذر مقبول. - الناظر: وهو الذي يتولى إدارة أموال وقف المدرسة، والإنفاق عليها. - الشاهد: وهو الذي يراقب الناظر في أعماله، ويشهد على عقود تصرفاته المالية. - نائب الناظر: وهو الذي يجعله الناظر نائبًا عنه في أعماله. - المشرف: وهو المشرف على نظافة المدرسة وأنواع الخدمات العامة فيها، والمتابع للأمور المتعلقة بذلك. -الفقيه: وهو المشهود له بأنه عالم بالفقه، ويسمح له بتدريسه. - المقرئ: وهو العالم بالقراءات السبع أو العشر، المتقن لأدائها بالتجويد الكامل، والمأذون له بأن يُقرئ ويُعلم ضبط تلاوة القرآن. - شيخ المدرسة: وهو رئيسها ومديرها العام. - ناظر المكتبة: وهو المسئول عن حفظ كتب مكتبة المدرسة، وترتيبها، والإعارة منها ومتابعة إعادة المستعار منها إليها. - المعيد: وهو المدرس الذي يُعيد على الطلبة ما قرره أستاذ الحلقة، وتسمى وظيفته "الإعادة". إلى غير ذلك من وظائف، وأسماء أطلقت عليها. 8- وقد أحصى "الدكتور عبد الجليل حسن عبد المهدي" مؤسسات التعليم في بيت المقدس وحدها في العصرين الأيوبي والمملوكي فبلغت "15" مؤسسة في العصر الأيوبي، "57" مؤسسة في العصر المملوكي1.

_ 1 انظر كتابه الذي يقع في جزئين: "المدارس في بيت المقدس، في العصرين الأيوبي والمملوكي" ودورها في الحركة الفكرية.

العلم والتعليم والتربية في أيام العباسيين في العراق والأقاليم حوله

3- العلم والتعليم والتربية في أيام العباسيين في العراق والأقاليم حوله: بالإضافة إلى المساجد والجوامع التي هي المراكز الأولى للعلم والتعليم والتربية في بلدان المسلمين جميعًا، فقد أسست في العصر العباسي مؤسسات تعليمية مختلفة زيادة على المساجد والجوامع. 1- ففي العصر العباسي أسست مدارس لتعليم الصغار القراءة والكتابة والقرآن الكريم، وقد يضاف إليها تعليم شيء من قواعد اللغة العربية، وكانت تسمى هذه المدارس "كتاتيب" والواحد منها "كتاب". ثم انتشرت هذه الكتاتيب في المدن والقرى. وفيه اتسعت مواد التعليم في حلقات العلماء التي كانت تعقد في المساجد والجوامع. وكان الخلفاء والأمراء والأغنياء يتخذون لأولادهم معلمين خاصين. 2- وفيه اتسعت دوائر التعليم، حتى صارت تعقد المناظرات والمجالس العلمية في المساجد والمكتبات والقصور وبيوت العلماء والوزراء. وفيه ظهرت حركة علمية عن طريق المراسلات بين العلماء، أسئلة وأجوبة، فإذا اشتهر عالم بعلم ما أو بعدة علوم، في بلد من بلدان المسلمين، أخذت تتوافد عليه الرسائل التي يسأله أصحابها فيها مسائل ليجيبهم عليها. 4- وكانت العلاقة بين الأستاذ وتلاميذه كعلاقة الأب بابنه، فالأستاذ معلم ومرب ومنفق، والتلميذ مطيع وخادم، وإذا أعجب الأستاذ بتلميذه وكانت لديه بنت مناسبة زوجه بنته، وهذه الظاهرة كانت منتشرة في كل بلدان العالم الإسلامي، وفي مختلف العصور. المدارس النظامية: 5- وفي القرن الخامس الهجري أسست المدارس النظامية العالية، التي تشبه الجامعات في عصرنا الحاضر.

وقد أسس هذه المدارس النظامية الوزير "أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي 408-485هـ" الذي لقب بلقب "نظام الملك" وبلقب "قوام الدين". فقد كان وزيرًا حازمًا عالي الهمة، أصله من نواحي "طوس" وقد تأدب بالآداب العربية، وسمع الحديث النبوي الشريف بكثرة، واشتغل بالأعمال السلطانية. اتصل بالسلطان "ألب أرسلان" فاستوزره، فأحسن التدبير، وبقي في خدمته عشر سنين، ولما توفي "ألب أرسلان" خلفه ولده "ملك شاه" فصار الأمر كله للوزير "نظام الملك" أما السلطان "ملك شاه" فليس له إلا تخت الحكم والصيد. وقد كان "نظام الملك" من حسنات الدهر، واستمر في عمله عشرين سنة، حتى اغتاله ديملي قرمطي من أتباع "الحسن بن الصباح" أحد أخباث القرامطة الكبار وقادتهم، على مقربة من نهاوند. وكانت أيام "نظام الملك" أيام دولة العلم والعلماء، فقد وجه عنايته الفائقة، وهمته الصادقة، للتعليم ونشر العلم على مذهب أهل السنة، وبذل غاية وسعه في تأسيس المدارس التي عرفت بالمدارس النظامية نسبة إليه. فقام بتأسيس هذه المدارس في "أصفهان" وهي تقع في وسط إيران، وفي "نيسابور" وهي تقع في شمال شرق إيران، وفي "البصرة" وفي "بغداد" وفي أقصى الروم. وكانت هذه المدارس تقوم بالتعليم، وبالتربية على الفضائل الإسلامية الخلقية والسلوكية، وتقدم لطلاب العلم فيها السكن الداخلي، ووسائل العيش. ومن أشهر هذه المدارس "المدرسة النظامية ببغداد" وقد افتتحها الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" في حفل عظيم، وقد كنت هذه المدرسة ذات أوقاف كثيرة، وكان المدرسون فيها من كبار العلماء، أمثال "أبي حامد الغزالي" وقد تخرج منها علماء فضلاء كثيرون، وقد كانت وفقًا على أصحاب المذهب الشافعي فقط. وكان مدرسو المدارس النظامية على ثلاث طبقات:

الطبقة الأولى: المدرسون، وكان لكل واحد منهم نائبان، يقوم أحدهما بالتدريس، عند غياب المدرس الأصلي. الطبقة الثانية: المعيدون، وهم الذين يعيدون الدروس التي يقررها المدرس، شيخ الحلقة الأصلي أو نائبه. الطبقة الثالثة: الوعاظ. وكان لكل مدرسة من المدارس النظامية دار كتب خاصة بها. وكان المدرسون ونوابهم من كبار العلماء المشهورين. وكان المعيدون والوعاظ وخزنة دار الكتب من العلماء الأكفاء المرموقين. فمن الذين كانوا أساتذة في المدرسة النظامية ببغداد: - أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة "496هـ". - ويحيى بن علي المعروف بالخطيب التبريزي المتوفى سنة "502هـ". - وعلي بن محمد الطبري المتوفى سنة "504هـ". - وأبو حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة "505هـ". - ومحمد بن أحمد القفال الشاشي المتوفى سنة "508هـ". - وأبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي المتوفى سنة "597هـ". وكثيرون غيرهم. وقد تخرج من المدرسة النظامية ببغداد مشاهير من العلماء والأدباء، فمنهم: - أبو القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر المتوفى سنة "571". - وأبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري المتوفى سنة "576هـ".

- وعماد الدين محمد بن محمد الأصفهاني المعروف بالعماد الكاتب المتوفى سنة "597هـ". وكثيرون غيرهم. وقد كان للمدارس النظامية أثر عظيم في انتشار العلم وكثرة العلماء في العالم الإسلامي. المدرسة المستنصرية ببغداد: 6- وفي سنة "625هـ" شرع الخليفة المستنصر بالله العباسي في تأسيس مدرسة عظيمة ببغداد، في محلة سوق الثلاثاء، وتم بناؤها في شهر جمادى الآخرة، سنة "631هـ" وفتحت يوم الخميس 20 من شهر رجب سنة "631هـ" وأطلق عليها اسم "المدرسة المستنصرية" نسبة إلى مؤسسها. وكانت هذه المدرسة أكبر وأحدث من المدرسة النظامية ببغداد، وقد جعلها "المستنصر بالله العباسي" وقفًا على أصحاب المذاهب السنية الأربعة، فاستطاع بذلك الالتحاق بها الأحناف والملكية والشافعية والحنابلة. وقد تكونت "المدرسة المستنصرية" ببغداد من عدة أقسام، وكان كل قسم منها يشبه كلية في مصطلحاتنا المعاصرة، وله بناء خاص به، وقد اشتملت هذه المدرسة على الأقسام التالية: - قسم للعربية. - وقسم للرياضيات والعلوم الأخرى المشابهة. - وقسم للطب والعلوم الطبيعية. - وقسم للفقه وأصوله. - ودار للقرآن الكريم وعلومه. - ودار للحديث النبوي الشريف وعلومه.

وقد احتل قسم الفقه الاهتمام الأعظم من بين سائر الأقسام، بسبب كثرة أساتذته وطلابه، ومناظرات فقهاء المذاهب الأربعة فيها: وقد جعل هذا القسم أربعة أرباع: - ربع للشافعية. - وربع للحنفية. - وربع للمالكية. - وربع للحنابلة. وكل ربع من هذه الأرباع يتكون من طابقين، وفي الطابق الثاني منه رواق، وكان من كل ربع حجرات عديدة للطلاب، وفوقها غرف بعددها وسعتها، وهي تبلغ العشرين في كل قسم من هذه الأقسام. وكان في "المدرسة المستنصرية" أواوين يبلغ ارتفاع كل إيوان منها ارتفاع الطابقين معًا. وكان يتولى إدارة "المدرسة المستنصرية" ناظر يختار من بين كبار موظفي الدولة، الذين اشتهروا بحسن الإرادة والرياسة والقضاء وولاية الأعمال، وكانت لبعضهم مكانة علمية بين العلماء. وقد يسمى هذا الناظر واليًا، ومعه مشرف، وكاتب، وخازن، ومعهم موظفون آخرون، معماريون، وفراشون، وبوابون، وحمامي، ومزين "حلاق" وقيم، وطباخ، وغلام، وخازن الآلات، وخزنة للديوان، وغلمان، ومزملاتي1، ونفاط. وكان يُراعى في اختيار المدرس شروط كثيرة، منها التقوى، وحسن الخلق، والسمعة الحسنة، والعلم الوافر، وسلامة المذهب والاعتقاد.

_ 1 المزملة: هي التي يبرد فيها الماء "عراقية" عن القاموس المحيط فالمزملاني هو المسئول عن تبريد الماء وجلبه لطالبيه مبردًا.

أما المعيد فهو دون المدرس، وأرقى درجة من عامة الطلبة، وهو الذي يعيد الدرس بعد إلقاء المدرس الأصلي أو نائبه الدرس على الطلبة. والطالب النبيه المجد الذي يجد فيه الأستاذ كفاءة وصلاحية لوظيفة المعيدية يعينه أو يرشحه ليكون معيدًا، ثم قد يُرقى المعيد فيكون مدرسًا. وكان المدرس يجلس على كرسي عند التدريس، ويلبس ثياب السواد، وعلى رأسه عمامة، وعلى يمينه ويساره معيدان. وكان مدرسو "المدرسة المستنصرية" يختارون من كبار المدرسين والشيوخ العلماء، في العراق والشام ومصر وغيرها من بلدان المسلمين، ممن انتهت إليهم رياسة العلم، أو عرفوا بالبحث والتحري عن الحقائق العلمية، أو كانت لهم مؤلفات قيمات. الإنفاق: أما الإنفاق على الطلبة فقد كان لكل طالب ما يكفيه يوميًّا من خبز، وإدام يطبخ في مطبخ المدرسة، غير الحلوى، والفاكهة، والصابون، والزيت، وكان لكل طالب ديناران شهريًا، لينفق منها في حاجاته الخاصة. وكان الطلاب يسكنون في غرف خاصة تابعة للمدرسة ذات ضوء كاف، ومفروشة بكل ما يحتاجه الطالب لإقاماته، ومزودة بما يحتاجه لمنامه، وفي المدرسة المرافق العامة، لقضاء الحاجات، والطهارة، والاغتسال. قبول راغبي الدراسة فيها: وكانت "المدرسة المستنصرية" تستقبل الطلاب الوافدين من كل بلدان العالم الإسلامي، ضمن حدود استيعابها، وكان يختار للقبول فيها الأفضل فالأفضل.

أقسام العلوم التي كانت تدرس فيها: أما أقسام العلوم التي كانت تدرس فيها فهي: 1- العلوم الدينية، وهي تشمل "علم التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والفرائض، وما يتعلق بها كمصطلح الحديث، وأصول الفقه، والحساب للفرائض". 2- العلوم الأدبية والعربية، وهي تشمل "اللغة، والنحو، والصرف، والعروض، والأخبار والنصوص الأدبية". 3- العلوم الرياضية، وهي تشمل "الحساب، والجبر، والهندسة، والمساحة". 4- العلوم العقلية، وهي تشمل "المنطق، والفلسفة، ونحوهما". 5- العلوم الطبيعية، وهي تشمل "الطب، والصيدلة، وعلم الحيوان". وقد استمر التدريس بالمدرسة "المستنصرية" أربعة قرون، منذ افتتاحها سنة "631هـ" حتى سنة "1030هـ" وهي السنة التي قتل فيها "غانم البغدادي" آخر مدرس من مدرسيها.

العلم والتعليم والتربية في مصر

4- العلم والتعليم والتربية في مصر: 1- اقترن بالفتح الإسلامي لمصر، عناية المسلمين الفاتحين بالعلم والتعليم والتربية على الفضائل الإسلامية الخلقية والسلوكية. 2- فكان التعليم المقرون بالتربية، يتبع في أول الأمر نظام الحلقات في أي موقع تتاح فيه الفرصة لهما. وكان جامع "عمرو بن العاص" رضي الله عنه هو المركز الأكبر، والمكان الأهم لعقد حلقات التعليم، وإلقاء دروس العلم والموعظة، وقد اتخذه الصحابة والتابعون مركزًا أوليًّا لعقد حلقاتهم. ونشطت الحركة العلمية والتعليمية في "جامع عمرو بن العاص" في مصر، وأخذت تنمو وتتسع، حتى صار منارة يؤمها الكثيرون من العلماء الأعلام الذين خلفوا ثروات جليلات، من التصانيف والمؤلفات النافعات. وقد تخرج في حلقات "جامع عمرو بن العاص" عدد كبير من الفقهاء والمحدثين، واستمر كذلك حتى أوائل القرن الرابع الهجري. 3- وكانت تقام أيضًا في مصر حلقات علمية خاصة، في منازل أكابر العلماء والفقهاء؛ إذ كانوا يلتقون فيها بطلاب العلم الإسلامي، والمعرفة الدينية، وراغبي التأدب بآداب الإسلام والتحلي بفضائله. واشتهر من هذه الحلقات حلقة "عبد الله بن الحكم" الفقيه المالكي الذي كان يعقدها في بيته، ثم حلقات ولديه "عبد الرحمن" و"محمد". وكانت حلقاتهم مكان التقاء أكابر العلماء والأدباء المعاصرين لهم، الذين يفدون إلى مصر من مختلف الأقطار. وحين قدم الإمام محمد بن إدريس الشافعي إلى مصر، وجد من أسرة "عبد الله بن الحكم" عناية ورعاية وإكرامًا. ولما عقد "الإمام الشافعي" حلقته في جامع "عمرو بن العاص" كانت هذه الأسرة أول من شجعه وحضر درسه. 4- ثم انتشرت حلقات العلم والتعليم والترتبية والموعظة في كثير من الجوامع الشهيرة في مصر، مثل "جامع أحمد بن طولون". 5- ثم صارت مجالس العلم والتدريس والحلقات الأدبية الخاصة من تقاليد علية المسلمين وأكابرهم، ومن عناصر الحياة الرفيعة في مصر، بفضل الأمير "محمد بن طغج الإخشيدي" وولده "آنوجور" ووزيره الخصي "كافور" وكثير من أمراء الدولة الإخشيدية. 6- وظل نظام الحلقات هو النظام المتبع للدراسة العالية الممتازة، وكان هذا النظام هو أساس الحياة العلمية والفكرية في مصر.

عهد العبيديين "الفاطميين": 7- وفي أواسط القرن الرابع الهجري دخل العبيديون الذين سموا أنفسهم "فاطميين" قادمين من المغرب، فحكموا مصر. وتم للقائد الفاطمي "جوهر بن عبد الله" الصقلي فتح مصر وكانت قاعدتها "الفسطاط"1، فأراد أن يؤسس مدينة أخرى تقع إلى شمالها، وشرع بتأسيسها، وسماها "المنصورية" ثم انضمت المدن المتجاورة التي أسست في هذا الموقع وغلب عليها اسم "القاهرة" المعروفة الآن. - وحين شرع "جوهر الصقلي" ببناء المنصورية ابتدأ العمل ببناء جامع المدينة الجديدة، وهو المعروف الآن بـ"الجامع الأزهر". وتم بناء الأزهر وما حوله من قصور الخلافة وبيوت أكابر رجاله الدولة في نحو ثلاثين شهرًا. - وأراد الفاطميون أن يجعلوا الأزهر مركزًا لنشر مذهبهم الذين ينتمون فيه إلى الشيعة، وأول من ألقى الدروس فيه منهم "أبو الحسن علي بن النعمان بن محمد بن حيون". - ثم اختارت الدولة الفاطمية خمسة وثلاثين عالمًا منهم وجعلتهم مدرسين في الأزهر، وأنشأت لهم مساكن حول الجامع الأزهر، وكان لهؤلاء العلماء صلة من مال الوزير في كل سنة، وكان يخلع عليهم في عيد الفطر خلعات كسوة تكريمية. - وجدد الحاكم بأمر الله الفاطمي الأزهر، وأوقف له الأوقاف للإنفاق عليه وعلى طلابه وأساتذته من ربعها. - ثم اعتنى الفاطميون من بعده بالأزهر اعتناء عظيمًا؛ رغبة منهم في جعله

_ 1 الفسطاط: مدينة أسسها "عمر بن العاص" في سنة "41هـ" بإذن الخليفة "عمر بن الخطاب" بعد فتح مصر، واتخذ لها مكانًا في الفضاء المتسع بين النيل وتلال المقطم، بالقرب من حصن بابليون، وأقام بها مسجدًا كبيرًا ودارًا للإمارة، وهي الآن جزء من القاهرة الكبرى، ولما أسس الفاطميون القاهرة إلى جوار الفسطاط، تقهقر حال الفسطاط، وأخذ سكانها ينتقلون إلى القاهرة وما حولها.

ذا شأن عظيم يجتذب طلاب العلم الذين يغرسون فيهم مذهبهم، من جميع بلدان المسلمين؛ إذ يجدون فيه المأكل والمشرب والمسكن والملبس مجانًا. عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي: 8- وفي القرن السادس الهجري سنة "567هـ" قضى السلطان "صلاح الدين الأيوبي" على الدولة الفاطمية، وعلى مذهبها وتقاليدها؛ إذ كان صلاح الدين سُني الاعتقاد شافعي المذهب، واعتمد التدريس في الأزهر على العقيدة السنية، وعلى المذاهب السنية الأربعة: "المذهب الشافعي" والمذهب الحنفي، والمذهب المالكي، والمذهب الحنبلي". وكان نظام التدريس في الأزهر يعتمد على الحلقات، فلكل شيخ في علم من العلوم حلقة يجتمع فيها طلاب هذا العلم، وفق المستوى الذي يدرسه، ويستمر شيخ الحلقة يدرس هذا العلم حتى نهايته، بتقرير كتاب معين، أو بإملاء أمالي تناسب مستوى الطلبة. 9- وقد يكتب الشيخ للطالب الذي رآه قد استوعب ما تلقاه من العلم فهمًا وحفظًا "إجازة" بذلك العلم، ضمن حدود الكتاب الذي تلقاه عن الشيخ، أو ضمن حدود الأمالي التي أملاها. وبهذه "الإجازة" يكون الطالب أهلًا لتدريس العلم الذي تلقاه عن شيخه. أما الإجازة العامة فقد كان يعقد في إيوان الأزهر للمرشح لها من الذين تلقوا مختلف العلوم التي كانت تدرس في حلقات الأزهر، مجلس من كبار شيوخ الأزهر وعلمائه، ويحضره من الطلبة من شاء، ويمتحن الطالب المرشح امتحانًا شفهيًّا من قبل مجلس كبار الشيوخ أساطين العلم في الأزهر، وقد توجه له الأسئلة من كبار الطلبة ومتقدميهم، ويستمر مجلس الامتحان ساعات طويلات منهكات، ومن المعتاد أن لا يجتاز هذا الامتحان بنجاح إلا عالم متمكن من كل العلوم التي كانت تقرر في الأزهر، ومستحضر لمعظم مسائلها، وقادر على حل معضلات المسائل.

10- وكان طلاب "الأزهر" يسمون المجاورين؛ لأن أكثرهم وافدون من الأقاليم المصرية، أو من بلدان العالم الإسلامي. ويتصل بالأزهر أروقة لسكنى الطلبة الوافدين، وكان لكل جهة من جهات العالم الإسلامي، أو إقليم من أقاليمه رواق، فلأهل الحرمين الشريفين رواق، وللشاميين رواق، وللمغاربة رواق، وللأتراك رواق، وهكذا. وألحق بالأزهر عدة مدارس في عهود متعددة، وبنيت لها مبانٍ خاصة بها. واستمر الأزهر أكبر جامعة إسلامية تبث ضياء العلم ونوره، ما بين قوة وضعف، وما زال جامعة إسلامية كبيرة مرموقة، مع ما استحدث من جامعات إسلامية أو كليات إسلامية في مختلف بلدان العالم الإسلامي. 11- وقد تعرض "الأزهر" لمكايد كثيرة من قبل أعداء الإسلام استعماريين وغير استعماريين؛ بغية إلغائه أو تحويله عن أهدافه، أو إضعاف شأنه، إلا أن الله عز وجل حفظ له هيكله العام، وأبقى له مكانته وتأثيراته. 12- وللأزهر إدارة يرأسها شيخ الأزهر، ولقبه المشهور "الأستاذ الأكبر". وللأزهر أوقاف كثيرة، وكان لشيخ الأزهر في مصر المكانة الاجتماعية الأولى بعد رئيس الدولة. 13- وفي القرن الرابع عشر الهجري "العشرين الميلادي" تعرض الأزهر للتطوير، فصار جامعة ذات كليات ثلاث منفصلات، وهي: "كلية الشريعة" و"كلية أصول الدين" و"كلية اللغة العربية". ودونها معاهد موزعة على المراكز المهمة في المحافظات المصرية، تبدأ من المرحلة الابتدائية، حتى نهاية المرحلة الثانوية. 14- وكان من شروط الالتحاق بالأزهر منذ المرحلة الابتدائية أن يكون الطالب قد أتم حفظ القرآن في الكتاتيب أو في غيرها.

15- ثم تعرض "الأزهر" لتطوير آخر في عهد الرئيس "جمال عبد الناصر" الذي وصل إلى رئيس جمهورية بانقلاب عسكري على الملك "فاروق" فأحدثت في "الأزهر" كليات علمية مختلفة على غرار الجامعات المدنية؛ بغية تحويل المقدار الأكبر من خريجي المعاهدة الأزهرية، عن دراسة علوم الدين وما يتصل بها، إلى دراسة العلوم الأخرى التي لها كليات في الجامعات المدنية. 16- ولقد مرت حقبة طويلة من الزمن كان الأزهر فيها هو المنبع الضوئي المنير في العالم الإسلامي، وهو المورد الذي يفد إليه طلاب العلوم الإسلامية واللغة العربية من كل المسلمين من الأرض، وهو القاعدة التي كان يتخرج منها العلماء بالعلوم الإسلامية والعربية، وينتشرون في أرجاء العالم دعاة فقهاء، وهداة معلمين. وكان ينظر في بلدان العالم الإسلامي إلى من يأتي متخرجًا من الأزهر باحترام وإكبار وتقديم وتكريم. وبالأزهر كان لمصر مكانتها العظيمة، في أقطار الأرض جميعًا، لتعلق قلوب المسلمين ولا سيما العلماء وطلاب العلوم الإسلامية بأزهرها، الذي استمر يخرج علماء الشريعة الإسلامية، ويخرج الفقهاء، والمتمكنين من اللغة العربية.

العلم والتعليم والتربية في أقاليم المغرب من بلدان العالم الإسلامي

5- العلم والتعليم والتربية في أقاليم المغرب من بلدان العالم الإسلامي: مع بدء الفتح: 1- اقترن بالفتح الإسلامي لبلاد المغرب نشر تعليم القرآن الكريم فيها، وتعليم اللغة العربية التي هي لغة القرآن. وكان جيش الفتح يستصحب معه الخطباء والشعراء والمعلمين، الذين كانوا يعلمون في كل موقع يتهيأ لهم أن يعلموا فيه، ولو في الخيام، وكانت قصور الأمراء، ودور الأغنياء من المراكز المهمة للعلم والتعليم. 2- ثم بنى المسلمون "جامع الأنصار" في أول موقع جعلوا فيه معسكرهم

في المغرب، وكان ذلك في سنة "31هـ" وكان هذا الجامع للصلاة والتعليم معًا، فكان أول مدرسة للتعليم في بلاد المغرب. 3- ثم أسس "عقبة بن نافع" في سنة "51هـ" قيروان1 أفريقية، وهو المعسكر الأمامي الرئيسي، وبنى فيه جامعه الكبير، وجعله ثكنة عسكرية، وجامعًا للصلاة، ومدرسة للتعليم. واستمر هذا المركز التعليمي يؤدي وظيفته في ديار المغرب والأندلس منذ تأسيسه حتى سنة "555هـ" إذ انتقل التعليم الرسمي إلى "جامع الزيتونة" بعاصمة تونس. 4- وتوالى بناء المساجد التي هي مساجد ومدارس معًا في كل بلاد المغرب. 5- وصار "جامع تلمسان" الذي بناه "موسى بن نصير" على الحدود بين المغرب الأوسط والمغرب الأقصى يضاهي بحركته العلمية والتعليمية "جامع القيروان". 6- ثم ظهرت مرحلة تعليمية ذات ثلاثة خصائص: الأولى: ظهور المساجد التي اهتمت دولة المسلمين بتأسيسها في بلاد البربر، وضمن قبائلهم، وكانت هذه المساجد مدارس لتعليم القرآن والدين واللغة العربية. الثانية: قدوم بعثة تعليمية أرسلها الأمويون لغاية تعليم البربر الإسلام واللغة العربية. الثالثة: ظهور وفرة من المساجد الخاصة التي كان الموسرون من المسلمين يتبرعون ببنائها للصلاة ولنشر التعليم الديني، ولتعليم اللغة العربية، وكان المدرسون يعلمون فيها احتسابًا عند الله عز وجل وابتغاء مرضاته، وقد انتشرت هذه المساجد الخاصة في كل مدن وقرى المغرب، وإليها يرجع الفضل في تعليم

_ 1 القيروان: مدينة بتونس، أنشأها عقبة بن نافع، كانت مقر الحكام المسلمين في غرب أفريقيا.

الإسلام، وتحفيظ القرآن وتعليم اللغة العربية، لعموم الطبقات الشعبية الساكنة في السهول والجبال. 7- وبعد سقوط الدولة الأموية بالمشرق، وظهور الدولة العباسية، وانتقال الحكومة المركزية من دمشق إلى بغداد، أقبل الولاة في المغرب على تأسيس معاهد العلم، وجلب المشتهرين باللغة والنحو والأدب والفقه وغيرها من العلوم من المشرق، وسعوا سعيًا حثيثًا لإنشاء جهازهم العلمي المستقل عن أجهزة التعليم في المشرق. وبالتدريج صارت القيروان كعبة العلم بالمغرب، وصار "جامع عقبة بن نافع" هو الجامعة الكبرى في بلاد المغرب. 8- واقترنت بالنهضة التعليمية الواسعة في المغرب حرية فكرية أدت إلى إنشاء مساجد خاصة بالخوارج الصفرية1، وغيرهم من الفرق، وكانت بمثابة مدارس لمذاهبهم. 9- وأراد الوالي "هرثمة بن أعين تدارك الأمر خشية استفحال الخلاف في المغرب، فأسس في سنة "180هـ" رباطين: - رباط "طرابلس" وبنى سورها مما يلي البحر. - رباط "المنستير"2 وبنى فيها القصر الكبير. وجعل "هرثمة بن أعين" الرباط يقوم بوظيفتين: وظيفة مراقبة وحراسة الساحل، عند الثغر البحري؛ خوفًا من غدر الأعداء ومباغتتهم، ووظيفة العلم والتعليم. ثم انتشرت فكرة الأربطة في مواقع كثيرة. الرباط: ثكنة عسكرية تتألف من صحن تحيط به عشرات الغرف، لإقامة

_ 1 الصفرية، ويقال: الأصفرية، فرقة من الخوارج، هم أتباع زياد بن الأصفر. 2 المنستير: مرفأ تونسي على خليج الحمامات في ولاية سوسة.

المرابطين للدفاع الحربي. وتتألف أيضًا من طبقات عليا تعلو جوانبه، وينتهي بجامع كبير وصومعة مستديرة للأذان. وهو أيضًا بمثابة مستشفى للمرضى الذين يعالجهم المرابطون والمرابطات، وقد ينزل فيه المسافرون. وهو أيضًا بمثابة مدرسة، يقيم فيه المرابطون المعلمون احتسابًا، وابتغاء لمرضاة الله. وهو أيضًا دار لاستنساخ المصاحف، ومجامع الحديث، وكتب الفقه، وكان بعض المؤلفين يحسبون تصانيفهم بخطوط أيديهم وقفًا على الأربطة، لتكون النسخة الأم التي يرجع إلى نصها الصحيح، وتقابل عليها النصوص المستنسخة. وكان بعض المرابطين يتولون نسخها وتوزيعها على طلبة العلم لوجه الله تعالى، واحتسابًا للثواب عنده. وكان يعلم بالرباط تفسير القرآن، والحديث الشريف وشرحه، وكتب الفقه، وشعر المواعظ والرقائق. وكان من أشهر مدرسي "رباط المنستير" الفقيه الجليل صاحب المدونة "سحنون بن سعيد التنوخي" الذي كان يقرئ الفقه في رمضان من كل سنة. وكان منهم أيضًا "أحمد بن الجزار القيرواني" الذي كان يقرئ الطب، ويعالج المرضى في أشهر معلومة من السنة. الرحلات في طلب العلم: 10- ومنذ بدء القرن الثالث الهجري ظهرت في بلاد المغرب ظاهرة الرحلات في طلب العلم. فكان عشاق العلم يرحلون لطلبه من الأندلس وبلدان المغرب إلى القيروان، التي كانت تعج بالعلماء من مختلف الاختصاصات العلمية المعروفة في زمانهم.

ويرحلون من القيروان إلى مصر والمدينة المنورة ودمشق وبغداد. فكان طالب العلم إذا اجتاز المراحل التعليمية الموجودة في القيروان شد الرحال إلى المشرق، ليؤدي مناسك الحج في مكة، ويزور مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وليطلب العلم عند أهله. وكان ينتقل من مدينة تقصد لمن فيها من العلماء إلى مدينة أخرى متأنيًا في أسفاره بغية الاستزادة من العلم، وكلما سمع بأستاذ مشهور بعلم من العلوم، زاره وحضر حلقته، وأخذ عنه علمًا، وقد يطلب منه إجازة بما تلقاه عنه. نظرات فيها شيء من التفصيل عن الحركة العلمية في عموم المغرب: أولًا: في تونس 1- منذ القرن الأول الهجري كانت "تونس" من المراكز المهمة في بلدان العالم الإسلامي للعلم والتعليم، وكانت مدينة "القيروان" التي أسسها "عقبة بن نافع" في تونس، وجامعه الكبير فيها منتجعًا لطلاب العلم، ومحط أنظار العلماء والأدباء والشعراء. وكان طلاب العلم من أهل الأندلس يفدون إليه لينهلوا من مناهل العلم فيه. وتكاثرت الرحلات العلمية من الأندلس إلى تونس في عهد الحفصيين، وكانت كلما سقطت مدينة من مدائن المسلمين في الأندلس بيد الإسبان هاجر أهلها المسلمون إلى تونس، حتى صار البلاط الحفصي بلاطًا أندلسيًّا بطرق معاشه، وموظفيه وجنده وضباطه وشعرائه، وصار معظم القائمين بالتعليم في "القيروان" من أهل الأندلس المهاجرين. 12- ثم انتقل التعليم العالي في تونس من جامع القيروان بمدينة "القيروان" إلى "جامع الزيتونة" بتونس، وأعيد نظامه، واتجهت الأنظار لجلب الشيوخ والأساتذة والمعلمين من ليبيا أو الأندلس إليه.

وكانت المواد الدراسية تشتمل على "علوم الدين الإسلامي، وعلوم اللغة العربية، والعلوم الأخرى، كالرياضيات، والطب والهندسة، والفلسفة. 13- وانتشر في تونس التعليم العام بالكتاتيب التي أنشئت بوفرة، في المدن والقرى، وكان من الكتاتيب ما هو خاص بالذكور، ومنها ما هو خاص بالإناث. وكان منهاج التعليم في الكتاتيب دينيًّا وأدبيًّا وفنيًّا. والتعلم الفني يتعلم فيه الطالب تحسين الخط، والزخرفة بالألوان والأشكال الخطية والهندسية والنباتية. وكان الطالب يعمل أيضًا في بستان الكُتَّاب، ليتعلم البستنة تحت إشراف بستاني يجيد هذه الصنعة. 14- وكانت توجد بالإضافة إلى الكتاتيب مراكز أخرى للتعليم تُسمى الزوايا، وهي مدارس داخلية مجهزة بما يحتاج الطلبة فيها. 15- وحين سقطت دولة "الحفصيين" بدأ الضعف في "جامع الزيتونة". ثم استرد عافيته بعد زمن لم يطل كثيرًا. 16- وخلف الحفصيين "المراديون" فاعتنوا بإنشاء الجوامع على غرار "الجامع الزيتونة" وكانت هذه الجوامع بمثابة جامعات بحسب مصطلحاتنا المعاصرة. 17- تم تلاشى حكم المراديين، وجاء الحكم "الحسيني" الذي استمر من سنة "1117هـ" إلى سنة "1230هـ" فوجه أول حاكم حسيني، وهو "حسين بن علي التركي" همته لإصلاح التعليم. ونهض التعليم في عهد الحسينيين نهضة حسنة. ثانيًا: في ليبيا الحديث عن التربية والتعليم في ليبيا مشابه للحديث عنهما في تونس.

18- فالتعليم العالي قد كان بجامع فاتح ليبيا "عمرو بن العاص" المعروف باسم "جامع الناقة" في "طرابلس الغرب". 19- ثم بنى الحكام الأغالبة في القرن الثالث الهجري الجامع الكبير في المكان الذي يوجد فيه الآن جامع "أحمد القارامللي" وصار هذا الجامع فرعًا مهمًّا للجامع الأعظم بالقيروان، عدا الإرساليات العلمية المتوالية إلى القيروان. 20- وفي العهد التركي بنى "أحمد باشا القرامللي" جامعه الكبير على أنقاض الجامع الأغلبي، وأضاف إليه مدرسة. ثم أضيفت أيضًا مدارس إلى "جامع القرجي" و"جامع شايب العين" و"جامع درغوث باشا" و"جامع مراد باشا" بتاجورة قرب "طرابلس" وكانت هذه المدارس مدارس داخلية، فيها العلم وفيها الإقامة وفيها حاجات العيش، وبذلك ازدهر العلم. وهذه الجوامع تمثل التعليم العالي، كالجامعات في مصطلح عصرنا الحاضر. 21- أما مراكز التعليم الأخرى التي كانت منتشرة في البلاد، فقد كانت كالتالي: - الرباطات: ومن أشهرها رباط "قصر طرابلس" الذي أسسه الوالي "هرثمة بن أعين" سنة "171هـ". - المدارس: وهي تمثل المرحلة الثانوية في مصطلحاتنا المعاصرة. - الزوايا: وهي نظير الزوايا التي كانت منتشرة في سائر بلدان المغرب، وهي تمثل المرحلة الإعدادية. - الكتاتيب: وهي نظير الكتاتيب المماثلة في سائر بلدان المغرب، وهي تمثل المرحلة الابتدائية.

22- ولم تكن "طرابلس الغرب" هي العاصمة الثقافية الوحيدة، فقد كانت "مصراته" و"أجدابية" وغيرها مراكز إشعاع علمي في ليبيا. 23- وقد رصد المسلمون أوقافًا كثيرة جدًّا للعلم والتعليم في الجوامع، والمدارس، والزوايا، والكتاتيب، بغية تأمين عيش الطالب من كل جوانب حياته. وفي هذا اهتمام عظيم من المسلمين بالعلم والتعليم ونشر الفكر الإسلامي وثقافته في كل موقع من الأرض فيه مجتمع بشري. ثالثًا: في الجزائر اهتمام المسلمين حكامًا وشعبًا بالعلم والتعليم ونشر الإسلام، قد كان متشابهًا في جميع بلدانهم، وعصورهم التي كان فيها الحكم للمسلمين. 24- وقد كان التعليم في الجزائر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: التعليم الابتدائي. القسم الثاني: التعليم الثانوي. القسم الثالث: التعليم العالي. وكانت مراكز التعليم تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: مراكز التعليم البدوية، والتعليم فيها يكون في خيمة تعد للمؤدب، وفيها يعلم الأحداث. القسم الثاني: مراكز التعليم الحضرية، ويسمى معهد التعليم الابتدائي عند الحضر "مسيدًا" أو "مكتبًا" ولفظ "مسيد" تحريف لكلمة "مسجد". ولم يرتق التعليم في الجزائر إلى مستوى التعليم في سائر بلدان المغرب إلا متأخرًا.

رابعًا: في الأندلس 25- في أواسط القرن الثاني للهجرة تأسست في الأندلس خلافة أموية جديدة، فاهتمت بالعلم اهتمامًا بالغًا. وبعناية هذه الخلافة صار معهد طليطلة أكبر معهد يتعلم به المسلمون وغير المسلمين ما وصل إليه المسلمون من علوم مختلفة في ذلك العصر. وكان الغربيون يترجمون من الكتب المكتوبة باللسان العربي ما يرغبون في ترجمته إلى اللاتينية، وكان هذا هو العامل الأساسي في ظهور النهضة العلمية والأدبية والفنية وغيرها في أوروبة. وبعناية هذه الخلافة الأموية الإسلامية صار "جامع قرطبة" وما ألحق به من مكتبة ومعهد يضاهي "القيروان" في تونس، والفسطاط في مصر، ودمشق وبغداد وغيرها من مراكز العلم في بلدان المسلمين وعواصمهم. عهد دولة الأدارسة في المغرب الأقصى: 26- وفي هذه الحقبة من الزمن أسس الأدارسة دولة استقلوا بها في المغرب الأقصى، وجعلوا مدينة "فاس" عاصمة لهم. وفي عدوة القرويين من نهر فاس بنت "فاطمة أم البنين القيروانية" جامع القرويين. ولم يلبث أن صار "جامع القرويين" هذه جامعة تدرس مختلف العلوم، ومنها الطب والهندسة والفلك والميقات. ونقل الفقيه المالكي "إسماعيل بن دراس" إلى جامع القرويين الفقه المالكي. ثم استقل "جامع القرويين" بعلومه عن "جامع القيروان" بعد أن كان بمثابة فرع من فروعه، وبلغ أوج رقيه العلمي في عهد "المرينيين". عهد الدولة الأغلبية: 27- وفي هذه الحقبة من الزمن أيضًا أسس "إبراهيم بن الأغلب" الدولة الأغلبية في القيروان وأفريقية.

وبعناية الأغالبة صار "جامع القيروان" كعبة العلم بالديار المغربية، والأندلسية، وصقلية، وسردانية، ومالطة، وقوصرة العهد الفاطمي: 28- نشر العبيديون الذين سموا أنفسهم "فاطميين" دعوتهم في المغرب قبل أن يؤسسوا دولتهم، ثم تغلبوا على الأغالبة بتونس، وعلى الرستميين بالجزائر، وعلى الأدارسة بالمغرب الأقصى، وأقاموا دولتهم. وأكثروا من فتح المدارس التي رتبوا فيها الدعوة لمذهبهم الباطني ترتيبًا منسقًا، وجعلوا على رأسها "النعسان المغربي" الذي كان على مذهبهم. وفي هذا العهد نشط اتباع المذهب المالكي في عقد حلقات الدروس بالجوامع والمساجد والأربعة، للوقوف في وجه تيار الفكر الفاطمي الباطني. وفي هذا العهد زادت حركة البربر في إحياء جوامع الإباضية بالجبال والصحاري. وفيه ضاعف أهل صقلية جهودهم في تدعيم ونشر المذهب الحنفي وتكثير أتباعه. ثم انتقل الفاطميون إلى مصر، وحلت محلهم في المغرب دول ذوات أعراق بربرية، مع نزعة غربية. ولم يظفر الفاطميون بنشر مذهبهم الباطني في بلاد المغرب. عهد دولة المرابطين: 29- قامت دولة المرابطين بعد انتقال الفاطميين إلى مصر، فاهتم المرابطيون بالتعليم القائم على الدعاية إلى الإسلام، ونشره بصورة مبسطة، ولا تعقيد فيها ولا فلسفة، وعلى مقاومة البدع، وتنقية العقيدة مما دخل عليها من شوائب. ورأت دولة المرابطين أن جامعة القرويين مائلة إلى الانحطاط، فأسسوا جامعة جديدة في مراكش.

واعتنى "يوسف بن تاشفين" بعد أن تمكن من الحكم، بجمعه لعلماء الأندلس وأدبائها، ونقلهم إلى مراكش عاصمته المغربية. ولكن لم تكن العلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية وحدها كافية للقيام بشئون الدولة، وقد أدرك هذه الحقيقة "علي بن يوسف بن تاشفين" فأسس في سنة "514هـ" جامعة عرفت باسم "الجامعة اليوسفية" نسبة إلى اسم أبيه "يوسف" وكان الغرض من تأسيسها تخريج الأطباء والصيادلة والمهندسين والمعماريين والرياضيين، ليجاري الأندلس والحركة العلمية العامة. فعززت هذه الجامعة الجديدة "جامعة القرويين" الإدريسية بمدينة "فاس" وجامعة "سبتة" الأندلسية. عهد دولة الموحدين: 30- ولما قامت دولة الموحدين البربرية أسست مؤسسات تعليمية كثيرة، وقد اعتمد الموحدون على هذه المؤسسات التعليمية في إقامة دولتهم، ونشر العلم بين طبقات الشعب، من أهل المدن والبواطي، والبربر وغير البربر. فكان من مؤسساتهم التعليمية ما يلي: - الكتاتيب: وقد كثرت هذه من الجهات البربرية، وقد أقبل عليها الناس، يعلمون فيها أولادهم، وهذه الكتاتيب هي بمثابة مدارس ابتدائية. - الزوايا: وقد كانت هذه الزوايا بمثابة مرحلة تعليمية متوسطة. - المدارس: وقد قام الموحدون بتأسيس المدارس التي هي أعلى درجة من الزوايا، وكانت مدارسهم هذه على ثلاثة أنواع: النوع الأول: المدرسة العامة، والغرض منها تخريج موظفي الدولة، وتهتم بتدريس النظام الإداري الذي يتمشى مع سياسة دولتهم. النوع الثاني: المدرسة الملكية، وهي خاصة بتعليم أبناء الأمراء. النوع الثالث: المدرسة الخاصة بتعليم الملاحة البحرية وتخريج الملاحين، وقد أقامها الموحدون بمدينة الرباط.

31- وأسس "يعقوب المنصور" مدارس في المغرب والأندلس وتونس، ومنها مدرسة أحدثها في المدينة التي اختطها خارج مراكش، في مكان كبير. 32- واعتنى الخواص من الشعب بتأسيس المدارس، ومنهم "أبو الحسن الشاري الغافقي السبتي" فقد ابتنى المدرسة المنسوبة إليه بمدينة "سبتة". 33- وأسست دولة الموحدين بيت الطلبة في "مراكش" وهو شبه مدرسة عليا، وحياة الطلبة في هذا البيت تنقضي بين المدرسة ومكتبتها والنادي الذي تجري فيه المناظرات العلمية والأدبية، ودار المبيت، وكانت دار مبيت الطلبة أنيقة البناء على الطراز الأندلسي، وكانت مزخرفة بالنقوش العربية، وكانت تتوافر فيها كل أسباب الراحة والمعيشة الحسنة. خامسًا: في صقلية صقلية هي أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، تقع بين بحر الروم والبحر التيراني، وتبعد حوالي "165كم" شرق أفريقيا. 34- فتحها المسلمون بقيادة القاضي "أسد بن الفرات" فكان فتحها مقدمة إشراق النور الإسلامي في ربوع أوروبة، لولا النكسات التي أصابت المسلمين بعد ذلك. وبنى المسلمون في عاصمتها "بلرمو" جامعًا للصلاة والعلم والتعليم، وفق منهجهم المتبع في الفتوح. 35- ثم أسس المسلمون التونسيون في مدينة "سالرنو" من المدن الإيطالية جامعة، كان أساتذتها من العرب المسلمين أول الأمر، وكانت كتب التدريس فيها من تصانيف المسلمين المكتوبة باللسان العربي، ثم ترجمت إلى اللاتينية. وقد شجع المسلمون خلال حكمهم لصقلية أهل البلاد على الزراعة والتجارة والفنون المختلفة، مع نشرهم للإسلام وعلومه، وللغة العربية. 36- وصارت المعاهد العربية الإسلامية في هذه الجزيرة موارد يقصدها

كثيرون من العلماء وطلاب العلم الأوروبيين، وكانت مع عموم الأندلس، أهم مراكز العلم التي تبث الإشعاع العلمي المسلط على ذوي العقول النيرة المتعشقة للعلم في أوروبة. خلاصة الظواهر العلمية الكبرى في بلاد المغرب: 14- بنظرة كلية جامعة لبلدان المغرب، يلاحظ المؤرخ أن الحركة العلمية والتعليمية والتربوية كانت تقتبس من بلدان المشرق وتحذو حذوها، ثم صارت ذات استقلال ذاتي، تختط لنفسها، وتنهج مناهج خاصة بها. ولدى رصد الظواهر تتجلى للباحث الظواهر التالية: الأولى: النهضة العلمية الفائقة بجامع القيروان، وقد كان فيه جناحان: جناح للرجال، وجناح للنساء. الثانية: تحقق الاكتفاء الذاتي العلمي، إذا التقت الأندلس، والمغرب، والجزائر، وطرابلس، وبرقة، وصقلية، وغيرها من مراكز العلم حول "جامع القيروان" وقلت الهجرة إلى طلب العلم في بلاد المشرق. الثالثة: استقلال التعليم باعتماد كتب الأفريقيين، دون كتب علماء المشرق، فكان طلاب العلم يرجعون في التفسير مثلًا إلى تفسير محمد بن عبد السلام القيرواني، ويرجعون في الفقه إلى مدونة "سحنون" ويرجعون في الطب إلى كتب "ابن الجزار القيرواني". الرابعة: ظهور التصانيف التربوية المستقلة في التأليف، بعد أن كانت ضمن أبواب الفقه، ومنها كتاب "أدب المعلمين" لمحمد بن سحنون. الخامسة: استقلال أفريقية بعلومها الفقهية والتاريخية والجغرافية والطبية. السادسة: ظهور التعليم العالي بالأقاليم الإفريقية. السابعة: إنشاء معاهد لتعليم الطب، والهندسة، والحساب، والصيدلة، والفلك، والنحو.

والحق بها مدارس للترجمة عن اللغات البربرية واللاتينية واليونانية والعبرانية، ومدارس أخرى لترجمة أمهات الكتب من اللسان العربي إلى اللاتينة، التي كانت لغة العلم يومئذ عند الأوروبيين. الثامنة: تأسيس جامعة بمدينة "سالرنو" من المدن اللإيطالية، وكان أساتذتها من المسلمين، وكانت الكتب المقررة فيها والمراجع من التصانيف التي صنفها المسلمون باللسان العربي. التاسعة: ظهور بداية تفرغ بعض العلوم الجامعة، إلى علوم متعددة ذوات بحوث تخصصية. العاشرة: كثرة دور الكتب بالأربطة والجوامع، وكانت مكتبة القيروان أكبرها وأجمعها. الحادية عشرة: ازدهار الأدوات المساعدة على حركة العلم ونشاطه، مثل ازدهار صناعة "الرق" بالقيروان، وهي الجلود الرقيقة التي تصنع للكتابة عليها، وأجودها ما يصنع من جلود الغزلان لكتابة المصاحف، والكتب النفيسة والمراسلات السلطانية. وازدهار صناعة الورق التي نقلت من بغداد ومنبج والفسطاط. وازدهار صناعة الحبر.

العلم والتعليم والتربية في شبه القارة الهندية

6- العلم والتعليم والتربية في شبه القارة الهندي ة 1 1- اهتم المسلمون كعادتهم منذ بدء فتح بلاد "السند" و"الملتان" بتعليم القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وتعليم أصول الدين، وأحكام الفقه الإسلامي، وتعليم ونشر اللغة العربية، في الجوامع التي ينشئونها في كل بلد يخضع لسلطانهم.

_ 1 أكثر المعلومات التاريخية في هذه الفقرة مقتبسة من كتاب "تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية وحضارتهم" تأليف "د. أحمد محمود الساداتي" ومن كتاب "موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية لبلاد السند والبنجاب باكستان الحالية" تأليف: "د. عبد الله مبشر الطرازي".

أما العلوم الأخرى كالطب والرياضيات والكيمياء والفلك والفلسفة والطبيعيات، فقد كانت موجودة، ولكن عمل المسلمون على الاستفادة منها، وعلى دفعها شطر التقدم الارتقائي، مع الاهتمام بتنقيتها من الأخطار والأغاليط والأوهام، ولا سيما ما يخالف منها الحقائق الدينية. وهذا شأن المسلمين في كل بلدان الفتح الإسلامي. 2- في سنة "89هـ" فتح القائد الشاب "محمد بن القاسم الثقفي" ابن أخي "الحجاج" الذي اختاره أميرًا لبدء الفتح في "السند" مدينة "ديبل" وأول ما فعله "محمد بن القاسم" بناء مجسد جامع في المدينة، لأداء الصلوات المفروضة، ولنشر العلم، وقيام العلماء بالتعليم. وكان كلما فتح مدينة في بلاد "السند" و"الملتان" أنشأ فيها مسجدًا جامعًا للقيام بالوظيفتين الآنفتي الذكر. 3- وظلت الجوامع في العصر الأموي وفي عصور المسلمين التاليات هي المراكز الأولى لبث ضياء العلم، وأنوار الهداية. وكان الأئمة والعلماء فيها يشرفون على أداء الشعائر الدينية فيها، ويقومون بتدريس أولاد المسلمين، ونشر العلوم الإسلامية بين أهالي البلاد، مع الدعوة إلى الإسلام وتعليم اللغة العربية. 4- وفي سنة "93هـ" عين الأمير الشاب "محمد بن القاسم الثقفي" العالم الفقيه "موسى بن يعقوب الثقفي" قاضيًا على مدينة "الور" التي كانت عاصمة لبلاد "السند" قبل الفتح الإسلامي. 5- ومع توالي السنين وتزايد الفتوح الإسلامية، وامتلاك المسلمين القيادة الإدارية في شبه القارة الهندية، كانت الحركة العلمية والتعليمية تزداد، وكانت مراكزها الجوامع، والحلقات التي يعقدها العلماء فيها، أو في دورهم، أو في دور أهل اليسار والغنى والأعيان ذوي الحرص على ابتغاء مرضاة الله من المسلمين.

فقد جاء في التاريخ أن الشيخ "أحمد بن محمد المنصوري" الذي كان قاضيًا في "المنصورة" قد كانت له جلسة علمية منتظمة يقوم بالتدريس فيها، وأن قاضي مدينة "الور" الذي هو من أحفاد الشيخ "موسى بن يعقوب الثقفي" قد كانت له جلسات علمية يقوم بالتدريس فيها، وكذلك كان قاضي "سيوستان" المعروف بـ"الشيباني". وجاء عند المؤرخين ذكر لبعض مدن العلم والمعرفة في "السند" خلال القرن الرابع الهجري، مثل مدينة "المنصورة" التي كان جميع سكانها من المسلمين، ومدينة "الملتان" التي كان سكانها من المسلمين وغير المسملين، ومدينة "الديبل" التي كانت اللغة العربية رائجة بين أهلها بفضل جهود العلماء العرب المسلمين فيها، ومدينة "القنوج" في أقصى بلاد السند، التي تشتهر بكثرة العلماء الكبار من علماء المسلمين ومدينة "البيلمان" ومدينة "سرست" في وسط "السند" ومدينة "بوقان" في إقليم "مكران" وكان أهلها بوذيين، وصاروا في القرن الرابع الهجري مسلمين. 6- وبرز من أهل البلاد الأصليين علماء فضلاء، وأدباء، وشعراء، فمنهم على سبيل المثال: - "أبو ضلع السندي" وقد كان أديبًا وشاعرًا. - "كشاجم بن السندي بن الشاهك". - "السند بن محمد الديبلي" وقد كان عالمًا محدثًا. - "إسماعيل بن السندي" وقد كان عالمًا جليلًا، ومحدثًا كبيرًا. - "أحمد بن عبد الله الديبلي" وقد كان محدثًا. - "أحمد بن إبراهيم الديبلي" وقد كان عالمًا مفسرًا. - "إبراهيم الديبلي السندي" وقد كان عالمًا فقيهًا ومحدثًا كبيرًا. 7- وكانت اللغة العربية في بلاد "السند" حتى أوائل القرن الخامس الهجري هي اللغة الرسمية المستعملة في الدواوين الحكومية، ودور القضاء،

والمدارس، والمعاهد والأسواق التجارية الكبيرة، وكانت لغة الطبقة العالية من الوجهاء والعلماء والخواص من أهل "السند" و"الملتان". ولما انتقل الحكم إلى الغرنويين المسلمين الذين يتكلمون الفارسية، روجوا اللغة الفارسية، وبذلك صارت الفارسية في تلك البلاد هي لغة العلم والتعليم والثقافة طوال عدة قرون. 8- وكان من مرافقي جيوش الفتح الإسلامي في شبه القارة الهندية علماء أعلام، ومنهم "الربيع بن صبيح البصري" وهو من كبار المحدثين. 9- ومع أوائل القرن الخامس الهجري بدأ "الغزنويون"1 فتح "كابل" وبلاد الأفغان، والامتداد إلى شبه القارة الهندية. والسلطان "محمد بن سبستكين الغزنوي" قد بدأ فتوحه مع أواخر القرن الرابع الهجري، وبقي مجاهدًا في سبيل الله وفاتحًا ومصلحًا حتى وافته منيته سنة "421هـ". ويذكر المؤرخون أنه هو الفاتح الحقيقي الشامل لشبه القارة الهندية، وأنه كان من أعاظم سلاطين المسلمين، وقد امتدت سلطنته من "بهار" في شرق الهند، إلى "فارس". يقول بشأنه "لين بول": "إن ذلك السلطان الذي أقام تلك المنشآت الفخمة في "غزنة" وأقام دور العلم، ودعا العلماء حتى كان يجود عليهم بما لا يقل عما يعادل مائتي ألف من الجنيهات كل عام، فضلًا عما كان يجري على طلبة العلم من الأرزاق، لا يمكن أن يسلك في زمرة الطغاة البرابرة". - فالسلطان "محمود الغزنوي" قد كان إلى جانب شهرته الحربية العظيمة، ذا شهرة أيضًا برعايته للعلوم والآداب، وبذله العظيم لأربابها والمشتغلين بها،

_ 1 الغزنويون: نسبة إلى "غزنة" من أفغانستان، والأسرة الغزنوية ذات أصول تركية، ترجع إلى "ألف تكين" الذي كان قائدًا تركيًّا في جيش ملوك السامانيين في خراسان وما وراء النهر. والسلطان "محمود بن سبستكين" هو الفاتح الحقيقي الشامل لشبه القارة الهندية.

حتى صار بلاطه مقصودًا من مختلف الأقاليم الإسلامية، وكان من بين الذين وفدوا إليه: "أبو الريحان محمد بن أحمد الخوارزمي البيروني" العلامة الرياضي، والفلكي الفيلسوف، والعالم بلغات الهند وثقافاتها، "العتبي الوزير" و"أبو الفضل محمد بن حسي البيهقي" صاحب تاريخ سلاطين غزنة الذي يقع في ثلاثين مجلدًا، فُقِدَ أكثرها، وهو المعروف بتاريخ البيهقي، و"أبو نصر محمد الفارابي" الفيلسوف الذي لقب بالمعلم الثاني، بعد الفيلسوف اليوناني الملقب بالمعلم الأول. - والسلطان "مسعود بن محمود الغزنوي" الذي تولى السلطنة خلفًا عن أبيه من سنة "421هـ" إلى سنة "433هـ" قد كان شغوفًا بالعلم والعلماء، وبإنشاء مؤسسات التعليم، فأنشأ في بلاده كثيرًا من المساجد والمدارس والرباطات لنشر علم القرآن والسنة، والثقافة الإسلامية، وسائر العلوم الكونية المعروفة في زمانه. 10- وفي أواخر القرن السادس الهجري سقطت دولة الغزنويين، وجاءت بعدها دولة الغوريين، وهم من أمراء الغور الأفغان، وزعيمهم "محمد الغوري". - وقد اضطر السلطان "محمد الغوري" أن يواجه قتالًا عنيفًا يدفع به شر الأمراء الراجبونيين الهندوس في الهند، الذين تجمعوا وحشدوا جيوشهم لإسقاط دولة المسلمين في شبه القارة الهندية. وفي المواجهة الأولى اضطر المسلمون بقيادة "محمد الغوري" إلى التراجع طلبًا للسلامة. ثم حشد جيشًا أكبر من فرسان المسلمين الأفغانيين والأتراك قوامه مائة وعشرون ألفًا، وكان على هذا الجيش أن يواجه ثلاثمائة ألف من فرسان الهنادكة، ومعهم ثلاثة آلاف من فيلة الحرب. وأعد السلطان خطة حربية بارعة تعتمد على الكر والفر، مع تجزئة الكارِّين والفارين إلى وحدات من عدة جهات، وبهذه الخطة أرهق السلطان قوى الهنادكة إرهاقًا شديدًا، وشتت بها جموعهم، ثم كان الانتصار العظيم للمسلمين، وبهذه الموقعة انتهى سلطان الأمراء الهنادكة في شمال الهند.

-وحين استقر السلطان "محمد الغوري" أنشأ المساجد والمدارس، على غرار الطريقة المعروفة في مختلف البلدان التي تخضع لسلطان المسلمين؛ إذ كانوا يوجهون اهتمامهم الأكبر للعلم والتعليم ونشر تعليمات الإسلام، ودعوة الناس إلى الدخول في دين الله الحق. - واستطاع السلطان "محمد الغوري" بجهاده وحكمته وقوة عزيمته أن يثبت أقدام المسلمين في شمال الهند كله، واستطاع أن يقيم للمسلمين حكمًا عادلًا ذا قاعدة إسلامية، وأن يوطد دعائم هذا الحكم، ويثبت أركانه وبنيانه. - وعلى أيدي رجال السلطان "محمد الغوري" بدأ الحكم الحقيقي للمسلمين في الهند؛ إذ تحول الفاتحون إلى الاستقرار والإقامة الدائمة في البلاد التي فتحوها، وأخذ الإسلام ينتشر بين شعوب شبه القارة الهندية. وكان سلطان "محمد الغوري" قد امتد من "البنغال" شرقًا، إلى آخر حدود البنجاب غربًا. وأذن الله جل جلاله أن يقع هذا المجاهد البطل الحكيم صريعًا شهيدًا؛ إذ اغتاله أحد الهنادكة عند نهر "جهلم" وهو في طريقه من "لاهور" إلى "غزنة" في شهر شعبان سنة "602هـ". - وخلفه في الحكم مماليكه الذين جعلهم قواد جيشه وخاصته، وفي مقدمتهم "قطب الدين أيبك" الذي نصب نفسه سلطانًا على الهندستان سنة "602هـ" عقب وفاة مولاه السلطان "محمد الغوري" وكان هذا مملوكًا لقاضي "نيسابور" وقد تعلم مع أولاده علوم القرآن الكريم والسنة المطهرة، ونبغ في ركوب الخيل والفروسية، واشتهر بالشجاعة والمروءة والوفاء، ثم بيع هذا المملوك إلى أحد التجار بعد وفاة سيده القاضي، فعرضه التاجر على السلطان "محمد الغوري" فاشتراه. وأعجب به السلطان حتى جعله من مقدمي قواده، وكان وفيًّا للسلطان في أشد أزماته، فكافأه السلطان بتثبيته نائبًا له على سلطانه في شبه القارة الهندية. 11- وبحكم "قطب الدين أيبك" بدأ عهد المماليك، واشتهر "قطب

الدين" بإقرار الأمن في جميع البلاد، وبحسن سياسته، وحرصه على إقامة العدل بين الناس. - واهتمامًا منه بتأسيس مراكز نشر الإسلام وعلومه بنى مسجدين جامعين كبيرين، أحدهما في مدينة "دهلي" والآخر في مدينة "آجمير". ولكن لم يطل عهد سلطانه؛ إذ سقط عن جواده سنة "607هـ" فوافته منيته. 12- فخلفه أحد قواده "شمس الدين التمش" وكان من مماليكه وأصهاره. - واستقل قائده "قباحة" بـ"الملتان" و"السند" وتولى "الخلجيون" الأمر في "بهار" و"البنغال" وكانوا من رجال السلطان "محمد الغوري". 13- ثم تولى سلطنة الهند "فيروز تغلق" من سنة "752هـ" إلى سنة "790هـ". وكان هذا السلطان عادلًا رحيمًا شغوفًا بالإصلاح الحضاري، وإعمار المنشآت الحضارية، كالمستشفيات، ودور العلم، وتيسير سبيل قدوم علماء المسلمين إلى بلاده للتعليم، وكان من بينهم "جلال الدين الرومي". - وقد أقام هذا السلطان الحكيم العادل ثلاثين مدرسة جامعة، لدراسة العلوم الإسلامية والكونية، بغية نشر العلم وتخريج العلماء، والدعوة إلى الإسلام. وبلغت منشآت هذا السلطان الحضارية قرابة "900" ما بين مدارس ومستشفيات، ورباطات، وقصور، وحمامات. وأنشأ ثلاث مدن كبيرة بالقرب من "دهلي" وهي: مدينة "فيروز آباد" ومدينة "فتح آباد" ومدينة "جونبور". اعتنى بإنشاء الحدائق الكثيرة التي بلغت قرابة ألف حديقة. 14- وأذكر أخيرًا أن الرحالة "ابن بطوطة" ذكر عن الهند أنه وجد بمدينة "هناور" ثلاثة عشرة مدرسة للبنات، وثلاثًا وعشرين مدرسة للصبيان.

- وأذكر أيضًا أن المبشرين بالنصرانية، وضعوا في حسبانهم مع بدء أعمال التنصير في بلدان العالم الإسلامي الهند هدفًا عظيمًا، ونظروا إلى الجامعة الإسلامية في مدينة "عليكرة" باهتمام بالغ، لإحاطتها بأعمال التنصير. - وأذكر أيضًا اهتمام المسلمين في الهند بإنشاء المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية التي تمول من أيدي المحسنين، ومن كبريات هذه الجماعات "ندوة العلماء" التي يرأسها اليوم العلامة الداعية والكاتب الإسلامي الشهير "الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي" وهذه الجامعة مهتمة بالعلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية، وهي تعقد بين حين وآخر مؤتمرات وندوات، وتدعو إليها كبار علماء العالم الإسلامي، وكبار ذوي الفكر والقلم، ومن الندوات المهمة التي عقدتها ندوة خاصة بالأدب الإسلامي، ونتج عنها تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وندوة خاصة بالدعوة إلى الله. - وظهر في شبه القارة الهندية جمهور كبير من العلماء الأجلاء الفضلاء، الذين حملوا راية العلم الإسلامي، وراية اللغة العربية، وعملوا على نشرهما، وكانوا هم الذين قادوا حركات الجهاد الإسلامي ضد الكفر والكافرين، وبهم ظهرت في الهند نهضة علمية كبيرة، ولا سيما في الحديث النبوي الشريف. - ولا أنسى أن أنوه بجماعة "التبليغ" التي قامت في الهند بفضل توجيه علماء المسلمين واهتماماتهم البالغات بشئون الدعوة إلى الله.

كلمة موجزة عن أندنوسيا

كلمة موجزة عن أندنوسيا ... 7- كلمة موجزة عن إندونسيا: أما إندونسيا، فلم تفتحها جيوش عسكرية محاربة، وإنما نشر الإسلام فيها علماء فضلاء تجار دعاة إلى الله من بلاد حضرموت، وكان نشرهم للإسلام فيها مع تعاطيهم الأعمال التجارية قائمًا على ما يلي: الأول: القدوة الحسنة، التي حببت الشعب الإندونسي بالإسلام، تأثرًا بالمسلمين الذين قدموا أحسن صورة تطبيقية للأخلاق والآداب والتعليمات الإسلامية، في أخلاقهم ومعاملاتهم وسائر أنواع سلوكهم. الثاني: الإقناع الفكري بأن الإسلام حق منزل من عند الله خالق الوجود جل جلاله، على رسوله الذي اجتباه واصطفاه من قريش، هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. الثالث: التعليم الذي يبدأ بشخص واحد، ثم يكون حلقة، ثم يكون جمهورًا كبيرًا. والشعب الأندنوسي لديه استعداد كبير لتلقي العلم، وأدب جم، واحترام فائق لمن يعلمه، والتزام دقيق بالنظام، وقدرة فائقة على المحاكاة والتقليد والإتقان. ودخل الملاييين من الإندونسيين في الإسلام، ووجهوا اهتمامًا بالغًا لتعلم العلوم الإسلامية، وتعلم اللغة العربية، بتأثير نظام حلقات العلماء الفضلاء، حتى صارت إندونسيا من كبريات الدول المنتمية إلى الإسلام، والإسلام فيها هو دين الأكثرية العظمى، وكان يمكن أن يكون هو الدين الوحيد لولا الاستعمار الغربي الذي وفد إليها في القرون المتأخرة، مشحونًا بمكايده الكثيرة في محاربة الإسلام والمسلمين.

تعرض حضارة المسلمين لقتل علمائها وإبادة مصنفاتها من قبل همج الشرق ونصارى الإسبان

8- تعرض حضارة المسلمين لقتل علمائها وإبادة مصنفاتها من قبل همج الشرق ونصارى الإسبان: تقف في ذاكرة التاريخ أحداث بالغة الشناعة والهمجية، تعرضت بها حضارة المسلمين لغزو همجي شنيع ذهب ضحيته الملايين من المسلمين، وفيهم جمهور كبير من العلماء والأدباء والأستاذة الكبار، وأتلفت به مخطوطات كثيرات في مكتباتهم، حتى اصطبغت بأحبارها مياه دجلة، وكان هذا على أيدي همج التتار في سنة "656هـ". وتقف في ذاكرة التاريخ أحداث مماثلة محزنة؛ إذ نقض نصارى إسبانيا الذين انتصروا على سلاطين المسلمين في الأندلس كل عهودهم ومواثيقهم التي عاهدوا المسلمين عليها، فطردوا المسلمين من مساكنهم فيها، وعملوا على التخلص من علمائهم ومساجدهم ومدارسهم، وأحرقوا مكتباتهم العظيمة، وكان هذا في أواخر القرن التاسع الهجري. ونتج عن هذه النكبات الحضارية فرار كثير من العلماء إلى بلاد آمنة من بلاد المسلمين، كمصر يومئذ، وعقب هذه الحقبة توجه كثير من العلماء المصنفين ذوي الأقلام المجاهدة في ميدان التأليف، إلى كتابة الموسوعات العلمية الجامعة، بغية حفظ ما في متناثر الكتب والرسائل من علوم، وسمي هذا العصر عند المؤرخين عصر الموسوعات. وتقف في ذاكرة التاريخ أحداث مماثلة محزنة، ما فعله في القرن العشرين الميلادي نصارى صرب البوسنة، من إحراق المكتبة الإسلامية في "سراييفو" التي تحتوي على مخطوطات كثيرات جدًّا من مخطوطات المسلمين الجليلة في مختلف العلوم، بدافع الحقد والكراهية للإسلام والمسلمين، على الرغم مما تحمل هذه المخطوطات من إنتاج حضاري إنساني عظيم.

الفصل التاسع: نظرات موجزات حول تطبيقات حضاريات مختلفات قام بها المسلمون

الفصل التاسع: نظرات موجزات حول تطبيقات حضاريات مختلفات قام بها المسلمون 1- مقدمة: لم يكن واقع حال المسلمين، في أدوار تاريخهم التي كان الحكم الإسلامي في الإدارة هو الشعار السائد فيها، تطبيقًا صحيحًا وافيًا للتعليمات الإسلامية الواردة في مصادر الدين الإسلامي، التي تقدم الصورة المثلى للحضارة الإسلامية. بل كان في تطبيقات المسلمين الحضارية بصورة عامة، تقصير كثير عما هو مطلوب منهم، وانحرافات تختلف نسبها في العصور المتتالية والبيئات المختلفة عن المنهج الرباني، وكانت هذه التقصيرات والانحرافات ناتجات عن جهل أو اجتهاد فكري غير صحيح، أو اتباع للأهواء والشهوات والعصبيات والأنانيات المختلفات. إلا أن إيجابيات المسلمين في الخير وفي التزام تعليمات الإسلام ونشدان الحق أكثر من إيجابيات أية أمة من الأمم، وكذلك كانت سلبياتهم في التقصيرات والانحرافات أقل من سلبيات أية أمة من الأمم. ومعلوم أن البناء الحضاري تكامل ارتقائي مستمر، إذا تابع مسيرته دون مثبطات ولا معوقات ولا انتكاسات ولا مخربات تحيط به من معاول الأعداء. وحين يصف الباحثون في الحضارة الإسلامية واقع حال المسلمين في مختلف شئونهم الحضارية، فلا يظن ظان أن هذا الواقع هو النموذج التطبيقي الصحيح، أو الكامل لما وجهت له أسس الحضارة الإسلامية وتعليماتها. ولا يصح أن يستدل بهذا الواقع على أنه هو الحضارة الإسلامية المثلى، فيقاس عليه، أو يُقتدى به دوامًا. إن الإسلام وتعليماته الحضارية شيء قائم بذاته، وواقع حال المسلمين في تطبيقاتهم الحياتية شيء آخر، إن النموذج الأكمل هو التعليمات الإسلامية، أما

تطبيقات المسلمين فما وافق منها النموذج فهو المطابق له، وما خالف منها النموذج فهو المقصر، أو المنحرف، أو المباين المضاد أو المناقض. لقد مر في تاريخ الأمة الإسلامية أفراد كثيرون صالحون، وجماعات كثيرون صالحون، وأمثلة بشرية رائعة، تقدم في سلوكها النموذج الذي يُحتذى به؛ إذ كانوا ملتزمين تعليمات الإسلام ووصاياه التزامًا تامًّا، ومستمسكين بحبل الله المتين استمساكًا صاديًا بقوة وثبات. ولكن قد كان يوجد في المسلمين إلى جانب هؤلاء الصالحين عصاه كثيرون جدًّا، ومنحرفون كثيرون انحرافًا فاحشًا عن تعاليم الإسلام وصراطه المستقيم، بدءًا من العامة على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية، حتى الحكام والسلاطين ومن بأيديهم إدارة البلاد، وهؤلاء لا يعطون في سلوكهم وتطبيقاتهم صورة صحيحة مقبولة، أو مقاربة للصورة الصحيحة التي تقدمها تعليمات الإسلام، وتطالب المسلمين بأن يتمثلوها في واقعهم. فالحكم قد كان خلافة للرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى منهاج النبوة، طوال حكم الخلفاء الراشدين، ثم صار ملكًا متوارثًا، ومطمعًا يتقاتل عليه الطامعون، ويتناهبه المتناهبون بالقوة. وحين نستعرض بعض تطبيقات المسلمين الحضارية، فإننا نستعرض صورًا من تاريخ حضارة المسلمين، لا صورًا من الحضارة الإسلامية المنشودة. هذه قضية يجب وضعها في الملاحظة دوامًا. ويجب التفريق دوامًا بين الإسلام وتطبيقات المسلمين عبر تاريخ الأمة الإسلامية.

الواقع الاقتصادي

2- الواقع الاقتصادي: كانت شعوب الأمة الإسلامية في ظل إدارات الحكام المسلمين تعيش في تكامل اقتصادي، من كل أنواع مطالب الحياة، وكان التجار المسلمون ينقلون سلعهم التجارية من أقصى بلدان عالم المسلمين إلى أقصاها، شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا. وكانت علاقات المسلمين التجارية مع الشعوب الأخرى غير المحاربة علاقات جيدات استيرادًا وتصديرًا. وحينما كانت تتعرض بعض بلدان المسلمين لضائقات اقتصادية بأسباب طبيعية، أو اعتداءات من شعوب غير مسلمة، كان أهلها يجدون ملاذًا في بلدان أخرى من بلدان عالم المسلمين، يفرجون فيها عن ضائقاتهم، بسبب شعور جميع المسلمين بالوحدة الإسلامية المتكافلة المتضامنة. وكان لتطبيق فريضة الزكاة أثره العظيم في سد ضرورات ذوي الضرورات، وحاجات ذوي الحاجات. وكان للصدقات والمبرات غير الواجبة أثرها العظيم أيضًا في توثيق الصلات بين المسلمين، ورفع مستوى معيشة متوسطي الحال الذين لا يدخلون ضمن الأصناف الثمانية الذين تصرف إليهم الزكاة. وكان للأوقاف الخيرية أثرها العظيم أيضًا في تأسيس مؤسسات اجتماعية ذوات خدمات علمية وعملية جليلة، وهي تحتوي على عاملين مأجورين، وعلى مكفوليين بمعيشة حسنة. وكان الأمن العام بالأخلاق الإسلامية السائدة في مجتمعات المسلمين، وبسلطة الإدارة الحازمة ورقابتها الدائمة، مع تطبيق أحكام الفقه الإسلامي في المعاملات المالية، وقناعة الناس في تجاراتهم ومكاسبهم، وبعدهم عن الغش والاحتكار والغبن الفاحش، وبعدهم عن التعامل بما لم يأذن به الإسلام، من الأسباب التي هيأت للمسلمين مجتمع الكفاية والعدل، في معظم الأحوال وقللت من الفوارق الفاحشة بين الأغنياء، ومتوسطي الأحوال، والفقراء، وجعلت الإخاء العام بين هؤلاء هو الرباط الجامع لهم.

المالية العامة

3- المالية العامة: سارت دول الشعوب المسلمة التي تعلن عملها بالإسلام، على سياسة تحقيق التعادل بين مواردها ونفقاتها. وأنشأت بيتًا للمال، وكانت تقوم على صيانته وحفظه والتصرف فيه لصالح الإسلام، ولصالح جماعة المسلمين، في معظم أحوالها. وكانت موارد بيت المال تعتمد في الدرجة الأولى على خراج الأرض التي أفاء الله بها على المسلمين، وعلى الجزية، والزكاة، والفيء، والغنيمة، والعشور، وهي من الضرائب التي كانت تؤخذ البضائع التي يجلبها تجار الكفار من بلادهم إلى دار الإسلام، إذا اشترط عليهم ذلك للإذن لهم بتوريدها إلى بلدان المسلمين. ثم أضيفت أنواع من الضرائب على أفراد الشعب في مقابل خدمات يقوم بها عمال الدولة وموظفوها لسد نفقات الدولة المختلفة. وسن الأمويون نظامًا دقيقًا للإشراف على جباية أموال الدولة. وقد يحصل بها من بعض السلاطين والحكام إجحام على أفراد الشعب، وقد يتصرف هؤلاء بالأموال العامة لأنفسهم أو لأنصارهم أو لمظاهر عظمة سلطانهم تصرفات منافية للحق والعدل ومصالح الدولة وأفراد الشعب، دون أن يستطيع أحد محاسبتهم.

التنظيمات الإدارية

4- التنظيمات الإدارية: لم تشتمل نصوص القرآن والسنة على تنظيمات إدارية محددة، ولكن دلت بعض النصوص القرآنية، وتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، على أن التنظيمات الإدارية هي من أمر المسلمين، وأن كل ما كان من أمر المسلمين فهو يخضع لقاعدة الشورى بينهم، قال الله عز وجل في سورة "الشورى: 42 مصحف/ 62 نزول" مبينًا بعض صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . ولما كانت الدولة الإسلامية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم صغيرة الحجم، وكان عرب الجزيرة العربية يسيرون إداريًّا على النظام القبلي، ويخضعون لأوامر

الأمراء، وكان هذا كافيًا لإصلاح أحوالهم، وتسيير شئونهم، فقد كان من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يرهق هذا المجتمع بتنظيمات إدارايت واسعات، تصدر ربها قرارات وأوامر سلطانية، بل فوض للأمراء أن يسيروا في الناس بالحق والعدل والرفق والرحمة، مطبقين أحكام كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وملتزمين بالمبادئ الدستورية التي اشتمل عليها القرآن المجيد، وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله وتصرفاته الإدارية. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحسن انتقاء الأمراء الذين يرسلهم لإدارة شئون البلاد داخل الجزيرة العربية، من الناحيتين الدينية والمدنية، مع الإذن لهم بأن يعملوا بمقتضى المصلحة التي يرونها في الأمور التي ليس لها في القرآن ولا في السنة تعلميات خاصة، مستعينين بمشاورة أهل الحل والعقد في الجهات التي وجههم أمراء عليها. وسار الخلفاء الراشدون على هذا المنهج، لكنهم أخذوا يتوسعون شيئًا فشيئًا بحسب الحاجة، وبمقتضى اتساع دولة المسلمين، في وضع التنظيمات الإدارية، وتدوين الدواوين. وربما استفادوا في تنظيماتهم من بعض التنظيمات الإدارية التي كانت تعمل بها الدولتان العظيمان الساقطان بالفتح الإسلامي، دولة الروم، ودولة فارس، مما لا يتعارض مع تعليمات الإسلام. ومع اتساع الدولة وظهور الحاجة إلى التنظيمات الإدارية الضابطة للعمال والموظفين من جهة، والضابطة لأفراد الشعب من جهة أخرى، كانت هذه التنظيمات تكثر وتتنامى شيئًا فشيئًا، وكان يخضع لأحكامها جهاز الإدارة وأفراد الشعب. ومما لاشك فيه أنه كلما تطور الشعب تطورًا حضاريًّا بعيدًا عن الحياة القبلية وأعرافها، كان الجهاز الإداري الحاكم فيه بحاجة إلى مزيد من التنظيمات الإدارية الضابطة له، والضابطة لأفراد الشعب، وبهذه التنظيمات الحكيمة العادلة الرشيدة ترتقي الدولة ارتقاء حضاريًّا رفيعًا، ويرتقي بارتقائها شعبها الخاضع لتنظيماتها والملتزم بها.

والتنظيمات الإدارية لأية أمة من الأمم لا بد أن تخضع دومًا للتطوير والتحسين، واختيار الأفضل والأعدال والأحكم، والأكثر رفقًا بأفراد الشعب، والأبعد عن التعقيدات والتكاليف التي لا فائدة منها، ومثل هذا لا يصح أن يتوقف عند حد، بشرط المحافظة على الحق والعدل والرفق بالناس والتيسير عليهم، وتحقيق مصالح المسلمين ومصالح دولتهم على أحسن الوجوه وأيسرها. ولهذا فإن أحدًا لا يستطيع أن يضع تنظيمًا إداريًّا عامًّا شاملًا لكل جوانب حياة الناس، على أساس أن يكون هو النظام الإداري الدائم الذي لا يتعرض لنسخ أو تعديل أو تبديل مهما توالت التجربات، وتعاقبت العصور، فالتنظيمات الإدارية أوضاع بشرية زمنية، قابلة للتعديل والتبديل والنسخ، تبعًا لمصالح أفراد الشعب، ومصالح الدولة.

القضاء

5- القضاء: وكان القضاء في أكثر أحوال دولة المسلمين وأطوارها قضاء شريفًا نزيهًا، يحكم فيه القضاء بالحق والعدل، عملًا بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بالقياس على ما جاء فيهما. وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لما ولاه قضاء البصرة كتابًا حدد له فيه معالم القضاء الإسلامي؛ إذ جاء فيه1: "أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أُدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس2 الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك3، ولا ييأس ضعيف من عدلك.

_ 1 نقلًا عن الرواية التي ذكرها ابن قيم الجوزية في كتابه "إعلام الموقعين" وشرحه انظر الجزء الأول صفحة 85 وما بعدها. 2 آس: أي: سوِّ. 3 في حيفك: أي: في جورك منحازًا له.

البينة على المدعي، واليمن على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا. ومن أدعى حقًّا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن بينه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعماء، ولا يمنعنك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه إلى رشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعه الحق خير من التمادي في الباطل. والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجربًا عليه شهادة زور، أو مجلودًا في حد، أو ظنينًا في ولاء أو قرابة1، فإن الله تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان. ثم الفهمَ الفهمَ فيما أُدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، وأعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق. وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذى بالناس والتنكر عند الخصومة "أو الخصوم"2 فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيم بما ليس في نفسه شأنه الله، فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا، فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته". قال ابن قيم الجوزية: وهذا كتاب جليل، تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة. أقول: هذا الكتاب بمثابة قانون وضعه عمر بن الخطاب للقضاة، ومواده مأخوذة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 أو ظنينًا في ولاء أو قرابة: أي: أو متهمًا بأن له مصلحة لنفسه من شهادته، كشهادة المعتق لمن له ولاؤه، أو شهادة العتيق، وكشهادة القريب لقريبه الذي يرثه. 2 شك أبو عبيد راوي خبر كتاب عمر لأبي موسى.

نظام الحسبة ووظيفة المحتسب

6- نظام الحسبة ووظيفة المحتسب: الحسبة: في اللغة كالحساب، وهي لفظة تطلق على منصب كان يتولاه رئيس يُشرف على الشئون العامة في الأسواق وفي سائر المجامع العامة، ومن مهماته المراقبة والمتابعة العامة، لضبط الحقوق، ورعاية الآداب، ومنع ما لا يأذن به الدين, وتأديب المخالفين. والضرب على أيدي المجاهرين بالمعاصي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من وضع في دولة المسلمين نظام الحسبة، وكان يتولاه بنفسه لعلو همته، وشدة عزمه وحزمه، وقد اقتبسه من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن توليته "سعيد بن سعيد بن العاص" بعد فتح مكة على أسواقها. ويقال لمن يقوم بهذا المنصب في الشئون العامة: "المحتسب" أي: الذي يراقب الناس في المجامع العامة، ويتابع أعمالهم، ويحاسبهم، ولا تقتصر أعمال المحتسب ومهماته على حفظ الأمن. وارتقى نظام الحسبة وتوسعت دائرة وظيفة المحتسب شيئًا فشيئًا، حتى شملت أشياء كثيرة: فمن أعمال وظيفة المحتسب ما يلي: 1- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوجيه النصح والإرشاد، بحسب الحاجة في المجامع العامة. 2- مراقبة المكاييل والموازين للتحقق من مطابقتها لما يجب أن يتكون عليه في مقاديرها. 3- مراقبة السلع المعروضة للبيع في الأسواق، للتحقق من سلامتها من الغش والتدليس، ومحاسبة الغشاشين، والمدلسين، وتأديبهم ومعاقبتهم ضمن حدود النظام.

4- مراقبة المصنوعات المتفق على صنعها بين العامل ومن صنعت له، والنظر في مدى مطابقتها للشروط المتفق عليها، وسلامتها من الغش والتدليس، ومحاسبة المخالف، وحل عقد المنازعات. 5- مراقبة النقود والأثمان المختلفة للتحقق من سلامتها من الغش والتزوير. 6- حل الخلافات والمنازعات في المعاملات المختلفات، والعقود، بما يتفق مع أحكام الفقه الإسلامي، ما لم تكن من القضايا الكبيرة التي تحتاج إلى قاض يفصل فيها. 7- الضرب على أيدي الخونة واللصوص والغشاشين والمجاهرين بالفسق والرذيلة ومخالفة أحكام الدين. 8- منع حدوث كل مخالفة شرعية، ومنه منع تلقي الركبان قبل توريدهم سلعهم إلى أسواقها، وعرضها على الجميع دون تخصيص ولا تمييز، ومنه منع الاحتكارات التي ترتفع بها أسعار السلع، ومنع إنشاء البيع والشراء إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، ومنع التعامل بالربا، ومنع بيع الأشياء المحرمة شرعًا، كالخمور، ولحوم الخنازير، والأوثان، والصور المحرمة، والمعازف. 9- مراقبة الصناعات الغذائية والدوائية، للتحقق من خلوها مما يضر بالناس، وللتحقق من مطابقتها لما يجب أن تكون عليه من موادها، وفي طريقة صنعها وفي نظافتها ونظافة الأدوات التي تصنع فيها، ونظافة الأماكن التي توضع فيها. ومن مهمات رئيس منصب الحسبة أن يعين مراقبًا على أهل كل حرفة بحسب الحاجة، يكون خبيرًا بها عالمًا بدقائقها متابعًا برقابته أعمال الحرفيين، لمنعهم من الغش والتدليس، وتأديب المخالفين. 10- مراقبة أسعال السلع بحسب درجاتها جودة أو دون ذلك حتى أخس الدركات.

11- ويهتم المحتسب بمراقبة الطهارة والنظافة في المآكل والمشارب والملابس والأماكن، وبمراقبة مياه المساجد والأماكن العامة كالسبل والخزانات والبحيرات، وبمراقبة مياه الأقنية، ونظافة المراحيض المعدة للطهارة وقضاء الحاجات الطبيعية، وبمراقبة الأنهار ومجاري المياه، ومنع الناس من تعريضها للأوساخ والقذارات. 12- ومن مهمات المحتسب مع الناس من كشف العورات، ومن التبول والتغوط في الطرقات، وفي كل مكان لا يصح فيه ذلك، لما فيه من الأذى. ومن مهماته منع النساء من اتباع الجنائز، ومن زيارة القبور، ومن الخروج إلى الأماكن العامة سافرات، ومن الخروج إلى المنتزهات العامة إلا مع ذي محرم. ومن مهماته منع اختلاط الرجال بالنساء، وفي الأعراس والمآتم أو في الأسواق والمجامع العامة، وغير ذلك، مراعاة لأحكام الشرع. 13- ومن مهمات المحتسب منع الناس من كل ما يضيق على المارة طرقهم، أو يؤذيهم بأتربة وأحجار أو قمامات، أو قاذورات، أو مياه تصب من الميازيب أو غيرها. 14- ومن مهمات المحتسب منع الناس من إحداث أبنية في الطرقات، أو إحداث شرفات، أو إحداث أسقف على الطرقات تؤذي المارين فيها، أو نحو ذلك مما ليس للباني فيه حق شرعي. إلى أمور كثيرة تصدر بها تعليمات وبيانات من الإدارة الحاكمة، المنوطة بها مراقبة أمور الدين والدنيا التي تقتضيها أسس الحضارة الإسلامية، والآداب الاجتماعية العامة، أو تقتضيها الحقوق والمصالح العامة.

التدبيرات العسكرية

7- التدبيرات العسكرية: قال اللواء الركن "محمد جمال الدين محفوظ" في كتابه "العسكرية الإسلامية ونهضتها الحضارية". "إن للإسلام مدرسة عسكرية مكتملة الأركان، تحتوي على المبادئ والنظريات التي تقوم عليها أية مدرسة عسكرية في الشرق، أو الغرب. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قائد هذه المدرسة ومعلمها الأول، وعلى يديه تعلم أجدادنا الأوائل من قادة وجنود جيش الإسلام، وقامت الإستراتيجية العسكرية الإسلامية التي طبقها المسلمون في معاركهم التي خاضوها إعلاء لكلمة الله، والتي واجهوا بها أعداء يفوقونهم عددًا وعدة فانتصروا عليهم بإذن الله، وأصبحوا ظاهرين، وسجل التاريخ أن المجاهدين الصادقين قوم لا يقهرون". 1- ففي عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حققت عسكرية المسلمين الهدف المنشود، وهو تأمين تبليغ الدعوة الإسلامية، وقيام دولة المسلمين آمنة مستقرة تؤدي رسالتها لخير الناس أجمعين. وبمتابعة التدريب العملي خلال المعارك ارتفعت الكفاءة القتالية لجيش المسلمين في مجال الرماية والتسليح والتركيب التنظيمي والقوة الضاربة، حتى صارت تضارع كفاءة جيوش الدول العظمى المعاصرة لها. وأضاف المسلمون إلى أسلحة قتالهم أسلحة جديدة، وهي أسلحة الحصار ودك الحصون، كالمنجنيق والدبابات، فقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم اثنين من المسلمين إلى جرش في الشام، فتعلما صنعة هذه الأسلحة. وزادت قوة الفرسان في التركيب التنظيمي لجيش المسلمين، حتى بلغت الثلث من مجموع القوة. 2- وبعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ المسلمون بأسباب التقدم والتطور في الكفاءة القتالية، وفي تحسين وتجويد الأسلحة، وتطورت جيوش المسلمين في التركيب التنظيمي، وتشكيلات القتال وإدارة المعارك. وخاض المسلمون بنجاح باهر أشكالًا جديدة من العمليات الحربية. مثل عمليات عبور الأنهار والموانع المائية، والحصار الطويل، والمسير الطويل، والإمداد المستمر بحاجات الجيش، وتأمين خطوط المواصلات، وإقامة

المعسكرات، وحماية الثغور، وإقامة القواعد الحربية الإدارية، وإرادة شئون البلاد المفتوحة بكفاءة. وباتخاذهم الأسباب وصدقهم وإخلاصهم ومعونة الله لهم امتدت فتوحاتهم في أقل من مائة عام من حدود الصين شرقًا، إلى شاطئ الأطلسي غربًا. وأثبتت قيادة المسلمين كفاءة لا نظير لها في إدارة دقة الحرب، ضد أعظم قوتين عالميتين في ذلك الوقت، وكان ما قام به المسلمون مثلًا فريدًا في التاريخ لم تبلغه أقوى الأمم وأكثرها خبرة في الحروب. واقتحم المسلمون بكل اقتدار الحروب البحرية، وأحدثوا مصانع لبناء السفن الحربية، وبرعوا في هذا المجال الجديد عليهم، حتى انتصروا على أساطيل بيزنطية التي كانت أعظم قوة بحرية في زمانها. بيزنطة: هي "إستانبول" الآن. والإمبراطورية البيزنطية هي دولة تأسست في القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية من البوسفور حتى الفرات. الإيمان الراسخ وطلب الشهادة سر تفوق المسلمين في الحروب: مما لا ريب فيه أنه قد كان إيمان المسلمين بما جاء في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانهم بما للمجاهدين في سبيل الله، وبما للشهداء من أجر عظيم، مع حرصهم على طاعة الله ورسوله باتخاذ الأسباب التي تقضي بها أنظمة الله في كونه، وحرصهم على تبليغ دين الله للناس أجمعين، باعتباره أولى وظائفهم تجاه شعوب الأرض من أعظم الأسباب التي حققت للمسلمين تفوقهم في الحروب، بصورة متتالية، حتى فتحوا معظم العالم القديم، وكانت لهم في الأرض دولة عظمى. وقد أدرك هذه الحقيقة كبار القادة العسكريين في العالم: - جاء في كتاب "الحرب عبر التاريخ" للقائد العسكري المشهور المارشال "مونتغمري" ما يلي1:

_ 1 نقلًا من كتاب "العسكرية الإسلامية" للواء الركن محمد جمال الدين محفوظ.

"من العوامل التي جعلت العرب قومًا لا يقهرون، شجاعتهم، وإقدامهم، وحشدهم لقواتهم. على أن هناك عوامل أخرى شاركت في نجاح زحفهم غير العادي الذي كان عبارة عن نجاح تلو نجاح، فقد كان العرب يندفعون نحو القتال تحركهم أقوى دوافع الحرب: الإيمان والعقيدة. لقد كانوا يؤمنون إيمانًا راسخًا بالدعوة الإسلامية ويتحمسون لها، ويغارون عليها، وقد أدى هذا إلى اعتناقهم مبدأ صلبًا هو: الجهاد في سبيل الله. لقد وصلت الفتوحات الإسلامية مدى لم تصله في أي عهد سابق، وليس ذلك لأنهم كانوا أكثر عددًا، بل لأنهم كانوا يستقبلون في كل مكان يصلون إليه كمحررين للشعوب من العبودية، وذلك لما اتسموا به من تسامح وإنسانية وحضارة، فزاد إيمان الشعوب بهم، علاوة على تميزيهم في الوقت نفسه بالصلابة والشجاعة في القتال". أقول: وقد أضاف المسلمون إلى ما ذكره "مونتغمري" أنهم كانوا يتخذون كل الوسائل السببية، التي تضمد لأسباب الأعداء، وتتفوق عليها، وأنهم كانوا يحرصون على الموت شهداء في سبيل الله، كما يحرص أعداؤهم على الحياة؛ لأنهم كانوا يؤمنون بجنات النعيم، وأن الشهداء الصادقين يكونون أحياء عند ربهم يرزقون. - ووصف القائد البيزنطي "نيقفورس" المسلمين في القتال بقوله: "عندما يتوقعون النصر، فهم قوم غاية في الجسارة، يصمدون بثبات في صفوفهم، ويقاتلون بإصرار في وجه أعنف الهجمات، وحينما يلاحظون أن وحشية عدوهم بدأت تتراخى، يحشدون قواتهم ويهجمون باستماتة"1. إن ارتباط عسكرية المسلمين بالدين قد جعلها تتميز على غيرها بمزايا متعددة، منها ما يلي:

_ 1 المصدر السابق.

أ- الاستقرار والثبات، نظرًا إلى أن دين الله للناس ثابت مستقر غير متبدل ولا متحول، بخلاف سياسات الناس ومذاهبهم. ب- أن العسكرية الإسلامية لا تخضع للأهواء والأطماع الخاصة، والمصالح الشخصية، بخلاف العسكريات الأخرى التي تخضع لأهواء الناس ومصالحهم. ج- أن المقاتل المسلم يقاتل لمصلحة نفسه عند رهب؛ إذ هو يقاتل ابتغاء مرضاته، ولا يقاتل من أجل زعيم أو حزب أو تحقيق مصلحة دنيوية. د- أن المقاتل المسلم يُقاتل وليس في نفسه مشاعر عدوان ضد قوم من الناس، بل يقاتل حرصًا على إنقاذ البشرية من الكفر الذي يُفضي بها إلى الخلود في عذاب النار، ومن الظلم والعدوان والعبودية والشرور التي تفرضها عليها تكتلات البغي، وعصابات الإثم. هـ- والمسلم حين يقاتل الطغاة، شديد الحرص على أن يسود السلم والأمن والحق والعدل والخير والفضيلة الناس أجمعين. و وارتباط عسكرية المسلمين بالدين، قد دفع المسلمين قادة وشعبًا، إلى متابعة التطوير الارتقائي، في اتخاذ الأسباب للسلم وللحرب، والعمل على أن تكون أسبابهم متفوقة على أسباب أعدائهم، عملًا بقول الله عز وجل لهم في سورة "الأنفال: 8 مصحف/ 88 نزول": {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ، وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . ومعلوم أن إرهاب العدو الظاهر وإرهاب آخرين مستورين مجهولين لا يعلمهم المسلمون، إنما يكون باتخاذ الأسباب وإعداد القوى المتفوقة جدًّا على قوى الأعداء الظاهرين المعروفين. أما تفصيل الأسباب فأمر من خصائص الدراسات العسكرية، والأسباب أمور متطورة مع الزمن ما دام للعقول الإنسانية ابتكارات فيها، وفي المتاحف العالمية نماذج كثيرة من أسلحة المسلمين في التاريخ.

العمران

8- العمران: اهتم المسلمون بالإنشاءات العمرانية العظيمة، في كل البلدان التي فتحها الله لهم، في الشام، والعراق، ومصر، وبلاد فارس، وبلاد المغرب حتى أقصى الأندلس، وفي أفغانستان، والهند والسند وفي سائر بلدانهم في الشرق. ومن منشآتهم الحضارية العظيمة تخطيط المدن وإقامتها. وبناء المساجد والمدارس والقصور ودور السكن، وبناء القلاع والحصون والمعسكرات، وإنشاء الأسواق التجارية المظللة المغلقة المحفوظة بالأبواب والحراس، وتعبيد الطرقات ورصفها، وإنشاء الجسور والقناطر، وإنشاء الأبراج للمراقبة، وإنشاء المنارات البحرية للسفن، وإنشاء قنوات الماء والقساطل التي تجري فيها المياه إلى المنازل والمساجد، حتى صارت المدن التي طال حكم المسلمين فيها في مشارق الأرض ومغاربها مقصدًا لمتتبعي الآثار العمرانية العظيمة، لتصويرها، والتعريف بعظمتها، وبيان تفوق مهندسيها في الإتقان الهندسي، وإتقان بنائها العمراني ولدراسة الفنون المعمارية فيها. ولا يزال متتبعو الآثار والسائحون ينبهرون وتأخذهم الدهشة من عظمة آثار المسلمين العمرانية، وما احتوت عليه من زخرفيات وجماليات بديعات رائعات، كالمقرنسات1، والمدليات ذوات الإتقانات الهندسية الرائعة، وكالفسيفساء التي تزين رسومها البديعة المدهشة المسطحات الداخلية للمباني، سواء كانت مستويات أو منحنيات أو مكورات أو مجوفات أو مقوسات.

_ 1 قرنس البيت: أي زيّنه بخوارج منه ذات تدريج متناسب، فهو مقرنس.

وإذ نهى الإسلام عن تصوير الإنسان والحيوانات قطعًا لدابر الوثنيات، فقد انطلق أصحاب المهارات الفنية المسلمون يعبرون عن رغبات الإبداع الفني في نفوسهم؛ برسم الورود والزهور والأفنان والنباتات البديعة والأشجار والأنهار والسماء والغيوم والنجوم فيها، والقصور ونوافذها وستورها وبعض أثاثها، وأبدعوا كثيرًا في رسم الخطوط والأشكال الهندسية. ويهتمون بالإبداع في الألوان حتى تكون رسوماتهم محاكية للألوان الطبيعية محاكاة تامة، بحسب أحوالها في الفصول الأربعة، فالرسوم المحاكية للربيع تكون ألوانها محاكية لألوان نباتات الربيع وجوها العام، والرسوم المحاكية للشتاء تكون ألوانها محاكية للأشياء من فصل الشتاء، وهكذا. وقد غدت المدن التي حكمها المسلمون في التاريخ مقصدًا ينتجع إليه السائحون من الشرق والغرب، ومقصدًا مهمًّا لمتتبعي الآثار، بغية الإطلاع على ما أنتجه المسلمون في تاريخهم من حضارة عمرانية مدهشة. وأعظم آثار المسلمين الحضارية العمرانية يجدها المتتبعون في المساجد والجوامع الكبرى ومآذنها الشاهقة المزخرفة، وفي المدارس والمعاهد التي أنشاها السلاطين وذوو الثراء من المسلمين، لطلاب العلم الذين كانوا يدرسون علوم الدين الإسلامي وعلوم اللغة العربية أولًا ثم العلوم الأخرى الشاملة للطب والرياضيات والفلسفة، ولما توصل إليه الناس من علوم كونية مختلفة. وشواهد تقدم المسلمين الحضاري في مجال العمران ما تزال قائمة في المدن المهمة التي حكمها المسلمون حقبة من الدهر. وقد فصل المؤرخون الذين كتبوا في الحضارات الإنسانية، من غربيين وشرقيين ومسلمين، ما أنتجه المسلمون من ظاهرات حضارية معمارية، تفصيلات واسعات تعتمد على تحديد البناء، وموقعه، وتاريخ إنشائه، ومن أنشأه، وعلى وصفه وصفًا شاملًا، مع بيان الميزات التي يشتمل عليها، مقرونًا كل ذلك بالرسوم الفوتغرافية، وبالرسوم الهندسية أحيانًا، وبالتحليلات العلمية.

ولست هنا في هذه الموجزات بحاجة إلى ذكر تفصيلات لا تستدعيها خطة الكتاب، ولا داعي إلى ذكرها، فشواهد ما ذكرت من مجملات، مائلات قائمات في كل البلدان الكبيرة التي حكمها المسلمون في العالم حقبة من الدهر. وليس على الحريص على الإثبات أو المشاهدة إلا أن يطوف في مصر، أو في بلاد الشام، أو في العراق، أو في إيران، أو في تركيا، او في المغرب العربي، أو في الأندلس، أو في شبه القارة الهندية، أو في إندونسيا، أو في التركستان، أو في بخارى، أو في أي بلد ذي أهمية تاريخية من البلدان التي حكمها المسلمون في التاريخ. والسائح في تطوافه هذا سيجد إلى جانبه أرتال السائحين، من العرب والشرق غير المسلمين، منبهرين مندهشين بمنجزات المسلمين الحضارية في مجال العمران، وفنون الزخرفة الجميلة التي تشتمل عليها آثارهم.

الخط العربي

9- الخط العربي 1: برع المسلمون براعة فائقة في كتابة الخط العربي، وظهر لهم فيه فن جمالي بديع فريد. واقترنت كتابة الخط العربي في المصاحف وغيرها بأعمال زخرفية بديعة ذات روعة وجمال فائقين. وكان البغداديون أول الأمر أساتذة إتقان الخط العربي والإبداع فيه وزخرفة الكتب. وامتد بعد ذلك هذا الفن إلى فارس، واكتسبت خراسان أهمية خاصة في كتابه الخط العربي، وظهر في فارس خط فارسي ابتكره الخطاط "ميرعلي".

_ 1 معظيم المعلومات في هذه الفقرة مقتبسة من كتاب "الفنون الجميلة في العصور الإسلامية" تأليف "عمر رضا كحالة". وكذلك الفقرات من "10-12".

وكان للرغبة في استخدام الألوان المتعددة في القرن الثامن الهجري أثرها في ارتقاء فن التذهيب الإيراني، ولم يقتصر ذلك على تذهيب المصاحف، بل انتقل إلى المخطوطات الأخرى. ومن أعظم مشاهير الخطاطين في القرن التاسع الهجري "سلطان علي المشهدي" و"جعفر البيسنقري التبريزي" و"عبد الكريم الخوارزمي" و"إبراهيم سلطان بن شاه رخ بن تيمور جورجان" وكان هذا من أبرع اللاعبين بالحروف، واشتهرت مقدرته على الكتابة بستة أساليب خطية مختلفة. ثم ظهرت مدرسة الخط في "إستنبول" في العهد العثماني وليدة مدرسة "تبريز" الإيرانية. وتفوق الخطاطون الأتراك في كتابة الخط العربي، ولا سيما في خط الثلث، الذي تكتب به اللوحات الكبيرة، وآثارهم الكتابية ماثلة في الجوامع الكبيرة في المدن التركية، وقد شهدت روائع خطوط في لوحات أو على جدران جامع السلطان أحمد في إستنبول، والجامع الكبير في بورصة، وفي غيرهما من الجوامع الكبيرة في تركيا. واحتل أخيرًا مركز الأستاذية في كتابة الخط العربي الخطاط التركي "رسا" وقد شهدت بعض لوحاته مهمورة بتوقيعه. ومن ميزات الفن التركي العثماني في القرن العاشر الهجري تلوين الزخارف بالذهب، وباللونين الأزرق والأسود، مع إضافة ألوان أخرى. وازدهرت صناعة تجليد الكتب ازدهارًا كبيرًا لدى المسلمين في مختلف مدنهم. ويُعبر الخط العربي الجميل على اختلاف أشكاله وصوره، عند ذوق فني رفيع جدًّا، يجمع بين إتقان التركيب، وجمال الصورة، ومهارة الأداء، ودقة الصنعة اليدوية التي يتمتع بها الخطاطون البارعون.

الصناعات الخزفية

10- الصناعات الخزفية: متاحف العالم تحتوي على كنوز نفيسة جدًّا مما أنتجه المسلمون عبر تاريخهم من صناعات خزفية مدهشة في صنعتها، وفي دقة رسومها، والألوان المنتقيات فيها. لقد اقتبس المسلمون الصناعات الخزفية من الشعوب السابقة لهم، لكنهم أضافوا من عندهم ابتكارات كثيرات، أعطت صناعاتهم الخزفية طابعًا خاصًّا بهم. ووصل الخزفيون المسلمون في القرنين السادس والسابع من التاريخ الهجري إلى مرحلة تعتبر غاية في الإتقان، واشتهرت بلاد عديدة من بلدان المسلمين بصناعة مختلف أنواع الخزف، كالخزف ذي البريق المعدني، وذي الرسوم فوق الدهان بلون واحد أو ألوان متعددة، وكالخزف ذي الزخارف المحفورة، والزخارف المنقوشة. وابتكر المسلمون أنواعًا من الزخرفة كان لها تأثير كبير في التجديد، وقد كان من بينها الزخارف المقرعة. وازدهرت مدينة الري في القرنين السادس والسابع من التاريخ الهجري بهذه الصناعة، حتى صارت مركزًا ذا أهمية لصناعة الخزف الجميل المزين بالزخرفيات، والمتاحف العالمية تزدحم بنماذج وافرة منه. وكانت مدينة "قاشان" وسائر مدن إيران في القرنين السابع والثامن من التاريخ الهجري مراكز ذات أهمية أيضًا لصناعة الخزف الجميل المزين بالزخرفيات البديعة. وكانت الرقة والرصافة في هذا العصر من المراكز الهامة لصناعة الخزف الذي يحتوي على عناصر زخرفية جميلة، وقد تداولت أيدي التجار الشاميين كميات كبيرة منه حتى امتلأت بها الأسواق، وتوجد في المتاحف مجموعات كبيرة من خزف الرقة.

ويعتبر السلاجفة1 المسلمون أول من زاول صناعة الفسيفساء الخزفية، أو الرسوم الزخرفية ذوات البريق المعدني، وبلغت هذه الصناعة آخر مراحل تطورها في مدينة أصفهان. وبلغت صناعة الخزف في مصر والشام في عهد الفاطميين درجة عالية، وامتازت المدرسة الشامية باستخدام اللون الأزرق الفيروزي في طلاء الأرضية. ونهضت صناعة الخزف التركي في القرن السابع الهجري، وما تبعه من قرون، وصار الخزافون الأتراك أساتذة في فن الخزف المرسوم تحت الطلاء، واعتنوا بصناعة البلاط الخزفي المشتمل على زخارف متعددة الألوان المطلية بالميناء والمرسومة تحت الطلاء. وهذا النوع من البلاط تزين به جدران العمارات، ويجد زوار المساجد والجوامع في تركيا الشيء الكثير منه في الجدران والمحاريب والمنابر والأسطوانات، وغيرها. وانتشرت صناعة الخزف في الأندلس وفي المغرب، واشتهرت مدن "مالقة" و"غرناطة" و"منيشة" قرب بلنسبة بصناعات خزفية، وامتازت بإنتاج الأواني والصحون والقدور، التي يقوم بها صناع مهرة من المسلمين.

_ 1 السلاجفة، سلالة من التركمان جدها سلجوق.

الصناعات الزجاجية

11- الصناعات الزجاجية: وكان للمسلمين في صناعة الزجاج في كثير من بلدانهم عناية كبيرة، فقد كانوا يصنعون من الزجاج الكئوس والأباريق والصحون والقوارير والزهريات والمصابيح والمشكاوات التي توضع فيها المصابيح، وغيرها بإتقان وإبداع وزخارف جميلة بديعة. وغدت دمشق منذ القرن السابع الهجري أهم مراكز إنتاج الأواني الزجاجية، وكان الشاميون ينتجون الأواني الزجاجية البديعة المذهبة والمطلية بالمينا. وكانت مصر والعراق ودول آسية الصغرى وإيران وبلاد الصين تستورد الأنواع النفيسة البديعة من الزجاج الشامي. وظهرت في إيران نهضة في صناعة الزجاج خلال القرن العاشر الهجري فبما بعده، وصارت "شيراز" تصنع أنفس ما يصنع في إيران من زجاجيات.

صناعة النسيج

12- صناعة النسيج: وكانت بلدان المسلمين في العالم متكاملة فيما بينها، وذات اكتفاء ذاتي عن استيراد ما تحتاج إليه من منسوجات من غير بلاد المسلمين لو أحوجتها الضرورة. وكانت أنواع النسيج منتشرة في مدن المسلمين بصورة صناعات فردية، أو تجمعات صغرى، كانتشار أفران الخبازين، وكانتشار حوانيت الحدادين. ثم أنشئت مصانع نسيج سميت "دور الطراز" في جميع ولايات المسلمين، بعناية الحكام والولاة، وقد تكون ملحقة بقصورهم أحيانًا، وكان لإنشائها أهمية كبرى لدى حكام العصرين الأموي والعباسي، وكانت تنسج بهذه المصانع ثياب فاخرة محلاة بأشرطة "الطراز" وكان ينقش اسم الخليفة في شريط "الطراز" تسجيلًا لحكمه وسلطانه، ويعد كثير من هذه المنسوجات ليقدمها السلطان هدايا للوزراء والأمراء والحاشية وكبار الزوار وللعشراء، وتسمى القطعة المهداة خلعة خلعها السلطان على من قدمها إليه. وذاعت شهرة دور الطراز المصرية، بما كانت تنتجه من المنسوجات الكتانية، والحريرية، والتي كانت تصدر من مصر إلى الشام والعراق وسائر بلدان المسلمين.

وورث المسلمون صناعة السجاد التي عرفت بها فارس منذ العصور القديمة، ولهم فيها فنون بديعة. وازدهرت صناعة الحرير في بغداد منذ حوالي القرن الخامس الهجري. وأحرزت صناعة الديباج المقصب والمخمل تقدمًا كبيرًا بين المسلمين في الهند خلال القرن العاشر الهجري. وأحرز المسلمون في كشمير شهرة عظيمة في صناعة الأقمشة الصوفية، ومنها انتقلت إلى أوروبة. وكثرت المنسوجات في آسية الصغرى خلال العهد العثماني، وكان لإنتاج الحرير المقصب، والمخمل المقصب فيها شهرة صارت بها تنافس مصنوعات البندقية وإسبانية في الأسواق الأوروبية. واشتهر سلاجفة آسية الصغرى المسلمون في القرن السابع الهجري بإنتاج البسط الجيدة، التي تتكون زخارفها من أشكال هندسية تشغل جميع فراغاتها كالحليات المتشابكات. وأحسن البسط الإيرانية ما نسج في القرن العاشر الهجري، وصارت تبريز من أكبر مراكز الفن والصناعة في إيران، ولا سيما صناعة البسط. واشتهرت قاشان وهمذان وتستر وهراة بصناعة السجاد النفيس. وازدهرت أيضا في تركيا صناعة البسط والسجاد، فكانت تصدر منها إلى سائر بلدان المسملين، وغيرها من بلدان العالم. وعرفت دمشق بأنواع نفيسة من المنسوخات خاصة بها، عرفت في أوروبة باسم "دامسكو" أي: المنسوجات الدمشقية.

الباب الرابع: لمحات من أثر الحضارة الإسلامية في الحضارات الإنسانية الأخرى

الباب الرابع: لمحات من أثر الحضارة الإسلامية في الحضارات الإنسانية الأخرى 1- مقدمة: مؤرخو الحضارات من غير المسلمين، حينما يتعرضون للحديث عن الحضارة التي أسسها المسلمون ونشروها في العالم، على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: جائرون جاحدون متعصبون ضد الإسلام والمسلمين، وهؤلاء يزعمون أن الأمة الإسلامية مجرد أمة قاتلت، فانتصرت، وفتحت الفتوح في العالم بأساليب همجية، وفرضت على الناس بالسيف أن يدخلوا في الإسلام. الصنف الثاني: متوسطون بين الإنصاف والجحود المتعصب، وهؤلاء يزعمون أن المسلمين قدموا للناس حضارة إلا أنهم كانوا مجرد ناقلين للحضارة اليونانية والفارسية والهندية وغيرها من حضارات الأمم السالفة. وقد استفادت الحضارة الغربية، وما تلاها من نقولهم وتجرماتهم إذ كانوا أدوات نقل صادقة واعية. النصف الثالث: منصفون متجردون، وهؤلاء يرون أن المسلمين قدموا للعالم حضارة متكاملة الأسس، وأن حضارتهم التي قدموها ترجع إلى ثلاثة مصادر: - فكان القسم الاعتقادي والسلوكي الفردي والاجتماعي مأخوذًا من تعليمات دينهم المبينة في القرآن، وفي بيانات الرسول صلى الله عليه وسلم، وما استنبطه المسلمون منهما. - أما القسم المادي والإداري التنظيمي فقد كان المسلمون فيه جامعين بين

النقل من حضارات الأمم السابقة، والإضافات من عندهم بابتكاراتهم الفكرية، وتجرباتهم العملية، وأعمالهم في الاستقراء والسبر والاستنباط والاستخراج والتفسير والتعليل والقياس. فهي إذن ثلاثة مصادر: 1- المصدر الديني الذي اختصوا به منفردين عن سائر الأمم. 2- المصدر النقلي من حضارات الأمم السابقة. 3- المصدر الابتكاري الفكري والتجريبي، مع الاستقرار والسبر، والاستنباط والاستخراج والتفسير والتعليل والقياس. وفي الأبواب السابقة من هذا الكتاب، ما يكشف لكل ذي فكر، أن واقع حال الحضارة التي قدمها المسلمون هو ما قرره ويقرره المؤرخون المنصفون، الباحثون بتجرد لا يشوبه تعصب ولا أنانيات مقيتة، وهم أهل الصنف الثالث. وهذا هو الحق الذي يعلنه المؤرخون المسلمون الذين لم يتأثروا بمزاعم الجائرين الجاحدين المتعصبين، ولا بآراء المتوسطين بين الإنصاف والجحود المتعصب. نظرة تفصيلية: - أما العلوم الإسلامية، فقد كانت كلها: 1- إما منزلة من لدن رب العالمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين بالنص الصريح. 2- وإما بيانات جليات من الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. 3- وإما اجتهادات استنباطية من علماء المسلمين في فهم نصوص القرآن والسنة. - وأما العلوم العربية فقد كانت كلها من أعمال المسلمين، واستنباطاتهم وإبداعاتهم، وكان عملهم فيها قائمًا على ما يلي:

1- الاستقراء التام أو الناقص الصالح للبناء عليه، واستخراج القواعد والقوانين. 2- السبر بالغوص العميق لإدراك البواطن الخفية من وراء السطوح. 3- الاستنباط والاستخراج. 4- التفسير والتعليل للظواهر. 5- قياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض. - وأما العلوم العقلية والعلوم الكونية والطبيعية والاجتماعية، فقد كانت أعمال المسلمين فيها قائمة على الجمع بين خمسة عناصر: 1- اعتماد المفهومات الإسلامية فيها، المستقاة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا كانت نصوصهما قد دلت على قواطع بشأن شيء منها، أو ظنون راجحة. 2- الاجتهاد في البحث والتأمل استجابة لتوجيه الله لهم، للنظر في الظواهر الكونية بغية التعرف على سنن الله وقوانينه، التي اتقن بها صنع كل شيء في الموجودات المخلوقة. 3- اعتماد المنهج التجريبي مع الملاحظة وتدوين النتائج. 4- الاقتباس من حضارات الأمم والشعوب السابقة لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم، واعتماد ما كان منها حقًّا، أو صالحًا للحياة. 5- ما يتوصل إليه المسلمون بتأملاتهم وبحوثهم وابتكاراتهم الفكرية، وتجرباتهم العملية، فهم يضيفونه ويجعلونه أحد عناصر حضاراتهم. وقد أكد معظم المنصفين من غير المسلمين أن الحضارة الأوروبية وما سار في ركبها من حضارات غربية أو شرقية، قد أخذت عن حضارة المسلمين المنهج التجريبي، الذي اكتشف به المسلمون من قوانين الله وسننه في كونه ما لم يكن مكتشفًا ولا معروفًا لدى أهل الحضارات السابقات، وأضافوا به إلى الحضارة الإنسانية مبتكرات صناعية، وأنظمة إدارية نافعة، وخططًا حربية ظافرة.

ولما استخدم رواد الحضارة الغربية اللاحقة، هذا المنهج التجريبي الذي أخذوه عن المسلمين، استطاعوا أن ينشئوا الحضارة المادية التي تشاهد في عصرنا آثارها ومنجزاتها المدهشة، والتي بها استطاع الإنسان الانتفاع من كثير من طاقات الكون الكامنة، التي سخرها الله له، بشرط أن يتوصل إلى إدراك ومعرفة مفاتيحها، ووسائلها، وأسبابها، وطرق الانتفاع منها، وقد كانت هذه الطاقات الهائلات من الأسرار الخفية وراء الظواهر الكونية المشهودة. وبهذه الطاقات العظيمات التي استطاع الإنسان أن ينتفع بها ومنها، ويسخرها لمطالبه في الكون والحياة، ركب المراكب العظيمة في البر والبحر والجو، ووصل إلى القمر فالمريخ، وعرف الذرة وخصائصها، وأطلق طاقاتها مع التحكم بتوجيهها، وعرف الإلكترونات وحركاتها وتأثيراتها، وكيفية الانتفاع منها وبها، وعرف خصائص كثير من الأشعة الكونية التي كانت في عالم الغيب بالنسبة إلى الناس، إلى غير ذلك من مكتشفات مذهلات.

من أقوال المنصفين

2- من أقوال المنصفين: 1- قال "عباس محمود العقاد" في معرض رده على صنف الجائرين الجاحدين المتعصبين1: "وقد أصاب "أبانيز" حين قال: إن عصر النهضة مدين للحضارة الأندلسية قبل الحضارة الإيطالية التي أعقبتها؛ لأن عصر النهضة لم يكن عصر تجديد للفنون الإغريقية القديمة ولا مزيد على ذلك من عنده، ولكنه كان عصر تجديد في الحياة العملية والمرافق الصناعية والتجارية، وفهم مستحدث للعقيدة وللعالم، وللعلاقات بين الحاكمين والمحكومين، أو كان عصر معيشة جديدة تناولت بالتبديل والتعديل طبقات الشعوب من العلية إلى السواد، وذلك أولى أن يأتي من القدوة الشعبية في جميع الشئون العملية بعد اتصال المعاشرة بين حضارة العرب "أي: المسلمين" وأبناء أوروبة الغربية عدة قرون.

_ 1 في كتابه "أثر العرب في الحضارة الأوروبية" ص122-123.

وفي وسع الأرقام والألفاظ أن تُحصي لنا آثار العرب "أي: المسلمين" في بعض العلوم أو بعض الصناعات، ولكن آثار العرب "أي: المسلمين" في الحضارة العامة لا تستقصيها الأرقام ولا الألفاظ، ولا هي موقوفة على استقصاء أرقام وألفاظ لأن زعم الزاعم أنها قد مضت بغير أثر كبير يناقض العقل البشري كما ينقاض المشاهد والمحسوس، وإسناد هذا الأثر إلى غيرها بلا مشاركة منها على الأقل تعسف لا يؤخذ به في سياق التاريخ. وقد جاءت النهضة بعد عهد الحضارة الأندلسية، وجاء الإصلاح الديني بعد النهضة، وجاءت الحرية السياسية بعد الإصلاح، فليس في وسع المتعصبين منهم أن يقطعوا الصلة بين الحركة الأولى وما تلاها، مع هذا التلازم في الزمان والأسباب". ا. هـ. 2- ويقول العلامة "دريبر" في معرض الدفاع عن حضارة العرب "أي: المسلمين" وتسفيه الطريقة التي انتهجها زملاؤه من كتاب أوروبا للتعمية على أفضال المسلمين على الحضارة1: "ينبغي عليًَّ أن أنعى على الطريقة الرتيبة التي تحايل بها الأدب الأوروبي ليخفي عن الأنظار مآثر المسلمين العلمية علينا. أما هذه المآثر فإنها على اليقين لن تظل كثيرًا بعد الآن مخفية عن الأنظار. إن الجور المبني على الحقد الديني والغرور الوطني لا يمكن أن يستمر إلى الأبد". ا. هـ. 3- ويقول "سارتون"2: "حقق المسلمون عباقرة الشرق أعظم المآثر في القرون الوسطى، فكتبت أعظم المؤلفات قيمة، وأكثرها أصالة، وأغزرها مادة باللغة العربية. وكانت من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى لقد كان ينبغي لأي كان إذا أراد أن يلم بثقافة عصره، وبأحدث صورها أن يتعلم اللغة العربية. ولقد فعل ذلك كثيرون من غير المتكلمين بها". ا. هـ.

_ 1، 2 نقلًا من كتاب "أثر العرب في الحضارة الأوروبية" تأليف "جلال مظهر" ص170.

4- ويقول "نيكلسون"1: "إن أعمال العرب "أي: المسلمين" العلمية اتصفت بالدقة وسعة الأفق. وقد استمد منها العلم الحديث -بكل ما تحمل هذه العبارة من معان- مقوماته بصورة أكثر فعالية مما نفترض". ا. هـ. 5- ويقول "سيديو"2: "تكونت فيما بين القرن التاسع والقرن الخامس عشر مجموعة من أكبر المعارف الثقافية في التاريخ، وظهرت منتوجات ومصنوعات متعددة، واختراعات ثمينة تشهد بالنشاط الذهبي المدهش في هذا العصر. وجميع ذلك تأثرت به أوروبا، بحيث يؤكد القول إن العرب "أي: المسلمين" كانوا أساتذتها في جميع فروع المعرفة، لقد حاولنا أن نقلل من شأن العرب "أي: المسلمين" ولكن الحقيقة ناصعة يشع نورها من جميع الأرجاء. وليس من مفر أمامنا إلا أن نرد لهم ما يستحقون من عدل إن عاجلًا أو آجلًا". ا. هـ. 6- ويقول "جوستاف لوبون"3: "كان تأثير العرب "أي: المسلمين" في الغرب عظيمًا للغاية، فأوروبا مدينة للعرب "أي: المسلمين" بحضارتها. ونحن لا نستطيع أن ندرك تأثير العرب "أي: المسلمين" في الغرب إلا إذا تصورنا حالة أوروبا عندما أدخل العرب "أي: المسلمون" الحضارة إليها". ا. هـ.

_ 1، 2، 3 نقلًا من "أثر العرب في الحضارة الأوروبية".

تتبعات تاريخية مفصلة جاءت في كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب"

تتبعات تاريخية مفصلة جاءت في كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" ... 3- تتبعات تاريخية مفصلة جاءت في كتاب "شمس العرب تستطع على الغرب" 1: 1- جاء في كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" للمستشرقة الألمانية "زيغريد هونكه": إن "جربرت" الذي ارتقى كرسي البابوية سنة "999م" قد تعلم الرياضيات والفلك على أيدي أساتذة من العرب في إسبانية، وأنه استمع إلى الأساتذة العرب، وتعلم أشياء لم يكن أحد في أوروبة ليحلم بأن يسمع بها، وكان من أهم ما تعلمه "جربرت" نظام الأرقام والأعداد العربية. وأنه حير بعلمه معاصريه، وأن قومه نظروا إليه كساحر، وكفنان غريب، ونسجوا حوله الإشاعات، حتى قيل: إنه كان يهرب ليلًا من الدير إلى إسبانية ليتعلم على أيدي العرب علم الفلك والفنون الأخرى. ا. هـ. شمس العرب "ص80-81". 2- وجاء فيه أيضًا قولها: "فقد كان في مدينة قرطبة وحدها خمسون مستشفى في أواسط القرن العاشر الميلادي، فطغت بهذا العدد على مدينة "بغداد" عاصمة الدنيا آنذاك، ومضرب الأمثال في عصر الخليفة "هارون الرشيد" وكانت المستشفيات تتمتع بموقع تتوافر فيه كل شروط الصحة والجمال، وتزود بماء جار للحمامات مد لها من نهر دجلة". ا. هـ. شمس العرب "ص228-229". 3- وجاء فيه أيضًا قولها: قبل 600 عام كان لكلية الطب الباريسية أصغر مكتبة في العالم، لا تحتوي إلا على مؤلف واحد، وهذا المؤلف كان لعربي كبير. ولقد اعترف الباريسيون بقيمة هذا الكنز العظيم، وبفضل صاحبه عليهم وعلى الطب إجمالًا، فأقاموا له نصبًا في ساحة القاعة الكبيرة في مدرسة الطب لديهم، وعلقوا صورته وصورة عربي آخر في قاعة أخرى كبيرة تقع في شارع "سان جرمان" إنه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي". ا. هـ. شمس العرب "ص243-244". وقولها: "لم يكن الرازي ذلك الطبيب العظيم فحسب، بل كان أيضًا أحد الأوائل الذين جعلوا من الكيمياء علمًا صحيحًا". شمس العرب "ص251".

_ 1 تأليف المستشرقة الألمانية "زيغريد هونكه".

4- وجاء فيه أيضًا ما خلاصته: أن "قسطنطين" الأفريقي الأصل، الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، وعمل بالتجارة، وتاجر بالعقاقير والأدوية، واحتك بالطب العربي احتكاكًا مباشرًا، والتقى في "بغداد" وفي "حلب" وفي "أنطاكية" بابن بطلان. وكان يحمل العقاقير والأدوية من بلدان المسلمين، ويبيعها للإفرنج في "سالرنو"1 قد وعد أصدقاءه الفرنجة بأن يزودهم في سفراته القادمات بكنوز من الطب العربي، بدلًا من عقاقيره وحدها. وأنه عاد إلى مصر، ودخل مدارس الطب، ليمضي فيها السنوات الطوال دارسًا، وهو في نضجه الكامل، وبعد سنين طوال عاد إلى "سالرنو" ومعه مجموعة من الكتب المكتوبة باللسان العربي. وأنه أكب على ترجمة هذه الكتب، إلا أنه كان يقدم مخطوطاته المترجمة إلى لاتينية ركيكة على أنها من تأليفه، وساعده الراهبان "آتو" و"يوحنا" على تنقيحها وإجلاء غوامضها، وصياغتها بأسلوب واضح. وأن الناس تلقفوا مؤلفاته بإعجاب كبير؛ إذ كانت تنزل كالوحي على أطباء "سالرنو". وأن شهرته الكبيرة استمرت مدة أربعين سنة، ثم ظهر فجأة أنه كان تاجرًا غشاشًا، عرف كيف يغلف بضاعة قديمة بغلاف جديد بهر الأنظار، وأنه قد كان يترجم كتبًا مكتوبة باللسان العربي وينسبها إلى نفسه. شمس العرب "انظر الصفحات من 293-297". 5- وجاء فيه أيضًا قولها: "لقد انطلق الأوروبيون إلى مدن إسبانية، وخلجان إيطالية، بل إلى مدن المشرق؛ سعيًا وراء المعارف العربية. فاهتمام "فريدريك الأول" بعلم النجوم العربي، هو الذي حدا به إلى انتزاع

_ 1 سالرنو: مدينة في وسط إيطاليا على البحر التيراني، قرب مدينة نابلي.

"جيرارد" من قلب مدينته الوفية "كريمونا"1 وإرساله إلى إسبانيا، وقد أوصاه بمهمة جلب "المجسطي"2 لـ"بطليموس" من مدينة "طليطلة" وكان ذلك في الوقت الذي تغنى به القوم بشهرة "سالرنو" المتفتحة تحت شمس المعرفة العربية. ولكنه ما إن وصل إلى هذه القلعة السابقة للفكر العربي "أي: فكر المسلمين" ورأى هذه الكنوز الفكرية العظيمة، التي ظهرت للأعين فيها حتى قرر البقاء هناك. وبقي مدة تزيد على العشرين سنة، جمع فيها أكثر من ثمانين مخطوطة بالإضافة إلى كتب "المجسطي" وعاد بها إلى موطنه "كريمونا". وكانت هذه المخطوطات كنوزًا فكرية بحد ذاتها، وثمرات عظيمات قيمات وسافرات النضج". ا. هـ. شمس العرب "ص303". 6- وجاء فيه أيضًا قولها: "وتدفق سيل الترجمة تدفقًا متواصلًا لم يكن بوسع أحد أن يمنعه، وانطلق من إسبانيا، وصقلية، وشمالي إيطالية، فمن مدينة "بادوا" جاءت ترجمة "الكليات" لابن رشد، وترجمة كتاب "التيسير" لابن زهر، مرتين على التوالي. ومن "صقلية" جاءت ترجمة "الحاوي" أضخم كتاب للرازي، وقد أمضى اليهودي "ابن سليم" المتعلم في "سالرنو" نصف حياته في ترجمته. وظلت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية على أشدها حتى القرن السادس عشر الميلادي، وأضيفت أشياء جديدة لم تكن معروفة، وأعيدت ترجمة كتب أخرى مرة ثانية، ككتاب "القانون" لابن سينا، وكتاب "زاد المسافرين" لابن الجزار، وكتب أخرى للرازي، ولابن رشد. وبهذا انطلقت حركة فكرية جبارة لم يقدر أي من العلماء في القرون التي تلت إلا أن يتأثر بها". شمس العرب "ص303-304".

_ 1 كريمونا: مدينة إيطالية. 2 المجسطي: أقدم كتاب في الفلك، ألفه: "بطليموس".

7- وجاء فيه أيضًا قولها: "إن سيلًا عرمًا من نتاج الفكر العربي "تقصد من نتاج المسلمين" ومواد الحقيقة والعلم وقد نقحته أيد عربية "أي: أيد مسلمة" ونظمته، وعرضته بشكل مثالي، قد اكتسح أوروبة -ولو في رداء ركيك من اللغة اللاتينية- وغمر أرضها الجافة عمرًا، فأشبعها كما يشبع الماء الرمال الظمأى. وبعد الموجة الأولى التي سمت بـ"سالرنو" إلى ذرى من الشهرة العالمية التي لا تضاهي، جاءت الموجة الثانية فبعثت الحياة النابضة في مدينة "مونبليه" الواقعة على مفترق الطرق بين إسبانيا وما تبقى من بلاد الغرب، وأمدت مدرسة "بولونية" الإيطالية، وجامعتها، بدفعات جديدات من الذخر العربي، وأعطت مواد الدراسة المثالية إلى "بادوا" و"باريس" و"أكسفورد". وفي مراكز العلم الأوروبية لم يكن هناك عالم واحد من بين العلماء، إلا ومد يديه إلى الكنوز العربية هذه يغترف منها ما شاء الله له أن يغترف، وينهل منها كما ينهل الظمآن من الماء العذب؛ رغبة منه في سد الثغرات التي لديه، وفي الارتقاء إلى مستوى عصره العلمي. ولم يكن هناك كتاب واحد من بين الكتب التي صدرت في أوروبة آنذاك إلا وقد ارتوت صفحاته بالري العميم من الينابيع العربية، وأخذ عنها ... وظهر فيه تأثيرها واضحًا كل الوضوح، ليس فقط في كلماته العربية المترجمة، بل في محتواه وأفكاره". ا. هـ. شمس العرب "ص305-306". 8- وجاء فيه قولها متحدثة عن صقلية التي حكمها المسلمون قرنين ونصفًا، وكانوا فيها سادة للجزيرة على طرف أوروبة الجنوبي، ثم طردهم منها الكونت "روجر الأول" النورماني: "فمنذ مائتي سنة قدم العرب إلى صقلية من تونس، من المنطقة التي حول القيروان، وحولوا خرائب صقلية أو حدائق غناء، واستوردوا لها من بلادهم أشجار النخيل، وزرعوا فيها أشجار البرتقال والفستق والمر والموز والزعفران، فحولوا الجزيرة الفقيرة بالقطن وقصب السكر إلى بلد يزخر بالخيرات، وزينوها بالقصور والمساجد الرائعة التي كانت تعج بالشعراء والمغنين والفلاسفة والأطباء وعلماء الرياضة والطبيعة، ويُحصيها ابن حوقل عام "970م" في "بالرمو" فقط بثلاثمائة ما بين قصر ومسجد. واستخدم المتعلمون في صقلية في كتاباتهم ورقًا أبيض كان أول ورقة عرفته أوروبة، وكان ذلك قبل أن تُصدره إسبانية إلى الغرب بزمن طويل". ا. هـ. شمس العرب.

واقع حال أوروبة والغرب كله إبان ازدهار حضارة المسلمين

4- واقع حال أوروبة والغرب كله إبان ازدهار حضارة المسلمين: 1- أخذ المسلمون منذ تكونت لهم دولة ذات كيان مستقل، يبنون حضارتهم بهدي من تعليمات الإسلام، في القرآن الكريم، وبيانات الرسول العظيم القولية والعملية، وتوجهت أنظارهم لإصلاح شعوب الأرض، ودعوتها للسير على صراط الإسلام المستقيم، فانطلقوا شرقًا وغربًا فاتحين مهذبين ملتزمين فضائل الأخلاق ومحاسن الشيم، وعاملين بتعليمات الإسلام، إلا من شذ منهم عن العمل بتعليمات دينه اتباعًا للهوى، أو أخطأ في فهم نصوص الإسلام. وفي انطلاقهم شرقًا وغربًا أخذوا يعلمون الناس ما هداهم إليه الإسلام من حضارة فكرية اعتقادية، وحضارة سلوكية فردية واجتماعية، وما دعاهم إليه الإسلام من بناء حضارة مادية تنشد الخير، وتقاوم الشر والضر والفساد، مؤمنين بأن الله جل جلاله سخر الكون للناس لينتفعوا بما فيه من خيرات وطاقات ظاهرات أو خفيات، ضمن قواعد الحق والخير والفضيلة والجمال، ومؤمنين بأن الله جل جلاله مكن الناس عن طريق البحث والتنقيب واستعمال الفكر، والتأمل العميق، والقيام بالتجارب العملية، والملاحظات المتأنيات للتجارب، من التوصل إلى مفاتيح كنوز الكون، طاقاته الخفيات، والتعرف على مسالكها، ومؤمنين بأن الله جل جلاله حثهم على أن يتابعوا البحث والتنقيب والتجارب والملاحظات المتأنيات، بكل ما لديهم من وسع متجدد، وقدرات على متابعة حلقات سلاسل المعارف المحجوبة عن أنظارهم القصيرة، وحثهم على أن

يحفروا أنفاق البحث، لاستخراجها حلقة فحلقة، بلا نهاية منظورة، وأن يكونوا دوامًا في ارتقاء حضاري، وأن يكونوا السابقين إلى كل فضيلة ومكرمة وعلم، وإلى امتلاك كل قوة يمكن أن يمتلكها الناس بتسخير الله ما في الكون لهم. 2- وحين انطلق المسلمون يبنون حضارتهم في البلدان التي ملكوا نواصي السلطان فيها شرقًا وغربًا، كانت شعوب أوروبة، والشعوب العربية كافة، في جهل مطبق وأمية منتشرة في كل طبقاتهم، وتخلف حضاري بعيد، في الفكر، وفي السلوك الفردي والاجتماعي، وفي مختلف مجالات العلوم. 3- وبينما كان كثير من علماء الدين الإسلامي يتوجهون باهتمام بالغ لدراسة العلوم الرياضية والعقلية والطبيعية، ويبحثون في الظواهر الكونية عن العلل والأسباب، وينقبون في كل موقع مادي أو معنوي يصلح للتنقيب فيه، بغية اكتشاف سنن الله وقوانيه في كونه، واستخراج الكنوز التي أودعها في خباياه، كان قادة الكنيسة ورجالها في أرجاء الأرض يعادون ويحاربون كل من يأتي بنظرية أو حقيقة علمية تخالف تعليماتهم التقليدية، ولو كانت خرافية، وربما كان جزاؤه الحرق بالنار لهرطقته ومخالفته في أفكاره التي جاء بها تعليماتهم. مع أن تعليماتهم هي من أوضاعهم أو من الأساطير التي نقلوها عن أهل القرون الأولى، وليست من دين الله الذي أنزله الله على عيسى أو موسى أو إبراهيم أو أي رسول أو نبي يؤمن به اليهود أو النصارى من الصادقين. 4- ولما كان المسلمون يتوضئون لصلواتهم، ويغتسلون اغتسالات واجبات، واغتسالات مندوبات، ويستنجون أو يستجمرون، ويتحرزون من النجاسات والقذارات، ويسرعون إلى إزالتها عن أجسادهم وثيابهم وأماكنهم وأدواتهم إذا وقعت عليها أو لامستها، كانت الشعوب الأوروبية، والشعوب الغربية عامة، لا تعرف شيئًا عن الطهارة وإزالة النجاسات من الأبدان والثياب والأمكنة والأدوات، ولا تعرف الاستنجاء بالماء حتى رأوا المسلمين يفعلون ذلك، واستمروا في الغالب على عاداتهم السابقات حتى اكتشف علماؤهم الجراثيم والميكروبات، ورأوا أن النجاسات والقذارات هي أعظم البؤر الحاملة لها، وأنها تسبب الأمراض والأوجاع والأوبئة الخطيرة.

وليس يخاف على أي ذي فكر ونظر أن الطهارة والعناية بها من أجلى مظاهر الحضارة البشرية. مؤكدات لهذه الحقائق من بيانات غربية منصفة: جاء في كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" للمستشرقة الألمانية "زيغريد هونكه" ما يلي: 1- لقد قص "فيلهلهم" على رفاق سفره الدهشين ما يلي: "كان عندنا في بلادنا فارس كبير القدر، فمرض وأشرف على الموت، فجئنا إلى قس كبير من قساوستنا، وقلنا: تجيء معنا حتى تبصر الفارس فلانًا؟ قال: نعم، ومشى معنا، ونحن نتحقق أنه إذا حط يده عليه عوفي. فلما رآه قال: أعطوني شمعًا، فأحضرنا له قليل شمع، فلينه بيده وعمله مثل عقد الإصبع، ووضع واحدة في جانب أنفه الأيمن، ووضع أخرى في جانب أنفه الأيسر، فمات الفارس. فقلنا له: قد مات. قال: نعم، كان يتعذب، سددت أنفه حتى يموت ويستريح". وعلقت "زيغريد" على هذه القصة بقولها: "أيد توضع، وشيطان يطرد، وصلاة تقام ... تلك كانت الوسائل المفضلة في المعاجلة التي حاول بها أطباء أوروبة -عن طريق مسموح الكهنوت والرهبان- إنقاذ الإنسانية المريضة، وتخليصها من براثن الداء والألم". شمس العرب "ص218". 2- وجاء فيه قولها: "ولعل من أهم عوامل انتصارات العرب "أي: المسلمين" هو ما فوجئت به

الشعوب من سماحتهم، حتى إن الملك الفارس "كيروس. KYROS" نفسه قال: "إن هؤلاء المنتصرين لا يأتون كمخربين" فما يدعيه بعضهم من اتهامهم بالتعصب والوحشية، إن هو إلا مجرد أسطورة من نسج الخيال تكذبها آلاف من الأدلة القاطعة عن تسامحهم وإنسانيتهم في معاملاته مع الشعوب المغلوبة". ا. هـ. أقول: أليس هذا من مظاهر الارتقاء الحضاري لدى المسلمين، مع أنهم هم المنتصرون الفاتحون، وأصحاب السيادة والسلطان؟! وتتبع المستشرقة "زيغريد" بيانها هذا بقولها: "والتاريخ لا يقدم لنا في صفحاته الطوال إلا عددًا ضئيلًا من الشعوب التي عاملت خصومها والمخالفين لها في العقيدة بمثل ما فعل العرب "أي: المسلمون". وكان لمسلكهم هذا أطيب الأثر، مما أتاح لحضارتهم أن تتغلغل بين تلك الشعوب بنجاح لم تحظ به الحضارة الإغريقية ببريقها الزائف، ولا الحضارة الرومانية بعنفها في فرض إراداتها بالقوة". ا. هـ. شمس العرب "ص357-358". 3- وجاء فيه عقب بيانها الموسع عن اتجاه الإمبراطورية الرومانية لمحاربة البحث العلمي في الظواهر الطبيعية لاكتشاف قوانين الكون وسننه، وأن من الضلال البحث عن الحقيقة في غير الكتاب المقدس، والتفكير والتمحيص في أمور دنيوية، قولها: "وكان أكبر دليل مؤلم على هذا التفكير الغريب أعمدة الدخان، وألسنة اللهب التي اندلعت فوق الإسكندرية، كنز المعرفة الإغريقية على مر العصور، والتي أصبحت حينذاك مركزًا للكنيسة المسيحية إلى جانب رومة. احمرت بنيراها فوق دلتا النيل، وأحرقت نفائس ثمينة لا تُعَوَّض، من الشعر، والأدب، والفلسفة، والتاريخ، والعلم، والثقافة الإغريقية. أحرقتها وأبادتها جموع من المسيحيين المتعصبين. لقد ذهب جزء هام من المكتبة قبل ذلك، عام "48ق. م" طعمة للنيران

أثناء حصار "يوليوس قيصر" ولكن "كليوباطرة" عوضت هذه الخسائر من مكتبة "برجامون pergamon" وفي القرن الثالث الميلادي بدأت تبرز التخريبات المبيتة ضدها. فأغلق أحد البطاركة المسيحيين مدرسة متحف الإسكندرية، وطرد طلابها. وفي أيام حكم القيصر "فالنس 336م valens" حول المتحف إلى كنيسة، وسلبت مكتبته، وطورد فلاسفته بتهمة السحر والشعوذة. وفي عام "381م" استصدر البطريرك "تيوفيلس theophilos" من القيصر "تيودوسيوس theodosius" إذنًا بتخريب السرابيون، أكبر ما تبقى من الأكاديميات وآخرها، وإشعال النيران في مكتبته الثمينة. وبهذه الطريقة فقدت البشرية جزءًا هامًّا من ثقافتها لا يمكن تعويضه". وقالت أيضًا: "وهكذا اختفت مراكز الحضارة الإغريقية واحدًا إثر واحد. وأُقفلت آخر مدرسة للفلسفة في آثنية عام "529م" وأحرقت في رومة عام "600م" مكتبة البلاتين، وهدم ما تبقى من آثار أبنية القدماء. وعندما دخل العرب "أي: المسلمون" الإسكندرية عام "642م" مكتبة البلاتين، وهدم ما تبقى من آثار أبنية القدماء. وعندما دخل العرب "أي: المسلمون" الإسكندرية عام "642م" لم يكن هناك منذ زمن طويل مكتبات عامة كبيرة. وأما ما اتهم به قائدها "عمرو بن العاص" من إحراقه لمكتبة الإسكندرية، والذي يعبر به حتى اليوم عن صورة مفزعة للبربرية والوحشية، فقد ثبت في أكثر من مناسبة، وبعد أبحاث مستفيضة أنه مجرد اختلاق لا أساس له من الصحة. إن "عمرو بن العاص" فاتح الإسكندرية، هو نفسه "عمرو" الذي ضرب المثل بتسامحه طوال فتوحاته، وحرم النهب والسلب والتخريب على جنوده، وعمل ما كان غريبًا عن فهم الشرقيين القدماء والمسيحيين على السواء. لقد ضمن صراحة للمغلوبين حرية ممارسة شعائرهم الدينية المتوارة". ا. هـ. شمس العرب "ص362-363".

4- وجاء فيه في معرض مقارنتها بين حث الإسلام على العلم، واكتساب المعرفة الدنيوية بالإضافة إلى المعرفة الدينية، وتخوف المسيحيين من المعارف الدنيوية قولها: "مفهومان مختلفان، بل عالمان منفصلان تمامًا، حددا بهذا طريقين متناقضين للعلم والفكر، في الشرق والغرب. وبهذا اتسعت الهوة بين الحضارة العربية "أي: الإسلامية" الشامخة، والمعرفة السطحية المعاصرة في أوروبا حيث لا قيمة لمعرفة الدنيا كلها". "أي: إبان ازدهار حضارة المسلمين". وقولها بشأن رفض معلمي الكنيسة يومئذ فكرة كروية الأرض: "وأما ما يدعيه بعضهم من أن الأرض كروية فهو كفر وضلال، فمعلم الكنيسة "لاكتانتوس lactanius" يتساءل مستنكرًا: "هل هذا من المعقول؟ أيعقل أن يُجن الناس إلى هذا الحد، فيدخل في عقولهم أن البلدان والأشجار تتدلى من الجانب الآخر من الأرض، وأن أقدام الناس تعلو رءوسهم؟ ". لقد كانت الأرض بالنسبة إلى بعض الناس تلًّا تدور الشمس حوله ما بين الشروق والغروب، وبالنسبة إلى الآخرين مسطحًا تحيط به المحيطات. لقد قُضي بهذا التفكير الساذج على تطور العقل البشري في العصور السابقة، وعاد عصر الملاحظة البدائية والتفكير المشعوذ إلى الحياة من جديد. ملعون من يقتنع أو يقبل في ذلك العصر تفسيرًا علميًّا لحوادث الطبيعة. خارج عن طاعة الرب من يشرح أسبابًا طبيعية لبزوغ كوكب، أو فيضان نهر، بل من يعلل علميًّا شفاء قدم مكسورة، أو إجهاض امرأة، فتلك كلها عقوبات من الله، أو من الشيطان، أو هي معجزات أكبر من أن ندرك كنهها!!. وإذا كانت القوى الدينية "أي: المسيحية" قد كسرت جهدها للهدف الديني. فإنها قد هبطت بالمعرفة الدنيوية، فابتعدت تمامًا عن الثقافة، والفكر الإغريقي، وانغمست في الخرافات والترهات التي لن نستطيع اليوم أن نتصور مدى انتشارها، وسيطرتها على العقول الساذجة.

ولم تشمل هذه الحركة الرجعية العامة من الناس فحسب، بل إن المتعلمين أيضًا لم يكن لهم من زاد عقلي سوى بعض الأساطير المليئة بالخرافات المقتبسة أسوأ اقتباس عن اللاتينية البربرية، أو عن قصص الإغريق وأساطير الشرق القديمة. وما وصلت إليه الكنيسة وكهنتها في المجال الديني لم يكن عامل إنقاد للحضارة بل كان عائقًا لها. وظل الفكر الإغريقي بالنسبة إليهم غريبًا، فحوالي عام "300م" علل أسقف قيصرية "أوزيبوس Eusebius" ذلك المسلك لعلماء الطبيعة من "الإسكندرية" و"برجامون" قائلًا: إن موقفنا هذا ليس جهلًا بالأشياء التي تعطونها أنتم كل هذه القيمة، وإنما لاحتقارنا لهذه الأعمال التي لا فائدة منها، لهذا فإننا نشغل أنفسنا بالتفكير فيما هو أجدى وأنفع. ولقد كان الفكر الإغريقي يُمثل للمسيحيين شبحًا ملعونًا، فلم يقتربوا منه، بل حطموا جزءًا كبيرًا من تراثه، وحرموا منه البشرية. ولقد كان الفكر الإغريقي يُمَثِّل للمسيحيين شبحًا ملعونًا، فلم يقتربوا منه، بل حطموا جزءًا كبيرًا من تراثه، وحرموا منه البشرية. حتى إن الغرب اضطر بعد صحوته أن يبدأ من جديد، على الرغم من أن الحضارات القديمة، والهيلينية1 على الخصوص، كانت قد وصلت في سالف أيامها إلى درجة كبيرة من الرقي. وعلى الرغم من هذا فقد بدا للسادة المهيمنين على الأمور ضرورة تحريم الكتب، التي تهتم بالأمور الحقيرة الدنيوية على المتعلمين ورجال الدين المسيحي. ففي عام "1206م" نبه مجمع رؤساء الكنائس المنعقد في باريس رجال الدين بشدة على عدم قراءة العلوم الطبيعية، واعتبر ذلك خطيئة لا تغتفر. وقضى هذا التفكير الضيق على كل موهبة، وعاق كل بحث علمي، وأجبر كل المفكرين الذين لا تتفق أعمالهم ومعتقدات الكنيسة هذه، على إنكار ما قالوه

_ 1 الهيلينية: أي: اليونانية.

من النظريات العلمية، وإلا كان مصيرهم الحرق العلني، بالنار، لكفرهم وخروجهم على المعتقدات الإلهية "بحسب زعمهم الفاسد". ومن هنا فقط يتضح لنا تمامًا لماذا احتاجت الحضارة في الغرب ألفًا من السنين، قبل أن تبدأ بالازدهار تدريجيًّا، مع أنها قد كانت لديها فرصة مناسبة لتبدأ قبل الحضارة العربية "أي: حضارة المسلمين" بقرنين أو ثلاثة. وما قال "هيجل HEGEL" عن بوم "منيرفا" الذي لا يبدأ طيرانه إلا عند الغسق، ينطبق على التراث اليوناني السائر إلى الوراء حينئذاك، بل ينطبق انطباقًا أكثر على العلوم في الغرب التي ظلت في دور الحضانة ألفًا من السنين. وهو لا ينطبق على التطور العربي "أي: تطور المسلمين" ذلك لأن العلوم عندهم لم تكن قط ثمرة متأخرة لشجرة الحضارة. فما أن انقضى قرن واحد من الزمان على الفتوحات الإسلامية حتى ازدهرت حضارة العرب "أي: المسلمين" وآتت أكلها مكتملة ناضجة". ا. هـ شمس العرب "370-372". 5- وجاء فيه أيضًا قولها: "لقد أحاط العرب "أي: المسلمون" الكتب بقلوبهم، حتى المؤلفات الفنية الدقيقة في الهندسة والميكانيكا والطب والفلك والفلسفة. وكما تطلب الدولة المنتصرة من الدولة المنهزمة تسليم أسلحتها وسفنها الحربية، شرطًا أساسيًّا لعقد الصلح، هكذا طلب "هارون الرشيد" بعد احتلاله لعمورية وأنقرة تسليم المخطوطات الإغريقية القديمة. وكما يستولي المنتصرون اليوم على المناجم، والصناعات الحربية الهامة، والأسلحة المدمرة مع مخترعيها، نرى "المأمون" بعد انتصاره على "ميخائيل الثالث" قيصر بيزنطية، يطالب بتسليم أعمال الفلاسفة القدماء، التي لم تتم ترجمتها بعد إلى العربية، ويعتبر ذلك بديلًا عن تعويضات الحرب. إنها أسلحة تساهم في بناء المجد.

وما دام الأمراء العرب قد شغفوا بأوراق البردي والبرجامون نصف الممزقة، فإنه لم يكن هناك من طريق لكسب صداقتهم أنجح من إهدائهم بعض لفائف الكتب التي تراكم التراب فوقها. هذا ما فكر به قاطنو البوسفور، فأرسلوا إلى "عبد الرحمن الثالث" أمير الأندلس، حقيبة كبيرة -بغية توطيد الصداقة معه- وهذه الحقيبة ملأى بالمخطوطات القديمة، ومن بينها تعاليم الطب والعلاج لـ"ديسقوريدس DIOSKURIDES" وكان ثمن بيع هذا الفكر القديم باهظًا، ولكن العرب "أي: المسلمين" كانوا على استعداد لدفع الثمن مهما كان. وأُرسلت البعثات الخاصة من بغداد، للبحث عن كنوز العلم، حاملة أكياسًا من النقود، إلى بيزنطية والهند؛ إذ قام المتعلمون من مختلف البلدان بدور السماسرة. وأصبح اقتناء المخطوطات التي لم تترجم حتى ذلك الحين هواية الأمراء، والوزراء، وسراة القوم. فضحوا بمبالغ طائلة من بلاد الإغريق وآسية الصغرى، وفي كل مكان وطئته أقدام الإغريق يومًا ما، عن طريق بعثات العلماء، أو عن طريق عملائهم الخاصين. أجل لقد دفعوا ثمنًا باهظًا وجدوه باقيًا من الآثار العلمية، وكان قد نجا من أعمال التخريب الفظيعة الشائنة. واستطاع العرب "أي: المسلمون" كذلك أن يكشفوا كثيرًا من الكنوز، ففي قبو مظلم تسكنه الفئران والعناكب في الإسكندرية، عثر القوم بين حجرين هائلين على كتاب في فنون الحرب، وعثروا على كتاب آخر في قدر مغلقة تحت جدران دير سوري. وفي آسية الصغرى، وعلى مسير ثلاثة أيام من بيزنطية، عثر "محمد بن إسحاق" على مكتبة ضخمة في معبد قديم كبير، له باب لم ير من قبل بابًا حديديًّا في ضخامته. لقد أنشأ الإغريق هذا المعبد يوم كانوا يعبدون النجوم والأوثان، وقدموا فيه القرابين لآلهتهم.

ويتحدث "محمد بن إسحاق" عن مجهوده في هذا السبيل، باعتباره مندوبًا عربيًّا في البلاط البيزنطي، فيقول: "لقد رجوت الحاكم أن يفتح لي هذا المعبد، ولكنه ماطل في ذلك؛ لأن أبواب هذا المعبد لم تفتح منذ انتحلوا المسيحية، ولكنني لم أكف عن إغرائه، فعاودته في مناسبات عدة، وطلبت إليه ذلك كتابة ومشافهة في جلسة من جلسات بلاطه التي اشتركت فيها. وأخيرًا وافق على فتحه، فرأيت في هذا المبنى المشيد بأحجار المرمر الفاخرة، رأيت على حوائطه من الكتابات والرسوم ما لم أر أفخم ولا أجمل منه، ومن المخطوطات القديمة شاهدت هناك ما يحمل جمالًا، إنها تقارب الألف كتاب، وكان جزء منها ممزقًا، وكان الجزء الآخر نصيبًا للديدان". إن ما قام به العرب "أي: المسلمون" لهو عمل إنقاذي له مغزاه في تاريخ العالم. إنها حضارة قد هوت وتحطمت، وكانت على وشك الفناء أمام أعين صانعيها الذين صار لهم هدف آخر يسعون إليه، وهذا الهدف لا يمت لهذا العالم بصلة. فما بقي من هذه الحضارة يجب أن تشكر عليه البشرية اليوم العرب "أي: المسلمين" وحبهم للعلم، ولا يعود لبيزنطية فيه إلا فضل قليل". ا. هـ. شمس العرب " ص375-377".

أثر حضارة المسلمين في همج الشرق الفاتحين المدمرين

5- أثر حضارة المسلمين في همج الشرق الفاتحين المدمرين: قدمت جيوش التتار والمغول من الشرق بوحشية لئيمة قذرة، وهمجية منقطعة النظير، إلى بلدان المسلمين وحواضرهم التي كانت مزدهرة بألوان من الحضارة الراقية، التي فاقت كل الحضارات المعاصرات لها، والحضارات الغابرات. فسلطت هذه الجيوش الهمجية عليها أدوات القتل والإفساد والتدمير، بنفوس لا تعرف شيئًا عن معاني الإنسانية، فقتلت وفتكت ودمرت بلا عقل ولا تقدير، وأبادت شيئًا كثيرًا من حضارة المسلمين في بلدانهم، وأفنت الشيء الكثير جدًّا من كنوز العلم، التي كانت تشتمل عليها مخطوطات خطتها أيدي ألوف من علماء المسلمين، جمعًا وتصنيفًا، أو ابتكارًا وإبداعًا، أو استنباطًا، أو استنتاجًا، أو استخراجًا، بالاجتهاد الفكري المعرفي، وعملت على استنساخها مئات الألوف من الكتبة والوراقين. ولما هدأ بركان هذا الجيوش الهمجية الفتاكة المدمرة، وسكن طوفانها، وصحت من سكرها وعربدتها، وبردت حرارة مطامعها وشرهها، نظرت في واقع حال المسلمين المغلوبين، فوجدت أنهم يتمتعون بتفوق فكري، وأصالة حضارية راسخة وشاهقة، لم تبلغ بعد شعوبهم الغازية إلى سفوحها. ووجدت هذه الجيوش أنها إذ غزتهم ودمرت كثيرًا من حاضراتهم، وحضاراتهم كانت تخوض في أوحال وديان همجية قذرة منتنة، وأن علينا حتى تكون من صنف البشر، أن ترتقي شيئًا فشيئًا، مقتفية ركب المغلوبين من المسلمين، ومقلدة لهم في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم وعلومهم. فأسلم بعض قادتهم، وتبعتهم جيوشهم وشعوبهم، وصاروا بمرور الزمن جزءًا من المسلمين، إكبارًا لهم ولحضارتهم العظيمة، وإعجابًا بعناصرها الفكرية والسلوكية، وإعجابًا بآثارها المادية. وكان من نتيجة ذلك أن أسهم كثير منهم بإنشاء مؤسسات حضارية، تخلد أسماءهم داخل بلدان المسلمين، التي كانوا قد دمروا ما دمروا منها. لقطات مقتبسات من كتب التاريخ: 1- أقبل جيش من المغول لفتح مدينة "نسا" الإسلامية، وحاصروها حتى سقطت في أيديهم مستسلمة، فساقوا أهل المدينة إلى فضاء وراء البساتين كقطعان الأغنام، وحشروهم في ذلك الفضاء رجالًا ونساء كبارًا وصغارًا، ثم

أمروهم بأن يكتف بعضهم بعضًا، فأطاعوا من شدة الخوف، ثم أضجعوهم واستأصلوهم قتلًا، وكان عدد القتلى نحو سبعين ألفًا. 2- وقدم المغول إلى مدينة "مرو" إذ كانت عاصمة إقليمها، وكان أهلها يمتازون بالثراء وسعة العيش؛ إذ كانت مقر سلاطين السلاجفة، وكانت تزخر بالمكتبات والمدارس، وكان فيها عدد وفير من العلماء والأدباء. ورأى العسكر في "رمو" أن لا طاقة لهم بمقاومة المغول، فطلبوا التسليم، على أن يؤمنهم القائد المغولي "تولوي" على حياتهم، فوافق على ذلك، ثم نقض عهده، ودخل جنوده المدينة، وقتلوا جميع من فيها من السكان، إلا "400" شخص من أرباب الحرف والصنائع، فقد استبقوهم ليستفيدوا منهم في الأعمال وصناعة الأدوات الحربية. ثم هدم المغول المدينة عن آخرها. كذلك فعلوا من مدينة "نيسابور" حتى قتلوا كل ذي حياة فيها، وإمعانًا في الجبروت أخذوا يقطعون رءوس القتلى ويبنون منها أهرامات عاليات، بعضها للرجال، وبعضها للنساء، وبعضها للأطفال. وكذلك فعلوا في مدن إقليم "غزنة". 3- وكانت بغداد مركزًا عظيمًا للعلوم والآداب والفنون، بالإضافة إلى مركزها السياسي في العالم الإسلامي؛ إذ كانت مقر الخلافة العباسية، وكانت غنية بعلمائها وأدبائها وفلاسفتها. فلما حلت النكبة فيها على أيدي المغول، قتل فيها الآلاف من العلماء والشعراء، وأحرقت فيها المكتبات، وخربت فيها المدارس والمعاهد، وقُضي فيها على معظم الآثار الإسلامية، وبلغ تقدير عدد القتلى من المسلمين فيها قرابة ثمانمائة ألف قتيل. وقد كان سقوط بغداد وتدميرها بعد سقوط بخارى ونيسابور والري وغيرها، وتدمير هذه المدن من مدن العلم والأدب والمنجزات الحضارية، جناية عظمى على الحضارة الإنسانية عامة.

ومما يؤسف له أنه لم يكن ينتظر من النصارى في بلاد المسلمين، الذين كانوا يعاملون أحسن معاملة تتلقاها أقليات في كل شعوب الأرض، أن يبتهجوا بسقطو مدن المسلمين وتدميرها بأيدي المغول الوثنيين، وإن يعلنوا فرحتهم وتمجيدهم للقائد المغولي "هولاكو" وزوجته النصرانية، وأن يعتبروا نصر التتار نصرًا للنصاري في المنطقة ضد المسلمين، إلا أن هذا كله قد حصل منهم، فلم يقابلوا الجميل بمثله، ولا بعشرة في المائة منه، بل قابلوه بالجحود والنكران، والانحياز إلى جيش العدو الغازي، طمعًا بأن تكون الكلمة العليا بعد ذلك لهم. 4- ثم لمع الضوء الإسلامي من ضمن قادة المغول أنفسهم، ومن أفراد شعوبهم، إذا اعتنق الإسلام "بركة خان" ابن عم "هولاكو" وقد كان "بركة خان" حاكمًا في القبجاق، وصار يتوعد "هولاكو" بأن ينتقم منه، بسبب ما اقترفه من مذابح قتل الملايين من المسلمين، ولتجرئه على مقام الخلافة، وقتله خليفة المسلمين. وصار الإسلام ينتشر في أفراد وأسر الشعب المغولي، حتى ظهر منهم قادة متعددون مسلمون، ومنهم الملك "تغلق" تيمور الذي تأثر بدعوة عالم رباني يقال له "الشيخ جمال الدين" ثم ابن هذا العالم من بعده "الشيخ رشيد الدين" ثم انتشر الإسلام في التتار1. جاء في كتاب "المغول في التاريخ" تأليف "د. فؤاد عبد المعطي الصياد" قوله: "وإذا كان الغزو المغولي على يد "جينكيز خان" وخلفائه للبلاد الإسلامية في بادئ الأمر عصيبًا عانى فيه المسلمون القتل والتعذيب، والخراب والدمار، فإن هذا العاصفة الهوجاء صارت تهدأ تدريجيًّا، حتى جاء الوقت الذي تأثر فيه المغول بحضارة المغلويين، واعتنقوا دينهم، وشرعوا يصلحون ما أفسد آباؤهم "أي: من ظواهر حضارية مادية" وأقبلوا يساهمون بنصيبهم في إنهاض الحضارة الإسلامية في شتى مظاهرها". ا. هـ. "ص14 مقدمة المؤلف".

_ 1 ذكر قصة إسلام هذا الملك المؤرخ "آرنولد" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" وذكرتها مفصلة المصادر التركية والفارسية. انظر تفصيل هذه القصة في رسالة للعالم الداعية الرباني "الشيخ أبي الحسن علي الحسن الندوي" بعنوان "أوروبا وأمريكا وإسرائيل".

خاتمة كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها"

خاتمة كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها": أخي القارئ في خاتمة كتابي هذا أقدم لك خالص تحيتي وعظيم شكري؛ إذ شاركتني فاطلعت على كتابي هذا، وقرأت بعض مفاهيمي في الحياة خلال مدة من زمنك. فإن كنت قد شاركتني فعلًا بكل فكرك ونفسك وقلبك، فقرأت فصوله بإمعان، فلعلك قد وجدت أنني قد رسمت معظم الخطوط العريضة لأسس الحضارة الإسلامية ووسائلها، وأوفيتها ما تستحق من شرح وإيضاح، ضمن الحدود العامة التي يتجاوز فيها عادة عن التفصيلات الجزئية الكثيرة. ولست أزعم أنني أتيت على كل المطلوب الذي يهدف إليه موضوع الكتاب، فقد يأتي من يستدرك عليَّ أمور ندت عني، إلا أنني لم آل تأملًا واجتهادًا ونظرًا في الكليات العامة التي تشتمل على جزئيات كثيرة، لا يحصرها كتاب واحد يمكن أن يتداوله القراء. وإذا عثرت على عيب أو نقص أو تقصير في بعض الأمور، فإنني واثق من أنك ستعذرني؛ إذ تعلم أن فلسفة الحضارة الإسلامية بالشكل الذي سقته في هذا الكتاب عمل مبتكر، اقتبسته مباشرة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والفقه الإسلامي المتسع الأطراف بتوفيق من الله جل جلاله. وقد جمعت الأشباه والنظائر الجزئية، فنظمتها في عقود، وأدخلتها تحت كليات كبرى تمثلت بالأسس والوسائل العامة، التي عرضتها في فصول الكتاب. وأنت خبير بأن الأعمال المبتكرة من شأنها أن تكون عرضة لتقصير كثير.

وإن وجدت في عملي هذا ما يستحق الثناء والتقدير فالفضل فيه لله وحده، الذي ألهمني، وستر لي، وقضى أمورًا كثيرة انتهت بي إلى كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة، وإلى تدريس مادة "الحضارة الإسلامية" بالإضافة إلى مواد أخرى أُسندت إليَّ. ثم لا أنسى حقًّا عليَّ لزوجتي الفاضلة المربية الداعية والأستاذة بجامعة أم القرى في قسم الطالبات؛ إذ هيأت لي ما يحتاجه الباحث والكاتب من هدوء منزلي، وطمأنينة نفسية، ومساعدة وتحريض على العمل "الأستاذة عائدة راغب الجراح"1. فلها مني عظيم التقدير وجزيل الشكر، ولها من الله الجليل عظيم الأجر. ولما كانت الخطة العامة للحضارة الإسلامية التي أوضحتها في مقدمة الكتاب تشتمل على أربعة أبواب: الباب الأول: أسس الحضارة الإسلامية. الباب الثاني: وسائل الحضارة الإسلامية. الباب الثالث: صور ونماذج من تطبيقات المسلمين الحضارية في مختلف المجالات العلمية والعملية. الباب الرابع: أثر الحضارة الإسلامية في الأمم والشعوب التي لم تدن بالإسلام، إلا أنها التقت بالمسلمين لقاء مودة أو لقاء خصام. ولما اقتصر هذا الكتاب على البابين الأول والثاني فقط، فإنني سأوافي القراء إن شاء الله الوهاب المنان، مستعينًا بحوله وقوته، بالكتاب الثاني في الحضارة الإسلامية، مشتملًا على ما يتعلق بالبابين الثالث والرابع من أبواب الخطة الآنفة الذكر.

_ 1 عملت أستاذة في التعليم الثانوي، ثم مديرة لمعهد المعلمات في المملكة العربية السعودية، ثم أستاذة في جامعة "أم القرى" بمكة المكرمة لمدة "28" سنة، وكان بدء عملها في قسم الطالبات منذ إنشائه في الجامعة سنة "1391 هجرية".

والحمد لله أولًا وآخرًا، والصلاة والسلام على رسول الله محمد، وعلى سائر إخوانه الأنبياء والمرسلين، الذين تتابعوا على حمل لواء الحضارة الإسلامية الربانية الواحدة، وقادوا الأمة الربانية الواحدة في أجيالها المتعاقبة، هذا ما دل عليه القرآن الكريم بقول الله عز وجل في سورة "المؤمنون: 23 مصحف/ 74 نزول": {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} . زبرًا: أي قطعًا متصلبة بأنانياتها وعصبياتها، كقطع الحديد، مفردها "زبرة". زبرة الحديد: القطعة الضخمة منه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. كان الفراغ من تصنيفه في غرة شهر جمادى الثانية من عام 1390 للهجرة النبوية، الموافق للشهر الثاني من عام 1970 ميلادية. مكة المكرمة عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني

خاتمة كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم

خاتمة كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم: أخي القارئ اللبيب، والباحث الأريب، أقدم لك هذا الكتاب بثوبه الجديد القشيب، بعد أن أكرمني الله السميع المجيب، فشاء وأذن وأعان وأمد بالحول والقوة والتوفيق، فأتم لي ما لم أكن قد أعددته من خطة لكتاب مستوعب لأهم موضوعات "الحضارة الإسلامية" دون دخول في تفصيلات جزئية، قد لا تستوعبها موسوعات علمية كبرى، مع شيء من التجويد والتحسين لما كانت قد نشرته سابقًا بعنوان "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها". وفي هذا الختام الموجز أرجو أخي القارئ الكريم أن تذكرني بدعوة صالحة، وتُغضي النظر عن هفوة كالحة، أو خطوة عاثرة، أو خطيئة عابرة، وأن تكرمني إذا بدا لك في كتابي خطأ بكلمة ناصحة، وإذا بدا لك حوله رأي فيه تجويد وتحسين بفكرة راجحة، كتب الله لنا جميعًا التوفيق والسداد، والهداية والرشاد، والحمد لله رب العالمين. الطائف صباح يوم السبت 13 ربيع الآخر 1418 هجرية الموافق لـ"16" من شهر "أغسطس" 1997 ميلادية عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني

فهرس الكتاب

فهرس الكتاب: الصفحة الموضوع 5 الإهداء 7 فاتحة كتاب "الحضارة الإسلامية" أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم 11 مقدمة الطبعة الثانية لكتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها" 13 فاتحة كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها" 15 مقدمات عامة، وفيها فصلان 17 الفصل الأول: تحليل معنى الحضارة، وموقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري وفيه مقولتان: 19 المقولة الأولى: تحليل معنى الحضارة والسبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري 19 تحليل معنى الحضارة 20 السبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري 22 المقولة الثانية: موقف الإسلام من التقدم الحضاري 29 الفصل الثاني: أثر الأسس الفكرية والنفسية في بناء الحضارات الباب الأول: البناء الفكري للحضارة الإسلامية 33 وهو يشتمل على أربعة فصول 35 الفصل الأول: الحق والباطل وفيه أربع فقرات 1- تعريفات 37 2- نشدان الحقيقة 38 3- أسماء أنواع الأدلة

الصفحة الموضوع 4- من أسس الحضارة الإسلامية "الالتزام بمبدأ الحق ومناصرته والنفور من الباطل ومكافحته" 42 الالتزام بمبدأ الحق 43 النفور من الباطل 45 إحقاق الحق وإبطال الباطل 46 الانحراف عن الحق 47 خاتمة 49 الفصل الثاني: الخير والشر وفيه ست مقولات 51 المقولة الأولى: تعريفات للخير والشر 57 المقولة الثانية: من أسس الحضارة الإسلامية "مبدأ فعل الخير والعمل على نشره، وترك الشر والعمل على قمعه" 60 المقولة الثالثة: مفاهيم عامة تشتمل عليها حدود الخير والشر 65 أمثلة لما تعتريه الأحكام الخمسة مما يدخل تحت القسم الثالث 68 أولًا: الكمال الفكري 69 ثانيًا: الكمال الخلقي 73 ثالثًا: الكمال السلوكي 74 طرق الدفع إلى الكمال السلوكي 74 طريق البيان الإجمالي 75 طريق البيان التفصيلي 80 طريق التدريب العملي 82 طريق القدوة الحسنة 84 رابعًا: الكمال الإبداعي 87 خامسًا: كمال التعايش الجماعي 90 تلخيص عام 93 المقولة الرابعة: الفلسفة الإسلامية بالنسبة إلى الوسائل الكونية 96 المقولة الخامسة: فلسفة الإسلام في الوسائل والغايات. 103 المقولة السادسة: فلسفة الإسلام فيما يجري به القضاء والقدر من نعم ومصائب 115 الفصل الثالث: العالمية والشمول في رسالة الحضارة الإسلامية وفيه مقولتان 117 المقولة الأولى: مقدمات عامة

الصفحة الموضوع 117 أولًا: واقع حال معظم الحضارات البشرية 118 ثانيًا: الحضارة الإسلامية مفتوحة الحدود 119 ثالثًا: وعي المسلمين الأولين 120 رابعًا: عوامل الهدم الداخلية التي مُني بها المسلمون 121 العامل الأول 121 العامل الثاني 122 العامل الثالث 122 العامل الرابع 123 العامل الخامس 123 المقولة الثانية: الحضارة الإسلامية منفتحة الحدود أ- انفتاح الحدود الفكرية 123 ب- انفتاح الحدود النفسية 131 1- شرح ظاهرة عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم 132 2- شرح ظاهرة إرادة الخير والسعادة للناس جميعًا 134 3- شرح ظاهرة التسوية بين الناس في أصل الإنسانية 136 4- شرح ظاهرة الأخوة الإيمانية 139 5- شرح ظاهرة مراعاة الفطرة الإنسانية 142 6- شرح ظاهرة العدل بين الناس 145 150 نتائج تطبيقية لانفتاح الحدود النفسية 152 أمثلة تطبيقية ج- انفتاح الحدود المادية 154 156 نتائج تطبيقة لانفتاح الحدود المادية 157 أمثلة عن الميادين المختلفة لنشاط المسلمين 173 الفصل الرابع: المثالية والواقعية وفيه أربع مقولات 175 المقولة الأولى: تعريفات وبيانات عامة للمثالية والواقعية 179 المقولة الثانية: شرح المثاليات في أسس الإسلام الحضارية 179 أولًا: المثالية في العقائد 180 ثانيًا: المثالية في النيات 183 حرص الإسلام على الالتزام بمثالية ابتغاء مرضاة الله تعالى

الصفحة الموضوع 186 ثالثًا: المثالية في نشدان الكمال في الأعمال 188 ملاحظات عامة حول المثاليات 191 المقولة الثالثة: شرح الواقعيات في أسس الإسلام الحضارية بخمسة أمور: 192 شرح الأمر الأول: التكليف ضمن حدود الطاقة البشرية 196 شرح الأمر الثاني: رفع التكليف في أحوال النسيان والخطأ والإكراه التي لا يملك الإنسان دفعها 211 شرح الأمر الثالث: مراعاة مطالب الفكر والنفس والجسد الإنسانية 231 شرح الأمر الرابع: مراعاة حال واقع المجتمعات الإنسانية 255 شرح الأمر الخامس: مراعاة واقع حال الضعف البشري 264 جدليات حول المثاليات والواقعيات الباب الثاني: وسائل بناء الحضارة الإسلامية بناءً واقعيًّا 269 وهو يشتمل على مقدمات عامة وستة فصول: 271 مقدمات عامة 275 الفصل الأول: التعلم والتعليم وفيه مقدمات وتسع مقولات: 277 المقدمة 278 المقولة الأولى: الدفع الإسلامي إلى التعلم والتعليم 282 المقولة الثانية: إجمال طرق تحصيل المعارف 284 المقولة الثالثة: تكريم الإنسان بأدوات التعلم ومسئوليته بالنسبة إليها 286 المقولة الرابعة: مكافحة الإسلام التقليد الأعمى 289 المقولة الخامسة: تفصيل طرق اكتساب المعارف والعلوم 290 الطريق المنطقي السليم 295 الطريق المقبول بوجه عام 297 الطريق المزيف المرفوض 299 المقولة السادسة: نظرات من خلال النصوص الإسلامية حول اكتساب المعارف والعلوم 310 المقولة السابعة: منهج الإسلام في الاعتماد على المستندات الإخبارية 321 المقولة الثامنة: البحث العلمي والإيمان 327 المقولة التاسعة: مكانة العلماء في الإسلام

الصفحة الموضوع 329 الفصل الثاني: تطبيق العلم بالعمل وفيه مقدمة وأربع مقولات 331 المقدمة: 333 المقولة الأولى: موقف الإسلام من تطبيق العلم بالعمل 336 المقولة الثانية: قواعد العمل في الإسلام 341 المقولة الثالثة: موقف الإسلام من العمل الصناعي والعمراني والاختراع والابتكار 347 المقولة الرابعة: دفع شبهات 351 الفصل الثالث: التربية 361 الفصل الرابع: الجدال بالتي هي أحسن وفيه مقولتان 363 المقولة الأولى: تعريف بالجدال بالتي هي أحسن وبيان لطائفة من قواعده العامة 364 طائفة من القواعد العامة للجدال بالتي هي أحسن 369 المقولة الثانية: أمثلة جدالية من القرآن الكريم 379 الفصل الخامس: إقامة الحكم الإسلامي وفيه مقدمة وثلاث مقولات 381 المقدمة: 383 المقولة الأولى: البيعة وواجبات الحاكم والمحكوم 388 اسم الخليفة 389 المقولة الثانية: فلسفة الحكم الإسلامي 391 المقولة الثالثة: الموظف المسلم ومسئولياته 391 1- الوظيفة في الإسلام فرع من فروع الأمانة العامة 369 2- الوظيفة عقد استئجار بين جهة العمل والموظف المسئول عن العمل الوظيف الذي استؤجر له 398 3- الأهلية العامة لإسناد الوظائف 400 4- مسئولية موظف دائرة معنية بالقضايا الإسلامية ونشر الإسلام 403 5- الوظيفة ووقت عمل الموظف فيها 405 6- سوء فهم معنى الوظيفة 406 7- أخلاق الموظف المسلم 410 8- وصايا عامة للموظف المسلم 415 الفصل السادس: الجهاد في سبيل الله بالقتال وفيه أربع مقولات 417 المقولة الأولى: مقدمات عامة 1- دواعي الجهاد بالقتال في سبيل الله

الصفحة الموضوع 2419 - الركن الأساسي للجهاد بالقتال 421 المقولة الثانية: الشروط التي يجب توافرها أثناء القتال 426 المقولة الثالثة: الروح المعنوية لدى المقاتلين من حملة الرسالة الربانية 428 المقولة الرابعة: الجهاد بالقتال في تاريخ بناة الحضارة الإسلامية الباب الثالث: صور ونماذج من تطبيقات المسلمين الحضارية في مختلف المجالات العلمية والعملية 431 وفيه تسعة فصول 433 الفصل الأول: تلقي القرآن وتدوينه وتدبره وفيه مقولتان 435 المقولة الأولى: تلقي القرآن وتدوينه 435 1- القرآن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم 438 2- القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه 440 3- القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه 442 4- ضبط حروف كلمات القرآن بالنقط وبالتشكيل 444 5- كل القرآن المنزل من عند الله لهداية الناس هو ما كتب في النسخة الأم بعهد أبي بكر 446 المقولة الثانية: نشأة علم التفسير 446 1- عصر الصحابة والتابعين 449 2- عصر التدوين 445 الفصل الثاني: السنة النبوية المطهرة وفيه أربعة مقولات 457 المقولة الأولى: السنة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم 457 1- اهتمام المسلمين بالسنة النبوية 458 2- كتابة السنة النبوية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم 461 3 المكتوبات الأولى من السنة النبوية 462 المقولة الثانية: السنة بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهاية القرن الأول الهجري 465 المقولة الثالثة: السنة بعد القرن الأول الهجري 467 المقولة الرابعة: حركة التصنيف الكبرى للسنة ورواتها 471 الفصل الثالث: أثر القرآن والسنة في ابتكار كثير من العلوم الإسلامية 471 الإيمان بالقرآن والسنة دفع المؤمنين إلى ابتكار كثير من العلوم

الصفحة الموضوع 475 الفصل الرابع: تأسيس علمي النحو والصرف وتدوين المعجمات العربية 1477 - دوافع التأسيس والتدوين 481 2- خطة العمل 483 3- مرحلة نضج علمي النحو والصرف 483 4- لمحة عن الرواد 487 5- أبرز الأعلام الذين نضج علم العربية على أيديهم 489 6- مقدمة حول تدوين مفردات اللغة العربية في المعجمات 493 7- حركة تدوين مفردات اللغة العربية في المعجمات 500 8- تأسيس علوم البلاغة "المعاني والبيان والبديع" 503 الفصل الخامس: تأسيس علم الفقه الإسلامي، وعلم أصوله، وتدوينهما. وفيه مقولتان 505 المقولة الأولى: تأسيس علم الفقه الإسلامي وتدوينه 505 1- مقدمة 506 2- الفقه الإسلامي في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم 507 3- الفقه الإسلامي في عصر الصحابة رضوان الله عليهم 509 4- الفقه الإسلامي في عصر التابعين 514 5- الفقه الإسلامي في عصر ظهور الأئمة المجتهدين وتكوين المذاهب الفقهية 518 المقولة الثانية: تأسيس علم أصول الفقه الإسلامي وتدوينه 521 الفصل السادس: نشأة علمي التاريخ والجغرافية والتدوين فيهما وفيه مقولتان 523 المقولة الأولى: نشأة علم التاريخ البشري والتدوين فيه لدى المسلمين 523 1- القرآن الكريم وعنايته بالتوجيه للاتعاظ والاعتبار بالتاريخ الإسناني 526 2- نشأة تدوين السيرة النبوية ومغازي الرسول صلى الله عليه وسلم 530 3- نشأة تدوين التاريخ بصفة عامة 538 المقولة الثانية: نشأة علم الجغرافية والتدوين فيه لدى المسلمين 545 الفصل السابع: اهتمام المسلمين بالعلوم التي تتعلق بآيات الله في الكون، وأدواتها العقلية والتجريبية. وفيه مقدمة وخمس مقولات 547 المقدمة 547 1- الباعث الإسلامي للبحث العلمي في الكونيات 548 2- غمط معظم الغربيين ومن تأثر بهم للأمة الإسلامية في ميادين العلوم 550 3- النشأة والتأسيس.

الصفحة الموضوع 556 المقولة الأولى: الرياضيات والفلك 561 المقولة الثانية: الطب والصيدلة 563 المستشفيات 563 مدارس تعليم الطب 563 طب العيون 564 الجراحة 564 طب الأطفال 565 العلاجات والعقاقير 565 الأدوات الطبية 565 المصنفات في الطب والعقاقير 566 أبرز أعلام المسلمين في الطب والصيدلة 570 المقولة الثالثة: الكيمياء 572 بعض أبرز أعلام المسلمين في الكيمياء 575 المقولة الرابعة: الفلاحة والنبات 577 المقولة الخامسة: الحيوان 581 الفصل الثامن: عناية المسلمين بالعلم والتعليم والتربية على الفضائل الإسلامية خلقًا وسلوكًا. وفيه ثماني فقرات 583 1- النشأة والتأسيس 584 2- العلم والتعليم والتربية في بلاد الشام 589 3- العلم والتعليم والتربية في أيام العباسيين في العراق والأقاليم حوله 595 4- العلم والتعليم والتربية في مصر 600 5- العلم والتعليم والتربية في أقاليم المغرب من بلدان العالم الإسلامي 613 6- العلم والتعليم والتربية في شبه القارة الهندية 620 7- كلمة موجزة عن أندونسيا 621 8- تعرض حضارة المسلمين لقتل علمائها وإبادة مصنفاتها من قبل همج الشرق ونصارى الإسبان 623 الفصل التاسع: نظرات موجزات حول تطبيقات حضاريات مختلفات قام بها المسلمون وفيه اثنتا عشرة فقرة 625 1- مقدمة 626 2- الواقع الاقتصادي

الصفحة الموضوع 672 3- المالية العامة 628 4- التنظيمات الإدارية 630 5- القضاء 632 6- نظام الحسبة ووظيفة المحتسب 634 7- التدبيرات العسكرية 639 8- العمران 641 9- الخط العربي 643 10- الصناعات الخزفية 644 11- الصناعات الزجاجية 12- صناعة النسيج الباب الرابع: لمحات من أثر الحضارة الإسلامية في الحضارات الإنسانية الأخرى 647 وفيه خمس فقرات 649 1- المقدمة 652 2- من أقوال المنصفين 654 3- تتبعات تاريخية مفصلة جاءت في كتاب: "شمس العرب تسطع على الغرب" 659 4- واقع حال أوروبة والغرب كله إبان ازدهار حضارة المسلمين 668 5- أثر حضارة المسلمين في همج الشرق الفاتحين المدمرين 672 خاتمة كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها" 675 خاتمة كتاب "الحضارة الإسلامية" أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم 677 فهرس الكتاب

§1/1