الحسبة - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 تعريف الحسبة ومنزلتها ومقصودها وفضائلها وفوائدها.

الدرس: 1 تعريف الحسبة ومنزلتها ومقصودها وفضائلها وفوائدها. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (تعريف الحسبة ومنزلتها ومقصودها وفضائلها وفوائدها) تعريف الحسبة لغة واصطلاحًا إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد: أما الحسبة في اللغة: فقد جاء في (لسان العرب) الحسبة مصدر احتسابك الأجر على الله، تقول: فعلته حسبة، واحتسب فيه احتسابًا، والاحتساب طلب الأجر، والاسم الحسبة بالكسر وهو الأجر، واحتسب فلان ابنًا له أو ابنة له إذا مات وهو كبير، وافترط فرطًا إذا مات له ولد صغير لم يبلغ الحلم, وفي الحديث: ((من مات له ولدًا فاحتسبه)) أي: احتسب الأجر بصبره على مصيبته به، ومعناه: اعتد مصيبته به في جملة بلايا الله التي يثاب على الصبر عليها، واحتسب بكذا أجرًا عند الله والجمع الحسب, وفي الحديث ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا)) أي: طلبًا لوجه الله تعالى وثوابه. والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العد، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه؛ لأنه حينئذ أن يعتد عمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به، والحسبة اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد، والاحتساب في الأعمال الصالحات، وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر، والقيام بها على الوجه المرسوم فيها؛ طلبًا للثواب المرجوِّ منها، وفي حديث عمر -رضي الله عنه-: "أيها الناس احتسبوا أعمالكم، فإن من احتسب عمله كُتب له أجر عمله وأجر حسبته".

وأما الحسبة في اصطلاح العلماء: فقد قال فيها الإمام العالم العلامة أبو الحسن الماوردي -رحمه الله-: "الحسبة من قواعد الأمور الدينية، وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها، وجزيل ثوابها، وهي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وإصلاح بين الناس, قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء: 114). فالحسبة إذًا هي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمعروف اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيشمل الاعتقاد وهو الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، ويشمل العبادات من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والنكاح، والطلاق، والرضاع، والحضانة، والنفقة، والعدة، وما إلى ذلك. ويشمل النظم والتشريعات من المعاملات المالية، والحدود، والقصاص، والعقود والمعاهدات، ونحوها، ويشمل أيضًا الأخلاق من الصدق، والعدل، والأمانة، والعفة، والوفاء، ونحوها, وسمي المعروف معروفًا؛ لأن الفطر المستقيمة والعقول السليمة تعرفه، وتشهد بخيره وصلاحه. ومعنى الأمر بالمعروف: الدعوة إلى فعله، والإتيان به مع الترغيب فيه، وتمهيد أسبابه وسبله بصورة تثبت أركانه، وتوطد دعائمه، وتجعله السمة العامة للحياة جميعًا. وأما المنكر: فهو سم جامع لكل ما يبغضه الله تعالى ولا يرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيشمل الشرك بكل ألوانه وصوره، ويشمل

منزلة الحسبة في الدين.

الأمراض القلبية من الرياء والحقد والحسد والعداوة والبغضاء ونحوها، ويشمل تضيع العبادات من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ونحوها، ويشمل المنكر أيضًا الفواحش كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف وقطع الطريق، والكذب، والحرابة، والبغي، ونحوها، ويشمل الكذب والجور والظلم، والخيانة والخسة ونحوها، وإنما سمي المنكر منكرًا؛ لأن الفطر السليمة المستقيمة والعقول السليمة تنكره، وتشهد بشره وضرره وفساده، ومعنى النهي عن المنكر التحذير من إتيانه وفعله، مع التنفير منه والصد عنه، وقطع أسبابه، وسبله بصورة تقتلعه من جذوره وتطهر منه الحياة جميعًا. منزلة الحسبة في الدين فقد قال ابن الأخوة فيها: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله به النبيين أجمعين، ولو طُوي بساطة وأهمل عمله وعلمه؛ لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، ونسيت الصلاة، وشاعت الجهالة، وانتشر الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، وإن لم يشعروا بالهلاك إلى يوم التناد. وقد كان الذي خفنا أن يكون فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، فانمحق بالكلية حقيقته ورسمه، واستولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحقت عنها مراقبة الخالق، فاسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعز على بسيط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم. فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الظلمة، إما متكلفًا بعلمها، أو

متقلدًا لتنفيذها، مجردًا عزمه لهذه السنة الداثرة، ناهضًا بأعبائها، ومشمرًا في إحيائها، كان متأثرًا من بين الخلق باحتسابه، ومستندًا بقربة ينال بها درجات القرب دون أجناس". وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "اعلم أن هذا الباب -أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قد ضُيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدًّا، وهو باب عظيم، به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعقابه كما قال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63). فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله -عز وجل أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمة، ويخلص نيته، ولا يهابن من ينكر عليه بارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (الحج: 40)، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69)، وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت 1 - 3) ". ثم قال -رحمه الله-: "واعلم أن الأجر على قدر النصب، ولا يتاركه أيضًا لصداقته" أي: ولا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكون فلان صديقًا له، ولا يتاركه أيضًا لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقًّا، ومن حقه أن

مقصود الحسبة في الإسلام.

ينصحه، ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدوًّا لنا لهذا، وكانت الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم، وهدايتهم إليها ونسأل الله الكريم توفيقنا وأحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته، وأن يعمنا بجوده ورحمته"، والله تعالى أعلم. مقصود الحسبة في الإسلام فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله -سبحانه وتعالى- إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) ". وقد أخبر -سبحانه وتعالى- عن جميع المرسلين عن جميع المرسلين أن كلًّا منهم قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) وعبادته سبحانه وتعالى تكون بطاعته وطاعة رسوله، وذلك هو الخير والبر والتقوى والحسنات، والقربات، والباقيات الصالحات، والعمل الصالح، وإن كانت هذه الأسماء بينها فروق لطيفة ليس هذا موضعها.

وهذا الذي يقاتل عليه الخلق كما قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (البقرة: 193)، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((من قاتل لتكون كملة الله هي العليا فهو في سبيل الله)). وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمرٍ وناهٍ، فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية ولا من أهل دين فإنهم يطيعون ملكوهم في ما يرون أنه يعود بمصالح دنياهم، مصيبين تارة ومخطئين أخرى، وأهل الأديان الفاسدة من المشركين، وأهل الكتاب المستمسكين به بعد التبديل، أو بعد النسخ والتبديل مطيعون في ما يرون أنه يعود عليهم بمصالح دينهم ودنياه. وغير أهل الكتاب منهم من يؤمن بالجزاء بعد الموت ومنهم من لا يؤمن به، وأما أهل الكتاب فمتفقون على الجزاء بعد الموت، ولكن الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض. فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يقال: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة. وإذا كان لا بد من طاعة آمر وناه، فمعلوم أن دخول المرء في طاعة الله ورسوله خير له، وهو الرسول النبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل، الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث.

وذلك هو الواجب على جميع الخلق قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 64، 65)، وقال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء: 69)، وقال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النساء: 13، 14). ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته الجمعة: ((إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)). وقد بعث الله تعالى رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بأفضل المناهج والشرائع، وأنزل عليه أفضل الكتب، فأرسله إلى خير أمة أخرجت للناس، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وحرم الجنة إلا على من آمن به وبما جاء به، ولم يقبل من أحد إلا الإسلام الذي جاء به، فمن ابتغى غيره دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. وأخبر -سبحانه وتعالى- في كتابه أنه أنزل الكتاب والحديد ليقوم الناس بالقسط، فقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد: 25).

ولهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بتولية ولاة أمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل, وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى. ففي (سنن أبي داود) عن أبي سعيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم))، وفي سننه أيضًا عن أبي هريرة مثله. وفي (مسند الإمام أحمد) عن عبد الله بن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمَّروا أحدهم)) , فإذا قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم؛ كان هذا تنبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك؛ ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها دينًا يتقرب به إلى الله، ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان من أفضل الأعمال الصالحة، حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر)). وإذا كان جماع الدين، وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث به الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين كما قال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} (الأعراف: 156، 157). وقال الله تعالى في حق المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (التوبة: 71).

وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطنة، والصغرى مثل ولاية الشرطة وولاية الحكم، أو ولاية المال، وهي ولاية الدواوين المالية، وولاية الحسبة. لكن من المتولين من يقوم بمنزلة الشاة للمؤتمن والمطلوب منه الصدق، مثل الشهود عند الحاكم، ومثل صاحب الديوان الذي وظ يفته أن يكتب المستخرج والمصروف، والنقيب والعري ف الذي وظيفته إخبار ذي الأمر بالأحوال، ومنهم من يكون بمنزله الأمير المطاع والمطلوب منه العدل، مثل: الأمير والحاكم والمحتسب، وبالصدق في كل الأخبار والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال تصلح جميع الأحوال، وهما قرينان كما قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} (الأنعام: 115). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر الظلمة ((من صدقهم بكذبهم وأعانه م على ظلمهم؛ فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم؛ فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض)). وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحري الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الر جل يكذب ويتحري الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)). ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (الشعراء: 221، 222)، وقال سبحانه: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَة * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} (العلق: 16، 17)، فلهذا على كل ولي أمرًا أن يستعين بأهل الصدق والعدل، وإذا تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل،

فضائل الحسبة.

وإن كان فيه كذب وظلم، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم، والواجب إنما هو فعل المقدور، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من قلد رجلًا على عصابة، وهو يرد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين)). فضائل الحسبة فضائل الحسبة -فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-: وفضائل الحسبة في القرآن الكريم كثيرة, فقد قال الله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران: 113، 114)، فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر، حتى أضاف إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبيَّن -سبحانه وتعالى- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موجبات رحمته، فقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (التوبة: 71)، فنعت الله تعالى المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارجًا عن هؤلاء المؤمنين المنعوتين في هذه الآية.

وأخبر -سبحانه وتعالى- بأنه سيرحمهم بسبب قيامهم بما وصفهم به من الإيمان والصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موجبات رحمة الله، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موجبات اللعنة والسخط والغضب، والعذاب، قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78، 79). وهذا غاية التشديد إذا علَّل استحقاقهم للعنة بتركهم النهي عن المنكر، وأخبر -سبحانه وتعالى- أن هذه الأمة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت خير أمة للناس، وذلك بقيامها بالحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110)، وهذا يدل على فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ بيَّن أن الأمة إنما كانت خير أمة أخرجت للناس بقيامها بهذه الوظيفة. كما بيَّن -سبحانه وتعالى- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنجاة من عذابه إذا حلَّ بمستحقيه، فقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف: 165)، فبيَّن أن الناجين إنما استفادوا النجاة بالنهي عن السوء. وأخبر -سبحانه وتعالى- أن التمكين في الأرض إنما يتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (الحج: 41).

وأخبر -سبحانه وتعالى- بأنه إنما أهلك القرون الماضية بتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال سبحانه: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (هود: 116) فبيَّن سبحانه أنه أهلك جميعهم إلا قليلًا منهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض. ووعد -سبحانه وتعالى- الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بالأجر العظيم، فقال عز وجل: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 114). وبيَّن -سبحانه وتعالى- أن الفائزين بخيري الدنيا والآخرة هم القائمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104)، وهذه الجملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تفيد عند أهل العلم باللغة العربية الحصر أي: أن الفلاح إنما يكون لهؤلاء الذي يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدعون إلى الخير. هذا بعض ما جاء في القرآن الكريم في فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما الأحاديث في فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي كثيرة، فقد عدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة، ورد ذلك في أكثر من حديث؛ فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن ناسًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: أو ليس قد جعل الله لكم ما

تصدقون: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرًا عن طريق الناس، أو شوكة، أو عظمًا عن طريق الناس، وأمر بمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى؛ فإنه يمشي وقد زحزح نفسه عن النار)). وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظمة عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)). وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موجبات الجنة عن أبي كثير السحيمي عن أبيه قال سألت أبي ذر قلت: دُلني عن عمل إذا عمله العبد دخل الجنة، فقال أبو ذر -رضي الله عنه- سألت عن ذلك رسول الله -صلى الله عليه سلم- فقال: ((تؤمن بالله واليوم الآخر، قلت: يا رسول الله إن مع الإيمان عملًا، قال: يرضخ مما رزقه الله، قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان فقيرًا لا يجد ما يرضخ به؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر)).

فوائد الحسبة.

وعن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابي فقال: يا نبي الله علمني عملًا يدخلني الجنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة اعتق النسمة، وفك الرقبة، قال: أوليستا واحدة؟ قال: لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها، والمنحة الوكوف، والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع، واسقِ الظمآن، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكفَّ لسانك إلا من الخير)). فوائد الحسبة فوائد القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوائد عدة نذكر منها: السلامة من العقاب الإلهي، والظفر برضوان الله تعالى وجنته، فإن الله -تبارك وتعالى- قال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف: 165). ومنها: الدخول في رحمة الله -تبارك وتعالى- والسلامة من عذابه كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 71، 72). وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ

يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (المائدة: 78 - 81). ومن فوائدها: ظفر الإنسان بما يرجوه من خيري الدنيا والآخرة. ومنها: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب الأمن والأمان، وسبب جمع الشمل وتوحيد الصف؛ لأن الله تعالى قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104)، ثم قال سبحانه بعد هذه الآية: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105). فالنهي عن التفرق بعد ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل عن أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببًا للتفرق، وذلك أن الناس إذا كانت لهم مشارب متعددة مختلفة تفرقوا، فهذا يعمل طاعة، وهذا يعمل معصية، وهذا يسكر، وهذا يصلي وما أشبه ذلك؛ فتتفرق الأمة، ويكون لكل طائفة مشرب، ولهذا قال {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران: 105). إذًا لا يجمع الأمة إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أن الأمة أمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وتحاكمت إلى الكتاب والسنة ما تفرقت أبدًا، ولا حصل لهم الأمن، ولكان لهم أمن أشد من كل أمن، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82). إن الدول الآن الكبرى منها والصغرى كلها تكرس الجهود الكبيرة الجبارة لحفظ الأمن، ولكن كثيرًا من المسلمين غفلوا عن هذه الآية، الأمن التام موجود في هاتين الكلمتين: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فإذا تحقق الأمن في الشعب ولم يلبس إيمانه بظلم، فحينئذٍ يحصل له الأمن.

ومن فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: حماية الأرض أن تتحول إلى بؤرة من الشر والفساد، الأمر الذي يصعب معه تحقيق معنى العبودية لله عز وجل, إذ يقول الله سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (البقرة: 251)، ويقول سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج: 40). والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من، فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيدهم نجوا ونجوا جميعًا)). ومن فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إقامة الحجة على المصرين والمعاندين فإن نفرا من الناس في فطرتهم عوج والتواء وإصرار وعناد، وأمثال هؤلاء لا يفيقون إلا في وقت المحن والشدائد، والواجب نحوهم هو التذكير والتخويف حتى إذا نزلت الشدائد، وكان العقاب لا يقولون: لو وجدنا من أرشدنا ودلنا على الطريق لكنا أهدى الناس وأقومهم قيلًا، ومن ثم يتوجهون إليه بالتأنيب والتوبيخ والعتاب، ويحاجون الله -تبارك وتعالى، وله سبحانه الحكمة البالغة. ولذا قال -سبحانه- عن حكمة بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-: {يَا أَهْل الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة: 19)، وقال سبحانه عن حكمة إرسال الرسل جميعًا: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165).

ومن فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: تنبيه الغافلين، وانتشال الغارقين من الناس، ولا سيما المسلمين؛ فإن الإنسان خلق يوم خلق وهو ذو فطرة بيضاء نقية، لديها استعداد للخير واستعداد للشر، كما قال الخالق سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس: 7، 8). والبيئة التي ينشأ فيها الإنسان أو التي تحيط به هي التي تساعد في صنعة على شاكلتها، إن كانت خيرة كان خيرًا، وإن كانت شريرة كان شريرًا، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((المرء على دين خليلة فلينظر أحدكم من يخالل)). هذا، وإن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفوائد أكثر ما ذكرنا، ولكن فيما ذكرناه الكفاية عما سكتنا عنه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 2 حكم الحسبة والحكمة منها ومراتبها.

الدرس: 2 حكم الحسبة والحكمة منها ومراتبها.

حكم الحسبة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (حكم الحسبة والحكمة منها ومراتبها) حكم الحسبة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: روى مسلم وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان)). قال الحافظ أبو العباس القرطبي في شرح هذا الحديث: "قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من رأى منكم فليغيره بيده))، هذا الأمر على الوجوب؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان، ودعائم الإسلام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا يعتدُّ بخلاف الرافضة في ذلك؛ لأنهم إما مكفرون فليسوا من الأمة، وإما مبتدعون فلا يُعتد بخلافهم لظهور فسقهم ووجوب ذلك بالشرع لا بالعقل؛ خلافًا للمعتزلة القائلين بأنه واجبًا عقلًا. والأدلة من القرآن الكريم على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة؛ منها: قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) , ففي هذه الآية بيان الإيجاب، فإن قول الله تعالى {وَلْتَكُنْ} أمرًا وظاهر الأمر الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوطًا به؛ إذ حصر، وقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. ومن الآيات الدالات أيضًا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) , وهو أمر جزم ومعنى التعاون الحث عليه، وتسهيل طرق الخير، وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان.

وقال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة: 63) , فبين أنهم أثموا بترك النهي. وقال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (هود: 116)، فبين سبحانه أنه أهلك جميعهم إلا قليلًا منهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض. وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (النساء: 135)، وذلك هو الأمر بالمعروف للوالدين والأقربين. وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9)، والإصلاح نهي عن البغي، وإعادة إلى الطاعة، فإن لم يفعل فقد أمر الله تعالى بقتاله فقال: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وذلك هو النهي عن المنكر. وأما الأخبار والأحاديث والآثار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي كثيرة؛ فعن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله -عز وجل- أن يبعث عليكم عذابًا منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم)).

وعن جرير -رضي الله عنه- مرفوعًا: ((ما من قوم يكونوا بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع لم يغيروا عليه إلا أصابهم الله -عز وجل- بعذاب)). وعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: "يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105)، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمَّهم الله تعالى بعذاب منه)) ". وعن عتبة بن أبي حكيم عن عمرو بن حارثة، عن أبي أمية الشعباني، عن أبي ثعلبة أنه سأل عنها -أي: عن هذه الآية- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بنفسك، ودع عنك العوم، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهنَّ مثل القبض عن الجمر، للعامل فيهنَّ أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم، قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: لا بل أجر خمسين منكم)). ولأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث حذيفة: ((فتنة الرجل في أهله، وماله، ونفسه، وولده، وجاره يكفرها الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)). وعن أبي البحتري قال: أخبرني من سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم)). يقال: أعذر فلان من نفسه إذا أمكن منها، يعني: أنهم لا يهلكون حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم، فيستوجبون العقوبة، ويكون لمن بعدهم عذر، كأنهم قاموا

بعذرهم في ذلك، وحقيقة عذرته محوت الإساءة وطمستها، ويتعلق بالصدق والكذب ما يتعلق بالحق والباطل، وله تعلق بهذا. وعن أبي عبيدة عن ابن مسعود مرفوعًا: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم؛ فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود، وعيسى ابن مريم، ذلك لما عصوا وكانوا يعتدون". ومما يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- عالمية إلى قيام الساعة كما قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28)، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158)، وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه: ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة))، والناس جميعًا مخاطبون أن يعملوا بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- وينزلوا على حكمها كما قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3). ومقتضى عالمية الرسالة إلى قيام الساعة مع هذا الخطاب أن يكون هناك بيان لكل ما أرشدت إليه هذه الرسالة من خير، وحذرت منه من شر إلى قيام الساعة كذلك؛ إذ إن الله -عز وجل- رحمة منه بعبادة ما كان ليؤاخذهم قبل هذا البيان كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15)، وقال

سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} (طه: 134). وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- كل ما أرشدت إليه هذه الرسالة من خير، وحذرت منه من شر بكل الأساليب التي أتيحت له، وعلى هذا مضى الصحابة والتابعون فمن بعدهم, ويجب أن يبقى الأمر على هذا النحو ما بقيت الحياة لا سيما وأنه ما يأتي زمانًا إلا وما بعده شرًّا منه والشر لا يواجه بالسكوت، وإلا لتحولت الأرض إلى بؤرة من الشر والفساد، كما قال الله سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (البقرة: 251)، وقال سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًاٌ} (الحج: 40)، وإنما يواجه الفساد بالإيجابية التي تقضي عليه، أو تقلل منه على الأقل؛ بحيث تحصره في دائرة محدودة لا يتعداها. كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبًا لتحقيق مبدأ التضامن الاجتماعي بين الناس، فإن الناس جميعًا بينهم تضامن اجتماعي واجب كل واحد يسعى في مصلحة نفسه ومصلحة الآخرين، ويجتهد في دفع الشر عن نفسه وعن الآخرين، وما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا طريقان لحفظ هذا الواجب؛ إذًا فهما واجبان، وذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كذلك يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحقيق مبدأ الأخوة الإنسانية والإسلامية التي قال الله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (النساء: 1)، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10). ومقتضى هذه الأخوة أن يقوم كل أخٍ بدلالة أخيه على ما فيه مصلحته وسعادته في الدنيا والآخرة، وأن يزجره عن كل ما فيه فساده وشقوته في الدنيا والآخرة، ويكون ذلك فيه على سبيل وجوب لا سبيل الندب والتطوع، وانطلاقًا

من الحق ذاته، فإن لذات الحق حقوقًا على الناس، ومن هذه الحقوق صيانته بكل ما يمكن من أساليب ووسائل، وإلا ضاعت معالمه وطمست آثاره. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من بين الأساليب والوسائل التي يتم بها حماية الحقوق, فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، إلا أن العلماء اختلفوا فيه من حيث العينية والكفائية، هل هو واجب عيني أم كفائي؟ ومعلوم أن الواجب الكفائي إذا قام به البعض سقط الحرج عن الآخرين، وأما الواجب العيني فلا يقوم أحد مقام أحد فيه، وكل إنسان مكلف به فإذا تركه أثم وإن قام به الآخرون، وسبب الخلاف هو هل كلمة من في قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران: 104)، هل كلمة من في قوله {مِنْكُمْ} للتبعيض أم للبيان؟ فقال بعضهم ليست للتبعيض، لدليلين: الأول: أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران: 110). والدليل الثاني: هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس، فإذا ثبت هذا نقول: معنى هذه الآية {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ}: كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأما كلمة من فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كما في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِِ} (الحج: 30)، ويقال

لفلان من أولاده: جند، وللأمير من غلمانه: عسكر، يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم، فكذلك الأمر ها هنا. والقول الثاني: أن من هنا للتبعيض، والقائلون بهذا القول اختلفوا أيضًا على قولين: أحدهما: أن فائدة كلمة من هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة، ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل: النساء، والمرضى، والعاجزين. والثاني: أن هذا التكليف مختصّ بالعلماء، ويدل عليه وجهان: الأول: أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر، فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل وأمر بالمنكر، ونهى عن المعروف، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه، فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من يزيده إنكاره إلا تماديًا؛ فثبت بهذه الوجوه أن هذا التكليف متوجه على العلماء، ولا شك أنهم بعض الأمة، ونظير هذه الآية قول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122). والقول الثاني: قالوا: إنا جمعنا على أن ذلك واجب على سبيل كفاية بمعنى: أنهم متى قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم، فكان في الحقيقة إيجابًا على البعض لا على الكل,

فهذان هم القولان في هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض العين، أم فروض الكفاية، وقد جمع الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بين القولين، فقال في تفسير هذه الآية: "والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان ذلك واجبًا على كل فردٍ فردٍ من الأمة بحسبه لحديث ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع بقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). وإلى هذا المذهب أيضًا ذهب الشيخ محمد رشيد رضا فقال في (مختصر تفسير المنار) في تفسير قوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104)، قال الشيخ -رحمه الله-: قد اختلف المفسرون في قوله تعالى {مِنْكُمْ} هل معناه بعضكم أم "من" بيانية، والظاهر أن الكلام على حد قولك ليكن لي منك صديق، فالأمر عام. ويدل على العموم قول الله تعالى {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: 1 - 3) , فإن التواصي هو الأمر والنهي، ويدل عليه أيضًا قول الله -عز وجل-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78، 79) , وما قص الله علينا شيئًا من أخبار الأمم السالفة إلا لنعتبر به. قال -رحمه الله-: "ثم لهذه الدعوة مرتبتين: فالمرتبة الأولى هي دعوة هذه الأمة سائر الأمم إلى الخير ويشاركوهم في ما هم عليه من النور والهدى، وهو الذي يتجه به قول المفسر إن المراد بالخير

الإسلام، وقد فسرنا الإسلام من قبل بأنه دين الله على لسان جميع الأنبياء من جميع الأمم، وهو الإخلاص لله تعالى والرجوع عن الهوى إلى حكمه، وهذا مطلوب منا بحكم جعلنا أمة وسطًا، وشهداء على الناس كما تقدم في سورة البقرة"، وخير أمة أخرجت للناس كما سيأتي بعد آيات مقيدًا بكوننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وبحكم قوله في وصف المؤمنين الذين أذن لهم بالقتال، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. فالواجب دعوة الناس للإسلام أولًا، فإن أجابوا، فالواجب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. والمرتبة الثانية في الدعوة والأمر والنهي: هي دعوة المسلمين بعضهم بعضًا إلى الخير، وتآمرهم فيما بينهم بالمعروف، وتناهيهم عن المنكر، والعموم فيها ظاهر أيضًا وله طريقان: أحدهما: الدعوة العامة الكلية لبيان طرق الخير، وتطبيق ذلك على أحوال الناس، وضرب الأمثال المؤثرة في النفوس التي يأخذ كل سامع منها بحسب حاله، وإنما يقوم على هذا الطريق خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام، وحكمة الدين وفقهه. والطريق الثاني: الدعوة الجزئية الخاصة، وهي ما يكون بين الأفراد بعضهم مع بعض ويستوي فيه العالم والجاهل، وهو ما يكون بين المتعارفين من الدلالة على الخير، والحث عليه عند عروضه، والنهي عن الشر والتحذير منه، وجملة القول أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض حتم على كل مسلم، كما تدل عليه الآية في ظاهرها المتبادل وغيرها من الآيات كقوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (المائدة: 79).

وكذلك عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم، وكون هذا حفاظًا للأمة وحرزًا ظاهرًا، فإن الناس إذا تركوا دعوة الخير وسكت بعضهم لبعض عن ارتكاب المنكرات خرجوا عن معنى الأمة، وكانوا أفذاذا متفرقين لا جماعة لهم، ولهذا ضرب الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا المثل كما روى البخاري عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيدهم نجوا ونجوا جميعًا)). فلا بد للمرء في حفظ نفسه ومن معه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا سيما أمهات المنكرات المفسدة للاجتماع كالكذب والخيانة والحسد والغش. أما معنى الآية على القول بأن من للتبعيض، وتقدير الكلام: ولتكن منكم طائفة متميزة تقوم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمخاطب بهذا جماعة المؤمنين كافة فهم المكلفون أن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، فها هنا فريضتان أحدهما على جميع المسلمين، والثانية على الأمة التي يختارونها للدعوة. ولا يفهم معنى هذا حق الفهم إلا بفهم معنى لفظ الأمة، وليس معناه الجماعة كما قيل، وإلا لما اختير هذا اللفظ، والصواب أن الأمة أخص من الجامعة فهي الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم، ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص، والمراد بكون المؤمنين كافة مخاطبين بتكوين هذه الأمة لهذا العمل هو أن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها وإسعادها، ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافًا أرجعوها إلى الصواب.

الحكمة من مشروعية الحسبة.

وإذا كان كل فرد من أفراد المسلمين مكلفًا بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بمقتضى الوجه الأول في تفسير الآية، فهم مكلفون أن يختاروا أمة منهم تقوم بهذا العمل؛ لأجل أن تتقنه وتقدر على تنفيذه، فإقامة هذه الأمة الخاصة فرض عين يجب على كل مكلف أن يشترك فيه مع الآخرين، ولا مشقة في هذا علينا، فإنه يتيسر لأهل كل قرية أن يجتمعوا، ويختاروا منهم من يرونه أهلًا لهذا العمل؛ لينضم إلى من يختاره من سائر القرى والبلاد لأجل الضرب في الأرض للدعوة إلى الإسلام في غير بلادة، أو لإقامة بعض الفرائض والشعائر، أو إزالة بعض المنكرات من بلد آخر من بلاد المسلمين، فهذا هو حكم الحسبة أو حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الحِكمة من مشروعية الحسبة أما الحكمة من مشروعيتها؛ فقد قال فيها الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه (أصول الدعوة): "وحكمة مشروعيتها ظاهرة؛ لأن تبليغ الدعوة الإسلامية بجميع معانيها يندرج تحت المفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن من حكمة مشروعيتها توقي العذاب، واستنزال رحمة الله -عز وجل- وبيان ذلك أن المعاصي سبب المصائب، وما ينزل على الناس من عذاب التأديب أو الانتقام أو الاستئصال، وبهذا جرت سنة الله تعالى، فقد قال ربنا سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى: 30)، وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب للمصائب والهلاك فقط يذنب الرجل أو الطائفة، ويسقط الآخرون فلا يأمرون ولا ينهون فيكون ذلك من ذنوبهم فتصيبه المصائب. وفي الحديث الشريف قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعذاب منه)).

مراتب الحسبة.

وفي الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على زينب بنت جحش -رضي الله عنها- ذات ليلة وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه، قالت: قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث))، وقد قال الله تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال: 25). وكما أن المعصية سبب المصيبة والعذاب، فإن الطاعة سبب النعمة والرخاء ورضوان الله تعالى، وبذلك جرت سنة الله -عز وجل- كما قال -عز وجل-: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل: 41، 42)، وقال تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 148). فالطاعة تجلب الخير والبركة والرحمة، والمعصية تجلب العذاب واللعنة، ولن تدفع اللعنة، ولن تستجلب الرحمة إلا بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه هي الحكمة من مشروعية الحسبة. مراتب الحسبة وأما مراتبها: فقد أشار إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم وغيره، وهو حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبلقبه، وذلك أضعف الإيمان)). تكلم الحافظ ابن رجب -رحمه الله- عن هذا الحديث في كتابه القيم (جامع العلوم والحكم)، وأورد الروايات لهذا الحديث المتصلة والمنقطعة، ثم قال

-رحمه الله-: "فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، أما إنكاره بالقلب فلا بد منه، فما لم ينكر قلب المؤمن دلَّ على ذهاب الإيمان من قبله"، وقد روي عن أبي جحيفة قال: قال علي: "إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد جهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمتى لم يعرف قلبه المعروف وينكر المنكر نُكس فجعل أعلاه أسفله". وسمع ابن مسعود رجلًا يقول: "هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر". فقال ابن مسعود: "هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر" يشير بقوله إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هلك. وأما الإنكار باللسان واليد، فإنما يجب بحسب الطاقة، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "يوشك من عاش منكم أن يرى منكرًا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره". وفي (سنن أبي داود) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها، فمن شهد الخطيئة فكرهها في قلبه كان كمن لم يشهدها، إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها، ولم ينكرها))؛ لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم لا يسقط عن أحد في كل حال من الأحوال. وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((من حضر معصية فكرهها فكأنه غاب عنها، ومن غاب عنها أحبها فكأنه حضرها))، وهذا مثل الذي قبله؛ فتبين بهذا أن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم في كل حال.

وأما الإنكار باليد واللسان فبحسب القدرة كما في حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا فلا يغيروا؛ إلا يوشك الله أن يعمهم بعقابه)) أخرجه أبو داود بهذا اللفظ، وقال: "قال شعبة فيه: ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أكثر من من يعملوا". وخرج أيضًا من حديث جليل قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((ما من رجل يكون في قوم يُعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلم يغيروا؛ إلا أصابهم الله بعاقب قبل أن يموتوا))، وخرج أيضًا من حديث عدي بن عمير سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله تعالى العامة والخاصة)). وأخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره، فإذا لقن الله عبدا حجته قال: يا ربي رجوتك وفرقت من الناس)). وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد أيضًا، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا لا يمنعنَّ رجلًا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه، وبكى سعيد وقال: والله رأينا أشياء فهبنا)). ومن حديث أبي سعيد أيضًا قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يحقر أحدكم ن فسه، قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أمر الله عليه في مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله له: ما منعك أن تقول فيَّ كذا وكذا؟ فيقول: خشيت الناس، فيقول الله: إياي كنت أحق أن تخشى)). قال الحافظ -رحمه الله-: "فهذان الحديثان محمولان على أن يكون المانع له من الإنكار مجرد الهيبة دون الخوف المسقط للإنكار"، قال سعيد بن جبير: "قلت لابن

عباس: أآمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنكر؟ قال: إن خفت أن يقتلك فلا، ثم عدت فقال لي مثل ذلك، ثم عدت فقال لي مثل ذلك، وقال: إن كنت لا بد فاعلًا ففي بينك وبينه". وقال طاوس أتى رجل ابن عباس فقال: "ألا أقوم إلى هذا السلطان فآمره وأنهاه؟ فقال: لا تكن له فتنة، قال: أفرأيت إن أمرني بمعصية الله؟ قال: ذاك الذي تريد، فكن حينئذ رجلًا"، وقد ذكرنا من حديث المسعود الذي فيه: ((يخلف من بعدهم خلوف فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن)) إلى آخره، وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد، وقد استنكر الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود، وقال: هو خلاف الأحاديث التي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصبر على جور الأئمة. وقد يُجاب عن ذلك أيضًا بأن التغيير باليد لا يستلزم القتال، وأما الخروج عليهم بالسيف فيخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين, نعم إن خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يغزى أهله أو جيرانه لم ينبغ له التعارض لهم حينئذ؛ لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره، كذا قال الفضيل بن عياض وغيره، ومع هذا متى خاف منهم على نفسه السيف أو السوط أو الحبس أو القيد أو النفي، أو أخذ المال، أو نحو ذلك من الأذى؛ سقط أمرهم ونهيهم، وقد نص الأئمة على ذلك منهم مالك، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم قال أحمد: "لا يتعرض إلى سلطان فإن سيفه مسلول". بعد هذا البيان قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وهنا يغلط فريقان من الناس، فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلًا لقول الله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم} (المائدة: 105)، والفريق الثاني يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه، وإما بيده مطلقًا من غير فقه وصبر وحلم ونظر في ما يصلح من ذلك، وما لا

يصلح، وما يقدر عليه، وما لا در عليه, ثم أطال الكلام -رحمه الله- في هذا، وأجمله القاضي عياض في (إكمال المعلم بفوائد مسلم) فقال -رحمه الله- في تفسير الحديث الذي هو عمدة هذا الدرس: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)). قال القاضي عياض -رحمه الله-: "الحديث أصل في صفة تغيير منكر، وعلم على العلم في عمله، فمن حق المغير أولًا أن يكون عالمًا بما يغيره، عارفًا بالمنكر من غيره، فقيهًا بصفة التغيير ودرجاته، فيغيره بكل وجه أمكنه زواله به، وغلبت على ظنه منفعة تغييره بمنزعه ذلك من فعل أو قول، فيكسر آلات الباطل، ويريق ظروف المسكر بنفسه، أو يأمر بقوله من يتولى ذلك، وينزع المغصوب من أيدي المعتديين بيده، أو يأمر بأخذها منهم، ويمكِّن منها أربابها، كل هذا إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل أو بالعزة الظالم المخوف شره؛ إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله، وامتثال أمره، وأسمع لوعظه وتخويفه، كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الفضل والصلاح لهذا المعنى، ويغلظ على المغتر منهم في غيِّه، والمسرف في بطالته, إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكرًا أشد مما غير، أو كان جانبه محميَّا عن سطوة الظالم، فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرًا أشد من قتله، أو قتل غيره بسببه؛ كف يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف، فإن خاف أيضًا أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله، وإن وجد من يستعين به على ذلك استعانة ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه". هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين، خلافًا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال، وإن قُتل ونِيل منه كل أذى. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 3 الأصل التاريخي للحسبة.

الدرس: 3 الأصل التاريخي للحسبة.

الحسبة نظام إسلامي أصيل.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (الأصل التاريخي للحسبة) الحسبة نظام إسلامي أصيل إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد: الأصل التاريخي للحسبة: إن الواقع التاريخي والتشريعي لعمل المحتسب يبيِّن أن الحسبة نظام إسلامي أصيل بدأ مع نزول النصوص الشرعية التي جاءت تأمر وتحث على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونظام الحسبة هو الجهاز الرقابي الذي بدأ العمل به في تاريخنا الإسلامي؛ للنهوض بمستوى المجتمع الإسلامي دينيًّا، وحضاريًّا، وأخلاقيًّا، وإداريًّا، وتربويًّا، وصحيًّا، ويرجع ذلك على عصر النبوة؛ حيث تولاها النبي -صلى الله عليه وسل م- بنفسه، وفعلها خلفاؤه من بعده إلى أن أصبحت من النظم الإسلامية الأساسية في حكومة المسلمين. ولذا نجزم بأن فكرة الحسبة بالمفهوم الفعلي قد ابتدأت مع البدايات الأولى لنشأة المجتمع الإسلامي في المدينة النبوية؛ حيث كان من حق أي مسلم أن يمارس الحسبة فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكن هل الحسبة بشكلها الإداري المنظم بدأت بنشأة أول حكومة إسلامية، أي: في عهد النبي -صلى الله عليه وسل م- أم بعد ذلك؟ يرى بعض المؤرخين أن الحسبة كنظام حكومي من الوظائف التي نشأت في العصر العباسي، فقد ذكر الطبري في أحداث عامة مائة وستة وأربعين حين ولى المنصور أبا زكريا يحيى بن عبد الله حسبة بغداد في الأسواق سنة مائة وسبع وخمسين، وهناك رأي يقول: إنه ربما حدث ذلك التنظيم للحسبة في العهد الأموي، لكن هذا القول فيما نعلم لا يستند إلى ما يُوثقه، أما تنظيمها كولاية في العهد العباسي، فهذا شيء مؤكد. واختلفت أقول بعض من تعرضوا لتنظيم ولاية الحسبة، فبينما يراها البعض مؤسسة إدارية، يرى مؤلف آخر أنها نظام استخدم من أجل تطبيق المبدأ الإسلامي

العظيم مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن الواقع التشريعي لعمل المحتسب يبين أن الحسبة نظام إسلامي يطبق وينفذ مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى هذا يكون ما ذهب إليه الفريق الثاني هو الصحيح، وأن الشواهد من الكتاب والسنة والسيرة تُبين لنا أن الرسول -صلى الله عليه وسل م- كان يحتسب بنفسه، وما قصته مع صاحب الطعام المبلول في السوق إلا شاهد على ذلك، وكذلك أقواله وأفعاله الأخرى مع أهل البيع والشراء، وكذلك خلفاؤه من بعده؛ لا سيما الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي يعتبره البعض المؤصل أو المنظر الحقيقي لهذا النظام، فقد ولى عبد الله بن عقبة النظر في الأسواق والتفتيش على المكاييل والموازين، وقد كان الخلفاء والولاة في الصدر الأول يباشرون أعمالها بأنفسهم، كما أشرنا من قبل، يبتغون إصلاح الرعية ويرجون جزيل الثواب. إذا عرفنا هذا فإن بعض الكتاب قد شذَّ وأصاب الشطط عندما زعم أن الحسبة ذات أصول بيزنطينية رومانية، وأن المسلمين لما فتحوا البلاد التي كان يحكمها الرومان البيزنطيون وجدوا هذا النظام يُطبق في تلك البلاد، لا سيما في الشام؛ فتأثروا به واستمروا في تطبيقه. فهذا النظام في تلك المدن البيزنطية كان على أساس أن شئون السوق خاضعة لتدخل الدولة، التي أوجدت موظفين مختصين للإشراف على أهل الحرف والمهنيين، وممن تحمس لهذا الرأي كاتب لبناني يُدعى نقولا زيادة في كتابه (الحسبة والمحتسب) حيث يقول: "وكانت مثل هذه التنظيمات قد انتشرت في الشرق الأدنى، واستمرت طيلة العهد البيزنطي حتى الفتح العربي -يقصد الإسلامي- فلما جاء العرب اقتبسوها دون تبديل أو تغيير، وذلك لأنه لم يكن لهم ما يمكن أن يقدموه بديلًا عنها".

ونحن نقول كما يقول صاحب كتاب (البنية الإدارية للدولة العباسية): إن وجود الحسبة في العصر البيزنطي لا يعني بالتأكيد إرجاع نظام الحسبة إلى جذور بيزنطية، ويكفي المتتبع للنصوص الشرعية -والتي هي الأصل الشرعي للحسبة، ولكتب التاريخ والسير- أن يعرف أن هذا النظام إسلامي نابع من عقيدة المسلم وشريعته التي تحثه على القيام به في نفسه ومع إخوانه داخل المجتمع الإسلامي؛ ليتم بناؤه على التقوى والصلاح والخير. ثم إننا نقول: إن المسلمين لم يقتبسوا هذا لنظام من البيزنطيين، فنهضة الحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي، وتعقيدها، وكثرة الصناع، والغش، والتدليسات التي كانت تصدر من ضعاف الإيمان، ومقاومة الحكومة الإسلامية لهذه النزعة في نفوس مثل هؤلاء المعتدين التي تجعلهم يقومون بما يعود ضرره على المصلحة العامة للمسلمين، كانت كلها من العوامل التي أدت إلى قيام نظام الحسبة في شكله المنظم كولاية إسلامية رسمية. أما من حيث القيام به كعمل فردي، فهذا كان يقوم به المسلمون منذ نزلت أول آية تأمر وتحث على إقامة المعروف وإنكار المنكر وتغييره. هذا، وقد يكون الأثر البيزنطي قاصرًا على التأثر في الهيكل التنظيمي للولاية فحسب، وإلا فالرقابة على الأسواق كانت ومنذ تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة النبوية؛ فقد استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسل م- سعيد بن العاص على سوق مكة، كما استعمل عمر بن الخطاب على سوق المدينة، وولى مرة أخرى عبد الله بن سعيد بن أمية بن العاص على سوق المدينة، وهذا كله قبل اتصال المسلمين بالتراث البيزنطي في البلاد المفتوحة. كذلك فنظام الحسبة ليس مقصورًا على منكرات الأسواق والمخالفات التي تقع فيها، بل هو شامل لكل أوجه الحياة، وحيث ما ظهر المنكر واندثر المعروف.

وممن نسبوا الحسبة في أصلها ونشأتها إلى أصول غير إسلامية، وتابع الكاتب السابق فيما ذهب إليه موسى لقبال في مؤلفه (الحسبة المذهبية في بلاد المغرب العربي) مع بعض الإضافات، ومما قاله "وظهر أن هذه الوظيفة -يقصد وظيفة "أغورا توماس" أي: صاحب السوق- نقلت إلى بلاد الشرق في العصر الهيلنسي، وربما نقلت أيضًا إلى شبه جزيرة إيطاليا، ثم نقلت إلى بواسطة الرومان أنفسهم الذين أصبحوا سادة بلاد اليونان؛ لأننا عرفنا بين أنظمة الرومان نظام الكنسورة، وكان الكنسور موظفًا ساميًا م همته الرقابة العامة على الأسواق، وعلى الأخلاق، وعلى الإحصاء". والواقع أن موسى لقبال لم يق دم المصادر التي استقى منها معلوماته هذه، كما أن مسألة الأخلاق والمراقبة عليها مسألة نسبية. فإن الأخلاق والمُثُل الإسلامية تختلف كل الاختلاف عن تلك الأخلاق التي كانت سائدة في العصور الإغريقية والرومانية وغيرها، والواقع أن موسى لقبال قد ناقض نفسه كثيرًا عند الحديث عن الحسبة والمحتسب، وخلط بين المعلومات بصورة تومئ للقارئ عدم تمكن المؤلف من الفكرة التي يكتب عنها، فقد قال في بداية حديثة: إن في القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو إلى الأمر والمعروف والنهي عن المنكر، وفي سيرة الرسول الكريم ما يفيد أنه مارس مهام المحتسب. ثم نلاحظ أنه لم يقف عند هذا الحد بل أضاف يقول: "وأشرت إلى أن نشأتها في الدولة الإسلامية العربية كنوع من التأثر بما عُرف عند الإغريق في نظام الأغورا توماس الذي يشير إلى صاحب السوق عند الرومان في نظام الكنسورة".

وقد توسع الأستاذ رشاد في تفنيد كل ما جاء به الأستاذ لقبال، ومخافة الإطالة نقتصر على ما نذكره، وكان هذان الرجلان -أقصد نقولا زيادة وموسى لقبال- هما أكثر من خاض في أصل نشأة الحسبة، وأنه غير إسلامي. وممن خاض أيضًا في أصل الحسبة ونشأتها، وادَّعى أن هذا النظام وُجد عند الرومان قبل الفتح الإسلامي لبلاد الشام منير العجلاني؛ حيث قال: "ومن غير المستحيل أن يكون الأمويون قد أقاموا المحتسب الروماني في عمله مدة ما، كما أقروا مثلًا عامل الخراج ابن سرجون، لكننا نستطيع أن نجزم بذلك، ومهما يكن فإن الشام عرفت الحسبة في العهد الروماني، ثم عرفت الحسبة في العهد الإسلامي، وبين الحسبتين على تشابه اختصاصاتهما اختلاف غير قليل في الروح والأساليب، والباحث الفاحص يقف متسائلًا أمام هذا الكلام، يريد الدليل البين على أن مصطلح محتسب قد وُلد قبل الإسلام، ولكن الكاتب لم يسند قوله المتقدم بمرجع يُتعمد عليه، ولعله قد حكم بهذا من خلال اطلاعه على أعمال موظف كان يقوم بمراقبة الأسواق في العهد الروماني يسمى إيدل. أما الذي تشهد له مصنفات النظم الإسلامية والمعاجم اللغوية فهو أن لفظة محتسب لفظة إسلامية بحتة، ولا يمكن بحال أن نصرفها إلى أصل آخر حتى ولو تشابه المحتسب في بعض وظائفه وواجباته مع موظف الإيدل في العهد الروماني؛ فالتسمية المحتسب لم تأتِ من فراغ، فهي تمثل وتعني طلب الأجر من الله، وهذه غاية عظمى لا توجد في غير عقيدة المسلم، وهي تختلف اختلافًا جوهريًّا عن أي غاية أخرى، وإن وجد -كما قلنا- التشابه في بعض الواجبات والوظائف. وممن انبرى للرد على هذه المزاعم المشككة في أصل الحسبة ونشأتها الإسلامية الأستاذ الدكتور محمد كمال الإمام حيث يقول: "فلم يكن نظام الحسبة -كما ادعى المستشرقون ومن تابعهم من الكتاب- مستجلبًا من فكرة رومانية، أو

امتدادًا لنظام بيزنطي؛ لأن والي الحسبة لم يكن أبدًا فرضًا أو واقعًا مختصًّا بأمر السوق فحسب، بل إن نشاطه يمتد، واختصاصاته تتسع لتشمل كل المخالفات التي تقع في المجتمع الإسلامي، ويمكن الاحتساب فيها على عامة المسلمين، وعلى ذوي الجاه والسلطان، وأيضًا على الخليفة نفسه، وهذا ما ينطق به تاريخ الحسبة في النظام الإسلامي، وما يفرضه الحكم الشرعي الخاص بالحسبة". ونختم هذه الردود بالقول بأن هذا الفهم وهذا الشطط الذي ذهب إليه المستشرقون ومن تابعهم من كُتَّاب المسلمين وغيرهم، هو نتيجة الفهم الضيق لمفهوم الحسبة الشمولي العام في الإسلام، فهم نظروا إلى الحسبة من زاوية ضيقة جدًّا في أن جعلوا مهمة المحتسب مراقبة الأسواق، ومخالفات البيع والشراء، ولا ننكر بأن هذه الأمور مما يحتسب فيه المحتسب، ولكنها لا تشكل من دائرة عمل المحتسب الواسعة إلا مساحة صغيرة. وقبل أن ننتهي من إتمام الكلام نقول: إن الواقع يشهد بأن ما ذهب إليه هؤلاء الذين شكَّكوا في أصل الحسبة هو العكس؛ فإن الإفرنج الصليبيين قد ثبت أنهم استفادوا من نظام الحسبة، فبعد اتصالهم بالمشرق الإسلامي إبان الحروب الصليبية استفادوا من هذا النظام، ومما يؤكد هذا الكلام ما ذكره الأستاذ زكي النقاش في حديثه عن بلاد الشام بعد تأسيس المملكة الصليبية الأولى في القدس؛ فقد أثبت أن الصليبيين اكتسبوا منصب المحتسب، وعملوا به وطبقوه مع بعض التحويل. إذًا الحسبة نظام إسلامي أصيل بدأ مع نزول النصوص الشرعية التي جاءت تأمر وتحث على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تولاها النبي -صلى الله عليه وسل م- بنفسه وفعلها خلفاؤه من بعده إلى أن أصبحت من النظم الإسلامية الأساسية في حكومة المسلمين.

الحسبة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-.

الحسبة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وها نحن نورد باختصار شيئًا من الحسبة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد خلفائه الراشدين الأربعة -رضي الله عنهم أجمعين- فنقول: لقد بدأت الحسبة في عهده -صلى الله عليه وسلم- بشكل فردي تتطوعي لا تديره ولاية، ولا يتم عن طريق تنظيم معين، فالحسبة كغيرها من أعمال وخطط الحكومة النبوية في المدنية النبوية، وفي بداية تأسيسها تدار بشكل فردي. وهذا شيء بدهي لكيان يتشكل ودولة تؤسس، فبالمحتسب الفرد بدأ نظام الحسبة، خاصة وأن نظام الحسبة لا يرتبط بنشوء الدولة؛ بل مارسها المسلمون منذ فجر الدعوة الإسلامية على وحي من النصوص التي جاءت تحث على القيام بها. ذلك لأن الحسبة من الأمور الهامة والضرورية لأي مجتمع يتطلع إلى أن يسود بين أفراده الصلاح والفضيلة؛ إذ بدونها -أي: الحسبة- لا يمكن أن يحافظ على تطبيق شرائع الإسلام بين أفراد الأمة، وعلى هذا فإن وجود الحسبة لا يتوقف على قيام الدولة ذات الكيان السياسي، وإنما الحسبة توجد أينما وُجد مسلمان فأكثر؛ لأن الحسبة هي النصيحة، والنصيحة بين المسلمين مطلوبة ومأمور بها شرعًا. ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الدين النصيحة))، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: ((المؤمن مرآة أخيه))، أي: أن المؤمن يرى أخطاءه من خلال نصح أخيه له، وهذه هي عين الحسبة. ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- قد بدأ بالحسبة بنفسه قولًا وعملًا؛ فبالحسبة الفعلية أنه ((مر يومًا على سوق المدينة، فوجد صاحب طعام يبيع، وكان قد أخفى الطعام المبتل بالماء داخل الطعام، فمدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يده في الطعام ووجد البلل، فقال لصاحب الطعام: ما هذا؟ قال: لقد أصابته السماء يا رسول الله -أي: نزل عليه المطر-

فقال -عليه الصلاة والسلام-: أفلا جعلته في أعلى الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منَّا))، فهذه صورة من صور احتسابه -صلى الله عليه وسلم- في الأسواق. وصور احتسابه كثيرة جدًّا، بل كل ما أسداه للأمة، ووجهها إليها من خير وإن كان تكليفًا من ربه -عز وجل- فهو صور حسبية، لكن من أمثلة احتسابه -صلى الله عليه وسلم- في الأسواق ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن الناس كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهده -صلى الله عليه وسلم- فبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث تباع الأطعمة". وفيه أيضًا عن سالم عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "رأينا الذين يبيعون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبيعوه حتى يذهبوا به إلى رحالهم". وصور احتسابه -صلى الله عليه وسلم- في الأسواق وغيرها كثيرة، وهذه مجرد أمثلة، ولا نستغرب قيامه -صلى الله عليه وسلم- بهذه العمل بنفسه؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- في مدينته النبوية يتولى جميع ما يتعلق بولاة الأمور، ويولي الأماكن البعيدة عنه بعض الصحابة، كما عرفنا من قبل توليته لعمر على سوق المدينة، ولسعيد بن العاص على سوق مكة، كما ولى على مكة أيضًا عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن العاص، وعلى قرى عرينة خالد بن سعيد، وبعث عليًّا ومعاذًا إلى اليمن. وذكر ابن عساكر أن النبي -صلى الله عليه وسل م- ولى عبد الله بن سعيد سوق المدينة، وكذلك كان يؤمر على السرايا، ويبعث على الأموال الزكوية السُّعاة، فيأخذونها ممَّن هي عليه، ويدفعونها إلى مستحقيها الذين سماهم الله تعالى في القرآن، فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه إلا السوط، لا يأتي النبي -صلى الله عليه وسل م- بشيء إذا وجد لها موضعًا يضعها فيه.

وهذا من أظهر ما يكون من أمر الاهتمام بالحسبة في عهده صلى الله عليه وسل م، فاختيار الولاة الصالحين وأمرهم بتطبيق تعاليم الإسلام فيمن يولون عليهم هو عين الحسبة التي يقيمون به مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بين من وُلُّوا أمرهم، ثم كان -صلى الله عليه وسل م- لا يكتفي بأن يرسل الوالي دون محاسبة وتعقيب على ما يقوم به؛ فقد قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد كان النبي -صلى الله عليه وسل م- يستوفي الحاسب على العمال، يحاسبهم على المستخرج والمصروف. كما في الصحيحين عن أبي حميد السعيدي -رضي الله عنه-: ((أن النبي -صلى الله عليه وسل م- ولى رجلًا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقات، فلما رجع حاسبه، فقال: هذا لكم وهذا أه دي إليَّ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله، فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إليه، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا، والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلًا على العمل مما ولانا الله فيغلُّ منه شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، وإن كانت بقرة لها خوار، وإن كانت شاة تيعر، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت))، قالها مرتين أو ثلاثة. وممن كان يتولى الحسبة من النساء في عهده -صلى الله عليه وسل م- وأقرها على ذلك سمراء بنت نهيك الأسدية، فقد ذكر ابن عبد البر أنها أدركت رسول الله -صلى الله عليه وسل م- وعمر، وكانت تمر في الأسواق وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتضرب الناس -أي: الغشاشين منهم- بسوط كان معها. ولم تكن كذلك لتحاسب وتعاقب إلا عن أمر ممن له الأمر في ذلك الحين، وهو الرسول -صلى الله عليه وسل م، وهذا النص فيه إطلاق، أي: الذي يشير إلى تولي تلك المرأة الحسبة في السوق، وعلى ذلك فلا أرى تقييده بما قيده غير واحد بأنه قد يكون

احتسابها في أمر يخص النساء، وأعتقد أن هذا تكلف لا يسنده دليل يقيد حسبتها في ذلك، ولا ينافي هذا اشتراط الذكورة في المحتسب؛ لأن إثبات هذا العمل في المصادر القديمة لتلك المرأة هو بحكم النادر، والنادر لا حكم له كما هو معروف. ولفظ المحتسب لم يكن شائعًا ولا معروفًا في عهده صلى الله عليه وسل م، ولا في عهد الخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم، ومما تجدر الإشارة إليه أن لفظ العامل على السوق أو صاحب السوق: هو اللقب الذي كان يطلق على من يتولى الإشراف على السوق، ومراقبة المكاييل والموازين طيلة عصر الرسول صلى الله عليه وسل م، ابتداء من هجرته إلى المدينة، وكذلك طوال فترة حكم الخلفاء الراشدين، وفي العصر الأموي، وبالأحرى في أوله، وفي آخر العصر الأموي وأول العصر العباسي بدأ ظهور لفظ المحتسب، وقد شاع بعد ذلك استعمال هذا اللفظ في العصر العباسي، وأنشأت ولاية تدير علمه سميت باسم ولاية الحسبة. وبهذا نصل إلى القول بأن الحسبة في عهده -صلى الله عليه وسل م- كانت عملًا فرديًّا تطوعيًّا، ولم تعرف باسم الحسبة، ولم يسمَّ من يقوم بها محتسبًا، وإنما يُسمى العامل على السوق، أو صاحب السوق. ولفظ المحتسب والحسبة عرف فيما بعد الصدر الأول من تاريخ الأمة الإسلامية. أما الحسبة في عهد الخلفاء الراشدين، فنقول: إن عهد الخلفاء الراشدين هو امتداد للعهد النبوي في كثير من جوانب الحكم والإدارة، فالعهدان معًا هما ما اصطلح على تسميته عند كثير من أهل العلم والتاريخ بالصدر الأول من التاريخ الإسلامي، وعهد الخلفاء الراشدين، وإن وجد فيه بعض التطوير والتغيير لنظم الإدارة في جوانب أخرى؛ لا سيما في منتصف خلافة عمر بن

الحسبة في عهد الخليفة أبي بكر -رضي الله عنه-.

الخطاب -رضي الله عنه- ومن بعده من الخلفاء الراشدين؛ حيث استحدثت بعض الدواوين، ونظمت شئون الحكم للمقاطعات والولايات في الدولة الإسلامية، وجُعل على رأس كل ولاية أو مقاطعة أمير ينوب عن الخليفة في كثير من شئون الحكم والإدارة، إلا أنه فيما يتعلق بالحسبة ظل الأمير يسير على النمط نفسه الذي كانت تسير عليه الحسبة في عهده -صلى الله عليه وسل م- فلم تنشأ لها ولاية تتولى إدارة شئون الحسبة، وتأخذ الاسم نفسه الذي عُرفت به فيما بعد؛ بل كان يسمى من يقوم بعملية الاحتساب بين الناس، لا سيما إذا كان مكلفًا من قبل الخليفة كان يسمى عاملًا؛ سواء كانت حسبته في السوق أو في مراقبة مسائل اجتماعية أخرى تستدعي الاحتساب. الحسبة في عهد الخليفة أبي بكر -رضي الله عنه- وها نحن نضرب بعض الأمثلة لعهد كل خليفة على حدة ليتبين لنا كيف كانت الحسبة في عهدهم -رضوان الله عليهم أجمعين. الحسبة في عهد أبي بكر -رضي الله عنه-: فعلى الرغم من قصر فترة خلافته إلا أن ما قام به في هذه الفترة القصير عمل عظيم يُسجل له في الخالدين، الذين حفظوا للإسلام عزه وسؤدده وانتشاره، وكان في رأس كل أعماله موقفه الصلب القوي في حروب الردة؛ إذ جعل منه أعظم المحتسبين في التاريخ الإسلامي، فلولا توفيق الله أولًا، ثم ذلك الموقف الذي لم يرضخ فيه لبعض آراء الصحابة بألا يقاتل المرتدين؛ لما قامت للإسلام بعد ذلك قائمة، وكانت تلك الردة بداية سوسة تنخر في عظم الأمة حتى تقضي على دينها، ولكن لقوته -رضي الله عنه- في الحق وقف وقفة مشهورة في وجه تيار الهجمة وحاربهم، وألزمهم الحق بالقوة، وقال قولته المشهورة: "والله لو منعوني عناق بعير كان يؤدونه لرسول الله -صلى الله عليه وسل م- لقاتلتهم على منعه". ولقد كان ظهور فتنة الارتداد على ثلاث صور: الأولى: الامتناع عن أداء الزكاة.

والثانية: ادعاء النبوة .. والثالثة: الارتداد مطلقًا. وأمام هذه الفتنة العمياء اشتدت الأهوال بالصديق وبسائر المؤمنين، تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وهي تصف ذلك الكرب الذي حل بالمسلمين: "لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسل م- ارتدت العرب قاطبة، واشرأبت الأعناق، والله قد نزل بي ما لو نزل بالجبال الراسي ات لهاضها، وص ار أصحاب محمد -صلى الله عليه وسل م- كأنهم معزى مطيرة في حُشٍّ في ليلة مطيرة بأرض مسبعة". ولو أردنا أن نقف على جانب من احتساب الصديق بنفسه على هذا المنكر العظيم، وهذه الفتنة العمياء إلى جانب إسناده أمر الاحتساب في شأنها إلى رجال آخرين؛ لوجدنا أنه -رضي الله عنه- قد خرج شاهرًا سيفه إلى ذي القصة لقتال القبائل المرتدة الذين جاءوا لمهاجمة المدينة النبوية. ولما طلب منه المسلمون البقاء في المدينة، وإرسال من ينوب عنه قال: "لا والله لا أفعل، ولأواسينَّكم بنفسي". ومن صور احتسابه -رضي الله عنه-: ما قام به مع أحد الصحابة -وهو عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهما- وهو ينازع جار له قائلًا له: "لا تماض جارك، فإنه يبقى ويذهب عنك الناس" أي: لا تشاتم جارك. ومنها: احتسابه على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما بلغه طلب الأنصار بتأمير شخص غير أسامة -رضي الله عنه- عليهم، فقد نقل الطبري أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: "إن الأنصار أمروني أن أبلغك، وإنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلًا أقدم سنًّا من أسامة، فوثب أبو بكر -رضي الله عنه- وكان جالسًا فأخذ

الحسبة في عهد الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

بلحية عمر فقال: ثكلت أمك وعدمتك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله -صلى الله عليه وسل م- وتأمرني أن أعزله". ومنها: احتسابه في شأن مخنث وُجد في عهده بالمدينة النبوية، فلقد علم برجل مخنث فأمر بإخراجه فأخرج من المدينة، أخرج عبد الرزاق عن عكرمة قال: "أمر النبي -صلى الله عليه وسل م- برجل من المخنثين فأُخرج من المدينة، وأمر أبو بكر رضي الله عنه برجل منهم فأخرج أيضًا". ومن صور احتسابه أيضًا: أنه ظهر في عهده -رضي الله عنه- أن بعض النساء قُمن بقطع شعورهن، فسئل عن ذلك فقال: "على من فعلت ذلك أن تستغفر الله وتتوب، ولا تعود إلى مثله، قيل: فإن فعلت ذلك بإذن زوجها؟ قال: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قيل له: ولم لا يجوز لها ذلك؟ قال: لأنها شبَّهت نفسها بالرجال، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسل م-: ((لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال))، ولأن الشعر للمرأة بمنزلة اللحية للرجل، فكما أنه لا يحل للرجل أن يقطع لحيته، فكذلك لا يحل للمرأة أن تقطع شعرها، قيل له: وإذا وصلت شعرها بشعر غيرها؟ قال: لا يحل لها ذلك". الحسبة في عهد الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أما الحسبة في عهد الفاروق عمر -رضي الله عنه- فصورها كثيرة جدًّا: ومن صور احتسابه -رضي الله عنه- في مجال العبادات: أنه جمع الناس على إمام لصلاة التراويح في رمضان حتى أصبحت بين المسلمين سنة يُعمل بها، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع

متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد؛ لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب رضي الله عنه، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون" يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله. ومنها: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "دخل رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسل م- المسجد يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب الناس، فقال عمر -رضي الله عنه-: أية ساعة هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت. فقال عمر: الوضوء أيضًا، وقد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسل م- كان يأمر بالغسل". فهذه صور من صور احتساب عمر -رضي الله عنه- على الناس في العبادات. أما احتسابه على عماله؛ فقد خطب -رضي الله عنه- يومًا فقال: "أيها الناس، إني ما أرسل إليكم عمالًا ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم فمن فُعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقتصنَّ منه". وكان -رضي الله عنه- إذا استعمل عاملًا اشترط عليه ألا يركب برذونًا، ولا ولا يلبس رقيقًا، ولا يأكل نقيًّا، ولا يتخذ بابًا دون حوائج الناس، فإن فعل شيئًا من ذلك جلب إليه العقوبة". وكتب -رضي الله عنه- إلى عماله يحثُّهم على الصلاة فقال: "إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها وحفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواه أضيع".

ومن اهتمامه -رضي الله عنه- بأمر الأسواق: أنه كان يطوف في الأسواق حاملًا درته م عه يؤدب بها من رآه مستحقًّا لذلك، روى ابن سعد عن أن س بن مالك -رضي الله عنه- قال: "رأيت على عمر -رضي الله عنه- إزارًا في أربع عشرة رقعة وما عليه قميص ولا رداء معتم معه الدرة يطوف في سوق المدينة". أما احتسابه -رضي الله عنه- فيما يتعلق بالآداب العامة والأخلاق؛ فمنها: ما حكاه الماوردي عن إبراهيم النخعي: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نهى الرجال أن يطوفوا مع النساء، فرأى رجلًا يصلي مع النساء فضربه بالدرة، فقال الرجل: والله إن كنت أحسنت لقد ظلمتني، وإن كنت أسأت فما علمتني، فقال عمر: أما شهدت عزمتي؟ قال: ما شهدت لك عزمة، فألقى عمر الدرة إليه وقال: اقتص. قال: لا أقتص منك اليوم. قال: فاعفُ عني. قال: لا أعفو، فافترقا على ذلك ثم لقيه من الغد فتغير لون عمر، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين كأني أرى ما كان مني قد أسرع فيك. قال: أجل، قال: فأشهد الله أني قد عفوت عنك". وبلغه أن رجلًا يعقل النساء إذا أردن القيام فإذا قمن سقطن، فتتكشف الواحدة منهن فيضحك عليه بقية النساء، فدعاه وكلمه فأقر فضربه مائة، وهو معقول، ونهاه أن يدخل على النساء المغيبات. وأما احتسابه -رضي الله عنه- فيما يتعلق بالحيوان؛ فقد روى المسيب بن دار قال: "رأيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يضرب رجلًا ويقول: حملت جملك ما لا يطيق".

الحسبة في عهد الخليفة عثمان، وعلي -رضي الله عنهما-.

الحسبة في عهد الخليفة عثمان، وعلي -رضي الله عنهما- أما الحسبة في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقد سارت على الطريقة نفسها التي سارت عليها في عهد من سبقه من الخلفاء، وقد أولاها -رضي الله عنه- عناية خاصة بالإشراف على مصالح المسلمين، ومن ذلك ما يتعلق بالحسبة في الأسواق وغيرها، ومن حسبته على ولاته الذين أمرهم على الأنصار أنه كتب إليهم في أول ولايته يقول: "أما بعد؛ فإن الله أمر الأئمة أن يكون رُعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكون جباة، وإن صدر هذه الأمة قد خُلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يكون جباة ولا يكونوا رعاة، فإن عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء، فعليكم أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم، فتعطوهم ما لهم وتأخذوا بما عليهم، ثم تثنوا بأهل الذمة فتعطوهم الذي لهم، وتأخذوا بالذي عليهم، ثم العدو والذي تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء". أما احتسابه -رضي الله عنه- بنفسه؛ فقد كان ينهى الناس عن اللعب بالنرد، وأمرهم بتحريقه أو كسره، ومن احتسابه أنه منع الناس من الانشغال في طيران الحمام، وكان من احتسابه أيضًا أن كان ينكر على من يراه على شر أو كان يحمل معه سلاحًا، ويأمر بإخراجه من المدينة. أما الحسبة في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ففي المسار نفسه وعلى الطريقة نفسها، كان يتم الاحتساب في عهده رضي الله عنه، وقد باشر -رضي الله عنه- الحسبة بنفسه. ومن أظهر احتسابه في شأن الصلاة: أنه -رضي الله عنه- كان شديد الاهتمام بأمر الصلاة، وكان يمر بالطريق مناديًا الصلاة الصلاة، كان يُوقظ بذلك الناس في صلاة الفجر، يحدث ابنه الحسن -رضي الله عنه- عن خروجه في اليوم الذي طُعن فيه من بيته فيقول: فلما خرج من البيت نادى: "أيها الناس الصلاة الصلاة"، وكذلك كان يصنع

كل يوم ومعه درته، فاعترضه الرجلان فضربه أحدهما على دماغه. وكان -رضي الله عنه- يمشي في السوق ومعه درته يأمر الناس بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، روى ابن سعد في طبقاته عن الحر بن جرموز عن أبيه قال: "رأيت عليًّا -رضي الله عنه- وهو يخرج من القصر إلى السوق وعليه قطريتان، إزار إلى نصف الساق ورداء مشمر قريب منه، ومعه درة له يمشي بها في الأسواق، ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع، ويقول: أوفوا الكيل والميزان، ويقول: لا تنفخوا اللحم". وكان -رضي الله عنه- يستمر بالخروج إلى الأسواق وحده وهو خليفة المسلمين يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالباعة والبقالين، ويفتح عليه القرآن، ويقرأ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83). ومن صور احتسابه -رضي الله عنه-: أنه كان يلاحق أهل الشر والفساد، فإذا ما ظفر بأحد منهم حبسه، روى القاضي أبو يوسف عن عبد الملك بن عمير قال كان علي -رضي الله عنه- إذا وجد في القبيلة أو القوم الرجل الداعر حبسه، فإذا كان له مال أنفق عليه من ماله، وإن لم يكن له مال أنفق من بيت مال المسلمين، وقال: يحبس عنهم شره وينفق عليه من بيت مالهم. وبوقوفنا على هذه الصور الحسبية في عهد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- نأتي على كل ما يتعلق بالحسبة في هذه الحقبة من تاريخ الإسلام، ويتبين لنا ما أكدناه مرارًا في هذا الدرس أن الحسبة نظام إسلامي أصيل ظهر مع أول آية نزلت من القرآن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وباشر النبي -صلى الله عليه وسل م- الحسبة بنفسه، وصار على سنته خلفاؤه الراشدون الأربعة، ثم استمر العمل بهذه الحسبة في العصور الإسلامية الأخرى. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 4 المحتسب (1).

الدرس: 4 المحتسب (1).

تعريف المحتسب.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (المحتسب (1)) تعريف المحتسب إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد: المحتسب: هو من يأمر بالمعروف وينهى المنكر احتسابًا، إلا أن الفقهاء خصصوا هذا الاسم بمن يعينه ولي الأمر للقيام بالاحتساب، وسموا غير المعين بالمتطوع، وفرقوا بين المحتسب والمتطوع بفروق. يقول الإمام الماوردي في (الرتبة في طلب الحسبة): "المحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعية، والكشف عن أمورهم ومصالحهم وابتياعاتهم، ومأكولهم، ومشروبهم، وملبوسهم، ومساكنهم، وطرقاتهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر". ويقول القاضي أبو يعلى الفراء: "والحسبة: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله". وهذا وإن صح من كل مسلم، فالفرق بين المحتسب والمتطوع من تسعة أوجه: أحدها: أن فرضه متعين على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل في فرض الكفاية. الثاني: أن قيام المحتسب به من حقوق تصرفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره، وقيام المتطوع به من النوافل الذي يجوز التشاغل عنه لغيره. الثالث: أنه منصوب للاستعداء عليه فيما يجب، وليس المتطوع منصوبًا للاستعداء. الرابع: أن على المحتسب إجابة من استعدى به، وليس على المتطوع إجابته.

الخامس: أن عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها، ويفحص عما تُرك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، وليس على غيره من المتطوعين بحث ولا فحص. السادس: أن له أن يتخذ على الإنكار أعوانًا؛ لأنه عمل هو له منصوب، وإليه مندوب؛ ليكون له أقهر وعليه أقدر، وليس للمتطوع أن يندب لذلك أعوانًا. السابع: أن له أن يُعذر على المنكرات الظاهرة، ولا يتجاوزها إلى الحدود، وليس للمتطوع أن يعذر على منكر. الثامن: أن له أن يرتزق من بيت المال على عمله، ولا يجوز للمتطوع أن يرتزق على إنكاره. التاسع: أن له اجتهاد رأيه فيما تعلق بالعرف دون الشرع، كالمقاعد في الأسواق وإخراج الأجنحة، فيقر وينكر من ذلك ما أبداه اجتهاده إليه، وليس هذا للمتطوع". وقد تكلم الدكتور عبد الكريم زيدان عن هذه الفروق وبيَّن رأيه فيها، فقال: "هذه الفروق بُنيت على أساس التفريق بين المعين للحسبة وغير المعين لها، والواقع أن الحسبة من فروض الإسلام، فلا يتوقف القيام بها على التعيين من قِبَل ولي الأمر، ومن ثَمَّ كانت تسمية غير المعين بالمتطوع تسمية غير دقيقة؛ لأنها تشعر بأن القيام بالحسبة من قبل غير المعين لها هو من قبيل القيام بالأمور المستحبة غير الواجبة. ومع هذا فإن تنظيم الحسبة وضبطها من قبل ولي الأمر، وتعيين الأكْفاء لها؛ حتى لا تسود الفوضى في المجتمع باسم الحسبة. أقول: إن هذا التنظيم من الأمور

شروط المحتسب.

الحسنة، ولكن بشرط ألا يكون هذا التنظيم مانعًا من قيام الآخرين بواجب الحسبة على الوجه المشروع، وعلى هذا لا نرى ما قاله الفقهاء من أن المحتسب له أن يتخذ أعوانًا. أما المتطوع فليس له ذلك؛ لأن اتخاذ الأعوان على الحسبة من التعاون على البر والتقوى، فلا ينبغي منع من يقوم بالحسبة من هذا التعاون بحجة أنه غير معين من قبل ولي الأمر ما دام صالحًا للحسبة، وتتوفر فيه شروطها". وكذلك لا نرى منع المتطوع من التعذير على المنكرات الظاهرة أو على الأقل لا نرى منعه من التعذير مطلقًا؛ لأن التعذير درجات، فينبغي ألا يمنع إلا من بعضها لا كلها، كأن يمنع من الضرب والجلد، وولاية المحتسب يستمدُّها من الشرع الشريف؛ لأن المسلم مكلف بالحسبة، وحيث يوجد التكليف توجد الولاية على القيام بما كُلف به، إلا أنه في حالة قيام ولي الأمر بتنظيم أمور الحسبة، وتعيين الأكفاء لها، فإن المعين يملك من الولاية أكثر مما يملكه غير المعين، ومع هذا، فإن ولاية المحتسب المعين من قبل ولي الأمر يستمدها من الشرع، وإن جاءت عن طريق ولي الأمر باعتبار أن تنظيم ولي الأمر الحسبة سائغ مشروع فكأن الشرع خوَّله ذلك. هذا هو المحتسب، والفرق بينه وبين المتطوع كما ذهب إليه الفقهاء، ورأي الدكتور عبد الكريم زيدان في هذه التفرقة. شروط المحتسب يُشترط لإيجاب الأمر بالمعروف والن هي عن المنكر اتفاقًا ببين العلماء ثلاثة شروط، وهي: الإسلام، والتكليف، والاستطاعة،

واختلفوا في شرطين، وهما: العدالة، والإذن من الإمام. أما الإسلام: فلأن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو نصرة للدين فلا يقوم به من هو جاحد لأصل الدين، قال الله تعالى: {الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (النساء: 141). أما التكليف: فإنه شرط لوجوب سائر العبادات، فلا يجب الأمر والنهي على مجنون أو صبي؛ لأن القلم مرفوع عنهما، ولكن لو أنكر الصبي المميز جاز، وأثيب على ذلك لم يكن لأحد منعه؛ لأنها قربة إلى الله، وهو من أهل أدائها لا من أهل وجوبها قاله الغزالي والرافعي والنووي -رحمهم الله- وغيرهم، ولا أعلم في ذلك خلافًا، فإنه ليس لأحد منع الصبي من كسر الملاهي، وإراقة الخمر، وغيرهما من المنكرات. أما اشتراط الاستطاعة فلقول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286)، ولقول النبي -صلى الله عليه وسل م-: ((ما نهيتكم عن أمر فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم))، وقد يكون وجود الاستطاعة كعدمها أحيانًا، فيسقط الوجوب مع وجودها، كما إذا خاف على نفسه أو ماله مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع.

أما العدالة: فقد ذهب قوم إلى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يُشترط أن يكون عدلًا، وأنه ليس لفاسق أن يأمر وينهى، قال الإمام ابن النحاس: "وهذا من حيث الإطلاق فاسد". قال الإمام النووي في (شرح مسلم): "قال العلماء: لا يُشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلًا ما يأمر به، مجتنبًا ما ينهى عنه؛ بل عليه الأمر وإن كان مخلًّا بما يأمر به، وعليه النهي وإن كان متلبسًا بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه أمران: أن يأمر نفسه وينهاها، وأن يأمر غيره وينهاها، فإذا أخل بأحدهما كيف يحل له الإخلال بالآخر". وقال الإمام القرطبي في تفسيره في أوائل سورة "آل عمران": "ليس من شرط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عدلًا عند أهل السنة؛ خلافًا للمعتزلة حيث تقول: لا يغير المنكر إلا عدل، وهذا كلام ساقط". ثم قال المصنف: "ومما يدل على أن للفاسق أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) ". الشرط الخامس: وهو الإذن من الإمام، قال الإمام الغزالي: "قد شرط قوم أن يكون مأذونًا لهم من جهة الإمام، وهذا الاشتراط فاسد؛ فإن الآيات والأخبار تدل على أن كل من رأى منكرًا وسكت عنه، عصى أينما رآه وكيفما رآه، على العموم بلا تخصيص فشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له. قال الإمام الرافعي والإمام النووي وغيرهما: "لا يختص الأمر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب، بل ذلك ثابت لآحاد الناس من المسلمين وواجب عليهم".

وقال إمام الحرمين: "والدليل عليه إجماع المسلمين بأن غير الولاة في الصدر الأول كانوا يأمرون الولاة وينهونهم، مع تقرير المسلمين إياهم على ذلك، وترك توبيخهم على التشاغل بذلك بغير ولاية". قال الإمام ابن النحاس: قلت: ويؤكد ما سبق من حديث طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري في الإنكار على مروان بن الحكم تقديمه الخطبة على الصلاة في العيد، واستدل على فعله بقول النبي -صلى الله عليه وسل م-: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). وقد تكلم الدكتور عبد الكريم زيدان عن هذين الشرطين المختلف فيهما، وهما: العدالة، وإذن الإمام؛ فقال: "أما الإذن من الإمام أو نائبه فهذا شرط محل نظر، ذلك أن المحتسب إذا عُيِّن من قبل ولي الأمر فلا حاجة له للإذن؛ لأنه ما عُين إلا للاحتساب، أما إذا لم يكن معينًا وهو الذي يسمونه المتطوع فإن اشترطوا له الإذن لكل نوع من أنواع الحسبة، فإن اشتراطهم هذا لا دليل عليه، بل إن النصوص تدفعه؛ لأن كل مسلم يلزمه تغيير المنكر إذا رآه، وقدر على إزالته، دون اشتراط إذن من الإمام، ويؤيد ذلك استمرار السلف الصالح على الحسبة دون إذن من الإمام؛ فضلًا على أن الحسبة تجري على الإمام نفسه، فكيف يحتاج المحتسب إلى إذن منه للإنكار عليه. وإن اشترطوا الإذن بالنسبة لبعض أنواع الحسبة، وهي التي يجري فيها التعذير واتخاذ الأعوان، واستعمال القوة، فهذا الشرط له وجه مقبول لابتنائه على المصلحة؛ لأن إباحة هذا النوع من الاحتساب لكل أحد قد يؤدي إلى الفتنة والفوضى، ووقوع الاقتتال بين الناس بحجة الحسبة، وباشتراط الإذن تندفع هذه

الأضرار، فيلزم الإذن؛ لأن دفع الضرر واجب، وما يستلزمه هذا الدافع يكون مشروعًا، ومع هذا التوجيه المقبول نرى جواز تغيير المنكر من المتطوع إذا أمن الفتنة، وإن استلزم التغيير اتخاذ الأعوان، واستعمال القوة، ومباشرة التعزير كلما كان ذلك ضروريًّا، ولا يحتمل التأخير حتى يتحصل الإذن. وأما العدالة، فهذا شرط قال به البعض، فعندهم لا بد أن يكون المحتسب عدلًا غير فاسق، ومن مظاهر عدالته أن يعمل بما يعلم، ولا يخالف قوله عمله، ويمكن أن يستدل بهذا القول بقول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44). كما أن المطلوب من المسلم أن يعمل بما يدعو الناس إليه، ولا يخالف قوله فعله؛ ليكون لقوله التأثير المطلوب في رفع المنكر واستجابة الناس له، ولهذا قال شعيب -عليه السلام- لقومه كما أخبرنا الله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88). وفي الحديث الشريف أن النبي -صلى الله عليه وسل م- قال: ((رأيت ليلة أسري به رجالًا تقرض شفاههم بالمقرايض، فقلت له: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم)). وقال البعض الآخر: العدالة ليست شرطًا، وإنما الشرط القدرة على إزالة المنكر؛ لأنه ما من أحد إلا ويصدر منه العصيان، والمعصية تثلم العدالة، فكيف يُشترط ما يتعذر التحقق في المسلم، ولهذا قال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى: "إذا كان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من لا يكون فيه شيء، لم يأمر أحد بشيء".

والراجح: عدم اشتراط العدالة في المحتسب من حيث المبدأ، ومن حيث الجملة دون التفصيل؛ لأن الاحتساب فرض كسائر الفروض الإسلامية، لا يتوقف القيام به على أكثر مما يتطلبه ويحتاجه هذا الفرض، وليس مما يتوقف عليه أن يكون المحتسب عدلًا بالاصطلاح المعروف عند الفقهاء؛ لأن ما يأمر به المحتسب أو ينهى عنه، هو من الأمور الحسنة المشروعة، والحق ينبغي أن يتبع ويقبل من قائله بغض النظر عن فعله وسلوكه، وما احتج به المشترطون لا حجة لهم فيه؛ لأن الذمَّ على من يأمر غيره بالمعروف وينسى نفسه إنما استحق هذا الذم بسبب ارتكابه ما نهى عنه، لا على نهيه على المنكر، وإن كان النهي على المنكر ممن يأتيه مستقبحًا في النفوس، كما أن أمره بالمعروف دلَّ على قوة علمه، وعقاب العالم وذمُّه إذا ارتكب المنكر أشد من الجاهل إذا ارتكب المنكر. وعليه، فإن الإنكار في قول الله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} إنما كان بسبب أنهم نسوا أنفسهم لا بسبب أنهم أمروا غيرهم بالمعروف. هذا هو رأينا في المسألة واشتراط العدالة في المحتسب، ومع ترجيحنا عدم اشتراط العدالة في المحتسب من حيث المبدأ والأصل إلا أن العدالة لها تأثير في بعض أنواع الحسبة وفي وجوبها أو عدم وجوبها، ومن ثم يكون لاشتراط العدالة وجه مقبول، وبيان ذلك أن الحسبة إذا كانت بالوعظ والإرشاد؛ فإن نفعها المرجو يحصل إذا كان المحتسب ورعًا تقيًّا عدلًا، حيث يكون لكلامه ووعظه عادة تأثير في الناس وقبول عندهم، فيتركون المنكر، وحيث كان نفع الحسبة مرجوًّا بالوعظ ولا ضرر للمحتسب منه؛ كانت الحسبة عليه واجبة. فيكون اشتراط العدالة في هذه الحالة لوجوب الحسبة اشتراطًا مقبولًا.

أما إذا كان المحتسب فاسقًا غير عدل، فالغالب أن وعظه لا يؤثر ولا يقبل فلا يفيد، وإذا لم ينفع وعظه لم تجب عليه الحسبة؛ لفقدان شرط وجوبها وهو العدالة. أما إذا كانت الحسبة بالقوة والقهر فالعدالة ليست شرطًا في المحتسب؛ لوجوب الحسبة عليه، إذ الشرط لوجوبها عليه القوة والقدرة وليست العدالة، ولأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ومع هذا التفصيل الذي بيناه، فإنه مما لا ريب فيه أن من المرغوب فيه بالنسبة لجميع المحتسبين أن يكون على أكبر قدر ممكن من العدالة، وتجنب ما يخدشها، وكلما كان المحتسب أكثر عدالة من غيره كان ذلك -كما قالوا- أزيد في توقيره، وأنفى للطعن في دينه، وتؤثر حسبته وتقبل، وإن كانت بالقوة والقهر. ومن شروط المحتسب: العلم، فيُشترط في المحتسب أن يكون عنده من العلم ما يستطيع أن يعرف المنكر فينهى عنه، ويعرف المعروف فيأمر به حسب الموازين الشرعية، وبهذا يكون احتسابه عن علم ومعرفة لا عن جهل وتخبط، وقد جاء في الأثر: "لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمر به فقيهًا فيما ينهى عنه"، ويدخل في حد العلم المطلوب علم المحتسب بمواقع الحسبة وحدودها، ومجاريها، وموانعها؛ ليقف عند حدود الشرع، ولكن هل يشترط في المحتسب أن يكون مجتهدًا؟ الجواب بالإيجاب إذا قلنا للمحتسب أن يحمل الناس على رأيه في الأمور المختلف فيها. أما إذا قلنا: ليس للمحتسب ذلك؛ فالاجتهاد ليس شرطًا، وإنما يكفي أن يكون عالمًا بالمنكرات المتفق عليها، وبالمعروف المتفق عليه، وعدم اشتراط الاجتهاد هو ما نرجحه.

ويقول الشيخ ابن عثيمين -رحمة الله عليه- في اشتراط العلم للمحتسب: "الأمر بالمعروف النهي عن المنكر يحتاج إلى أن يكون الإنسان عالمًا بالمعروف والمنكر، فإن لم يكن عالمًا بالمعروف؛ فإنه لا يجوز أن يأمر به؛ لأنه قد يأمر بأمر يظنه معروفًا وهو منكر ولا يدري، فلا بد أن يكون عالمًا أن هذا من المعروف الذي شرعه الله ورسوله، ولا بد أن يكون عالمًا بالمنكر، أي: عالمًا أن هذا منكر، فإن لم يكن عالمًا بذلك فلا ينهى عنه؛ لأنه قد ينهى عن شيء هو معروف، فيترك المعروف بسببه أو ينهى عن شيء وهو مباح، فيضيِّق على عباد الله بمنعهم بما هو مباح لهم، فلا بد أن يكون عالمًا بأن هذا منكر، وقد يتسرع كثير من إخواننا الغيورين، فينهون عن أمور مباحة يظنونها منكرًا، فيضيقون على عباد الله؛ فالواجب ألا تأمر بشيء إلا وأنت تدري أنه معروف، وألا تنهى عن شيء إلا وأنت تدري أنه منكر. كما يجب عليك أن تعلم بأن هذا الرجل تارك للمعروف، أو فاعل للمنكر، ولا تأخذ الناس بالتهمة أو بالظن، فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} (الحجرات: 12)، فإذا رأيت شخصًا لا يصلي معك في المسجد؛ فلا يلزم من ذلك أنه لا يصلي في مسجد آخر، بل قد يكون يصلي في مسجد آخر، وقد يكون معذورًا، فلا تذهب من أجل أن تُنكر عليه حتى تعلم أنه يتخلف بلا عذر، نعم، لا بأس أن تذهب وتسأله وتقول: يا فلان نحن نفقدك بالمسجد لا بأس عليك، لعل المانع خير، أما أن تنكر أو أشد من ذلك أن تتكلم في المجالس، فهذا لا يجوز؛ لأنك لا تدري ربما يكون يصلي في مسجد آخر، أو يكون معذورًا في التخلف عن الجماعة؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستفهم أولًا قبل أن يأمر، فقد ثبت في (صحيح مسلم): ((أن رجلًا دخل يوم الجمعة والنب ي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فجلس ولم يصلِّ تحية المسجد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصلِّ ركعتين))، ولم

يأمره أن يصلي ركعتين حتى سأله هل صلى أم لا، مع أن ظاهر الحال أنه رجل دخل وجلس ولم يصل، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسل م- خاف أن يكون قد صلى وهو لم يشعر به، فقال: ((أصليت، فقال: لا، قال: قم فصل ركعتين)). كذلك في المنكر لا يجوز أن تُنكر على شخص إلا إذا علمت أنه وقع في المنكر، فإذا رأيت مع شخص امرأة في سيارة مثلًا، فإنه لا يجوز أن تتكلم عليه أو على المرأة؛ لأنه ربما تكون هذه المرأة من محارمه زوجة، أو أمًّا، أو أختًا، أو ما أشبه ذلك؛ حتى تعلم أنه قد أركب معه امرأة ليست من محارمه، وأمثال هذا كثير، والمهم أنه لا بد من علم الإنسان أن هذا معروف ليأمر به، أو منكر لينهى عنه، ولا بد أن يعلم أيضًا أن الذي وجه إليه الأمر أو النهي قد وقع في أمر يحتاج إلى أمر فيه أو نهي عنه. وهل يُشترط في المحتسب أن يكون عارفًا بالصنائع الدنيوية والمهن والحرف التي يباشرها الناس؟ الواقع أن هذا التساؤل وراد؛ لأن عمل المحتسب يشمل مراقبة هذه المهن، والحرف ليتأكد من عدم غش أصحابها واحتيالهم، وإضرارهم بالناس؛ فقد ذكر الفقهاء أن على المحتسب أن يراقب أصحاب المهن والصنائع المختلفة، ويمنعهم من الغش فيها، كما يمنع مباشرتها من قبل الجُهَّال بها، ومن البديهي أن هذا لا يتأتَّى للمحتسب إلا إذا كان عارفًا بهذه الصنائع والحرف؛ بل ذهب الفقهاء إلى أن المحتسب يمتحن بعض أصحاب المهن العلمية كطبيب العيون، ليتأكد من صلاحيته لهذه المهنة، وهذا يستلزم معرفة المحتسب لهذا الجانب من العلم. قال الفقيه عبد الرحمن النصر الشيزاري: "وأما الكحالون -يعني: أطباء العيون- فيمتحنهم المحتسب، فمن وجده فيمن امتحنه عارفًا بتشريح عدد

طبقات العين سبعة، وكان خبيرًا بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير؛ أذن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس". كما صرح الفقهاء بضرورة معرفة المحتسب بالأوزان ونحوها فمن أقوالهم: لما كانت هذه -أي: القناطير، الأرطال، والمثاقيل، الدراهم- أصول المعاملات، وبها اعتبار المبيعات؛ لزم المحتسب معرفتها، وتحقيق كميتها؛ لتقع المعاملة بها من غير غُبنٍ على الوجه الشرعي. وعلى هذا يجب على المحتسب أن يعرف ما يحتسبه فيه من المهن والحرف والصنائع، لكن يمكن أن يقال: إن إلزام المحتسب معرفة هذه الأشياء كلها أو أكثرها، بل وحتى بعضها مما يشقُّ عليه ويعسر، ولهذا نرى أن وجوب هذه المعرفة في المحتسب يمكن أن تحقق باستعانته بذوي الخبرة بهذه الأشياء؛ سواء كان هؤلاء الخبراء من أعوانه الدائمين أو من غيرهم، فيستشيرهم فيما يتحسب فيه من شئون هذه المهن والحرف والصنائع، ويأخذ بأقوالهم ما داموا أمناء ثقاتًا. ويشترط أيضًا في المحتسب: القدرة: أن يكون قادرًا على الاحتساب باليد واللسان، وإلا وقف عند الإنكار القلبي، وهذا اشرط مفهوم فيمن يقوم بالاحتساب من تلقاء نفسه، وبدون تعيين من ولي الأمر. أما المعين فإن القدرة حاصلة فيه؛ لأن الدولة معه، هذا ولا يقف سقوط وجوب الحسبة على العجز الحسي، بل يلحق به ما يخاف من المكروه الذي ينزل به ولا يطيقه على ما بيَّنه الفقهاء،

آداب المحتسب.

آداب المحتسب أول ما يجب على المحتسب أن يعمل بما يعلم، ولا يكون قوله مخالفًا لفعله، فقد قال الله -تبارك وتعالى- في ذم بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44)، وخاطبنا الله نحن المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2، 3). وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسل م- أنه قال: ((رأيت ليلة أسري بي رجالًا تُقرض شفاههم بالمقاريض، فقلت له: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم)). وقد قال الله تعالى مخبرًا عن شعيب -عليه السلام- لما نهى قومه عن بخس الموازين ونقص المكاييل: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (هود: 88). وقد قال القائل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ويجب على المحتسب أن يقصد بقوله وفعله وجه الله تعالى، وطلب مرضاته، خالص النية لا يشوبه في طويته رياء ولا مراء، ويتجنب في رياسته منافسة الخلق، ومفاخرة أبناء الجنس؛ لينشر الله عليه رداء القبول، وعلم التوفيق، ويقذف له في القلوب مهابة، وجلالة، ومبادرة إلى قبول قوله بالسمع والطاعة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسل م-: ((من أرضى الله بسخط الناس كفاه شرهم، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله إليهم، ومن أحسن فيما بينه وبين الله أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه)).

وقد ذُكر أن أتابك سلطان دمشق طلب محتسبًا، فذُكر له رجلٌ من أهل العلم، فأمر بإحضاره فلما نظره قال: "إني وليتك أمر الحسبة على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: إن كان الأمر كذلك فقم عن هذه الطُّرَّاحة -مرتبة يجلس عليها السلطان- وارفع هذا المسند، فإنهما حرير، واخلع هذا الخاتم فإنه ذهب، وقد قال -صلى الله عليه وسل م-: ((هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها))، فنهض السلطان عن طراحته وأمر برفع المسند، وخلع الخاتم من أصبعه، وقال: ضممت إليك النظر في أمور الشرطة، فما رأى الناس محتسبًا أهيب منه". وينبغي للمحتسب أن يكون مواظبًا على سنن رسول الله -صلى الله عليه وسل م- من قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظافر، ونظافة الثياب، وتقصيرها، والتعطر بالمسك، ونحوه، وجميع سنن الشرع ومستحباته، هذا مع القيام على الفرائض والسنن الراتبة؛ فقد نقل عن بعض أصحاب مذهب الشافعي -رضي الله عنه-: "أن العدل إذا أصر على ترك السنن الراتبة؛ كان ذلك قادحًا في عدالته". وقد حُكي أن رجل حضر عند السلطان محمود بمدينة غزنة يطلب الحسبة، فنظر السلطان فرأى شاربه قد غطى فاه من طوله، وأذياله تسحب على الأرض، فقال السلطان للشيخ: "يا شيخ امضِ واحتسب على نفسك، ثم عُد واطلب الحسبة على غيرك". يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في ضرورة الإخلاص لله، والتمسك بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسل م- في حق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يقول: "وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال، وأفضلها، وأحسنها، وقد قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك: 2)، وقد قال الفضيل بن عياض في تفسير هذه الآية: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال: يعني: أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصًا، ولم

يكن صوابًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة". فالعمل الصالح لا بد أن يُراد به وجه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده، كما في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسل م- قال: ((يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه غيري، فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشرك)). وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به جميع رسوله، وله خلق الخلق، وهو حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، ولا بد مع ذلك أن يكون العمل صالحًا وهو ما أمر الله به ورسوله، وهو الطاعة، فكل طاعة عمل صالح، وكل عمل صالح طاعة، وهو العمل المشروع المسنون؛ إذ المشروع المسنون هو المأمور به أمر إيجاب أو استحباب، وهو العمل الصالح، وهو الحسن، وهو البر، وهو الخير، وضده المعصية، والعمل الفاسد، والسيئة، والفجور، والظلم. ولما كان العمل لا بد فيه من شيئين النية والحركة، قال النبي -صلى الله عليه وسل م-: ((أصدق الأسماء حارث وهمام))، فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية، لكن النية المحمودة التي يتقبلها الله ويثيب عليها أن يُراد الله بذلك العمل، والعمل المحمود الصالح، وهو المأمور به، ولهذا كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول في دعائه: "اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا". وإذا كان هذا حد كل عمل صالح، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون هكذا في حق نفسه، ولا يكون عمله صالحًا إن لم يكن بعلم وفقه،

وكما قال عمر بن عبد العزيز: "من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح"، وكما قال معاذ بن جبل: "العلم إمام العمل، والعمل تابعه"، وهذا ظاهر، فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلًا وضلالًا واتباعًا للهوى، وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام، فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهي، ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والصلاح بالصراط المستقيم، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود. ومن آداب المحتسب: تقليل العلائق: رُوي عن بعض المشايخ أنه كان له قط، وكان يأخذ له كل يوم من الجزار شيئًا لغذائه، فرأى على الجزار منكرًا فدخل الدار، وأخرج القط، ثم جاء واحتسب على الجزار، فقال الجزار: لا أعطيك بعد اليوم شيئًا للقط، فقال الشيخ: ما احتسبت عليك إلا بعد إخراج القط، وقطع الطمع منك، ويجب أن يلزم غلمانه وأعوانه بما التزمه من هذه الشروط، فإن أكثر ما تتطرق التهم إلى المحتسب من غلمانه وأعوانه، فإن علم أن أحدًا منهم أخذ رشوة أو قبل هدية؛ صرفه عنه لينفي عنه الظنون، وتنجلي عنه الشبهات، فإن ذلك أزيد لتوقيره وأتقى للطعن في دينه. وليكن سمته الرفق ولين القول، وطلاقة الوجه وسهولة الأخلاق عند أمره الناس ونهيه، فإن ذلك أبلغ في استمالة القلوب وحصول المقصود، قال الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسل م-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159). ولأن الإغلاظ في الزجر ربما أغرى بالمعصية، والتعنيف بالموعظة ينفر القلوب. حُكي أن رجلًا دخل على المأمون فأمره بمعروف ونهاه عن منكر، وأغلظ له

في القول، فقال له المأمون: يا هذا إن الله أرسل من هو خير منك لمن هو شر مني، فقال لموسى وهارون -عليهما السلام-: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43، 44)، ثم أعرض عنه ولم يلتفت إليه. ولأن الرجل قد ينال بالرفق ما لا ينال فيما يأمر به من غير الرفق، يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في الفرق بين المحتسب الرفيق والعنيف: "يُذكر أن رجلًا من أهل الحسبة -يعني: من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر- في زمان مضى قديمًا مر على شخص يسقي إبله عند أذان المغرب، وعادة الناس أن يحدوا بالإبل -يعني: ينشد لها شعرًا من أجل أن تخف وتسرع؛ لأنه -سبحان الله- الإبل تطرب لناشدي الشعر- فجاء هذا الرجل ومعه غيره وتكلم على هذا بكلام قبيح على العامل الذي يسقي الماء، والعامل متعب من الشغل، وضاقت عليه نفسه، فضرب الرجل بالمسوقة -يقول الشيخ: وهي عصى طويلة متينة- فشرد الرجل وذهب إلى المسجد، والتقى بالشيخ عالم من العلماء من أحفاد الشيخ محمد بن الوهاب -رحمه الله- وقال: إني فعلت كذا وكذا، وإن الرجل ضربني بالمسوقة، فلما كان من اليوم الثاني ذهب الشيخ بنفسه إلى المكان قبل غروب الشمس وتوضأ، ووضع عباءته على خشبة حوله، ثم أذن المغرب فوقف كأنه يريد أن يأخذ عباءته، فقال له: يا فلان يا أخي جزاك الله خيرًا، أنت تتطلب الخير في العمل هذا، وأنت على خير، لكن الآن أذن للصلاة، لو أنك تذهب وتصلي المغرب وترجع ما فاتك شيء، سبحان الله الكلام هين لين، فقال العامل للشيخ: جزاك الله خيرًا مر عليَّ رجل أمس جلف، وقام ينتهرني، وقال لي: أنت فيك ما فيك، وما ملكت نفسي حتى ضربته بالمسوقة، قال: الأمر لا يحتاج

إلى ضرب أنت عاقل، تكلم معه بكلام لين، فأسند المسوقة العصى التي يضرب بها الإبل، ثم ذهب يصلي بانقياد، وكان هذا؛ لأن الأول عامله بالعنف والثاني عامله بالرفق". ونحن وإن لم تحصل هذه القصة هذه الواقعة، فكلام رسول الله -صلى الله عليه وسل م- يكفينا، ففي الحديث أنه -صلى الله عليه وسل م- قال: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه))، وقال -صلى الله عليه وسل م-: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه))، فعلى الآمر أن يحرص على أن يكون أمره ونهيه رفيقًا. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 5 المحتسب (2).

الدرس: 5 المحتسب (2).

أهمية العمل بالعلم للمحتسب.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (المحتسب (2)) أهمية العمل بالعلم للمحتسب إن الحمد الله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد: نؤكد على ضرورة عمل المحتسب بعلمه، واجتهاده في القيام بالواجبات، وتركه المحرمات، واجتهاده بعد ذلك في فعل المندوبات، وترك المكروهات حتى تؤثر دعوته في النفوس، وتؤتي أكلها وثمارها، فإن الدعوة بالسلوك أكثر تأثيرًا في النفوس؛ ولذلك قيل: عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل. فعلى المحتسب أن يعلم أن العمل بالعلم واجب، وأن من لم يعمل بما علم عذب. وقد كثرت في ذلك النصوص من الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة. قال الخطيب البغدادي -رحمه الله- في كتاب (اقتضاء العلم العمل) بعد أن حمد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه؛ فإن العلم شجرة، والعمل ثمرة، وليس يعد عالمًا من لم يكن بعلمه عاملًا، وقيل: العلم والد، والعمل مولود، والعلم مع العمل، والرواية مع الدراية. فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشًا من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصرًا في العمل، ولكن اجمع بينهما، وإن قَلَّ نصيبك منهما، وما شيء أضعف من عالم، ترك الناس علمه لفساد طريقته، وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته، والقليل من هذا مع القليل من هذا أنجى في العاقبة؛ إذا تفضل الله بالرحمة، وتمم على عبده النعمة. فأما المدافعة، والإهمال، وحب الهوينى، والاسترسال، وإيثار الخفض والدعة، والميل مع الراحة والسعة، فإن خواتم هذه الخصال ذميمة، وعقباها كريهة وخيمة.

والعلم يراد للعمل، كما العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصرًا عن العلم، كان العلم كَلًا على العالم، ونعوذ بالله من علم عاد كلًّا، وأورث ذلًّا، وصار في رقبة صاحبه غِلًّا. قال بعض الحكماء: العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلولا العمل لم يطلب علم، ولولا العلم لم يطلب عمل، ولأن أدع الحق جهلًا به أحب إلي من أن أدعه زهدًا فيه. وقال سهل بن مزاحم: الأمر أضيق على العالم من عقد التسعين، مع أن الجاهل لا يعذر بجهالته، لكن العالم أشد عذابًا إذا ترك ما علم فلم يعمل به. قال الشيخ -رحمه الله-: وهل أدرك من السلف الماضين الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد، والعمل الصالح، والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا؟ وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إلا بالتشمير في السعي والرضا بالميسور، وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم؟ وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب؟ وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما؟ وهل المغرم بحبها إلا ككانزهما؟ وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها، كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها، فلينظر امرؤ لنفسه، وليغتنم وقته، فإن الثواء قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمعاد {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8) ". والأدلة على ضرورة العمل بالعلم كثيرة جدًّا، ومما يدل على أهمية العمل بالعلم، وتأثير سلوك المحتسب في حسبته على الناس أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لم

يقتصروا على تعليم أممهم أمور الدين فحسب، بل أمروهم كذلك بأن يكونوا كاملين في العلم والعمل، وأن يعلموا الناس طرق الخير، قال الله -عز وجل-: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران: 79). ومما نستفيده من هذه الآية الكريمة: أن الأنبياء -عليهم السلام- كانوا يأمرون الناس بأن يكونوا ربانيين، والمراد بالرباني كما قال الإمام سعيد بن جبير: "العالم الذي يعمل بعلمه". وقال الإمام أبو عبيدة: "هذه الكلمة -الرباني- تدل على الإنسان الذي علم، وعمل بما علم، واشتغل بتعليم طرق الخير". ونقل الشيخ محمد جمال الدين القاسمي في تفسير قول الله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} قول بعض المفسرين فقال: "أي منسوبين إلى الرب؛ لاستيلاء الربوبية عليهم، وطمس البشرية بسبب كونهم عالمين، عاملين، معلمين، تالين لكتاب الله، والمعنى: كونوا عابدين مرتاضين بالعلم، والعمل، والمواظبة على الطاعات؛ حتى تصيروا ربانيين بغلبة النور على الظلمة". ومما يدل على أهمية العمل بالعلم، وأهمية سلوك المحتسب في الدعوة إلى الله تعالى: أن الله -عز وجل- أثنى على من جمع بين الحسبة والقدوة، وكذلك رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم، فبين الله -تبارك وتعالى- أن من جمع بين الحسبة والقدوة، والإعلام بإسلامه هو أحسن الناس قولًا، فقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33). فدلت الآية الكريمة كما قال الرازي على أن أحسن الأقوال قول من جمع بين خصال ثلاثة:

أولها: الدعوة إلى الله تعالى. وثانيها: العمل الصالح. وثالثها: أن يكون من المسلمين. ولا شك أن الموصوف بتلك الخصال أشرف الناس، وأفضلهم، وكمال الدرجة فيها ليس إلا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم. وقال الحافظ ابن كثير في تفسير ما جاء عن الخصلة الثانية: {وَعَمِلَ صَالِحًا}: "أي هو في نفسه مهتد بما يقوله، فنفعه لنفسه ولغيره، لازم ومتعد، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف، ولا يأتونه، وينهون عن المنكر، ويأتونه، بل يأتمر بالخير، ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق -تبارك وتعالى. وقد شبه النبي -صلى الله عليه وسلم- العالم العامل المعلم لغيره بالأرض الطيبة، تستفيد وتفيد غيرها. فروى الشيخان عن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا، وسقوا، وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)). ففي هذا الحديث الشريف شبه النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- ما بعثه الله تعالى به من الهدى والعلم بالغيث الكثير، وشبه العالم العامل بعلمه، والمعلم لغيره بأرض طيبة تستفيد من الغيث الكثير؛ حيث تشرب الماء، وتفيد غيرها؛ حيث تنبت الكلأ، والعشب الكثير".

أهمية العمل بالعلم للمحتسب من القرآن والسنة والشعر.

وقد نقل الحافظ ابن حجر عن الإمام القرطبي وغيره أنهم قالوا في شرح الحديث: "ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء به من الدين مثلًا بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم، فهو بمنزلة الأرض الطيبة، شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت، فنفعت غيرها". ومما يدل على أهمية العمل بالعلم، وأثر السلوك في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-: ما ثبت من استعاذة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- من علم لا ينفع، فقد روى الإمام مسلم عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: ((لا أقول إلا كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)). وروى الإمام النسائي عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ من أربع: من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع)). أهمية العمل بالعلم للمحتسب من القرآن والسنة والشعر ومما يدل على أهمية العمل بالعلم للمحتسب وأثره في الدعوة إلى الله تعالى: ما ورد من توبيخ، وتقريع لمن خالف عمله قوله في الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، وأقوال أهل العلم، وكلام الشعراء؛ فأما ما جاء في ذم من خالف فعله قوله في الكتاب العزيز: فمنه قول الله -تبارك وتعالى-: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44).

ففي هذه الآية الكريمة وبخ الله -سبحانه وتعالى- أهل الكتاب الذين يأمرون الناس بالمعروف، ولا يفعلونه. قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: "كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمرون بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله، أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتتنبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم". وقال القاضي البيضاوي في تفسير الآية: "والآية ناعية على من يعظ غيره، ولا يتعظ بنفسه سوء صنيعه، وخبث نفسه، وأن فعله فعل الجاهل بالشرع، أو الأحمق الخالي عن العقل، فإن الجامع بينهما تأبى عنه شكيمته". قال الله -تبارك وتعالى-: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5). قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في تفسير الآية: "فقاس من حمله -سبحانه- كتابه؛ ليؤمن به، ويتدبره، ويعمل به، ويدعو إليه، ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقراءته بغير تدبر، ولا تفهم، ولا اتباع له، ولا تحكيم له، وعمل بموجبه، كحمار على ظهره زاملة أسفار، لا يدري ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا، فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره". ثم قال -رحمه الله-: "فهذا المثل، وإن كان قد ضرب لليهود، فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به، ولم يؤد حقه، ولم يرعه حقه رعايته".

وقال -عز وجل-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف: 175، 176) فشبه الله تعالى من علمه العلم، فترك العمل به بالكلب. قال الإمام ابن القيم: "فشبه -سبحانه وتعالى- من آتاه كتابه، وعلمه العلم الذي منعه غيره، فترك العمل به، واتبع هواه، وآثر سخط الله تعالى على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق، شبهه بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات، وأوضعها قدرًا، وأخسها نفسًا، وهمته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرا وحرصًا". وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2، 3)، فأنكر -عز وجل- على أهل الإيمان أن يقولوا ما لا يفعلونه، وبين -سبحانه وتعالى- أن هذا سبب غضبه الشديد، ومقته الكبير. قال الإمام الشوكاني في تفسيره: " {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي: لم تقولون من الخير ما لا تفعلونه؟ ". وقال القاضي البيضاوي في تفسيره: " {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} المقت: أشد البغض، ونصبه على التمييز؛ للدلالة على أن قولهم هذا مقت خالص، كبر عند من يحقر عنده كل عظيم؛ مبالغة في المنع عنه". ومما يجب التنبه له في هاتين الآيتين الكريمتين: أن الله -عز وجل- ناداهم بوصف الإيمان؛ ولعل ذلك كان تعريضًا بأن الإيمان من شأنه أن يزع المؤمن عن مخالفة فعله قوله، والله تعالى أعلم.

أما السنة: فقد ورد فيها من الترهيب من عدم العمل بالعلم، ومخالفة القول الفعل الكثير والكثير؛ فعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)). وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فتجتمع أهل النار عليه فيقولون: يا فلان، ما شأنك؟ ألست كنت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر، وآتيه)). ومن حديث أسامة بن زيد أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون)). وفي رواية: ((يقرءون كتاب الله، ولا يعملون به)). وعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه))، وفي رواية: ((ما تُزال قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه)). وعن أبي برزة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء على الناس، وتحرق نفسها)).

وعن جندب بن عبد الله الأزدي -رضي الله عنه- صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه، كمثل السراج يضيء للناس، ويحرق نفسه)). وعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان)). وعن زياد بن لبيد -رضي الله عنه- قال: ((ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا فقال: ذاك عند أوان ذهاب العلم. قال: قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم، ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: ثكلتك أمك زياد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟!)). ومما نجده في هذا الحديث الشريف: أن النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- قرر أن وقت ترك العمل بالعلم هو وقت اندراس العلم، كما قرر -صلى الله عليه وسلم- أن اليهود والنصارى رغم قراءتهم التوراة والإنجيل جاهلون؛ لأنهم لا يعملون وفق علمهم. قال الإمام الطيبي في شرح الحديث: "قوله: ((لا يعملون بشيء)) حال من فاعل ((يقرءون)) يعني: يقرءون التوراة والإنجيل غير عاملين بشيء مما فيهما. نزل العالم الذي لم يعمل بعلمه منزلة الجاهل، بل هو بمنزلة الحمار الذي يحمل أسفارًا. وأما أقوال السلف -رضوان الله عليهم- في الحث على العمل بالعلم، والتحذير من مخالفة القول الفعل، وترك العمل بالعلم؛ فقد قال يوسف: بالأدب تفهم

العلم، وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة تفهم الزهد، وتوفق له، وبالزهد تترك الدنيا، وبترك الدنيا ترغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال رضا الله -عز وجل. وعن جعفر بن محمد بن نصير أن أبا العباس الحلواني أخبره قال: سمعت أبا القاسم الجنيد يقول: متى أردت أن تُشَرَّف بالعلم، وتنسب إليه، وتكون من أهله قبل أن تعطي العلم ما له عليك احتجب عنك نوره، وبقي عليك رسمه وظهوره، ذلك العلم عليك لا لك؛ وذلك أن العلم يشير إلى استعماله، فإذا لم تستعمل العلم في مراتبه رحلت بركاته. وعن أحمد بن الحسين بن أحمد الواعظ قال: سمعت أبا عبد الله الرُّذْبادي يقول: "من خرج إلى العلم يريد العلم لم ينفعه العلم، ومن خرج إلى العلم يريد العمل بالعلم نفعه قليل العلم". قال: وسمعت أبا عبد الله الرذبادي يقول: "العلم موقوف على العمل، والعمل موقوف على الإخلاص، والإخلاص لله يورث الفهم عن الله -عز وجل". وعن مالك بن دينار قال: "إن العبد إذا طلب العلم للعمل كسره علمه، وإذا طلبه لغير ذلك ازداد به فجورًا، أو فخرًا". وعنه قال: "من تعلم العلم للعمل كسره علمه، ومن طلبه لغير العمل زاده فخرًا". وعن مطر قال: خير العلم ما نفع، وإنما ينفع الله بالعلم من علمه، ثم عمل به، ولا ينفع به من علمه، ثم تركه. وعن حبيب بن عبيد الرحبي قال: "تعلموا العلم، واعقلوه، وانتفعوا به، ولا تعلموه؛ لتتجملوا به؛ فإنه يوشك إن طال بكم العمر أن يتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه".

وقال أبو سعيد الخراز: "العلم ما استعملك، واليقين ما حملك". وعن صالح بن رستم قال: "قال لي أبو قلابة: إذا أحدث الله لك علمًا، فأحدث له عبادة، ولا يكن همك أن تحدِّث به الناس". وعن الحسن قال: "همة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرواية". وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل". وعن ابن المنكدر قال: "العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل". وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "ما علم الله عبدًا علمًا إلا كلفه يوم القيامة ضماره من العمل". وقال فضيل بن عياض -رحمه الله-: "لا يزال العالم جاهلًا بما علم حتى يعمل به، فإذا عمل به كان عالمًا"، وقال -رحمه الله-: "إنما يراد من العلم العمل، والعلم دليل العمل". وقال أيضًا: "على الناس أن يتعلموا، فإذا علموا فعليهم العمل". وقال عبد الله بن المعتز: "علم بلا عمل كشجرة بلا ثمرة". وقال أيضًا: "علم المنافق في قوله، وعلم المؤمن في عمله". وعن منصور بن زاذان قال: "نبئت أن بعض من يلقى في النار ليتأذى أهل النار بريحه، فيقال له: ويلك ما كنت تعمل؟ ما يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك ونتن ريحك؟ قال: فيقول: إني كنت عالمًا فلم أنتفع بعلمي".

وعن يحيى بن معاذ الرازي قال: مسكين من كان علمه حجيجه، ولسانه خصيمه، وفهمه القاطع بعذره. وقيل لبعضهم: ألا تطلب العلم؟ فقال: خصومي من العلم كثير فلا أزداد. وقال سُرِّي: كلما ازددت علمًا كانت الحجة عليك أوكد. وقال محمد بن أحمد بن سمعون الواعظ: "كل من ينظر بالعلم فيما لله عليه، فالعلم حجة عليه ووبال". قال أبو حامد الغزالي -رحمه الله-: إنما يضاعف عذاب العالم في معصيته؛ لأنه عصى عن علم؛ ولذلك قال الله -عز وجل-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء: 145)؛ لأنهم جحدوا بعد العلم. وجعل اليهود شرًّا من النصارى، مع أنهم ما جعلوا لله -سبحانه- ولدًا، ولا قالوا: إنه ثالث ثلاثة، إلا أنهم كفروا بعد المعرفة، إذ قال الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (البقرة: 146) وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة: 89)، وقال تعالى في قصة بلعام: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} حتى قال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} فكذلك العالم الفاجر، فإن بلعام أوتي كتاب الله تعالى؛ فأخلد إلى الشهوات، فشبه بالكلب أي: سواء أوتي الحكمة، أو لم يؤت، فهو يلهث إلى الشهوات. وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "بلغني أن الفسقة من العلماء يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان".

وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "ويل لمن لا يعلم مرة، وويل لمن يعلم، ولا يعمل سبع مرات". وقال الشعبي: "يطلع يوم القيامة قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار، فيقولون لهم: ما أدخلكم النار، وإنما أدخلنا الله الجنة بفضل تأديبكم، وتعليمكم؟ فيقولون: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله، وننهى عن الشر ونفعله". وقال حاتم الأصم -رحمه الله-: "ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علم الناس علمًا فعملوا به، ولم يعمل هو به، ففازوا بسببه، وهلك هو". وقال مالك بن دينار: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا". وقال إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: "مررت بحجر بمكة مكتوب عليه: اقلبني تعتبر، فقلبته فإذا عليه مكتوب: أنت بما تعلم لا تعمل، فكيف تطلب علم ما لم تعمل؟ ". قال ابن السماك -رحمه الله-: "كم من مذكر بالله ناسٍ لله، وكم من مُخَوِّف بالله جريء على الله، وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله، وكم من داع إلى الله فار من الله، وكم من تال كتاب الله منسلخ عن آيات الله". وقال إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: لقد أعربنا في كلامنا فلم نلحن، ولحنا في أعمالنا فلم نعرب". وقال الأوزاعي: "إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع". وقال عيسى -عليه السلام-: ((مثل الذي يتعلم العلم ولا يعمل به كمثل امرأة زنت في السر فحملت؛ فظهر حملها فافتضحت، فكذلك من لا يعمل بعلمه يفضحه الله تعالى يوم القيامة على رءوس الأشهاد)).

وقال معاذ -رحمه الله-: "احذروا زلة العالم؛ لأن قدره عند الخلق عظيم، فيتبعونه على زلته". وقال عمر -رضي الله عنه-: "إذا زل العالم زل بزلته عالَم من الخلق". وقال عمر -رضي الله عنه-: "ثلاث بهن ينهدم الزمان؛ إحداهن: زلة العالم". وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "سيأتي على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب، فلا ينتفع بالعلم يومئذ عالمه، ولا متعلمه، فتكون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح، ينزل عليها قطر السماء، فلا يوجد لها عذوبة، وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا، وإيثارها على الآخرة، فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابيع الحكمة، ويطفئ مصابيح الهدى من قلوبهم؛ فيخبرك عالمهم حين تلقاه أنه يخشى الله بلسانه، والفجور ظاهر في عمله، فما أخصب الألسن يومئذ، وما أجدب القلوب، فوالله الذي لا إله إلا هو ما ذلك إلا لأن المعلمين علموا لغير الله تعالى، والمتعلمين تعلموا لغير الله تعالى". وفي التوراة والإنجيل مكتوب: "لا تطلبوا علم ما لم تعلموا حتى تعملوا بما علمتم". وقال حذيفة -رضي الله عنه-: "إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك، وسيأتي زمان من عمل فيه بعشر ما يعلم نجا؛ وذلك لكثرة البطالين". قال أبو حامد الغزالي -رحمه الله-: واعلم أن مثل العالم مثل القاضي، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((القضاة ثلاثة: قاضٍ قضى بالحق وهو يعلم، فذلك في الجنة، وقاضٍ قضى بالجور وهو يعلم، أو لا يعلم فهو في النار، وقاضٍ قضى بغير ما أمر الله به، فهو في النار)).

وقال كعب -رحمه الله-: ي"كون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا، ولا يزهدون، ويخوفون الناس ولا يخافون، وينهون عن غشيان الولاة ويأتونهم، ويؤثرون الدنيا على الآخرة، يأكلون بألسنتهم، يقربون الأغنياء دون الفقراء، يتغايرون على العلم كما تتغاير النساء على الرجال، يغضب أحدهم على جليسه إذا جالس غيره، أولئك الجبارون أعداء الرحمن". وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم الخشية". وقال الحسن: "تعلموا ما شئتم أن تعلموا، فوالله لا يأجركم الله حتى تعملوا، فإن السفهاء همتهم الرواية، والعلماء همتهم الرعاية". وقال مالك -رحمه الله-: "إن طلب العلم لحسن، وإن نشره لحسن إذا صحت فيه النية، ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي، فلا تؤثرن عليه شيئًا". وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذتم دراسته عملًا، وسيأتي قوم يخطفونه مثل القناة، ليسوا بخياركم، والعالم الذي لا يعمل كالمريض الذي يصف الدواء، وكالجائع الذي يصف لذائذ الأطعمة، ولا يجدها". ومما يدل على أهمية العمل بالعلم، وأثره على المحتسب، وفي احتسابه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن العبد سيسأل يوم القيامة عن علمه ماذا عمل فيه، وقد كان سلف الأمة -رضوان الله عليهم- يخشون هذه المساءلة، فروى الإمام الدارمي عن مالك بن دينار، قال: قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "من يزدد علمًا يزدد وجعًا". وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "ما أخاف على نفسي أن يقال لي: ما علمت؟ ولكن أخاف أن يقال لي: ماذا عملت؟ ".

وروى الإمام البيهقي عن لقمان -يعني: ابن عامر- قال: كان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رءوس الخلائق، فيقول لي: يا عويمر. فأقول: لبيك ربي فيقول: ما عملت فيما علمت؟ ". وقال الإمام الحسن البصري -رحمه الله-: "إذا كنت آمرًا بالمعروف، فكن من آخذ الناس به، وإلا هلكت، وإذا كنت ممن ينهى عن المنكر، فكن من أنكر الناس له، وإلا هلكت". قال ابن النحاس -رحمه الله- في (تنبيه الغافلين): "والأحاديث والآثار في ذم علماء السوء، وتوبيخ من لم يعمل بعلمه، ومن خالف قوله عمله كثيرة جدًا، وهي ناطقة بأن من أمر بما لا يفعل أشر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، وأن العلماء الفجرة هم الأخسرون إذ ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وأن حجتهم داحضة عند ربهم؛ لما وهبهم من علمه نعمة منه عليهم، فكفروا نعمته، وخالفوا أمره، ولا يخفى عن ذي لب أن ملكًا من الملوك لو أرسل كتابه بأمر من الأمور إلى عبد من عبيده لا يعرف الكتابة، وليس عنده من يعرفه بما فيه فخالف أمره، لا يكون ذنبه عنده كمن أمكنه أن يقرأه، أو يسأل من يقرؤه؛ ليعرف ما فيه فيمتثله، فترك ذلك، وخالف ما فيه جاهلًا به، ولا يكون جرم هذا كجرم من قرأه، وفهمه، وكرر قراءته غير مرة، ثم خالف ما أمره به سيده ومولاه، وعمل بعكسه، لا جرم كان هذا العبد عنده أحق العبيد بأليم عذابه، وأولاهم بعظيم سخطه، وأقربهم إلى إبعاده وطرده؛ ولهذا جعل الله تعالى المنافقين في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم جحدوا بعد العلم، وتأمل قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة: 204، 205).

وعن عمران بن أبي الجعد قال: قال عبد الله بن مسعود: "إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله، فإنما يوبخ نفسه". وعن الحسن قال: "اعتبروا الناس بأعمالهم، ودعوا أقوالهم، فإن الله لم يدع قولًا إلا جعل عليه دليلًا من عمل يصدقه أو يكذبه، فإذا سمعت قولًا حسنًا فرويدًا بصاحبه، فإن وافق قوله فعله فنعم، ونعمت عين". وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد قال: "أدركت الناس، وما يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل". وقال المأمون: "نحن إلى أن نوعظ بالأعمال، أحوج منا أن نوعظ بالأقوال". وروي عن علي -رضي الله عنه- قال: "يا حملة العلم، اعملوا به، فإنما العالم من علم، ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقًا فيباهي بعضهم بعضًا، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله -عز وجل". وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كونوا للعلم وعاة، ولا تكونوا له رواة، فإنه قد يرعوي، ولا يروي، ولا يرعوي". وذكر ابن وهب عن معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن أبي الدرداء قال: "لا تكون تقيًّا حتى تكون عالمًا، ولا تكون بالعلم جميلًا حتى تكون به عاملًا".

قال أبو عمر: مِن قول أبي الدرداء هذا -والله أعلم- أخذ القائل قوله: كيف هو متقي ولا يدري ما يتقي؟ وعن الحسن قال: العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله فذاك. ومن الأشعار في ذم عدم العمل بالعلم، ومخالفة القول الفعل: قول أبي العتاهية: وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى ... وريح الخطايا من ثناياك تسطع= ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزهد الناس ولا يزهد لو كان في تزهيده صادقًا ... أضحى وأمسى بيته المسجد أن يرفض الدنيا فما باله ... يستملح الناس ويسترفد الرزق مقسوم على من ترى ... يسعى به الأبيض والأسود وعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: "أشكو إلى الله عيبي ما لا أترك، ونعتي ما لا آتي". وقال: "إنما يبكي بالدين للدنيا". وقال عبد الله بن عروة في هذا المعنى شعرًا: يبكون بالدين للدنيا وبهجتها ... أرباب دين عليها كلهم صادي لا يعملون لشيء من معادهم ... تعجلوا حظهم في العاجل البادي لا يهتدون ولا يهدون تابعهم ... ض ل المقود وضل القائد الهادي

وقال: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما تقول ويقتدى ... بالعلم منك وينفع التعليم تصف الدواء لذي السقام من الضنا ... كيما يصح به وأنت سقيم وأراك تلقح بالرشاد عقولنا ... نصحًا وأنت من الرشاد عديم لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم وقال أبو العتاهية: يا ذا الذي يقرأ في كتبه ما أمر الله ولا يعمل قد بين الرحمن مقت الذي يأمر بالحق ولا يفعل من كان لا تشبه أفعاله أقواله فصمته أجمل من عذل الناس فنفسي بما قد قارفت من ذنبها أعذل إن الذي ينهى ويأتي الذي عنه نهى في الحكم لا يعدل وراكب الذنب على جهله أعذر ممن كان لا يجهل لا تخلطن ما يقبل الله من فعل بقول منك لا يقبل وقال بعضهم: وبخت غيرك بالعمى فأفدته بصرًا وأنت محسن لعماك كفتيلة المصباح تحرق نفسها وتنير موقدها وأنت كذاك وقال محمد بن عيسى: لا تلم المرء على فعله ... وأنت منسوب إلى مثله من ذم شيئًا وأتى مثله فإنما يزري على عقله

وقال منصور الفقيه: إن قوما يأمرون بالذي لا يفعلون لمجانين وإن هم ... لم يكونوا يصرعون وقال غيره: إذا أنت لم تعرف لذي السن فضله عليك فلا تنكر عقوق الأصاغر فعلى المحتسب أن يتذكر ما أوردناه من القرآن والسنة، وأقوال سلف الأمة، وما ذكرناه من أشعار الشعراء، وأن يجتهد في أن يعمل بالعلم؛ حتى يؤثر قوله في الناس، وينفع الله -تبارك وتعالى- بقوله، فيكتب الله -تبارك وتعالى- له أجره. وليستعن بالله -عز وجل- على العمل بالعلم، وليجاهد نفسه على ذلك؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) ". وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 6 المحتسب (3).

الدرس: 6 المحتسب (3).

أعوان المحتسب ومساعدوه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (المحتسب (3)) أعوان المحتسب ومساعدوه إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: معلوم أن المحتسبين مهما كثر عددهم، فإنهم لا يغطون تلك الاختصاصات والمسئوليات الواسعة التي ينبغي، بل يجب أن يغطيها عمل المحتسب، ولا سيما وأننا قلنا أن الاحتساب شامل لوظائف الدين والحياة كلها. وقد كان اتخاذ الأعوان والمساعدين في السابق أكثر منه في الحاضر، وإن كان لا زال المُحتسب يستفيد من تعاون وخدمات أولئك الأعوان؛ ذلك لأن التنظيم لولاية الحسبة وتكثير أعضائها في الماضي لم يكن بمثل ما هو عليه الآن، فقد كان جهاز الحسبة في الماضي يتكون من شخصية المحتسب، ومن يتخذه لمساعدته من الأعوان والعيون، وأمناء الحرف، وعرفاء في شئون المهن والصناعات. وقد استدعت الشمولية في عمل المحتسب أن يعزز إدارته أيضًا بالنواب، ولا سيما في الأمصار الكبيرة ذوات الضواحي الآهلة، والأسواق المزدحمة بخدم مسخرين بمهمات تسيير أشغاله، وأعوان فنيين من وجوه أرباب الصنائع الذين يستظهر بهم في هذه المهام؛ ليطلعوه على خفي أسرار أصحاب الحرف والتجارة؛ حتى لا يخفى عليه من أمور السوق كثير ولا قليل، ولا يستتر عليه من الأمر دقيق ولا جليل، وهؤلاء هم المساعدون، وهم الذين أصبح يطلق عليهم العرفاء. وعن العرفاء واختيارهم كأعوان للمحتسب يقول الشيزري: "ولما لم تدخل الإحاطة بأصحاب السوقة -يعني: أصحاب الحرف والصناعات- تحت وسع المحتسب جاز له أن يجعل لأهل كل صنعة عريفًا من صالح أهلها، خبيرًا بصناعتهم، بصيرًا بغشوشهم وتدليساتهم،

مشهورًا بالثقة والأمانة، يكون مشرفًا على أحوالهم، ويطالعه بأخبارهم، وما يجلب إلى سوقهم من السلع والبضائع، وما تستقر عليه من الأسعار، وغير ذلك من الأسباب التي يلزم المحتسب معرفتها". لما كان الأمر كذلك، كان من مسئوليات العريف أيضًا تنبيه أهل حرفته إلى الأخطاء، وتحذيرهم من الوقوع فيها في السر والعلن، وإذا اتضح للعريف أن هناك من يغش في صناعته رفعه إلى المحتسب. وقد يقوم العريف بحل الخلافات والمنازعات التي تقوم بين أهل صنعته، ويحكم فيها دون إبلاغها إلى الحاكم. وإذا حدث نزاع بين أهل صنعتين أو حرفتين مختلفتين قام عريفاهما بحل وتسوية الأمر. وقد كان العريف في الغالب وخصوصًا في الماضي يأخذ أجره من أهل الأصناف؛ باعتبار ما يقوم به من واجب رعايتهم. ومن الأعوان الذين كان يتخذهم المحتسب في الماضي الغلمان، وهم بمثابة العيون، يلاحقون المخالفين مما يجعل أهل السوق أكثر خوفًا ورهبة منه، فلا يغشون. ومن الصفات التي يجب توفرها في أولئك الأعوان من الغلمان: العفة، والشهامة، وبعد الهمة. وكان يجري تهذيبهم وتعليمهم على واجباتهم، واكتشاف المخالفين تحت إشراف المحتسب. وكان أيضًا من أعوان المحتسب ونوابه على الحدود والموانئ وسواحل البحر، وفي الأماكن التي ترد إليها الغلة؛ ليعلموه بما يرد من الغلال والبضائع، وما يخرج منها، ويشرف على مخازنها التي قد يختمونها إلى وقت الحاجة إليها؛ ليكون

الصلاحيات الممنوحة للمحتسب.

المحتسب على اطلاع على أحوال البلاد الاقتصادية، ويتصرف على ضوء معلوماته تلك لمواجهة ما قد يحدث من منكرات في هذا السبيل. وقد يكون ضمن أعوان المحتسب الشرطة -وهم كذلك-، بل هم اليوم أظهر وأقوى معين للمحتسب بعد الله -عز وجل- في أداء مهمته الصعبة والحساسة جدًّا، بل لقد شكلت شرطة خاصة، وألحقت بالهيئات في مختلف مدن وجهات المملكة العربية السعودية، وسميت: شرطة الهيئات. وإذا كان ما ذكرناه عن أعوان المحتسب يخصُّ محتسب الماضي أكثر مما يخص محتسب الحاضر، فإن وضع المحتسب في الحاضر يختلف قليلًا عن وضع المحتسب في الماضي من حيث التنظيم، وزيادة الأعضاء، وتوسع التشكيل، وتعدد الجهات والمؤسسات المساندة؛ وبذلك يكون أعوان المحتسب اليوم أكثر، بالرغم من اتساع دائرة تشكيل ولاية الحسبة اليوم قياسًا بوضعها في الماضي، وإلا فالحاجة لا تزال تدعو إلى توسع أكبر. الصلاحيات الممنوحة للمحتسب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو في أساسه دعوة إلى الإصلاح والتقويم، وإلزام الناس ذلك بالتي هي أحسن، وليس دعوة إلى العنف، وتعسف الناس، وظلمهم. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، وفي حالات معينة، فإن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وهو يقوم بهذا الإصلاح يعتبر مربيًّا، ومن مستلزمات التربية: التأديب، والتأديب في مواقف محددة يحتاج إلى بعض الوازع السلطاني؛ ليكون رادعًا في قضايا يأبى فيها صنف ممن اجتالتهم الشياطين، وتغلغل في قلوبهم الران، وطغت

عليهم الصفات البهيمية؛ حتى أصبحوا لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا تؤثر فيهم الكلمة الطيبة، والمعاملة الحسنة. فهؤلاء لا بد من أطرهم على الحق أطرًا، وهذا ما جاء في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يتكلم عن تضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بني إسرائيل حيث قال: ((والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم)). وصدق أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عندما قال: "إنّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وعلى هذا؛ فإنه كانت ولا زالت لوالي الحسبة بعض الصلاحيات التأديبية، والتي تعرف في الفقه الإسلامي باسم: حق التعزير. وهذه السلطة أو الصلاحية ليست إلا لوالي الحسبة ومساعديه؛ فإن المحتسب إذا عجز عن تغيير المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة أخذ في تغييره بحسب طرق تغيير المنكر، ومنها: أن يستعمل التعزير. والتعزير في اللغة: مصدر عزر من العزر، وهو الردع والمنع. ويختلف حكم التعزير باختلاف أحوال المذنب، فتأديب أهل الصيانة ووجوه القوم أخف من تأديب أهل البزاءة والسفاهة والسوقية، لا سيما إذا كانت المخالفة تحصل منه لأول وهلة.

وقد يكفي في ردع رجل الكلام، ويحتاج مع آخر إلى الضرب، فالتعزير بالنسبة للمحتسب قد يكون بالضرب، أو بالنفي، أو بالحبس، أو الغرامة المالية، أو الصلب، أو التشهير، أو الهجر، أو التوبيخ، أو التهديد، والتخويف، أو العتاب، أو الإعراض، أو الوعظ، أو الإعلام. أما الحدُّ: وهو في الجرائم والكبائر التي قد فرض الشارع فيها عقوبات مقدرة كالقتل العمد، والزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والقذف، فإن النظر فيها، والتحقيق مع فاعلها، وتطبيق عقوبتها يكون من اختصاصات القضاة؛ فإذا ثبت الحكم على أحد المجرمين بجلده في الخمر، أو بقطعه في السرقة، أو برجمه أو جلده في الزنا، أو بجلده في القذف تولى تنفيذ ذلك والي الحسبة، ولا سيما إذا كانت القضية مرفوعة عن طريق ولاية الحسبة. وها نحن نوضح ما أجملناه من أنواع التعزير التي يستخدمها المحتسب فنقول: أولًا: الاستدعاء والتهديد: للمحتسب إذا ما علم بمخالفة من شخص توجب الاحتساب عليه، كأن يعثر على من ينقص المكيال، أو يبخس الميزان، أو غش بضاعة، أو فعل ما يستوجب الاحتساب عليه، استدعاه واستتابه عن معصيته إن كانت للمرة الأولى، وبدا للمحتسب أنه جاهل بحكم ما ارتكب، ثم يوعظه، ويخوفه بالله، ثم يحذر من العقوبة والتعزير، فإن عاد إلى فعله عذره على حسب ما يليق من التعزير، وعلى قدر الجناية، ولا يبلغ به حد الحد. وقد هدد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من يشبب بالنساء من الشعراء بالجلد. ثانيًا: التوبيخ والتبكيت: قد يرى المحتسب ولا سيما في بعض المخالفات التي لا تستدعي ما هو أشد من هذه الوسيلة أن في تأنيب، بل وتوبيخ صاحب المخالفة ما هو رادع له، ولا سيما إذا كانت المخالفة من متساهل، أو ممن هو من أهل

الفضل والمنزلة، وحصلت منه بسبب تساهله أيضًا، كأن يكون ترك مندوبًا ونحوه. وفي مثل هذا روى ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بينما هو يخطب الناس يوم الجمعة دخل رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فناداه عمر: أي ساعة هذه؟ فقال: إني شغلت اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء، فلم أزد على أن توضأت. فقال عمر: والوضوء أيضًا، وقد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالغسل". ثالثًا: الهجر: كأن يرى المُحتسب أن يهجر فاعل المنكر مدة من الزمن، ويأمر أعوانه وغلمانه، ومن يعرفهم من أهل الخير بمقاطعته، وعدم التعامل معه إذا كان من التجار أو الصناع أو الزراع وأهل الحرف، كأن يكون هناك صانع، أو تاجر اشتهر بالغش والتحايل، ونصح وبذلت معه وسائل أقل من وسائل التعزير، فلم تنفع معه، فللمحتسب أن يستخدم معه وسيلة الهجر؛ لعلها تمنع ما هو أشد منها من وسائل التعزير الأخرى، وترجعه إلى صوابه، وهو أسلوب تعزيري جاءت به النصوص الشرعية. فقد قال الله -عز وجل- في شأن الزوجة الناشز: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (النساء: 34)، وكذلك قصة هجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- للثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج معه إلى غزوة تبوك، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية. وأمره -صلى الله عليه وسلم- لصحابته بمقاطعتهم وهجرهم إلى أن تاب الله عليهم بعد مرور خمسين ليلة، وفيهم يقول الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة: 118).

رابعًا: التشهير: والتشهير كالهجر عقوبة معنوية أكثر من كونها بدنية، والمقصود منها: التسميع بالمذنب والمخالف، والمناداة عليه بما ارتكب من الذنب. وقد يلجأ إليها إذا لم تجدي الوسائل السابقة، وقد يلجأ إليها المحتسب كإجراء أولي وفي ظروف خاصة. وكان الولاة المحتسبون السابقون عندما يريدون التشهير بالمذنب يركبونه حمارًا أو جملًا، ويلبسونه الطرطور، ويدار به في السوق، ويؤمر من يطوف به أن يقول: هذا فلان قد فعل كذا فاحذروه. وقد فعل هذه الوسيلة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بشاهدي الزور؛ حيث أركبهما ركوبًا مقلوبًا، وسود وجهيهما. خامسًا: الغرامة المالية: وقد يستخدمها المحتسب في حالات معينة، لا سيما في إتلاف بعض المحرمات من آلات طرب وخمور بآنيتها وما إلى ذلك، وذلك مشروع كما يقول ابن قيم الجوزية -رحمة الله عليه- في مواضع مخصوصة في مذهب مالك، وأحمد، وأحد قولي الشافعي. وقد جاءت السنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعن أصحابه في مواضع، ونذكر منها: إباحته -صلى الله عليه وسلم- سلب من يصطاد في حرم المدينة لمن وجده. ومثل أمره -صلى الله عليه وسلم- بكسر دينان الخمر، وشق ظلوفها، ومثل أخذه شطر مال مانع الزكاة، كما في الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في الصدقات: ((من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا)). وقد عزسر عمر -رضي الله عنه- بذلك بإحراقه حانوت رويشد الثقفي الذي كان يباع فيه الخمر، وقال له: إنما أنت فويسق ولست برويشد.

ومن التعزيرات التي تدخل في صلاحية المحتسب: الصلب: وهو أن يربط المخالف الذي استحق التعزير إلى سارية أو خشبة مدة محدودة، بشرط: ألا تزيد عن ثلاثة أيام، ولا يمنع فيها عن الطعام ولا الشراب، ولا يمنع من وضوء الصلاة، ويصلي بالإيماء، ويعيد الصلاة إذا أطلق. ويجوز لوالي الحسبة أن يأتي بالمذنب إلى المكان الذي ارتكب فيه جريمته فيصلبه حيًّا ووجهه إلى الناس؛ ليرونه، ويجعل فوق مكانه منشورًا بما فعل ليقرأه كل من مر عليه. ومن التعزيرات: التعزير بالحبس والنفي: فيجوز للمحتسب أن يعزر بالحبس والنفي، ذكره ابن تيمية -رحمه الله- تحت عنوان: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية". حيث قال: "والتعزير أجناس، فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، وقد حبس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الحطيئة؛ لأنه كان يقول الكلام القبيح، ويمدح الناس ويذمهم بما ليس فيهم". والنفي: هو التغريب عن الوطن، يجوز أن يستخدمه والي الحسبة ضمن التعازير التي يتخذها مع العصاة وأصحاب المخالفات الشرعية، والذين لم تنفع معهم الوسائل الأخرى، والأصل في ذلك ما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنفي أحد المخنثين من المدينة إلى خارجها، فعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: كان يدخل على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- مخنث، قالت: وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة، فقال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أرى هذا يعرف ما هاهنا؛ لا يدخلن عليكم هذا)). وفي رواية لأبي داود وأخرجه: "وكان بالبيداء يدخل كل جمعة". وقد طبق هذا التعزير أيضًا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كما في قصة نصر بن حجاج، وابن عمه أبي ذئب عندما نفاهما إلى البصرة.

ومن وسائل التعزير: الضرب: وهو من أنجح وسائل التعزير التي يستخدمها المحتسب وغيره من السلطات القضائية، ويضرب المذنب لحق الله، أو لحق الآدميين بما يراه المحتسب رادعًا له. وكان يقوم به الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من حكام المسلمين؛ على اعتبار أن الضرب عقوبة في التعزير، وعلى ذلك انعقد الإجماع. وقد فعله مشاهير المحتسبين من السلف، وأظهرهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث كان شديدًا في الحق، فعن عبد الله بن ساعدة الهذلي قال: "رأيت عمر بن الخطاب يضرب التجار بالدرة إذا اجتمعوا على الطعام بالسوق حتى يخلوا السكك، ويقول: لا تقطعوا علينا سابلتنا". وروى المسيب بن دارم قال: "رأيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يضرب جمالًا ويقول: حملت جملك ما لا يطيق. ومر على رجل أضجع شاة ليذبحها، وجعل يحد الشفرة فعلاه بالدرة، وقال له: هلا حددتها أولًا؟ ". واختلف في مقدار الضرب في التعزير على أقوال كثيرة، وهنا نذكر قاعدة قعدها شيخ الإسلام في هذه المسألة حيث يقول -رحمه الله- في شأن التعزير بالضرب: "وليس لأقله حد، وأما أكثر التعزير بالضرب ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: أحدها: عشر جلدات. والثاني: دون الحد، إما تسعة وثلاثين سوطًا، وإما تسعة وسبعين سوطًا، وهذا قول كثير من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.

والثالث: أنه لا يتقدر بذلك، وهو قول أصحاب مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، هو إحدى الروايتين عنه. لكن إن كان التعزير فيما فيه مقدر لا يبلغ به ذلك المقدر، مثل: التعزير على سرقة دون النصاب لا يبلغ به القدح، والتعزير على المضمضة بالخمر لا يبلغ به حد الشرب، والتعزير على القذف بغير زنا لا يبلغ به الحد". ثم رجح -رحمه الله- هذا القول الثالث بقوله: "وهذا القول أعدل الأقوال، وعليه دلت سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسنة خلفائه الراشدين، فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بضرب الذي أحلت له امرأته جاريتها مائة جلدة، ودرأ عنه الحد بالشبهة، وأمر أبو بكر، وعمر بضرب رجل وامرأة وجدًّا في لحاف واحد مائة مائة، وضرب عمر الذي نقش على خاتمه، وأخذ من باب المال مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني مائة، ثم ضربه في اليوم الثالث مائة". فهذه هي التعزيرات التي هي من صلاحيات المحتسب في الماضي. أما الصلاحيات التعزيرية التي يمارسها المحتسب في الحاضر: فإن ما يمارسه المحتسب اليوم من الصلاحيات التعزيرية لا يخرج في مجمله عما كان يمارسه المحتسب في الماضي مع بعض التحديد والتنظيم، فقد صدرت أنظمة تحدد الأطر العامة لعمل المحتسب، ومن ذلك صلاحيات ممنوحة له فيما يتعلق بالتعزير، وعلى اعتبار أننا سنأخذ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية كنموذج فيما يتعلق بواقع الحسبة المعاصر، فإن من قانون هذه المادة، المادة الرابعة: العقوبات التأديبية التي لوالي الحسبة أن يمارسها، وتتلخص في أخذ التعهد، التوبيخ، التأديب بالجلد، وبحد أعلى خمسة عشر سوطًا، أو عقوبة الحبس لمدة أقصاها ثلاثة أيام.

عدد المحتسب في الماضي والحاضر، وأساليبه في تغيير المنكر.

وفي اللائحة التنفيذية في نظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الباب الرابع تفصيل وتوضيح لكيفية إيقاع هذه العقوبات التعزيرية. ولم يكن المحتسب اليوم يقف عند حدود هذه الصلاحيات المحدودة، بل من حقه أن يطالب بإيقاع عقوبات أشد من تلك التي حددها له نظام الهيئة في حالة استحقاق المخالف لما هو أشد، ويكون ذلك برفع أوراق المستحق للعقوبة بعد استكمال التحقيق فيها إلى المحاكم الشرعية عن طريق الحاكم الإداري، وتبقى علاقته بالموضوع وفي كل مراحله الإجرائية حتى نهايتها، وصدور الحكم فيها على اعتبار أنه مدعي حسبة، وشاهد في الوقت نفسه. وأحيانًا يكون تنفيذ العقوبة على بعض المخالفين من قبل رجال الحسبة بالهيئة بعد صدور الحكم، وبعض العقوبات الأخرى تنفذها الجهات الأمنية بحضور مندوب من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذه هي الصلاحيات التعزيرية كما كانت في الماضي، لكن الفرق هو في الإجراءات والتنظيم؛ لإيقاع هذه العقوبات التعزيرية لمن يستحقها. عُدد المحتسب في الماضي والحاضر، وأساليبه في تغيير المنكر ومعلوم أن المحتسب وهو يقوم بواجبه لتحقيق ما أنيط به من مسئوليات كان يستخدم بعض الأدوات والعدد، وهو ما عرف في كتب الحسبة: بعدد المحتسب، ومن ضمنها ما كان يستخدمه في إنزال بعض العقوبات التعزيرية بالمخالفين، فما هي عُدد المحتسب في الماضي والحاضر؟ نقول -وبالله تعالى التوفيق-: كثير من الأعمال التي يقوم بها الإنسان يستخدم فيها أدوات تعتبر من الوسائل المعينة التي تساعد ذلك العامل في القيام بعمله،

والمحتسب كغيره له عدد يستعملها أحيانًا عند القيام ببعض عمله، وإن لم تكن هذه العدد من الناحية الفنية ضرورية لا يمكن القيام بالعمل بدونها، ولكن حاجة المحتسب إلى هذه الأدوات أو العدد تكون في مناسبة دون أخرى. وهي إلى جانب الاستفادة من بعضها في إنجاز بعض المهام، فإن لبعضها دورًا آخر في إظهار هيبة المحتسب في نفوس مخالفيه حتى ولو لم يستعملها. وكان المحتسب في الماضي يستعمل السوط والدرة في إيقاع العقوبات على المخالفين، وكانت هذه العدد رادعة لمن تسول له نفسه الأمارة بالسوء في أن يغش، أو يدلس، أو يقوم بالإَضرار بالصالح العام. وكان يتخذ السوط وسطًا لا بالغليظ ولا بالرقيق، بل يكون وسطًا بينهما؛ حتى لا يترك أثرًا على الجسد. أما الدرة: فتكون من جلد البقر أو الجمل، محشوة بنوى التمر، بينما الطرطور يكون على شكل قلنسوة من اللباد منقوشة مكللة بالخرق الملونة، محاطة بألوان الخرز، والودع، والأجراس، وأذناب الثعالب، والسنانير. وكان المحتسب يستخدم هذا الطرطور بوضعه على رأس المخالف؛ للتشهير، فيكون رادعًا له عن العودة إلى نفس المخالفة مرة أخرى، وزاجرًا لغيره من الوقوع فيما وقع هو فيه. وهذه الأدوات كانت تعلق على دكة، وكان من أدوات المحتسب: سجل خاص يدون فيه قوائم بأسماء الصناع والتجار، وكان يضع علامة إزاء اسم كل منهم، وموقع محله؛ ليتمكن من الوصول إليه بسرعة عند الحاجة إلى ذلك، كما أنه كان للمحتسب دواب من الخيل، والبغال يتنقل عليها من مقره إلى مواقع الذين يريد أن يحتسب عليهم عندما يبلغه

ما يوجب ذلك، وكان له خاتم يختم به، وربما خرج وفي خاتمه الخيط المربوط يتذكر به الشيء، وكان يختم به على الكتب ويقول: الخاتم على الكتاب خير من التهمة. وممن يمكن اعتباره من الأدوات أيضًا: أنه كان له في بعض الجهات لا سيما في مصر دار تسمى: دار العيار، يوجد بها موازين وأثقال ومكاييل يعين على أساسها ما عند التجار في السوق، ويعاقب من خالف ذلك. وأما مُحتسب اليوم: فكثيرة أدواته، من وسائل مواصلات، واتصالات، وآلات مكتبية، وغير مكتبية، فهو يستطيع أن يسخر لعمله كثيرًا من التقنيات الصناعية المعاصرة، ولا زال يوجد لديه من عدد الماضي السوط، فأكثر المحتسبين يحمل هذا السوط عند جولاته وتفتيشه على المحلات التجارية، والحانات، والتنبيه بالصلاة، ونادرًا ما يستخدم هذا السوط، لكن حمله فيه هيبة له، وتخويف لأصحاب القلوب المريضة، والنفوس الضعيفة. ومن أدواته أيضًا مكبرات الصوت التي تركب على سيارات رجال الحسبة عند تنبيههم للصلاة. وخلاصة الكلام عن هذه العدد: القول بأنها ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسائل -كما قلنا- تعين المحتسب على أداء عمله، إلى جانب الأساليب الأخرى التي يسلكها؛ لتحقيق أهدافه في الإصلاح. ومن أساليب المُحتسب في تغيير المنكر: نقول: لا شك أن في تلك العدد التي مر ذكرها معنا تعتبر من الوسائل التي تساعد على أداء مهمة المحتسب، لكن إلى

جانبها نجد أن هناك أساليب لا تقل أهمية، بل قد تكون ضرورية إلى حد ما في ممارسة المهمة؛ أملًا في الوصول إلى أحسن النتائج لتحقيقه الأهداف العامة للحسبة. فالمحتسب قد يقوم بنفسه، أو بواسطة أعوانه بتغيير المنكر، أو إقامة المعروف بالقوة، وهذا ما يمكن أن نسميه: مرحلة التغيير باليد، حسب درجات تغيير المنكر الواردة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)). وفي مرحلة التغيير باليد يكون استعمال عدد سالفة الذكر غالبًا، لكن هل يكون تغيير كل منكر باليد دائمًا؟ الجواب: لا، وبدهي ذلك من مفهوم الحديث المتقدم، فلا زال هناك مرحلتان يمكن أن تمارس لتغيير المنكر، والحيلولة دون وقوعه، وهي تختلف بحسب ظروف المنكر. والبيان باللسان من أساليب تغيير المنكر. لكن كيف تتم ممارسة هذا الأسلوب بالنسبة للمحتسب؟ الجواب: إن هذه ممارسة تكون ببيان مخالفة هذا المنكر الذي يريد أن يرتكبه المخالف، أو قد وقع فيه للشريعة الإسلامية، وهذا البيان قد يكون مباشرة في مكان وقوع المخالفة، وقد يكون بعد وقوعه، فيحتاج حينئذ إلى التحذير من الوقوع فيه من قبل آخرين؛ لبيان حكمه في الإسلام، وقد يكون قبل وقوع المنكر؛ درءًا لوقوعه، وتحذيرًا من اقترافه. وهناك عد عدة وسائل لإبلاغه إلى أكبر عدد ممكن من الناس منها: المحاضرات، والخطب، والندوات، وإصدار الكتيبات والنشرات، وتسجيل ذلك على أشرطة كاسيت؛ لأنها -أي: النشرات والأشرطة- أكثر فاعلية؛ لسرعة انتشارها، وسهولة الاطلاع عليها ممن يستفاد منها.

فهذه هي صلاحيات المحتسب، وأساليب تغييره للمنكر. ولكن قد يبذل المحتسب ما في وسعه؛ لتحقيق الأهداف العامة للحسبة داخل مجتمعه على قدر طاقته وعلمه، لكنه أمام ظرف من الظروف قد يقف دون تحقيقها أو بعضها بعد أن يكون قد استنفذ كل درجات تغيير المنكر التي عرفناها. فهل نقول: إن مهمته قد انتهت، وأن ذمته قد برئت؟ والجواب: أنه لا زال في إمكان المحتسب أن يقوم بعمل ما، يواصل من خلاله إنجاز مهمته بشأن تغيير المنكر الذي عجز عنه، وذلك بإحالة الأمر إلى جهات قضائية أخرى، قد يكون لها من الوسائل والإمكانات ما يعين على تحقيق ذلك الهدف الذي عجز عن تحقيقه، فيقيم المحتسب دعوى تسمى في لغة الفقهاء والأصوليين: دعوى الحسبة، وهذا لا يعني إلغاء دور المحتسب القضائي، ولكنه دور مقصور على ما ليس من اختصاص ولاية القضاء، فهو لا ينظر إلا في الدعوى التي ليس فيها سماع بينة، ولا نفاذ حكم، ففي هذه قضايا ينظر المحتسب، ويبت دون أن يقيم دعوى حسبة، أما ما زاد عن ذلك ففيها تكون دعوى الحسبة. ولذا يقول ابن خلدون -رحمه الله-: "وليس له أيضًا الحكم في الدعاوى مطلقًا، بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها، وفي المكاييل والموازين، وله أيضًا حمل المماطلين على الإنصاف، وغير ذلك مما ليس فيه سماع بينة، ولا نفاذ حكم، وكأنها أحكام لا ينظر فيها القضاء لعمومها وسهولة أغراضها، فترفع إلى صاحب هذه الوظيفة -يعني: المحتسب-؛ ليقوم بها. وأما من يحق له رفع دعوى الحسبة، فهل هو المحتسب المكلف أم المتطوع؟ والجواب: كلاهما يحق له رفع الدعوى، وإن كان المكلف معنيًّا بها أكثر؛ بحكم سلطته، وصلته داخل الحكومة الإسلامية.

ودعوى الحسبة هي من مفاخر التشريع الإسلامي الصادر من لدن عليم حكيم، فالمسلم المكلف بالقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر تكفل له الشريعة متابعة القضية برفع دعوى ضد مرتكب المنكر إذا عجز عن تغييره بالوسائل التي تسبق ذلك من مراتب النهي عن المنكر، ويظل يتابع القضية حتى يصدر فيها حكم، بينما التشريعات الوضعية في النيابة العامة وغيرها لا تجيز لغير الجهة المعنية رفع دعوى من الأفراد. والشريعة الإسلامية تحفظ الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر عن أي ضغط خارجي يجبره على إقرار المنكر، وتحرم التعرض له، وتوقع العقوبات على الذين يتعرضون للذين يأمرون بالقسط من الناس. فإن قيل: في أي شيء تكون دعوى الحسبة؟ فالجواب: أن الحقوق في الإسلام التي ترفع الدعوى من أجلها تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: أولها: حق الله الخالص. وثانيها: حق العبد. وثالثها: حق مشترك بين حق الله الخالص، وحق العبد. والحسبة كما هو واقعها لها مساس مباشر بالنشاط الإنساني في مختلف صوره الظاهرة، فإذا ما انحرف الإنسان بنشاطه بحيث يمس حقًّا خالصًا أو غالبًا من حقوق الله كانت دعوى الحسبة، ووجد سبب قيامها، فعلى هذا يكون محل دعوى الحسبة، وهو أن يمس حق لله خالصًا أو غالبًا، أما فيما يتعلق بحق العبد: فمحله ليس هذه الدعوى، وإنما محله الدعوى الشخصية.

والفرق بين دعوى الحسبة، والدعوى الشخصية من وجوه: أولًا: الفرق بينهما من جهة الأطراف: الفرق في هذه الناحية دقيق؛ حيث أن كليهما يوجد فيهما مدعٍ، ومدعى عليه. ففي الدعوة الشخصية المدعي صاحب الحق نفسه، أو وكيله، والمدعى عليه هو المنكر الجاحد لذلك الحق، أما في دعوى الحسبة: فيمثل المدعي المحتسب؛ دفاعًا عن حق من حقوق الله، والمدعى عليه الذي فعل المنكر ووقع فيه. والفرق بينهما من حيث الحاجة إلى الخصومة في إثبات الجريمة: هو أن الدعوى الشخصية لا بد، بل شرط من شروط إقامتها إقامة الدعوى، والخصومة من قبل صاحب الحق هو الشخص المدعي؛ إذ بدون رفعه للدعوى والخصومة من قبل صاحب الحق هو الشخص المدعي، إذ بدون رفعه للدعوى ينهدم أحد أركان الدعوى. أما دعوى الحسبة: فلا تحتاج إلى خصومة كما هو الحال في الدعوى الشخصية، بل إن تقدم الشاهد في الدعوى الحسبية الذي هو المحتسب يعتبر كافيًا لإقامة الدعوى؛ فإن المحتسب يعتبر شاهدًا، وفي الوقت نفسه قائمًا مقام المدعي، إذًا الدعوى الحسبية لا يشترط أن يكون المدعي هو الشخص المعتدى عليه. أما الفرق بينهما من حيث طرق الإثبات: فطرق الإثبات هي الشهادة، والإقرار، والنكول عن اليمين، شاهد ويمين، قرائن. وهذه الطرق وردت عليها الأدلة من كتاب الله، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفعل الصحابة.

ففي الإقرار يقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (النساء: 135). ومثال الإقرار: إقرار ماعز بالزنا، وكذلك المرأة الغامدية في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإقامته للحد عليهما. أما القضاء بالنكول وهو الامتناع عن اليمين: فالأصل فيه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)). أما الشاهد واليمين: فالأصل فيه قضاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بشاهد، ويمين في أحد أقضيته. وأما القرائن: فتختلف من قرينة إلى قرينة، فقد تكون قطعية، أو تكون ظنية، ومثال ذلك: إذا وجد رجل مقتول، وعلى رأسه رجل معه سكين ملطخة بالدم، فإن هذا يعتبر قرينة على أنه هو القاتل. وأما الشهادة: فالأصل فيها قول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (البقرة: 282). وهذه الطرق جميعًا تجري في الدعوى الشخصية باتفاق بين العلماء، لا سيما في الدعاوى المالية بصفة خاصة. أما دعوى الحسبة: فلا يقبل فيها من هذه الطرق إلا طريقان هما: الإقرار، أو البينة بشهادة اثنين، أو أربعة من الرجال، وهذا خاص فيما يتعلق بإقامة الحدود، كحد الزنا، أو السرقة وغيرهما مما هو من حقوق الله تعالى الخالصة، أو الغالبة. والفرق بينهما من حيث التقادم وأثره في سقوط الدعوى: أن التقادم معناه: مضي فترة من الزمن على وقوع ما يوجب الدعوى دون أن يتقدم أحد بخصومة أو شهادة، فأما بالنسبة للحق الشخصي: فاتفاقًا بين العلماء لا يؤثر عليه التقادم بحال،

أما ما يتعلق بالدعوى الحسبية: فالجمهور -وهم الحنابلة والشافعية والمالكية- يقولون: لا يؤثر على الدعوى؛ إذ لو قلنا بذلك لتعطلت الحدود، ولا يجوز ذلك. وأخيرًا الفرق بينهما من حيث العفو، وأثره على سقوط الدعوى والعقوبة: العفو: هو تنازل صاحب الحق عن حقه، وطلبه لرفع العقوبة، وإن كان الجاني يستحق العقوبة. وحق الله -سبحانه وتعالى- لا يسقط بالعفو إذا بلغ القاضي أو الحاكم، أما الحق الشخصي: فإنه يسقط بذلك. والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني فقد وجب)). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 7 المحتسب (4).

الدرس: 7 المحتسب (4).

وسائل الإعلام وكيفية استغلالها في الاحتساب.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (المحتسب (4)) وسائل الإعلام وكيفية استغلالها في الاحتساب إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: جاء في الأثر: "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها". وعليها نقول: الوسيلة التي تعين المحتسب في عمله، وتحقق أهداف احتسابه الأولى بها والأجدر أن يستغلها، ولا يتعلل بصارف يمنعه من استغلال أي وسيلة مهما كانت بسيطة. وسائل الإعلام -لا سيما المعاصرة منها- هي كما يقولون: سلاح ذو حدين، يمكن استخدامه في الخير، كما يمكن استخدامه في الشر، وما نريد الكلام عنه هو الحد الأول لهذا السيف، وهو جانب الخير؛ فوسائل الإعلام المختلفة من مقروءة وتمثلها: الصحف، والمجلات، والنشرات، والكُتب، ومرئية ويمثلها: التلفزيون، والفيديو، ومسموعة وتمثلها: الإذاعة عن طريق الراديو، والمسجل. هذه الأجهزة والوسائل هي آلة في يد مشغلها، يمكن -كما قلنا من قبل- أن يجعلها تنطق بخير، وهو ما نريده، ويريده كل مسلم، أو يسخرها للشر، وهو ما ينكره كل مسلم وعاقل، ومن غير المسلمين. ووسائل الإعلام وإن كان يغلب على بعضها الاستخدام في الشر، فإنها من أجل ذلك تحتاج إلى الاحتساب عليها أولًا قبل أن تسخر لتكون وسيلة تدعم عمل المحتسب.

والاحتساب ليس على الأجهزة والآلات وسائر الوسائل، ولكن الاحتساب على من يشغل، ويستخدم هذه الأجهزة والوسائل. فإن الواقع الذي عليه الإعلام اليوم في كثير من البلاد الإسلامية سلبي في كثير من جوانبه تجاه الأمة، وتوجيه النشء فيها؛ مما حدا بالمؤتمر الإسلامي العالمي الذي عقد في المدينة النبوية في عام ألف وثلاثمائة وسبعة وتسعين أن يندد بهذا الوضع القائم للإعلام، حيث كان ضمن توصيات المؤتمر: إن المؤتمر يندد بالهوة السحيقة التي تردى إليها إعلامنا، ولا يزال يتردى، فبدلًا من أن يكون الإعلام في بلدنا منبر دعوة إلى الخير، ومنار إشعاع للحق، صار صوت إفساد، وسوط عذاب عن علم من القائمين به أو عليه، أو عن جهل منهم، وسكت القادة فأقروا بسكوتهم أو أجازوا ذلك؛ فشجعوا، وخفت صوت الدعوة وسط ضجيج الإعلام الفاسد، وزلزل الناس في إيمانهم، وأخلاقهم، وقيمهم، ومثلهم. ولم يعد الأمر يحتمل السكوت؛ ولذا كان على أولي الأمر الواجب الأكبر، ولهم الكلمة الأخيرة، وحسبنا الله، ولهذا نقول -والحال للإعلام ما تقدم-: إن من أهم وأولى طرق الاحتساب على الإعلام، هو محاولة وضع موطئ قدم فيه لأهل الاحتساب، ونقصد بأهل الاحتساب هنا: المتطوعين؛ فإن وجود أهل الخير في الإعلام بداية للتصحيح والصيانة؛ لاستغلال هذه الوسيلة لبث الخير، بدعوة الناس إلى دين الله، وتعليمهم، وإبلاغهم تعاليم ربهم، وسنة نبيهم، وكفى بهذه المهمة شرفًا ورفعة، وكفى بها وسيلة ناجحة في الاحتساب على وسائل الإعلام المختلفة. فإذا تم الاحتساب عليها هي أولًا؛ أمكن بعد ذلك تسخيرها لتكون وسيلة فعالة من الوسائل التي تسند عمل المحتسب.

وسائل الإعلام قديمًا وحديثًا: نعرف أن الإعلام كما كان يستخدم، ولا يزال في الشر والدعوة إلى الباطل، ومنذ حقب التاريخ التي مضت، فإنه يمكن كما أمكن من قبل استغلاله لنصر الحق، ونشر الخير. وباستعراض بسيط لوسائل الإعلام في الماضي والحاضر ندرك مدى أهمية الإعلام كوسائل فعالة للتبليغ، أو للدفع، والمنافحة. وباختصار، فإن المتتبع للإعلام في الماضي -لا سيما فيما قبل الإسلام، وإلى ما قبل النهضة الصناعية المعاصرة- كانت وسائله تنحصر في الرحلات التجارية، ونقل الأخبار إلى مكان آخر، وكذا في الشعر، وهو أهم الوسائل الإعلامية في الماضي، ثم تأتي بعده خطابه، فالشاعر في الماضي كان يعتبر لسان القبيلة، وهو كالصحافة بالنسبة للأحزاب والحكومات اليوم، فما يكاد الشاعر ينطق بالبيت حتى تسير به الركبان، ويسري ويشيع في أنحاء الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، لا سيما إذا كان مدحًا أو هجاء، أو غزلًا أو رثاء أو وصفًا لنصر أو هزيمة، فهو يسير بسرعة تفوق توقعات الشاعر نفسه. ولما كان الشعر بهذه الفاعلية والقبول، فقد استخدم لمنافحة ومضادة دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا سيما في بدايتها، فكان الرد منه -صلى الله عليه وسلم- ومن صحابته بالوسيلة نفسها. وقد استغل الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الوسيلة أحسن استغلال، بل لقد كان له -عليه الصلاة والسلام- شعراء سخروا شعرهم لنشر الدعوة، ومدافعة أعدائها، منهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وغيرهم.

ونماذج شعرهم كثيرة، وهي محفوظة في دواوينهم، وكان شعر حسان على الكفار أشد وقعًا من السهام والنبال، وضرب السيوف، حتى لقب حسان: بشاعر الرسول. كما كان -صلى الله عليه وسلم- يعين لحسان ولغيره المصدر والمرجع إذا التبس نسب، أو يوم من أيام العرب، وما عليهم إذا أشكل عليهم ذلك، إلا أن يسألوا أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- فقد كان نسابة العرب في عصره. وكم كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعد حسانًا لمنازلة أعدائه، مما جعل قريحته الشعرية تجود بأحسن ما يكون من الهجاء لأعداء الله ورسوله. روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اهج قريشًا؛ فإنه أشد عليها من رشق النبل، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم. فهجاهم، فلم يرض. فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه، قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه، ثم أدلع لسانه، فجعل يحركه ويقول: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبًا حتى يلخص لك نسبي، فأتاه حسان -أي: أتى أبا بكر- ثم رجع فقال: يا رسول الله، قد لخص لي نسبك، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، قالت عائشة: فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله)). وقالت عائشة -رضي الله عنها-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((هجاهم حسان فشفا واستشفى)). ولقوة هذه الوسيلة -أي: الشعر- وفعاليتها، لم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكتفي بالرد عليهم بالوسيلة نفسها، بل كان يتعدى ذلك إلى إهدار دم بعض حاملي هذه الوسيلة من أعداء الإسلام، ممن اشتد أذاهم على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعوته.

وهكذا كان رجال الدعوة الإسلامية يستخدمون وسائل الإعلام المتاحة لنشرها، ومنافحة أعدائها، وتأسيًا بهم وسيرًا على طريقتهم، لا بد لرجال الدعوة والحسبة اليوم أن يستخدموا وسائل الإعلام المعاصرة التي هي بلا شك أقوى تأثيرًا، وأبلغ إقناعًا وأكثر اشتهارًا، وأشد استقطابًا للنفوس والعقول من تلك التي كانت في الماضي؛ ولأن وسائل الإعلام المعاصرة لا يمكن للمسلمين أن يسكتوها أو يمنعوها من نشر سمومها التي تبث صباح مساء عبر موجات الأثير؛ لذا كان عليهم ألا يورثوا أنفسهم الوهن والكسل والاستسلام، بل عليهم أن يستغلوا ما بأيديهم من وسائل مشابهة، وينافحوا بها كما نافح الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعداء دعوته بنفس وسائلهم. ويوم أن نستطيع استغلال وسائل الإعلام المعاصرة بكل ذكاء وفطنة وتعقل؛ فإننا نستطيع -بإذن الله -عز وجل- أن نصل من خلالها إلى تحقيق هدفين رئيسيين: الأول: هو محاولة الذب عن الإسلام ضد التيارات والأباطيل التي تحاك ضده، وتلصق به، ثم العمل بعد ذلك وأثناءه على نقل صورته المشرقة للعالم خارج حدود دار الإسلام؛ لننقذ الناس من الضلال والكفر، وندخلهم في دائرة الإيمان، ونور الهداية. والهدف الثاني: هو مساندة عمل المحتسب بتربية الناس على الفضيلة، وتشويقها لهم، وإبعادهم عن الرذيلة، وتقبيحها في أعينهم، والاستمرار في تعليمهم أمور دينهم عن طريق ما تبث هذه الأجهزة التي تصل إلى كل إنسان وفي أي مكان، وهذه والله نعمة قد وجدت لنا، يجب أن نحسن استغلالها في الخير، وتعليمه للناس كما مهر غيرنا في تسخيرها للشر من الكفرة والمنافقين، وأضرابهم.

وإذا لم يكن لنا السبق والاستحواذ على استخدامها فيما ينفع الناس في دينهم وآخرتهم، فإنها تكون طامة كبرى، وتكون خسارة ماحقة بعدم استخدامنا لهذه الوسائل الفعالة جدًّا، أما إذا تم استغلالنا لهذه الأجهزة والوسائل فيما يخدم رسالة المحتسب في المجتمع، فإننا سنصل -بإذن الله تعالى- إلى تحقيق أهداف وغايات يسعى المحتسب دائما إلى تحقيقها، ولعل من أظهرها: أولًا: بذل الجهد في الحفاظ على جوهر العقيدة الإسلامية بدفع كل شوائب الشرك، وضلال البدع، وإبطال الشبه التي تحاك ضد العقيدة، وتوضيح ذلك للمسلمين. ثانيًا: الحفاظ على الشريعة الإسلامية، تطبيقًا، وسلوكًا، اتباعًا للأوامر، واجتنابًا للنواهي، وتربية النشء على ذلك. ثالثًا: إشاعة الحلال، وتحبيب الناس فيه، وإظهار بشاعة الحرام، وبيان آثاره السيئة على المجتمع حتى يسري بغضه في نفوس الناس. رابعًا: الحث على الأخلاق الفاضلة التي دعا إليها الإسلام، والتي يجب أن يتحلى بها المسلمون أفرادًا وجماعات مثل: الحب في الله، والتناصح، والتعاون على البر والتقوى، والأمانة، والإخلاص، والصدق، والوفاء، والصلة، وإظهار محاسن الإسلام ونشرها لمن لم تبلغه من غير المسلمين. خامسًا: تنمية روح الاحتساب لدى عامة المسلمين فقهًا وتطبيقًا حتى يتجدد جهاز الصيانة داخل المجتمع المسلم الذي يعمل على التذكير بأوامر الله، واجتناب نواهيه، ويتحرك لتغيير المنكر، وإظهار المعروف. سادسًا: إحياء التراث الإسلامي، وبث البرامج العملية التي تستعيد نبوغ المسلمين في العلوم التجريبية؛ لتلحقهم بركب الحضارة المعاصرة؛ حتى يتمكنوا من الإسهام بما حث عليه دينهم من العلم والمعرفة.

دور المؤسسات التعليمية في الاحتساب.

سابعًا: توضيح وبيان ما ينفع الناس في معاشهم ومعادهم، ومنه: إظهار قيمة الوقت الذي أدرج قيمته الإسلام، وأنه يجب استغلاله في النافع والمفيد، وعدم هدره فيما لا فائدة فيه من لهو، وضلال، وضياع. وبتحقيق هذه الأهداف والغايات وغيرها مما يخدم الإسلام والمسلمين نكون قد سخرنا فعلًا كل وسائل الإعلام في مساندة عمل المحتسب، وهذا تطور لوسائل الحسبة لا ينبغي إهماله، وعدم الاستفادة منه، فهي -أي: وسائل الإعلام- سهلة وميسورة إذا قويت الهمم، وصحت النيات، والله المستعان. دور المؤسسات التعليمية في الاحتساب العلم نور يقذفه الله تعالى في قلب العبد؛ فيستنير وينير، والعلم عليه مدار سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولقد امتن الله تعالى على الإنسان بالتعليم، والوسائل التي يحصل بها العلم، فقال -عز وجل-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78). جاء في تفسير ابن كثير -رحمه الله-: أن من كرم الله تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم، فكرمه وشرفه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم -عليه السلام- على الملائكة، فبالعلم يعرف الإنسان ربه، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (محمد: 19). وبالعلم أرسل الله الرسل، فلا سبيل للاهتداء إليه، وتعليم الناس دين الله إلا بالعلم؛ ولذا كان من حكمة الخالق -سبحانه وتعالى- ألا يرسل الرسول إلا بلغة المرسل إليهم؛

لأن ذلك أدعى إلى الفهم والتقبل، قال الله -عز وجل-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (إبراهيم: 4). ولذا كانت رسالة الإسلام الخالدة تفتتح بمفتاح العلم، وهو القراءة إذ كانت أول الآيات التي نزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- قول الله -تبارك وتعالى-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:1: 5). وعلى هذا فقد جاء في تفسير (أضواء البيان) للشنقيطي -رحمة الله عليه- نقلًا عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن هذه السورة وأمثالها من السور فيها العجائب، وذلك لما جاء فيها من التأسيس لافتتاحية تلك الرسالة العظيمة، ولا نستطيع إيفاءها حقها عجزًا وقصورًا". وأنا أقول ذلك، فإن المتكلم عن العلم وفضله يحتاج إلى مجلدات، ولكن وبحمد الله فقد حظي ذلك باهتمام علماء الأمة سلفًا وخلفًا، وألفت مئات الكتب، بل ألوفها في العلم وفضله، ومنزلته ومكانته في الإسلام، وكيف اهتم الإسلام به؛ إذ عليه مدار نشر الرسالة وبقاؤها، وصفاؤها من كل شائبة، والعلماء -بلا شك- هم الذين يقومون بدور الأنبياء في إبلاغ العلم إلى الناس بعد قبض الأنبياء؛ فقد قال البخاري -رحمه الله- تحت باب العلم قبل القول والعمل: "وإن العلماء ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، بل ورفع الله منزلة العلماء الذين ينشرون الرسالة بالعلم، فقال -عز وجل-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر: 9). وقال -عز وجل-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28).

فإذا عرفنا هذا عن فضل العلم وأهميته ومكانته، ومنزلة أهله، وأن الإسلام أولى العلم من الأهمية والمكانة ما لم تفعله كل الرسالات السابقة، فالسؤال الآن: لماذا كان هذا الاهتمام بالعلم في الإسلام؟. والجوابُ ببساطة -وقد تقدم طرف من ذلك-: لأن العلم هو الأساس في معرفة الله -سبحانه وتعالى- وذلك عن طريق التفكر في مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، وآياته الكونية، والتنزيلية، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:190، 191). وهذا التفكر والتدبر لا يكون إلا بعد تحصيل العلم، والاستنارة بنوره، فإذا حصل المسلم العلم، ثم سخره للتدبر والتفكر في آلاء الله، وحكمة صنعه، قاده ذلك إلى معرفة ربه، والإيمان به إيمانًا ينير له الطريق في هذه الحياة، ويجعله يعيش في سعادة وطمأنينة، وينشد به تقوى الله؛ مما يوفر ويضمن له حسن الثواب في الآخرة؛ ولذلك قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28). ثم بين جزاءهم في الآخرة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة:7، 8)، وهم العلماء. وهذا أول أهداف العلم في الإسلام: أن يعرف المسلم ربه وخالقه؛ فإن المسلم إذا عرف ربه حق المعرفة، وتيقن واطمأن قلبه بذلك حقق، وطبق كل ما تستلزمه العبودية الواردة في قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56).

وثاني الأهداف للعلم في الإسلام: هو الإلمام بمقاصد الشريعة الإسلامية التي بنيت على مصالح العباد الضروري منها وغيره، وكل علم يحقق مصلحة من مصالح العباد، ويصيب مقصدًا من مقاصد الشريعة الإسلامية هو علم يثاب صاحبه، وطلبه عندئذ عمل شرعي، حتى ولو كان العلم المطلوب تحصيله غير العلوم الشرعية، كالطب، والصناعة، والهندسة بأنواعها، بل وكل علم تصب ثمرته في مصلحة الأمة، ولا يعارض أصلًا من أصول الشريعة؛ لأن العلوم التي تعارض أصلًا من أصول الشريعة لا حاجة لنا بها، ولو كان في ظاهرها منفعة. حقيقة هذه العلوم ليست كذلك؛ ولذلك يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله-: "كل علم لا يفيد عملًا فليس من الشرع ما يدل على استحسانه، ولو كان له غاية أخرى شرعية؛ لكان مستحسنًا شرعًا"، ومثال ذلك كعلوم الفلسفة النظرية البحتة وغيرها من بعض ما أفرزته لنا الحضارة المعاصرة، كالعلوم التي تعلم هدم الأخلاق، وإفساد القيم، وما إليها. إذًا فهذان هدفان أصيلان يقوم على أساسهما طلب العلم في الإسلام، وهذا كله -كما قدمنا- عن العلم وأهميته وأهدافه في الإسلام، وفرضية طلبه، وتحصيله على كل من قال: لا إله إلا الله، وطلبه على درجات: فمنه الضروري، وهو الذي لا يعذر مسلم في تركه، كتعلم أحكام العبادات الواجبة عليه، وما لا تستقيم معيشته وحياته إلا به، وهو المقصود بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)). ومنه ما هو كفائي بمعنى: أنه إذا تعلمه بعض أفراد الأمة أجزأ عن الباقين، بشرط ألا يترك من الجميع فيأثموا جميعًا، كما هو مفصل ومثبت في كتب الفقه. ومن العلم ما هو طلبه استحساني كمالي، إن تعلمه زادت معرفته وثقافته، وإن تركه لا يلام ولا يترتب عليه هدم لمصلحة الأمة.

وسؤال أطرحه قبل أن أدخل إلى صلب مادة هذا العنصر وهو: ما دور العلم في صياغة شخصية المُتعلم؟ ومن الإجابة على هذا السؤال ننطلق إلى ما نريد أن نقرره من ضرورة الاستفادة من المؤسسات التعليمية في مساندة عمل المحتسب داخل المجتمع. وبداية أقول: لا بد أن نعرف أن التعليم -لا سيما في الصغر- يعتبر صياغة وتشكيل تشكل على أساسها ذهنية المتعلم، وهذا أمر من البداهة بمكان، لا نحتاج معه إلى شرح ودليل كلامي، هذا من واقع الناس اليوم، فما هؤلاء الذين تعلموا الباطل من زندقة، وانحراف، وضلال، وكفر، وإلحاد، ثم أصبحوا يدعون إليهن ويجادلون من أجله، ولم يعملوا عقولهم قبل عواطفهم وميولهم. ما هؤلاء إلا مواد مصنعة متحركة، شكلت على ما تدعو إليه، وتدافع عنه من الباطل، وكان ذلك بالتعليم الذي غرس في أذهان أصحابها في الصغر، فأصبح بمثابة العقيدة التي يعادون عليها، ويوالون. وهنا في الحقيقة تكمن خطورة التعليم، فعملية التعليم لا سيما في الصغر عملية حساسة وفعالة في الوقت نفسه، ودليلنا على أن عملية التعليم خطيرة إلى حد تغيير فطرة الإنسان: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)). أي: أنّ تعليمهما له بما هما عليه من الكفر والضلال كان سببًا في أن تشكلت عقليته وعقيدته على ما يريدان.

ومن هنا، ندرك أهمية العملية التعليمية، وأنه يجب أن نستغلها فيما نهدف إليه من غرس لفقه الاحتساب، وتحبيب ذلك، وبيان فرضيته في نفوس النشء من أبناء المسلمين، فكيف يتم ذلك؟. نقول: ما تقدم كله عن العلم وفضله ومكانته، وأهداف تعلمه في الإسلام، وبيان أهمية الاستفادة من نظام التعليم في غرس فقه الاحتساب في أذهان المتعلمين من أبناء الإسلام؛ ليكونوا بعد ذلك على إدراك تام بواجبهم تجاه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر داخل مجتمعاتهم، وهذه غاية عظيمة، ويمكن تحقيقها -إن شاء الله تعالى- من خلال التطبيق الكامل في داخل المؤسسات التعليمية بالدول الإسلامية للأفكار التالية: أولًا: إعادة النظر في المناهج الموجودة اليوم، وهل هي مؤصلة ومؤسسة على أساس أهداف الإسلام، ومبادئه؟ واستكمال نقصها في ذلك، وصياغتها على أساسه، كما أن إعادة النظر فيها يوجب تهذيبها، وتخليتها عن كل ما ينافي الإسلام، ويتعارض مع تعاليمه السمحة. وفي ذلك يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: بأنه لا بد أن يصاغ النظام التعليمي في البلاد الإسلامية صوغًا جديدًا يلائم عقيدة الأمة المسلمة، ومقومات حياتها، وأهدافها، وحاجاتها، ويخرج من جميع مواده روح المادية، والتمرد على الله، والثورة على القيم الخلقية والروحية، وعبادة الجسم والمادة، ويبرز فيه روح التقوى والإنابة إلى الله، وتقدير الآخرة، والعمل لها، والعطف على الإنسانية كلها، وأن تنكر التبعية للغرب وسيادته، وأن تجعل علومه ونظرياته موضع الفحص والدراسة، بحيث يؤخذ منها ما يوافق تعاليم ديننا، وينبذ ما يعارضه. فإذا تم هذا من قبل القائمين على نظام التعليم في بلادنا الإسلامية صار الأمر عندئذ مهيئًًا لما بعده من نقاط الإصلاح والتقييم.

ثانيًا: التوسع فيما يتعلق بمنهج المواد الدينية بحيث تعطى للطلاب جرعات أكبر من فقه دينهم، وفي مختلف التخصصات الدينية، وفي كافة المراحل الدراسية؛ حتى إذا ما خرج الطالب المسلم بشهادة عالية يحسب على المسلم بها تكون ثقافته الدينية على مستوى الشهادة، والمدة التي قضاها في التعلم، وحتى تكون ثمرة علمه سببًا لفلاحه ونجاحه في الدنيا والآخرة. ثالثًا: جعل مواد الدين موادًّا أساسية لا اختيارية، والتركيز عليها، والمبالغة في غرس أهميتها في نفوس النشء المسلم. رابعًا: ربط المواد الأخرى غير الدينية، كالرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، وغيرها بتعاليم الإسلام ومبادئه، من خلال ربط الأسباب بالمسبب، وضرب الأمثلة بما يدعو إلى الإسلام، وليكن ذلك حتى في الأمثلة والتمارين الرياضية، كأن يضرب المدرس مثالًا فيقول: رجل يملك ألف ريال وأراد أن يخرج زكاته فكم تكون الزكاة إذا كانت الزكاة بما يعادل اثنين ونصف في المائة؟ وهكذا، ليربط أبناء المسلمين بدينهم، ويعرفهم بتعاليمه حتى من هذا الطريق. خامسًا: اختيار المدرس على أساس تأهيله من حيث التقوى، وثقافته وغيرته على مصلحة أمته، وتقييمه فيما بعد أي: بعد التعيين على أساس ذلك. أما من يختارون لتدريس المواد الدينية: فلا بد -زيادة على ذلك- أن يكونوا من ذوي الخبرات والقدرات، والتحصيل الجيد فيما هو مطلوب منهم، وأن يكون الواحد منهم قدوة، ونموذجًا طيبًا يمثل ما يقوم بالتعليم في أخلاقه وسلوكه، وكل شئونه، وأحسن وأكمل تمثيل ممكن. سادسًا: الاستمرار والتوسع في تعليم الطلاب الحلال، وتحبيبه إلى نفوسهم، وبيان محاسن الأخذ به في الدنيا، وثواب ذلك في الآخرة، ومقاومة الانحراف

المسجد ودوره في الاحتساب.

والمنكرات ببيان أضرارها وعقوباتها في الدنيا، ومصير الذي يقارفها، ويداوم عليها في الآخرة، وأول ذلك النار، نعوذ بالله منها. وبعدما تقدم نصل إلى نقطة هامة هي نص في موضوعنا، وهو بذل ما في الوسع للتركيز على غرس فقه الاحتساب، من خلال إبراز الأصول الشرعية لذلك، من الكتاب والسنة بالشرح والتوضيح، مع الاستنارة في ذلك باستعراض نماذج من سيرة سلفنا الصالح، لا سيما في المواقف التي قدموا فيها صورًا احتسابية. كذلك يقوم المعلم بمحاولة تطبيق ذلك عمليًّا كلما سنحت له الفرصة، وحصل له موقف يوجب الاحتساب في الوسط المدرسي، والأماكن المحيطة؛ حتى يراه الطلاب؛ فإن ذلك أدعى للفهم، والتأسي، والتطبيق. فإذا تحقق اتباع هذه الخطوات نكون -بإذن الله- قد ضمنا سندًا قويًّا جدًّا داخل المجتمع، وتصبح عملية الاحتساب عملية سهلة؛ لأنّ المحتسبين يكثرون يومًا بعد يوم بخروج هؤلاء الطلاب الذين تسلحوا بفقه الحسبة، وبذلك يكون الخير والفلاح، والأمن والرضا من الله -عز وجل. المسجد ودوره في الاحتساب المسجد -كما هو معلوم- هو الشمعة المضيئة إضاءة يهتدي بها كل فرد داخل البناء الإسلامي في توجهه، وسيره إلى معبوده وخالقه -سبحانه وتعالى- ففيه يتم اتصال المسلم بربه، من خلال ركوعه وسجوده، وفيه يتلى القرآن، ويعلم، ومنه تخرج علماء الإسلام، بداية بصحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم. ورغم ظهور المؤسسات الرسمية من تعليمية وغيرها، فإنها لم تسلب المسجد رسالته وأهميته التعليمية، والتربوية، وسيظل للمسجد أثره وفاعليته الروحية في تكوين عقيدة المسلم، وبناء الشخصية الإسلامية.

وبهذا كان المسجد، وما يزال هو المؤسسة التربوية التي تقوم بإعداد المسلم الإعداد المتكامل الذي يساعده على التكيف مع رسالته في الحياة، ومتطلباتها وفق استعداداته وقدراته دون تقيد بسن معينة. وبذلك حقق المسجد ويحقق أبعادًا تربوية، منها: البعد النفسي، هو التعلم وفق القدرات والاستعدادات، كما قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286)، والبعد الاجتماعي، وهو إعداد الفرد للمشاركة، وبذل الجهد في الحياة العامة، والبعد التكاملي أي: التكامل في الإعداد حيث أن الإسلام ينظر إلى الفرد على أنه وحدة متكاملة من كل الجوانب السابقة الجسمية منها، والعقلية، والروحية. وفي المسجد يتم البناء التربوي متكامل، وعلى هذا فلا سبيل إلى النهوض بالمسلمين فيما يتعلق بدينهم، وتراثهم، وبعث روح الإسلام الفاعلة في نفوسهم إلا برجعة واعية وحثيثة إلى رسالة المسجد، ولا تعني هذه العودة إلغاء كل ما وجد في حياتنا من تطورات مادية، وتوزيع لبعض الوظائف التي كانت للمسجد، فنغلق المدارس والأندية وسائر مراكز النشاط الاجتماعي والثقافي لا، لا نقول ذلك، ولكن ما نريده هو أن تتضافر جهود المخلصين؛ لننقل إلى كل هذه الجهات التي أخذت من وظائف المسجد ننقل إليها روح المسجد؛ فتصبح هي بدورها امتدادًا فاعلًا لرسالة المسجد في حياة المجتمع. إنّ الله -تبارك وتعالى- رفع من شأن المساجد، ومن شأن أهلها، فقال الله -تبارك وتعالى-: {فِي بُيُوتٍ إذًا اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النور: 36، 37)،

ويقول تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة: 18). فالوظيفة الأساسية للمسجد: هي الاجتماع فيها لأداء الصلوات، وهي بالإضافة إلى ذلك أمكنة لتلقي العلم، واجتماع العلماء، ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله -عز وجل- خير من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل)). وبهذا كان المسجد أول المؤسسات التعليمية، فلم يكن عجبًا إذًا أن ارتبط التعليم بالمسجد لزمن طويل، ففي كل مسجد يقام كانت تقوم بداخله مدرسة، أو حلقة، أو حلقات فكرية وعلمية، تعلم القرآن وغيره، ولم يكن التعليم في المساجد يقتصر على تعلم الأمور الشرعية فقط، بل كان يضم إلى ذلك علومًا أخرى، كما يقول السيوطي: بأن دروسًا مختلفة رتبت في الجامع الطولوني في مصر شملت التفسير، والحديث، والفقه، والقراءات، والطب، وغيرها. كما أن من وظائف المسجد: الخلوة مع الله -عز وجل- بالاعتكاف، والتفرغ لذكره، وعبادته. وقد أشار إلى ذلك ربنا -سبحانه وتعالى- في قوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة: 187). وفي المساجد كان يتم التقاضي، ومن ذلك: قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد على رجل اعترف بالزنا، فحكم عليه بإقامة حد الزنا عليه. وروى البخاري في صحيحه: ((أن كعب بن مالك قاضى رجلًا دينًا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما فنادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا كعب، ضع عنك دينك هذا. قال: لقد فعلت ذلك يا رسول الله)).

وفي المسجد كانت تتم مداواة الجرحى وعياداتهم، وكان المسلمون يتشاورون، ويتبادلون الرأي في المساجد، وفي المساجد كانت توزع الأموال من زكوات وغيرها، وفي أكثر بلاد المسلمين كانت تتم في المساجد -وإلى وقت قريب- عقود الأنكحة وإعلانها، وفيها كان يتم استقبال الضيوف. ومن وظائف المسجد الكبرى: أنه المكان الذي يجتمع فيه المسلمون اجتماعات تسودها المحبة، والصفاء، والوئام، مجتمع يحث الجميع فيه بأخوة الإسلام، ووحدة الهدف والمصير. وإذا كان هذا هو دور المسجد، فإنه أيضًا كما أكدنا على ضرورة استغلال، وتسخير الوسائل الإعلامية المختلفة، والتعليم؛ ليكونا وسيلتين فاعلتين تساعد عمل المحتسب داخل المجتمع، فإن المسجد لا يقل أهمية في ذلك، بل هو أقرب وأسهل وأشمل في هذه المساندة لعمل المحتسب. ويُمكننا أن نلخص دور المسجد في مساندة عمل المحتسب في النقاط التالية: أولًا: قيام المُحتسب بنفسه، أو بالتعاون مع العلماء والمشايخ بإلقاء دروس ومواعظ في مسجد الحي الذي يعمل فيه المحتسب، يعلم الناس فيها تعاليم الإسلام، ومبادئه، وينير لهم الطريق بعدم الوقوع فيما يخالف تلك التعاليم والمبادئ؛ حتى إذا ما احتسب على أمر يخالف شيئًا منها كان المخالف على سابق علم بما وقع فيه. ثانيًا: استغلال خطبة الجمعة في طرح القضايا التي يرى المحتسب ضرورة الاحتساب على الناس فيها. ثالثًا: إضافة إلى ما تقدم، يتحين المحتسب الفرص لعقد ندوات بين كل فترة وأخرى، وليكن موضوعها: القضايا التي تهم أهل تلك الجهة، ولا تكفي خطبة الجمعة لمناقشتها، بحيث يتولى المنتدون مناقشة القضية من كل جوانبها.

الحركات الإسلامية المعاصرة ودورها في الاحتساب.

رابعًا: استغلال تواجد المسلمين في المساجد، وتزويدهم ببعض النشرات، والرسائل العلمية القصيرة والمفيدة، والتي يعدها العلماء والمختصون في موضوعات إسلامية محددة، يتم بواسطتها توعيتهم وتعليمهم، وهذا نوع من الاحتساب في تعليم الناس الخير. خامسًا: الاستعانة بالطيبين من جامعة المسجد في بذل النصح للمقصرين، والمتهاونين في واجباتهم الدينية، لا سيما فيما يتعلق بالصلاة، وتخلف البعض عن أدائها في المساجد، فإن ذلك من أكبر المنكرات. سادسًا: الاستفادة من تواجد الناس في المساجد؛ للتنويه عن بعض المُخالفات التي يقع فيها بعض الشواذ من الناس، بشرط ألا يجرح أحد، ولا يعلن اسم، بل بما جرت عليه السنة، كما كان -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((ما بال أقوام فعلوا كذا وكذا، أو قالوا كذا وكذا))، فبهذه الخطوات وغيرها مما لم نذكر، يمكن أن يؤدي المسجد الدور الرائد في مساندة عمل المحتسب في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. الحركات الإسلامية المعاصرة ودورها في الاحتساب إن أمة الإسلام مكلفة بتبليغ الحق الذي جاء من عند الله، وإرشاد البشرية بذلك إلى ما يسعدهم، ويجلب لهم الفلاح في الدنيا والآخرة، وذلك من خلال جعلهم من أنفسهم، وهم يقومون بهذا التكليف نموذجًا تُحتذى أفعاله، وتسمع أقواله. ومن أجل ذلك، فلم تنقطع مسيرة الدعوة إلى الله، ومحاولة إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، ومن عبودية العباد إلى عبادة رب العباد، هذا من جهة، ومن جهة ثانية بترسيخ مفاهيم الإسلام بين أتباعه الذين يدينون به.

ورغم استمرار الدعوة الإسلامية على مر العصور الإسلامية الماضية إلا أنها، وباعتبارها جهودًا بشرية محدودة تتعرض من حين لآخر للقوة والضعف؛ ولهذا فإن عناية الله -سبحانه وتعالى- بهذه الأمة تتجلى في فترة الضعف بالذات؛ حيث يقيض الله للمسلمين من يقوم منهم ليعيد للدين نضارته، وينتشل المسلمين من كبوتهم، ويزيل الغبش الذي قد يكون علق بأذهانهم، وفكرهم، فلبس عليهم دينهم. وتأتي عناية الله -كما نوهنا من قبل- فتقيض للأمة من داخل نفسها، ومن أبنائها البررة من يحاول إعادة الأمة إلى جادة الصواب. والأمة اليوم تعج الساحة الإسلامية بحركات إسلامية، لا شك في أنها مثلت مظهرًا من مظاهر الرجعة إلى الدين، والتي أعادت -وبحق- جريان الإسلام في عروق وقلوب الأمة بعد أن تكالبت كل الشرور من الأعداء؛ لوقف الدين، ودفن ينابيعه. لكننا نريد أن نؤكد على أن الإسلام هو دين الوحدة شعاره: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)، وشعاره: التواثق، والترابط، والبروز صفًّا واحدًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)). وقد كثرت النصوص في الأمر بالاجتماع، والنهي عن التفرق، من ذلك قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، إلى أن قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105)، وقال تعالى في ذم الخلاف والفرقة: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام: 159).

وقد كثرت كتابات العلماء المخلصين في الحث على الاجتماع، والنهي عن التفرقة، ودعوة كل الأحزاب الإسلامية، والجماعات الإسلامية إلى الاجتماع على كتاب الله، وسنة رسول الله بفهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ومن أبرز هذه الكتابات: ما قاله الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- في كتاب (حلية طالب العلم)، فإنه يقول محذرًا من التحزب: "إن الحزبية ذات المسارات والقوالب المستحدثة التي يعدها السلف من أعظم العوائق عن طلب العلم، والتفريق عن الجماعة، فكم وهنت حبل الاتحاد الإسلامي، وغشيت المسلمين بسبب الغواشي، فاحذر -رحمك الله- أحزابًا وطوائف طاف طائفها، ونجم بالشر ناجمها، فما هي إلا كالميازيب، تجمع ماء كدرًا، وتفرقه هدر ً ا، إلا ما رحم ربك". ويقول الشيخ سعد الحصين: "وكيف تتجمع الصفوف، ويتحد المسلمون بواسطة جماعات، وطوائف، وأحزاب متفرقة، يحاول كل طرف فيها أن يثبت أنه على الحق، وغيره على الباطل، يؤيد حزبه، ويعارض الأحزاب الأخرى، ثم يضيف متسائلًا مرة أخرى: أم كيف تتجمع الصفوف، ويتحد المسلمون على عقائد مختلفة، وعلى مناهج مبتدعة، وعلى عبادات لم يكن عليها أمر محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه -رضوان الله عليهم أجمعين-؟! ولقد أفتت اللجنة الدائمة بالرياض: بأنه لا يجوز التفرق، وأن على المسلمين أن يجتمعوا على كتاب الله، وسنة رسول الله. ففي الفتوى رقم 1674 بتاريخ 7/ 10/ 1397، قالت اللجنة: لا يجوز أن يتفرق المسلمون في دينهم شيعًا وأحزابًا، يلعن بعضهم بعضًا، ويضرب بعضهم رقاب بعض، فإن هذا التفرق

مما نهي عنه ونعي على من أحدثه أو تابع أهله، وتوعد فاعلوه بالعذاب العظيم. وقد برئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159)، وثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض))، والآيات والأحاديث في ذم التفرق كثيرة. وعليه، فإنها دعوة مخلصة نوجهها إلى جميع العاملين في الحركات الإسلامية، والجماعات الإسلامية {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24)، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، اجتمعوا على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله بفهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنهم الذين تلقوا القرآن والسنة من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غضين طريين، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدًا بعدي كتاب الله، وسنتي)). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 8 المحتسب فيه (1).

الدرس: 8 المحتسب فيه (1).

تعريف المحتسب فيه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (المحتسَب فيه (1)) تعريف المحتسب فيه إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: قال الإمام أبو حامد الغزالي -رحمه الله-: "المحتسب فيه: هو كل منكر موجود في الحال، ظاهر للمحتسب بغير تجسس، معلوم كونه منكرًا بغير اجتهاد". قال الدكتور عبد الكريم زيدان: "الحسبة -كما سبق تعريفها- هي أمر بمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن منكر إذا ظهر فعله، وهذا التعريف في الواقع يشمل موضوع الحسبة والاحتساب ذاته، فالموضوع هو المعروف والمنكر، والاحتساب هو الأمر بالأول، والنهي عن الثاني، ثم إنّ المنكر قد يكون بإيجاد فعل نهت الشريعة عنه، وقد يكون بترك فعل أمرت الشريعة بفعله، فيكون المنكر بهذا الاعتبار ذا وجهين: الأول: إيجابي، يتمثل بإيجاد الفعل المحظور شرعًا. والثاني: سلبي، يتحقق بترك الفعل المطلوب شرعًا، وهو المعروف. ويكون الاحتساب في الوجهين بالنهي عنهما، أي: بالنهي عن إيجاد الفعل المحظور؛ حتى لا يوجد، أو الانكفاف عنه بعد وجوده، وبالنهي عن ترك الفعل المشروع حتى يوجد. وعلى هذا، فنحن نؤثر أن نجعل موضوع الحسبة هو المنكر بوجهيه، ويكون الاحتساب فيه بالنهي عنه بهذين الوجهين. وإذا كان موضوع الحسبة هو المنكر بوجهيه: الإيجابي، والسلبي، فما المقصود بالمنكر إذن؟

الغالب أنّ هذه الكلمة تطلق على المعصية، والمعصية: هي مخالفة الشريعة بارتكاب ما نهت عنه، أو ترك ما أمرت به، سواء كانت المعصية من صغائر الذنوب أو كبائرها، وسواء تعلقت بحق الله أو بحق العبد، وسواء ورد بها نص شرعي خاص، أو عرف حكمها من قواعد الشريعة وأصولها العامة، وما أرشدت إليه من مصادر، وسواء كانت المعصية من أعمال القلوب، أو أعمال الجوارح. ولكن كلمة المنكر في باب الحسبة تطلق على معنى أوسع مما ذكرناه، فتطلق على كل فعل فيه مفسدة، أو نهت الشريعة عنه، وإن كان لا يعتبر معصية في حق فاعله، إما لصغر سنه أو لعدم عقله؛ ولهذا إذا زنا المجنون، أو هم بالزنا، وإذا شرب الصبي الخمر كان ما فعلاه منكرًا، يستحق الإنكار، وإن لم يعتبر معصية في حقهما؛ لفوات شرط التكليف، وهو العقل والبلوغ. والجهةُ التي تملك إعطاء وصف المنكر لأي فعل أو ترك هي الشريعة الإسلامية؛ لأنّ إعطاء هذا الوصف حكم شرعي، والحاكم هو الله تعالى، كما قال -عز وجل-: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (يوسف: 40) وما على الفقهاء إلا التعرف على حكم الله، فعملهم هو كشف عن الحكم الشرعي، وليس إنشاء للحكم الشرعي. ولهذا إذا تبين خطؤهم لم نتابعهم عليه؛ لأن الحجة فيما بينه الشرع، وقد ظهر لنا، ولأن مهمة الفقهاء الكشف وليس الإنشاء كما قلنا. وقد يعترض البعض علينا بأن الفقهاء قالوا: إن ما رآه المسلمون حسنًا أو قبيحًا دخل في موضوع الحسبة أمرًا بالأول ونهيًا عن الثاني، فكيف نوفق بين هذا القول، وبين ما قلناه؟

شروط المحتسب فيه.

والجواب: أن الشريعة الإسلامية دلت على أن الإجماع حجة معتبرة، فإذا أخذنا بما رآه المسلمون حسنًا فأمرنا به، وبما رأوه قبيحًا فنهينا عنه، فإنما نأخذ بدليل الإجماع، وهو دليل شرعي أرشدتنا إليه الشريعة، وكذلك أخذنا بالعرف الصحيح، هو اتباع بما أرشدتنا إليه الشريعة من مراعاة العرف الصحيح. شروط المحتسب فيه أما شروطه: فقد قال ابن النحاس في (تنبيه الغافلين): "يشترط في الفعل الذي يجب إنكاره: أن يكون منكرًا، سواء كان صغيرة أو كبيرة؛ إذ لا يختص وجوب الإنكار بالكبائر دون الصغائر، ولا يشترط في كونه منكرًا أن يكون معصية، فإن من رأى صبيًّا أو مجنونًا يشرب الخمر، فعليه أن يريق خمره، ويمنعه من شربه، وكذا من رأى مجنونًا يزني بمجنونة، أو بهيمة، وجب عليه منعه، وإن كان في خلوة، وإن كان هذا لا يسمى في حق المجنون معصية. ويشترط أيضًا: أن يكون المنكر موجودًا، يعني: مستمرًّا، فمن فرغ من شرب الخمر مثلًا لم يكن لآحاد الرعية الإنكار عليه بغير الوعظ إذا صحا من سكره، بل الأفضل لمن رآه، أو علم به أن يستر عليه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة)). ومحل الستر: فيما إذا لم تصل الحدود إلى الحكام، فإذا وصلت إليهم بالطريق الشرعي لم يجز ستره، وتحرم الشفاعة فيه؛ للحديث المشهور: أن أسامة بن زيد لما كلم النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن المرأة المخزومية التي سرقت؛ غضب عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: ((أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فخطب الناس ثم قال: وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).

وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)). قال الإمام النووي في شرح مسلم: "وإنما يندب الستر على من كان من ذوي الهيئات مثل: العلماء، وأولياء الأمور، ونحوهم، ممن ليس معروفًا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب ألّا يستر عليهم، بل يرفع قصته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يطغيه، ويطمعه في الإيذاء والفساد، وانتهاك الحرمات، فلو لم يستر على من لم يندب الستر عليه، بل رفعه إلى السلطان ونحوه، لم يأثم بالإجماع لكن هو خلاف الأولى". وأما المُنكر الذي يعلم بقرائن الحال أنه سيوجد، فلا إنكار فيه إلا بالوعظ، بشرط: أن يكون صاحبه معترفًا بعزمه عليه، فإن أنكر عزمه عليه لم يجز وعظه، فإن فيه إساءة الظن بالمسلم. فإن قيل: ينبغي أن نقول هذا فيمن خلا بأجنبية، أو وقف ينظر إلى النساء الأجنبيات؛ لأنه ربما لا يقدم على الفسق أو يعترف بعزمه عليه. قلنا: إنما أنكرنا عليه من حيث إن الخلوة معصية، والنظرة معصية في ذاتها، لا من حيث إننا نتوقع به معصية قد لا يقدم عليها. الشرط الثالث في المنكر: أن يكون ظاهرًا بغير تجسس، فكل من ستر معاصيه في داره وأغلق عليه بابه لا يجوز لأحد أن يتجسس عليه. قال الإمام الماوردي: "ليس للمحتسب أن يبحث عما لا يظهر من المحرمات، وإن غلب الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت، وذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون في ذلك حرمة يفوت استدراكها مثل: أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلًا خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا

الحال أن يتجسس، ويقدم على الكشف والبحث؛ حذارًا من فوات ما لا يستدرك، وكذلك لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار. قال ابن النحاس: قلت: والأمر مداره على التقوى. والوجه الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه". وقال ابن مفلح في (الآداب الشرعية): نص أحمد فيمن رأى إناء يرى أن فيه مسكرًا، نص أنه يدعه، يعني: أنه لا يفتشه، ترجم عليه الخلال: ما يكره أن يفتش إذا استراب به، وقطع القاضي في (المعتمد) أنه لا يجوز إنكار المنكر إذا ظن وقوعه، وحكى عن بعضهم أنه يجب، واختار ابن المنذر وغيره من الأئمة أن الميت إذا نيح عليه يعذب إذا لم يوص بتركه، وكان من عادة أهله النوح، وهذا معنى اختيار الشيخ فخر الدين في (التلخيص). قال الشيخ مجد الدين في (شرح الهداية)، وهو أصح الأقوال: لأنه متى غلب على ظنه فعلهم له، ولم يوص بتركه مع القدرة، فقد رضي به، فصار كتارك النهي عن المنكر مع القدرة، فقد جعل ظن وقوع المنكر بمنزلة المنكر الموجود في وجوب الإنكار، والمشهور عندنا في هذه الحال: أنه لا يعذب. وذكر القاضي أبو يعلى في (الأحكام السلطانية): إن غلب على الظن استسرار قوم بالمعصية؛ لأمارة دلت، وآثار ظهرت، فإن كان في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل: أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلًا خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها جاز أن يتجسس، ويقدم على البحث والكشف، وهذا في المحتسب دون غيره.

الشرط الرابع: يشترط في المنكر أن يكون معلومًا بغير اجتهاد: قال الإمام النووي في (شرح مسلم): العلماءُ إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه: فلا إنكار فيه؛ لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين، أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه؛ لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب، مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو وقوع في خلاف آخر. وذكر الماوردي في كتاب (الأحكام السلطانية) خلافًا بين العلماء في أن من قلده السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد، أم ليس له أن يغير ما كان على مذهب غيره؟ والأصح أنه لا يغير؛ لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين، فمن بعدهم -رضي الله عنهم أجمعين- ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي، ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصًّا، أو إجماعًا، أو قياسًا جليًّا. وقال الحافظ ابن رجب في (جامع علوم والحكم) في شرح حديث: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره)) قال: والمنكر الذي يجب إنكاره: ما كان مجمعًا عليه، فأما المختلف فيه: فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدًا، أو مقلدًا لمجتهد تقليدًا سائغًا. واستثنى القاضي في (الأحكام السلطانية) ما ضعف فيه الخلاف، وإن كان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كربا النقد، فالخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة إلى ربا النسا المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة؛ فإنه ذريعة إلى الزنا.

وذكر عن إسحاق بن شقلا أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صراحة. عن ابن بطة قال: لا يفسخ نكاح حكم به قاض إن كان قد تأول فيه تأويلًا إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة، أو طلق ثلاثًا في لفظ واحد، وحكم بمراجعة من غير زوج، فحكمه مردود، وعلى فاعله العقوبة والنكال. والمنصوص عن أحمد: الإنكار على اللاعب بالشطرنج، وتأوله القاضي على من لعب بها بغير اجتهاد، أو تقليد سائغ، وفيه نظر؛ فإن النصوص عنه: أنه يحد شارب النبيذ المختلف فيه، وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار مع أنه لا يفسق عنده بذلك، فدل على أنه ينكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف؛ لدلالة السنة على تحريمه، ولا يخرج فاعل متأول عن العدالة بذلك، وكذلك نص أحمد على الإنكار على من لا يتم صلاته، ولا يقيم صلبه في الركوع والسجود، مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك. هذه هي أقوال الفقهاء في هذا الشرط من شروط المنكر، وهو ألا ينكر المختلف فيه، وللإمام ابن القيم -رحمه الله- رأي وجيه في هذه المسألة، فقد قال في كتابه (إعلام الموقعين): خطأ من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف. قال: قولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى، أو العمل، أما الأول: فإذا كان القول يخالف سنة، أو إجماعًا شائعًا وجب إنكاره اتفاقًا، وإن لم يكن كذلك، فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله. وأما العمل: فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة، ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مسار، لم تنكر على من عمل بها مجتهدًا، أو مقلدًا،

وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم. والصواب: ما عليه الأئمة، أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا، مثل: حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ فيها -إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به يسوغ فيها- الاجتهاد؛ لتعارض الأدلة، أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في قول العالم: إن هذه المسألة قطعية أو يقينية، ولا يسوغ فيها الاجتهاد، ليس في قوله هذا طعن على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب. والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثيرة، مثل: كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وإن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج، وإن لم ينزل، وأن ربا الفضل حرام، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضرًا وسفرًا، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع، والرفع منه سنة، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، وأن الوقف صحيح لازم، وأن دية الأصابع سواء، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم، وأن الخاتم من حديد يجوز أن يكون صداقًا، وأن التيمم إلى الكوعين بضربة واحدة جائز، وأن صيام الولي عن الميت يجزئ عنه. وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه، وأن السنة أن يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأن خيار المجلس ثابت في البيع، وأن

المصراة يرد معها عوض اللبن صاعًا من تمر، وأن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وأن القضاء جائز بشاهد ويمين، إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل. ولهذا صرح الأئمة بنقض حكم من حكم بخلاف كثير من هذه المسائل، من غير طعن منهم على من قال بها. وعلى كل حال، فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب، وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلد من نهاه عن تقليده، وقال له: لا يحل لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وإذا صح الحديث فلا تعبأ بقولي. وحتى لو لم يقل له ذلك، كان هذا هو الواجب عليه وجوبًا لا فسحة له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسعه إلا اتباع الحجة، ولو لم يكن له في هذا الباب شيء من الأحاديث والآثار البتة، فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعلم أصحابه هذه الحيل، ولا يدلهم عليها، ولو بلغه عن أحد فعل شيئًا منها؛ لأنكر عليه، ولم يكن أحد من أصحابه يفتي بها، ولا يعلمها، وذلك مما يقطع به كل من له أدنى اطلاع على أحوال القوم، وسيرتهم، وفتاويهم، وهذا القدر لا يحتاج إلى دليل أكثر من معرفة حقيقة الدين الذي بعث الله به رسوله الأمين -صلى الله عليه وسلم. وقد لخص الدكتور عبد الكريم زيدان في كتاب (أصول الدعوة) كلام ابن القيم هذا فقال في اشتراط عدم الخلاف: يشترط في المنكر أن يكون مما اتفق الفقهاء على اعتباره منكرًا؛ حتى لا يحتج المحتسب عليه بأن ما يفعله جائز على رأي بعض الفقهاء، وإن كان غير جائز على رأي المحتسب.

شمولية المحتسب فيه.

ولكن إذا كان المنكر مما اختلف الفقهاء فيه، فهل يمنع ذلك الاختلاف من الاحتساب فيه بدون قيد ولا شرط؟ الواقع، أن الخلاف إما أن يكون سائغًا، وإما ألا يكون سائغًا، ولكل حكمه: أما الخلاف السائغ: فإنه يمنع من الاحتساب على رأي بعض الفقهاء، وقال آخرون: يجوز للمحتسب أن ينكر على فاعل المنكر المختلف فيه، بشرط أن يكون المحتسب مجتهدًا. وأما الخلاف غير السائغ: وهو الخلاف الشاذ أو الباطل الذي لا يعتد به؛ لعدم قيامه على أي دليل مقبول، كالذي يخالف صريح القرآن، أو السنة الصحيحة المتواترة، أو المشهورة، أو إجماع الأمة، أو ما علم من الدين بالضرورة، فمثل هذا الخلاف لا قيمة له، ولا يمنع المحتسب من الإنكار والاحتساب. شمولية المحتسب فيه شمولية المحتسب فيه للدين كله: قال الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية): إذا استقر ما وصفناه من موضوع الحسبة، فهي تشتمل على فصلين: أحدهما: أمر بالمعروف. والثاني: نهي عن المنكر. فأما الأمر بالمعروف: فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما يتعلق بحقوق الله تعالى.

والثاني: ما يتعلق بحقوق الآدميين. والثالث: ما يكون مشتركًا بينهما. ثم تكلم عن كل واحد من هذه الثلاث، وقال: "وأما النهي عن المنكر: فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان من حقوق الله تعالى. والثاني: ما كان من حقوق الآدميين. والثالث: ما كان مشتركًا بين الحقين. فأما النهي عنها في حقوق الله تعالى فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما تعلق بالعبادات. والثاني: ما تعلق بالمحظورات. والثالث: ما تعلق بالمعاملات". ثم قال: "وأما ما تعلق بالمحظورات فهو أن يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، وأما المعاملات المنكرة كالزنا والبيوع الفاسدة، وما منع الشرع منه مع تراضي المتعاقدين به، إذا كان متفقًا على حظره، فعلى والي الحسبة إنكاره، والمنع منه، والزجر عليه، وأمره في التأديب مختلف بحسب الأحوال، وشدة الحظر. ثم تكلم الفقهاء في أنواع المعاملات على كثرتها، واختلافها، وأماكنها، ومحالها، وأطالوا في ذلك طولًا نعجز عن الإتيان عليه في درس واحد". لكن الدكتور عبد الكريم زيدان قد أوجز الكلام في شمولية المحتسب فيه فقال: "الشرط الجوهري في موضوع الحسبة أن يكون منكرًا في الشريعة

الإسلامية، وحيث إن من صفات الشريعة الشمول بمعنى: أن لها حكما في كل شيء بلا استثناء، فإن موضوع الحسبة يصير واسعًا جدًّا بحيث يشمل جميع تصرفات وأفعال الإنسان، ولا يخرج من ذلك إلا ما لا تتوافر فيه شروط الاحتساب، ولا يدخل في ولاية المحتسب. وقد أشار الفقهاء إلى هذه السعة، فالفقيه ابن الإخوة يقول: والمحتسب من نصبه الإمام، أو نائبه للنظر في أحوال الرعية، والكشف عن أمورهم، ومصالحهم، وابتياعاتهم، ومأكولاتهم، ومشروبهم، وملبوسهم، ومساكنهم، وطرقهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر". ويقول ابن خلدون وهو يتكلم عن المحتسب، ويبحث عن المنكرات، ويعزر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل: المنع من المضايقات في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتعينة في للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة ... إلى آخره". ثم أجمل القول، وضرب الأمثلة على اتساع موضوع الحسبة، فقال: أولًا: الحسبة في الاعتقادات: تجري الحسبة في أمور العقيدة، فمن أظهر عقيدة باطلة، أو أظهر ما يناقض العقيدة الإسلامية الصحيحة، أو دعا الناس إليها، أو حرف النصوص، أو ابتدع في الدين بدعة لا أصل لها منع من ذلك، وجرت الحسبة عليه؛ لأن التقول على الله ودينه بالباطل لا يجوز، ويناقض العقيدة الإسلامية التي من أصولها: الانقياد، والخضوع لله رب العالمين، ولشرعه -عز وجل- قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33).

ويدخل في ذلك رواية الأحاديث المقطوع ببطلانها وكذبها، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار))، فلا تجوز رواية الأحاديث المقطوع ببطلانها وكذبها إلا لبيان بطلانها وكذبها، ويدخل في ذلك أيضًا تفسير كتاب الله -عز وجل- بالباطل من القول، كتفسير الباطنية الذي لا تحتمل النصوص ولا اللغة ولا الشرع ولا المنقول عن السلف الصالح، فلا يجوز لأحد أن يقول في كتاب الله -عز وجل- ما لا يحتمله. ثانيًا: الحسبة في العبادات: مثل: ترك صلاة الجمع من قبل أهل قرية أو بلد مع توافر شرط إقامتها، وترك الأذان، أو الزيادة فيه بما لم يأت به الشرع، فلو اتفق أهل بلد وجبت عليهم الجمعة على تركها، وجب على المحتسب أمرهم بها، وحثهم على إقامتها، وكذلك لو تركوا الأذان؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الأذان علامة الإسلام، وكان إذا أراد أن يغزو قوم بات خارج البلد حتى يصبح، فإن سمع أذانًا كف عنهم، وإلا أغار عليهم. كذلك يجب على المُحتسب أن ينكر الزيادات التي يزيدها بعض المؤذنين في أذانهم مما لم يأت في السنة، فكلمات الأذان معروفة ومعدودة، مفتتحة بالتكبير، ومختتمة به، وبين ذلك الشهادتان، والدعوة إلى الصلاة والفلاح، فمن البدع في الأذان: الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الأذان وبعده، وقراءة القرآن قبل الأذان وقبل الإقامة، وما يسمونه: بالابتهالات، كل هذا من البدع في العبادة التي يجب على المحتسب أن ينهى عنها. ومثل: المخالف لهيئات العبادة، كالجهر في صلاة الإسرار، والإسرار في صلاة الجهر، أو الزيادة في الصلاة، أو عدم الطمأنينة فيها، وكالإفطار في رمضان، وكالامتناع عن إخراج الزكاة، فإن هذا كله داخل في موضوع الحسبة.

كما أن الحسبة تدخل في المعاملات مثل: عقد العقود المحرمة، وأكل أموال الناس بالباطل بالربا وغيره، والرشوة؛ فإن هذه العقود محرمة، يجب على المحتسب أن ينكرها على أهلها، وأن يحول بينهم وبينها. كذلك يدخل في الحسبة الغش في الصناعات، والبياعات؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد دخل السوق، وأنكر على من غش الطعام، ففي الحديث المشهور عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ما هذا يا صاحب الطعام؟! فقال: أصابته السماء يا رسول الله. فقال -صلى الله عليه وسلم-: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، مَن غشنا فليس منا)). والواقع أن الغش يكون في أشياء كثيرة جدًّا، فيكون مثلًا: في البيوع بكتمان العيوب، وتدليس السلع، فلا يحل لمسلم أن يبيع سلعة يعلم بها عيبًا إلا بينها للمشتري، فإن فعل بارك الله له ولصاحبه، وإن كتم محقت بركة بيعه، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)). وقد قال جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-: "بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم، وذات يوم أرسل غلامًا له يشتري له فرسًا، فاشترى الغلام الفرس بثلاثمائة درهم، فلما جاء الغلام بالفرس سأله: بكم اشتريته؟ قال: بثلاثمائة درهم. فقال: أتعرف صاحبه؟ قال: نعم. قال: دلني عليه. فقام جرير بن عبد الله وأتى البائع فقال: أبعت فرسك هذا؟ قال: نعم. قال: بعته بثلاثمائة درهم؟ قال: نعم. قال: لا؛ إن فرسك يستحق أكثر من هذا، أتبيعه بأربعمائة أتبيعه بخمسمائة، فما يزال يريده حتى رفع الثمن من ثلاثمائة إلى ثمانمائة درهم، ثم قال: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم".

فالغشُّ يكون في البيوع بكتمان العيوب، وتدليس السلع مثل: أن يكون ظاهر المبيع خيرًا من باطنه، وهذا كما يفعله كثير من الناس، يجعلون الأعلى دائمًا خير ما في الصندوق، وأما الأسفل فهو أردأ بكثير من الأعلى، ويدخل في الصناعات مثل: الذين يصفون المطعومات، والملبوسات، فيجب نهي هؤلاء عن الغش الذي يرتكبونه في مصنوعاتهم أو بياعاتهم. كما أن الحِسبة تدخل فيما يتعلق بالطرق والدروب، مثل: بناء الدكان، ووضع الاسطوانات، وورث الأشجار، ووضع الأخشاب، والسلع، والأطعمة في الطرقات، وذبح الحيوانات في الطريق، وتلويث الأرض بالدماء، وطرح القمامة في الدروب والأزقة، وإلقاء قشور البطيخ فيها، ورشها بالماء بحيث يخشى منها الزلق، ونحو ذلك مما فيه ضرر بالناس، فعلى المحتسب أن يمنع ذلك كله، وأن يحتسب فيه؛ لأن فيه ضررًا، وهو ممنوع في الشريعة، وإذا وقع الضرر وجب رفعه. كذلك تدخل الحسبة في الحرف والصناعات، وقد ذكر فقهاء جميع الحرف والصناعات، وبينوا كيفية الاحتساب فيها، والأصول الجامعة في الاحتساب فيها هي: أولًا: من حيث المكان: فيجب أن يكون مكان الحرفة أو الصنعة لا ضرر فيه على الآخرين، فلا يكون مكان الخباز في سوق الأقمشة مثلًا، وأن يكون المكان بذاته صالحًا لمباشرة المهنة أو الصنعة، وصلاحه من جهة نظافته، وسعته، وتهويته. ثانيًا: من حيث أدوات الحرفة أو الصنعة: يجب أن تكون صالحة للاستعمال، وقد وضع الفقهاء -رحمهم الله تعالى- مقاييس لصلاح كل أداة، كأنهم هم أصحاب تلك الصنائع والحرف، فالإمام الشيزري يقول: "ينبغي أن يكون مقلى الزلابية من

النحاس الأحمر الجيد"، ثم يبين كيفية إعداده للاستعمال فيقول: "ويحرق فيه النخالة، ثم يدلكه بورق السلق إذا برد، ثم يعاد إلى النار ويجعل فيه قليل من عسل، ويوقد عليه حتى يحترق العسل، ثم يجلي بعد ذلك أو يجلى بعد ذلك بمدقوق الخزف، ثم يغسل ويستعمل، فإنه ينقى من وسخه وزنجاره". ثالثًا: إذا كانت أدوات الحرفة مقاييس للوزن أو الكيل أو الزرع وجب التأكد من سلامة هذه المقاييس وصحتها. رابعًا: من جهة المصنوع أو المبيع: يجب أن يكون خاليًا من الغش والتدليس، فلا تخلط الحنطة بالتراب، ولا يخلط الطحين بغيره من المواد الرديئة، وأن توضع العلامات المميزة لكل نوع إذا اتحد الجنس. خامسًا: من جهة من يباشر الصنعة والحرفة: يجب أن يلاحظ المحتسب أهليتهم، وقد ذكرنا من قبل قيام المحتسب امتحان الكحال، وهو طبيب العيون، وهكذا قالوا في امتحان أصحاب الحرف الأخرى. كذلك الأخلاق والفضيلة تدخل في موضوع الحسبة، فينبغي للمحتسب أن يلاحظ ويحتسب فيما يتعلق بالأخلاق والآداب، والفضيلة، فيمنع ما يناقض الأخلاق الفاضلة والآداب الإسلامية، مثل: الخلوة بالأجنبية، والتطلع على الجيران من السطوح والنوافذ، وجلوس الرجال في الطرقات والنساء، وأماكن خروجهن، أو تجمعهن، أو التحرش بهن، ومثل التكشف بالطرقات بإظهار العورات، وما لا يحل كشفه وإظهاره، ومنع من عرف بالفجور من معاملة النساء، قال أبو يعلى الحنبلي: "وإذا كان من أهل الأسواق من يختص بمعاملة النساء راعى المحتسب سيرته وأمانته، فإذا تحققها منه أقره على معاملتهن، وإن ظهرت منه الريبة، وبان عليه الفجور منعه من معاملتهن، وأدبه على التعرض لهن. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 9 المحتسب فيه (2).

الدرس: 9 المحتسب فيه (2).

قاعدة في تغيير المنكر.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (المحتسب فيه (2)) قاعدة في تغيير المنكر إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: إنما يطلب الاحتساب إذا كان من ورائه تحصيل مصلحة، أو دفع مفسدة، فإذا كان ما يترتب عليه فوات معروف أكبر، أو حصول منكر أكبر، لم يكن هذا الاحتساب مطلوبًا شرعًا، وإن كان المحتسب عليه قد ترك واجبًا، أو فعل محرمًا؛ لأن على المحتسب أن يتقي الله تعالى في عباده، وليس عليه هداهم، وليس من تقوى الله أن يتسبب باحتسابه في فوات معروف أكبر، أو حصول منكر أكبر؛ لأنّ الشرع إنما أوجب الحسبة؛ لقمع الفساد، وتحصيل الصلاح. فإذا كان ما يترتب على الاحتساب مقدارًا من الفساد أكبر من الفساد القائم، أو يفوت من الصلاح مقدارًا أكبر من الصلاح الفائت، لم يكن هنا الاحتساب مما أمر به الشرع. والأصل في ذلك ما رواه الشيخان، وغيرهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: ((يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون)). وقد أخرج الإمام البخاري رحمه هذا الحديث في مواضع من كتابه أولها: كتاب العلم، في باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقع في أشد منه. وقد قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في شرح هذه الترجمة: "وفي الحديث معنى ما ترجم له؛ لأن قريشًا كانت تعظم أمر الكعبة جدًّا، فخشي -صلى الله عليه وسلم- أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها؛ لينفرد بالفخر عليهم في ذلك،

ويستفاد منه: ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه إنكار ترك المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان مفضولًا، ما لم يكن محرمًا. ومن المواضع التي أخرج البخاري -رحمه الله- هذا الحديث فيها، كتاب الحج، باب: فضل مكة وبنيانها. وقد تكلم الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أيضًا على فوائد هذا الحديث وقال: "وفي حديث بناء الكعبة من الفوائد غير ما تقدم ما ترجم عليه المصنف في العلم، وهو ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس، فيقع في أشد منه، قال: والمراد بالاختيار في عبارته: المستحب. وفي الحديث: اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب، وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة، وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة". ويقول الإمام النووي -رحمه الله- في شرح هذا الحديث أيضًا في (شرح مسلم): "وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام، منها: إذا تعارضت المصالح، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة، وترك المفسدة بدئ بالأهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا؛ وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيمًا، فتركها -صلى الله عليه وسلم-".

وقد أطال كل من ابن القيم -رحمه الله- شيخه ابن تيمية -رحمه الله- في بيان هذه القاعدة؛ فقال ابن القيم في (إعلام الموقعين) بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد، قال -رحمه الله-: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله -صلى الله عليه وسلم- أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح. فهي بها الحياة، والغذاء، والدواء، والنور، والشفاء، والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا، وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله -سبحانه وتعالى- خراب الدنيا، وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخر". ثم قال -رحمه الله- بعد هذه المقدمة: "ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه -بحول الله تعالى وتوفيقه ومعونته- بأمثلة صحيحة، المثال الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرع لأمته

إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر، وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة -رضوان الله عليهم- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم. فقال: ((لا، ما أقاموا الصلاة)). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر، ولا ينزعن يدًا من طاعته)). ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته؛ فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بمكة أكبر المنكرات، ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة، وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر. ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد. فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده. الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.

فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة. فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كسباق الخيل، ونحو ذلك. وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب، أو سماع مكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلا لهم عن ذلك. وكما إذا كان الرجل مشتغلًا بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع. قال -رحمه الله-: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحه- يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال فدعهم". أما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقد قرر هذه القاعدة في أكثر من موضع، فقال -رحمه الله- في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: "إذا كان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات، والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا يعثت الرسل، ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به فهو صلاح، وقد أثنى الله تعالى على الصلاح والمصلحين: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (العنكبوت: 7)، وذم المفسدين في غير موضع.

فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به، وإن كان قد ترك واجب، وفعل محرم؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هداهم، وهذا معنى قول ربنا -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105)، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال. وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد، فأما القلب فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((وذلك أضعف الإيمان)). وقال: ((ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)). وقيل لابن مسعود: "من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا". وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان، وهنا يغلط فريقان من الناس، فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلًا لهذه الآية، كما قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في خطبته: "إنكم تقرءون هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105). وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)) ". والفريق الثاني من يريد أن يأمر وينهى، إما بلسانه، وإما بيده مطلقًا من غير فقه، وحلم، وصبر، ونظر فيما يصلح من ذلك، وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن

هذه الآية فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرًا لا يدان لك به، فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائك أيامًا الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله)). فيأتي بالأمر والنهي معتقدًا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو معتد في حدوده كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء، كالخوارج، والمعتزلة، والرافضة، وغيرهم ممن غلط فيما أتاهم من الأمر، والنهي، والجهاد على ذلك، وكان فساده أعظم من صلاحه. ولهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة، وقال: ((أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم)). ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، ويجعل المعتزل أصول دينهم خمسة: التوحيد الذي هو سلب الصفات، والعدل الذي هو التكذيب بالقدر، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي منه قتال الأئمة". قال -رحمه الله-: "وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع، وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة، فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي، وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة، ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرّمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر.

وعلى هذا، إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعًا، أو يتركوهما جميعا لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر، فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونهم من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه. وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرًا بمنكر، وسعيًا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما، ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة، وأما من جهة النوع: فيؤمر بالمعروف مطلقًا، وينهى عن المنكر مطلقًا، وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها، وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه، أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه، أو فوات معروف أرجح منه. وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصيًا، فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية، وهذا باب واسع، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن هذا الباب: إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن أبي، وأمثاله من أئمة النفاق والفجور؛ لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك

بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدًا يقتل أصحابه؛ ولهذا لما خاطب الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به، واعتذر منه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه، حمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه". وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قاعدة تدافع أو تعارض الحسنات والسيئات فقال -رحمه الله- في موضع آخر: "إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين، وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فقد أمر الله تعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بأفعال واجبة ومستحبة. وإن كان الواجب مستحبًّا وزيادة، ونهى عن أفعال محرمة أو مكروهة، والدين هو طاعة الله، وطاعة رسوله، وهو الدين والتقوى، والبر والعمل الصالح، والشرعة والمنهاج، وإن كان بين هذه الأسماء فروق، وكذلك حمد أفعالًا هي الحسنات، ووعد عليها، وذم أفعالًا هي السيئات، وأوعد عليها، وقيد الأمور بالقدرة والاستطاعة، والوسع، والطاقة، فقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16)، وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286)، وقال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (الطلاق: 7). وكل من الآيتين، وإن كانت عام: فسبب الأولى: المحاسبة على ما في النفوس، وهو من جنس أعمال القلوب. وسبب الثانية: إعطاء الواجب. وقال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} (النساء: 84) وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185) وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (النساء: 28)، وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6).

وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، وقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (البقرة: 280)، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران: 97)، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة: 91). وقد ذكر في الصيام، والإحرام، والطهارة، والصلاة، والجهاد من هذا أنواعًا، وقال في المنهيات: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}، وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173)، وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل: 115)، وقال: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} (الأحزاب: 5)، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} (البقرة: 220). وقال في المتعارض: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة: 219)، وقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216)، وقال سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (البقرة: 239). وقال -سبحانه-: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: 102).

وقال -سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8) ". فنقول: إذا ثبت أن الحسنات لها منافع، وإن كانت واجبة، كان في تركها مضار، والسيئات فيها مضار، وفي المكروه بعض حسنات، فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما، فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما، وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة، فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة، ومضرة السيئة. فالأول: كالواجب والمستحب، وكفرض العين، وفرض الكفاية، مثل: تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع. والثاني: كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه، كما في الحديث الصحيح: ((أنه قيل: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على مواقيتها. قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله)). وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة متعين على متعين، ومستحب على مستحب، وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان، وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب، وإلّا فقد يترجح الذكر بالفهم، والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر، وهذا باب واسع. والثالث: كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب، كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آي الامتحان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} (الممتحنة: 10)، وكتقديم قتل النفس على

الكر، كما قال تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الإيمان؛ لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس، وكتقديم قطع السارق، ورجم الزاني، وجلد الشارب على مضرة السرقة، والزنا، والشرب، وكذلك سائر العقوبات المأمور بها، فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة، وفيها ضرر؛ لدفع ما هو أعظم ضررًا منها، وهي جرائمها؛ إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير. وأما الرّابع: فمثل أكل الميتة عند المخمصة، فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة، ومصلحتها راجحة، وعكسه الدواء الخبيث، فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج؛ لقيام غيره مقامه، ولأنّ البرء لا يتيقن به، وكذلك شرب الخمر للدواء، فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها، والحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة، هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية. أما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا، وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا، كسقوط الصيام لأجل السفر، وسقوط محذورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرد، فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين، ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع، بخلاف الباب الأول؛ فإن جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه، وإن اختلفت في أعيانه، بل ذلك ثابت بالعقل، كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين، وشر الشرين. فإذا ازدحم واجبان لا يُمكن جمعهما، فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجبة، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك

إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرمًا في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب، وسمي هذا فعل محرم، باعتبار الإطلاق لم يضر. ويقال في مثل: هذا ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء. وهذا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها، لا كفارة لها إلا ذلك)). وهذا باب التعارض باب واسع جدًّا، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وجب الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب، وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى سيئات فيرجحون الجانب الآخر، وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين، قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم؛ لكون الأهواء قارنت الآراء. فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط، مثل: أن يكون في أمره بطاعة فعلًا لمعصية أكبر منها؛ فيترك الأمر بها دفعًا لوقوع تلك المعصية. مثل: أن ترفع مذنبًا إلى ذي سلطان ظالم، فيعتدي عليه في العقوبة، ما يكون أعظم ضررًا من ذنبه. ومثل: أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركًا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي خوفًا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر.

فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر، أو النهي، أو الإباحة، كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن، إما لجهله، وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف، والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء، والنهي عن أشياء حتى على الإسلام، وظهر. فالعالمُ في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات، وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيانها. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء، وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل؛ لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم؛ فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبًا في الأصل، والله تعالى أعلم". وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في (شرح رياض الصالحين) في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو يتكلم عن شروط التغيير: الشرط الثالث: ألا يزول المنكر إلى ما هو أعظم منه، فإن كان هذا المنكر لو نهينا عنه زال إلى ما هو أعظم منه؛ فإنه لا يجوز أن ننهى عنه؛ درءًا لكبرى المفسدتين بصغراهما؛ لأنه إذا تعارض عندنا مفسدتان، وكانت إحداهما أكبر من الأخرى، فإننا نتقي الكبرى بالصغرى. مثال ذلك: لو أن رجلًا يشرب الدخان أمامك، فأردت أن تنهاه وتقيمه من المجلس، ولكنك تعرف أنك لو فعلت لذهب يجلس مع السكارى، ومعلوم أن

لا يجوز الخروج على السلطان بالقوة وحمل السلاح، وإن ظهر منه شيء من الفسوق.

شرب الخمر أعظم من شرب الدخان، فهنا لا ننهاه، بل نعالجه بالتي هي أحسن؛ لئلا يؤول الأمر إلى ما هو أنكر وأعظم. ويذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مر بقوم في الشام من التتار، ووجدهم يشربون الخمر، وكان معه صاحب له، فمر بهم شيخ الإسلام ولم ينههم، فقال له صاحبه: لماذا لم تنههم؟ قال: لو نهيناهم لذهبوا يهتكون أعراض المسلمين، وينهبون أموالهم، وهذا أعظم من شربهم الخمر، فتركهم مخافة أن يفعلوا ما هو أنكر وأعظم، وهذا لا شك أنه من فقهه -رحمه الله. فالمهم أنه يشترط لوجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ألا يتضمن ذلك ما هو أكبر ضررًا، وأعظم إثمًا، فإن تضمن ذلك، فإن الواجب دفع أعلى المفسدتين بأدناهما، ودفع أكبرهما بأصغرهما، وهذه قاعدة مشهورة معروفة عند العلماء. لا يجوز الخروج على السلطان بالقوة وحمل السلاح، وإن ظهر منه شيء من الفسوق وبناء على هذه القاعدة نستطيع أن نفهمه لماذا قال العلماء: لا يجوز الخروج على السلطان بالقوة وحمل السلاح، وإن ظهر منه شيء من الفسوق؟ لأن الغالب في هذا الخروج حصول مفاسد أعظم من مفسدة فسقه، وحيث كانت المفسدة أعظم لم يجز الاحتساب، كما أن الإمام لا يزال في دائرة الإسلام، ولم يخرج منه بفسقه، فيبقى له حق الطاعة على الرعية، ما لم يأمر بمعصية، فلا يستوجب الاحتساب عليه بالقوة، وحمل السلاح، وإحداث الفتنة، والاقتتال بين المسلمين. ولذلك قال الإمام الطحاوي -رحمه الله- في العقيدة التي نسبت إليه (العقيدة الطحاوية)، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، قال -رحمه الله-: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدًا

من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله -عز وجل- فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة". أورد الإمام ابن أبي العز -رحمه الله- في (شرح العقيدة الطحاوية) من الكتاب والسنة ما يشهد لما نطق به الإمام الطحاوي، واعتقده أهل السنة في الصبر على أئمة الجور. ثم قال -رحمه الله- بعدما أورد تلك الأدلة: "وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا، فإنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات، ومضاعفة الأجور، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار، والتوبة، وإصلاح العمل، فإن الله تعالى قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى: 30). وقال تعالى ردًّا على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد تساءلوا بعدما أصابهم يوم أُحد ما أصابهم: {أَنَّى هَذَا} (آل عمران: 165)، كيف يصيبنا هذا الذي أصابنا، ونحن المسلمين أتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فأجابهم الله تعالى بقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (آل عمران: 165)، وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (النساء: 79)، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأنعام: 129). فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم، فليتركوا الظلم، فعن مالك بن دينار أنه جاء في بعض كتب الله: "أنا الله مالك الملك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، لكن توبوا أعطفهم عليكم". هذه قاعدة مهمة جدًّا في تغيير المنكر يجب على المحتسب أن يعيها وأن ينتهي عندها، كما يجب على طلاب العلم أن يهتموا بها وبفهمها وفقهها وأن ينتفعوا بها. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 10 المحتسب عليه (1).

الدرس: 10 المحتسب عليه (1).

تعريف المحتسب عليه، وشروطه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (المحتسب عليه (1)) تعريف المحتسب عليه، وشروطه إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: قال الدكتور عبد الكريم زيدان في تعريف المحتسب عليه: "المحتسب عليه: هو كل إنسان يباشر أي فعل يجوز، أو يجب فيه الاحتساب، ويسمى: المحتسب عليه، أو المحتسب معه". ويقول الدكتور علي حسن القرني: "المحتسب عليه: هو إنسان ترك معروفًا في الشرع، أو أتى منكرا محظورا في الشرع مكلفًا أو غير مكلف. فهذا هو تعريف المحتسب عليه". أما شروطه: فقد قال أبو حامد الغزالي -رحمه الله-: "وشرطه أن يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكرًا، وأقل ما يكفي في ذلك أن يكون إنسانًا، ولا يشترط كونه مكلفًا؛ إذ بينا أن الصبي لو شرب الخمر منع منه، واحتسب عليه، وإن كان قبل البلوغ. ولا يشترط كونه مميزًا؛ إذ بينا أن المجنون لو كان يزني بمجنونة، أو يأتي بهيمة منع منه. نعم، من الأفعال ما لا يكون منكرًا في حق المجنون، كترك الصلاة، والصوم، وغيره، ولكنا لسنا نلتفت إلى اختلاف التفاصيل، فإن ذلك أيضًا مما يختلف فيه المقيم، والمسافر، والمريض، والصحيح، وغرضنا: الإشارة إلى الصفة التي بها يتهيأ توجه أصل الإنكار عليه، لا ما بها يتهيأ للتفاصيل". قال: "فإن قلت: فاكتفي بكونه حيوانًا، ولا تشترط كونه إنسانًا، فإن البهيمة لو كانت تفسد زرعًا لإنسان، لكنا نمنعها منه كما نمنع المجنون من الزنا، وإتيان البهيمة.

قال في جواب هذا الاعتراض: فاعلم أن تسمية ذلك حسبة لا وجه لها؛ إذ الحسبة عبارة عن المنع عن منكر لحق الله؛ صيانة للممنوع عن مقارفة المنكر، ومنع المجنون عن الزنا وإتيان البهيمة لحق الله، وكذا منع الصبي عن شرب الخمر، والإنسان إذا أتلف زرع غيره منع منه لحقين: أحدهما: حق الله تعالى، فإن فعله معصية. والثاني: حق المتلف عليه. فهما علتان تنفصل إحداهما عن الأخرى، فلو قطع طرف غيره بإذنه، فقد وجدت المعصية، وسقط حق المجني عليه بإذنه، فتثبت الحسبة والمنع بإحدى العلتين، والبهيمة إذا أتلفت فقد عدمت المعصية، ولكن يثبت المنع بإحدى العلتين، ولكن فيه دقيقة، وهو أنا لسنا نقصد بإخراج البهيمة منع البهيمة، بل حفظ مال المسلم؛ إذ البهيمة لو أكلت ميتة، أو شربت من إناء فيه خمر، أو ماء مشوب بخمر، لم نمنعها منه، بل يجوز إطعام كلاب الصيد الجيف، والميتات، ولكن مال المسلم إذا تعرض للضياع، وقدرنا على حفظه بغير تعب، وجب علينا حفظًا للمال، بل لو وقعت جرة من علو، وتحتها قارورة لغيره، فتدفع الجرة لحفظ القارورة، لا لمنع الجرة من السقوط، فإنا لا نقصد منع الجرة وحراستها من أن تصير كاسرة للقارورة. ونمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة، وشرب الخمر، وكذا الصبي، لا صيانة للبهيمة المأتية، أو الخمر المشروب، بل صيانة للمجنون عن شرب الخمر، وتنزيها له من حيث إنه إنسان محترم. فهذه لطائف دقيقة لا يتفطن لها إلا المحققون، فلا، ينبغي أن يغفل عنها، ثم فيما يجب تنزيه الصبي والمجنون عنه نظر؛ إذ قد يتردد في منعهما من لبس الحرير وغير

ذلك، فإن قلت: فكل من رأى بهائم قد استرسلت في زرع إنسان، فهل يجب عليه إخراجها، وكل من رأى مالًا لمسلم أشرف على الضياع، هل يجب عليه حفظه؟. فإن قلت: إن ذلك واجب، فهذا تكليف شطط يؤدي إلى أن يصير الإنسان مسخرًا لغيره طول عمره، وإن قلتم: لا يجب، فلم يجب الاحتساب على من يغصب مال غيره، وليس له سوى مراعاة مال الغير. فنقول: هذا بحث دقيق غامض، والقول الوجيز فيه: أن نقول: مهما قدر على حفظه من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه، أو خسران في ماله، أو نقصان جاهه وجب عليه ذلك، فذلك القدر واجب في حقوق المسلم، بل هو أقل درجات الحقوق، والأدلة الموجبة في حقوق المسلمين كثيرة، وهذا أقل درجاتها، وهو أولى بالإيجاب من رد السلام، فإن الأذى في هذا أكثر من الأذى في ترك رد السلام. بل لا خلاف في أن مال الإنسان إذا كان يضيع بظلم ظالم، وكان عند الشهادة لو تكلم بها لرجع الحق إليه، وجب عليه ذلك، وعصى بكتمان الشهادة، ففي معنى ترك الشهادة ترك كل دفع لا ضرر على الدافع فيه، فأما إن كان عليه ضرر في مال أو جاه لم يلزمه السعي في ذلك، ولكن إذا كان لا يتعب بتنبيه صاحب الزرع من نوم أو بإعلامه يلزمه، فإهمال تعريفه وتنبيهه كإهمال تعريف القاضي بالشهادة، وذلك لا رخصة فيه، ولا يمكن أن يراعى فيه الأقل والأكثر؛ حتى يقال: إن كان لا يضيع من منفعته في مدة اشتغاله بإخراج البهائم إلا قدر درهم مثلًا، وصاحب الزرع يفوته مال كثير فيترجح جانبه؛ لأن الدرهم الذي له هو يستحق حفظه، كما يستحق صاحب الألف حفظ الألف، ولا سبيل للمصير إلا ذلك.

أنواع المحتسب عليهم.

فأما إذا كان فوات المال بطريق هو معصية، كالغصب، أو قتل عبد مملوك للغير، فهذا يجب المنع منه، وإن كان فيه تعب ما؛ لأن المقصود حق الشرع، والغرض دفع المعصية، وعلى الإنسان أن يتعب نفسه في دفع المعاصي، كما عليه أن يتعب نفسه في ترك المعاصي، والمعاصي كلها في تركها تعب، وإنما الطاعة كلها ترجع إلى مخالفة النفس، وهي غاية التعب. أنواع المحتسب عليهم قلنا: إن المحتسب عليه هو كل إنسان يباشر ما تجري فيه الحسبة، وعلى هذا يمكن أن يكون محتسبًا عليه أي فرد في المجتمع بلا استثناء إذا ما صدر منه ما تجري فيه الحسبة، سواء كان إمامًا للمسلمين أو واحدًا من عموم الناس، لكن أول من تجب عليه الحسبة هم أقارب المحتسب؛ لأن أقارب المحتسب من زوجة، وأبوين، وأولاد هم مرآة المحتسب الذين يعكسون للناس صورته، وصورة أهله. فيجب على المحتسب قبل أن يحتسب على الناس أن يحتسب على أهل بيته أولًا، فبذلك أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، فقال الله تعالى للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه: 132)، وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (الأحزاب: 59). ولذلك روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا أراد أن يأمر الناس، أو ينهاهم جمع أهل بيته، ثم قال: "إني خارج إلى الناس لآمرهم بكذا، أو أنهاهم عن كذا، فوالله لتكونن أول من تأتمرون، أو أول من تنتهون، وإلا فعلت بكم، وفعلت".

ومن الخطأ أن ينشغل المحتسب بالاحتساب على الناس خارج بيته، ويُهمل الحسبة في بيته وعلى أهله، هذا خطأ كبير. أول ما ينبغي على المحتسب أن يحتسب على أهل بيته أولًا من الأولاد والآباء والأزواج. فأما الأولاد: فإن الحسبة معهم على ضربين: أحدهما: الحسبة على الأولاد دون البلوغ. والثاني: الحسبة على الأولاد البالغين. فأما ما يتعلق بالأولاد دون سن البلوغ: فإن من الحسبة عليهم تعليمهم، وتربيتهم تربية دينية صحيحة، وإعدادهم الإعداد اللازم؛ ليكونوا عند بلوغهم شبابًا مستقيمًا على وفق ما تقتضيه الشريعة الإسلامية، وقد جاءت نصوص تحث على القيام بهذه الحسبة داخل البيت، فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6). والآية تبين مسئولية الأب عن أهله في الدنيا والآخرة، ولقد سجل الله -تبارك وتعالى- لنا مثل ً اأعلى في الحسبة على الأبناء في قصة لقمان -عليه السلام- فقد رفع الله ذكره، وأعلى شأنه، وسمى سورة في القرآن باسمه سورة "لقمان"، وذكر فيها حسبته على ابنه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 12، 13) الآيات.

فالواجب على الآباء ألا يهملوا الحسبة على الأبناء، فإن لهم في ذلك الخير الكثير، وهذا من حق الأبناء على الآباء، فقد جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما نحل والد ولده من نحل أو فضل من أدب حسن))، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع)). ولا يعتقدن الأب وهو يربي أولاده على الفضيلة والأخلاق التي جاء بها الإسلام أن ذلك تطوعًا وتفضلًا منه، بل هو فرض على الأبوين يسألان عن ذلك يوم القيامة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها)). ولذا قال الفقهاء: إن الأب له أن يكره ولده الصغير على تعلم القرآن، والأدب، والعلم؛ لأن ذلك فرض على الوالدين، ولكن الأبوين لا يملكان حق الإكراه، والتعزير على الولد بعد بلوغه، فإن الولد البالغ يصير بمنزلة الأجنبي، كما قال ابن عابدين: أما الكبير فكالأجنبي، وقال بعضهم: إن لهما -أي: الأبوين- حق تأديبه حتى بعد بلوغه. فعلى الآباء أن يهتموا بالحسبة على أبنائهم قيامًا لهم بالواجب الذي نيط بأعناقهم نحوهم. أما الحسبة على الوالدين: فهي أدق ما يكون في حسبة المحتسب مع أقاربه، فالأمر في ذلك يحتاج إلى كثير من الحيطة والحذر؛ لأن طبيعة النصيحة إذا أتت من الصغير للكبير يكون التغلب في الغالب صعبًا بعكس إذا كانت من الكبير إلى

الصغير؛ فإنه غالبًا يحصل التقبل، ومن هنا وجب على الولد الذي يريد أن يحتسب على والديه بأمرهما بالمعروف، ونهيهما عن المنكر أن يستخدم أقصى ما يمكن من الحكمة، واللين، والتلطف، والإقناع بالتي هي أحسن، بعيدًا عن الزجر، والتقريع، فقد قال تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (الإسراء: 23). وقد بلغ من حق الأبوين على ولدهما أنه لا يقتص منهما إذا قتلاه، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يقاد الوالد لولد))، ولذا قال بعض الفقهاء: إن الولد ليس له أن يباشر إقامة الحد على أبويه. وقال الغزالي بعد تعرضه للحسبة على الآباء: "فإذا لم يجز له إيذاؤه بعقوبة هي حق على جناية سابقة، فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع من جناية مستقبلية متوقعة، بل أولى"، يعني: أولى ألا يكون ذلك. ونُقل عن العلامة ابن عابدين أن الرجل ينهى أبويه إذا رآهما يرتكبان المنكر مرة واحدة، فإن انتهيا وإلا فيسكت إن ساءهما ذلك، ويسأل الله -عز وجل- أن يهديهما، ويغفر لهما ذنبيهما. أما الأستاذ عبد القادر عودة -رحمه الله- فهو يرى أنه ينبغي للولد أن يغير المنكر الذي يرتكبه والده دون أن ينال منهما، فهو يقول: فأما الوالدان فليس للولد عليهما إلا التعريف -يعني: بالمنكر- ثم النهي بالوعظ والنصح، وليس له أن يعنفهما أو يهددهما، أو يضربهما، ولكن له على رأي أن يغير ما يأتيان من المنكر بحيث لا يمس شخصيتهما، كأن يريق خمرهما، أو يرد ما جاء في بيتهما من مال مغصوب، أو مسروق لأصحابه.

أما الحسبة على الزوجة: فالله -تبارك وتعالى- قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النساء: 34)، وإن القوامة التي ورد ذكرها في الآية لا تعني بحالة أن تكون محكومة خاضعة للزوج، دون أن ينالها منه توجيه ونصح، فيما يصون به عليها دينها، وإيمانها، ويهذب أخلاقها وفق ذلك، فإن قوامة الزوج لم تكن في يوم من الأيام مقصور على تحمل النفقة، وإدارة شئون البيت. ولذا يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسير كلمة {قَوَّامُونَ} يقول: "الرجل قيم على المرأة أي: هو رئيسها وكبيرها، والحاكم، ومؤدبها إذا اعوجت". أما الجصاص فيقول: " {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} يعني: قيامهم عليهن بالتأديب، والتدبير، والحفظ، والصيانة". ومن المعلوم أن لكل رجل المعرفة بأهله، والاطلاع على عيوبهم ومزاياهم، ثم القدرة على إصلاحهم، وما خوله الشرع حق تقويمهم مما ليس لغيره، وبذلك يتعين على الرجل إصلاح أهله في كثير من الأمور التي لا يتمكن غيره من الوقوف عليها، ولا من إصلاحها، وللرجل أن يستخدم حق تأديب زوجته مقيدًا بحدود وضوابط لا يتجاوزها بحال، وهذه القيود والضوابط على النحو التالي: أولًا: للرجل تعزير زوجته عند بعض الفقهاء إذا أبت أن تجيب حين يدعوها إلى فراشه من غير حرج، أو تكون عصته، وغالبته، واستكبرت عليه فتخاصمه، وتشتمه، أو تأخذ بلحيته، أو تمزق ثيابه، أو تترك الزينة والتجمل مع أمره

واستطاعتها، أو تعطي من بيته شيئًا بلا إذن، وما إلى ذلك، أو إذا أتت بما لا تقره الأخلاق الإسلامية، كأن تشتم أحدًا، أو تكشف وجهها لغير محرم، أو تكلم أجنبيًّا بغير حجاب، أو تخرج من البيت بغير إذنه، وما شابه ذلك. ثانيًا: ليس له تعزيرها إذا طلبت نفقتها أو كسوتها، وألحت في ذلك؛ لأن لصاحب الحق يد الملازمة، ولسان التقاضي. ثالثًا: ويجوز للزوج التعزير وهو يحتسب على زوجته؛ لوقوعها فيما يوجب الحسبة؛ بارتكابها لبعض المنكرات التي ليس فيها حد، أما ما قررت فيها الشريعة حدًّا، فلا يصح فيها التعزير، بل ينفذ الحد، لأن إقامة الحد ليست من شأن أحد من العامة، بل هي من اختصاص الحكام. يقول العلامة الكاشاني: إذا ارتكبت الزوجة معصية سوى النشوز ليس فيه حد مقدر، فالزوج يؤدبها تعزيرًا لها؛ لأن للزوج أن يعزر زوجته إذا جاءت بما يوجب ذلك، لكن ما حدود هذا التعزير الذي هو دون الحد؟ إن حدوده تتمثل فيما عبر عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((ضربًا غير مبرح))، وقد فسر ابن عباس -رضي الله عنهما- الضرب غير المبرح بالسواك، وشبهه، يضربها به. وفي رواية أخرى: ((ضربًا لا يكسر عظمًا))، وقال قتادة: غير مبرح أي: غير شائن. وليس للزوج أن يبالغ في تعزير زوجته، فإن تعد في ذلك عرض نفسه للتعزير، هو وقد جاء في (تنوير الأبصار): إن ادعت المرأة على زوجها ضربا فاحشًا، وثبت ذلك عليه يعزر. أما فيما يتعلق بحسبة الزوجة على الزوج: فمعلوم أن الزوجة تابعة، وهي من الزوج على حد تعبير الغزالي كالولد من الوالد، فهي تذكر زوجها إذا ارتكب

المنكر عن جهل، وترشده إلى حكم الشرع، ولها أن تعظه، وليس لها ما وراء ذلك من السب، والتقريع، أو الضرب. فإذا قام المحتسب بالحسبة على أهل بيته انتقل بعد ذلك إلى الحسبة خارج البيت، وأول ما تجب الحسبة فيه: شعائر الإسلام من الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج. فإذا كانت شعائر الإسلام، وتطبيق منهجه بين المسلمين هي مهمة المحتسب وغاية أهدافه، فإنه يأتي في مقدمة ذلك اهتمامه بأركان الإسلام الخمسة، وأولها وأهمها: الصلاة، والصلاة هي أعرف المعروف من الأعمال، ومن أولى وأهم ما يأمر به المحتسب، ويقوم به، بل هي رأس كل أمر ونهي، يؤمر بإقامتها، وينهى عن تركها، والتكاسل عن أدائها، فهي كما وصفها الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمود الإسلام، والصلاة أهم من كل شيء؛ فإنها عماد الدين وأساسه، وقاعدته، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يكتب إلى عماله، ويقول: "إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع". ولشرفها فقد فرضت كل الشرائع على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأرض، وفرضت الصلاة في السماء ليلة المعراج، ولم يبعث بها رسول من الملائكة ليبلغها لرسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- كما هو شأن غيرها من فرائض الإسلام، وهي المخصوصة بالذكر في كتاب الله بعد تعميم كما في قوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} (العنكبوت: 45). وهي المقرونة بالصبر، والزكاة، والجهاد في مواضع من كتاب الله مثل قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (البقرة: 45) {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 83)، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162، 163)، وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء: 103).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأمرها أعظم من أن يحاط به، فاعتناء ولاة الأمر بها يجب أن يكون فوق اعتنائهم بجميع الأعمال، ولا شك أن من أولويات ما يجب الاحتساب فيه في شأن الصلاة أن يبين المحتسب للناس أحكام الصلاة، ويسعى إلى تعليمهم؛ ذلك لأن الكثير من الناس يجهل أمورًا من أحكام الصلاة ليست قليلة، وليكن أول ما يعلم الناس كيفية التطهر، وما يتعلق به من أحكام. وليكن هذا التعليم عمليًّا ما أمكن حتى يفهم الناس، ويرسخ ذلك في أذهانهم، ويلحق بذلك أن يعلم الناس أحكام التيمم، والمسح على الخفين، ثم يقوم المحتسب بتعليم الناس بقية أحكام الصلاة بنفسه، أو بحذف الجهات التعليمية؛ لتقوم هي بذلك وتطبق كيفية أدائها؛ حتى يؤديها المسلم كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، فإن قيامه بكل ذلك يعتبر مقدما على أمرهم بإقامة الصلاة، إذ كيف تأمر جاهلًا بالقيام بعمل لا يحسن أداءه. فإذا رأى المحتسب مصليًا يخالف هيئة الصلاة الشرعية بزيادة، أو نقص، أو تحريف، أو عدم إتمام ركوعها وسجودها، وكل أحكامها أرشده إلى الصواب، ويحتسب على من يصلي بغير اعتدال، ولا خشوع، ولا طمأنينة، ويقول له: ((صلِّ، فإنك لم تصلِّ))؛ لما ثبت من احتسابه وتعليمه -صلى الله عليه وسلم- لأعرابي صلى فخفف الصلاة، ولم يستكمل ركوعها وسجودها؛ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((صلِّ، فإنك لم تصلِّ))، وعليه أن يأخذ بالحكمة واللين أثناء تعليمه وأمره ونهيه، ولا سيما إذا خاف أن يغضب عليه المصلي المنصوح، فإن عليه أن يلين كلامه، أو يحتال بحيلة تصلح الأمر.

كما روي من احتساب الفقيه أبي عبد الله الخوارزمي حين رأى رجلًا في المسجد يخفف الصلاة، فلما فرغ الرجل من صلاته، ذهب به إلى البيت، وطبخ له شيئا من الحلوى، وقدمها إليه، وقال له: أكنت مريضا؟ فقال الرجل: لا، س فقال: إني ظننت أنك كنت مريضًا حيث خففت الصلاة. فقام الرجل، وتاب ورجع عما كان يصنع. وعلى المحتسب وهو يحتسب فيما يتعلق بأحكام الصلاة أن يلاحظ أن الأمور الفرعية المختلف فيها بين الفقهاء، ولا سيما في مندوبات الصلاة، وسننها بأن ذلك لا يلزمه في أن يأمر بها على سبيل الإلزام، وإن كان عليه أن يبين الرأي الصحيح فيها، ومثال ذلك: كما أورده الماوردي القنوت، إذا خالف فيه رأي المحتسب، فلا اعتراض في مثل ذلك بأمر ولا نهي ملزم، وكذلك الطهارة مثلًا إذا فعلها المحتسب عليه على وجه سائغ يخالف فيه رأي المحتسب، كاقتصاره على مسح أقل الرأس. ويتقدم المحتسب إلى جيران كل مسجد يحثهم، ويأمرهم بالمواظبة على صلاة الجماعة عند الأذان؛ لإظهار معالم الدين، وإشهار شعائر الإسلام، فإن على كل مسلم إظهار أركان الإسلام؛ لأن صلاة الجماعة في المساجد، وإقامة الأذان فيها للصلوات، يعتبر من شعائر الإسلام الظاهرة التي فرق بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين دار الإسلام، ودار الشرك. فإذا اجتمع أهل محلة على تعطيل الجماعة في مساجدهم، وترك الأذان في أوقات صلواتهم، كان المحتسب مندوبًا إلى أمرهم بالأذان والجماعة في الصلوات. وصلاة الجماعة واجبة على المسلم الذكر، العاقل، البالغ، القادر؛ لأن النصوص جاءت توضح ذلك الوجوب، ومنها: قول الله -تبارك وتعالى-:

{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} وهذا دليل على أن الجماعة فرض على الأعيان إذ لم يسقطها -سبحانه وتعالى- عن الطائفة الثانية بفعل الأولى، وهذا في حالة الحرب والخوف، فكيف بحال السلم والأمن؟!. ومن الأدلة في السنة: ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم)). وهذا كما يقول أهل العلم من أشد ما ورد في بيان الجرم، وكبيرة من تخلف عن الجماعة، والأدلة في وجوب الجماعة كثيرة نكتفي بالدليلين السابقين. ومن مهمات الصلاة: الصلاة يوم الجمعة، الذي هو في الأيام بمنزلة الأعياد من الأعوام، وفيه الساعة المخصوصة بالدعاء المجاب التي ما صادفها عبد إلا ظفر بالطلب، فعلى المحتسب أن يأمر بابتداره في البواكر للفوز فيه بقربات البدايات الأخاير، فإنه اليوم الذي لم تطلع الشمس على مثله، وفيه فضل هذا الدين على أهل الكتاب من قبلنا، فهو واسطة عقد الأيام السبعة، ولاشتماله على مجموع فضلها سمي: يوم الجمعة، فلينادهم بالاجتماع إليها. وليراقبهم عند أوقات الأذان في الأسواق التي هي معركة الشيطان، فمن شغل عنها بتثمير مكسبه، أو لهى عنها بالإقبال على اللهو ولعبه. فإن على المحتسب أن يؤدبه بالعصا التي تضع من قدره، وتذيقه وبال أمره، ولا يمنعه من ذلك شيبة الشيبة، ولا هيئة ذي هيئة، فإنما هلك الذين قبلنا أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.

فالله -تبارك وتعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9)، والجمعة واجبة على كل مسلم، بالغ، عاقل، ذكر، حر، مستوطن، فلا تجب على الصغير، ولا المجنون، ولا المرأة، ولا العبد المملوك، ولا على المسافر. وتارك الجمعة من غير عذر يأثم إثمًا عظيمًا، ويكفي في الزجر عن ترك الجمعة، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)). وإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة وجب على المحتسب أن يمنع الناس عن الصلاة في الحوانيت، والدكاكين، والدور، وينهى عن ذلك، فإن لم ينتهوا كان له أن يؤدب، ويمنع الناس من البيع، والشراء بعد النداء؛ لأن ذلك حرام على كل من وجب عليه شهودها، دون من لا تجب عليه، أما بعد الفراغ منها فالبيع حلال. وإذا كان المحتسب يبذل جل اهتمامه عند احتسابه في العبادات في الحث على الصلاة، وإقامتها على اعتبار أنها الصلة المستمرة بين العبد وربه في كل يوم خمس مرات، وهي أساس أعماله، وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، فإن على المحتسب أن يعطي من جهده للعبادات الأخرى ما تستحق. ومنها: الزكاة؛ إذ لا ينبغي أن يقتصر اهتمامه على أمر من أمور الإسلام دون بقية ما يجب عليه تجاه غيره؛ وذلك لشمولية مهمته. والزكاة حق الله -تبارك وتعالى- في المال، وقد يشح بها الإنسان؛ لحبه المال، كما قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر: 20)، من أجل هذا يأتي دور المحتسب: أولًا: في تبيين حكم الإسلام فيما يتعلق بوجوب الزكاة، وأن حق في المال لا بد من إخراجه.

وثانيًا: لمحاسبة، بل ومعاقبة من يتهاون عن ذلك. وحتى لا يتداخل عمل المحتسب مع عمل عامل الصدقة الذي له الحق في المطالبة بأدائها، وله الحق في تعزير ممتنع عن إخراجها، فالزكاة -كما علمنا- حق المال، وهذا الجابي مندوب من قبل بيت مال المسلمين لأخذها، ولأن الزكاة في الإسلام صنفان على وجوه العموم، وذلك بالنسبة لتصنيف الأموال، فالأموال قسمان: أموال ظاهرة، وأموال خفية: فالظاهرة هي ما لا يمكن إخفاؤه مثل: الزروع، والثمار، والمواشي. وأما الخفية: فهي ما يمكن إخفاؤه كالذهب، والفضة، وما يقوم مقامهما. وما هو من اختصاص المحتسب من هذين القسمين هو الأموال الخفية، فإن هذه الأموال لا تدخل في مهام عامل الصدقات، وإنما يتولى ذلك المحتسب، وإذا امتنع قوم من أداء الزكاة إلى الإمام العادل جحودًا لها؛ كانوا بالجحود مرتدين، يجري عليهم حكم أهل الردة، ولو امتنعوا من أدائها مع الاعتراف بوجوهها كانوا من بغاة المسلمين، يقاتلون على المنع منها، كما فعل خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر -رضي الله عنه. كما أن على المحتسب، وهو يتابع إقامة المسلمين لشرع ربهم، ويحملهم على تطبيق ذلك، فإن له ما يتعلق بصيام شهر رمضان صورة حسبية، عليه أن يمارس احتسابهم من خلالها، ومن أول هذه الصور: أن يقوم باستغلال الوسائل الإعلامية مسموعة، أو مرئي، أو مكتوبة؛ ليبين للناس فضل الصوم، ويحثهم على تأدية هذا الركن، وليكن استغلاله لوسائل الإعلام المتاحة دائمًا لهذا وغيره.

ثم يكون من صور احتسابه: أن يحث الناس على ترائي الهلال؛ امتثالًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)). كذلك على المحتسب أن يقوم بالحسبة من أجل الحج، متى علم أن فلانًا من الناس قد تحققت في حقه الاستطاعة، وتوافرت شروط الوجوب، فعليه أن يأمره بالمبادرة إلى الحج؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالمبادر فقال: ((من أراد الحج فليتعجل؛ فقد يمرض المريض، وتضل الدابة، وتعرض الحاجة)). كذلك من المُحتسب عليهم: العاملون في المساجد من المؤذنين، والأئمة: إن ما يمثله الإمام والمؤذن بعملهما في قيادة الناس، ودعوتهم إلى خالقهم لأمر هام يستوجب أن يولي عناية فائقة في اختيارهما أولًا، ثم الإشراف عليهما من قبل الجهات المعنية بعملهما ثانيًا؛ لأن في ذلك صلاحًا للأمة بكاملها، فالإمام والمؤذن إذا أردك عظم مسؤوليتهما، وتفهماها وعملا بوحي من ذلك كانت الثمرة كبيرة، والمردود طيبًا. من أجل ذلك كان الاهتمام بهما من قبل ولاة أمر المسلمين قديمًا وحديثًا لا ينقطع، وضمن ذلك النطاق الشمولي لعمل المحتسب في الماضي على وجه خاص، كان المحتسب هو المسئول عن متابعة عمليهما، وكان يقوم باختيارهما، وإجازة عملهما على وفق شروط حددت لذلك مسبقًا. ومن صور احتساب المحتسب على الأئمة: أن ينبه الأئمة الذين يطيلون الصلاة بألا يفعلوا ذلك، يقول الماوردي: "ومن يطيل الصلاة حتى يعجز عنها الضعفاء،

وينقطع بها ذووا الحاجات، أنكر ذلك عليه المحتسب، كما أنكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على معاذ بن جبل -رضي الله عنه- وكما يحتسب المحتسب على الأئمة الذين يطيلون الصلاة. كذلك يحتسب على الخطباء الذين يطيلون الخطبة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بتقصير الخطبة، فقال: ((إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة)). وعلى المحتسب ألا يغفل عن العناية التامة بنظافة المساجد، وتوفر كل لوازمها من إنارة، وفرش، وأدوات تنظيف، ونحو ذلك، فإن الله -تبارك وتعالى- قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة: 18)، والعمارة قسمان: عمارة حسية، وعمارة معنوية. ثم تمتد الحِسبة لتصل إلى أسواق المسلمين، ويحتسب المحتسب على جميع البائعين، والحرفيين، والمهنيين. وقد أطال الفقهاء في وصف الحسبة على كل ذي حرفة من الحرف، ولكننا نقتصر بذكر أمثلة على وجه الإيجاز، فمن الحسبة: الحسبة على الفرانين، والخبازين، فينبغي أن يأمر المحتسب الخبازين والفرانين برفع سقائف أفرانهم، وأن يجعلوا في سقوفها منافذ واسعة للدخان، ويأمرهم بكنس بيت النار في كل تعميرة، وغسل الآنية وتنظيفها، وأن يتخذ لها أبراشًا، وينهاهم عما يغشون به الخبز، ويأمرهم ألا يخبزوه حتى يختمر.

كذلك يأخذ المحتسب على فرانين الخبز البيوت لعظم حاجة الناس إليهم، ويأمرهم بإصلاح المداخل وتنظيف بلاط الفرن في كل ساعة؛ لئلا يلصق في أسفل الخبز منه شيء، ويجعل بين يديه غلام يعلم به أخباز الناس؛ لئلا يختلط عليه أطباق العجين، ولا يعرف بعضها من بعض، ويطعمهم الحرام. وأما الجزارون: فيمنعهم المحتسب من الذبح على أبواب حوانيتهم، فإنهم يلوثون الطريق بالدم والروث، وهذا منكر يجب المنع منه، فإن ذلك تضييقًا للطريق، وإضرارًا بالناس؛ بسبب رش الدماء، بل من حقه أن يذبح في المذبح، كذلك يمنعهم من إخراج توالي اللحم من الحوانيت، بل يجب أن تكون في الحوانيت، وأن يحفظها مما يضرها، ويأمرهم أن يفردوا لحوم المعز عن لحوم الضأن، ولا يخلط بعضها ببعض، ولا يخلط شحوم المعز بشحوم الضأن، وإذا وقع عند أحدهم بهيمة مريضة أو متغيرة اللون منعه من بيعها مع اللحم الذي على حانوته، بل يأمره ببيعها خارجًا عنه، فإذا شك المحتسب في الحيوان هل هي مذبوحة أو ميتة اختبره، فإن ظهر أنه حي أجازه، وإلا منعه. كذلك الحسبة على اللبانين: يعتبر على اللبانين تغطية أوانيهم، وأن يكون المكان مبلطًا، والأغطية جددًا، فإن الذبيب يحب مكان اللبن، وكذلك المحلب يكون في فمه ليفة نظيفة؛ حتى تمنع الوسخ، ويلزمهم في كل يوم بغسل المواعين بالليف

الجديد والماء النظيف؛ لئلا يسرع إليها الفساد في زمن الحر، ولا يعمل فوق وظيفته؛ لئلا يبور عنده وتحمض، ولا يستعمل إلا اللبن الحليب الدسم بخيره، ولا يكون مقشوطًا؛ فإنه لا طعم فيه، وقد راح دسمه، وكذلك اللبن المشوب بالماء، لا يجوز بيعه أصلًا. كذلك ينبغي أن يحتسب على البزازين الذين يبيعون الأقمشة والثياب، فينبغي ألا يتجر في البز إلا من عرف أحكام البيع، وعقود المعاملات، وما يحل منها وما يحرم عليه، وإلا وقع في الشبهات، وارتكب المحظورات، وينهاهم عن الغش، وعن بيع الأخ على بيع أخيه، والسوم على سومه، وألا يبيع حاضر لبادٍ، وألا يبيع إلى أجل مجهول، أو سلعة على شرط المستقبل المجهول، وينبغي للتاجر أن يظهر جميع عيوب السلع خفيها وجليها، ولا يكتم منها شيئًا، فذلك واجب عليه. وينبغي أن يذكرهم بحرمة الغش، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن غشنا فليس منا)). كذلك يحتسب على القطانين الذين يبيعون القطن، فلا يخلطوا جديد القطن بقديمه، ولا أحمره بأبيضه، وينبغي أن يندف القطن ندفًا مكررًا حتى تطير منه القشرة السوداء، أو الحب المكسر؛ لأنه إذا بقي فيه الحب ظهر في وزنه، وإذا طرحه في جبة أو لحاف فغسلت ودقت قرضت الجبة، وأضر بملابس الناس، ومنهم من يندف القطن الرديء الأحمر، ويجعله في أسفل المكبة، ثم يعمل فوقه القطن الأبيض النقي فلا يظهر إلا عند غسله، وينهاهم أن يجلسوا النسوان على

أبواب حوانيتهم لانتظار فراغهم، ولا يضعون القطن بعد فراغه في المواضع النادية، فإن ذلك يزيد في وزنه، فإذا جف نقص، وهذا تدليس، فيمنعهم من جميع ذلك. كذلك تمتد الحسبة لتشمل الأطباء، وكل الذين يتعلقون بمهنة الطب، والدواء. فالطب علم نظري وعملي أباحت الشريعة تعلمه؛ لما فيه من حفظ الصحة، ودفع العلل والأمراض على هذه البنية الشريفة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء)). وتعلم الطب من فروض الكفاية، فعلى المسلمين أن يهتموا بتعلم الطب؛ حتى لا يحتاجون إلى غيرهم، وعلى المحتسبين أن يحتسبوا على الأطباء، وبأن ينهوهم عن أن يتعاملوا بالطب دون علم، أو أن يصفوا سمًّا للمريض، أو أن يصفوا دواء يسقط الجنين، أو يمنع الحمل، أو غير ذلك من المنكرات التي يقع فيها الأطباء. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 11 المحتسب عليه (2).

الدرس: 11 المحتسب عليه (2).

ولاة الأمر، وحدود طاعتهم، ومنزلتهم في الإسلام.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (المحتسب عليه (2)) ولاة الأمر، وحدود طاعتهم، ومنزلتهم في الإسلام إن الحمد الله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: خلق الله الإنسان واستخلفه في الأرض ليقوم بعمارة الأرض، ويسعى خلال فترة هذه الخلافة لتحقيق الغاية الكبرى وراء خلقه، ألا وهي عبادة الله تعالى كما قال -عز وجل-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56). وهذه الخلافة وإقامة أي مجتمع إنساني في الأرض تقتضي وجود سلطة تنظم حياة الناس ومعاشهم، وتحل مشاكلهم، والإسلام قد أولى قيام هذه السلطة اهتمامًا كبيرًا، بل وجعل طاعة من يقوم بهذه السلطة من طاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- طالما ظل يطبق منهج الله في أرضه وبين خلقه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59)، فمن هو ولي الأمر الواجبة طاعته والذي تبذل له النصيحة؟ إن ولي الأمر معنًى يشمل أصحاب الكلمة والنفوذ من الرئاسات الدينية، والإدارية، والتنفيذية، وأهل العقد. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأولي الأمر في الآية أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة، وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء، والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، كما قال أبو بكر -رضي الله عنه- للأحمسية التي سألته: ما بقاؤنا على هذا الأمر -يعني: من الصواب والخير-؟ قال: "ما استقامت لكم أئمتكم"، ويدخل فيهم الملوك، والمشائخ، وأهل الديوان، وكل من كان متبوعًا، فإنه من أولي الأمر، لكن إذا أطلق ولي الأمر في المجتمع فهو ينصرف إلى الحاكم الخليفة، أو

الملك، أو رئيس الدولة أي: صاحب الولاية العامة أيًّا كانت تسميته، وطبيعي أن الذي سيقوم بهذه الولاية على الناس بشر مثلهم يصيب ويخطئ، ويحتاج لما يحتاجون إليه، ويأتي في مقدمة ما يحتاجه المتولي لأمور الناس في ولايته النصيحة حتى تستقيم أموره على العدل". ولهذا نجد الكثير من النصوص الشرعية التي تحث على تقديم النصح والمشورة، وإقامة صرح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المسلمين حكامًا ومحكومين، والتي تشكل النصيحة جزءًا من هذا المبدأ الإسلامي العظيم، ومن هذه النصوص التي تحث على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)). ولو رجعنا وتفحصنا الأمر لوجدنا أن الحاكم المسلم الذي يخاف الله ويطبق شرعه لا ينتظر حتى تبذل له النصيحة مع احتمال أنها لا تبذل من كثير من الناس لخوف، أو مداهنة، أو لضعف في النفوس يهون من أمر النصيحة وبذلها، بل يذهب هو ويعمل على الحصول عليها من أهلها، وهذا ما سار عليه الخلفاء الراشدون، ومن نهج نهجهم ممن جاء بعدهم، بل ويجعلها مثل ذلك الحاكم معيارًا لتقويمه. فهذا الصديق أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- يقول في أول خطبة له بعد تولية الخلافة: "أما بعد؛ فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم؛ فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، وأطيعوني ما أطعت الله ورسوله؛ فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". فهو يأمر الناس بتقويمه والاحتساب عليه في قوله: "أيها الناس إني متبع ولست بمبتدع؛ فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني". وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقوم خطيبًا فيقول: "رحم الله امرأ أهدى إلينا مساوئنا".

ومن هنا ندرك حرص الحكام المسلمين على تلقي النصيحة من أفراد رعيتهم، وهم يعتبرون ذلك تقويمًا لعملهم، ومدى التزامهم بتطبيق شرع الله، بل يستعينون بهذا النصح والحسبة عليهم في القيام بمهام مسئولياتهم تجاه ما استرعاهم الله -عز وجل- من أمر الرعية الذين يسوسونهم ويقودونهم إلى الله -عز وجل. ومن هنا جاءت النصوص مستفيضة بوجوب طاعة ولي الأمر ما لم يأمر بمعصية، ومن أظهر هذه الأدلة ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك))، ومعنى الأثرة: استئثار السلطان باختصاصات من أمور الدنيا. يقول الإمام النووي -رحمه الله- في شرح هذا الحديث: "أي اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم، بل ولا يلتفت لأصل أو نسب الحاكم، ولا يكون ذلك مانعًا لعدم الطاعة، فقد أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسمع والطاعة وإن تأمر علينا غير نسيب ما دام يطبق فينا شرع الله ويقيم حدوده، فقد روى الإمام مسلم -رحمه الله- عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: ((إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا حبشيًّا مجدع الأطراف))، كما أنه لا يقدح في ولي الأمر أن يكون أقل علمًا من غيره، فجمهور الفقهاء قالوا: تجوز إمامة المفضول، وصحة بيعته؛ لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار، وليست معتبرة في شروط الاستحقاق". إذًا فلا بد من وجود الإمارة والولاية؛ لأنه سبب للم شمل المسلمين، ولو تولاها فاجر، فاجتماع القدرة في الحاكم والصلاح في الدين من الصفات التي قد لا تجتمع لكل الناس، ولهذا كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة". وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن الرجلين يكونان في الغزو أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى؟ فقال: "أما الفاجر القوي فقوته

حكم بذل النصيحة لولاة الأمر.

للمسلمين وفجره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزى مع القوي الفاجر". وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر))، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحث على الانضواء تحت لواء الأمراء حتى ولو رأى المسلم من أميره ما يكره، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية)). وعلى هذا فلا يحل للمسلم أن يخلع بيعة أميره ويخرج من الطاعة إلا أن يرى كفرًا بواحًا معه عليه من الله برهان، كما جاء في الحديث عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: ((دعانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعنا، وفيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان)). وقد جاء في شرح هذا الحديث عند النووي -رحمه الله- أنه قال: "أي لا تنازعوا ولاة الأمور ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم". حكم بذل النصيحة لولاة الأمر إن ما يتحمله الإمام والراعي من مسئوليات وأعباء في رعاية شئون الأمة تجعله دائمًا بحاجة إلى النصح، والتذكرة، والأمر، والنهي؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه)). والحاكم بغض النظر عن رتبته ووظيفته أخ للمسلم في الإسلام، ولا شك أن تلك الأخوة قائمة بين الحاكم والمحكوم، والقيام بحقوقها من أحدهما للآخر

واجب في كل زمان ومكان، ومن حقوقها بذل النصيحة من كل منهما للآخر لا سيما من المحكوم للحاكم لشدة حاجته إليها ومردودها الطيب على الجميع. ومن الأدلة على وجوب تقديم النصيحة للحاكم والأمير ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله رضي لكم ثلاثًا، وكره لكم ثلاثًا؛ رضي لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تنصحوا لمن ولاه الله أمركم، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تفرقوا)). ومن خطبته -صلى الله عليه وسلم- بالخيف ما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)). قال أبو عثمان سعد بن إسماعيل الخيري: "فانصح للسلطان، وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد في القول والعمل، فإنه إن صلحوا صلح العباد لصلاحهم، وإياك أن تدعو عليهم فيزدادوا شرًّا، ويزداد البلاء بالمسلمين". ويقول ابن عبد ربه في (العقد الفريد): "فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم الإيمان إلا به، ولا يثبت الإسلام إلا عليه"، ولكن هل يكون بذل النصيحة دائمًا حكمه الندب أم أنه يأخذ مرتبة الوجوب في حالات معينة؟ والجو اب: أن النصيحة وبذلها يأخذ أشكالًا مختلفة بحسب مقتضيات الحال، فبينما نجد نصوصًا ظاهرها الندب والحث على بذل النصيحة، نجد نصوصًا أخرى تأمر ببذل النصيحة على سبيل الإلزام، وعلى حسب درجات القدرة، من تلك النصوص ما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن مروان بن الحكم خطب قبل الصلاة في العيد؛ فقال له رجل: "إنما الخطبة بعد الصلاة؛ فقال مروان: ترك

ذلك يا أبا فلان؛ فقال له أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد قضى ما عليه، قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). وتزداد قيمة النصيحة ويعظم أجر بذلها عند من يخاف شره، ويخشى بطشه، وتكثر أخطاؤه وفجوره حتى تصل إلى أعلى مراتب الجهاد في سبيل الله كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)). ومن هذا المنطلق كان المحتسب يقصد مجالس الأمراء والولاة، ويعظهم، ويطالبهم بالشفقة على الرعية، والإحسان إليهم، ويذكرهم بمسئوليتهم وعظمها من خلال إيراد بعض النصوص الشرعية التي تبين ذلك. ومن صور احتساب العلماء على الأمراء: أنه جاء عن أحمد بن إبراهيم المقري قال: "كان أبو الحسن النوري رجلًا قليل الفضول لا يسأل عما لا يعنيه، ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكرًا غيره ولو كان فيه تلاحم، فنزل ذات يوم إلى مشرعة تعرف بمشرعة الفحامين يتطهر للصلاة إذ رأى زورقًا فيه ثلاثون دنًّا مكتوبا عليها بالقار: لُطْف، فقرأه، وأنكره؛ لأنه لا يعرف في التجارات ولا في البيوع شيئًا يعبر عنه بلطف؛ فقال الشيخ -رضي الله عنه- للملاح: أي شيء في هذه الدنان؟ فقال: وأي شيء عليك؟! امض لشغلك، فلما سمع النوري -رحمه الله- من الملاح هذا القول ازداد تعطشًا إلى معرفته؛ فقال له: أحب أن تخبرني أي شيء في هذه الدنان؟ فقال له الملاح: أنت والله صوفي فضولي، هذه خمر المعتضد بأمر الله يريد أن يتمم به مجلسه.

فقال النوري -رحمة الله عليه-: هذه خمر؟ قال: نعم، قال: أحب أن تعطيني ذلك المدرى، فاغتاظ الملاح عليه، وقال لغلامه: أعطه حتى أنظر الذي يصنع، فلما صارت في يده صعد إلى الزورق، فلم يزل يكسرها دنًّا دنًّا حتى أتى على آخرها إلا دنًّا واحدًا، والملاح يستغيث إلى أن ركب صاحب الخمر، وهو يومئذ موسى بن أفلح، فقبض على النوري، واستحضره إلى حضرة المعتضد، وكان المعتضد سيفه قبل كلامه، ولم يشك الناس أنه سيقتله، قال الشيخ أبو الحسن: فدخلت عليه وهو جالس على كرسي حديد، وبيده عامود يقلبه، فلما رآني قال: من أنت؟ قلت: محتسب، قال: من ولاك الحسبة؟ قلت: الذي ولاك الإمامة ولاني الحسبة يا أمير المؤمنين؛ قال: فأطرق إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه إلي وقال: ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقلت: شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك فقصرت عنه، قال: فأطرق المعتضد مفكرًا في كلامه، ثم رفع رأسه وقال: كيف تخلص هذا الدن الواحد من بين جملة هذه الدنان؟ فقلت له: في تخليصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إن أذن لي. فقال: أخبرني، فقلت: يا أمير المؤمنين إني قدمت على الدنان بمطالبة الحق -سبحانه وتعالى- بذلك، وعم قلبي شاهد الإخلاص الحق وخوف المطالبة، فغابت هيبة الخلق عني، فأقدمت عليه بالحال الأول إلى أن صرت إلى هذا الدن فجزعت نفسي كثيرًا على أني قد أقدمت على مثلك فمنعت نفسي، ولو أقدمت عليه في الحال الأول ولو كانت ملء الدنيا دنانًا لكسرتها ولم أبال. قال الشيخ أبو الحسن النوري -رحمة الله عليه-: فقال لي أمير المؤمنين المعتضد بأمر الله: اذهب فقد أطلقنا يدك غيِّر ما أحببت أن تغيره من المنكر، قال: فقلت له: يا أمير المؤمنين أبغض التغيير لأني كنت أغير عن الله، وأنا الآن أغير

شرطيًّا؛ فقال المعتضد بأمر الله: ما حاجتك؟ قلت: تأمر بإخراجي سالمًا فأمر لي بذلك، وخرجت إلى البصرة فلبثت بها أكثر أيامي خوفًا من أن يسأل حاجة يسألها المعتضد فأقام بالبصرة إلى أن توفي المعتضد، ثم رجع إلى بغداد". والمتدبر لمثل هذا الموقف يرى أن الذي يحتسب الأمر عند الله بنفس الروح التي احتسب بها هذا الرجل لا يهمه مكانة المحتسب عليه حتى ولو كان الحاكم أو الأمير؛ لأن الناس تجاه أوامر الشريعة سواسية لا فرق بين سوقي ولا حاكم، والمحتسب يقوم بواجبه تجاه الجميع، ومع الجميع. وملحظ آخر: هو أن المسلم الذي تبلغه دعوة الحق سواء كان حاكمًا أو محكومًا لا يتوان في قبولها، ولذا نرى موقف الخليفة الذي ذُكِّر فتذكر، ونصح فاستفاد، لم يكن إلا أن زاد في صلاحية هذا المحتسب، وأطلق يده في تغيير كل منكر، ولا يسع المسلم الحق إلا أن يمتثل ويعمل بصدق وإخلاص إذا عرف الحق وذكر به. ومن صور الحسبة أيضًا: هو التي تتمثل فيها جرأة المحتسب في تغيير المنكر، وعدم مداهنة المحتسب عليه لمنصب يرجوه، أو حظوة ينتظرها، كما تتمثل الغاية في التأثر والقبول من الحاكم ما ذكره ابن بسام المحتسب في كتاب (نهاية الرتبة) من أن أتابك سلطان دمشق طلب له محتسبًا، فذكر له رجل من أهل العلم فأمر بإحضاره، فلما بصر به قال: "إني وليتك أمر الحسبة على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقال هذا المحتسب: إن كان الأمر كذلك فقم عن هذه الطراحة وارفع هذا المسند الذي وراء ظهرك فإنه حرير، واخلع هذا الخاتم من إصبعك فإنه ذهب، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الذهب والحرير: ((إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها)) قال: فنهض السلطان عن

الطراحة، وأمر برفع المسند الذي كان يتكئ عليه، وخلع الخاتم من إصبعه، وقال: قد ضممت إليك النظر في أمور الشرطة، قيل: فما رأى الناس محتسبًا أهيب منه". فهذه كانت سيرة العلماء وعاداتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلة مبالاتهم بسطوة الملوك، لكنهم اتكلوا على فضل الله، وأن الله يحرسهم، ورضوا بحكم الله أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية، وأزال قساوتها وأمالها. وأما الآن فقد استولى على الناس حب الدنيا، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر؟! والله المستعان على كل حال. وكانت من عادات السلف الحسبة على الولاة قاطعًا بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، فكل من أمر بالمعروف وإن كان المتولي راضيًا فذاك، وإن كان ساخطًا فسخطه عليه منكر، يجب الإنكار عليه، وكيف يحتاج إلى إذنه، ويدل على ذلك سنن السلف في الإنكار على الأئمة كما في قصة مروان وخطبته قبل الصلاة، فلقد فهم السلف من هذه العمومات دخول السلاطين تحتها، فكيف يحتاج إلى إذنهم؛ لأن الحسبة عبارة عن المنع من منكر بحق الله صيانة للممنوع عن مقارفة المنكر. وعن سفيان الثوري قال: "حج المهدي في سنة ست وستين ومائة فرأيته يرمي جمرة العقبة والناس يحتاطون به يمينًا وشمالًا، يضربون الناس بالسياط، فوقفت فقلت: يا حسن الوجه، حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرمي جمرة العقبة يوم النحر على جمل لا ضرب، ولا طرد، ولا جلد، ولا إليك، وهأنت يحيط الناس بين يديك يمينًا وشمالًا؛

كيف يكون الإنكار على الحكام والأمراء؟.

فقال للرجل: من هذا؟ فقال: سفيان الثوري؛ فقال له: يا سفيان لو كان المنصور ما احتملك على هذا، فقلت له: لو أخبرك المنصور بما لقي لقصرت عن ما أنت عليه، قال: فقيل له: لم؟ قال لك: يا حسن الوجه، ولم يقل لك: يا أمير المؤمنين، قال: اطلبوه، فطلبوه فلم يجدوه فاختفى". كيف يكون الإنكار على الحكام والأمراء؟ قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في تفسير حديث أبي سعيد الخدري: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره ... )) إلى آخره: "قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنكر؟ قال: إن خفت أن يقتلك فلا، ثم عدت فقال لي مثل ذلك، وقال: إن كنت لا بد فاعلًا ففيما بينك وبينه. وقال طاوس: أتى رجل ابن عباس؛ فقال: ألا أقوم إلى هذا السلطان فآمره وأنهاه؟ قال: لا تكن له فتنة، قال: أفرأيت إن أمرني بمعصية الله؟ قال: ذلك الذي تريد فكن حينئذٍ رجلًا. وقد ذكرنا حديث ابن مسعود الذي فيه: ((يخلف من بعدهم خلوف فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن)) قال: وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد، وقد استنكر الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود، وقال: هو خلاف الأحاديث التي أمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيها بالصبر على جور الأئمة، وقد يجاب عن ذلك بأن التغيير باليد لا يستلزم القتال، وقد نص على ذلك أحمد أيضًا في رواية صالح؛ فقال: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح، فحينئذٍ جهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات مثل أن يريق خمورهم، أو يكسر آلات اللهو التي لهم، أو نحو ذلك، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على

ذلك، وكل ذلك جائز، وليس هو من باب قتالهم، ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه؛ فإن هذا أكثر ما يخشى منه أن يقتله الأمراء وحده. وأما الخروج عليهم بالسيف فيخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين، نعم إن خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذى أهله أو جيرانه لم ينبغ له التعرض لهم حينئذ لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره، ومع هذا متى خاف منهم على نفسه السيف، أو السوط، أو الحبس، أو القيد، أو النفي، أو أخذ المال، أو نحو ذلك من الأذى سقط أمرهم ونهيهم، وقد نص الأئمة على ذلك منهم: مالك، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، قال أحمد: لا يتعرض إلى السلطان؛ فإن سيفه مسلول. وقال ابن مفلح في (الآداب الشرعية): ولا ينكر أحد على سلطان إلا وعظًا له وتخويفًا، أو تحذيرًا من العاقبة في الدنيا والآخرة، فإنه يجب ويحرم بغير ذلك، ذكره القاضي وغيره، والمراد: ولم يخف منه بالتخويف والتحذير، وإلا سقط، وكان حكم ذلك لغيره، قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله، وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك، ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر، وقال: هذا ليس بصواب، هذا خلاف الآثار. وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله يأمر بكف الدماء، وينكر الخروج إنكارًا شديدًا، وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: الكف؛ لأنا نجد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما صلوا فلا)) خلافًا للمتكلمين في جواز قتالهم كالبغاة.

قال القاضي: والفرق بينهما من جهة الظاهر والمعنى؛ أما الظاهر فإن الله تعالى أمر بقتال البغاة بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9). وفي مسألتنا أمر بالكف عن الأئمة بالأخبار المذكورة. وأما المعنى فإن الخوارج يقاتلون بالإمام، وفي مسألتنا يحصل قتالهم بغير إمام، فلم يجز كما لم يجز الجهاد بغير إمام، وقال عبد الله بن المبارك: إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروة وثقى لمن دانا كم يدفع الله بالسلطان معضلة ... في ديننا رحمة منه ودنيانا لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا وقال عمرو بن العاص لابنه: "يا بني احفظ عني ما أوصيك به: إمام عدل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم". قال ابن الجوزي: الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ، فأما تخشين القول نحو: يا ظالم، يا من لا يخاف الله؛ فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرها إلى الغير لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه؛ فهو جائز عند جمهور العلماء، قال: والذي أراه المنع من ذلك؛ لأن المقصود إزالة المنكر، وحمل السلطان بالانبساط عليه على فعل المنكر أكثر من فعل المنكر الذي قصد إزالته.

قال الإمام أحمد -رحمه الله-: لا يتعرض للسلطان؛ فإن سيفه مسلول وعصاه، فأما ما جرى للسلف من التعرض لأمرائهم فإنهم كانوا يهابون العلماء، فإذا انبسطوا عليهم احتملوهم في الأغلب. ولأحمد من حديث عطية السعدي قال: إذا استشرت السلطان تسلط عليه الشيطان، ووعظه الجوزي في سنة أربع وسبعين وخمسمائة بحضور الخليفة المستضيء بأمر الله، وقال: لو أني مثلت بين يدي السنة الشريفة لقلت: يا أمير المؤمنين قل لله سبحانه ما حاجتك إلي كما كان لك مع غناه عنك، إنه لم يجعل أحدًا فوقك فلا ترض أن يكون أحد أشكر له منك، فتصدق أمير المؤمنين بصدقات وأطلق محبوسيه. ووعظ أيضًا في هذه السنة والخليفة حاضر قال: وبالغت في وعظ أمير المؤمنين، فمما حكيته له: أن الرشيد قال لشيبان: عظني؛ فقال: يا أمير المؤمنين لأن تصحب من يخوفك حتى تدرك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى تدرك الخوف. قال: فسر لي هذا، قال: من يقول لك: أنت مسئول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول لك: أنتم أهل بيت مغفور لكم، وأنتم قرابة نبيكم، فبكى الرشيد حتى رحمه من رآه. فقلت له في كلامي: يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك. ووعظ شبيب بن شيبة المنصور؛ فقال: إن الله -عز وجل- لم يجعل فوقك أحدًا، فلا تجعل فوق شكرك شكرا. وكذلك نص الإمام أبو حامد الغزالي على طرق وعظ الأمراء والسلاطين، وتذكيرهم بالله، والاحتساب عليهم؛ فقال -رحمه الله-: قد ذكرنا درجات

الأمر بالمعروف، وأن أوله التعريف، وثانيه الوعظ، وثالثه التخشين في القول، ورابعه المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب والعقوبة، والجائز من جملة ذلك مع السلاطين الرتبتان الأوليان، وهما: التعريف، والوعظ، وأما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان؛ فإن ذلك يحرك الفتنة، ويهيج الشر، ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر، وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم، يا من لا يخاف الله، وما يجري مجراه؛ فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطاء، والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة، والتعرض لأنواع العذاب، لعلمهم بأن ذلك شهادة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)). ولما علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر، وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد قدموا على ذلك مُوَطِّنين أنفسهم على الهلاك، ومحتملين أنواع العذاب، وصابرين عليه في ذات الله تعالى، ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله، وطريق وعظ السلاطين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ما نقل عن علماء السلف. ونحن نحكي بعض ما وردنا عنهم -رضي الله عنهم- في ذلك؛ فمنها ما روي من إنكار أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- على أكابر قريش حين قصدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسوء، وذلك ما روي عن عروة -رضي الله عنه- قال: قلت لعبد الله بن عمرو: ما أكثر ما رأيت قريشًا نالت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما كانت تظهر من عداوته؟

فقال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحجر، فذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، ولقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا. فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفًا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول، قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم مضى فلما مر الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه -عليه السلام- ثم مضى، فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها حتى وقف، ثم قال: ((أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح)). قال: فأطرق القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك ليرقوه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدًا فوالله ما كنت جهولًا. قال: فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم؛ فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذ اطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به، يقولون: أنت الذي تقول كذا أنت الذي تقول كذا لما كان قد بلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، قال: فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم أنا الذي أقول ذلك)) قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه، قال: وقام أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول وهو يبكي: ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول: ربي الله، ثم انصرفوا عنه، وإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا بلغت منه -صلى الله عليه وسلم.

ومن حكاياتهم -رضي الله عنهم- ما روي عن الأوزاعي قال: بعث إلي أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل، فأتيته، فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة رد علي واستجلسني، ثم قال: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟ قال: قلت: وما الذي تريده يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم، قال: فقلت: فانظر يا أمير المؤمنين ألا تجهل شيئًا مما أقول لك، قال: وكيف أجهله وأنا أسألك عنه، وفيه وجهت إليك وأقدمتك له، قال: قلت: أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به، قال: فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف فانتهره المنصور، وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة، فطابت نفسي وانبسطت في الكلام، فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه؛ فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثمًا، ويزداد الله بها سخطًا عليه)). يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن ياسر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أيما وال مات غاشًّا لرعيته حرم الله عليه الجنة)) يا أمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله؛ فإن الله هو الحق المبين، إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد كان بهم رءوفًا رحيمًا، مواسيًا لهم بنفسه في ذات يده، محمودًا عند الله وعند الناس، فحقيق بك أن تقوم له فيهم بالحق، وأن تكون بالقسط له فيهم قائمًا، ولعوراتهم ساترًا، لا تغلق عليك دونهم الأبواب، ولا تقيم دونهم الحجاب، تبتهج بالنعمة عندهم، وتبتئس بما أصابهم من سوء، يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم أحمرهم وأسودهم، مسلمهم وكافرهم، وكل له عليك ن صيب من العدل، فكيف بك إذا انبعث

منهم فئام وراء فئام، وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه أو ظلامة سقتها إليه. يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال: كانت بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جريدة يستاك بها، ويروع بها المنافقين، فأتاه جبرائيل -عليه السلام- فقال: يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك، وملأت قلوبهم رعبًا، فكيف بمن شقق أستارهم، وسفك دماءهم، وخرب ديارهم، وأجلاهم عن بلادهم، وغيبهم الخوف منه؟ يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن زياد عن حارثة عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابيًّا لم يتعمده فأتاه جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد إن الله لم يبعثك جبارًا، ولا متكبرًا، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- الأعرابي؛ فقال: ((اقتص مني)) فقال الأعرابي: قد أحللتك بأبي أنت وأمي وما كنت لأفعل ذلك أبدًا، ولو أتيت على نفسي، فدعا له بخير. يا أمير المؤمنين رَضِّ نفسك لنفسك، وخذ لها الأمان من ربك، وارغب في جنة عرضها السموات والأرض التي يقول فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لقيد قوس أحدكم من الجنة خير له من الدنيا وما فيها)) ". الطريقة المثلى لنصح الحاكم والأمير: أولًا: يجب على من يحتسب على الأمير العلم بفقه الاحتساب على وجه العموم، وبحكم المسألة التي يحتسب فيها على وجه خاص؛ فإن ذلك من أولى الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يعطي لنفسه القيام بهذا الدور في النصح للحكام، لا سيما إذا ما عرفنا حساسية الموقف وأهميته.

ثانيًا: الإخلاص، أي إخلاص النصيحة عند بذلها لله، وابتغاء ما عنده -سبحانه وتعالى- من الأجر والثواب، الذي وعد به من قام بهذا الفرض، وأدى هذا الواجب، وألا يكون هدف المحتسب من ذلك إبراز نفسه، أو الطمع في الحصول على مال أو شهرة، أو تعالٍ على الناس، ولكن يجب أن يكون هدفه إلزام المسلمين منهج الله، وكلمة التقوى، ومتى كانت نيته صحيحة وعمله خالصًا لله سدده الله ووفقه، وكان ذلك عونًا له على نفسه التي قد تغالب بعز العلم، وإذلال الغير بالجهل، فإذا كان هذا هو الباعث في نفسه فإنه يكون منكرًا أقبح من المنكر الذي يعترض عليه. ثالثًا: اللين والرأفة؛ فإن الله -تبارك وتعالى- بعث موسى وهارون -عليهما السلام- إلى فرعون؛ فقال لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43، 44)، فإذا كان هذا في شأن فرعون؛ فإن الحاكم المسلم مهما كانت مخالفته أولى بذلك من غيره. رابعًا: أن تكون نصيحة الحاكم في السر، وفي حالة الانفراد به عند إبلاغه النصيحة، لا سيما عندما يحدث منه ما يوجب الاحتساب؛ فإن علماء الأمة عليهم أن يختاروا من بينهم من يرونه يصلح للقيام بإبلاغ النصيحة بالطريقة التي تحفظ على الحاكم وقاره وهيبته، ولنا في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخير كله؛ حيث قال: ((من أراد أن ينصح السلطان بأمر فلا يُبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به؛ فإن قبل منه فذاك، وإلا فقد أدى الذي عليه)). يقول ابن النحاس في هذا المعنى في كتابه (تنبيه الغافلين): "ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رءوس الأشهاد، بل يود لو كلمه سرًّا، ونصحه خفية من غير ثالث لهما، ويكره أن يقال عنه -أي: الحاكم- أو يحكي

ما اتفق له معه، وألا يشهر ذلك من العامة، فهذه كلها علامات تدل على سوء القصد والنية". وأرى أن الاهتمام بهذه النقطة يكون أكثر من غيرها؛ لأنها أدعى كل النقاط التي ذكرناها لقبول النصيحة، ولأن إبلاغ النصيحة للحاكم ولغيره لا بد أن تظل لابسة ثوب النصيحة لا ثوب الفضيحة؛ لأنها متى أعلنت للناس خرجت من نصيحة وتحولت إلى فضيحة، فإذا لم يتيسر للناصح أن يخلو بالحاكم فعليه أن يلجأ إلى طرق أخرى، وفي حضور الطريقة السابقة من حيث السرية كأن يكتب له خطابًا ويسلمه بيده إن تيسر، وإلا حاول إرساله مع ثقة مع تحريضه -أي: ثقة- ألا يفتح الخطاب إلا بيد الحاكم، وبهذا يضمن المحتسب الناصح ألا يقع فيما يخالف. خامسًا: مراعاة هيبة السلطان وجلال الحكم؛ لأن في ابتذال ذلك وعدم مراعاته مدعاة مؤكدة لعدم قبول النصيحة، وبالتالي قد تتخذ مدخلًا على السلطان ممن لهم مقاصد دنيئة، وهيبة السلطان هيبة للأمة، ولا ينبغي أن يتجاوز المحتسب الناصح المرتبتين الأولتين من مراتب إنكار المنكر مع الحاكم على الترتيب الذي ذكره الغزالي: التعريف والوعظ، فإذا ما اتبع المحتسب هذا النهج في تقديمه النصيحة للحاكم المسئول كان قد بذر بذرة طيبة بكلمة طيبة، فالكلمة الطيبة لها أثر عظيم في كسب القلوب، وأسرها، وفيها يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم: 24، 25). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 12 المحتسب عليه (3).

الدرس: 12 المحتسب عليه (3).

مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (المحتسب عليه (3)) مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي إن الحمد الله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: من خصائص النظام الاجتماعي الإسلامي تحديده مركز المرأة في المجتمع تحديدًا دقيقًا واضحًا صريحًا مفصلًا، حتى لا تدخل الأهواء في هذه المسألة الخطيرة جدًّا، وحتى تتحقق للمجتمع طهارته، ونظافته، وعفته، واستقامته، وتنشأ فيه الأجيال القوية الأمينة، فيبقى المجتمع على صلاحه واستقامته، ويسعد أفراده. وقد تناول القرآن الكريم بآيات كثيرة شئون المرأة، وتحديد مركزها الاجتماعي، وما لها وما عليها، وكذلك فعلت السنة النبوية، ولا شك أن معالجة موضوع المرأة في القرآن بآيات كثيرة، وفي السنة بأحاديث كثيرة، يدل دلالة قاطعة على أهمية هذا الموضوع، وعظيم عناية الإسلام به. والواقع أن حالة المرأة في المجتمع، ومدى ما لها وما عليها من الحقوق والواجبات، ونوع الضوابط التي تحكم سلوكها، كل ذلك كان ولا يزال من أعظم المؤثرات في سير المجتمع، وفي مدى صلاحه وفساده، ولهذا كله فقد أولى الإسلام مسألة المرأة كل ما تستحق من عناية وتوضيح حتى تستبين الأمور، ويعرف الناس المسلك السديد في معالجة هذه المسألة على الوجه الصحيح. من المفيد أن نذكر شيئًا عن مركز المرأة في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام لنرى مدى الإصلاح العظيم الذي جاء به الإسلام في هذا الموضوع، ثم نعرف المعايب والأخطاء والأباطيل التي كان عليها الناس قبل الإسلام في مسألة المرأة حتى لا يقع المجتمع الإسلامي فيها.

وقد روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية"؛ لأنه إذا لم نعرف قبائح الجاهلية لم نتوقها، وربما خالطناها أو وقعنا فيها، والمجتمعات غير العربية قبل الإسلام أو التي لم تهتدِ بهديه بعد بزوغ شمسه لم تكن أحسن حالًا من المجتمعات العربية الجاهلية، ونذكر فيما يلي بعض الأوضاع التي كانت عليها المرأة في المجتمعات الجاهلية العربية وغير العربية: أولًا: كان العرب قبل الإسلام ينظرون إلى المرأة نظرة احتقار وامتهان، ويحزنون لولادة الأنثى، وقد بين القرآن الكريم هذه الحالة النفسية التي كانت تنتابهم؛ فقال الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 58، 59)، حتى آل الأمر ببعضهم إلى وأد البنات، وهن على قيد الحياة قال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (التكوير: 8، 9). ثانيًا: ما كانت المرأة ترث؛ لأن الإرث عند عرب الجاهلية كان محصورًا في الرجال. ثالثًا: كانت كثيرًا ما تخضع للتعسف والظلم، فإذا مات الرجل وترك زوجة وأولادًا من غيرها فللابن الحق في تزويجها، ولو كانت كارهة كما كان له أن يمنعها من التزوج، وللزوج أن يطلقها ما شاء من الطلقات، ويراجعها قبل أن تنتهي عدتها، وهكذا يجعلها كالمعلقة، لا هي مطلقة فتذهب إلى حال سبيلها، ولا هي بالزوجة التي تتمتع بحقوق الزوجية. رابعًا: ولم يكن الناس في الجاهلية الأخرى أحسن حالًا من عرب الجاهلية؛ فقد وقع الاختلاف في أوربا حول المرأة من جهة مساواتها مع الرجل في تلقي الدين،

والقيام بالعبادة، واستحقاق الجنة في الآخرة، حتى إن بعض المجامع الكنسية في روما قررت أنها حيوان نجس لا روح له، ولا خلود. وفي القانون الروماني للزوج الحق في الزواج مع السيادة أن يبيع زوجته، وأن يأخذ ما يكون عندها من أموال، وما كانت هناك قيود على الآداب العامة تلتزم بها المرأة، بل كان التحلل عن هذه القيود هو الشائع في المجتمعات الجاهلية العربية منها وغير العربية. وقد أشار القرآن الكريم إلى شيء من هذا التحلل؛ حيث قال الله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (الأحزاب: 33)، ومن معاني {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}: خروج المرأة مكشوفة الرأس والصدر والعنق تخالط الرجال وهي بهذه الحالة، وتتغنج في مشيتها بينهم، هكذا ذكر أهل التفسير بصدد هذه الآية الكريمة. أما مركز المرأة في المجتمع الإسلامي فإنه يعرف بمعرفة الحقوق التي جعلها لها الإسلام، والواجبات التي فرضها عليها، والوظيفة التي اختصت بها، والآداب التي تلتزم بها. أما عن حقوق المرأة فالقاعدة في حقوق المرأة أنها فيها كالرجل، إلا فيما يختلفان فيه من استعداد، وكفاية، وقدرة هي مناط هذه الحقوق، وبشرط ألا تعارض هذه الحقوق ما عليها من واجبات، وعلى هذه القاعدة تتمتع المرأة في الإسلام بالحقوق التالية: أولًا: تتمتع بحق الحياة؛ لأنها نفس معصومة كالرجل، ولهذا حرم الإسلام وأد البنات، وأوجب القصاص في قتلهن عمدًا كما هو الحكم بالنسبة للرجل.

ثانيًا: هي أهل للتكريم لأنها إنسان، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70). ثالثًا: لها حق اكتساب الأموال بالطرق المشروعة؛ لأن لها ذمة صالحة لاكتساب الحقوق المالية وغير المالية؛ فهي في هذا الحق كالرجل، ومن أسباب اكتساب الأموال الميراث، وقد أثبته الشرع الإسلامي لها بعد أن حرمها الجاهليون منه، قال الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (النساء: 7)، ولها حق التصرف بأموالها كما تشاء دون حاجة إلى إذن أحد ما دامت عاقلة رشيدة. رابعًا: لها حق المهر في عقد النكاح كما قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4)، ولها حق النفقة على الزوج قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 233)، وحق النفقة على أولادها باعتبارها أمًّا. خامسًا: لها حق الحضانة على أولادها الصغار إذا وقعت الفرقة بينها وبين زوجها. سادسًا: لها حق تعلم العلوم النافعة لها بالكيفية المناسبة لطبيعتها، وبشرط الالتزام التام بالآداب الإسلامية اللازمة لها، وأعظم ما ينفعها تعلم شريعة الإسلام، وما فيها من حلال وحرام. أما العلوم الدنيوية فهي مباحة، فإذا شاءت المرأة أن تتعلم منها شيئًا فلا بأس، ولكن بالشرط الذي قدمناه، وهو الالتزام بالآداب، وبالكيفية المناسبة لها، والمحافظة على عفتها، كما ينبغي أن تتعلم ما يلائم طبيعتها، ويقوي اختصاصها الفطري في تربية الأولاد ورعاية البيت، فتتعلم فنون الخياطة، والطبخ، وأصول تربية الولد، ونحو ذلك، فإذا أرادت المزيد من المعرفة فلا بأس بشرط ألا تؤثر

في قيامها بواجباتها المطلوبة منها كزوجة أو أم، وبشرط أن يكون التعلم بالكيفية المشروعة، فلا اختلاط بالشباب بحجة التعلم، ولا تنكشف أمام الرجال بحجة التعلم، وهكذا، وأمثاله لا يباح ولا يجوز، ولو بحجة طلب العلم. أما عن واجبات المرأة في الإسلام فالقاعدة أيضًا في الواجبات كالقاعدة في الحقوق؛ فهي فيها كالرجل إلا فيما يختلفان فيه مما هو مناط التكليف، وأساس هذه القاعدة أنها إنسان، ولها أهلية وجوب، أي صلاحية اكتساب الحقوق وتحمل الواجبات، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (النساء: 1)، فالنساء كالرجال مطالبات بتقوى الله، أي بطاعة أوامره، واجتناب نواهيه، ويترتب على هذه القاعدة ما يأتي: أولًا: أن المرأة كالرجل مخاطبة بالتكاليف الشرعية في باب الاعتقاد، والعبادات، والمعاملات، إلا بما تقتضيه طبيعتها كما هو معروف، أو بسبب عدم قدرتها على هذا الواجب، كالجهاد يكلف به الرجل لا المرأة، إلا إذا رغبت المرأة في الخروج مع المجاهدين، وإذا خرجت قامت بما تقدر عليه من أمور الجهاد كمداواة الجرحى، وإعداد الطعام، ونحو ذلك. وقد ورد في القرآن الكريم أن النساء المؤمنات بايعن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- كما بايعه الرجال قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الممتحنة: 12)، وهذه البيعة تدل على أن النساء مكلفات بما كلف به الرجال من أمور الدين.

ثانيًا: وترتب على مخاطبة المرأة بالتكاليف الشرعية أنها مجزية على عملها وقيامها بما قامت به، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: 124)، وقال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (آل عمران: 195)، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97). ثالثًا: إن الخطابات في القرآن التي تخاطب المؤمنين وتكلفهم بالتكليفات الشرعية يدخل فيها النساء، إلا إذا قام الدليل على خلاف ذلك؛ فقول الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 123)، هذه الآية تشمل الرجال والنساء. وقد يذكر القرآن الكريم النساء مع الرجال بما يخاطبهم به من تكليفات، أو فيما يمدحهم عليه، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 35). رابعًا: على المرأة واجب الطاعة لزوجها بالمعروف، ووفائها بحقه عليها؛ فقد جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لو كنت آمرًا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) فإذا أطاعته بالمعروف وأدت حقه عليها

الوظيفة التي اختصت بها المرأة، والآداب التي يجب أن تلتزمها.

كانت من النساء الفضليات، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: ((قيل: يا رسول الله أي النساء خير؟ قال: التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره)). وأخيرًا: المرأة مسئولة عن البيت وشئونه، ومؤتمنة عليه، فعليها القيام بهذه الأمانة، والخروج من عهدته: ((كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل في بيته راعٍ، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها)). الوظيفة التي اختصت بها المرأة، والآداب التي يجب أن تلتزمها خلق الله -سبحانه وتعالى- كل مخلوق على نحو يمكنه من أداء الغرض الذي خلق من أجله، وقد خلق الله تعالى المرأة على نحو يمكنها أن تكون زوجة وأمًّا، وأودع فيها التطلع والحنين إلى ذلك، وقد وهبها الله تعالى القابلية والقدرة على تربية أولادها، والصبر عليهم في جو من حنان الأمومة الفطري فيها. فالوظيفة الأصلية التي اختصت بها المرأة هي: وظيفة الزوجة، والأم، وتربية الأولاد، وتنشئتهم النشأة الصالحة، وتربية الأولاد تكون في البيت لا في الطريق، وتحتاج إلى انصراف إلى أداء هذه الوظيفة، ووقت كافٍ لها، وقد وفر لها الإسلام ذلك، فقد رفع عنها مئونة العيش، والاكتساب بما فرضه على الزوج من واجب الإنفاق عليها وعلى أولادها، ومن ثم لم تعد لها حاجة للعمل خارج البيت؛ لأن العمل يقصد به الكسب وتحصيل الرزق، وقد كفيت ذلك لقاء انصرافها إلى عمل جليل هو تربية الأولاد في البيت، كما أن الإسلام رفع عنها إيجاب بعض ما فرضه على الرجل تحقيقًا لأغراض معينة، منها: توفير الوقت الكافي للانصراف إلى مهمتها.

فالقتال في سبيل الله ليس بواجب عليها وجوبه على الرجل، والصلاة في المساجد واجب على الرجال دون النساء، وصلاة الجمعة تجب على الرجل دون المرأة، فهذا وأمثاله يدل على أن الإسلام يرغب في بقاء الزوجة في بيتها وعدم الخروج منه إلا لحاجة أو سبب معقول لتنصرف إلى مهمتها الخطيرة: تربية الأولاد، وتهيئة المسكن المريح للزوج الذي يأوي إليه بعد تعبه خارجه، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (الأحزاب: 33). وليس المقصود بالقرار في البيوت عدم الخروج منه مطلقًا، ألا يرى أن المرأة تخرج للحج، وتخرج لأداء الصلاة في المساجد إذا شاءت، وتخرج لزيارة أهلها، وتخرج للعلاج، ونحوه، وإنما المقصود أن المرأة تقر في بيتها ولا تخرج بلا غرض مشروع ولا سبب معقول؛ لأن هذا هو المرغوب فيه في نظر الشرع. أما عن الآداب التي يجب على المرأة أن تلتزمها؛ فهناك جملة آداب وأخلاق يجب أن تلتزم بها المرأة لتسهم في بقاء طهارة المجتمع ونظافته مما يشينه، ولتبقى هي نفسها بعيدة عن مظنة التهم ومزالق الشيطان، ومن هذه الآداب ما يأتي: أولًا: لا يجوز للمرأة أن تخلو بأي رجل يحل له نكاحها حتى ولو كان قريبًا لها؛ كابن العم، أو ابن الخال، وهذا المنع كما هو واضح يسري على الرجل سريانه على المرأة، فلا يجوز لمسلم أن يخلو بامرأة يحل له نكاحها، وتعليل هذا المنع هو سد منافذ الشيطان؛ فإن الشيطان كما جاء في الحديث: ((يجري من ابن آدم مجرى الدم)) فيزين له الخطيئة، ويهيج فيه الشهوة. وقد جاء في الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إياكم والخلوة بالنساء، والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا ودخل الشيطان بينهما))، وفي حديث آخر قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم)).

ولا يقال: إن الثقافة عاصمة من الوقوع في الخطيئة فلا ضرر من الخلوة بالأجنبية؛ لأن المسألة مسألة ضعف النفس، وما فيها من شهوات وقابليات للاستجابة لغواية الشيطان، والمثقف والمثقفة كالجاهل والجاهلة في هذه المسائل، والواقع شاهد على صحة ما نقول. وأيضًا فإن الثقافة لا تقلع الشهوات، وإنما الذي يضعفها ولا يستأصلها تقوى الله، والخشية منه، وعمارة القلب بالإيمان، بدليل أن الحديث الشريف يخاطب المؤمنين أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم خيار خلق الله بعد رسول الله، فكيف بغيرهم ممن عشش الشيطان في قلبه وباض وفرخ، وإن ملأ رأسه ببعض ما يسمى ثقافة وعلمًا. ومثل المنع من الخلوة منع المرأة من السفر وحدها بدون زوجها أو أحد محارمها؛ لأن الوحدة في ديار الغربة تفتح للشيطان منافذ للإغواء وللإيقاع في الخطيئة. ثانيًا: لزوم ابتعادها عن الاختلاط بالرجال خوف الفتنة، يدل على ذلك أن الإسلام في سبيل عدم الاختلاط بالرجال لم يفرض على المرأة صلاة الجمعة، ولم يوجب عليها صلاة الجماعة، ولا يستحب لها اتباع الجنائز، وإذا حضرت للصلاة في المسجد وجب عليها أن تقف مع النساء في الصف الأخير خلف الرجال، فإذا كان الأمر هكذا في بيوت الله فكيف يجوز الاختلاط في غير أماكن العبادة؟!. ومع هذا فإذا وجدت الضرورة والحاجة إلى مثل هذا الاختلاط جاز في حدود الأدب والاحتشام؛ كخروج المرأة مع المجاهدين تعد الطعام وتداوي الجرحى؛ فقد خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعه بعض نساء المسلمين للقتال، وقمن بمداواة

الجرحى، وسقي المقاتلين من المسلمين، بل وقد تضطر المرأة إلى القتال الفعلي مع المسلمين، كما حصل لبعضهن في موقعة أُحد، وهذا يستلزم الاختلاط، وكذلك قد تضطر المرأة إلى الخروج من بيتها لقضاء حاجتها، فتركب السيارة العامة، أو القطار، وتختلط بالرجال، فهذا ونحوه يجوز عند الحاجة بشرط الالتزام بالآداب الإسلامية في المشي واللباس والكلام. ثالثًا: إخفاء زينتها إلا ما ظهر منها؛ فقد جاء في القرآن الكريم في آداب النساء: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31)، ف لا يجوز تعمد إظهار شيء من زينتها إلا ما ظهر منها بغير قصد، أو ما كان ظاهرًا لا يمكن إخفاؤه كالرداء والثياب، وهذه هي الزينة الظاهرة التي يجوز إبداؤها على رأي ابن مسعود -رضي الله عنه- أو هي الكحل والخاتم على رأي ابن عباس -رضي الله عنه- أو هي الوجه والكفان على رأي بعض العلماء. رابعًا: ويجب أن يكون لباس المرأة شرعيًّا، أي: وفق ما أمر به الشرع، قال الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور: 31)، والخمار ما يوضع على الرأس، فالآية الكريمة تأمر بإنزال الخمار إلى العنق والصدر لإخفائهما، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 59)، والجلباب هو الملاءة التي تغطي جسم المرأة وتلبسه فوق ثيابها، فلا يظهر منها شيء، وهو يشبه العباءة التي تستعملها بعض نسائنا اليوم، وكانت شائعة بالأمس. ومن الشروط الأخرى في لبس المرأة في حكم الإسلام: ألا يكون شفافًا ولا ضيقًا حتى لا يظهر أعضاء المرأة ولا يصفها؛ فقد جاء في الحديث الشريف: ((سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العنوهن فإنهن ملعونات)) فهن كاسيات بالاسم، عاريات أو

كالعاريات في الحقيقة والواقع، وهذا الحديث من أعلام النبوة؛ فقد وقع ما أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم. ومن شروط لباس المرأة الشرعي أيضًا: ألا يكون معطرًا إذا خرجت من بيتها، وألا يشبه لباس الرجال ولا زيهم، فقد لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل يلبس لباس المرأة، والمرأة تلبس لباس الرجل. وخلاصة القول في لباس المرأة الشرعي الذي تتحقق فيه الآداب الإسلامية في اللباس: أن يكون ساترًا لجميع بدنها، وألا يكون زينة في نفسه، ولا شفافًا، ولا ضيقًا يصف بدنها، ولا مطيبًا، ولا مشابهًا للباس الرجال، ولباس الكفار، وألا يكون ثوب شهرة. خامسًا: من آداب الإسلام في مشي المرأة وكلامها: ما أشار إليه القرآن الكريم في قول الله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (النور: 31)، أي: لا تضرب المرأة برجليها ليسمع قعقعة خلخالها، فإذا فعلت ذلك بالتبرج والتعرض للرجال فهو حرام، والواقع أن هذا يدخل في باب سد الذرائع، وعلى هذا لا ينظر إلى القصد، وإنما ينظر إلى مآل الفعل، وعلى هذا ينبغي للمرأة ألا تفعله لئلا يثير ما لا ينبغي في الرجال بأن ينتبهوا إليه، وإلى مشيها، فيقعون في إثم النظر إليها أو الظن السيئ بها، ويقاس على ذلك المنع منع أي مشية فيها إثارة للفتنة، فينبغي أن تمشي المرأة مشية لا تغري الفساق وضعيفي الأخلاق، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (الأحزاب: 32). كانت هذه مقدمة عن المرأة ودورها الذي لا ينبغي أن يغيب عن كل ما له القدرة في الاحتساب في شأنها سواء كان من أقربائها أو من الغيورين المسلمين

على عفافها وطهرها؛ لأن في ذلك طهر للأمة، كيف لا وقد قوضت أمة بكاملها بسبب فتنة النساء؟! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)). وحذر -صلى الله عليه وسلم- من فتنة النساء، وبيّن أنها أشد فتنة على الرجال؛ فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)). ولهذا كانت المرأة ومنذ القدم يتخذها أعداء الدين من شياطين الإنس والجن مطية ولعبة يحققون بها أغراضهم الدنيئة، وذلك بنشر الرذيلة والفاحشة، والترويج لها وإعلانها، وفي ذلك الهلاك والدمار، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ((إذا ظهر الزنا والربا في قوم فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)). وخوفًا من هذا كانت المرأة محط أنظار المحتسبين في الماضي والحاضر، وحتى نربط ماضي الاحتساب في هذا الجانب بحاضره نذكر بعض المنكرات التي كان يحتسب عليها فيها في الماضي، والتي هي بلا شك مواطن احتساب على المرأة في كل زمان ومكان. وعن الصور الحسبية عليها في الماضي يذكر لنا صاحب كتاب (نصاب الاحتساب) -رحمه الله- أن من الاحتساب على المرأة منعها من السفر بدون محرم، ويقول: "وعبدها والأجنبي سواء في عدم جواز السفر معها، فحلًا كان أو مجبوبًا أو خصيًا، وإنما منعت المرأة من السفر وحدها لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسافة قصر إلا ومعها ذو محرم)) ".

ثم يقول صاحب (نصاب الاحتساب): "ويحتسب على الحرة بأن تمنع من كشف وجهها والكف والقدم فيما يقع عليها نظر الأجنبي، ويحتسب عليها ألا تزور قبرًا؛ فقد روى عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال: ((لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوارات القبور)). ويحتسب على المرأة إذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه للحمّام -والحمّام قديمًا ليس هو الحمّام الذي يعرفه الناس اليوم داخل بيوتهم، الحمّام في قديم الزمان كان مكانًا عامًّا للاغتسال في المدن الكبيرة- أو خرجت غير مقنعة، وأما إذا خرجت للحمام بإذن زوجها مقنعة بعذر بأن كانت مريضة أو نفساء يباح لها. ويحتسب عليها عدم الركوب على السرج إلا بعذر؛ كالحج والعمرة والجهاد إذا كانت مستترة، ويحتسب عليهن بعدم الضرب بأرجلهن عند اتخاذ الخلاخل في أرجلهن؛ لأن مبنى حالهن على الستر، وفيه -أي: الخلخال- إظهار لزينتهن الواردة في قول الله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}. ويحتسب على الرجل والمرأة إذا كانا في خلوة، وكانا أجنبيين عن بعضهما، وإذا سمع والي الحسبة بامرأة عاهرة أو مغنية استتابها عن معصيتها؛ فإن تابت وإلا عزرها ونفاها من البلد، ويحتسب على المعتدات من النساء عن موت أو طلاق بائن أن يتجنبن الزينة؛ كالكحل، والحناء، والتحلي، والطيب، ولبس المطيب، والمصبوغ بالمعصفر، والزعفران، إلا إذا كان غسيلًا لا ينفض. ويحتسب على المرأة ألا تقص شعرها كالرجل، ذكر في (النوازل) في كتاب النكاح، وسئل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- عن امرأة قطعت شعرها قال: عليها أن تستغفر الله وتتوب، ولا تعود إلى مثله. قيل: فإن فعلت ذلك بإذن زوجها؟ قال: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قيل له: لم لا يجوز ذلك؟ قال: لأنها

شبهت نفسها بالرجال، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)). ولأن شعر رأس المرأة كاللحية بالنسبة للرجل، فكما أنه لا يجوز للرجل أن يقطع لحيته فكذلك لا يحل للمرأة أن تقطع شعرها، ويحتسب على النامصة والمتنمصة، والواصلة والمستوصلة، والواشرة والمستوشرة، والواشمة والمستوشمة؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد لعن من فعل ذلك. ويحتسب على المرأة المطلقة طلاقًا رجعيًّا أن تعتد في بيت زوجها، ولا تخرج إلى بيت أهلها كما يفعل غالبية النساء اللاتي يحصل لهن هذا الطلاق اليوم، ما إن يقول الرجل لامرأته: أنت طالق، حتى تركض ركضًا للخروج من بيته إلى بيت أهلها، وهذا مخالف لما أمر الله -تبارك وتعالى- به؛ حيث قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (الطلاق: 1) ". وإلى جانب ما مر ذكره فإن مما يحتسب فيه على النساء اليوم منعهن من التبرج، وإظهار المفاتن، والتبختر في المشي، فقد قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها؛ فهي كذا وكذا))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)). ويحتسب على الذين تبتاع معهم المرأة اليوم في الأسواق، ويحذرهم المحتسب من أن يسلكوا معهن طرقا ملتوية تجر إلى الفاحشة، ويمنعهم من إيجاد أماكن للخلوة داخل محلاتهم، بل يكون المحل مفتوحًا وواضحًا لكل مارٍّ من الطريق بقدر الإمكان، كذلك يجب تحذير النساء وتنبيههن إلى الاهتمام بالحجاب، ولا سيما

أمام هؤلاء الباعة الأجانب، وعموم الرجال الأجانب، ويحتسب عليهن في ألا يمكثن في الوقوف طويلًا عند هؤلاء الباعة، وتجاذب الحديث معهم بما لا تدعو إليه الحاجة من الحديث. ومما ينبغي أن يلاحظه المحتسبون اليوم الشباب المتسكع في الطرقات والأسواق، وزجرهم عن القيام بالتعرض للنساء الأجنبيات، بإحداث نظر، أو غمز، أو لمز، قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (النور: 30). وقال -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: ((يا علي لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة))، وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن نظر الفجأة؛ فقال: ((اصرف بصرك))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لأن يطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له)). كما ينبغي للمحتسب أن يحرص دائمًا بأن لا يحدث الاختلاط المنهي عنه شرعًا فيزجر ويحذر منه لئلا ينتشر في المصالح، والمصانع، والمستشفيات، والمحلات العامة، ومحلات التجارة، ويعمل أن يكون هناك مكان مخصص في وسائط النقل العامة. هذا وإذا كان لكل عصر ما يفرزه من المداخل والأسباب التي تغوى من خلالها المرأة، ويسلك بها طريق الانحراف عن منهج الله؛ فإن لهذا العصر الذي نعيشه النصيب الأوفر من ذلك، فقد أفرزت لنا الحضارة المعاصرة ما لا يمكن حصره، لكن ما أريد أن أركز عليه هنا هي تلك المنافذ التي فتحت على المرأة في مجتمعنا، ولم تكن تعرفها من قبل، والتي يجب أن يكون تركيز المحتسبين اليوم عليها أكثر، ومحاولة سدها حماية للفضيلة داخل المجتمع ودرءًا للرذيلة. من هذه المنافذ

عمل المرأة الذي يفضي إلى اختلاطها بالرجال في القطاعات الحكومية، أو المؤسسات الخاصة، فهذا المنفذ الخطر يجب غلقه ودعوة المرأة المسلمة، وبكل صدق وإخلاص، إلى أن تعود إلى مهمتها الأصلية في البيت، وهي تربية أولادها، والاهتمام بزوجها. ثانيًا: السفور وعدم الالتزام بالحجاب الشرعي. ثالثًا: السائقون والخدم، هذه الظاهرة قد كانت فردية إلى حد ما لكن لما كثرت في المجتمع حتى ابتلي بها كثير من بيوت المسلمين فإنها خرجت عندئذ من نطاق الفردية، وأصبحت ظاهرة اجتماعية خطيرة، وخطرها أول ما يكون على المرأة المسلمة، فكيف يتصور وجود رجل أجنبي مع امرأة لا تحل له داخل حيطان المنزل وعلى مدار اليوم، أو في سيارة تنتقل معه من مكان إلى مكان دون وجود المحرم، وما يكفي أن يكون هذا الرجل السائق أجنبيًّا، بل وفي حالات كثيرة يكون كافرًا كتابيًّا أو وثنيًّا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد حذر من هذا الاختلاط وهذه الخلوة؛ فقال: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما))، فينبغي أن يكون هناك انضباط، وأن يكون هناك ابتعاد عن كل ما يؤدي إلى اختلاط المرأة بالرجال أو خلوتها بهن. ومن منافذ الشر التي أفسدت بل وأهلكت كثيرًا من النساء الخياطون، محلات الخياطة النسائية، هذه المحلات التي انتشرت مع الأسف في كل الأحياء والأسواق وفي القرى حتى أصبحت أكثر من البقالات، ولم تكن المشكلة في كثرتها فقط، بل المشكلة في أن 97% منها من العاملين فيها هم رجال، والواقع أن الناس كانوا في غنى عنها، وإلى حد بعيد باعتبار أنه يوجد من يقوم بهذا العمل من بين بنات المسلمين ونسائهم، وقد تعلمه أكثرهن في المدارس ضمن منهج دراستهن، وحيث إن أكثر سلبيات هذه المحلات لم تظهر إلا بعد السماح

بها؛ فإن الجهات المسئولة في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبلدية والأمن عمدت إلى وضع ضوابط لعمل هذه المحلات، يجب الالتزام بهذه الضوابط حفاظًا على نسائنا. كذلك من منافذ الشر التي فتحت على النساء تلك المحلات التي عرفت بالكوافير، هذه التي تغير فيها خلقة المرأة، وتخرج فيها عن حد الحشمة، فتتنمص، وتزيل شعر وجهها، وتفلج أسنانها، وتفعل بصورتها ما نهاها الله -تبارك وتعالى- عنه. كل هذا من منافذ الشر التي فتحت على المرأة، ثم الأدهى والأمر أن الذي يزين النساء في تلك المحلات رجال لا نساء، فعلى الغيور على محارم أمته أن يقف وقفة جادة لإزالة هذه المنكرات، وعدم السماح بدخول النساء إليها، وبقدر حرص المحتسب على المرأة فإنه يجب أن يراقب وسائل أخرى شاعت وذاعت في المجتمع مؤخرًا، وهي الهاتف المحمول، أو النقال، أو الجوال؛ فإن هذا الهاتف قد صار يستعمل استعمالًا سيئًا، أفسد الأخلاق، وأضاع الشرف، وانتهكت بسببه الأعراض. فالمعاكسات الهاتفية كثيرة جدًّا يستغلها الشباب مع البنات والنساء على حد سواء، يتصلوا اتصالًا جزافيًّا غير مقصود بأي رقم فيفاجأ بامرأة ترد عليه، فإذا سألها وجاوبته استرسل في الكلام، واسترسل واستطرد حتى ينتهي الأمر في آخره إلى دعوتها للقاء، فإذا ما تم اللقاء المحرم ضاع معه الشرف، وانتهك معه العرض، وكان ما حرمه الله -تبارك وتعالى. كذلك من شر ما ابتليت به النساء في هذا الزمان تلك الصور الخليعة والفاتنة التي تصور بها النساء، وتحت شعارات الفن تارة، وباسم الحرية الشخصية تارة أخرى، كل هذه الصور سواء ما كان منها بالفيديو أو التلفاز أو بكاميرة

الهاتف الجوال، وغير ذلك، هذه الصور أيضًا من شر ما ابتليت به النساء، وابتلي به المجتمع؛ فيجب على المحتسب أن يحتسب على هؤلاء الرجال والنساء الذين يستخدمون هذه الصور ويعملون على ترويجها ونشرها، ومثل هذه الصور المجلات التي ابتليت بصور النساء العاريات دعوة إلى الفاحشة التي حرمها الله -تبارك وتعالى- والله -عز وجل- يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور: 19). كما أن على المحتسب أن يمنع الناس من مظان التهم ومواقف الريب؛ فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، فإذا رأى المحتسب رجلًا واقفًا مع امرأة في طريق سابل لم تظهر عليهما أمارة الريب لم يعترض عليهما بزجر ولا إنكار، لكن إن كان الطريق خاليًا أنكر؛ لأن خلو المكان ريبة، ولا يعمل في التأديب عليهما حذرًا من أن تكون ذات محرم له، وليقل له: إن كانت ذا محرم فصنها عن مواقف الريب، وإن كانت أجنبية فاتق الله تعالى في خلوة تؤدي بك إلى معصية الله. وعلى المحتسب أن يراقب الأماكن التي يتجمع فيها النسوان مثل أسواق الذهب، والمستشفيات، وعند الخياطين، وبعض أماكن التنزه والفنادق، وشواطئ البحار، وغيرها، فإذا رأى من الشباب أو غيرهم من الفساق من يقف في مواقف الريبة في هذه الأماكن انتهره وأدبه، ومنعه من الوقوف حفاظًا على العرض، وحفاظًا على الشرف، وحفاظًا على العفة، فما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأمراض والأسقام التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 13 الاحتساب.

الدرس: 13 الاحتساب.

معنى الاحتساب، ومراتبه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (الاحتساب) معنى الاحتساب، ومراتبه إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسول هـ، أما بعد: الاحتساب معناه: عرّفنا الحسبة بأنها أمر بمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله؛ فنحن إذًا نريد بالاحتساب القيام فعلًا بالحسبة؛ كأن يقومَ المُحْتَسِبُ بفِعْلٍ مُعَيّن بكيفية معينة، أو يزيل منكرًا بيده؛ كأن يكسره أو يمزقه أو يتلفه، أو يدفع صاحب المنكر بيده، وبالقوة عما هو فيه. والاحتساب الكامل يتمُّ بإزالة المنكر تمامًا، ومحوه فعلًا، ولو بالقوة عند الاقتضاء من قَبَل المحتسب أو أعوانه، أو من قبل صاحب المنكر نفسه؛ بأن يأمره المحتسب بتكسير آلة المنكر فيطيع أمره، فإن عجز المحتسب عن التغيير باليد انتقل إلى الاحتساب بالقول، عن طريق الوعظ والإرشاد، والتخويف من الله تعالى. وقد يزول المنكر بهذا الطريق وقد لا يزول، ويبقى صاحب المنكر مصرًّا على منكره؛ فإذا عَجَزَ المُحْتَسِبُ عن الإنكار بالقول تَحَوّل إلى الإنكار بالقلب، بأن يكرهه بقلبه ويود لو استطاع تغييره. ودليل ما قلناه الحديثُ الشَّريف الذي هُو العمدة في هذا الموضوع، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). وبناء على ما تقدم تكون مراتب الاحتساب أو درجاته ثلاثة: المرتبة الأولى: تغييرُ المُنْكَرِ باليَدّ، أي: تَغْييره فعلًا، ولو باستعمال القوة واستعمال السلاح، والاستعانة بالأعوان؛ كما في دفع الصائل لتخليصه النفس البريئة من الموت، وتخليص العِرْضِ المَصُون من الهتك، ويدخل في نطاق التغيير باليد: ضرْبُ المحتَسب عليه، أو حبسه، أو دفعه لمنعه من مباشرة المنكر.

أما المرتبة الثانية؛ فهي: الاحتساب بالقول؛ والاحتسابُ بالقول على درجات: أولها التعرف، ثم التعريف، ثم النهي، ثم الوعظ والنصح، ثم السب والتعنيف، ثم التغيير باليد، ثم التهديد بالضرب، ثم إيقاع الضرب وتحقيقه، ثم شهر السلاح، ثم الاستظهار فيه بالأعوان وجمع الجنود. أما الدَّرَجَةُ الأولى؛ وهي: التَّعَرُّف: ونَعني طلبَ المَعْرِفَة بجريان المنكر، وذلك منهي عنه، وهو التجسس الذي ذكرناه سابقًا؛ فلا ينبغي أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار، ولا أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يمس ما في ثوبه ليعرف شكل المزمار، ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه بما يجري في داره. نعم لو أخبره عدلان ابتداءً من غير استخبار، بأنّ فلانًا يَشْرَبُ الخَمْرَ في داره، أو بأنّ في داره خمرًا أعده للشرب، فله إذ ذاك أن يدخل داره، ولا يلزم الاستئذان، ويكون تخطي ملكه بالدخول للتوصل إلى دفع المنكر، ككسر رأسه بالضرب للمنع مهما احتاج إليه، وإن أخبرَه عدلان أو عدل واحد. وبالجملة كل من تُقبل روايته لا شهادته ففي جواز الهجوم على داره بقولهم فيه نظر واحتمال، والأولى أن يمتنع لأنّ له حقًّا في ألا يتخطى داره بغير إذنه، ولا يسقط حق المسلم عما ثبت عليه حقه إلا بشاهدين. فهذا أولى مما يجعل مردًا فيه. وقد قيل: أنه كان نقش خاتم لقمان: "الستر لما عاينت أحسن من إذاعة ما ظننت". الدرجة الثانية: التعريف: فإنّ المُنكر قد يقدم عليه المقدم بجهله، وإذا عرف أنه مُنكر تركه؛ كالذي يُصَلِّي ولا يُحسنُ الركوع والسجود؛ فيُعَلّم أنّ ذلكَ لجَهْلِه بأنّ هذه ليستْ بصَلاة، ولو رَضِي بألّا يَكونَ مُصليًّا لترك أصل الصلاة؛ فيجبُ

تعريفه باللطف من غير عنف، وذلك لأنّ ضمن التعريف نسبة إلى الجهل والحُمق، والتجهيل إيذاء، وقَلّما يرضى الإنسان بأن ينسب إلى الجهل بالأمور لا سيما بالشرع. ولذلك ترى الذي يغلب عليه الغضب، كيف يغضب إذا نبه على الخطأ والجهل؟ وكيفَ يجتهد في مجاحدة الحق بعد معرفته؛ خيفة من أن تنكشف عورة جهله؟!. والطباع أحرص على ستر العورة الجهل منها على ستر العورة الحقيقية، لأنّ الجَهْلَ قُبح في صورة النفس، وسواد في وجهه، وصاحبه ملومٌ عليه، وقبحٌ السوءتين يرجعُ إلى صورة البدن، والنفس أشرف من البدن، وقُبْحُها أشَدُّ من قبح البدن، ثُمّ هو غَيرُ مَلومٍ عليه؛ لأنه خِلقة لم يدخل تحت اختياره حصونه، ولا في اختياره إزالته، وتَحسينه، والجهل قبح يمكن إزالته وتبديله بحسن العلم؛ فلذلك يَعْظُم تألم الإنسان بأمور جهله، ويعظم ابتهاجه في نفسه بعلمه، ثُمّ لذته عند ظهور جمال علمه لغيره. وإذا كانَ التَّعْرِيفُ كشفًا للعورة؛ مؤذيًا للقلب، فلا بد أن يعالج دفع آذاه بلطف الرِّفق؛ فنقول له: إنّ الإنسانَ لا يُولد عالمًا، ولقد كُنّا أيضًا جاهلين بأمور الصلاة، فعلمنا العُلماء، ولعل قريتك خالية عن أهل العلم أو عالمها مُقَصِّرٌ في شرح الصلاة وإيضاحِها؛ إنّما شرط الصلاة الطمأنينة في الركوع والسجود، وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء؛ فإن إيذاء المسلم حرام محظور، كما أنّ تقريره على المُنكر محظور. وليس من العُقلاء من يغسل الدم بالدم أو بالبول، ومن اجْتَنَب محظور السكوت عن المنكر، واستبدل عنه محظور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه؛ فقد غسل الدّم بالبول، وأما إذا وقفت على خطأ في غير أمن الدين؛ فلا يَنْبَغي أن تَرُدّه

عليه؛ فإنه يَسْتفيد منك علمًا، ويَصِيرُ لك عدوًّا، إلّا إذا علمت أنه يغتنم العلم، وذلك عزيز جدًّا. الدرجة الثالثة: النَّهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله تعالى: وذلك فيمن يُقدم على الأمر وهو عالم بكونه منكرًا، أو فيمن أصر عليه بعد أن عرف كونه منكرًا؛ كالذي يواظب على الشرب، أو على الظلم أو على اغتياب المُسلمين أو ما يجري مجراه؛ فينبغي أن يُوعظ، ويُخوف بالله تعالى، وتورد عليه الأخبار الواردة بالوعيد في ذلك، وتُحكى له سيرة السلف، وعبادة المُتَّقِين، وكل ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب. بل ينظر إليه نظر المترحم عليه، ويرى إقدامه على المعصية مصيبة على نفسه، إذ المسلمون كنفس واحدة. وها هنا آفة عظيمة ينبغي أن يتوقاها؛ فإنّها مُهْلِكة، وهي أنّ العالِمَ يَرَى عند التعريف عز نفسه بالعلم، وذُلّ غيره بالجهل، فرُبّما يَقْصِدُ بالتعريف الإذلال، وإظهار التمييز بشرف العلم، وإذلال صاحبه بالنسبة إلى خسة الجهل؛ فإنْ كان الباعثُ هذا؛ فهذا المنكر أقبح في نفسه من المنكر الذي يعترض عليه. ومثال هذا المُحتسب مثال من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه، وهو غاية في الجهل، وهذه مَذَلَّةٌ عَظيمة وغائلة هائلة، وغرور بالشيطان يتدلى بحبله كل إنسان؛ إلّا من عرّفه الله عيوب نفسه، وفتح بصيرته بنور هدايته؛ فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة من وجهين؛ أحدهما: من جهة إزالة العلم، والآخر: من جهة إزالة الاحتكام والسلطنة، وذلك يرجِعُ إلى الرِّياء وطلب الجاه، وهو الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي، وله مَحكٌّ ومِعيار، ينبغي

أن يمتحن المحتسب نفسه، وهُو أنْ يَكُون امتناع ذلك الإنسان عن المُنكر بنفسه، أو باحتساب غيره أحب إليه من امتناعه باحتسابه. فإن كانت الحسبة شاقة عليه، ثقيلة على نفسه، وهو يود أن يكفى بغيره؛ فليحتسب فإن باعثه هو الدين، وإنْ كَانَ اتِّعَاظُ ذَلِك العاصي بوعظه، وانزجاره بزجره أحبّ إليه من اتعاظه بوعظ غيره؛ فما هو إلا متبع هوى نفسه، ومُتَوسِّلٌ إلى إظهار جاه نفسه، بواسطة حسبته، فليتقِ الله تعالى فيه، وليحتسب أولًا على نفسه. وإن هذا يقال له ما قيل لعيسى عليه السلام: "يا ابن مريم، عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس، وإلّا فاستحِ مني". وقيل لداود الطائي -رحمه الله-: "أرأيت رجلًا دخل على هؤلاء الأمراء، فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فقال: أخاف عليه السوط، قال: إنه يقوى عليه، قال: أخاف عليه السيف، قال: إنه يقوى عليه، قال: أخاف عليه الداء الدفين وهو العجب". الدرجة الرابعة: السب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن: وذَلِكَ يَعْدِلُ إليه عند العاجز عن المنع باللطف، وظهور مبادئ الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنُّصح، وذلك مثل قول إبراهيم -عليه السلام-: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: 67). ولسنا نعني بالسّب والفُحش بما فيه نسبة إلى الزنا ومقدماته، ولا الكذب، بل أن يُخاطبه بما فيه مما لا يُعَدّ من جملة الفحش؛ كقوله: يا فاسق، يا أحمق، يا جاهل. ألا تَخاف الله. وقوله: يا غبي. وما يجري هذا المجرى؛ فإن كل فاسق فهو أحمق وجاهل، ولولا حمقه لما عصى الله تعالى، بل كل من ليس بكيس

فهو أحمق، والكيّسُ من شهد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففي الحديث: أنّه -صَلّى اللهُ عليه وسلم- سُئِل عَن أكْيَسِ النّاسِ، قَالَ: ((أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس)). ولِهَذه الرُّتبة أدَبَان: أحدهما: ألا يُقْدِم عليه إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف. والثاني: ألّا يَنْطِق إلا بالصّدق، ولا يسترسل فيه، فيطلق لسانه الطويل بما لا يحتاج إليه، بل يقتصر على قدر الحاجة. فإنْ علم أن خطابه بهذه الكلمات الزاجرة ليست تزجره، فلا ينبغي أن يُطلقها بل يقتصر على إظهار الغضب والاستحقار له، والازدراء بما حله لأجل معصيته، وإنْ عَلِمَ أنه لو تكلم ضُرِب، ولو اكفهر وأظهر كراهة لوجهه أن يضرب لزمه، ولم يكف الإنكار بالقلب بل يلزمه أن يُقَطِّبَ وجهه ويظهر الإنكار له. الدرجة الخامسة: التّغيير باليد: وذلك ككسر الملاهي، وإراقة الخمر، وخلع الحرير من رأسه وعن بدنه، ومنعه من الجلوس عليه، ودفعه عن الجلوس على ماء الغير، وإخراجه من الدار مغصوبًا بالجر برجله، وإخراجه من المَسْجِدِ إذا كان جالسًا وهو جنب وما يجري مجراه، ويُتصور ذلك في بعض المعاصي دون بعض. فأما معاصي اللسان والقلب، فلا يقدم على مباشرة تغييرها، وكذلك كل معصية تَقْتَصِرُ على نفس العاصي وجوارحه الباطنة، وفي هذه الدرجة أدبان: أحدهما: ألّا يُبَاشر بيده التغيير، ما لم يعجز عن تكلفِ المُحتسب عليه ذلك؛ فإذا أمكنه أن يُكلفه المشي في الخروج عن الأرض المغصوبة والمسجد؛ فلا ينبغي أن يدفعه أو يجره، وإذا قدر على أن يكلفه إراقة الخمر وكسر الملاهي، وحَلّ دُروس

ثوب الحرير، فلا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه، فإنّ في الوقوف على حد الكسر نوع كسر؛ فإذا لم يتعاط بنفسه ذلك كفى الاجتهاد فيه، وتولاه من لا حجر عليه في فعله. الثاني: أنْ يَقْتَصِرَ في طريق التغيير على القدر المُحْتَاج إليه، وهو ألا يأخذ بلحيته في الإخراج، ولا برجله إذا قدر على جره بيده؛ فإنّ زِيَادة الأذى فيه، مُسْتَغنى عنه، وألّا يُمَزِّقَ ثوب الحرير بل يحل دروزه فقط، ولا يحرق الملاهي والصليب الذي أظهره النّصارى، بل يُبْطِلُ صلاحيتها للفساد بالكسر، وحَدُّ الكسر أن يصير إلى حالة تحتاج في استئناف إصلاحه إلى تعب يساوي تعب الاستئناف من الخشب ابتداءً. وفي إراقة الخمور يتوقى كسر الأواني إن وجد إليه سبيلًا، فإن لم يقدر عليها إلا بأن يرمي ظروفه بحجر؛ فله ذلك وسقطت قيمة الظرف، وبسبب الخمر إذا صار حائلًا بينه وبين الوصول إلى إراقة الخمر، ولو ستر الخمر بيده لكُنّا نقصد بدنه بالجرح والضرب؛ لنتوصل إلى إراقة الخمر، فإذًا لا تزيل حُرمة ملكه في الخروج على حرمة نفسه، ولو كان الخمر في قوارير ضيقة الرءوس، ولو اشتغل بإراقتها طال الزمان، وأدركه الفساق ومنعوه، فله كسرها، فهذا عذره، وإن كان لا يحظى فظفر الفساق به فمنعهم، ولكن كان يضيع في زمانه ويتعطل عن أشغاله؛ فله أن يكسرها فليس عليه أن يضيع منفعة بدنه وغرضه من أشغاله؛ لأجل ظرف الخمر، وحيثُ كانَتْ الإرَاقَةُ مُتأثرة بلا كسر؛ فكسره لزمه الضمان. الدرجة السادسة: التهديد والتخويف: كقوله: "دع عنك هذا"، أو "لأكسرن رأسك"، أو "لأضربن رقبتك"، أو "لآمرن بك" وما أشبهه. وهذا ينبغي أن يُقَدّم على تحقيق الظرف، إذا أمكن تقديمه. والأدبُ في هذه الرُّتبة ألّا يُهَدّده بوعيد لا

يجوز تحقيقه، كقوله: "لأنهبنّ دارك"، أو "لأضربن ولدك"، أو "لأسبين زوجتك"، وما يجري مجراه. بل ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام؛ وإن قاله من غير عزم فهو كذب؛ نعم إذا تعرض لوعيده بالضرب والاستخفاف فله العزم عليه، إلى حد معلوم يقتضيه الحال، وله أن يزيد في الوعيد على ما هو في عزمه الباطل، إذا علم أن ذلك يقمعه ويردعه، وليس ذلك من الكذب المَحْظُور بل المبالغة بذلك معتادًا، وهو معنى مبالغة الرجل في الإصلاح بين شخصين، وتأليفه بين الدرتين، وذلك مما قد رخص فيه للحائض، وهذا في معناه، فإن القصد به إصلاح ذلك الشخص. الدرجة السابعة: مُباشرة الضّرب باليد والرِّجْل، وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح: وذلك جائز للآحاد بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة بالدفع؛ فإذا اندفع المُنْكَر فيَنْبَغي أن يَكُفّ، والقاضي قد يطلق من ثبت عليه الحق إلى الأداء بالحسب، فإن أصر المحبوس وعلم القاضي قدرته على أداء الحق، وكونه معاندًا فله أن يلزمه الأداء بالضرب على التدريب كما يحتاج إليه، وكذلك المُحْتَسِبْ يُراعي التدريج، فإن احتاج إلى شهر سلاح، وكان يقدر على دفع المنكر بشهر السلاح وبالجرح؛ فله أن يتعاطى ذلك ما لم تكن فتنة. كما لو قبض فاسق مثلًا على امرأة، أو كان يَضْرِبُ بمزمار معه، وبينه وبين المحتسب نهر حائل أو جدار مانع؛ فيأخذ قوسه ويقول له: خل عنها أو لأرمينك إن لم تخل عنها؛ فله أن يرمي، وينبغي ألا يقصد المقتل بل الساق والفخذ وما أشبهه، ويُراعي فيه التدريج، وكذلك يَسُلُّ سيفه ويقول: اترك هذا المنكر أو لأضربنك؛ فكل ذلك دفع للمنكر ودفعه واجب بكل ممكن، ولا فرقَ في ذلك بين ما يتعلق بخاص حق الله تعالى، وبين ما يتعلق بالآدميين.

فقه الاحتساب.

فقه الاحتساب وللاحتساب فقه: ينبغي للمُحتسب أن يكون محيطًا به؛ حتى لا يقع في المنكر وهو يحاول أن يزيل المنكر. وفي فقه الاحتساب قال الدكتور عبد الكريم زيدان: "الغرض من الاحتساب إزالة المنكر من الأرض، وإيْجَادُ المَعْرُوف فعلًا". وإذا كان هذا هو الغرض من الاحتساب؛ فيَجِبُ الوصول إليه بأيسر طريق وأقصره، بشَرْطِ أن يكون مشروعًا، وأن ينظر إلى ما يؤول إليه حسابه من جهة ما يترتب عليه من زوال مفسدة المنكر، وحلول مصلحة المعروف مكانه، وفي ضوء ذلك يقدم أو يُحجم عن الاحتساب. ومما يعين على تفهم فقه الاحتساب بيان القواعد التالية: القاعدة الأولى: الإنكار القَلْبي: يجبُ أن يكون كاملًا ودائمًا، وبالنسبة لكل منكر، وفائدته بقاء القلب في حساسيته ضد المنكر، وبقاء عزمه على التغيير عند الإمكان، أمّا الإنكار القولي، أو الفعلي؛ فيكون حسب الاستطاعة، ودليل ذلك قول ربنا سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16)، وما جاء في الحديث الشريف الذي ذكرناه: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). ويُلَاحَظُ هُنا أنّ الثَّوابَ يَكُون كاملًا -إن شاء الله تعالى- إذا كان المحتسب ينكر المنكر بقلبه، ويكرهه كراهية تامة، ويفعل لإزالته بقدر استطاعته. القاعدة الثانية: إنما يطلب الاحتساب، إذا كان من ورائه تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة، فإذا كان ما يترتب عليه فوات معروف أكبر، أو حصول منكر أكبر، لم

يكن هذا الاحتساب مطلوبًا شرعًا، وإن كان المحتسب عليه قد ترك واجبًا، أو فعل محرمًا؛ لأن على المحتسب أن يتقي الله تعالى في عباده، وليس عليه هداهم، وليس من تقوى الله أن يتسبب باحتسابه في فوات معروف أكبر، أو حصول منكر أكبر؛ لأن الشرع إنما أوجب الحسبة لقمع الفساد وتحصيل الصلاح. فإذا كان ما يترتب على الاحتساب مقدارًا من الفساد أكبر من الفساد القائم، أو يفوتُ من الصَّلاح مقدارًا أكبر من الصلاح الفائت؛ لم يكن هنا الاحتساب مما أمر به الشرع. ولا شك أن ما قلناه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والظروف، وعلى المُحتسب أن يتبصر فيها، ويزن مَقَادير المعروف والمنكر، التي تنتج عن احتسابه، ثم يُقدم بعد ذلك على احتسابه أو يُحجم، وهذا كله بالنسبة الواقعة المعينة والشخص المُعين، أما بالنسبة للعموم فهو يأمر بالمعروف منكرًا، وينهي عن المنكر مطلقًا. ونذكر بأننا قد أفردنا هذه القاعدة بدرس مستقل، وهي قاعدة في تغيير المنكر، بعدما تحدثنا عن الركن الثاني من أركان الحسبة وهو المُحتسب فيه. القاعدة الثالثة: الأخْذُ بالرِّفق ما أمكن ذلك: ومستند هذه القاعدة ما يأتي: أولًا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف)). ثانيًا: إنّ الإنسانَ بطبيعته، وما فُطِرَ عليه يقبل الأمر والنهي باللطف والرفق، ولين القول أكثر من قبوله عن طريق العنف، بل رُبَّمَا حمله العنف على الإصرار على المنكر، مراغمة للآمر وعنادًا له، ورُبّما دل على ما نقول قول الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) مع أنه -صلى الله عليه وسلم- لا يأمر إلا بالمعروف ولا ينطق إلا بالحق.

ثالثًا: إن الاحتساب المثمر هو الذي يجعل المحتسب عليه، قابلًا للاحتساب راضيًا به، مقتنعًا بضرورته ومضمونه؛ حتى يكون له من نفسه وازع يمنعه من العودة إلى المنكر، وهذا كله يُحتمل حصوله بقدر أكبر إذا كان الاحتساب بالرفق، وعدم الغضب والعنف، وبالمحاججة والمناقشة الهادئة المقنعة. فقد روى الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- عن أبي أمامة -رضي الله عنه-: ((أنّ غلامًا شابًّا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله، أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: قربوه، ادن فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أتحبه لأمك، فقال: لا، جعلني الله فداك. قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداك. قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم. أتحبه لأختك؟ حتى ذكر -صلى الله عليه وسلم- العمة والخالة. والغلام يقول في كل واحدة: لا. جعلني الله فداك والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: كذلك الناس لا يحبونه، فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه على صدره، وقال: اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصّن فرجه، فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنا)). رابعًا: إنّ الاحْتِسَاب يجري على السلطان كما يجري على غيره، كما بينا ذلك. والسُّلطان بِحَاجة إلى التلطف معه، لما يُحِسُّ من نفسه من السلطة، ولأنه محتاج إلى الهيبة، وقد يتطاول عليه المغرضون بحجة الاحتساب، فمنعًا لذلك ومراعاة لما يحس هو من نفسه، كان الرفق معه في الاحتساب هو المطلوب. وبهذا أشار الفقهاء، وقد أفردنا الاحتساب على السُّلطان بدَرْسٍ مُسْتَقِلٍّ، ويُقاس على السلطان نوابه، وولاة الأمور. وقد يَدُلُّ على ما قلناه أو يؤديه أنّ اللهَ -تبارك وتعالى- أمر نبيه موسى -عليه السلام- وأخاه هارون وقد أرسلهما إلى فرعون فقال لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43، 44).

متى يجب الاحتساب، ومتى يستحب، ومتى يكره، ومتى يحرم.

وما قلناه لا يعني أن الرِّفق هو الأسلوب الوحيد للاحتساب، أو أنه لا يجوز تركه في بعض الأحيان، وإنَّما يعني ما قلناه التأكيد على الرفق، والأخذ به كُلَّما أمكن ذلك، ولا يُستعاض عنه بغيره إلّا عند الحاجة أو الضرورة. فمن مَجَالات الرّفق اللازمة للمحتسب، إذا غلب على ظنه أن المحتسب عليه قام بالمنكر جهلًا منه بحُكْمِه أو استجابة لهوى عابر، أو لضعف في إرادته، كما أنّ الرِّفقَ يُلازِمُه الاحتساب بالتعريف بالحكم، أو بالوعظ والإرشاد، أو بالتّخويف من الله تعالى؛ فإذا لم ينفع الرفق تحول المُحتسب إلى الشدة، وكذلك إذا كان المنكر جسيمًا لا يمكن معه الانتظار أخذ المحتسب بالشدة الكافية لدفعه، ولا يعتبر ذلك خروجًا عن قاعدة الرفق؛ لأنّ من معاني الرفق الحرص على مصلحة المحتسب عليه، بإبعاده عن المنكر، وتخليصه من المعصية وما يترتب عليها من العقاب. متى يجب الاحتساب، ومتى يستحب، ومتى يكره، ومتى يحرم متى يجب الاحتساب؟ الاحتساب القَلبي واجب على كل مسلم في جميع الأحوال، إذا ما سَمِعَ بالمُنْكَرِ أو رآه كما قلنا، أما الاحتساب باليد أو بالقول؛ فهذا يجبُ بالقدرة على هذا النوع من الاحتساب، بشرط أن يأمن المُحتسب على نفسه من الأذى والضرر، كما يأمن على غيره من المُسلمين من الأذى والضرر. وتَعْلِيلُ ذلك أنّ الخَوفَ من لحوق الأذى والضرر، بمنزلة العجز الحسي، والعجز الحسي يفوت شرط القدرة، فلا يجبُ الاحتساب إلا أنه يجب هجران أصحاب المنكرات وعدم مُخالطتهم.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله- في (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم) في شرح حديث: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره)) قال -رحمه الله-: ولوجوب التغيير شرطان: أحدهما: العلم بكون ذلك الفعل منكرًا أو معروفًا. والثاني: القدرة على التغيير. فإذا كان كذلك تعين التغيير باليد، إنْ كَانَ ذلك المُنكر مما يحتاج في تغييره إلينا، مثلُ كَسْرِ أواني الخمر، وآلات اللهو كالمزامير ونحوها، وكمنع الظالم من الضرب والقتل وغير ذلك، فإنْ لَم يَقْدر بنفسه استعان بغيره؛ فإن خاف من ذلك ثوران فتنة، وإشهار سلاح تعينَ رَفْعُ ذلك، فإن لم يقدر بنفسه على ذلك، غير بالقول المرتجى نفعه، من لين أو إغلاظ حسبما يكون النفع، وقد يَبْلُغ بالرِّفْق والسياسة ما لا يبلغ بالسيف والرياسة. فإن خاف من القول القتل أو الأذى، غيّر بقلبه: ومعناه أن يكره ذلك الفعل بقلبه، ويعزم على أن لو قدر على التغيير لغيره، وهذا آخر خصلة من الخصال المتعينة على المؤمن في تغيير منكر، وهي المعبر عنها في الحديث بأنها أضعف الإيمان، أي: خِصالُ الإيمان، ولم يبق بعدها للمؤمن مرتبة أخرى في تغيير منكر، ولذلك قال في الرواية الأخرى: ليس وراء ذلك من الإيمان حَبّةُ خَرْدَل أي: لم يبق وراء هذه المرتبة رُتبة أخرى. وفيه دليل على أن من خاف على نفسه القتل أو الضرب، سقط عنه التغيير، وهو مذهب المحققين سلفًا وخلفًا، وذهبت طائفة من الغلاة إلى أنه لا يسقط وإن خاف ذلك.

وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في شرح الحديث: "إن خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك، أن يُؤذى أهله أو جيرانه، لم ينبغ له التَّعَرُّض لهم حينئذ؛ لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره: "ومع هذا متى خاف منهم على نفسه السيف أو السوط أو الحبس أو القيد أو النفي أو أخذ المال أو نحو ذلك من الأذى سقط أمرهم ونهيهم، وقد نص الأئمة على ذلك منهم مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم، قال أحمد: لا يَتَعَرَّضُ إلى السُّلْطَان؛ فإنّ سيفه مسلول". فإنْ خَاف السّبب أو سَمَاع الكَلام السّيئ لم يسقط عنه الإنكار بذلك نص عليه الإمام أحمد، وإن احتمل الأذى وقوي عليه؛ فهو أفضل. نص عليه أحمد أيضًا، وقيل له: أليس قد جاء عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: ((ليس للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه أن يُعَرِّضها للبلاء ما لا طاقة لها به)). قال: ليس هذا من ذلك. ويدل على ما قاله ما خرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النّبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((أفضلُ الجِهاد كلمةُ عدل عند سلطان جائر)). وأمّا حَديثُ ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه))، فإنَّما يَدُلّ على أنه إذا علم أنه لا يُطيق الأذى ولا يصبر عليه، فإنه لا يتعرض حينئذ للأمراء وهذا حق، وإنَّما الكلام فيمن علم من نفسه الصبر لذلك، قاله الأئمة كسفيان وأحمد والفضيل بن عياض وغيرهم. وقد رُوي عن أحمد ما يدل على الاكتفاء بالإنكار بالقلب، قال في رواية أبي داود: "نحن نرجو إن أنكر بقلبه فقد سلم، وإن أنكر بيده فهو أفضل، وهذا محمول على أنه يخاف".

وقال ابن النحاس -رحمه الله- في (تنبيه الغافلين): فصل: أحوالٌ يسقط فيها الوجوب -أي: وجوب تغيير المنكر ويبقى الاستحباب- قال -رحمه الله-: "من عَلِمَ أنّه إذا أنكر المنكر بطل بإنكاره، ولكنه يضرب ضربًا مؤلمًا أو تنهب داره، أو يُخَرَّبُ بيته، أو تُسلب ثيابه، فمثل هذا يسقط عنه وجوب الإنكار، ويَبْقَى الاستحباب إذ لا بأس بأنْ يَفدي دينه بدنياه، ولكل نوع من الضرب أو النهب أو التخريب أو السلب حد في القلة؛ لا يلتفت إليه، وحد في الكثرة يتيقن من كونه مسقطًا للإيجاب، ووسط يقع في محل الاشتباه والاجتهاد، والأمر مداره التقوى والورع والأخذ بالأحوط، ويرجح جانب الدين ما أمكن. فإن عَلِمَ أنّه لا يُضرب ولا يُنهب ولا يُسلب، ولكن يوضع منديله أو عمامته في رقبته، ويُدار به في البلد أو يسود وجهه، ويُكشف رأسه، ويطاف به حافيًا ونحو ذلك؛ فهذا أيضًا مما يُرخص في السكوت، ويُسقط الوجوب؛ لأن المروءة مأمور بحفظها في الشرع، وهذا مؤلم للقلب عند أكثر الناس، ألمًا يزيد على ألم الضرب. قال الإمام الغزالي: "وقد دلت عمومات الآيات والأخبار على تأكيد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى عِظَمِ الخَطَر في السكوت عنهما؛ فلا يَسْقُط ذلك، إلّا بِفَوات ما عَظُم في الدِّين خَطَرُه والمال والنفس والمروءة، وقد ظَهَر في الشرع خطرها، وأما مزايا الجاه والحشمة ودرجات التجمل وطلب ثناء الخلق فكل ذلك لا خطر له، ولا يسقط به الوجوب". ومن ترك الإنكار على من هو خاص به، كأستاذه الذي يعلمه العلم خوفًا من امتناعه عن تعليمه، أو ترك الإنكار على طبيب يدخل عليه، ويَلْبَس الحرير خوفًا من أن يهجره، أو على السلطان المحسن إليه خوفًا أن ينقطع عنه الإحسان

والمواساة، أو على من يتوقع منه نصرة وجاه في المستقبل خيفة ألا يحصل له الجاه؛ ففي هذه الصور الأربع لا يسقط الوجوب في الإنكار، فإن كل ما يفوت فيها من إنكار زيادات امتنعت، ولا تسمى ضررًا إلا مجازًا. وقال الدكتور السيد نوح: "شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتلخص في: التكليف، والقدرة، والسلامة من الضرر ولو ظن بأن يغلب على ظنه أنه لا يُصيبه الضرر لا يحتمل في نفسه أو ماله أو أهله أو ولده أو جماعته؛ فإن غلب على ظنه أنه سيتعرض لما لا يطيق من البلاء سقط الوجوب". فإذا اختلت هذه الشروط جميعها أو بعض منها فقط سقط الوجوب، وأصبح الحب دائرًا بين الاستحباب أو الكراهة أو الحرمة؛ فيكون مستحبًّا في الحالات التالية: أولًا: أن يَغْلب على ظَنِّه عَدَمُ الفائدة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحينئذ يُستحب له أن يأمر وينهى؛ ليَبْقَى صوتُ الشَّرع مَسْمُوعًا معلنًا، يُذَكِّر النّاس بأنه قائم حي لم يمت، وأنه للظالمين بالمرصاد، وعسى أن يأتي اليوم الذي تتحقق فيه فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثانيًا: أن يكون المنكر قد انتهى أو متوقعًا؛ فيُستحب له أن يعظ، وأن يذكر بالله وبآلائه، ويُخَوِّف من حسابه، وشديد عذابه، ويَدعو لطاعته سبحانه، ويطمع في رحمته، وأنّه يَقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات. ثالثًا: أنْ يَتوقّع مَكروهًا يُمكنه احتماله في نفسه أو ماله، وحينئذ يُستحب له أن يأمر أو ينهي، وأن يَصْبِرَ لتتوطد أركان الحق، ويُعَتَزّ بأهله.

ويكون مكروهًا في الحالتين التاليتين: أولًا: أن يترتب على الأمر والنهي منكر آخر مماثل، وحينئذ يكره له أن يقوم بذلك خشية أن تكثر المنكرات وتتضاعف. ثانيًا: أن يُنْكِر أشياء يَمْنَعُها مذهبه، وتُجيزها بعض المذاهب الإسلامية الأخرى، ومَحَلُّ ذلك إذا كان كل مذهب يعتمد الدليل فيما رأى، دون التقليد الأعمى، ودون الاعتماد على الهوى. ويكون حرامًا في الحالات التالية: أولًا: أن يترتب على الأمر والنهي فتنة بالأمة، أو فساد أكبر وحينئذ يحرم الأمر والنهي. ثانيًا: أن يترتب عليه ضررًا يفيد غيره من أهله أو جيرانه في أنفسهم أو حرماتهم، وحينئذ يحرم الأمر والنهي. ثالثًا: أن يترتب عليه ضرر يصيب بنفسه، ولا يطيق احتماله؛ فقد جاء في الحديث: ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟! قال: يتعرض من البلاء لِمَا لا يُطيقه)). وقال الفضيل بن عياض -رضي الله عنه-: "إنّ قَومًا أمروا ونهوا، فكفروا، قيل له: كيف كفروا؟ قال: ابتلوا فلم يصبروا". الاحتساب في الوقت الحاضر: يمكن لولي الأمر المُسلم في الوقت الحاضر أن ينظم شئون الحسبة، على النحو الذي يحقق المقصود من الاحتساب، وأن يتخذ ما يلزم لذلك؛ فله أن يفتح

المدارس لتخريج المحتسبين الأكفّاء، كما أنّ له أن يُنَظِّمَ شئون الحسبة بين المُحتسبين، فيعين لأمور المساجد محتسبين، وللأسواق محتسبين، ولمنكرات الطرق محتسبين، وهكذا. كما له أن يُرْسِلَ بعضهم إلى القرى والأرياف؛ لتعليم الناس أمور دينهم؛ لأنّ الغَالِب عَليهم الجَهل، أما إذا لم يقم ولي الأمر بما ذكرنا وجب على المسلمين القيام بمهمة الاحتساب، وتهيئة المُحتسبين والإنفاق عليهم، على أن يقوموا بالاحتساب في حدود الوعظ والإرشاد، والتذكير فقط دون استعمال العُنف؛ لئلّا يُؤدي ذلك العُنف إلى الفوضى والفتنة، مما يجعل المغرضين يستغلون ذلك، ويتقولون بالباطل على الحسبة والمحتسبين، وتقليب ولاة الأمر عليهم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 14 علاقة الحسبة بالقضاء والمظالم.

الدرس: 14 علاقة الحسبة بالقضاء والمظالم.

المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث النشأة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (علاقة الحسبة بالقضاء والمظالم) المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث النشأة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: علاقة الحسبة بالقضاء والمظالم: ولاية الحسبة، وولاية القضاء، وولاية المظالم، هذه الولايات الثلاث في أي حكومة إسلامية هي بالرغم مما قد يوجد بينها من اختلاف في الاختصاصات والسلطات مكملة لبعضها؛ لا سيما في الجانب القضائي، وهذا مما جعل الكثير ممن كتب في النظم الإسلامية ومنذ القدم يعرض لها جميعًا عندما يتكلم عن واحدة منها، ولِذلك كانتْ الحَاجَةُ داعية إلى المقارنة بين الولايات الثلاث؛ تمييزًا لكل ولاية، وبيانًا لاختصاصاتها، والموافقة بينها وبين غيرها من الولايات. فإنّ بَعضَ الكُتّاب والمؤلفين الذين كتبوا عن الحسبة لم يكن مفهوم الحسبة واضحًا في أذهانهم، فخلط بين اختصاصاتها واختصاصات كل من القضاء والمظالم؛ فبَعْضُهم يَضُمّها للقضاء ويجعلها جزءًا منه، وبعضهم يضمها للمظالم والبعضُ الآخر يراها فرعًا من فروع الشرطة، إلى غير ذلك من المفاهيم التي تَنِمُّ عن عدم الإحاطة بالدور العظيم والفعال والشمولي الذي يؤديه المُحْتَسِبُ داخل البنية الاجتماعية الإسلامية. وكَمِثَالٍ على هذا الفَهم نرى أنّ من هؤلاء الكُتّاب الذين لم يُنزلوا الحِسْبَة منزلتها، بل حصر معناها في جانب ضيق من مجالاتها الواسعة، وهو الأستاذ صبحي الصالح حيث يقول عن الحسبة: "ومن صور القضاء في الإسلام الحسبة". كذلك شاكر مصطفى فهو يقول عندما كان يتحدث عن القضاء في العصر العباسي: "ولا تُستَكْمَلُ صورة القضاء العباسي إلّا بثلاث مؤسسات أخرى تتعلق به، وهي: الشهود، والحسبة، والمظالم".

أما أحمد شلبي فيقول: "تشعبت مؤسسات النظم القضائية، إلى أنواع، هي: الشرطة، الحسبة، والنظر في المظالم، والإفتاء، والقضاء". وقال البُسْتَانِيُّ في دَائِرة مَعَارفه بعد أن عرّف الحِسْبة: "ولهذا قيل: القضاء باب من أبواب الحسبة". فهو على نقيض من سبقه حيث جعل القضاء جزءًا من الحسبة. والحَقيقَةُ أنّ والي الحِسْبة يُمارسُ بعضَ الوَاجِبَات القَضَائيّة لا سيما تلك التي يحتاج البت فيها إلى السرعة، والتي لا يدخلها الإنكار والتجَاحُد، ومع ذلك فهي ليست جزءًا من القضاء؛ بحيث لا يتم إتمام العمل القضائي إلا بوجود المحتسب أو إشرافه، وكذلك ليست العكس، ولكن مع ذلك لا يمكن أن نقول: إنه ليس هناك علاقة بين ولاية القضاء وولاية المظالم. فالماوردي يقول: "إنّ الحِسْبَة واسِطَةٌ بين أحكام القضاء، وأحكام المَظَالِم". ثم يقول: "فإن الناظر في الحسبة له من سلاطة السلطة، واستطالة الحماة، بما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقُضاة إلّا أنّ الحِسْبة موضوعة للرّهبة؛ فلا يكون خروج المحتسب إليها -أي: الرهبة- بالسلاطة والغلظة تجوزًا فيها، ولا فرق. والقضاء موضوع للمناصفة فيكون القاضي بالأناة والوقار أحق، وخروجه إلى سلاطة الحسبة تجوز وخرق". وبحث الولايات الثلاثة من حيث النشأة والاختصاصات والصلاحيات يعطينا فكرة عن تلك العلاقة في نقاط الاتفاق والافتراق فيما بينها. أما المُقَارَنَةُ من حيث النشأة: فالحِسْبَةُ في الإسلام على الراجح من أقوال العلماء نشأت وبدأ العمل على تطبيقها مُنذ نُزول أوّل نَصٍّ شرعي، يدعو إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن

المنكر، وبمعنى أوضح: كانت نَشْأَتُها منذ أول قيام الدولة الإسلامية في المدينة النبوية، على يد النبي -صلى الله عليه وسلم. أما القَضَاءُ؛ فالقَضَاءُ في سَائِر الأُمم قديم؛ قدم حضارة الإنسان، وإن لم يَكن بما أصبح عليه في العصور المُتأخرة كعلم وفن له أصوله وقواعده؛ إذ كان القَضَاءُ يَقُوم على الأعراف السائدة في القبيلة أو المُجتمع، مع ما قد يُوجد من قواعد نادرة تَضَعُها السُّلطات أو الحكام، وفي بعض الأحيان تنعدم فيها السلطة القضائية، أو القضاء كوظيفة عامة، ويحل محله القضاء الفردي الخاص الذي يعتمد على القوة. وفي ظروف أُخرى نَجِدُ أساس الأحكام هي المُعتقدات الدينية، وفي كثير من الشعوب يبرز شيخ القبيلة كحاكم وكقاضٍ يجمع في يديه كل السلطات في شئون قبيلته، وهذا ما كان عليه حال القضاء عند العرب في الجاهلية لا سيما البدو منهم. أما في مَكّة فقد كانت الحالة القضائية فيها أكمل وأحسن، وسببُ ذلك أنّ مَكّة كانت أكثر البلدان العربية حضارة، وكان أهلها قد وزعوا الأعمال الإدارية في بلدهم على عشرة رجال كالحِجَابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء. وكان من هذه الأعمال ما يتعلق بالقضاء، وقد عهدوا به إلى أبي بكر في الجاهلية. فلما جاء الإسلام أقرّ بعضَ التقاليد العربية القضائية، وأنكر البعضَ الآخر وعَدّلها بحيثُ تكون موافقة لروحه ومنهجه؛ فلقد تَولّى الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- القضاءَ بنفسه منذ أن وصل إلى المدينة، وبدأ يؤسس لقيام دولة الإسلام، ولعل من أول النصوص التي تبين لنا ذلك؛ قول الله -تبارك وتعالى-: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (المائدة: 49).

ومن أول الحوادث التي تبين أيضًا تولي الرسول -صلى الله عليه وسلم- للقضاء ذلك الحلف الذي عقده المسلمون من المهاجرين والأنصار بينهم وبين الكفار من اليهود والمشركين من أهل المدينة، وقد جاء في هذا الحلف: "أنّه مَا كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار، يخاف فسادُه؛ فإنّ مَرَدّه إلى الله -عز وجل- وإلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قاضيًا، كما كان للشريعة مُبلغًا في بداية تكون دولة الإسلام في المدينة، ولم يكن للمسلمين في المدينة قاضٍ سواه؛ إذ كانت الأمة لا تزال على بساطتها وضيق رُقْعَتِها، والوازعُ الدِّيني كان قويًّا، ومِنْ ثَمّ قَلّت المُنَازعات بين الناس، ولم يؤثر عنه -صلى الله عليه وسلم- أنّه عيّن في بلد من البُلدان رجلًا اختص بالقضاء بين المسلمين دُون الرُّجوع له -صلى الله عليه وسلم-، بل كان يعهد بذلك إلى بعض الولاة ضمن أمور الولاية، وتارة يعهد إلى بعض أصحابه بالفصل في بعض الخصومات. ومن أولئك الذين تُشير بعض المصادر إلى أنّ الرَّسُول -صلى الله عليه وسلم- أسْنَدَ إليهم القَضَاء ضِمْنَ التّولية لهم عندما أرسلوا إلى بعض الأمصار لتعليم الناس علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ فقد روي عنه قوله: ((بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيًا، فقلت: يا رسول الله، ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إنّ اللهَ سَيهدي قَلبك، ويثبت لسانك؛ فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول؛ فإنّه أحرى أن يتبين لك القضاء، قال: فما زلتُ قاضيًا، أو ما شككت في قضاء بعد)). وكذلك مُعاذ بن جبل -رضي الله عنه- عندما أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن أيضًا، وقال له: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: فبِسُنّة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي

ولا آلو، -أي: لا أُقَصِّر- فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: الحمدُ لله الذي وفق رسولَ رسولِ اللهِ لما يُرضي رسول الله)). ومن الأصول والقواعد التي وضعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للقضاء قوله: ((البَيّنَةُ على من ادعى واليمين على من أنكر))، ((أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر)). كذلك فقد كان من طرق الإثبات عنده -صلى الله عليه وسلم- إضافة إلى البينة واليمين الواردة في الحديث: شهادة الشهود، والكتابة، والفراسة، والقرعة، وغيرها. أما القضاءُ في عهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم فقد أخذ نفس المسار تقريبًا، لا سيما في خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وقيل: إنه -رضي الله عنه- أسند مهمة القضاء إلى عمر بن الخطاب، ودام هذا التكليف عامًا أو عامين، وهو لا يختلف إلى عمر أحدٌ إلى نادرًا، لما عرف عنه -رضي الله عنه- مِنَ الشِّدّة في الحق، والحَزْمِ في الأمور، بيدَ أنّه مع ممارسته للقضاء لم يُلَقّب بلقب القَاضي خلال مدة التكليف. أما في عهد عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد اتسعت الدولة الإسلامية وازداد عددُ المسلمين فيها؛ الأمر الذي جعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يُولي عِنَايَته بشئونِ القَضاء، ومن أهم ما قام به: تعيين قضاة يختصون بالقضاء وحده، ويَنُيبون عن الخليفة في الفصل بين الناس؛ فولى أبا الدرداء -رضي الله عنه- قاضيًا على المدينة إلى جانبه، وشُريحًا على الكوفة، وأبا موسى الأشعري على البصرة، وقيس بن أبي العاص على مصر. فكان -رضي الله عنه- أول من عين قضاة مستقلين في البلاد الإسلامية وفوضهم فيه.

وهو -رضي الله عنه- الذي سماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- الفاروق؛ لأنّ اللهَ فَرّق به بينَ الحَقّ والباطل، وسيرته -رضي الله عنه- تاريخ حافل، وأعماله وتسييره لدفة الحُكم صارت دستورًا ونظامًا يقتفى، ومن ذلك: أنه كتب إلى قُضاته ما اعتبره الفقهاء وأهل الأصول القاعدة التي ينطلق منها القضاء في الإسلام، وأصّلُوا على تلك القاعدة أصولًا، واستخرجوا من تلك الأصول فروعًا. ونص كتابه -رضي الله عنه- إلى القضاء يقول: "أما بعد؛ فإن القضاء فريضة محكمة، وسُنّة متبعة، فافهم إذا أدى إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، ساوِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك؛ حتى لا يَطْمَعَ شَريفٌ في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البَيِّنَةُ على من ادعى، واليمينُ عَلَى من أنكر، والصُّلْحُ جَائِزٌ بين المسلمين، إلّا صُلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك، وهُديت فيه لرُشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قويم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سُنّة، ثم اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور بنظائرها، واجعل لمن ادعى حقًّا غائبًا، وبينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحق وإلّا استحللت القضية عليه، فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعماء، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد، أو مُجرب عليه شهادة زور، أو ضنين في نسب، وإياك والقلق والضجر والتأفف من الخصوم؛ فإنّ اسْتِقرار الحق في مواطن الحق يُعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر، والسلام". ولم يكن يتولى القضاء في عهد الخلفاء الرّاشدين إلا من توفرت فيه شروط؛ منها: أن يكون ذكرًا، بالغًا، مكتمل القوى العقلية، حرًّا، مسلمًا، غير متهم في دينه أو مروءته، سليم الحواس، واسع الإلمام بالفقه والشريعة.

وكان القضاء في عهد الخلفاء الراشدين مستقلًّا، مُحترم الجانب، وقد عَمَد الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُون إلى الاستشارة فيما يعرض عليه من خصومات، بعد أن يَعْرِضُوا ذلك على كتاب الله، وسُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم؛ فإن لم يجدوا شيئًا سألوا المسلمين: هل قضى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشيء من هذا؟ فإن أعيى الخليفة ذلك، استشار رءوس الناس وخيارهم، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به، وكُلُّ خَلِيفَةٍ يَنْظُر إلى قضاء من قبله، بعد أن يبحث عن ذلك في كتاب الله وسُنّة رسوله وقضائه -صلى الله عليه وسلم- وعلى هذا سار القضاء في عهدهم -رضوان الله عليهم أجمعين. أما القضاء في العهد الأموي؛ فقد اتسم بصفتين رئيسيتين: الأولى: أن القاضي كان يحكم بما يوحيه إليه اجتهاده، إذ لم تكن المذاهب الأربعة التي تَقيد بها القضاة فيما بعد قد وجدت، فكان القاضي في هذا العصر يرجع للكتاب والسنة في الفصل في الخصومات. وأما الصفة الثانية: فهي أن القضاء لم يكن متأثرًا بالسياسة؛ فقد كان القضاة مستقلين في أحكامهم، وكانوا مطلقي التصرف، وكلمتهم نافذة حتى على الولاة وعمال الخراج. أما في العصر العباسي: فقدِ كانَ للقَضَاءِ خَصَائِصُ كثيرة منْهَا تَعدد الآراء في المسألة، بحسب تعدد المذاهب الفقهية التي حدثت في ذلك العصر،

ومنها تأثر القضاء بالسياسة؛ لأنّ الخُلَفاء العباسيين كانوا يريدون إضفاء الشرعية على بعض أعمالهم. وهُناك أمر آخر قد تميز به القضاء في هذا العهد وهو: أنّ سُلْطَة القاضي قد اتسعت؛ فشملت الفصل في الدعاوى، والأوقاف، وتنصيب الأوصياء. ومما تميز به القضاء في هذا العصر استحداث وظيفة "قاضي القضاة" وأول من لُقِّبَ به القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة؛ حيث منح سلطات واسعة فيما يتعلق بشئون القضاء والقضاة، وهذه الوظيفة تُشْبِهُ إلى حد ما وظيفة وزير العدل في عصرنا. وظَلّ القضاء في مختلف الدول الإسلامية التي قامت فيها يستمد روحه ومنهجه من الكتاب والسنة، واجتهاد الفقهاء إلى أن رزحت معظم البلاد الإسلامية في القرن الماضي تحت أنير الاستعمار الغربي البغيض؛ فكان من نتاج هذا الغزو الفكري والعسكري أن أورثوا في البلاد والتي حكَموها أنظمة قضائية وضعية، لا زالت غالبية الدول الإسلامية القَائِمَة اليوم للأسف تطبق هذه القوانين والأنظمة على شعوبها المسلمة؛ فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفق الحكام في كل البلاد الإسلامية إلى أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأن يطبقوا أحكام ربهم بين شعوبهم. أما عن نشأة المظالم في الإسلام: فولاية المظالم ولاية تحمل ملامح سياسية واضحة، تَمتزِجُ بها سَطوة السلطة بصفة القضاء، ولها من فضل الهَيْبَةِ وقُوّة اليَد ما ليس للقضاء في كف الخصوم عن التجاحد، وما للظلمة من التغالب والتجاذب، وهي بوضعها الخاص

ضمن النظم في الدولة الإسلامية مؤسسة دينية قضائية، ذات شأن خطير كما تُعَبِّرُ عنه كلمة مظالم، وتُبلور فيها وبشكل قوي معنى المكافحة؛ لأنها تتصدى بصفة خاصة لمقاومة ما يُمارس من الانحراف على صعيد رجال السلطة في الدولة من ذوي الجاه والحسب، وعلى المستويات العالية في إدارة الدولة. وهي من حيث المبدأ عريقة في التاريخ يقول الماوردي: "كان ملوك الفُرسِ يرونها من قواعد الملك، وقوانين العدل، الذي لا يعم الصلاح إلا بمراعاته، ولا يتم التناصف إلا بمباشرته، وكانت قُريش في الجَاهِليّة حينَ كَثُر فيهم الزُّعماء، وانتشرت فيهم الرياسة، وشاهدوا من التَّجَاذُب والتَّغَالُب ما لم يكفهم عنه سلطان قاهر، عقدوا حلفًا على رد المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم؛ سُمّي ذَلك الحلف حلف الفضول، وقد حَضَره الرَّسُول -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن خمس وعشرين سنة قبل النبوة وقال فيه: ((لَقدْ شَهِدَّتُ في دارِ عبد الله بن جدعان حلف الفضول، ما لو دُعيت إليه لأجبت، وما أُحِبُّ أن لي به حمر النعم)). وفي الإسلام قامت ولاية المظالم لا بشكلها ونظامها الذي عرف فيما بعد، ولكن بما يُناسب الأحوال والظروف في عهده -صلى الله عليه وسلم- حيث لا ظُلم ولا تَظالم إلا في أندر الأحوال. وكانت في عهده -صلى الله عليه وسلم- في صورة عمل قضائي من نوع فريد، تجري ممارستها بالعدل، ولا يتميز كيانها بالزمان ولا بالمكان، ولا تتقيد بحدود القضاء العادي، ولا بمَسْطَرته. ولَعَلّ من أبرز تلك المظالم التي فصل فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الحادثة التي وقعت بين الزبير بن العوام وأحد الأنصار في سقاة بينهما؛ حيث اشتكى وتَظلم الأنصاري من حبس الزبير الماء عن مزرعته؛ فلما وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المكان، وقدّر

الحق بما رآه قال: ((اسق أنت يا زبير، ثم الأنصاري)). فقال الأنصاري: إنه لابن عمتك يا رسول الله، يعني من أجل ذلك حكمت له، فغضب -صلى الله عليه وسلم- من قوله وقال: ((يا زُبَير أجره -يعني: الماء- حتى يرجع إلى الجدار، ثم أرسل الماء إلى جارك)). فقال: واستوعب -أي: استوعى- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزُّبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه، أي: أغضبه الأنصاري، وكان قد أشار عليهما قبل ذلك بأمر كان لهما فيهما سعة. قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك يعني قول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65) يقول الراوي: هو عروة بن الزبير، نظرت في قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((ثم احبِس الماء حتى يرجع إلى الجدار؛ فكان ذلك إلى الكعبين)). وعلى مِثْلِ ما كان عليه رَدُّ المَظَالِم في عهده -صلى الله عليه وسلم- كان في عهد الخُلَفاء الراشدين، وظلت تتطور في عهد الخلفاء الراشدين إلى عهد الأمويين، عندها انتشر الظلم من بعض الناس لبعضهم، وغُمطت بعض الحقوق؛ حَتّى أصْبَح ذلك شبه مُعلن بين الناس، ولم تكن تكفيهم زواجر العظة والتمانع والتجاذب؛ عندها اقتضى الأمر قيام من يرد الحقوق، وينصف المغلوب ممن يتمتع بقوة السلطنة وهيبة القضاء ونصفته. فكان أول من أفرد للظلامات يومًا يتصفح فيه قصص المتظلمين، من غير مباشرة للنظر عبد الملك بن مروان؛ فكان إذا وقف منها على مُشكل، أو احتاج فيها إلى حُكم منفذ، رَدّه إلى قاضيه أبي إدريس الأودي فنظر فيه، فكان أبو إدريس هو المباشر، وعبد الملك هو الآمر.

المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث الاختصاص.

واستمر الحال على ذلك حتى جاء عهد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله ورضي عنه- فكان قمةً في رَدِّ المَظَالِم إلى أهلها، وراعى السنة العادلة وأعادها، ورد مظالم بني أمية على أهلها، ثم جلس لها خلفاء بني العباس؛ وكان أوّل من جلس منهم هو المهدي، ثم الهادي، ثم هارون الرشيد، ثم المأمون؛ إلى أن كان آخر من جلس منهم المهتدي. وعلى ذلك سارت الحكومات الإسلامية المختلفة في شتى بقاع الأرض، وقد يتولاها من هو دون رياسة الدولة فيمثلها، إلى أن تميزت فيما بعد ذلك بكيانها الخاص، وخُصِّصَت لها مَحْكَمة مُعَيّنة ونظم، حين أصبح هذا ضروريًّا، اقتضته ظروف كثرة المظالم وانتشار واستشراء استغلال السلطة والنفوذ، واستفحال الطغيان من الأقوياء على الحقوق العامة والخاصة. وهذه الولاية تحمل اسمها ورسمها، في كثير من خصائصها في المملكة العربية السعودية، أما في بقية البلاد الإسلامية، فتحمل أسماء أخرى من أظهرها "محكمة النقض". المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث الاختصاص أمّا من حَيثُ الاختصاصات: فتَحَدّثنا عن اختصاصات المُحتسب، وصلاحياته في درس سابق، ونَحنُ نُوجز صَلاحيات المُحتسب ونذكر بها باختصار؛ وهي: الاستدعاء والتهديد، التوبيخ والتبكيت، الهجر، التشهير، الغرامة المالية، الصلب، السجن، النفي، الضرب. أما اختصاصات وصلاحيات ولاية القضاء: فولاية القضاء شأنُها شأن أي ولاية أخرى؛ ليست لها صلاحيات ثابتة، لا يُمكن أن يُزَادَ عليها ولا يُنقص منها؛ فهي تختلفُ باختلاف رأي من يقوم بتولية القاضي، وغالبًا ما كان خطاب

التولية سابقًا، ونظام القضاء حديثًا؛ هو الذي يحدد تلك الصلاحيات والاختصاصات, فقد يكون القاضي عام النظر، خاص العمل، بمعنى أن له أن يُمارس القضاء في كل المَشَاكل التي تُعرض عليه؛ لكن في حدود مدينة واحدة لا يَخْرُج سلطانه إلى غيرها. وقد يكون العكس خاص النظر عام العمل، بمعنى أن له أن ينظر ويقضي في مسائل خاصة ومعينة، كالطلاق والنكاح وما يتعلق بهما، لا في مدينة بعينها بل في سائر أنحاء الدولة. أما إذا كانت ولاية القاضي عامة مطلقة التصرف في كل أمر؛ فنظره مشتمل على عشرة أحكام، كما قرره الماوردي -رحمه الله- وهو أول وأدَقُّ من تعرض لتحْدِيدِ صَلاحيات القضاء والمظالم والحسبة، ولكل من كتب بعده فيما اطلعت عليه يكادون يكونون عالة عليه في هذا. والأحكام العشرة التي ذكرها، والتي نعتبرها محددة لصلاحيات القضاء في الإسلام، لا سيما في الماضي هي: فصل المنازعات، وقطع التشاجر والخصومات، إما صلحًا عن تراضي ويُراعى فيه الجواز، أو إجبارًا بحكم بات يعتبر فيه الوجوب. ثانيًا: استيفاء الحقوق ممن مطل بها، وإيصالها إلى مُسْتَحِقّيها بعد ثبوت استحقاقها، بإقرار أو بينة، ورفع دعوى بذلك من صاحب الحكم. ثالثًا: إثبات الولاية لمن كان ممنوع التصرف بجنون أو صغر، والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو تفليس؛ حفظًا للأموال على مستحقيها، وتصحيحًا لأحكام العقود فيها. رابعًا: النظر ف ي الأوقاف بحفظ أصولها، وتنمية فروعها، وصرفها في سبيلها. خامسًا: تَنْفِيذ الوصايا على شروط الموصي؛ فيما أباحه الشرع.

سادسًا: تزويج الأيامى بالأكفّاء إذا عدمن الأولياء، ودُعين إلى النكاح. سابعًا: إقامة الحدود على مستحقيها، فإن كان من حقوق الله تعالى تفرد باستيفائه من غير طالب بإقرار أو بينة، وإن كان من حقوق الآدميين كان موقوفًا على طلب مستحقه. ثامنًا: النظر في المصالح العامة؛ من الكف عن التعدي في الطرقات والأفنية والأبنية، وسائر المصالح، وإن لم يستعدِ فيها مستعدٍ، خلافًا لأبي حنيفة. تاسعًا: تَصَفُّح شهوده وأمنائه، واختيار النائبين عنه من خلفائه. عاشرًا: التسوية في الحكم بين القوي والضعيف، والعدل في القضاء بين المشروف والشريف. حادي عشر: الفَصْلُ في الأحكام المُتعلقة بالزوجين؛ كفسخ النكاح، وثبوت الطلاق، والخُلْعِ والانْقِياد للزوج، والنشوذ. ويمكن أن نَضُمّ إلى هذه النقاط ما جاء في كتاب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى قضاته، ونعتبر أكثر النقاط فيه بمثابة قواعد وحدود، لعمل وصلاحيات القاضي في كل زمان ومكان. ومن المعلوم أنه لم تكن لولاية القضاء في الماضي صلاحيات مفقطة مكتوبة، لا يحيد عنها إلّا ما يتضمنه خطاب التولية، إذا كان مكتوبًا. أمّا وِلَايةُ القضاء في الحاضر؛ فَلَها كغَيْرِهَا من الولايات والمؤسسات الحكومية الأخرى أنظمة تحدد الصلاحيات لكل مسئول فيها بدقة؛ وهي تختلف باختلاف المصدر الذي يستمد منه القضاء بنوده ومواده؛ فهناك من الدول الإسلامية من يستمد بنود القضاء فيها من كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع

علماء الأمة، ومنها ما يستمد ذلك من قوانين وضعيه ما أنزل الله بها من سلطان، وضعت أول ما وضعت لشعوب وأمم كافرة؛ لا تؤمن بالله ورسوله ولا باليوم الآخر. والقضاء في عصرنا وإن كان في مجمله لا زالت تمثله ولاية واحدة؛ هي وزارة العدل، إلّا أنه أخذت منه بعض الصلاحيات في مسائل محددة، وأُسندت إلى جهات وولايات أخرى؛ فعلى سبيلِ المِثَال لا الحصر: أُخذت المُنَازعات التجارية، وما يَتعَلّق بها من غش وغيره، وأسندت لوزارة التجارة، ومنازعات العمل والعمال أُعطيت لوزارة العمل والشئون الاجتماعية، وقضايا الجمارك وما يتعلق بها تفصل فيها وزارة المالية، ومحاكمة الموظفين شُكّلت لها محكمة خاصة عُرف في بعض الدول بالهيئة العامة للتأديب. وهناك بعض القضايا كالمخدرات وغيرها شُكّلت لها لجان تفصل فيها، وتتبع وزارة الداخلية، وإن كان الحكم النهائي فيها يؤخذ عن طريق المحاكم الشرعية. أما ولاية المظالم واختصاصاتها وصلاحياتها؛ فولايةُ المظالم ولاية تحمل المتخاصمين على التناصف بالرهبة، وتزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة؛ لذا لا يقومُ بها إلا من كان جليل القدر، عظيم الهيبة ظاهر الحكمة، عفيف النفس؛ بَيِّنَ التّقوى كثير الورع، صَادِقَ العَزِيمة؛ فهو يحتاج في منصبه هذا إلى سطوة الحماة، وتثبيت القضاء، وحزم الخلفاء، وكثيرًا ما قَامَ الخلفاء أنفسهم بهذا المنصب العظيم. وكان مجلس القائمين بها مجلسًا مهيبًا حافلًا، فهو يضم إلى جانب والي المظالم عددًا من الحماة والأعوان والقضاة والفقهاء والأعلام؛ فهو ينظر في دعاوى

تعدي الولاة والحكام ونحوهم على أفراد الرعية، وفي تظلم الموظفين بنقص رواتبهم، أو غمط بعض حقوقهم أو تأخيرها، وفي شكاوى الاعتداء على الأموال العامة ونحو ذلك، كما أنّه يُتَابِعُ ما عجز عنه المُحتسب، وينفذ ما ضَعُف عن تنفيذه القاضي؛ لجاه المحكوم عليه أو سلطانه ومكانته. ويُمكن تفصيل ذلك في نقاط كما جاءت عند أبي يعلى الفراء في كتابه (الأحكام السلطانية) حيثُ يحدد فيها ما يجب أن ينظره والي المظالم، وهو ما نُسَمّيه نحن هنا اختصاصات وصلاحيات ولايات المظالم، وفي ذكر هذه النقاط ما يغني عن الاستشهاد بأحوال المظالم اليوم، التي قد يكون ابتعدت عما كان لهذه الولاية في الماضي، ولم تأخذ بأكثره، والذي نأمل أن يوفق الله تعالى ولاة المسلمين اليوم إلى إعادة كل تلك الصلاحيات والاختصاصات، إلى هذه الولاية التي هي عنوان للعدل والمساواة والنَّصَفة. أما تلك الصلاحيات والاختصاصات كما حددت فهي: أولًا: النَّظَرُ في تَعَدِّي الولاة على الرعية؛ فيتصفحوا عن أحوالهم؛ ليقويهم إن أنصفوا، ويكفهم إنْ عَسَفوا، ويستبدل بهم إن لم ينصفوا. ثانيًا: رَفْعُ أجور العمال فيما يجبونه من الأموال؛ فيرجع فيه القواعد والأصول الشرعية في دواوين الأئمة، فيحمل الناس عليها، وينظر في ما استزادوه؛ فإنْ رَفعوه إلى بيت مال المسلمين أمر برده، وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه، والنظر في تظلم المسترزقة -أي: الموظفين- من نقص أرزقاهم أو تأخرها، وإجحاف النظار بهم، فيرجع إلى ديوانه في فرض العطاء العادل، فيجريهم عليه، وينظر فيما نقصوه أو منعوه من قبل؛ فإن أخذه ولاة أمورهم استرجعه لهم، وإن لم يأخذوه قضاه من بيت المال.

ثالثًا: رَدُّ الغصوب، وهي ضربان: أحدها: غصوب سلطانية قد تغلب عليها ولاة الجور، كالأملاك المقبوضة عن أربابها تعديًا على أهلها؛ فإن علم به والي المظالم عند تصفح الأمور، أمر برده قبل التظلم إليه؛ وإن لم يعلم فهو موقوف على تظلم أربابه. الضرب الثاني من الغصوب: ما تغلب عليه ذوي الأيدي القوية، وتصرفوا فيه تصرف المالكين بالقهر والغلبة؛ فهو موقوف على تظلم أربابه. رابعًا: مُشارفة الوقوف: وهي ضربان عامة وخاصة، فأما العامة فيبدأ بتصفحها وإن لم يكن فيها متظلم؛ ليجريها على سبلها، ويمضيها على شروط واقفيها. وأما الوقوف الخاصة فإن نظره فيها موقوف على تظلم أهلها عند التنازع فيها، لوقوفها على خصوم متعينين، فيُعلم عند التشاجر فيها على ما تثبت به الحقوق عند الحكام. خامسًا: تنفيذ ما وقف من أحكام القُضاة لضعفهم عن إنفاذه، وعجزهم عن المحكوم عليه؛ لتَعَزّزه وقوة يده، أو لعلو قدره، وعظم خطره؛ فيكون ناظر المظالم أقوى يدًا وأنفذ أمرًا، فيُنَفِّذ الحُكْم على من توجه عليه بانتزاع ما فيه يده، أو بإلزامه الخروج مما في ذمته. سادسًا: النظر فيما عجز عنه الناظر في الحسبة من المصالح العامة؛ كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه، والتعدي في طريق عجز عن منعه، والتحيف في حق لم يقدر على ردعه؛ فيأخذهم بحق الله تعالى في جميعه، ويأمرهم بحملهم على موجبه.

وجه الشبه والفرق بين ولايات الحسبة والقضاء والمظالم.

هذه هي أبرز ما كان ينظر فيه والي المظالم في النظم الإسلامية، التي قامت لمختلف الدول الإسلامية في الماضي، والتي لا تزال ينظر في بعضها اليوم، ولكن تحت مسميات أخرى كمحاكم النقض، أو التمييز، أو هيئة المظالم، كما عليه الحال في المملكة العربية السعودية اليوم. وجه الشبه والفرق بين ولايات الحسبة والقضاء والمظالم وجه الشبه والفرق بينها: فيقول الماوردي -رحمه الله-: "اعلم أن الحسبة واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم؛ فأما ما بينها وبين القضاء، فهي موافقة لأحكام القضاء من وجهين، ومقصورة عنه من وجهين، وزائدة عليه من وجهين؛ فأما الوجهان في موافقتها لأحكام القضاء: فأحدهما: جواز الاستعداء إليه، وسماعه دعوى المستعدي على المستعدى عليه في حقوق الآدميين، وليس هذا على عموم الدعاوى؛ وإنما يختص بثلاثة أنواع من الدعوى: أحدها: أن يكون فيما يتعلق ببخس وتطفيف في كيل أو وزن. والثاني: ما يتعلق بغش أو تدليس في مبيع أو ثمن. والثالث: فيما يتعلق بمطل وتأخير لدين مستحق، مع القدرة على أدائه. وإنما جاز نظره في هذه الأنواع الثلاثة من الدعاوى، دون ما عداها من سائر الدعاوى؛ لتعلقها بمنكر ظاهر، هو منصوب لإزالته، واختصاصها بمعروف بين هو مندوب إلى إقامته؛ لأنّ موضوع الحسبة إلزام الحقوق، والمعونة على استيفائها، وليس للناظر فيها أن يتجاوز ذلك إلى الحكم الناجز والفصل البات، فهذا أحد وجهي الموافقة.

والوجه الثاني: أنّ له إلزام المُدّعى عليه للخروج من الحق الذي عليه، وليس هذا على العموم في كل الحقوق، وإنما هو خاص في الحقوق التي جاز له سماع الدعوى فيها؛ وإذا وجبت باعتراف وإقرار مع تمكنه وإيثاره؛ فيُلزم المقر الموسر الخروج منها، ودفعها إلى مُسْتَحِقِّيها؛ لأنّ في تأخيره لها منكرًا هو منصوب لإزالته. وأما الوجهان في قصورها عن أحكام القضاء: فأحدها: قصورها عن سماع عموم الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات، من الدعاوى في العقود والمعاملات، وسائر الحقوق والمطالبات، فلا يجوز أن ينتدب لسماع الدعوى لها، ولا أن يتعرض للحكم فيها، لا في كثير حقوق ولا في قليلها، من درهم فما دونه؛ إلا أن يرد ذلك إليه بنص صريح، يزيد على إطلاق الحسبة، فيجوز ويصير بهذه الزيادة جامعًا بين قضاء وحسبة، فيراعي فيه أن يكون من أهل الاجتهاد، وإن اقتصر به عن مطلق الحسبة؛ فالقضاة والحكام بالنظر في قليل ذلك وكثيره حق فهذا وجه. والوجه الثاني: أنها مقصورة على الحقوق المُعْتَرف بها؛ فأما ما يتداخله التجاحد والتناكب، فلا يجوز له النظر فيه؛ لأنّ الحاكم فيها يقف على سماع بينة، وإحلاف يمين، ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بينة على إثبات الحق، ولا أن يحلف يمينًا على نفي الحق، والقضاة والحكام بسماع البينة، وإحلاف الخصوم أحق. وأما الوجهان في زيادتها على أحكام القضاء: فأحدهما: أنه يجوز للناظر فيها أن يتعرض لتصفح ما يأمر به من المعروف، وينهى عنه من المنكر، وإن لم يحضره خَصمٌ مستعدٍ، وليس للقاضي أن يتعرض

لذلك إلا بحضور خصم يجوز له سماع الدعوى منه؛ فإنْ تعرض القاضي لذلك خرج عن منصب ولايته، وصار متجوزًا في قاعدة نظره. والثاني: أن للنّاظر في الحِسبة من سلاطة السلطنة، واستطالة الحماة؛ فيما تعلق للمنكرات ما ليس للقضاة، لأن الحسبة موضوعة للرهبة، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسلاطة والغلطة، تجوزًا فيها ولا خرقًا والقضاء موضوع للمناصفة، هو بالأناة والوقار أحق؛ وخروجه عنهما إلى سلاطة الحسبة تجوز وخرق؛ لأن موضوع كل واحد من المنصبين مختلف، فالتجوز فيه خروج عن حده". وأما ما بين الحِسْبة والمظالم فبينهما شبه مؤتلف، وفرق مختلف؛ فأما الشبه الجامع بينهما فمن وجهين: أحدهما: أنّ مَوضوعهما مستقر على الرهبة المختصة بسلاطة السلطنة، وقوة الصرامة. والثاني: جواز التعرض فيهما لأسباب المصالح، والتطلع إلى إنكار العدوان الظاهر. وأما الفَرْقُ بينهما فمن وجهين: أحدهما: أنّ النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، والنظر في الحسبة موضوع لما رفه عنه قضاء القضاة، ولذلك كانت رتبة المظالم أعلى، ورتبة الحسبة أخفض، وجاز لولي المظالم أن يوقع إلى القضاة والمحتسب، ولم يجز للقاضي أن يوقع إلى والي المظالم. وجاز له أن يوقع للمحتسب، ولم يجز للمحتسب أن يوقع إلى واحد منهما؛ فهذا الفرق الثاني: أنه يجوز لولي المظالم أن يحكم، ولا يجوز لوالي الحسبة أن يحكم. وصلي الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 15 علاقة الحسبة بالنيابة العامة.

الدرس: 15 علاقة الحسبة بالنيابة العامة.

التعريف بالنيابة العامة وتطورها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (علاقة الحسبة بالنيابة العامة) التعريف بالنيابة العامة وتطورها إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: علاقة الحسبة بالنيابة العامة قد استخدم كثير من البلاد بدائل للحسبة، وقد كثرت هذه البدائل، واختلفت حسب البلاد ونظمها، ونحن إذ نتكلم عن علاقة الحسبة بنظام من هذه النظم، وهو النيابة العامة نقول: إن الأصل في نظام الحسبة في الإسلام لم يكن في يوم من الأيام وقفًا على رعاية الجانب الاقتصادي وحسب، كما هو الحال مثلًا في الرقابة على الأسواق، وليس لحفظ التوازن بين السلطات التنفيذية والسلطات التشريعية؛ كما هو في نظام المفوض البرلماني السويدي، بل إن الأصل فيه صيانة حقوق الله تعالى، ورعاية حقوق ومصالح العباد، من أجل أن تسير الحياة داخل المجتمع الإسلامي وفق تعاليم الإسلام؛ فتأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، وأن يكون الدين كله لله، وهذه غاية يصب فيها معين كل ولاية في الإسلام. يقول الدكتور محمد إمام: "نعم قد تشترك بعض النظم في القديم والحديث بتغطية بعض المجلات التي يغطيها نظام الحسبة في المجتمع الإسلامي، كما هو الحال في القائم على أمن السوق في النظام البيزنطي، أو المُفوض البرلماني في النظام السويدي، والنُّظم التي أخذت عنه". نعم ذلك صحيح جملة ولكن الدراسة التأصيلية لا تَنْظُر إلى المجالات فحسب، بل إلى الأصول والغايات، وهنا تَبْدُو الفَوارقُ كبيرة، ونقاطُ الالتقاط جدُّ يَسيرَة. والمتتبع لمثل هذه النظم يعرف تمامًا أنّ الحِسبة لا ينحصر عملها في الجانب الاقتصادي، وما يتعلق بالأسواق وأهل التجارة، كما هو الحال عند مراقبي الأسواق في النظام البيزنطي، الذي يدعي البعض أن المسلمين اقتبسوا نظام الحسبة من هذا النظام.

فالحسبة أصلها واسمها وغايتها حماية حقوق الله، وتفقد حقوق العباد، وأسمى ما يهدف إليه من إقامة الحسبة في المجتمع هو إقامة شرع الله بين المسلمين، وحثهم على الالتزام بعراه، وأن تَكُونَ الحَاكِمِيَّةُ لله تعالى وحده، وهذه غَايةٌ عُظمى تقصر كل البدائل الأخرى عن الوصول إليها والوفاء بمُتَطلباتها، فالمحتسب يطبق شرع الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- بين خلقه: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 62). {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر: 43). التعريف بالنيابة العامة وتطورها: النيابة العامة هي: "الجهاز المنوط به الدعوة الجنائية في تحريكها ورفعها ومباشرتها أمام القضاء". وكما عَرَفْنَا من قبل من أنّ التَحْدَيد أو التعريف يُحدد الإطار والمفهوم العام لأي نظام مصطلح؛ فإنه يتضح لنا من هذا التعريف محدودية هذا النظام وانحصاره في جانب واحد من الجوانب التي يغطيها نظام الحسبة في الإسلام، وهو الجانب الجنائي القضائي، المتعلق بالدعوى من حيث رفعها ومتبعاتها. مع أنّ نِظام الحسبة وفي هذا الجانب بالذات يزيد عليه عند رفعه للدعوى الحِسْبية أمام القضاء، في أنّ المُحْتَسِبَ مدع وشاهدٌ في الوقت نفسه. أما النائبُ العام: فلا يتعدى دوره في كونه مدع فقط. أما من حيث تطور نظام النيابة العامة؛ فتقول النظرية التقليدية: إن ميلاد النيابة العامة كان متأخرًا، وأنه من وحي فرنسي بحت، وقد حُدِّدت مع بداية القرن الرابع عشر الميلادي، وأنها قامت على أنقاض العصور الوسطى، وأوّلُ نَصٍّ تشريعيٍّ أشارَ إلى النيابة العامة، هو أم ر فيلب لويل، ال ذي صدر في الثالث

والعشرين من مارس سنة ألف وثلاثمائة وثلاثة من الميلاد، وكَلّف نواب الملك بمباشرة العمل القضائي، ومنعهم من التدخل في شئون الأفراد. أما عن مراحل تطورها: فقد ذهبت هذه النظرية إلى أنه يجب مضي قرنين من الزمان لكي تصل النيابة العامة إلى تنظيمها المعروف الآن، مع ملاحظة أنها تكونت قبل القرن السادس عشر الميلادي، وكانت تضم أمام المدعي العام والمحامين وأمام المحاكم الأخرى محامي الملك ومدعي الملك، اللذين كانا وكيلي المدعي العام، وأمام محاكم الأشراف أحد المدعين فقط؛ إلّا أن النظرية الحديثة في أصل النيابة العامة أخذت على هذه النظرية أنها وقعت في خطأ مزدوج، عندما تتناول أصل النيابة العامة، وقالت: إنّها ساوت بين محامي الملك ومدعي الملك، رغم ما بينهما من اختلافات في النشأة وسبب الظهور في الاختصاصات، وكذلك القول بأنّ أصلَ مُدّعي الملك كان قضائيًّا، مع أنّ ذلك غير صحيح بل أصله مختلف. وترى النظرية الحديثة أن ظهور النيابة العامة يرجع أولًا إلى نشأة محامي الملك في القرن الرابع عشر للميلاد، والذي تَمّ اختيارُه من بين المحاميين العاديين، واختَصّ بالاختصاصات القضائية، وعلى وجه الخصوص المدنية دون سواها. أما مدعي الملك فقد ظهر قبل ذلك بكثير تحت أسماء أخرى بصفة رجل حكومة، إلا أنه في القرن الرابع عشر الميلادي، وبمُمَارَسَة الوَظَائِف المَالية المشرفين الملكيين، اكتسب الدور القضائي الذي مارسه بصفة أساسية في المجال الجنائي، والذي أضافه إلى دوره الحكومي.

المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث النشأة.

وخلاصة القول: فإنّ المتفق عليه بإجماع آراء رجال الفقه القانوني أن النظام النيابة العامة من أصل فرنسي بحت أعطي الخصائص التي يتميز بها حاليًا في النظام الحديث منذ قانون التحقيق الجنائي الفرنسي لسنة ألف وثمانمائة وثمانية من الميلاد، والقوانين المعدلة له، والتي لم تتغير حتى الآن، وامتد بعد ذلك إلى مختلف النظم القانونية التي أخذت به. المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث النشأة ليس بالضّرورة إذا ما قَامت مُقارنة بين نظامين أن يكون بينهم تَشابه، فقد تحصل المقارنة حتى ولو لم يوجد ذلك التشابه، يقول الشاعر: إذا قيل إن السيف أمضى من العصا ... ألم تر أن السيف ينقص قدره ولكن قد يكون بين هذين النظامين من الصفات المشتركة، ما يدفع الدارس إلى دراسة تلك الصفات؛ لتبيين الحقيقة، ولمعرفة الفروق الجوهرية بينهما؛ فإنّ الأشياءَ لا تُعرف قيمتها الحقيقة إلا بالمقارنة، وعلى هذا فإننا إذ نقارن بين النظامي الحسبة والنيابة العامة لا نقرر أبدًا تَشابه النيابة العامة بمبدأ ونظام الحسبة الإسلامي الأصيل؛ فنظام الحِسْبَة نظامٌ رَبّانِيٌ جليل القدر، وواجب عظيمٌ على المسلمين أن يهتموا به، ويُطَبَِّقوه فيما بينهم، فهو أساسٌ عظيمٌ من أسس هذا الدين، ودعامة قوية من دعائم ترابط الأمة والحفاظ على مصلحها العامة والخاصة. ويكفي أن الخيرية التي تسعى إليها كل أمة لا تتحقق إلا بالقيام بهذا النظام، وسريانه بين أفراد المجتمع، قال الله -تبارك وتعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110).

وعلى هذا؛ فإنّ نظام الحسبة بهذه الموصفات لا يمكن أن يتغير أو يتبدل بتغير الزمن وتبدل الأشخاص. أما نظام النيابة العامة وغيره من النظم الوضعية المشابهة فإن فيها من التقصير والأخطاء بقدر قصور وأخطاء واضعيها، وفيها من كل ذلك ما يَجْعَلُها تتغير وتتبدل بمرور الزمن، وتَبَدُّل الأشخاص، ومُسَايرة الرغبات، والميل مع الأهواء. إذا تبين ذلك، فنقول: الفرق بين الحسبة والنيابة العامة من حيث النشأة: أولًا: فيما يتعلق بنشأة الحسبة وتطورها: فقد سبق الحديث عن ذلك في درسٍ مستقل، وعرفنا منه أنّ الحسبة نشأت منذ نزول أو نصٍّ شرعي يدعو الأمة إلى إقامة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي: بِبداية انطلاق دعوة الإسلام، وبِقَدْر تَماسك المسلمين وتطبيقهم لهذا المبدأ العظيم فيما بينهم؛ يكونُ تَقَدُّمهم، وتكون خيرتهم وتماسك مجتمعهم، وبقدر تركهم لهذا المبدأ العظيم، وانصرافهم عنه ينالهم الضعف والتفكك في الدنيا، وينالهم العقاب واللعنة في الآخرة، قال الله -تبارك وتعالى-: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف: 165). وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78، 79). إذا عُرف هذا، علمنا أن وجود هذا النِّظام الرباني العظيم لم يكن وليد عصرٍ من العصور، أو حَاجة أو مصلحة طارئة، بل هو نظام إلهي عظيم أنزله الله، وأمر به منذ أن وجدت الحياة على هذه الأرض، وأنّ كُلّ الرِّسَالات السماوية جاءت

لتحقيقه وتطبيقه بين الناس، وهو وإن اختلفت الأسماء حوله فالغاية والغرض من وجوده واحد، وهو إقامة العدل الشامل، وتسيير الحياة على وفق ما يرضي خالقنا وخالق كل شيء -سبحانه وتعالى- وكذلك لتسيير عبوديتنا لله على وفق هذا المنهج. أما وجود الحسبة كنظام يُطَبّق ويَقُوم به الحاكم المُسلم؛ فقد وجد كما عرفنا من قبل أيضًا مُنذ قيام دولة الإسلام في المدنية النبوية، طبقه الرَّسُول -صلى الله عليه وسلم- ومن جاء بعده من الخلفاء الراشدين، ثم طَبّقته المَمَالك والدول، التي قامت بعد ذلك إلى يومنا هذا، وإن كانت بعض بل كثير من الدول الإسلامية القائمة اليوم لا تطبقه، ولكنا نسأل الله أن يوفقهم لتطبيق حكم الله وشرعه على أرضه: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيز} (إبراهيم: 20). أما نَشْأَةُ النِّيابة العامة: فقد عرفنا أن نظام النيابة العامة مر بمراحل عديدة حتى وصل إلى وضعه الحالي، وهو أيضًا قابلٌ للتّغير على حسب مقتضيات العصر، وتغيير البَشر وأهوائهم، وقد تطور هذا النظام من النِّظام التنقيبي الذي يرجع إلى عصر الرُّومان؛ حيثُ كان يطبق على العبيد والمجرمين الخطرين، ثم انتقل إلى القانون الكنسي في القرون الوسطي، ومنه إلى المحاكم الملكية في النظام الفرنسي القديم. ويعتبر هذا النظام بحق نواة النيابة العامة. إلّا أنّ هُناك نظرياتٍ أُخرى حول أصل ونشأة هذا النظام، منها: ما يرفض إرجاع أصل النيابة العامة إلى النظام الروماني، ومنها ما يؤيده. وأيًّا ما كان فقد كان هناك نظريتان حول أصل النيابة العامة، وهي: "النظرية الكلاسيكية والتقليدية" التي حددت ظهور النيابة العامة ببداية القرن الرابع عشر للميلاد، وذلك في عهد الملك فيلب لويل، وتقول

هذه النظرية: "إن النيابة العامة تطورت خلال قرنين من الزمان منذ القرن السادس عشر للميلاد، حتى وصلت إلى هذا التنظيم المعروف، بعد حدوث بعض التغيرات البسيطة الخاصة بالبوليس القضائي". النظرية الثانية هي "النظرية الحديثة" في أصل النيابة العامة، ويذهب أنصار هذه النظرية إلى أن ظهور النيابة العامة يرجع أولًا إلى نشأة محامي الملك في القرن الرابع عشر، وأيًّا ما كانت الاختلاف بين النظريات؛ فإنه من المُتَّفَق عليه أنّ نظام النيابة العامة من أصل فرنسي كما تقدم، ومن المتفق عليه أيضًا: أنّ القَانُون المصري أخذ النيابة العامة نقلًا من التشريع الفرنسي. كانت هذه إشارة إلى نشأة الحسبة ونشأة النيابة العامة، فما هي نتيجة المقارنة بينهما في النشأة؟ الجواب: قد تَبين لنا من استعراض نشأة الحسبة والنيابة العامة: بأنّ نظام الحسبة ذي أصول وقواعد ثابتة لا تتغير، ولا تتبدل بتقادم الزّمن؛ ولا باختلاف أهواء البشر وأقوالهم؛ لأنّه صَادِرٌ من لَدُن حكيم خبير، وأنّه أثناء تطوره لم يكن ليتغير، بل إنّ تطوره هو في اتساع الدائرة التي يُطَبّق فيها، نظرًا لازدياد أفراد المُجتمع الذي يُطبق بينهم، وكذلك في الوسائل والأساليب. ثم تبين لنا أيضًا: بأنّ الحسبة قديمة جدًّا قدم الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- أما نظام النيابة العامة؛ فمع أنه نشأ وعرف من فترة ليست بالطويلة إلّا أنه مر بالمراحل وتم تعديله وتبديله، ولا زال يتغَيّرُ ويتبدل حسب حاجات ومقتضيات أحوال من وضعه ومن يُطَبّقُ بينه، ويكفيه منقصة عدم ثباته، وهذا من أوضح الأدلة على قصوره ونقصه تبعًا لقصور ونقص من وضعه، وصدق الله العظيم حيث يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء: 82).

المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث الاختصاصات والسلطات.

كما أنّ نِظَام النِّيابة العامة لا يُطَبّق بشكل متساوٍ على كل أفراد المجتمع؛ فهنالك من له حصانة دبلوماسية، وهنالك من له حصانة برلمانية، وهكذا يخرج عن سلطته وتطبيقه القوي، ويُطبق على الضعيف، بينما الحسبة تنسحب على الجميع حكامًا ومَحكومين ليس فيه استثناء؛ لأنّ الكُل هم عبيد لله، وهم أمام شرعه ومنهجه الذي فيه الحسبة سواسية كأسنان المشط. ولا يستطيع أحدٌ مهما كانت منزلته أن يُعَدّل أو يُبدل شيئًا من أحكام الحسبة؛ فيُحِلَّ ما حرم الله، أو يُحرم ما أحل الله، وإذا فعل ذلك فلا طاعة عندئذ لمخلوق في معصية الخالق، كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يبقى نظام الحسبة ثابتًا ثبات مصدره بينما غيره من أنظمة البشر تتحول وتتبدل تبعًا لأحوال واضعها، ونقصه وعوزه. المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث الاختصاصات والسلطات أما المُقارنة بين الحِسبة ونظام النيابة العامة من حيث الاختصاصات مجمل القول فيها: أنّ اختصاصات الحسبة تكاد تدخل في كل منحًى من مناحي الحياة تقريبًا؛ فهي تدور وجودًا وعدمًا مع ظُهور المنكر، واندثار المعروف، ومع هذا الإجمال؛ فلا بَأسَ أنْ نُفَصِّل بعض تلك الاختصاصات من خلال استعراضنا لهيكل الأنظمة القضائية الأخرى؛ كالقضاء والمظالم والشرطة وغيرها. فالفُقَهَاء الذين رَتّبوا الولايات الإسلامية على حسب أهميتها، وفي الأمور القضائية بالذات جعلوا الحسبة في المرتبة الثالثة بعد ولايتي "المظالم، والقضاء" وعلى هذا فقد اختصت ولاية الحسبة في الناحية القضائية بالذات خلافًا لاختصاصها الأخرى غير القضائية، بالنظر فيما

رفه عند القاضي -أي: في الأمور اليسيرية التي لا تحتاج إلى تجاحد وبينات وشهود- فإن هذه الأمور إلى المحتسب لا إلى القاضي. فمن هذا اختص المحتسب بثلاثة أنواع من الدعاوى: أحدها: ما يتعلق بتطفيف أو بخسٍ في كيل أو وزن. والثاني: ما يَتعَلَّقُ بغشٍ أو تَدليسٍ في مبيعٍ أو ثمن. والثالث: فيما يتعلق بمطْلٍ أو تأخيرٍ لدين مُستحق مع القدرة. وإنما جاز نظره في هذه الدعاوى الثلاث دون غيرها لتعلقها بمنكر ظاهرٍ هو منصوب لإزالته، واختصاصها بمندوب هو مندوبٌ أو مكلفٌ بإزالته. وعلى هذا كان له أن يُلزم من تثبت عليه هذه الحقوق المُتقدم ذكرها بالخروج منها، ودَفْعُها إلى مُستحقيها. كما أن من اختصاصات المحتسب في هذا الجانب: أن يتعرض ما يأمر به من المعروف، وينهى عنه من المنكر؛ وإن لم يحضره خصمٌ مستعدٍ أي: مشتك. ويختص أيضًا في هذا الجانب ويزيد فيه على غيره من الولايات القضائية بقوة السلطنة، وستارة الحماة، فيما يتعلق بالمنكرات وتغييرها. وفي مخلصٍ مختصر عن اختصاصات المُحتسب نقول: إنّها تكون في حثِّ الناس وإلزامهم إقامة شعائر الدين وسننه، والمحافظة عليها، وفي تغيير كل منكر من المنكرات الأخلاقية السلوكية، داخل المجتمع الإسلامي، وفي مراقبة أهل الحرف والصناعات، ومنعهم من الغش والتجاوز، وفي بذل كل ما في الوسع لنصح الحكام والولاة؛ ففي استقامتهم استقامة للرعية. وقد قيل: "الناس على دين ملوكهم".

ويدخل في اختصاصاته أيضًا: مُحاربة كل البدع والمعتقدات، التي تعارض العقيدة الإسلامية، وكذلك الأفكار والمذاهب الفاسدة، الوافدة على المجتمع المسلم من خارجه. أما اختصاصات النيابة العامة؛ فتتلخص فيما يلي: أولًا: النِّيابَةُ العَامّة: هي الجِهَةُ الوحيدة في النظم الحكومية التي تأخذ بالدعوة، والتي تجمع بين الحق في تحريك الدعوة -أي: اتخاذ الخطوة الأولى فيها- وبين مُتابعة السِّير فيها حتى النهاية، وهي تُمَثّلُ الهيئة الاجتماعية في مُباشرتها لسلطاتها بشقيه، وباسمها تُباشر هذه السلطة وذلك بوصفها سلطة اتهام. ثانيًا: وهي إلى جَانِب ذلك سلطة التحقيق الرئيسية في البلاد التي تأخذ بها، ولأعضائها أيضًا صفة مأمور الضبط القضائي؛ فضلًا عن أن لهم الرئاسة العامة الرئاسة على هؤلاء والإشراف عليهم. ثالثًا: للنيابة العامة فضلًا عن ما تقدم اختصاصات أخرى تتمثل في: 1 - ترعى مصالح عديمي الأهلية وناقصيها، والغائبين والحمل المستكن. 2 - وهي تُعتبر طرفًا منظمًا أما محكمة النّقد المَدنية فتُبدي آراءها في جميع الطُّعون بصفة استشارية، دون أن تعد خصمًا أصيل فيه. 3 - لها أن تُشهر إفلاس التاجر. 4 - لها مُباشرة الدعاوى التأديبية، التي تنص عليها قوانين مختلفة مثل الدعاوى التأديبية على المحامين. 5 - ولها وظائف إدارية مختلفة؛ كالأشراف على الأعمال المتعلقة بنقوض المحاكم، ولها الإشراف على السجون، وغيرها من الأماكن التي تُنَفّذ فيها الأحكام الجنائية.

كما خوّل القانون النيابة العامة أن تتدخل اختياريًّا في الدعاوى الآتية: 1 - الدعاوى المتعلقة بالأوقاف الخيرية، والهيئات والوصايا المرصودة للبر. 2 - دعاوى رد القضاة، وأعضاء نيابة العامة ومخاصمتهم. 3 - الصُّلح الواقي من الإفلاس. 4 - كل حالة أخرى يَنُصّ القانون على جواز التدخل فيها. كما أنّ من اختصاصات رئيس النيابة العامة: إيقاع بعض العقوبات دون الرجوع إلى القضاء؛ ففي المادة 325 مُكّرر من قانون الإجراءات الجنائية المصري المُضافة بالقانون 280 لسنة 1953 والمعدل بالقانون 1130 لسنة 1957، والمعدلة بالقانون 170 لسنة 1981: "يَحِقُّ لرئيس النيابة العامة، أو وكيل النيابة العامة من الفئة الممتازة بالمحكمة التي من اختصاصها نظر الدعوى إصدار الأمر الجنائي في المخالفات والجنح، التي لا يوصي القانون الحكم فيها بالحبس أو الغرامة، التي لا يزيد حَدُّها الأعلى عن مائة جنية مصري، ولم يطلب فيها التضمينات وما يجب رده والمصاريف، ولا يَجُوز أن يُؤمر فيه بغير الغرامة التي لا تزيد عن مائة جنية مصري". المقارنة بين نظام الحسبة ونظام النيابة العامة من حيث الصلاحيات والاختصاصات: ونرى أنّ بين النظامين أوجه شبه في نقطتين هما: أنّ كلًّا من النِّيابة العَامّة وولاية الحسبة، تَقُوم في الأساس على مُكافحة المنكرات، وحِمَاية النِّظام العام، وذلك بتوجيه الاتهام والتبليغ عن

الجرائم ومباشرتها أمام القضاء، وإنْ كَان المَيزانُ مُختلفًا؛ فإنّ ما تراه الحسبة مُنكرًا في بعض الأمور، لا تراه النيابة العامة مُنكرًا، وهنا لا يكون التشابه على الإطلاق. النقطة الثانية: التقاء الحسبة مع نظام النيابة العامة في أن كلًّا منهما يَقُوم بالفَصْلِ في الدعاوى البسيطة؛ حيثُ أنّ المُحتسب يقوم بالفصل فيما رفه عنه القضاء، كدعاوي البخس والتطفيف في الميزان، وكذلك الدعاوى التي تتعلق بالغش والتدليس في المبيع والثمن، كما أنّ القَانُون المصري، وهو من القوانين التي تُطَبِّقُ نظام النيابة العامة أعطاها الحَقَّ في إصدار أوامر جنائية، بعقوبة الغرامة التي لا تتجاوز مائة جنية مصري بالنسبة لبعض الجرائم البسيطة، التي تستلزم سرعة الفصل، وذلك تخفيفًا على القضاء. ما هي أوجه الاختلاف بين النظامين؟ مِمّا لا شَكّ فيه: أنّ الفرق بينهما يَظْهَرُ بأقل نظر، فهناك مُفارقات واختلافات كثيرة بين النظامين، سواء في الجوهر أو الشكل، وذلك راجع لاختلاف الحاصل في الأسس التي قام عليها كل منهما، وفي الأصل والمصدر؛ ثُمّ في الغاية والهدف. فكما سبق وكررنا مراتٍِ أنّ نِظَامَ الحِسْبَة قائمٌ على مبدأ رباني عظيم، هو تطبيقٌ عمليٌّ لذلك المبدأ ألا وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومصدره من يعلم ما يصلح خلقه، ويصلح له. أما نظام النيابة العامة فمصدره البشر. وعلى كل حال، فيمكن أن نجمل اختلافهما في الاختصاصات في النقاط التالية: أولًا: كما أشرنا في أحدى نقاط التشابه، بأن كلًّا منهما يقوم بمكافحة المُنكرات؛ لكنْ مع تَشابُههما في ذلك؛ فإنّ بينهما أيضًا في هذه النُّقطة اختلافات جَوهريّة؛

فالمنكرات التي تنكرها الحسبة؛ هي نفسها المنكرات التي جاءت في الشريعة الإسلامية، بينما لم يكن هو نفسه ضابط المنكرات التي تتصدى لها النيابة العامة، وإن وافقت الحسبة في إنكار بعضها. وإذا ما أرَدْنا أن نَعرف المُنكر حَقيقة هو: المُنكر في الشرع؛ والمقنن من البشر، الذي تتحكم فيه عدة نوازع، قد يجعل ما هو معروفًا في الشرع منكرًا، وما هو منكر معروفًا. النقطة الثانية من الاختلافات: أنّ نظام النيابة العامة لا يتعلق بالمخالفات أو المنكرات التي تقع من المكلفين فقط، وهي ما يُسمى في الإسلام بالمعاصي؛ أمّا نِظَامُ الحِسْبَة في الإسلام؛ فهو يشمل المنكرات جميعًا، بهذا يكون مَجَالُه أوْسع حيثُ يتناول جميع المنكرات التي تقع من المكلفين وغيرهم. النقطة الثالثة: الحسبة من حيث القيام بها هي الفروض التي يطالب بها كل مسلم على سبيل وجوب العيني أو الكفائي، وسواء وجدت ولاية الحِسْبَة أم لم توجد؛ فإنّ استمرارية وجوب الحِسبة قائمة على أساس ذلك، الوُجوب يُثاب من يقوم بها، ويُعاقب ويُؤاخذ المُجتمع التي لا تقوم فيه، بينما النِّيابَةُ العَامّة منوطة بقيام دولة تنظمها، ليقوم النائب العام بالدعوى العمومية، وسواء قامت بها الدولة أو لم تقم بها فإن ذلك من الأعمال التي الأصل فيها الإباحية. فسواء أقيمت أم لم تقم فما يتعلق بها حكم الوجوب أو المؤاخذة بخلاف ما رأينا في الحسبة. النقطة الرابعة: كما رأينا فيما تَقَدّم أنّ الحِسبة في شموليتها واتساع نطاق اختصاصها؛ فإنّه ليسَ هُناك مستثنى في المجتمع ولا حصانة؛ فإن الناس داخل المجتمع الإسلامي يدخلون ضمن اختصاصاتها حُكامًا ومحكومين؛ والنصيحة بينهم قائمة، وهِي تمثل الحسبة بخلاف النيابة العامة، فإنها بعملها واختصاصاتها تقفُ عند حدودٍ بالنسبة

للحكام والبرلمانيين والدبلوماسيين؛ ففي تشريعها ما يُسمى بالحصانة؛ إما الدبلوماسية أو البرلمانية. هذه هي المقارنة بين الحسبة والنيابة العامة من حيث الاختصاصات والصلاحيات؛ أما من حيث سلطات والي الحسبة، ورئيس النيابة العامة، فنقول: قد تقدم الكلام عن اختصاصات الحسبة، بأنّ لهذه الولاية ومن يُمثلها من قوة السلطنة والهيبة والرهبة، ما يردع المخالفين والمشتغلين بالمنكرات، التي تدخل ضمن دائرة عمل المحتسب؛ وما تِلْكَ القُوّة والهيبة إلّا لأنّ المُحْتَسب له من السلطات والصلاحيات التأديبية والعقابية ما يعينه على أداء مهمته. ولهذا نرى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقرر ذلك فيقول: "إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية؛ فإن الله يذع بالسلطان ما لا يذع بالقرآن". ولذا جَعَل اللهُ وهو الشارع سبحانه لأحكام الدين في يد ولي الأمر أو الذي يفوضه بدوره والي الحسبة سلطات تعزيرية لا ترقى إلى الحدود؛ لإلزام المنحرفين الحق، وأطرهم عليه أطرًا. وقد تكلمنا بالتفصيل عن الصلاحيات التأديبية التي هي للمحتسب الوالي، ولا مانع أن نعدد بعضها في النقاط التالية: أولًا: الهَجْرُ: كأنْ يرى الوالي أن يهجر فاعل المعصية مدة محدودة، أو يأمر بعض أعوانه بمقاطعتهم؛ مثل أن يعثر على صاحب محلٍ تجاري قد اشتُهر بالغش، والتدليس والتطفيف. ثانيًا: الضرب هو أن يضرب المذنب: بشرط أن لا يبلغ بذلك أربعين جلدة، وهو أقل حدٍّ في الإسلام، على رأي من رأى أن حد شارب الخمر أربعون وليس ثمانين. وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يعلو بدرته من أرتكب منكرًا. ثالثًا: النَّفْيُ هو: التّغريب عن الوطن؛ فإنّه يَجُوزُ لوالي الحسبة باستصدار أمرٍ من ولي الأمر؛ بنفي من لديه إجرام، ولم ينفع معه العقاب، أو يخشى من فتنته؛ حتى ولو لم يُعاقب كما فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بنفي نصر بن حجاج الذي افتتنت به النساء في عهده؛ وكما فعل أبو بكر -رضي الله عنه- بنفي أحد المخنثين، ونفى عمر من شرب الخمر إلى خيبر. رابعًا: الحَبْسُ: ويَكُون ذلك في حالات مُعَيّنة حسب نوع الذنب الذي ارتكبه المُخالف، أو إذا تكرر منه فعل الذنب، ولم يستفد من النُّصح، وما هو قبل الحبس من درجات إنكار المنكر. خامسًا: التشهير: والمقصود به إعلان ذنب المُذنب؛ ليكون جزاءً له، وردعًا لغيره مما يحاول إتيان فعله. سادسًا: العقوبة المالية: وبها عزَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أباح سَلَبَ من يصطاد في حرم المدينة؛ لمن وجده وأمر بكسر دنان الخمر. وهذه الصور التي تقدمت هي من أقصى العقوبات التي تدخل ضمن سلطات والي الحسبة، وهناك سلطات تأديبية أخرى أخف، وهي في العادة لا يحتاجُ المُحْتَسبُ فيها إلى إذن ولي الأمر ومنها: أولًا: الإعْلَامُ: وصورته أن يقول المحتسب الوالي لفاعل المعصية: لقَدْ بلغني عنك أنك فعلت كذا وكذا، وذلك بقصد نهيه عن الوقوع في الذنب والمعصية مرة أخرى. ثانيًا: الوَعْظُ: وصورته أن يعظ الوالي المذنب ويخوفه بعذاب الله، ويأمره بتقوى الله، ويُبين له حُرْمَة ما وقع فيه من الذنب، ويوضح له مَغَبّة عمله في الدنيا والآخرة. ثالثًا: العِتَاب: التي تَشُوبه الحكمة، ولا يدخله التسرع والتشنج الذي قد يفسد ولا يصلح. رابعًا: التَّهْدِيدُ والتّخويف: ويَلجأ إلى هذا الأسلوب هو نوع من سلطاته، عندما يُظهر المُذْنِبُ عَدَمَ المبالاة، والاكتراث بما يسمع من النصح؛ فعند إذن يهدده والى الحسبة بأنه إذا عاود فعل الذنب مرة أخرى؛ فسوف يعاقبه. أما سلطات النائب العام: فإنّ المُلتمس لصلاحيات وسلطات النائب العام في كتب القانون والإجراءات الجنائية، لا يجد سوى بعض الصلاحيات في الناحية المالية، لا تتعدى في مُجْمَلِها مائة جنية، وقد سبقت الإشارة إليه في اختصاصات النيابة العامة، والإذن بإصدار الأوامر الجنائية في بعض الجنح. والتي تتلخص في: - إهانة أو تهديد موظف عمومي، أو أحد رجال الضبط، أو أي إنسان مكلف بخدمة عمومية، أثناء تأدية وظيفته أو بسبب تأديتها، والجرح أو الضرب دون

سبق إصرار أو ترصد لم ينشأ عنه عاهة مستديمة، والذي يَحْتَاجُ في علاجه إلى فترة تقل عن عشرين يومًا، وكل سبب لا يشتمل على إسناد واقعة معينة، والحرق الناشبُ بإهمال، وما يتعلق بالسيارات وقواعد المرور. والحكمة التي من أجلها أعطي الحق لوكلاء النائب العام في إصدار الأوامر الجنائية في الحدود، التي رسمها القانون هي سرعة الفصل في القضايا البسيطة الأهمية بعقوبة الغرامة التي لا تتجاوز مائة قرش مصري، وهي عقوبة يغلب أن يرتضيها المحكوم عليه. فإذا عرفنا هذا نقول: على ضوء ما تقدم نلحظ الفرق الواضح بين السلطات التي تمنحها الشريعة الإسلامية لوالي الحسبة، وبين تلك التي يتمتع به النائب العام ونوابه؛ فَلم يَكُن هناك من تَشَابُه إلّا في أنّ كُلًّا مِنْهُما له الحق من الناحية القضائية في أن يُصْدِر بعض الأوامر الجنائية، في بعض المُخالفات البسيطة، وفي حدودٍ معينة تخفيفًا على القضاة في هذه المخالفات، التي تحتاج إلى البت فيها بسرعة. لكن من الناحية الثانية: نجدُ أنّ بينهما في السلطات اختلافات كثيرة لا سيما في التعازير؛ فإن ما في يد والي الحسبة منها أكثر بكثير ما للنائب العام، فوالي الحسبة يُعزر بما يتَوافق وحال المذنب، وتَتدرج معه العقوبة بناءً على ذلك من الإعلام والوعظ والإعراض إلى التأنيب والضرب والغرامة المالية، والحبس والنفي من البلد، وهذه أشد بكثير من تلك التي يملكها النائب العام. ونحن لمّا نُقَرّر هذه الصلاحيات والسلطات لوالي الحسبة؛ فإننا لا نَهْدِف إلّا أن نُثبت أن الشريعة الإسلامية التي نصت على هذه الصلاحيات، والتي أصّلها ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسنة خلفائه الراشدين, هي التي تعلم ما يُصلح الإنسان.

فهذه الصلاحيات جعلت في يدي والي الحسبة لتكون عونًا له على إصلاح ما اعوج من أمر الناس، إذ بدون وجود مثل هذه الصلاحيات؛ فلن يكون للجهود التي يَبْذُلها الثمرة المرجوة، لأن المخالفين والمجرمين الذين يعنيهم عمله لا يمكن أن ينسلوا عن إجرامهم ومجونهم؛ إلّا أن شعروا أنّ هُنَاك ما يردعهم، فكان وضع هذه الصلاحيات وغيرها في يد والي الحسبة، ومنحها له هو من باب السياسية الشرعية التي غايتها الصلاح والإصلاح. وهنا يتبين لنا سعة صلاحية والي الحسبة، في المقارنة بينه وبين صلاحيات النائب العام. وفي الختام في شأن هذه البدائل المُدّعاة والمزعومة عن الحسبة؛ فإنه مهما حاول المبطلون والناكبون عن صراط الله المستقيم، أن يوجدوا نظامًا يُضاهي أو يُقارب ما جاء من عند الله فلن يكون لهم ذلك، ولكنه التقليد الأعمى، وترك الأخذ بشريعة ربهم، هو الذي أغفلهم عن ما في تراثهم الإسلامي التليد، من أنظم حضارية الحسبة واحدة منها. فهل لنا أن نعود إلى شرع ربنا، وأن نطبق حكم الله -سبحانه وتعالى- وأن نعود إلى ذلك النظام الجميل البديع نظام الحسبة، ألم نسمع قول الله -تبارك وتعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50). وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 16 نموذج للحسبة القائمة اليوم.

الدرس: 16 نموذج للحسبة القائمة اليوم.

مقدمة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (نموذج للحسبة القائمة اليوم) مقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد: إنّ المُتَكَلِّمَ في أمر الحسبة في المملكة العربية السعودية يَجْمُل به أن يَرْبِطَ ماضي هذه الولاية -ولاية الحسبة- بحاضرها؛ فإنّ في ذلك تذكيرًا لمن شطط بهم الأهواء، وبهرتْهُم بَهارِجُ وزيف الحضارة الغربية؛ فجَعَلُوها قدوة لهم، وأخذوا بأنْظمتها، ورأوا أنّ الحَسنَ ما أقرته وطبقته، والقَبيحَ ما تركته ورَفضته، ثم ليعلم أولئك أنه لا يَصْلُح آخر هذه الأمة إلّا بما صلح به أولها، وأنّ الخير كل الخير أن يعود المسلمون إلى منابع دينهم وتراثهم، وثقافتهم التي جاءت في الكتاب والسنة. وهذا الربط يتمثل في أن نعرض بشيء من الإيجاز لبدايات وأساسيات قيام هذه الهيئة "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" التي تمثل ولاية الحسبة في المملكة العربية السعودية، والتي حددناها نموذجًا ومثالًا لواقع الحسبة المعاصرة. وهذا يَشُدُّنا إلى العودة إلى منتصف القرن الثاني عشر الهجري، بداية قيام الدولة السعودية الأولى، وانتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- فمَعْلُوم لدى من رجع إلى التاريخ أنّ هذه البلاد الجزيرة العربية كانت تئن تحت ظلمات الجهل، ومتاهات الشرك والخرافات، والبدع المنكرة المهلكة؛ فكانَ النّاسُ نتيجة لذلك قد فقدوا نور العلم، وحلاوة الإيمان؛ مما جَعَلَهُم ينْجَرِفُون مع تيارات الشرك، ولوثة المعتقد. لكن رحمة الله ولُطفه بعبادة تتدخل دائمًا؛ حيثُ يُقيض الله -عز وجل- على رأس كل فترة لهذه الأمة من يجدد لها دينها، ويعيدها إلى حظيرة الإيمان بعد أن اجتالتها الشياطين، فأخرجتها منها، مصداقًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ اللهَ يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجَدِّدُ لها دينها)).

فكانَت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب المُجدد -رحمه الله- ذلك السراج الذي قاد الناس، وأعادهم إلى أصول دينهم، ومنابع ثقافتهم إلى الكتاب والسُّنة؛ لقَد كان ذَلك المُصْلِحُ الكبير يَدْعُو النّاس إلى العودة إلى الاعتقاد الصحيح ونبذ الشرك، فقوبل أول ما قوبل بالنكير والأذى، بل لقد تعدى الأمر إلى محاولة اغتياله؛ لكن الله حفظه ولم تقف محاولات أعداء دعوته عند ذلك الحد، بل طاردوه من بلد إلى آخر؛ حتى انتهى به المطاف إلى بلدٍ أمن فيه على دعوته، هو بلد الدرعية، وهناك التقى بالأمير محمد بن سعود المؤسس الأول للدولة السعودية الأولى، وشرح الله صدر الأمير للدعوة، فقبلها وناصرها، وكثر أتباع الشيخ ومؤيدوه. ومع ذلك؛ فإنّ الذِينَ وقَفُوا من هذه الدعوة موقف العداء، لا زالوا يتربصون بها الدوائر، ويُحَاولُون مُستَميتينَ القَضَاء عليها؛ حيثُ هَالَهُم سرعة انتشارها بين الناس، ولم يتركوا سبيلًا يروا فيه إضعافها إلا سلكوه، وهنا أدرك الشيخ أنّ الموعظة والجدال، وإرسال الرسائل لتوضيح طبيعة هذه الدعوة الجديدة، ولتدعو في الوقت نفسه أولئك الخصوم إلى التروي والرجوع إلى الحق؛ فلم يزدهم ذلك إلا عنادًا وإصرارًا وبغيًا وعدوانًا، أدرك عند ذلك كله أنّه لم يبق أمامه إلا رفع راية الجهاد، لدحر تلك الدعوات المضادة، ونشر دعوة الحق بين الناس، الذين هم متطلعون إليها راغبون فيها، فقد طال ليل الشرك على أفهامهم وعقولهم، ورانت المعاصي على قلوبهم. فوقعت حروب ومغازي للشيخ وأتباعه، كَلّلها اللهُ له بالنّصر، وأعز الله بذلك دينه، وسَقَطت كُلُّ الدعوات الشيطانية، وسَقَطَ مَعها كُلُّ وثنٍ يُعبد من دون الله، وخَنَس كُلُّ مُشَعْوِذٍ وكَذّاب، وتنفس المسلمون في سائر أنحاء الجزيرة العربية الصعداء، ورَسَخت عَقِيدة التوحيد في نفوس الناس صافية نقية، كما جاء بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

نشأة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطورها.

فانتشر العلم مكان الجهل، وتمسك الناس بالتوحيد، ونبذوا الشرك، وأمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، بفضل عودتهم إلى عقيدتهم الصحيحة، وحَلّت الوِحْدَةُ بدل الفُرقة، وعُرف المَعروف فأمر به، وحُثّ على فعله وأدب على تركه، وعرف المنكر فنهي على ارتكابه، وعذر من فعله، وأقيمت حدود الله بين خلقه بعد أن كانت مضيعة. وصور الاحتساب في حياة الشيخ -رحمه الله- كثيرة جدًّا يُمكن الرُّجوع إليها في مظانها من الكُتب التاريخية، والتي أُلّفت عن الشَّيخ ودعوته، لكن ما قَصَدْنَاهُ من إبراز هذه المقدمة عن بدايات الدعوة وتأسيسها، على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الدولة منذ عهدها الأول، هو للتدليل على أنه ولاية الحسبة في المملكة العربية السعودية اليوم، والتي تمثلها الرئاسة العاملة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم تكن ولدية عقد أو عقدين من الزمان بل مضى عليها قرون. فهي إذًا امتدادٌ طَبيعيٌّ لقِيامِ وِلَاية الحِسْبَة في الدُّول والعصور الإسلامية في مُختلف أصقاع العالم الإسلامي في الماضي. نشأة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطورها نشأة الهيئة وتطورها: عرفنا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إبّان تأسيس هذه الدولة السعودية في دورها الأول؛ قد تولاه الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- إلى جانبِ أعمالهِ الأُخْرى التي منها الإفتاء والقضاء والتعليم، ودوره البارز في تجهيز الجُيوش المُدَافِعَةِ عن الدّعْوَة، والقائمة بنشرها في الوقت نفسه، وبعد وفاته -

جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي به أمثاله من المجددين المصلحين- نهض بهذه المهمة الشريفة من بعده أبناؤه وتلاميذه، كما ورث الخلف من الأمراء السعوديين أمانة سلفهم في إقامة شرع الله، وتحكيم كتابه وسنة رسوله. فلقد تضامن العلماء والأمراء في عملية الاحتساب، العُلماء لتبيين أحكام الدين، والأمراء للتنفيذ والحِمَاية والردع إذا لزم الأمر؛ إلّا أنه لم ينفرد بالحسبة شخصٌ مُعين في ولاية مستقلة في الدولة السعودية الأولى، وكذا الثانية، وهذا يمتد من قيام الدولة السعودية الأولى إلى نهاية القرن الثالث عشر الهجري وبداية القرن الرابع عشر، في تلك الفترة كان يقوم العالم بالحسبة والقضاء والإفتاء، وفي الوقت نَفْسِه يجلس للتلاميذ. وقبل فتح الرِّياض من قبل الملك عبد العزيز سنة ألف وثلاثمائة وتسعة عشر، وهي بداية قيام الدولة السعودية الثالثة القائمة اليوم، لم يهتم الأمراء الذين كانوا يحكمون بعض المدن والمقاطعات في ذلك الوقت بأمر الحسبة؛ لعدم استقرار الأوضاع السياسية، كذلك فإنّ الحِسْبَة لم تُمارس على المستوى الرَّسْمِي، ولكن كانت تُمارس على المستوى الفردي التطوعي، من قبل بعض العلماء الأجلاء؛ حيث قاموا بما يجب عليهم في هذا الجانب، ومن هؤلاء الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف آل الشيخ، الذي كان يقوم بأمر الاحتساب تطوعًا في مدينة الرياض، عندما فتحها الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود. لكن بعد أن استقرت البلاد واتّسَعَ نِطَاقُ الحُكم قام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بتكليف الشيخ عبد العزيز آل الشيخ؛ ليكونَ أوّل مُحتسب مكلف في الدولة السعودية المُعاصرة، وقد زوده بأعوان ومُساعدين منهم: الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ، والشيخ عبد الرحمن بن إسحاق آل الشيخ،

والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، وإلى جانبهم عدد من الجنود والأعوان الآخرين. واستمر هؤلاء يَقُومون بالاحتساب أحيانًا بمُفردِهم، وأحيانًا أُخرى يستعينون ببعض المتطوعين الصالحين؛ إلى أنْ دَعَمهم الملك عبد العزيز بعد ذلك بالجنود والمماليك، وكانوا رَغْم قلَّتِهم يقومون بواجبات الحسبة على أكمل وجه وأحسنه، وبعد وفاة الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف -رحمه الله- استقر رأي الملك عبد العزيز -يرحمه الله- على جعل أحد الأعضاء وهو الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ رئيسًا لزملائه؛ ليكونَ المسئول عن أعمالهم، وما يَقُومون به من أمر الاحتساب؛ ثم ضَمّ إليه النظر في الحسبة في المنطقة الوسطى والشرقية والحدود الشمالية. فاقتضت المصلحة إيجاد مَقَرٍّ دائم للرئيس العام بالرياض، ثم استدعى التطور والتوسع الحاصل في مدينة الرياض، إنْشاء عِدّة مراكز بمدينة الرياض، ويُعين لكل مَرْكَزٍ عدد من الأعضاء، ورئيسٌ يُدِيرُ شئونهم، ويكون المسئول عن أعمالهم مع تحديد دائرة اختصاصٍ مكاني لكل مركز. أما الحسبة خارج الرياض: فقد عُيّن في كل مدينة وحاضرة مركز هيئة، يقوم بالاحتساب في تلك الناحية؛ ولكُلِّ مَركز من هذه المراكز الخارجية رئيسٌ يَرْتَبِطُ بالرئاسة العامة في الرياض، في الأعمال التي تختصُّ بها. ومع هذا التطور وانتقال الحسبة من التطوع إلى التكليف، والتولية من قبل ولي أمر المسلمين؛ لم يوضع نظامٌ مكتوب يوضح الأسباب والاختصاصات، وشروط التعيين للأعضاء ورؤساء الأقسام والمراكز؛ ويكون مرجعًا يرجع إليه عند وجود أي إشكال. بل كان يرجع في ذلك إلى رأي فضيلة الرئيس العام في كل شيء، حتى في الأمور الإدارية البحتة.

واستمر ذلك إلى أوائل الثمانينيات الهجرية، حيثُ بدأ بعد ذلك يسري عل ى أعضاء الهيئات نظامُ المُوَظّفين والمُستخدمين في الدولة. ومِنْ أوجه تطور العمل بالهيئة في الرياض في تلك الفترة: تعيين مراقبين للتفتيش، وذلك لمراقبة حُسن سير العمل بالفروع عن طريق القيام بجولات مفاجئة لهذه الفروع والمراكز، كذلك أنشئ فرعٌ للقيام بأعمال الدوريات الليلية على الأسواق والأماكن العامة، هذا كله عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الرياض ومُلحقاتها. لكن لما تم توحيد بقية البلاد في الحجاز والجنوب وغيرها؛ أصبح الأمر يتطلب توسيع دائرة هذه الولاية، فصدر الأمر بإنشاء هيئة أخرى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحجاز في مكة، وكانت بدايات ذلك بعد فتح مكة من قبل الملك عبد العزيز -رحمه الله- سنة ألف وثلاثمائة وثلاثة وأربعين، وأربع وأربعين. تم ذلك بعد مكاتبات بين جلالة الملك عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن بوليهد -يرحمه الله- رئيس القضاء في مكة في ذلك الوقت؛ فقد أختارَ الشيخُ في مُذكرة رَفعها إلى الملك عبد العزيز، أوّل رئيس للهيئة في الحجاز وبعض المعاونين له، وكان ذلك في عشرين صفر سنة ألف وثلاثمائة وخمس وأربعين. فأمر جلالة الملك عبد العزيز شرحًا على تلك المذكرة بقوله: "ولدنا فيصل هذا كتابٌ من الشيخ عبد الله بن بوليهد تنظرون في هذا التقرير وتقرونه عليه". انتهى في عشرين صفر سنة ألف وثلاثمائة وخمسٍ وأربعين. وكان مَرْجِعُ الهيئة في مكة عند تَشْكِيلِها نائبَ جَلالة الملك الأمير فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله- تلا ذلك صدور أمر ملكي في 18/ 1/1347 شُكِّل بموجبه الهيئة، ونص هذا الأمر: "بسم الله الرحمن الرحيم نحنُ عبد العزيز بن عبد

الرحمن الفيصل قد قررنا ما يأتي في تشكيل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يكون الشيخ أبو السمح عبد الظاهر رئيسًا، وعبد الله بن عمار، ومحمد نور الهندي، وسليمان الصنيع، وعبد الله المطلق، ومحمد الخضيري، وعبد الرحمن العقل، وعبد الله الخياط أعضاء؛ فعلى نائبنا العام تنفيذ أمرنا هذا". وفي 2/ 3/1347 صدر ملحق لنظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم 1302، وهو مُكَوّن من ثلاث عشرة فقرة، وجاء في هذا الملحق اختيار أعضاء شرفيين للهيئة يجتمعون مع الرئيس كل يوم خميس؛ للتباحث في الأمور الهامة إلّا إذا اقتضى الأمرُ حضورهم أكثر من مرة في الأسبوع، ومُهِمّاتُ الأعْضَاء الشرفيين التوعية العامة بإلقاء المواعظ والدروس في المساجد، لتعليم الناس أحكام دينهم؛ كما قضى المُلحق المذكور تقسيم البلد إلى مَنَاطق بعدد الأعضاء المَعْنيين؛ ويُكلف كلُّ واحدٍ منهم بمنطقته حفظًا ومراقبة. ثم حدث تطورٌ آخر للهيئة حيثُ صدرت موافقة من مجلس الشورى على نظام جديد يقضي بربط الهيئة بمُدير الشرطة العام، وهذا النظام تكون من 31 مادة وكان صدور ذلك في السادس والعشرين من رجب من عام ألفٍ وثلاثمائة وتسعة وأربعين. وظَلّ هذا الاهتمام من الملك عبد العزيز بأمر الحسبة في تواصلٍ مُسْتمر، فنُلاحِظُ مثلًا ما نشره فضيلة الشيخ عبد الله خياط في مجلة (المنهل)؛ وهو قوله: "فعُقِدَ اجتماع مع علية القوم وسراتهم، وأصحاب الحل والعقد من كبار الموظفين في شهر محرم من عام ألف وثلاثمائة وخمسة وخمسين. قرئ فيه منشور من الملك عبد العزيز نصه: "يجبُ أن تنظروا في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تنفيذًا لأمر الله وحفظًا له، كما يجب أن ننظف أنفسنا من الأدران، ونُطَهّرها من كُلّ الأمور المخالفة، وندنو إلى ما يرضي الله،

ونخاف عقوبته؛ إذ ليست هناك عقوبة أشد من عقوبة الدين، هذه البلاد يجب أن تكون قدوة صالحة للمسلمين، في كل عمل من أعمالها؛ فنحن نطلب المساعدة في هذا الشأن منكم ومن الأهليين، نريد أن تكونوا أعوانًا للحكومة في هذا الأمر؛ لأنه إذا كان الجميع اتفقوا على درء المفاسد سَهُلَ العَمَلُ، أما إذا كانت إجبارِيّة صَعُبَ حَلُّها وطال أمْرُها. وإن المساعدة التي نطلبها هي: أولًا: مساعدة الأهالي. ثانيًا: ترتيب طريقة لدرء المفاسد والحيلولة دون الفساد؛ لنتمكن من إقامة الشرع الشريف. فإذا عملنا هذا قمنا باللازم، وهذا أهمُّ ما يَجِبُ العناية به؛ لأنّ الدُّنيا إذا كثرت خيراتها، والدين أهمل فلا فائدة تُرجى منها، بل هذا هو أساس البلاء، أما إذا عُمِّر الدّين ونُفِّذت أوامره، واجتُنبت محارمه صلحت الدنيا، فأنا أرجو أن تفكروا في طاعة الله وفي مخافته، واتباع سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأرجو أن تهتموا بالأمر اهتمامًا شديدًا؛ فبإصلاح هذه المسألة يصلح كل شيء". وفي نهاية ذلك الاجتماع صدر قرار بتشكيل هيئة أخرى تدعى هيئة الأمناء، يُنْتَخب أعضاؤها من كافة محلات مكة، تتعاون مع هيئة الأمر بالمعروف في تنفيذ رغبة الإمام، ونجحت الفكرة حيث أصبح التعاون مبذولًا من قبل هيئة الأمناء عن وازع نفسي، وغيرة على الدين، وانتصارًا لمحارم الله عز وجل. وفي تطور آخر لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: صدر نظامٌ جديد في 15/ 1/1356 يقضي بأن يكون مرجع الهيئات رئاسة القضاة، ويتكون ذلك النظام من ثلاثين مادة، ومُوقع من رئيس القضاة بعد تذيله بهذه العبارة: "جرى

تعديل هذا النظام من قبلي؛ فبلغ بعد إجراء التعديل ثلاثين مادة، ولذا تحرر في الرابع والعشرين من الشهر السادس سنة ألف وثلاثمائة وست وخمسين". رئيس القضاة. وتنص المادة الثامنة والعشرون من النظام آنف الذكر على ذلك الارتباط؛ حيثُ جاء فيها: "جميع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرجعها رئيس القضاة". واستمر هذا الارتباط إلى تاريخ 10/ 2/1372 حيث صدر الأمر بأن يكون ارتباط رئاسة الهيئة بنائب الملك في الحجاز، وبعد إلغاء منصب نائب الملك بالحجاز صار رئيس الهيئة يرجع إلى مجلس الوزراء مباشرة. ثم في توسع آخر لدائرة عمل الهيئة بالحجاز؛ ضُم إلى رئيسها النظر في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جنوب المملكة، وفي يوم السبت الموافق الثالث من الشهر التاسع سنة 1896 صدر مرسوم ملكي يقضي بتوحيد هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة، ودمجها في رئاسة واحدة يكون مقرها الرياض، وهذا هو نص المرسوم: "بسم الله الرحمن الرحيم، بعون الله تعالى نحن خالد بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، بعد الاطلاع على المادتين 19 و 20 من نظام مجلس الوزراء، الصادر بالمرسوم الملكي 38 في 22/ 10/1377. وبعد الاطلاع على قرار مجلس الوزراء رقم 1394 وتاريخ 28/ 8/1396 رسمنا بما هو آتٍ: أولًا: توحيد هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هيئة واحدة، بميزانية واحدة، وتحت رئيس واحد يُعين بأمر ملكي. ثانيًا: يُدمج فصل ميزانية الهيئتين الحالتين في ميزانية واحدة، وفصلٌ واحد تحت مسمى: "الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".

اختصاصات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثالثًا: على نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية والاقتصاد الوطني تنفيذ مرسومنا هذا". توقيع خالد بن عبد العزيز آل سعود. ثم تلا ذلك صدور أمر ملكي يقضي بتعيين فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ؛ رئيسًا للهيئة بمرتبة وزير، كأول رئيس عام للهيئة بعد توحيدها في هيئة واحدة، وقد صدر للرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظام مفصل بعد توحيدها في هيئة واحدة، وهذا النِّظام يحدد الأطر العامة لعمل الهيئة، وكان صدوره في 26/ 10/1400 بموجب المرسوم الملكي رقم "م 37" وتاريخ 26/ 10/1400. ثم تلا صدوره صدور اللائحة التنفيذية لنظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بموجب القرار 2740، وتاريخ 24/ 12/1407. اختصاصات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اختصاصاتها: أي ولاية أو مؤسسة حكومية لا بد عند إنشائها أن تُحدد لها الاختصاصات التي تُحدد مسار عملها، وتُحاسب على أساسها من قبل ولي الأمر، وولاية الحسبة ماضيًا وحاضرًا كانت تحدد لها الاختصاصات؛ إما ضمن خطاب التولية والتقليد كما كان يحدث في الماضي، أو بواسطة نظامٍ ينظم عمل تلك الولاية، بموجب مواد وفقراته واللوائح التنفيذية له. والحسبة في المملكة العربية السعودية، التي اتخذنها نموذجًا للحسبة القائمة اليوم، حُددت لها اختصاصات: ولعل من المُناسب أن نذكر اختصاصات الهيئة في الماضي، قبل أن نذكر اختصاصاتها في الحاضر؛ فنقول:

كانت الحسبةُ في المملكة العربية السعودية وإلى أوائل الثمانينيات الهجرية من القرن الرابع عشر؛ كانت تُمارس صلاحيات واسعة، لم تكن تقوم بها فيما بعد نظرًا لتوزيع بعضها إلى جهات أخرى، ولصدور نظامٍ مكتوب، يحدد تلك الاختصاصات. ونستطيع أن نجمل الاختصاصات التي كان يمارسها رجال الحسبة في ماضي هذه الحسبة في الآتي: كان أعضاء الهيئة "المعرفون برجال الحسبة" يطُوفون في الأسواق، فيمنعون الاختلاط والسفور، ووقوف الرجال في طريق النساء لغير حاجة، ويراقبون تطفيف المكاييل والأثمان والموازيين، ويمنعون الغش بمختلف صوره في المبيعات والأثمان، ويُراقبون أهل الحرف؛ ويأخذون على أيدي من يضبطونه يغش أو يتحايل على زبائنه، ويمنعون من ظلم الدواب عند تحميلها واستخدامها، ويُراقبون الأئمة والمؤذنين، ويشرفون على تعينهم واختيارهم. كما كانوا يمنعون الحلاقين من التعرض للحَى زبائنهم بحلق، ويؤدبون من يفعل الشيء من ذلك، ويمنعون الحلاقة المنهي عنها شرعًا، كما يمنعون التدخين ويؤدبون عليه، ويصادرون الدخان من الأسواق والدكاكين ويحرقونه، ويؤدبون بائعيه؛ ويُنادون للصلاة ويحثون عليها، ويقيمون الناس لذلك، وإذا عثروا على من ارتكب حدًّا رفعوا أمره إلى رئاستهم؛ فيتولى المحققون فيها التثبت من ما فعله المُتهم، ثم يرفعون نتائج التحقيق إلى الرئيس العام، فيُصدر بدوره من يلزم من جلدٍ أو نفيٍ أو حبس. وكانوا يمنعون تصوير ذوات الأرواح، ويكسرون صورها، ويمنعون اللهو المُحرم، ويكسرون ما يجدون من آلاته بدون أي قيد، ومهما كان ثمنها, كما أنّ

الأعضاء كانوا يجتمعون في مراكزهم بعد صلاة العشاء، ثم يقومون بدوريات على الأحياء والدروب والأسواق بعد منتصف الليل، ومن وجدوه في حالة مشبوهة أو كان شخصًا غير معروف بالاستقامة؛ كان نصيبه التحقيق والإنكار، ورُبما التوقيف في المركز إلى الصباح، ويزجرون على ما يصدر من المنكرات في حفلات الزواج، مثل الاختلاط واللهو المحرم. وهذه الدوريات تُعتبر ضمن عمل كل مركز، زيادة على أن الرئيس العام يعاونه مجموعة من الرجال الأشداء أعضاء وجنودًا من الشرطة، يطوفون على أقدامهم قبل دخول السيارات، ثم صاروا يستخدمون السيارات في تنقلاتهم ودورياتهم بعد توفرها، ويستمرون في هذه الدوريات حتى وقت السحر، وكان يوجد بالهيئة سجنٌ خاصٌ بالهيئات، يودعون فيه من يجدونه من المذنبين، فيقضون فيه ما حكم به عليهم من حبس. وعلى هذا يتضح لنا عدم تحديد وتحجيم صلاحيات واختصاصات رجال الحسبة في بداية قيامها، بل كان عملهم واختصاصاتهم تدخل في كل أمر يُخالف أوامر الشريعة، ويُوجب احتساب تمامًا مثل ما كان عليه عمل المحتسب في الماضي يوم كانت ولاية الحسبة تؤدي في ذلك الوقت ما تقوم به العديد من الوزارات والمصالح الحكومية اليوم. أما اختصاصات الهيئة في الحاضر؛ فقد تقلصت هذه الاختصاصات، وفي استعراضنا لنظام الهيئة ولائحته التنفيذية، نقف على حدود تلك الاختصاصات التي حُددت للهيئة في الوقت الحاضر؛ ففي المادة التاسعة من نظام الهيئة، الصادر بالمرسوم الملكي رقم

"م 37" وتاريخ 26/ 10/1400 ولائحته التنفيذية الصادرة بالقرار "2740" وتاريخ 24/ 12/1407 التي جاء في بابها الأول ما نصه: "على أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القيام بواجبات الهيئة، والتي أهمها: إرشاد الناس ونصحهم لاتباع الواجبات الدينية المقررة في الشريعة الإسلامية، وحملهم عن أدائها، وكذا النهي عن ارتكاب محرمات والممنوعات شرعًا، واتباع العادات والتقاليد السيئة أو البدع المنكرة، ويكون ذلك بإتباع الآتي: أولًا: حثُّ الناس على التمسك بأركان الدين الحنيف؛ من صلاة وزكاة وصوم وحج. وعلى التحلي بآداب كريمة، ودعوتهم إلى فضائل الأعمال المقررة شرعًا كالصدق والإخلاص، والوفاء بالعهود، وأداء الأمانات، وبر الوالدين، وصلة الأرحام ومراعاة حقوق الجار، والإحسان إلى الفقراء والمحتاجين، ومُساعدة العجزة والضعفاء، وتذكير الناس بحساب اليوم الآخر، وأنّ من عمل صالحًا فلنفسه، ومن أساء فعليها. ثانيًا: لما كانت الصلاة عمود الدين يتعين على أعضاء الهيئة مراقبة أقامتها في أوقاتها المحددة شرعًا في المساجد، وحثّ الناس على المسارعة إلى تلبية النداء إليها، وعليهم التأكد من إغلاق المتاجر والحوانيت، وعدم مزاولة أعمال البيع في أوقات إقامتها. ثالثًا: مراقبة الأسواق العامة، والطرقات والحدائق، وغير ذلك من الأماكن العامة. والحيلولة دون الوقوع في المنكرات الشرعية الآتية: 1 - الاختلاط والتبرج المحرمين شرعًا. 2 - تشبه أحد الجنسين بالآخر.

3 - تعرض الرجال للنساء بالقول أو الفعل. 4 - الجهر بالألفاظ المخلة بالحياء والمنافية للآداب. 5 - تشغيل مذياع أو تلفزيون أو مسجلات، وما ماثل ذلك بالقرب من المساجد أو على نحو يشوش على المصلين. 6 - إظهار غير مسلمين لمعتقداتهم وشعائر مللهم، أو إظهار عدم الاحترام لشعائر الإسلام وأحكامه. 7 - عرض أو بيع الصور المجسمة والكتب والتسجيلات المرئية والصوتية، المنافية للآداب الشرعية، أو المخالفة للعقيدة الإسلامية اشتراكًا مع الجهات المعنية. 8 - عرض الصور المجسمة والخليعة أو الشعارات الملل الغير إسلامية، كعرض الصليب أو ما يسمى بنجمة داود، أو صور بوذا وما ماثل ذلك. 9 - صنع المسكرات، أو ترويجها أو تعاطيها اشتراكًا مع الجهات المعنية. 10 - منع دواعي ارتكاب الفواحش مثل: الزنا واللواط والقمار، أو إدارة البيوت والأماكن التي تُرتكب فيها الفواحش. 11 - البدع الظاهرة: كتعظيم بعض الأوقات أو الأماكن غير المنصوص عليها شرعًا، أو الاحتفال بالأعياد والمناسبات البدعية غير الإسلامية. 12 - أعمال السحر والشعوذة والدّجل؛ لأكل أموال الناس بالباطل. 13 - تطفيف الموازين والمكاييل. 14 - مُراقبة المسالخ للتحقق من الصفة الشرعية للذبح. 15 - مراقبة المعارض ومحلات حياكة النساء.

وباستعراضنا لهذه الاختصاصات التي تقوم بها الهيئة اليوم، بالرغم من توزيع بعض الاختصاصات إلى جهات أخرى؛ فإن المتأمل في هذه الاختصاصات يُدرك أنّ الهيئة لا زالت تؤدي دورًا بارزًا في المحافظة على الفضيلة، ومُحاربة الرذيلة والجريمة، وبشكل أساسي وفعلي، وليس كما كان يعتقد الكثيرون من عامة الناس اليوم من أنّ دور الهيئة محصور في التنبيه على الصلاة، ومتابعة المتخلفين عنها. ومن هنا نرى: أن الهيئة لازالت تقوم بهذا الدور البناء؛ في مكافحة الجريمة وإنكار المنكر، وإقامة المعروف في مجالات أخرى غير الصلاة عديدة: من أظهرها -وقد تقدم بعضه-: القيام بمنع الاختلاط والسفور في الأسواق والبنوك، وكذلك المساهمة في مكافحة المخدرات، وسائر السموم الأخرى من مسكرات وغيرها، ومنع كل ما يتعارض مع الآداب الإسلامية؛ كالتقليد والخنفسة. وكذلك محاربة البدع والشعوذة والسحر، وكل ما يتصادم مع عقيدة المسلم الصحيحة، ومراقبة ومتابعة عمل المحلات التي لها علاقة بالنساء كمحلات الخياطة النسائية، ودور الأزياء ومحلات تصفيف الشعر، ومتابعة كل الجرائم والقضايا الأخلاقية؛ لا سيما التي يتم القبض على أصحابها من قبل الهيئة. كما أن من اختصاصات الهيئة محاربة الأفكار الهدامة، التي تنشر عن طريق الكتب والنشرات، ويُقصد منها الإساءة للدين الإسلامي، والتشويش على أفكار المسلمين. وفي مقابلة أجريت مع وكيل الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ نقف على بعض الحقائق التي تُثبت أنّ الهيئة لا زالت تقوم بدور هام وحيوي وفي عدة مجالات؛ فهو يقول:

"قد يظهر لأول وهلة أن مهمة رجل الهيئة مقتصرة على موضوع توجيه الناس وحثهم على أداء الصلاة، وهذا بلا شك من أولويات ما يقوم به رجل الحسبة في الهيئة, ولكن هناك مُهمات أخرى كثيرة يقوم بها رجال الحسبة في الهيئة؛ فالهيئة لها تعاون كبير مع كثير من الدوائر الحكومية؛ كالبلديات في ما يتعلق في مكافحة الغش التجاري، وكذلك للغرض نفسه مع وزارة التجارة، والهيئة لها تعاونٌ أيضًا مع الإدارة العامة لمكافحة المخدرات. والأمثلة على التعاون فيما يتعلق بالمخدرات كثيرة، ولنا تعاون مع أقسام الشرطة في قضايا كثيرة، واللائحة التنظيمية تبين اشتراك الهيئة مع الشرطة في التحقيق في القضايا الأخلاقية، وإن التحقيق في جميع مراحله يتمذ بالاشتراك الفعلي من الطرفين، وقد عمم بذلك من قبل الأمر العام بالتعميم رقم "1588 س ح ع" في 23/ 6/1394 وصدر في ذلك الأمر الملكي رقم "36 ثلاثمائة خمس وثلاثين" في 21/ 11/1394. ومن أمثلة القضايا التي يتم التعاون فيها مع أقسام الشرطة: ضبط المعاكسين والمتسكعين في طرق النساء، ولنا متابعة واهتمامٌ فيما يتعلق بمحلات خياطة النساء، وكذلك مع وزارة الحج والأوقاف؛ كما أنّ الهيئة لها مشاركة فعالة مع كثير من اللجان الحكومية، ومن أمثلة ذلك: تقرّر أن يكون رئيس الهيئة في المدينة والقرية، أحد أعضاء اللجنة اختبار الأئمة والمؤذنين مع قاضي البلدة؛ تكونت لجنة من أمارة الرياض وأمانة مدينة الرياض، وعضو من الهيئة لدارسة ظاهرة وجود نساء في الأسواق؛ لغرض بيع الكراتين الفارغة، وأن وجودهن في الأسواق قد يسبب شيء من الفساد. مُشاركة الهيئة مع المجمعات القروية، من أجل تنمية وتطوير القرى بالمملكة؛ فيما يتعلق بالمقابر والمسالخ، وأماكن بيع الأسوقة، شاركت الهيئة بمندوب

لدارسة ظاهرة انتشار محلات الألعاب الإلكترونية، لما لها من سلبيات، وانتهت الدارسة بمنع فتح المحلات الجديدة، وإغلاق ما فتح منها. كما شاركت الهيئة التي قامت لمحاربة وضع انتشار ظاهرة التسول، التي يقوم بها بعض الأجانب وقلة من المواطنين". وفي نهاية المقابلة التي أجريت مع فضيلة الشيخ إبراهيم بن غيث، قال فضيلته: "وهنا سؤال ذو أهمية بالغة: ما هو السر في عدم إبراز هذه الأنشطة وغيرها، مما جعل البعض يتصور أنّ عمل الهيئة قاصر على الصلاة كما قدمنا؟ ثم يجيب على هذا التساؤل بقوله: إنّ السبب هو أنه لا توجد تغطية إعلامية لمثل هذه الأنشطة؛ فالناسُ لا يشاهدون إلا عضو الهيئة وهو ينبه للصلاة، وهو في الوقت نفسه لا يُشاهدونه وهو يخطط للقبض على مروج المخدرات أو المسكرات، أو من يعاكس أو يتعرض لعورات المسلمين. إذن فمثل هذه الأمور لا تعرف إلا عن طريق وسائل الإعلام؛ لأن طبيعة القيام يتم بطرق خفية". ويضيف فضيلة وكيل الرئيس العام: "ومع كل ما تقدم وغيرها من المجالات التي يغطيها عمل الهيئة، لا تقوم بعمل المحتسب سابقًا؛ سواء في العصور الإسلامية الماضية، أو في أول نشأة الهيئات في عهد الملك عبد العزيز يرحمه الله, ولعل السبب في ذلك: أن بعض مهمات الاحتساب في هذا الزمن قد أسندت إلى جهات أخرى كثيرة، وأنا أعتقد أنّ هذا ضرورة من ضروريات العصر؛ لتنوع الاختصاصات، وظهور كثير من الاكتشافات العلمية الدقيقة، وتنوع الأساليب والوسائل في الحياة؛ مما يتطلب إحاطة دقيقة بهذه الأمور؛ حتى يكون الاحتساب سليمًا ويؤدي دوره المطلوب.

إذ لو ربطنا كل أمور الاحتساب بالهيئات؛ للزم أن يكون من ضمن رجال الهيئات الأطباء والصيادلة والمعماريون، وفني هندسة السيارات والقطارات والطائرات ... إلخ. وللزم أن يكون فيها الأخصائيون العسكريون ونحو ذلك، وهذا شيء يشق ولا تستطيع هيئة أو جهة حكومية واحدة أن تقوم به؛ لذا اقتضت المصلحة أن تكون كل وزارة أو جهة ذات اختصاصات معنية هي بعملها". وزيادة في الاطلاع والوقوف على تفصيلات أكثر حول اختصاصات الهيئة اليوم، والتي شملت مجالات ليست قليلة؛ فإنني رأيت أن نثبت بعضًا من الصور الحزبية الموثقة بقرارات وتعميم، ومكاتبات تمت من الهيئة في شأن تلك الصور الحزبية المختلفة؛ فمن هذه المكاتبات: الكتاب الموجه من الرئيس العام للهيئة إلى جميع الهيئات؛ يُؤكد ملاحظة الأندية الرياضية، ومنعها من إقامة ومزاولة الأنشطة الرياضية أثناء وقت الصلاة، بالخطاب التعميم المؤرخ في 5/ 9/1398. ووجه خطاب من رئيس هيئة الرياض برقم "42912" في 11/ 7/1403 إلى مدير الشركة النظافة بالرياض؛ بخصوص عدم التزام عمال النظافة ترك العمل وقت الصلاة، والمُكاتبات التي تتم من الهيئة لجهات عديدة في الدولة بشأن الصلاة كثيرة جدًّا، ويَصعب حصرها في هذا المجال. أما في ما يتعلق بالبدع والمنكرات؛ فقد صدر توجيه فضيلة الرئيس العالم للهيئة إلى جميع الهيئات بخطاب مؤرخ في 27/ 6/1399 ونصه ما يلي: "تعلمون وفقنا الله وإياكم إلى طريق الحق؛ أهمية الرسالة السماوية الشريفة، والأمانة الهامة العظيمة الملقاة على عواتق الأمة الإسلامية، ورجال الحسب بصفة خاصة؛ ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وبالنظر لما لُوحظ في الآونة الأخيرة من انتشار بعض المنكرات، والظواهر في هذه البلاد، والتي تتنافي مع العقيدة الإسلامية السامية، والسنة النبوية المطهرة؛ التي قام بنشرها وترويجها أعداء الأمة الإسلامية، من أصحاب المذاهب الباطلة، والمبادئ الهدامة، والأفكار السامة والعقائد الفاسدة، والتيارات المضللة في المجتمعات الإسلامية، من أجل تقويض صرح الإسلام، وإذلال شأنه، وإضعاف مكانة أهله؛ حتى أثر ذلك على بعض أصحاب النفوس الضعيفة، والعقول السخيفة في مجتمعنا هذا؛ وذلك في تقليدهم تقليدًا أعمى لهذه الفئة الضالة؛ حتى أثر هذا على سلوكهم وتصرفاتهم. ولخطورة هذا الأمر على المجتمع المسلم؛ فإن من الواجب محاربة المنكرات والبدع، التي تتنافى وروح العقيدة الإسلامية امتثالًا لقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110). وما حصل من التساهل والتسامح في المنكرات، وعدم الاكتراث بخطورتها؛ فإن ذلك يوحي بخطر عظيم، وعقوبة وخيمة على المسلمين، ومن هذا المنطلق فإنه إيمانًا من هذه الرئاسة بأهمية دورها في المجتمع، وبحكم ما أنيط بها من واجبات ومسؤوليات؛ تهدف إلى إقامة الشعائر الإسلامية، وإعلاء كلمة "لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله" وإعزاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل على تحقيق الفضيلة ومحاربة الرذيلة. فإنكم تعلمون اهتمامي شخصيًّا بهذا الواجب المقدس؛ وأعطيتكم تعليماتي المشددة الرامية إلى إزالة كل ما يتعارض مع الدين الإسلامي، مما يدخل في اختصاصكم؛ بل وحملتكم الأمانة في كل تقصير يحصل، وعليكم الرفع لنا

عن كل ما يصادفكم من مشاكل ومصاعب، تحول دون تحقيق الغرض المنشود على الوجه الأفضل، لإعطائكم التوجيه اللازم". الرئيس العام. ولو حاولنا أن نتتبع أنشطة الهيئة في مجالات الحياة كلها لطال بنا الحديث؛ فللهيئة عملها ونشاطها في الأسواق، وفي الهيئات، وفي المحلات، وفي المنتزهات داخل المدن وفي أطرافها، وفي آخر استعرضنا لاختصاصات ومشاركة الهيئة في العديد من النشاطات؛ نثبت هنا بعض الصور الحزبية فيما يتعلق بالإعلام، فالهيئة وإن كانت لا تملك القرار فيما يعرض وينشر عبر وسائل الإعلام، إلا أنها وبحكم مهمتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ تُكاتب المسئولين في الإعلام عن بعض السلبيات التي تظهر، ومن ذلك مثلًا: ما رفعه المشرف العام بفرع الرئاسة إلى مدير عام المطبوعات بوزارة الإعلام حول نشر بعض الجرائد لصور النساء، على سبيل الدعاية بموجب مرفوعه رقم "5289/ 1" وتاريخ 8/ 11/1404. أما التليفزيون وملاحظة ما يعرض فيه؛ فقد صدر كتاب لوكيل الرئيس العام للهيئة؛ موجه لوكيل وزير الإعلام لشئون التليفزيون، برقم 2699 وتاريخ 7/ 7/1404 ومضمون الملاحظة والخطاب: أنّ التليفزيون أصبح في تلك الفترة يقدم برامج ومسلسلات لا تسر وتستحق الإنكار، وهذا مثال وغير كثير من الصور الحزبية في شأن وسائل الإعلام لا سيما التليفزيون. وفي ختام هذا الاستعراض لبعض نشاطات الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من خلال ما حُدد لها من اختصاصات نقول: إن كان ما أشرنا إليه يدل على سعة عمل الهيئة؛ فإنّ ما أسند من اختصاصاتها إلى جهات حكومية أخرى هو أكبر مما قد يتصوره البعض. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 17 الآثار المترتبة على ترك المسلمين الحسبة.

الدرس: 17 الآثار المترتبة على ترك المسلمين الحسبة.

عواقب ترك الحسبة والقعود عنها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (الآثار المترتبة على ترك المسلمين الحسبة) عواقب ترك الحسبة والقعود عنها إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: إن شرائع الإسلام لا تقوم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لذا فقد أوجبه الله -سبحانه وتعالى- على الأمة؛ فقال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (آل عمران: 104). فإن قامت هذه الأمة بهذا الواجب، فإنها تكون عزيزة مهابة الجانب متبوعة، وتتسنم قيادة الأمم، بل تكون مصدر خير للناس جميعًا تقودهم إلى ما فيه عزهم وتمكينهم ونجاتهم من عقاب الله تعالى في الدنيا وعذابه في الآخرة، حيث يقول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} (آل عمران: 110)، كما قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُو ر} (الحج: 40، 41). وتكون بذلك قد أدت ما عليها، ونالت رضا ربها -عز وجل- وتجنبت مقته وسخطه -سبحانه وتعالى- وعقوبته إياها، وإذا قصرت الأمة في أداء هذا الواجب، فإنها ستكون عرضة لعقاب الله -عز وجل- وسخطه، وستجري عليها سنن الله تعالى في هذا الكون التي لا تتأخر عن القوم الظالمين، وهذا هو العدل المطلق، فليس بين الله -سبحانه وتعالى- وبين أحد نسب، وليس هناك محاباة في سنن الله -عز وجل. وقد تحدثنا عن فوائد الحسبة في الدرس الأول من هذه المادة، وعرفنا ما يترتب من الخير على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى ضوء ما قدمنا من فوائد الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر فإننا نستطيع أن نفهم عواقب التقصير في هذا الواجب، وتتلخص فيما يلي: أولًا: التعرض للغضب، والسخط الإلهي في الدنيا المتمثل في اللعن والطرد من رحمة الله -عز وجل- مع التباغض والفرقة والخلاف. في الحديث عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن من كان قبلكم من بين إسرائيل إذا عمل فيهم العامل الخطيئة فنهاه الناهي تعزيرًا، فإذا كان من الغد جالسه وآكله وشاربه كأنه لم يره على الخطيئة بالأمس، فلما رأى الله تعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على أيدي المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرًا، وليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ويلعن كم كما لعنهم)). كما يتمثل الغضب والسخط في تأمير الأشرار الذي يسومون الناس سوء العذاب مع عدم إجابة دعاء الأخيار، فعن أبي الرقاد قال: خرجت مع مولاي، وأنا غلام فدفعت إلى حذيفة- يعني: ابن اليمان- وهو يقول: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيصير منافقًا، وإني لأسمعها من أحدكم في ال مقعد الواحد أربع مرات: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحاضن على الخير -أي: ليحض بعضكم بعضًا على فعل الخير- وليسحتنكم الله جميعًا بعذاب وليأمرن عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم".

كما يتمثل سخط الله وغضبه على الذين تركوا القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الخذلان والهزيمة، وتمكن العدو منهم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت الظالم، فقد تودع منهم)) أي: استريح منهم وخذلوا، وخلي بينهم وبين ما يرتكبون من المعاصي. ثانيًا: من العقوبات تمكن الباطل وسيادته، وذلك يؤدي إلى أن تتحول الأرض إلى بؤرة من الشر والفساد قال الله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251) وقال سبحانه: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج: 40). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، فلم نؤذِ من فوقنا فلو تركوا وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)). ثالثًا: إعطاء الكسالى والمقصرين من الناس المبرر للقعود بدعوى أنهم لم يجدوا من يرشدهم، ويأمرهم وينهاهم ويدلهم على الله تعالى. رابعًا: تضييع طائفة كبيرة من الناس تتمتع بنفس شفافة وفطرة نقية، ولكن صرفتها عن الالتزام بالإسلام والعمل له صوارف الحياة، ولعل هذا والذي قبله مما نفهمه من قول الله تعالى: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون} (الأعراف: 164). خامسًا: مقت الرأي العام المسلم الحر الذي يحرس آداب الأمة، وأخلاقها وفضائلها، وحقوقها، ويجعل لها الشخصية وسلطانًا هو أقوى من القوة، وأنفذ من القانون.

ما كانت عليه المملكة العربية السعودية قبل توحيدها، وما صارت إليه بعد توحيدها.

سادسًا: فقدان الناس لمعنى الأمن في أنفسهم، وفي أهليهم وذويهم وأموالهم الأمر الذي يؤدي إلى الكسل والتواني، والقعود عن أداء الواجب، وقد أشار الحديث إلى كل هذه العواقب؛ حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). فهذه هي عواقب ترك الحسبة والقعود عنها والتخلي. ما كانت عليه المملكة العربية السعودية قبل توحيدها، وما صارت إليه بعد توحيدها ولما كنا قد ذكرنا نموذجًا للحسبة القائمة في هذا العصر ممثلًا في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمملكة العربية السعودية، فنحن ونحن نتحدث عن الآثار السيئة المترتبة على ترك الحسبة نذكر ما كانت عليه المملكة العربية السعودية قبل توحيدها، وما صارت إليه بعد توحيدها، ما كانت عليه قبل توحيدها من الفوضى والقلق والفقر، وانتشار الفواحش وفساد الأخلاق، وذلك لغياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وافتقاد ولاية الحسبة، وما آل إليه أمر المملكة بعد توحيدها بفضل الله، ثم بوجود المحتسبين الممثلين في العاملين بهيئة المعروف والنهي عن المنكر. فنقول -وبالله تعالى التوفيق-: كانت تلك البلاد قبل توحيدها على يد الملك عبد العزيز -يرحمه الله- تتكون من عدة أقاليم وإمارات صغيرة، وكثيرًا ما كانت الحروب الطاحنة تقع بين إمارات متجاورة وبين قبيلة وأخرى على أتفه الأسباب نتيجة الطمع في الأموال والثأر. أما البادية فكانت تسودها الأعراف والأنظمة القبيلة، ويسيطر عليها رؤساء القبائل، وكانت الغارات والمناوشات تقع بين تلك القبائل، فكانت القبيلة تغير على القبيلة الأخرى لتأخذ ما لديها من المواشي، وتغير على القرى لتنهب

الأموال والأغنام، وكان ذلك في عرف هذه القبائل جائزًا ويعتبرونه غنيمة، فالقوي يأكل الضعيف، بل يعتبرون ذلك ضربًا من ضروب الشجاعة ويفتخرون به، وخصوصًا في بادية نجد والشمال. وكانت الفوضى ضاربة بأطنابها في هذه المجتمعات غير آبهة بشرع أو دين إلا ما يمليه عليها الهوى والشهوات. كما كان الجهل بأمور الشرع وأحكامه سائدة، وكانت الخرافات منتشرة بين أهل تلك البلاد، وقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضعيفًا في كثير من مدن وقرى شبه الجزيرة العربية قبل توحيدها من قبل الملك عبد العزيز -رحمه الله- بل إنه لا يكاد يوجد إلا في بعض البلدان والأمن مفقود، والخوف منتشر في تلك البلاد حيث كانت تسودها الفوضى والسلب والنهب من أبناء البادية، وغيرهم مما جعل أهل القرى والبلدان يبنون أسوارًا حول قراهم، ويجعلون عليها بوابات تغلق ليلًا كما يشيدون أبراجًا وحصونًا لحماية بلدانهم مع وضع نقاط مراقبة على الجبال المحيطة بالبلدة أو القرية خوفًا من الغارات، ولا يزال بعض هذه الحصون والأبراج موجودًا حتى الآن مما يدل على انتشار الخوف واضطرا ب الأمن آنذاك. ولم يكن الوضع في إقليم الحجاز بأفضل منه في سائر أرجاء الجزيرة العريبة، بل كانت الفوضى منتشرة في هذا الإقليم، وكان الحجاج القادمون إلى بيت الله الحرام لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم نتيجة إغارة القبائل المجاورة لمكة على قوافلهم أو من بعض اللصوص وقطاع الطرق المتربصين بتلك الحملات والقوافل على طول طريقها؛ فلا يستطيع الحجاج العبور إلى مكة إلا أن تكون القافلة قوية، ومزودة بسلاح، أو هناك من يحيمها من القبائل المجاورة لقاء دفع مبالغ معينة، وهي المعروفة بالإتاوات.

وكان الحجاز محطة لعصابات النهب والسلب وخصوصًا في موسم الحج مما جعل بعض الحجاج يكتبون وصاياهم قبل سفرهم، ويصطحبون معهم أكفانهم لتوقعهم الهلاك؛ حيث كان الحج آنذاك مظنة هلاك نتيجة الفوضى والاضطراب، واختلال الأمن حتى قيل في الأمثال: "الذاهب مفقود والعائد مولود". ومما يدل على ذلك الاختلال ما سطره الشاعر أحم د شوقي -رحمه الله- في قصيدة له بعثها للسلطان عبد الحميد يصف فيها اختلال الأمن في الحجاز وحالة الحجيج، فيقول: ضَجَّ الحِجازُ وَضَجَّ البَيتُ وَالحَرَمُ ... وَاِستَصرَخَت رَبَّها في مَكَّةَ الأُمَمُ أُهينَ فيهاضُيوفُ اللَهِ وَاِضطُهِدوا ... إِن أَنتَ لَم تَنتَقِم فَاللَهُ مُنتَقِمُ أَفي الضُحى وَعُيونُ الجُندِ ناظِرَة ... تُسبى النِساءُ وَيُؤذى الأَهلُ وَالحَشَمُ وَيُسفِكُ الدَمُ في أَرضٍ مُقَدَّسَةٍ ... وَتُستَباحُ بِها الأَعراضُ وَالحُرَمُ الحج ركن من الإسلام نكبره ... واليوم يوشك هذا الركن ينهدم ويقول الشيخ عبد القادر عودة -رحمه الله- واصفًا حالة الفوضى واختلال الأمن في الحجاز في تلك الفترة: "ولا يزال الناس يذكرون كيف كان الأمن مختلًّا في الحجاز، بل كيف كان الحجاز مضرب الأمثال في كثرة الجرائم وشناعة الإجرام، فقد كان المسافر فيه كالمقيم لا يأمن على ماله، ولا على نفسه في بدو أو حضر في نهار وليل، وكانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة؛ لتأمين سلامتهم، ورد الاعتداء عنهم، وما كانت هذه القوات الخاصة، ولا القوات الحجازية قادرة على إعادة الأمن، وكبح جماح العصابات، ومنعها من سلب الحجاج أو الرعايا الحجازيين وخطفهم والتمثيل بهم".

ويعود السبب في ذلك كله؛ لشدة الفقر المنتشر بين تلك القبائل والجهل بأحكام الدين، وضعف السلطة الموجودة آنذاك وإهمالها، فلا يوجد من يضرب على أيدي المجرمين في قطاع الطرق، ويحمي الأمن ويقيم الحدود كما كانت الرذيلة، والفواحش وتعاطي المسكرات منتشرة في بعض بلدان الحجاز نتيجة قلة الوازع الديني، وضعف السلطة وإهمالها، وغياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث لم يكن هناك من يمنعها أو يسعى في إبطالها وتطهير هذه البلاد المقدسة منها. أما في إقليم الإحساء، فكانت الفوضى سائدة، وكل قبيلة من القبائل في هذا الإقليم تغير على الأخرى، وكانت العصابات تغير على الحملات التجارية التي تأتي من وإلى هذا الإقليم؛ لتأخذ ما معها من أموال أو أرزاق، ولا يحميها من هذه الغارات إلا أن تدفع مبلغًا من المال إتاوة لكل قبيلة تمر بأراضيها حتى تسلمها للقبيلة الأخرى المجاورة، وهكذا حتى تعود سالمة بعد أن تدفع الأموال لتلك القبائل مقابل الحماية من اللصوص، وقطاع الطرق من أفراد تلك القبائل. ولم يكن الوضع في جنوب شبه الجزيرة بأفضل من سابقه حيث كانت الإمارات التي تعاقبت على إقليمي عسير وجازان ضعيفة، وكانت غير قادرة على ضبط تصرفات أفراد القبائل، وكان الجهل والفقر الشديدان من أسباب انتشار الفوضى والجرائم، والمنكرات في العقائد والسلوك. وعمومًا فإن الوضع في كافة أنحاء شبه الجزيرة العربية قبل توحيد المملكة العربية السعودية سيئ للغاية حيث كان الأمن مضطربًا، والجهل والفقر والمرض متفشيًا في أبناء تلك البلاد.

يقول اللواء عبد العزيز محمد الأحيدب واصفًا ما وصلت إليه البلاد في تلك الحال آنذاك: "فالقوي يبطش بالضعيف، والتاجر لا يأمن على أمواله وتجارته، والمسافر لا يأمن على زوجه وحياته، ورب الأسرة لا يأمن على أفراد عائلته، والقبيلة لا تأمن على كيانها من القبيلة الأخرى من ذعر ورعب أقل ما يقال عنها: إنها البدائية المفرطة في حدتها، والجهالة البالغة التي لا حد لفتكها، وهذا كله ناتج عن غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم وجود سلطة قوية تقوم على ذلك الأمر، وتحفظ على الناس أمنهم، وتقيم فيهم حدود الله تعالى، وتحكم بينهم بالعدل على هدي من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- مما جعل الأشرار والفساق يعيثون في الأرض فسادًا، وقد استفحل شرهم، وتطاول بطشهم بالضعفاء والمساكين، فكانوا يسلبون وينهبون الأموال، بل حتى الملابس التي تستر عورات الناس، وينتهكون الأعراض ويسفكون الدماء من غير وازع من إيمان، أو رادع من سلطان، أو خوف من عقاب، حيث لم يكن هناك من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أو ينصر الضعيف، وذلك لبعد الناس عن دينهم، وجهلهم، وضعفهم أمام تسلط الأشرار واللصوص من أبناء البادية". وقد ذكر المؤرخون أنواعًا شتى من العقوبات التي حلت بالناس في ذلك الزمان، والتي تناقلها الرواة وكتب عنها المؤرخون، وأفاضوا في وصف حالة الضيق والضنك والفقر والفتن والحروب، واختلال الأمن والمجاعات التي مرت بالناس في تلك الأيام، ومن ذلك: انتشار الخوف والقتل واختلال الأمن، فكانت البلاد قبل توحيدها مرتعا للفتن والقلاقل، وذلك لضعف الوازع الديني في النفوس من ناحية، ولضعف السلطة الحاكمة في كل إقليم من أقاليمها، وعجزها عن حفظ النظام والأمن، وإقامة الحدود الشرعية على المتعدين على حدود الله -عز وجل- من ناحية أخرى، حيث كانت القبائل تغير بعضها على بعض، فتقتل الرجال

وتسلب السلاح والأموال، والقوي يأكل الضعيف، كما كانت الغارات الانتقامية للأخذ بالثأر مستمرة ومتواصلة، ولا تقتصر على القاتل فحسب بل تتعداه إلى أي فرد من أفراد القبيلة، وذلك لسيادة الأعراف والعادات القبلية الجاهلية. ولم يكن الحضر من سكان المدن والقرى بمنأى عن الخطر، فكان بعض الأعراب يغيرون على المدن والقرى وينهبون ويسلبون الأموال، ويغيرون على المواشي ويأخذونها من غير وازع من إيمان أو رادع من سلطان. وفي نجد والإحساء كان الناس متعادين متفرقين ليس فيهم ملك ولا إمام، ولا يسودهم شرع ولا نظام يقتل بعضهم بعضًا، ويأكل قويهم ضعيفهم، لا يتناهون عن منكر فعلوه، ولا يؤطرون على فرد تركوه. وكانت الحروب الطاحنة تقع بين القبائل على موارد المياه أو المراعي ولأتفه الأسباب، وكانت القبائل متنافرة ومتناحرة، وكثيرًا ما يقع حروب بين القبائل البدوية في الشمال ونجد مثل: حرب وقحطان والدويبة والدواسر، وغيرها من القبائل. ولم تكن الحال في جنوب البلاد بأحسن منها في أواسطها، فقد كانت عسير تحت حكم الأتراك، وكان المخلاف السليماني تابعًا لمنطقة عسير حيث كان الأمن مضطربًا في هذا الإقليم، وكانت الفتن القبيلة والحروب الطاحنة تعصف بتلك الجهات، ولم يعد في استطاعة الإدارة التركية القبض على زمام الأمن في البلاد، بل إن القبائل بعد التقاتل المرير تعقد هدنة بينها حسبما تستعديه مقتضيات الأمور وتفرضه الظروف، ولكن سرعان ما تندلع الفتنة بين حين وآخر على أقل سبب، وهذه كلها عقوبات دنيوية نتيجة عدم القيام بالأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر، ولعدم وجود سلطة قوية تتولى إقامة الشريعة، وتعاقب الخارجين على النظام وتقيم الحدود وذلك مصداقا لقول الله تعالى: {وَات َّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} (الأنفال: 25). ولما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو بكر -رضي الله عنه- حيث يقول: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)). ولما رواه حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). وكان الفقر يسود معظم المناطق، وكان الجوع منتشرًا بين سكانها مما جعل البادية يغيرون على سكان القرى والمدن، وينهبون الأموال ويسلبون المواشي والثمار، وهذا كان نتيجة الجدب والقحط وقلة الأمطار، وقلة موارد العيش. يقول حسين محمد نصيب واصفًا الحال في الحجاز في ذلك الزمان: "فترى البعض من آل الطبقة الوسطى يجول في الشوارع طالبًا ما يمسك الرمق، ويسد الخلة، فكيف بالفقراء الضعفاء". أما في مكة فلقد ضاقت الأزمة ضيقًا شديدًا، وانقطعت الأرزاق عنها وقلت الدراهم عنها حتى كادت تقع في خطر عظيم، وقد وصلت الحال بأهل البلاد إلى حالة من الجوع والفقر وضنك العيش مما جعل كثيرًا منهم يغادر وطنه، ويذهب إلى البلاد الأخرى المجاورة طلبًا للعيش، وما كان ذلك كله إلا بسبب الذنوب والمعاصي، وعلى رأسها التخلي عن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن العقوبات تسلط الحكام الطغاة وجورهم، فلقد سلط الله تعالى على أهل هذه البلاد قبل توحيدها حكامًا طغاة ظلمة كانوا لا يرحمون الناس، ولا يبالون بما يقاسون من ويلات الجوع، والفقر وضنك العيش، وعصابات النهب والسلب، بل كانوا يرهقونهم بفرض الضرائب عليهم، ولم تكن الضرائب على الأهالي فحسب؛ بل إنها تنال كل من يطأ الأرض المقدسة قاصدًا البيت الحرام أو المسجد النبوي. وقد انتشرت الرشوة، ودب الفساد بين العباد في ذلك الزمان، وخلاصة القول أن الحوادث والفتن وضنك العيش، وعدم الاستقرار، والخوف والفرقة والفقر والجهل، وانتشار الأمراض والأوبئة كانت هي السمات البارزة لمجتمعات وأقاليم هذه البلاد قبل توحيدها. وقد أفاض في ذكرها كثير المؤرخين المنصفين، وباتت معروفة لدى كثير من الناس، والسبب الأعظم هو ترك طاعة الله، والوقوع في معصيته، وعلى رأس ذلك كله ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلما أراد الله -تبارك وتعالى- رحمة البلاد والعباد جمع شمل هذه البلاد، ووحد صفها تحت يد الملك عبد العزيز -رحمه الله- فلما توحدت البلاد، ورجع الناس إلى دين الله وتوحيده، واجتهدوا في طاعته وتركوا معصيته، وأقاموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غيَّر الله حالهم إلى أحسن حال. ولمعرفة حال البلاد بعد توحيدها، وقيام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها، وما آل إليه أمرها من الأمن والأمان والرخاء نقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الوسائل لإصلاح المجتمع وتزكيته، وتحقيق أمنه واستقراره هو العصمة المناعة الرادعة عن وقوع كثير من الجرائم

هو صمام الأمان للمجتمع، بل سفينة النجاة للأمة، ولا أدل على ذلك من هذا المثل العظيم الذي ضربه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لبيان أثر قيام بهذا الأمر في صيانة المجتمع والنجاة من الهلاك، فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)). قال ابن النحاس -رحمه الله-: "اعلم أن في تمثيل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا جملة من الفوائد منها: أولًا: أن المسلمين مشتركون في الدين الذي هو آلة النجاة في الآخرة، كاشتراك آل الدنيا في السفينة التي هي آلة النجاة في الدنيا، وكما أن سكوت شركاء المدينة عن الشريك الذي أراد إفسادها سبب هلاكهم في الدنيا كذلك سكوت المسلمين عن الفاسق، وترك الإنكار عليه سبب هلاكهم في الآخرة. ثانيًا: أنه كما لا ينجي الشركاء من الهلاك قول المفسد: إنما أفسد فيما يخصني كذلك لا ينجي المسلمين من الإثم والعقوبة قول مرتكب المنكر: إنما أجني على ديني لا على دينكم، وعليكم أنفسكم، لي عملي ولكم عملكم، وكل شاة معلقة بعرقوبها، ونحو هذا الكلام الذي يجري على ألسنة الجاهلين. ثالثًا: أن أحد الشركاء في السفينة إذا منع المفسد من خرقها كان سببًا في نجاة أهل السفينة كلهم كذلك من قام من المسلمين بإنكار المنكر كان قائما بفرض الكفاية عنهم، وكان سببا لنجاة المسلمين جميعًا من الإثم، وله عند الله الأجر الجزيل. رابعًا: أنه إذا أنكر منكر من آل السفينة على الشريك الذي أراد خرقها، فاعترض عليه معترض منهم نسب ذلك المعترض إلى قلة العقل والجهل بعواقب هذا

الفعل؛ إذ المنكر ساعٍ في نجاة المعترض وغيره كذلك لا يعترض على من لا ينكر منكر إلا من عظم جهله وقل عقله؛ إذ المنكر قائم بإسقاط الفرض الواجب على المعترض وغيره ساعٍ في نجاتهم وخلاصهم من الإثم والحرج. خامسًا: أن شركاء السفينة إذا سكتوا عمن أراد خرقها كانوا هم وإياهم في الهلاك سواء، ولم يتميز المفسد في الهلاك من غيره، ولا الصالح منهم من الطالح. كذلك إذا سكت الناس عن تغيير منكر عمهم العذاب، ولم يميز بين مرتكب الإثم وغيره، ولا بين الصالح والطالح ألم يقل الله -تبارك وتعالى-: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}. سادسًا: أنه لا يقدم من الشركاء على خرق سفينة إلا من هو أحمق يستحسن ما هو في الحقيقة قبيح، ويجهل عاقبة فعله الشنيع كذلك لا يقدم على المعصية إلا من استحسنها لنفسه وجهل ما فيها من عظيم الإثم، وأليم العاقبة قال الله تعالى: {قُ لْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: 103، 104) سابعًا: أنه لا يقدم على خرق السفينة من آمن يقينًا بما في إخراقها من هلاك؛ إذ لا يقدم على إهلاك نفسه إلا من جهل أو شك فيه كذلك لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن بوعيد الله تعالى وأليم عذابه على الزنا، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن قال الله تعالى: {أَف َمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُون} (السجدة: 18). وعن زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعًا يقول: ((لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام، والتي تليها قالت: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)).

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لتقوية الإيمان لدى الإنسان الذي هو أعظم رادعًا عن الجريمة وارتكاب المعصية، وكثير من الجرائم والفواحش إنما تصدر من أناس ضعف عندهم الوازع الإيماني، بل تلاشى وانحطت أخلاقهم، وفشا فيهم الجهل، وقويت لديهم الشهوات والنزوات كما في الحديث المذكور: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)). وإذا ما انتشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين هؤلاء ضعاف الإيمان أحيى قلوبهم، وأيقظ ضمائرهم، وهذبهم أخلاقهم، وقوى الإيمان لديهم، وبالتالي امتنعوا عن ارتكاب الجرائم واقتراف المعاصي. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يهتم بتربية الأمة على الفضيلة، ويمنع انتشار الرذيلة، وهو بذلك يوجد رأيًّا عامًّا يحب الفضيلة ويكره الرذيلة، فيقف أفراد المجتمع الصالحون كلهم في وجه أي إنسان يريد أن يخرق سفينة المجتمع، وينكرون عليه سوء صنيعه، ويظهر الصلاح، ويكون سمة للمجتمع، ويخلص الخبث وأهله، بل يكون أهل الفساد منبوذين من قبل أفراد المجتمع ومحتقرين. وفيه إرغام لأهل الفساد والنفاق وتضييق الخناق عليهم وقطع لدابرهم روى أبو بكر الخلال عن سفيان الثوري أنه قال: "إذا أمرت بمعروف ونهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق". ويقول الشيخ عبد القادر عودة: "وترتب على إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه أصبح الأفراد ملزمين بالتعاون على إقرار النظام وحفظ الأمن، ومحاربة الإجرام، وأن يقيموا من أنفسهم حماة لمنع الجرائم والمعاصي، وحماية الأخلاق، وكان في هذا كله الضمان الكافي لحماية الجماعة من الإجرام، وحماية

أنشطة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية.

أخلاقهم من الانحلال، وحماية وحدتها من التفكك، وحماية نظامها من الآراء الطائشة والمذاهب الهدامة، بل كان فيه الضمان الكافي للقضاء على المفاسد في مكمنها، وقبل ظهورها وانتشارها". والأمر بالمعروف بمثابة الطب الوقائي المجتمع يقيه من كل مرض عضال يفت في عضده، ويقوض أركانه، وينمي فيه جوانب الإصلاح وعوامل البناء، كما أن النهي عن المنكر بمثابة الطب العلاجي؛ لبناء المجتمع إذا ما أصيب في كيانه قام بعلاجه، وإزالة الأخلاط الخبيثة من جسد الأمة حتى تكون صحيحة تنهض برسالتها تجاه البشرية بعد أن تقوم بواجبها تجاه خالقها على أكمل وجه. أنشطة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية ولقد كان لرئاسة "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" بالمملكة العربية السعودية جهد عظيم في توعية الشعب، ونشر الفضيلة والقضاء على الرذيلة، وكان لهذه الرئاسة أجهزة متنوعة من الدعاة والعلماء تقوم بأنشطة الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن هذه النشاطات والجهود المبذولة ما يلي: أولًا: زيادة مستوى الوعي الشرعي لدى أفراد المجتمع عن طريق نشر كتاب والشريط الإسلامي، والتي تعالج كثيرًا من المخالفات الظاهرة في العقيدة كالتحريم من البدع، وبيان أخطاء في العقيدة مما يقع فيه كثير من عامة الناس، وإيضاح عقيدة أهل السنة والجماعة، وكذلك محاربة الأفكار الدخيلة والهدامة للعقيدة والأخلاقية الفاضل ة، وتصحيح العبادات والأخلاق والمعاملات وفق ما

جاء به الشرع الإسلامي الحنيف، وتقوم هذه الإدارة بتوزيع هذه الكتب والمطويات والأشرطة على أكبر قدر ممكن من فئات المجتمع المختلفة عن طريق فروع الهيئة في كافة مناطق المملكة، وفي المناسبات كالأعياد، وفي مواسم الحج، وشهر رمضان المبارك وغيرها. ثانيًا: القيام بإعداد برامج توجيه وتوعية لمدة أسبوع فأكثر، وبشكل مكثف في المناطق النائية من المملكة، والتي يكثر فيها الجهل بأمور الدين الأساسية مثل أركان الإسلام، وأمور العقيدة وتنتشر فيها الخرافات والشعوذة والبدع التي تقدح في التوحيد أو توجد بها مخالفات شرعية. ثالثًا: المحافظة عل ى شباب المسلمين من الغزو الفكر والثقافي والإعلامي، وذلك بمتابعة ما ينشر في وسائل الإعلام المختلفة كالصحف والمجلات، والكتب والأفلام وغيرها من انحرافات في العقيدة، وانحطاط في الأخلاق، أو دعوة إلى الرذيلة، أو ما تبثه التيارات الفكرية الضالة والمنحرفة من شبهات، أو تثيره من شهوات، والسعي الحثيث والجاد لإزالة ذلك، ومحاربة هذه المظاهر التي يتم عن طريقها الغزو، والعمل على إزالة آثارها بتحصين شباب الأمة ونسائها، وغيرها من أعضاء المجتمع المسلم ضد هذه التيارات الفكرية المنحرفة، وذلك بعمل الدراسات اللازمة لذلك، ورفعها للجهات المسئولة مدعمة بالمرئيات والمقترحات مع العمل على إزالتها، والحد من انتشارها، ونشر كتب النافعة والأشرطة والرسائل المفيدة، والمطويات والفتاوى التي تحذر من قراءة المجلات الهابطة والكتب المضللة؛ ليحذرها الناس قبل الوقوع فيها، وقد تم منع العديد من الكتب المخالفة، وكذلك بعض المجلات الهابطة من دخول البلاد بعد دراستها والرفع عنها للجهات المسئولة، وذلك خوفًا من تأثيرها على عقيدة وسلوك أبناء المجتمع المسلم.

رابعًا: العمل على حماية المرأة المسلمة، ومنع المؤثر ات الدخيلة أن تصل إليها، وذلك عن طريق منع الأسباب المؤدية إلى ذلك كالتبرج والسفور والاختلاط، والعلاقات المحرمة، ومتابعة الموضة في الشكل واللباس، ومنع كل ما يخالف الشرع الإسلامي الحنيف، ويؤدي إلى ابتذال المرأة مع نشر الكتب والأشرطة النافعة والمطويات والفتاوى التي تبين حكم مثل هذه المنكرات، وتضع النصائح والإرشادات التي تعين على تركها ومجانبتها مع الرفع عن الموجود منها لمنعه وقطع أسبابه من خلال توجيه المراكز الميدانية بتنفيذ التعليمات التي تقضي بمعاقبة المسئولين عنه والرفع للجهات المختصة بذلك لمعالجة مثل هذه الأمور. خامسًا: تقوم هذه الإدارة بمتابعة السلع والمنتجات التي تعرض في المحلات التجارية، وعليها بعض المخالفات الشرعية كما تقوم الإدارة بمتابعة المسابقات التجارية، والنظر فيها من الوجهة الشرعية ومخاطبة جهات الاختصاص؛ لإلغائها إذا كانت مخالفة للشرع. سادسًا: تقوم هذه الإدارة بجهد بارز وملموس، وله الأثر الكبير ولله الحمد، وذلك عن طريق الدعوة في السجون والإصلاحيات والتوعية والتوجيه للنزلاء؛ لتقوية الوازع الإيماني، وتصحيح العقائد المنحرفة والتوبة والاستقامة، وذلك من قبل الدعاة التابعين للهيئة، والمفرغين لهذا العمل كما تقوم بتوزيع الأشرطة والكتب والمطويات النافعة للنزلاء مساهمة منها في إصلاحهم. ومن هذا يتضح دور هذه الإدارة في المحافظة على عقيدة أبناء هذا المجتمع وسلوكهم وتحصينهم ضد الجريمة. وفي هذا الجانب أيضًا تقوم الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإصدار نشرة دورية عن الحسبة هي أخبار الحسبة متضمنة: مقالات

وكتابات عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لتثبيت هذا المفهوم في أذهان الناس من ناحية والمساهمة في التوعية والتوجيه من ناحية أخرى، وتقوم إدارات العلاقات العامة بالرئاسة بتوزيعها على منسوب الرئاسة والمؤسسات الحكومية؛ لتوزيعها على منسوبيها كما تقوم الإدارة بنشر مقالات وأخبار الحسبة في الصحف اليومية. وقد خصصت صحيفة "الجزيرة" صفحة كاملة لهذا الأمر يتولى تحرير مادتها رجال أكفاء من آل الحسبة ممن هم على مستوى كبير من العلم الشرعي، وذلك لتقوية الوازع الديني لدى القراء من أبناء المجتمع. ومن هذا الجانب أيضًا ما تقوم به الهيئة من عمل اللوحات وملصقات إرشادية، وقوائم عند مفترق الطرق والميادين العامة تتضمن العبارات وأحاديث توجيهية تحث على التحلي بالأخلاق الإسلامية، وفعل الطاعات وتجنب المعاصي والمنكرات. ومن ذلك أيضًا ما تقوم به الهيئة من مراقبة الأسواق العامة؛ لمنع أي سلوك مخالف للشرع، ويؤدي إلى وقوع الفاحشة أو الانحراف الخلقية مثل تبرج النساء وسفورهن أو مضايقتهن من قبل الرجال أو كل سلوك مناف للشرع أو يخدش الحياء، وينصحون النساء اللاتي يبدين شيئًا من زينتهن أو يتبرجن. كما تقوم الهيئة بمراقبة شواطئ البحر، وأماكن الترفيه للتأكد من خلوها من كل منكر كالاختلاط وال تبرج أو أي محظور شرعي يمس العقيدة أو يؤدي إلى سلوك شائن أو خدش للحياء. ومن ذلك أيضًا ملاحظة المستشفيات والفنادق؛ لمنع الاختلاط أو التبرج أو أي سلوك مناف لمبادئ الإسلام، كما تقوم الهيئة بمراقبة المشاغل النسائية،

ومحلات تفصيل ملابس النساء مع عمل ضوابط ومواصفات لهذه محلات ح تى لا تحصل الخلوة أو اللمس من قبل العاملين بهذه المشاغل من الرجال، وبيان النساء المترددات عليها، وذلك حماية للأعراض ومنع من وقوع الفاحشة، وسدًّا لأي ذريعة تؤدي إليها. ونظرًا لما للصلاة من أثر كبير في استقامة الأفراد وحجزهم عن المنكرات كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) لذا فإن الهيئة تولي هذا الجانب عناية خاصة بالحث على أداء الصلوات في المساجد، وعدم التخلف عنها، وحمل الناس على ذلك بالوسائل المختلفة من الأمر، وتنبيه الغافل ورفعه إلى المسئولين إذا أصر على عدم الاستجابة. وهكذا بفضل الله -عز وجل- كان لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية بسبب قيامها بكل هذه الجهود المباركة في جميع مجالات الحياة وأنشطتها المختلفة كان لها الدور الأكبر في تحقيق الأمن والأمان، ورفع المستوى المعيشي والاقتصادي في تلك البلاد مما هو ظاهر لكل عيان مما يسر الصديق، ويحزن العدو. وصلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 18 شبهات حول الحسبة.

الدرس: 18 شبهات حول الحسبة.

الرد على من توهم أن واجب الحس بة لا يلزمه وأنه واجب كفائي يجب على العلماء فقط لا على الجميع.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (شبهات حول الحسبة) الرد على من توهم أن واجب الحس بة لا يلزمه وأنه واجب كفائي يجب على العلماء فقط لا على الجميع إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا ع بده ورسوله، أما بعد: قد يتوهم البعض أن واجب الحسبة لا يلزمه؛ لأنه ليس من رجال الدين، وإن هذا الواجب واجب كفائي يجب على العلماء فقط لا على الجميع بدليل قوله تعالى: {و َلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (آل عمران: 104). والجواب على ذلك -كما بينا في حكم الحسبة- أن ابن كثير -رحمه الله- بين أن المراد بالآية: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} أي: تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كل فرد من الأمة بحسبه، وبينا أن كلمة "من" في قوله تعالى: {وَلْتَ كُن مِّنكُمْ} أنها ليست للتبعيض ولكنها للبيان. وعلى ذلك، فالراجح من أقوال العلماء أن الدعوة إلى الله -عز وجل- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل من يستطيعه، ولكن الحسبة يشترط لها العلم، والعلم ليس شيئًا واحدًا لا يتجزأ ولا يتبعض، وإنما هو بطبيعته يتجزأ ويتبعض، فمن علم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى جاهل بالثانية، ومعنى ذلك أنه يعد من جملة العلماء بالمسألة الأولى، وبالتالي يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما علم دون ما جهل، ولا خلاف بين الفقهاء أن من جهل شيئًا أو جهل حكمًا أنه لا يدعو إليه؛ لأن العلم بصحة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة، وعلى هذا فكل مسلم يدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالقدر الذي يعلمه.

ومن قال إن المقصود بالآية العلماء الذي نالوا حظًّا كبيرًا من العلم دون سواهم فقد أخطأ في ذلك، فالدعوة إلى الله -عز وجل- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -كما بيناه- فرض عين وفرض كفاية؛ فرض عين على كل مسلم فيما يعرف من الدين وحسب استطاعته، وفرض كفاية في الأمور التي يعجز عنها العامة، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل في بيان حكم الحسبة. وقد يتشبث البعض توهمًا منه بقول الله تعالى: {يَ اأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} (المائدة: 105)، قد يتشبث البعض بهذه الآية ليتخلص من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويبرر قعوده وتقاعسه متوهمًا أن هذه الآية الكريمة تعفيه من تكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما دام هو في نفسه مؤتمرًا ومنتهيًا، وإن هذا الوهم قد تسرب إلى البعض في زمن الصديق أبي بكر -رضي الله عنه- فلما بلغه ذلك عنهم خرج فخطب الناس وقال: "يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية الكريمة، وتضعونها في غير موضعها: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105)، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)). إذًا يجب على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إصلاحًا لغيره بعد أن صلح هو في نفسه، فإن النجاة لا تتم إلا بهذا، فقد قال الله تعالى: {و َالْعَصْر * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} (العصر: 1 - 3) فلا يكفي الإنسان أن يكون صالحًا في نفسه حتى يكون مصلحًا لغيره، ولا يكفي أن يكون مهتديًا في نفسه حتى يكون هاديًا لغيره، ولا يكفي أن يكون مؤتمرًا

الرد على من قا ل: إن الباطل انتشر في الأرض، ولم تعد الدعوة إلى الله تنفع شيئا.

ومنتهيًا حتى يأمر وينهى غيره، فبذلك يحصل هدى الذي هو شرط في عدم إضرار ضلال الغير للمهتدين {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} يعني: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يستجب لكم حينئذ لا يضركم ضلال من ضل كما فعل الله -تبارك وتعالى- بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من أصحاب قرية أصحاب السبت، قال تعالى: {ف َلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُون} (الأعراف: 165)، فإذا أمر المسلم بالمعروف، ونهى عن المنكر فلم يستجب له لا يضره ضلال من ضل. الرد على من قا ل: إن الباطل انتشر في الأرض، ولم تعد الدعوة إلى الله تنفع شيئًا وقد يتشبث البعض بشب هة أخرى، وهي أن الباطل انتشر في الأرض، ولم تعد الدعوة إلى الله تنفع شيئًا، وعلى المسلم أن يهتم بنفس هـ ويدع أمر الخلق. والجواب على هذه الشبهة: أن الواجب على المسلم هو القيام بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء حصل المقصود واستجاب الناس أو لم يستجيبوا، وقد حصلت هذه الشبهة لأقوام سالفين قص الله تعالى لنا من أخبارهم، وكيف أن الدعاة إلى الله ردوا عليهم شبهتهم قال الله تعالى: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْس قُون * وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُون} (الأعراف: 63 - 165)

فأصحاب هذه القرية لما أمروا بتعظيم الجمعة، فرفضوا واختاروا السبت ابتلاهم الله -تبارك وتعالى- فسلط عليهم الحيتان تظهر لهم على الشواطئ يوم السبت تنالها أيديهم فضلًا عن شباكهم، ثم تغيب الحيتان الأسبوع كله، وتأتي في السبت الذي يليه، فاحتال بعضهم فحفر للسمك أو وضع الشباك له في أيام المباحة العمل فيها، فوقع السمك في الشباك يوم السبت، فأخذوها يوم الأحد، فصار أصحاب هذه القرية ثلاث فرق؛ فرقة ارتكبت الحرام بالحيلة، وفرقة أنكرت عليهم ووعظتهم، وفرقة سكتت عنهم لم تنكر عليهم، ولم تعظهم، بل قالت للفرقة التي أنكرت ووعظت: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} أي: لما تنهون هؤلاء وقد علمتم أنه قد هلكوا، واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم، فقالت الفرقة المنكرة بالجواب الصحيح: {قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي: فيما أخذ علينا من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن بقيامنا بهذا الواجب نعتذر إلى ربنا لا نملك إلا أن ندعوا هؤلاء العصاة للإقلاع عن معصيتهم والإنابة إلى ربهم، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون} أي: ولعل هذا الإنكار عليهم ودعوتنا إياهم للإنابة إلى ربهم والرجوع إليه يدعوهم إلى الاستجابة. ففي هذه القصة، وفي قيام هذه الفرقة بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إشارة إلى أنه ما دام هناك احتمال قبول الدعوة، فلا بد من استمرار الوعظ والإرشاد والدعوة إلى الله تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42).

الرد على من يتعلل بأن الدعوة إلى الله تسبب له تعبا ونصبا لا يستطيع تحمله.

الرد على من يتعلل بأن الدعوة إلى الله تسبب له تعبًا ونصبًا لا يستطيع تحمله وقد يتشبث البعض بشبهة أخرى تقوم على فهم سقيم لقول رب العالمين: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) فيتعلل بأن الدعوة إلى الله تسبب له تعبًا ونصبًا لا يستطيع تحمله. والواقع أن هذه حجة ضعاف الإيمان رقيقي الدين، فإن التعب المزعوم ينالهم في سعيهم للظفر بمآرب الدنيا التافهة كالحصول على ربح مادي زهيد مثلًا، فأولى بهم أن يتحملوا شيئًا من التعب في الحسبة، وفي هذا التعب أجر عظيم لهم، والحقيقة أن التعب المزعوم يسير وبسيط، فهل هناك تعب شديد في تعليم الجاهل أمور الإسلام؟ وهل هناك تعب شديد في عرض الإسلام على الكافر الذي لم يسمع بالإسلام؟ وهل يتعب إذا حرك لسانه بالكلام الطيب؟ أو يتعب فكره إذا فكر في أمور الإسلام؟ وهل يتعب تعبا لا يطاق إذا تيسر له السفر إلى المجتمعات الوثنية يدعوها إلى الله؟. إن المسلم أولى من غيره بأن يتعب في سبيل الله، وفي سبيل نشر دين الله -عز وجل- والله -سبحانه وتعالى- قد قال ردًّا على هؤلاء الذين يخوفهم الشيطان من التعب والنصب؛ فقال تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} (النساء: 104)، فإذا كان أهل الباطل جادين في الدعوة إلى باطلهم يسافرون من هنا وهناك، وينامون في العراء يفترشون الثرى، ويلتحفون الثريا في سبيل نشر باطلهم، فأولى بذلك أهل الحق أصحاب الإسلام. وعلى هذا الذي يخوفه الشيطان من التعب والنصب أن يتذكر أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحملوا كثيرًا في الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله.

ونذكر على سبيل المثال شيئًا من أخبارهم وجهادهم في سبيل الله، فقد جاء في كتب السيرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن رجع إلى المدينة ومعه المسلمون بعد معركة أُحد جاءه الخبر أن أبا سفيان ومن معه من المشركين عزموا على الرجوع إلى المدينة؛ لاستئصال من بقي من المسلمين، فلما صلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصبح أمر بلالًا فنادى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال أمس، فخرج سعد بن معاذ إلى داره يأمر قومه بالمسير، وكلهم جريح فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمركم أن تطلبوا عدوكم، فقال أسيد بن حضير، وبه سبع جراحات يريد أن يداويها: سمعًا وطاعة لله ورسوله، وأخذ سلاحه، ولم يلتفت إلى دوائه، ولحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم. وجاء سعد بن عبادة قومه وجاء أبو قتادة إلى طائفة، فبادروا جميعًا، وخرج من بني سلمة أربعون جريحًا بالطفيل بن نعمان ثلاثة عشر جرحًا، وفي الحارثة عشرة جراحات حتى وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لما رآهم: ((اللهم ارحم بني سلمة)). وسمع أخوان شقيقان دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للخروج وكانا جريحين، وكان أحدهما أخف من الآخر، فقال أحدهما لأخيه: أن اقعدوا عن الخروج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا والله فخرجا، فكان أخفهما جرحًا يحمل أشدهما جرحًا حينًا ويمشي حينًا حتى خرجا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فهذا نموذج من جهادهم -رضي الله عنهم- في سبيل إعلاء كلمة الله، فهل يستكثر المسلم إذا أتعب نفسه قليلا في الدعوة إلى الله -عز وجل- ونشر محاسن الإسلام، وتعليم الناس مكارم الأخلاق؟ ألا يستحيي من نفسه إذا استكثر الجهد البسيط الذي يبذله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرجون جرحى للقتال وهم يقولون: سمعًا وطاعة لله ولرسوله.

الرد على من قال بعدم استجابة الناس له، وأنه يأمر ولا يطيعونه، وينهى ولا يطيعونه.

لقد قال الله -تبارك وتعالى-: {لَقَد ْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد} (البلد: 4) أي: في تعب ومشقة، وقال: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيه} (الانشقاق: 6) فالإنسان في هذه الدنيا يكدح ويتعب ويشقى. فإما أن يكون تعبه في سبيل الله، فيستريح بعد طول عناء في جنة عالية قطوفها دانية، فيها نعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وإما أن يكون التعب هو الشقاء من أجل الدنيا وحدها ليس للآخرة في هذا التعب نصيب، فينتقل من شقاء الدنيا إلى شقاء الآخرة والعياذ بالله. فعلى المسلم أن يوطن نفسه على القيام بواجب الحسبة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، وأن يحتسب ما يلقاه من النصب والتعب في سبيل الله لعل الله -سبحانه وتعالى- يدخله جَنَّاتُ عَدْنٍ تجري من تحتها الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِير {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب} (فاطر: 34، 35). الرد على من قال بعدم استجابة الناس له، وأنه يأمر ولا يطيعونه، وينهى ولا يطيعونه وقد يتشبث البعض بعدم استجابة الناس وأنه يأمر ولا يطيعونه، وينهى ولا يطيعونه. والجواب على هذه الشبهة: أن المطلوب من الداعي أن يدعو إلى الله، وهذا هو الواجب عليه، وليس المطلوب منه أن يستجيب الناس، فقد قال الله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِل اَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} (النور: 54). فإذا كان الرسول غير مكلف إلا بالتبليغ فغيره من آحاد الأمة أولى ألا يكلف بغير التبليغ، وتعليل ذلك من وجهين:

الأول: أن القاعدة الأصولية تقول: إن الإنسان لا يكلف بفعل غيره أي: لا يكلف أن يفعل غيره فعلًا معينًا أو يترك فعلًا معينًا؛ لأن هذا من قبيل تكليف ما لا يطاق، وإنما يكلف الإنسان أن يفعل هو فعلًا معينًا يتعلق بغيره، وقد يحمله على الفعل كالدعوة إلى الله، وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالمسلم مطالب ومكلف بأن يأمر بالمعروف، وقد يستجيب المأمور، فيكون أمر الآمر سببًا لفعل المأمور، وقد لا يستجيب المأمور، وبهذا مدح الله تعالى إسماعيل -عليه السلام- بقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْض ِيًّا} (مريم: 54، 55). فالذي يملكه المسلم ويكلف به أن يأمر غيره بالمعروف، ويدعوه إلى عبادة الله ولا يكلف بأن يفعل الغير فعلًا معينًا، فإذا أمر المسلم بالمعروف فائتمر بأمره، ونهى عن المنكر فترك ذلك المنكر، فقد وقع أجره على الله، وجاءه الأجر والثواب كلما فعل هذا المعروف الذي أمر به، وكلما ترك هذا المنكر الذي نهى عنه، وإن أمر بالمعروف ولم يؤتمر بأمره ونهى عن المنكر فلم يترك هذا المنكر، فقد وقع أجره على الله، وحصل ثواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم إن الاستجابة والهداية مردها إلى الله -تبارك وتعالى- لا يملكها أحد سواه، ولذلك قال الله تعالى للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (البقرة: 272) وقال: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (القصص: 56). وهذه الهداية التي نفاها الله تعالى عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- هي هداية التوفيق الذي هو خلق قدرة الطاعة، وخلق قدرة القبول في القلب قلب المدعو والمأمور المنهي، فهداية التوفيق والسمع والطاعة والقبول بيد الله -عز وجل- يهدي من يشاء

ويعصم ويعافي فضله، ويضل من يشاء ويقدر ويبتلي عدلًا، وما على المسلم إلا أن يأمر وينهى ويدل ويرشد ويهدي، وهذه هي هداية البيان التي كلف الله بها رسوله وأتباعه؛ ولذلك قال الله تعالى للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَإِنَّ كَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (الشورى: 52). هذه الهداية التي أثبتها الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- هي هداية الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن ال منكر، كما قال: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المؤمنون: 73)، ف علينا أن نأمر بالمعرو ف وأن ننهى عن المنكر، وأن ندعوا إلى الله قيامًا بالواجب الذي فرضه الله علينا، ومعذرة إلى ربنا، وإقامة للحجة لله على عباده أنه بلغتهم دعوة الله -سبحانه وتعالى- ثم بعد ذلك من شاء الله أن يهديه هداه، ومن يشأ أن يضله أضله، ويكون المسلم قد أمر بالمعروف ون هى عن المنكر طاعة لله ولرسوله. فعلينا إذًا أن نستمر في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا كلل ولا ملل ولا فتور؛ لأن واجبنا هو البلاغ والتبيين، وأما الهداية فإلى الله -عز وجل. ولقد لبث نوح -عليه السلام- في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله -عز وجل- وهكذا كان رسل الله -عليهم الصلاة والسلام- يدعون أقوامهم مدة حياتهم؛ فمنهم من استجاب له قومه أو بعضهم ومنهم من لم يستجب له أحد كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)). وبذلك صرح أئمة السلف -رضوان الله عليهم أجمعين- في أن المسلم مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء استجاب الناس له أو لم يستجيبوا له، وأن هذا الواجب لا

يسقط عن المكلف لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فإن الذي على المسلم الأمر والنهي لا القبول. يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في (جامع العلوم والحكم): وقد حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه، وصح القول بوجوبه، وهذا قول أكثر العلماء، وقد قيل لبعض السلف في هذا، فقال: يكون لك معذرة، يعني: أؤمر وانهِ، وإن لم يقبل منك يكون لك معذرة أنك أبرأت ذمتك، وقمت بما فرض الله -تبارك وتعالى- عليك، وهذا كما أخبر الله تعالى عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنهم قالوا لمن قال لهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون} (الأعراف: 164). قال الحافظ ابن رجب: وقد ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به، ففي (سنن أبي داود) وابن ماجه، والترمذي عن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}؟ قال: سألت عنها خبيرًا، أما والله لقد سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا وهوى متعبًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك رأي العوام)). وفي (سنن أبي داود) عن عبد الله بن عمر قال: بينما نحن جلوس حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ ذكر الفتنة فقا ل: ((إذا رأيتم الناس مرجت عقولهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا وشبك أصابعه، فقلت له: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ فقال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)).

وكذلك روي عن طائفة من الصحابة في قول الله: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قالوا: لم يأتِ تأويلها بعد إنما تأويلها في آخر الزمان. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض، فيأمر الإنسان حينئذ نفسه، فهو حينئذ تأويل هذه الآية". وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم". وقال جبير بن نفير عن جماعة من الصحابة قالوا: "إذا رأيت شحًّا مطاعًا وهوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك حينئذ بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت". وعن مكحول قال: "لم يأتِ تأويلها بعد إذا هاب الواعظ، وأنكر الموعوظ فعليك حينئذ بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت". وعن الحسن أنه كان إذا تلا هذه الآية قال: "يا لها من ثقة ما أوثقها، ومن سعة ما أوسعها". قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "وهذا كله قد يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف أو خاف الضرر سقط عنه". وكلام ابن عمر يدل على أن من علم أنه لم يقبل منه لم يجب عليه. كما حكي رواية عن أحمد، وكذلك قال الأوزاعي: "أؤمر من ترى أن يقبل منك". وقال ابن النحاس في كتابه (تنبيه الغافلين): قال الغزالي: "إذا علم أن كلامه لا ينفع ولا يفيد لا يجب عليه الإنكار؛ لعدم الفائدة؛ ولكن يستحب؛ لإظهار شعائر الإسلام؛ وتذكير الناس بالدين".

وقال النووي في (الروضة) و (شرح مسلم): "لا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكونه يعلم أنه لا يفيد أو يعلم بالعادة أنه لا يؤثر كلامه؛ بل يجب عليه الأمر والنهي، فإن الذكرى تنفع المؤمنين". قال ابن النحاس: قلت: وهو من باب إقامة الحجة على المعاندين، ولأنه يسأل عن ذلك يوم القيامة. وقال ابن مفلح في (الآداب الشرعية)، وقال القاضي أبو يعلى في كتابه (المعتمد): "ويجب إنكار المنكر، وإن لم يغلب في ظنه زواله" في إحدى الروايتين نقلها أبو الحارث، وقد سأله عن الرجل يرى منكرًا، ويعلم أنه لا يقبل منه ويسكت؛ فقال؛ إذا رأى المنكر فليغيره ما أمكنه، وهو الذي ذكره أبو زكريا النووي عن العلماء، قال: كما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ}. وفي رواية أخرى: "لا يجب حتى يعلم زواله" نقلها حنبل عن أحمد، فيمن يرى رجلًا يصلي لا يتم الركوع والسجود، ولا يقيم قا ل: "إن كان يظن أنه يقبل منه أمره ووعظه حتى يحسن صلاته". وذكر في كتاب (الأمر بالمعروف) هذه من شرط إنكار المنكر غلبة الظن في إزالة المنكر روايتين: إحداهما: ليس من شرطه بظاهر الأدلة، والثانية من شرطه، وهي قول متكلمين؛ لبطلان الغرض. وكذا ذكرهما القاضي فيما إذا غلب على الظن أن صاحب المنكر يزيد في المنكر. وقال ابن عقيل: "إذا غلب على ظنه أنه لا يزول فروايتان إحداهما يجب".

وقال في رواية أخرى: في الرجل يرى منكرًا، ويعلم أنه لا يقبل منه هل يسكت؟ قال: يغير ما أمكنه، وظاهره أنه لم يسقط. وقال في (نهاية المبتدئين): "وإنما يلزم الإنكار إذا علم حصول المقصود، ولم يقم به غيره، وعنه إذا رجع حصوله، وهو الذي ذكره ابن الجوزي، وقيل: يمكنه وإن أيس من زوال، أو خاف أذى أو فتنة. وفي (نهاية المبتدئين): "يجوز الإنكار فيما لا يرجى زواله، وإن خاف أذى قيل: لا، وقيل: يجب، والذي ذكره القاضي في (المعتمد) أنه لا يجب، ويخير في رفعه الإمام خلافا لمن قال: يجب رفعه إلى الإمام، وإذا لم يجب الإنكار فهو أفضل من تركه جزم به ابن عقيل. قال القاضي خلافًا لأكثرهم في قولهم ذلك: قبيح ومكروه إلا في موضعين: أحدهما: كلمة حق عند سلطان جائر. والثاني: إظهار الإيمان عند ظهور كلمة الكفر. وقال أبو الحسين: "واختلفت الرواية هل يحسن الإنكار، ويكون أفضل من تركه؟ على روايتين. وفيه رواية ثالثة أنه يقبح، وبه قال بعض الفقهاء المتكلمين. أما قول الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} (الأعلى: 9)، فقد قال الإمام القرطبي -رحمه الله- قوله تعالى: {فَذَكِّرْ} أي: فعظ قومك يا نبينا بالقرآن {إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} أي: الموعظة. وروى يونس عن الحسن قال: "تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر"، وكان ابن عباس يقول: "تنفع أوليائي، ولا تنفع أعدائي".

وقال الجرجاني: "التذكير واجب، وإن لم ينفع، والمعنى: فذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع، فحذف، كما قال تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (النحل: 81) يعني: والبرد، وقيل: إنه مخصوص بأقوام بأعيانهم، وقيل: إنَّ {إِن} بمعنى: ما، أي: فذكر ما نفعت الذكرى، فتكون إن بمعنى: ما، لا بمعنى الشرط؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال قاله ابن شجرة. وذكره بعض أهل العربية أن {إِن} معنى: إذ، أي: إذ نفعت كقوله تعالى: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} (آل عمران: 139) أي: إذ كنتم فلم يخبر بعلوهم إلا بعد إيمانهم، وقيل بمعنى: قد. أما الفخر الرازي، فقد قال في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} (الأعلى: 9) هنا سؤالات: السؤال الأول: أنه -عليه السلام- كان مبعوثًا إلى الكل، فيجب عليه أن يذكرهم سواء نفعتهم الذكرى أو لم تنفعهم، فما المراد من تعليقه على الشرط {إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} (الأعلى: 9)؟ الجواب: أن المعلق بإن على الشيء لا يلزم أن يكون عدمًا عند عدم ذلك الشيء، ويدل عليه آيات منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (النور: 33)، ومنها قوله تعالى: {وَا شْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} (البقرة: 172)، ومنها قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ} (النساء: 101) فإن القصر جائز وإن لم يوجد الخوف، ومنها قوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} (البقرة: 283) والرهن جائز مع الكتابة، ومنها قوله تعالى: {فَل اَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله ِ} (البقرة: 230) والمراجعة جائزة بدون هذا الظن. إذا عرفت هذا، فنقول: ذكروا لذكر هذا الشرط {إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} فوائد:

القعود عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مخافة الفتنة.

إحداها: أن من باشر فعلًا لغرض فلا شك أن الصورة التي علم فيها إفضاء تلك الوسيلة إلى ذلك الغرض كان ذلك الفعل أوجب من السورة التي علم فيها عدم ذلك الإفضاء، فلذلك قال: {إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى}. وثانيها: أنه تعالى ذكر أشرف الحالتين، ونبه على الأخرى كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} والتقدير: فذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع. وثالثها: أن المراد منه البعث على الانتفاع بالذكرى كما يقول المرء لغيره إذا بين الحق: قد أوضحت لك إن كنت تعقل، فيكون مراده القبول والانتفاع به. ورابعها: أن هذا يجري مجرى تنبيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه لا تنفعه ذكرى كما يقال للرجل: ادع فلانًا إن أجابك، والمعنى: وما أراه يجيبك. وخامسها: أنه -عليه السلام- دعاه إلى الله كثيرًا، وكلما كانت الدعوة أكثر كان عتوه أكثر، وكان -عليه سلام- يحترق حسرة على ذلك، فقيل له: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيد} (ق: 45). إذ التذكير العام واجب في أول الأمر، فأما التكرير فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود، فهذا المعنى قيده بهذا الشرط. القعود عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مخافة الفتنة وقد يتشبث البعض بمخافة الفتنة، فيترك الدعوة، ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة أن تحدث الفتنة إذا أمر وإذا نهى، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه-: "ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يتعرض به المرء للفتنة سار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليهم من ذلك؛ بأنه يطلب السلامة من الفتنة"،

كما قال الله تعالى عن المنافقين: {وَم ِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} (التوبة: 49). وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتجهز لغزو الروم، وأظنه قال: هل لك في نساء بني الأصفر، فقال: يا رسول الله إني رجل لا أصبر على النساء، وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر، فائذن لي ولا تفتني، وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة، واستتر بجبل أحمر وجاء فيه الحديث: ((أن كلهم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر)) فأنزل الله تعالى فيه {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} (التوبة: 49). يقول: إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء، فلا يفتتن بهن، فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور، ومجاهدة نفسه عنه، فيتعذر بذلك أو يواقعه فيأثم، فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها، فإن لم يتمكن منها إما لتحريم الشارع، وإما للعجز عنها يعذب قلبه، وإن قدر عليها وفعل المحظور هلك، وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء فهذا وجه قوله: {وَلاَ تَفْتِنِّي}. قال الله تعالى: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} يقول: نفس إعراضه عن الجهاد الواجب، وركونه عنه وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد هو نفسه فتنة عظيمة قد سقط فيها، فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟ والله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} (الأنفال: 39)، فمن ترك القتال الذي أمر الله تعالى به؛ لئلا تكون فتنة فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه، ومرض فؤاده وتركه بما أمر الله به من الجهاد.

قال -رحمه الله-: "فتدبر هذا فإن هذا مقام خطر، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام: قسم يأمرون وينهون ويقاتلون طلبًا لإزالة الفتنة التي زعموا، ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة، وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي، والقتال الذي يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا، وهم قد سقطوا في الفتنة، وهذه الفتنة المذكورة في سورة براءة دخل فيها الافتتان بالسور الجميلة، فإنها سبب نزول الآية. وهذه حال كثير من المتدين يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منها، وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب، وترك المحظور وهما متلازمان، وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعًا أو تركهما جميعًا مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغير، فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد، وإمارة ونحو ذلك، فلا بد أن يفعل شيئًا من المحظورات، فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين، فإن كان المأمور أعظم أجرًا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة، وإن كان ترك المحظور أعظم أجرًا لم يفوت ذلك برجاء ثواب فعل واجب يكون دون ذلك، فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات. وتفصيل هذا يطول. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1