الحديث والمحدثون

محمد محمد أبو زهو

مقدمات

مقدمات الإهداء ... الإهداء: إن أولى من يهدى إليه هذا الكتاب، هو أولى الناس بالمؤمنين، نبينا "محمد" الصادق الأمين، الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. فإليك يا منقذ الخلق من الضلال. إليك يا نبي الرحمة ومنبع العلم والنور والعرفان. إليك يا من حدثت فصدقت، وحكمت فعدلت، وجاهدت فأبليت أحسن البلاء. إليك يا من أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. أهدي كتابي هذا راجيا من الله عز وجل أن يمن علي بشفاعتك: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .

الداعي لنشر هذا الكتاب

الداعي لنشر هذا الكتاب: نال المؤلف بهذا الكتاب "شهادة العالمية مع لقب أستاذ في علوم القرآن والحديث" عام 1365هـ-1946م من الجامع الأزهر الشريف. "قسم تخصص المادة بكلية أصول الدين". والذي دعا إلى نشره الآن، هو ظهور بعض مؤلفات، يحمل أصحابها على السنة حملة شعواء، ويشككون المسلمين فيها؛ بالطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنيل من أئمة الحديث ورواته، ورميهم بالتفريط في حفظ السنة وفهمها، وما لهؤلاء الطاعنين بذلك من علم إلا ما يتلقفونه من كتب المستشرقين، ومن سلك طريقهم من المغرضين: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف: الحمد لله رب العالمين. بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، الذين رفعوا منار الهداية، وحملوا راية السنة، وأعلوا شأن الرواية، وأحاطوا أحاديث نبيهم بسياج من الصيانة والرعاية؛ فنفوا عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وبعد فإن الله جلت حكمته، أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، ثم وكل سبحانه إلى رسوله الأمين تبيان هذا الكتاب فقال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، والرسول صلى الله عليه وسلم في بيانه للقرآن الكريم لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} لذلك أوجب الله علينا طاعته، وحذرنا معصيته، فقال تبارك وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فالقرآن والسنة هما أساس الدين، والنور الهادي إلى الصراط المستقيم. ولما كان للسنة النبوية هذه المكانة العظمى، عرف السلف الصالح

للسنة قدرها ومكانتها، فرعوها حق رعايتها، وحفظوها في الصدور، وأودعوها سويداء القلوب، ودونوها في المصنفات والكتب، وحكموها في شئونهم، وكانوا بها مستمسكين، وعلى نهجها سائرين، وما زال العلماء في كل عصر يعنون بالسنة عناية تامة علما وعملا، حتى جاءت عصور ضعف فيها المسلمون، فخلف من بعد هؤلاء الأعلام خلف تهاونوا بشأنها، وتقاعدوا عن حفظها، فاستعجم عليهم فهمها، واستغلق لديهم الوقوف على أسانيدها ومتونها، وكان من أثر ذلك أن رأينا أرباب الأديان المبدلة، والعقائد الزائفة، والأهواء المتبعة، يطعنون في سنة نبينا، ويغضون من شأن الأحاديث النبوية، فمن قائل: لا يعتمد عليها الآن لانقطاع أسانيدها، ومن قائل: إن السنة ليست دينا عاما دائما، ومن قائل: إن الأغلبية العظمى من الأحاديث ليست إلا من وضع الوضاعين، واختلاق الكذابين، ومن طاعن في صحابة رسول الله وهم الحلقة الأولى في سلسلة الإسناد، الذي يصلنا بصاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، ومن مشوه للحقائق التاريخية الثابتة فتراه يخلط الحق بالباطل، ويحمل البريء تبعة المذنب، ويغلب الشر على الخير، ومن متلمس للهفوات يضخم من شأنها، فيرفعها إلى درجة العظائم، لينال من هذه الملة المطهرة، والسنة النبوية المشرفة، إلى غير ذلك من أنواع المكايد والطعون التي يبثها أعداء الإسلام. فلما رأيت هذا الخلط والتلبيس، وذلك الطعن والأزراء، دون برهان ولا دليل، وغالب ذلك من المستشرقين، ومن حذا حذوهم من المفتونين، ورأيت القوم مسرفين في تبجح واسترسال؛ توجهت رغبتي إلى تأليف كتاب في تاريخ الحديث والمحدثين، يكشف القناع عن وجه الحقيقة، التي طالما شوه جمالها أصحاب الأهواء، ويوضح الحق من

الضلال ويميز الخطأ من الصواب، فأكون بذلك -إن شاء الله- منتظما في سلك المناضلين عن سنة خير المرسلين، ومنضويا تحت لواء البررة المجاهدين. هذا ولما كانت السنة النوية قد تواردت عليها عصور مختلفة، وتدرجت في أطوار متباينة، ولكل طور منها طابعه الخاص؛ رأيت أن أرتب هذا الكتاب على مقدمة وسبعة أدوار وخاتمة. المقدمة: في معنى السنة ونسبتها إلى الوحي، ومنزلتها في الدين وبيانها للقرآن الكريم. الدور الأول: السنة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. الدور الثاني: السنة في عهد الخلافة الراشدة. الدور الثالث: السنة بعد الخلافة الراشدة إلى منتهى القرن الأول الهجري. الدور الرابع: السنة في القرن الثاني. الدور الخامس: السنة في القرن الثالث. الدور السادس: السنة من مبدأ القرن الرابع إلى سقوط بغداد عام 656هـ. الدور السابع: السنة من عام 656هـ إلى عصرنا الحاضر. الخاتمة: في ذكر أنواع من علوم الحديث ناطقة بجهود الأمة في خدمة السنة. والله تعالى أسأل أن يوفقنا لخدمة العلم والدين، وأن يديم به النفع العميم إنه على ما يشاء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. محمد محمد أبو زهو

مقدمة الكتاب

مقدمة الكتاب المبحث الأول: معنى السنة لغة واصطلاحا ... مقدمة الكتاب: وتشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول - معنى السنة لغة واصطلاحا. المبحث الثاني - السنة من الوحي. المبحث الثالث - منزلة السنة في الدين. المبحث الرابع - السنة مبينة للقرآن الكريم. المبحث الأول: معنى السنة لغة واصطلاحا السنة في اللغة: الطريقة حسنة كانت أم سيئة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"، رواه مسلم. قال في لسان العرب "السنة السيرة حسنة كانت أو قبيحة. قال خالد بن عتبة الهذلي:- فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها وسننتها سنا واستننتها سرتها، وسننت لكم سنة فاتبعوها، وفي

الحديث "من سن سنة حسنة" إلخ يريد عملها ليقتدَى به فيها. وكل من ابتدأ أمرا عمل به قوم بعده قيل: هو الذي سنه. قال نصيب:- كأني سننت الحب أول عاشق ... من الناس إذ أحببت من بينهم وحدي وقد تكرر في الحديث ذكر السنة، وما تصرف منها والأصل فيه الطريقة والسيرة. وإذا أطلقت في الشرع، فإنما يراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ونهى عنه وندب إليه قولا وفعلا مما لم ينطق به الكتاب العزيز؛ ولهذا يقال في أدلة الشرع الكتاب والسنة أي القرآن والحديث". اهـ. السنة في لسان أهل الشرع: يختلف معنى السنة عند أهل الشرع حسب اختلاف الأغراض التي اتجهوا إليها من أبحاثهم، فمثلا علماء أصول الفقه عنوا بالبحث عن الأدلة الشرعية وعلماء الحديث عنوا بنقل ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلماء الفقه عنوا بالبحث عن الأحكام الشرعية من: فرض وواجب ومندوب وحرام ومكروه. والمتصدرون للوعظ والإرشاد، عنوا بكل ما أمر به الشرع أو نهى عنه. لذلك اختلف المراد من لفظ السنة عندهم، بل وقد يقع الاختلاف أيضا بين علماء الطائفة الواحدة منهم. فعلماء الأصول يطلقون لفظ السنة على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، وبعض الأصوليين يطلق لفظ السنة على ما عمل عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء أكان ذلك في الكتاب

العزيز أم عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا، كما فعلوا في جمع المصحف وتدوين الدواوين ونحو ذلك. ويدل على هذا الإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وذهب إلى هذا أيضا طائفة من المحدثين. وعلماء الفقه، يريدون بالسنة الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب. وعلماء الوعظ والإرشاد يريدون بالسنة ما قابل البدعة، فيقال عندهم فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، سواء كان ذلك ما نص عليه في الكتاب العزيز، أم لا ويقال: فلان على بدعة إذا عمل على خلاف ذلك. وعلماء الحديث يريدون بالسنة -على ما ذهب إليه جمهورهم- أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية وسيره، ومغازيه وبعض أخباره قبل البعثة مثل تحنثه في غار حراء، ومثل حسن سيرته؛ لأن الحال يستفاد منها ما كان عليه من كريم الأخلاق ومحاسن الأفعال؛ كقول خديجة أم المؤمنين له صلى الله عليه وسلم: "كلا والله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق"، ومثل أنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وأنه عُرف بالصدق والأمانة، وما إلى ذلك من صفات الخير وحسن الخلق، فمثل ذلك يُنتفع به في إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم كثيرا، كما حصل من هرقل في حديثه المشهور. والسنة بهذا المعنى مرادفه للحديث النبوي عندهم.

المبحث الثاني: السنة من الوحي

المبحث الثاني: السنة من الوحي السنة النبوية بالمعنى السابق ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو تقرير هي أحد قسمي الوحي الإلهي، الذي نزل به جبريل الأمين على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. والقسم الثاني من الوحي هو القرآن الكريم. فالسنة النبوية من الوحي، بذلك نطق الكتاب العزيز: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وبذلك جاءت السنة نفسها، فقد روى أبوداود والترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله"، وعن حسان بن عطية أنه قال: "كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن"، وعن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آتاني الله القرآن ومن الحكمة مثليه"، أخرجهما أبو داود في مراسيله. هذا ولما كانت السنة صنو الكتاب العزيز، ونوعا من وحي رب العالمين؛ رأينا أن نتكلم عن الوحي وأقسامه بإيجاز، حتى يتضح المقام، ويتبين لنا الفرق بين السنة والكتاب، فنقول:

الوحي وأقسامه: الوحي يطلق ويراد منه الإيحاء، ويطلق ويراد منه الموحَى به، ولا بد من بيانهما. الوحي بمعنى الإيحاء: الوحي بمعنى الإيحاء معناه لغة: الإعلام بالشيء على وجه الخفاء والسرعة، ولذا كانت الكتابة والإشارة والرمز والكلام الخفي من قبيل الوحي عند أهل اللغة. ومعناه في لسان الشرع: إعلام الله لأنبيائه ما يريد إبلاغه إليهم من الشرائع، والأخبار بطريق خفي بحيث يحصل عندهم علم ضروري قطعي، بأن ذلك من عند الله جل شأنه. فهو أخص من المعنى اللغوي باعتبار مصدره، وهو الله سبحانه ومورده وهم أنبياؤه الكرام. أقسامه: إعلام الله لأنبيائه ما يريد يقع على أحوال ثلاثة، أشار الله إليها بقوله {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} ، وإليك بيانها:- أولا: الإعلام بطريق الإلهام، وهو إلقاء المعنى في قلب النبي، دفعة مع العلم اليقيني بأن ذلك من الله عز وجل، وقد يكون هذا الإلهام في المنام كما يكون في اليقظة، وهذا النوع من الوحي هو المراد من قوله تعالى في الآية السابقة {إِلَّا وَحْيًا} بدليل مقابلته بالقسمين بعده. ثانيا: الكلام من وراء حجاب، أي بدون رؤية النبي لربه عز وجل وقت التكلم بحيث يسمع كلامه، ولا يراه كما حصل ذلك لموسى عليه السلام في بدء رسالته، وقد رأى نارا فقال لأهله امكثوا: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} الآيات، وعند مجيئه للميقات كما قال تعالى:

{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} الآيات. وكما حصل ذلك لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ليلة المعراج عند فرض الصلاة عليه وعلى أمته، ومراجعته ربه فيها على ما صرحت به الأحاديث الصحيحة. ثالثا: إعلام الله للنبي ما يريد أن يبلغه إليه بواسطة الملَك في اليقظة أو المنام، ثم الإعلام بواسطة الملك يقع على وجهين: لأن النبي تارة يشاهد الملك عند الوحي، إما على صورته الحقيقية، وهذا نادر. وإما متمثلا في صورة بشر كما كان جبريل يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة الصحابي الجليل دحية الكلبي، وتارة لا يرى النبي الملك عند الوحي، وإنما يسمع عند قدومه دويا وصلصلة شديدة، يعلم الله كنهها ومصدرها فيعتريه حالة روحية غير عادية، لا يدرك الحاضرون منها إلا أماراتها الظاهرية، كثقل بدنه وتفصد جبينه عرقا. روى البخاري في الصحيح عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام، سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا. وربما سمع الحاضرون عند وجهه الكريم دويا كدوي النحل عند مجيء الوحي. أخرج الترمذي، عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل ... الحديث.

الوحي بمعنى الموحى به: الوحي بمعنى الموحى به ينقسم إلى متلو وإلى غير متلو: 1- فمن الوحي المتلو القرآن الكريم، الذي جعله الله آية باهرة ومعجزة قاهرة، وحجة باقية على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتكفل بحفظه من التبديل والتحريف إلى قيام الساعة، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} ، نزل به جبريل الأمين على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه، من غير أن يكون لواحد منهما مدخل فيه بوجه من الوجوه، وإنما هو تنزيل من الله العزيز الحكيم، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . وقد انعقد الإجماع على أن القرآن الكريم، نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة بواسطة جبريل عليه السلام، وأنه لم ينزل عليه منه شيء في النوم، ولا بطريق من طرق الوحي الأخرى. وليس ذلك لأن طرق الوحي الأخرى يعتريها اللبس، أو يلحقها الشك. كلا، فالوحي بجميع أنواعه في اليقظة أو المنام يصاحبه علم يقيني ضروري بأنه من الله سبحانه. وإنما كان الإجماع على ما ذكرنا؛ لأنه الواقع الذي تفيده الأحاديث، والآثار الواردة في أسباب النزول، فإن قيل: روى مسلم عن أنس أنه قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، إذ غفا إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزل علي آنفًا سورة، فقرأ سورة الكوثر"، فهذا يفيد أن سورة الكوثر، نزلت في النوم قلنا: أجاب العلماء عن ذلك بأن الإغفاءة الواردة في الحديث ليست إغفاءة نوم، وإنما هي ما كان يعتريه عند نزول الملك من الوحي وشدته، وقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا عند نزول الوحي عليه؛ لتغلب روحيته على بشريته صلى الله عليه وسلم.

ومن خصائص القرآن الكريم، أنه متعبد بتلاوته في الصلاة وخارجها، وأنه لا تجوز روايته بالمعنى وأنه معجز بلفظه، ومعناه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . 2- ومن الوحي غير المتلو السنة النبوية لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، إلى غير ذلك من الأدلة، وقد تقدم بعضها غير أن السنة النبوية تفارق القرآن الكريم بأمور كثيرة، أهمها أنها منزلة بالمعنى، ولفظها من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاز روايتها بالمعنى للخبير بمقاصدها العارف بمعانيها وألفاظها عند من يرى ذلك من العلماء، وأنها ليست معجزة بألفاظها، ولا متعبدا بتلاوتها، وأنها نزلت بطرق الوحي السابقة في المنام، أو اليقظة بواسطة الملك أو غيره. وقد يشكل على أن السنة بأقسامها: أقوالها وأفعالها وتقريراتها من الوحي ما قرره العلماء من جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم، وأنه اجتهد في كثير من الوقائع في الحروب وغيرها، فجعل السنة بأقسامها الثلاثة موحى بها من الله سبحانه يعارض ما قرره جمهور العلماء، فضلا عن أنه يسلبه صلى الله عليه وسلم خصائصه ومزاياه من الفهم الثاقب والرأي الصائب، والجواب عن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم، وإن اجتهد في كثير من المواطن، التي لم ينزل عليه فيها وحي، بمقتضى ما فطر عليه من العقل السليم والنظر السديد، إلا أن الله سبحانه لا يتركه وشأنه، ولكن يقره إذا أصاب وينبهه إن أخطأ، ومن هنا كان اجتهاده صلى الله عليه وسلم إذا أقره الله عليه وحيا حُكْما. فلا تعارض بين ما قرره العلماء، وما قررنا

من أن السنة بأقسامها وحي من الله سبحانه، ثم إن ذلك لا يسلبه صلى الله عليه وسلم شيئا من خصائصه ومزاياه، كما قيل: بل يؤكدها ويقررها. الحديث القدسي، ومن أي أقسام الوحي هو؟ هناك طائفة من الأحاديث نقلت إلينا آحادا عنه صلى الله عليه وسلم، مع إسنادها إلى الرب عز اسمه تعرف بالأحاديث القدسية، أو الإلهية أو الربانية، فهل هي من كلامه تعالى وقوله، أو هي من كلامه صلى الله عليه وسلم ولفظه؟ وإذا كانت من كلامه تعالى أفيثبت لها خصائص القرآن الكريم أم لا؟ والجواب عن ذلك: أن للعلماء قولين في الأحاديث القدسية: الأول: أنها من كلام الله تعالى، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا حكايتها عن ربه عز وجل، وربما يستأنس لذلك بأمور: 1- أن هذه الأحاديث أضيفت إلى الله تعالى، فقيل: فيها قدسية وإلهية وربانية، فلو كان لفظها من عنده صلى الله عليه وسلم لما كان لها فضل اختصاص بالإضافة إليه تعالى دون سائر أحاديثه صلى الله عليه وسلم. 2- وأنها اشتملت على ضمائر التكلم الخاصة به تعالى كقوله: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي"، وكقوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بالكواكب". 3- وأن هذه الأحاديث تروى عن الله تعالى متجاوزا بها النبي صلى الله عليه وسلم، فتارة يقول الراوي: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه"، وتارة يقول الراوي: "قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فلو كان اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم لانتهى بالرواية إليه كما هو الشأن في الأحاديث النبوية.

هذا والأحاديث القدسية، وإن كانت من كلام الله تعالى على هذا القول، لكن ليس لها خصائص القرآن الكريم. فقد نقل القرآن إلينا بطريق التواتر معجزا بلفظه ومعناه متعبدا بتلاوته، يحرم على المحدث مسه وعلى نحو الجنب قراءته مسمى باسم "القرآن" متعينا للصلاة به. الجملة منه تسمى آية وسورة، ولا تجوز روايته بالمعنى، وهو بجميع آياته وسوره نزل به جبريل الأمين على قلب النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق. أما الأحاديث القدسية، فليس لها شيء من تلك المزايا بل هي أحاديث تروى آحادا، عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، تترجم عن عظمة الباري جل علاه، وسعة رحمته، وعظيم سلطانه، وفيض عطائه، وهي خاضعة لقواعد القبول والرد، أدرجها المحدثون في عداد الأحاديث النبوية، وخلطوها بها في المؤلفات والتصانيف، وأجمعوا على أنها غير معجزة بألفاظها ولا متعبد بتلاوتها، وأنها لا تسمى باسم القرآن والراجح أنها لم يلتزم فيها طريق خاصة من طرق الوحي السابقة، وأنه يجوز روايتها بالمعنى للعارف بالمعاني والألفاظ. القول الثاني في الأحاديث القدسية: أنها من قوله صلى الله عليه وسلم ولفظه كالأحاديث النبوية، وممن قال ذلك أبو البقاء في كلياته وعبارته: "القرآن ما كان لفظه ومعناه من عند الله بوحي جلي، وأما الحديث القدسي، فهو ما كان لفظه من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعناه من عند الله بالإلهام أو بالمنام"، واختاره أيضا الطيبي وعبارته: "القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث القدسي إخبار الله معناه بالإلهام أو بالمنام، فأخبر النبي صلى الله

عليه وسلم أمته بعبارة نفسه وسائر الأحاديث لم يضفها إلى الله تعالى، ولم يروها عنه تعالى"، وحكمة أضافتها إليه تعالى على هذا القول دون بقية الأحاديث، زيادة الاهتمام بمضمونها، وتوجيه النفوس إلى ما اشتملت عليه من المعاني والآداب. "الحكمة في أن الوحي المحمدي منه ما نزل باللفظ، ومنه ما نزل بالمعنى". من آثار رحمة الله تعالى أن جعل الشريعة المحمدية من دون الشرائع السابقة شريعة باقية خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فأنزل القرآن الكريم وحيا يتلى إلى قيام الساعة، محفوظا من التبديل والتغيير: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، فكان دليلا قائما وبرهانا ساطعا على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين، وكان خير حافظ للشريعة المحمدية من عبث العابثين، وتحريف الغالين وانتحال المبطلين، وكان وما يزال نورا ساطعا وضياء للمتقين: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وكما حفظ الله شريعته بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه رفع الإصر والحرج عن خلقه، فأنزل على نبيه الكريم إلى جانب القرآن العزيز نوعا آخر من الوحي، هو السنة أنزلها عليه بالمعنى، وجعل اللفظ إليه إيذانا بأن في الأمر سعة على الأمة، وتخفيفا عليها، وأن المقصود هو مضمونها لا ألفاظها، فيجوز لصحابته ومن بعدهم أن يبلغوها عنه صلى الله عليه وسلم باللفظ النبوي، وهو الأولى والأحوط لما في قوله صلى الله عليه وسلم من أنوار النبوة، وضياء الرسالة والفصاحة العربية، التي لا يلحق شأوه فيها، ويجوز لهم أن يبلغوها عنه صلى الله عليه وسلم

بعبارات ينشئونها، وأقوال تفي بالمعنى المقصود، ولا يكون ذلك إلا للماهر في لغة العرب وأساليبها العارف بمعاني الشريعة، ومقاصدها حتى لا ينشأ عن الرواية بالمعنى خلل، يذهب بالغرض المقصود من الحديث وفي ذلك من الخطر ما فيه، فإن السنة تبيان للقرآن العزيز، ووحي من رب العالمين وثاني مصادر التشريع، فالخطأ فيها أثره جسيم وخطره عظيم، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي، فليتبوأ مقعده من النار". وإنك لتلمس آثار رحمة الله، وحكمته في أن جعل الوحي على قسمين، قسما لا تجوز روايته بالمعنى، بل لا بد فيه من التزام الألفاظ المنزلة، وهو القرآن الكريم وقسما تجوز روايته بالمعنى لمن يستطيع ذلك، وهو السنة النبوية المطهرة وفي ذلك صون الشريعة، والتخفيف عن الأمة، ولو كان الوحي كله من قبيل القرآن الكريم في التزام أدائه بلفظه لشق الأمر، وعظم الخطب ولما استطاع الناس أن يقوموا بحمل هذه الأمانة الإلهية. ولو كان الوحي كله من قبيل السنة في جواز الرواية بالمعنى، لكان فيه مجال للريب ومثار للشك، ومغمز للطاعنين ومنفذ للملحدين إذ يقولون: لا نأمن خطأ الرواة في أداء الشريعة، ولا نثق بقول نقلة العقائد والأحكام والآداب، ولكن الله جلت حكمته صان الشريعة بالقرآن، ورفع الأصر عن الأمة بتجويز رواية السنة في الحدود السابقة؛ لئلا يكون للناس على الله حجة.

المبحث الثالث: منزلة السنة النبوية في الدين

المبحث الثالث: منزلة السنة النبوية في الدين 1- وجوب اتباعها، والتحذير عن مخالفتها: السنة النبوية وحي من الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أصل من أصول الدين، وركن في بنائه القويم يجب اتباعها وتحرم مخالفتها، على ذلك أجمع المسلمون وتضافرت الآيات على وجه لا يدع مجالا للشك. فمن أنكر ذلك فقد نابذ الأدلة القطعية، واتبع غير سبيل المؤمنين. ومن الآيات في ذلك: أ- قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . ب- قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . ج- قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . د- قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} . هـ- قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} . و قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . ز- قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .

2- الرد على من ينكر الاحتجاج بالسنة، وأنها من أصول الدين: المنكرون لذلك طائفتان: طائفة ردوا السنة جملة، سواء كانت متواترة أم آحادية زعما منهم أن لا حاجة إليها، وفي القرآن غنية عنها وأن النظر فيه يوصل إلى مقاصده، بدون الرجوع إليها، وبنوا هذا الزعم على شبه منها:- أ- ما فهموه من قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . ب- وما فهموه من قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . ج- وما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله. فإن وافق كتاب الله فأنا قلته. وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله". وطائفة ردوا أخبار الآحاد، فقط زعما منهم أن الراوي ليس معصوما من الكذب، وأنه يجوز عليه الخطأ والنسيان. الرد على من ينكر الاحتجاج بالسنة جملة: هؤلاء القوم محجوجون بالأدلة السابقة، وبغيرها مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، فلو كان القرآن في غنى عن السنة لما كان لهذه الآية معنى، ونحن إذ نستمسك بالسنة، ونعمل بما جاء فيها إنما نعمل بكتاب الله. قيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال: والله ما نبغي بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله"، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، فقالت: يا أبا عبد الرحمن بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهو في كتاب الله. فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف، فما وجدته فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورُوي أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اتركهما فقال: إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة. فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن صلاة بعد صلاة العصر، فلا أدري أتعذب عليهما أم تؤجر؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ، وعن عمران بن حصين أنه قال لرجل: "إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعا، لا يجهر فيها بالقراءة، ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا. ثم قال: أتجد ذلك في كتاب الله مفسرا. إن كتاب الله أبهم هذا، وإن السنة تفسر ذلك". ذكر هذه الآثار كلها ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" "2-188". وأما ما استندوا إليه فشبه واهية نجيب عنها بما يأتي:- 1- المراد من قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أن القرآن بيان لأمور الدين، إما بطريق النص أو بالإحالة على السنة، وإلا لناقض قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . 2- وأما قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، فالمراد بالكتاب فيه اللوح المحفوظ لا القرآن بدليل السياق. قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ، أي مكتوبة أرزاقها وآجالها، وأعمالها كما كتبت أرزاقكم، وآجالكم، وأعمالكم

{مَا فَرَّطْنَا} أي ما تركنا وما أغفلنا {فِي الْكِتَابِ} أي في اللوح المحفوظ {مِنْ شَيْءٍ} أي من ذلك لم نكتبه، ولم نثبت ما وجب أن يثبت مما يخص به {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} يعنى الأمم كلها من الدواب والطير، فيعوضها وينصف بعضها من بعض، أفاده في الكشاف وعلى تقدير أن المراد بالكتاب هنا القرآن فتأويله: ما فرطنا فيه من شيء من أمور الدين، فهو دال عليها إما بطريق النص، أو بالإحالة على السنة كما سبق. 3- وأما الحديث الذي نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أئمة الحديث أنه مكذوب، وضعته الزنادقة والخوارج. قال الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ما نصه: "أمر الله عز وجل بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه أمرا مطلقا مجملا لم يقيد بشيء، كما أمرنا باتباع كتاب الله، ولم يقل: إذا وافق كتاب الله، كما قال بعض أهل الزيغ. قال عبد الرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث؛ يعني ما رووا عنه صلى الله عليه وسلم: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته. وإن خالف كتاب الله فلم أقله. وإنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني الله". وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم، وقالوا: نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء، ونعتمد على ذلك قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفا لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله أنه لا يقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله؛ بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به، والأمر بطاعته، ويحذر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال. اهـ "2-190".

ونقل صاحب كشف الخفاء، عن الصغاني أن هذا الحديث موضوع، فلم يبق لهؤلاء المبتدعة الذين نابذوا السنة، وتأولوا القرآن على غير وجهه من حجة إلا اتباع الهوى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} ، ولقد أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أطلعه الله عليه من الغيب، عن هذه الفرق ومسلكها، وأنهم لا يرفعون للسنة رأسا مع أنها من وحي الله سبحانه فقال: "يوشك رجل منكم متكئا على أريكته، يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي حرم الله"، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. وروى ابن عبد البر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بين فسقه؛ ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله". 3- الرد على من ينكر الاحتجاج بالسنة الآحادية: قسم المحدثون الحديث النبوي إلى متواتر وآحاد:- الحديث المتواتر: هو ما نقله جمع يحصل العلم بصدقهم، ضرورة بأن يكونوا عددا كثيرا لا يمكن تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم من أوله إلى آخره، ولذا كان مفيدا للعلم الضروري، وهو الذي يضطر إليه الإنسان بحيث لا يمكنه دفعه، ويجب العمل به من غير بحث عن رجاله، ولا يعتبر فيه عدد معين في الأصح. ثم المتواتر قسمان: لفظي: وهو ما تواتر لفظه. ومعنوي: وهو ما تواتر القدر المشترك فيه.

وللأول أمثلة منها حديث: "من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار". وللثاني أمثلة كثيرة منها أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث فيه رفع يديه في الدعاء؛ لكنها في قضايا مختلفة وكل قضية منها لم تتواتر، والمتواتر هو القدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء. خبر الواحد: وأما خبر الواحد، فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر، سواء كان الراوي له واحدا أم أكثر، وهو نوعان "مقبول"، وهو ما اتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن مثله من مبدئه إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة. "ومردود"، وهو ما لم يتصل إسناده كذلك. خبر الواحد الثقة حجة يلزم بها العمل: الذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع، يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد العلم، ويقابل هذا المذهب مذاهب أخرى؛ منها: 1- ما ذهب إليه القدرية والرافضة وبعض أهل الظاهر أنه لا يجب العمل به. 2- وقال الجبائي من المعتزلة. لا يجب العمل إلا بما رواه اثنان عن اثنين. 3- وقال بعضهم: لا يجب العمل إلا بما رواه أربعة عن أربعة. وهذه الأقاويل التي تقابل ما عليه جماهير المسلمين كلها باطلة، فلم تزل كتب النبي صلى الله عليه وسلم، وآحاد رسله يعمل بها ويلزمهم

النبي صلى الله عليه وسلم العمل بذلك، واستمر على ذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم. ولم يزل الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة فمن بعدهم من السلف والخلف على امتثال خبر الواحد إذا أخبرهم بسنة وعلى قضائهم به ورجوعهم إليه في القضاء والفتيا، ونقضهم به ما حكموا على خلافه، وطلبهم خبر عند عدم الحجة ممن هو عنده، واحتجاجهم به على من خالفهم، وانقياد المخالف لذلك، وهذا كله معروف لا شك فيه، والعقل لا يحيل العمل بخبر الواحد، وقد جاء الشرع بوجوب العمل به فوجب المصير إليه. واحتج بعض العلماء لقبول خبر الواحد، بأن كل صحابي أو تابعي سئل عن نازلة في الدين، فأخبر السائل بما عنده فيها لم يشترط على السائل ألا يعمل بما أخبره به من ذلك، حتى يسأل غيره فضلا عن أن يسأل الكافة، بل كان كل منهم يخبره بما عنده، فيعمل بمقتضاه ولا ينكر عليه ذلك، فدل على اتفاقهم على وجوب العمل بخبر الواحد. وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال، فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة في الصحة، أو تهمة للراوي، أو وجود معارض راجح، أو نحو ذلك. قال ابن القيم في إغاثة اللهفان ما ملخصه: "ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بتفرد الراوي، فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة، وقبله الأئمة كلهم فلم يرده أحد منهم، وكم من حديث تفرد به واحد من التابعين، ولم يرده أحد من الأئمة، ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا، قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع -ومن تبعهم في ذلك- أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء، وقد تفرد الزهري بنحو ستين سُنة لم يروها غيره، وعملت بها الأئمة ولم يردوها لتفرده، ثم إن هذا القول

لا يمكن أحدا من أهل العلم ولا من الأئمة ولا من أتباعهم طرده، ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم. فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله أن يتوقف فيه، ولا يجزم بصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ أن يخالف الراوي الثقات فيما رووه فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به، لم يروِ الثقات خلافه؛ فإن ذلك لا يسمى شاذا، وإن اصطلح على تسميته شاذا بهذا المعنى، لم يكن هذا الاصطلاح موجبا لرده ولا مسوغا له. قال الشافعي رحمه الله: وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث، بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات، قال: في مناظرته بعض من رد الحديث بتفرد الراوي فيه". اهـ. وقد جود الكلام على قبول خبر الواحد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في رسالته المشهورة في باب على حدة، فارجع إليه إن شئت، وسيأتيك طرف منه إن شاء الله تعالى. 4- عذر الأئمة في ترك العمل ببعض الأحاديث، وأنه لا يعد طعنا منهم في السنة: قد يقول قائل: قررت أن السنة بنوعيها -المتواتر منها والآحاد- يجب اتباعها ولا تجوز مخالفتها، ولكننا نرى كثيرا من الأئمة المجتهدين يعمل في بعض المسائل على خلاف ما جاءت به الأحاديث. والجواب: أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة، يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق أو جليل؛ فإنهم مجمعون على وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه، والأعذار في هذا الباب كثيرة جدا، وإليك أمثلة من هذه الأعذار:

1- ألا يكون الحديث قد بلغه في تلك المسألة، ومن لم يبلغه الحديث لا يكلف العمل به، وهذا هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث. والإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الأئمة كائنا من كان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يحدث أو يفتي أو يقضي أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضرا، ثم يبلغه أولئك الحاضرون أو بعضهم لمن يبلغونه، فينتهي علم ذلك إلى من شاء الله من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فلم تكن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيط بها صحابي واحد، أو تابعي واحد، أو إمام من الأئمة. ومن ادعى ذلك فقد أحال، وإنما يتفاضل العلماء من الصحابة ومن بعدهم بكثرة العلم أو جودته، واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين، الذين كانوا أعلم الأمة بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأحواله. فهذا أبو بكر رضي الله عنه لما سئل عن ميراث الجدة قال: "ما لك في كتاب الله من شيء؛ ولكن أسأل الناس"، فسألهم فقام المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة، فشهدا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن يعلم سنة الاستئذان، حتى أخبره بها أبو موسى رضي الله عنه، ولم يكن يعلم أن المرأة ترث من دية زوجها، حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان -أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض البوادي- يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها"، ولم يكن يعلم حكم المجوس في الجزية، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، ولما قدم "سرغ"، وبلغه أن الطاغوت بالشام، استشار المهاجرين الأولين الذين معه، ثم الأنصار، ثم مسلمة الفتح، فأشار

كل عليه بما رأى ولم يخبره أحد بسُنة، حتى قدم عبد الرحمن بن عوف، فأخبره بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون، وأنه قال: "إذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه، وإذا سمعتتم به بأرض فلا تقدموا عليه"، وهذا عثمان رضي الله عنه لم يكن عنده علم بأن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيت زوجها، حتى حدثته الفريعة بنت مالك -أخت أبي سعيد الخدري- بقضيتها لما توفي زوجها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله"، فأخذ به عثمان. وأُهدي لعثمان مرة صيد كان قد صيد لأجله فهَمَّ بأكله، فأخبره علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رد لحما أُهدي له، وهذا علي رضي الله عنه يقول: "كنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدثني غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، وذكر حديث صلاة التوبة المشهور". وأفتى هو وابن عباس وغيرهما بأن المتوفى عنها زوجها، إذا كانت حاملا تعتد أبعد الأجلين، ولم يكن قد بلغهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيعة الأسلمية؛ حيث أفتاها النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدتها وضع حملها. وأفتى هو وزيد وابن عمر وغيرهم بأن المفوضة إذا مات عنها زوجها فلا مهر لها، ولم تكن قد بلغتهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، وأنه قضى لها بمهر مثلها، وهذا باب واسع يبلغ المنقول منه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عددا كثيرا، وأما المنقول منه عن غيرهم، فلا يمكن الإحاطة به، ومن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماما معينا، فهو مخطئ خطأ بينًا.

2- ان يكون للحديث طريقان؛ أحدهما صحيح، وثانيها غير صحيح، فيبلغ هذا الحديث بعض الأئمة من الطريق الذي لم يصح فلا يعمل به، ويبلغ آخرين من الطريق الصحيح فيعملون به، ولهذا وجد في كلام غير واحد من الأئمة تعليق القول بموجب الحديث على صحته، فيقول: قولي في هذه المسألة كذا، وقد رُوي فيها حديث بكذا، فإن كان صحيحا فهو قولي. 3- أن يكون للحديث طريق واحد، ولكنه يختلف فيه الأئمة؛ فيراه بعضهم صحيحا لعدم القادح لديه في متنه أو سنده، ويراه بعضهم غير صحيح لقادح في سنده أو متنه. وهذا باب واسع، وللعلماء بالرجال وأحوالهم وفي فهم المرويات ودلالتها ما لسائر العلماء في الفنون الأخرى من الاختلاف. 4- أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده ولكنه نسيه، وهذا كثير في السلف والخلف؛ ومن ذلك الحديث المشهور عن عمر رضي الله عنه، أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر، فلا يجد الماء فقال: "لا يصلى حتى يجد الماء" فقال له عمار. "يا أمير المؤمنين، أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل، فأجنبنا فأما أنا فتمرغت كما تمرغ الدابة، وأما أنت فلم تصل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما يكفيك هكذا، وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه" فقال له عمر: "اتق الله يا عمار". فقال: إن شئت لم أحدث به، فقال: "بل نوليك من ذلك ما توليت". فهذه سنة شهدها عمر، ثم نسيها حتى أفتى بخلافها، وذكَّره عمار فلم يذكر، ومع ذلك لم يكذِّب عمارًا، وأمره أن يحدث به. 5- أن يبلغه الحديث ولكنه يرى أن دلالته على الحكم قد عارضها ما يدل على أنها ليست بمرادة، مثل معارضة العام بخاص أو المطلق بمقيد

أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب أو الحقيقة بما يدل على المجاز، إلى غير ذلك من أنواع التعارض. 6- أن يبلغه الحديث، ولكنه يرى نسخه بدليل آخر، ومن أمثلة ذلك حديث شداد بن أوس، وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، بين الشافعي رحمه الله أن هذا الحديث منسوخ بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، وذلك أنه روي في حديث شداد، أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الفتح، فرأى رجلا يحتجم في شهر رمضان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، وروي في حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم، فبان بذلك أن الأول كان زمن الفتح في سنة ثمان من الهجرة، وأن الثاني كان في حجة الوداع سنة عشر، ومن الأمثلة أيضا حديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، فإنه منسوخ بدليل الإجماع على ترك العمل به. وهذا وفي كثير من الأحاديث، يجوز أن يكون للإمام حجة في ترك العمل بالحديث، لم نطلع نحن عليها؛ فإن مدارك العلم واسعة، ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء، والعالم قد يبدي حجته وقد لا يبديها، وإذا أبداها فقد تبلغنا وقد لا تبلغ، وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه وقد لا ندركه، سواء أكانت الحجة صوابا في نفس الأمر أم لا، وقد ذكرنا أمثلة بارزة من أعذارهم في ترك العمل ببعض الأحاديث، وأنه لا يعد طعنا منهم في السنة، أو قصورا في العلم، وجماع هذه الأعذار ثلاثة: "أحدها" عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحديث، "ثانيها" عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك الحديث، "ثالثها" اعتقاده أن ذلك

الحديث منسوخ، وبالله التوفيق. راجع كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لشيخ الإسلام ابن تيمية. 5- ما يطلب من المسلم إذا وجد حديثا على خلاف مذهبه: 1- ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق العلماء على أنه ليس أحد معصوما في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- عَمِلَ الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة بهذا الأصل، فكانوا يطلبون الحكم في المسائل التي تقع من الكتاب والسنة، فإن لم يجدوا اجتهدوا واستنبطوا، وقاسوا معترفين أن اجتهادهم يحتمل الخطأ والصواب، وإن كان يغلب على ظن المجتهد في هذه الحالة أنه إلى الصواب أقرب، وكان من طريقتهم أنهم إذا وجدوا حديثا في الحكم الذي اجتهدوا فيه على خلاف رأيهم رجعوا عن اجتهادهم إليه؛ عملًا بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ، وقال غير واحد من هؤلاء الأئمة: كل أحد يُؤخذ من كلامه ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3- وقد ذكرنا فيما سبق أمثلة من رجوع الصحابة عن آرائهم إلى السنة حينما ظهرت لهم، وهؤلاء الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المدونة، قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه، وقرروا أن الدليل إذا قام على خلاف رأيهم كان أولى بالاتباع، وصح عن كل واحد منهم أنه

قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، ولما اجتمع أبو يوسف بإمام دار الهجرة مالك بن أنس، وسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضراوات، ومسألة الإحباس؛ فأخبره مالك بما دلت عليه السنة في ذلك قال: "رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت"، ومالك رحمه الله كان يقول: "إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة"، والشافعي رحمه الله كان يقول: "إذا صح الحديث بخلاف قولي، فاضربوا بقولي عرض الحائط. وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي"، وقال ابن القيم في أعلام الموقعين: "كان الإمام أحمد إذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان؛ ولذا لم يلتفت إلى خلاف عمر رضي الله عنه في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس"، إلى أمثلة كثيرة ذكرها، فلتراجع "1-32" طبع المنيرية. 4- ومع هذه الوصايا المتكررة، نرى كثيرًا من العلماء المقلدين لهؤلاء الأئمة إذا وجدوا حديثا يخالف مذهبهم، ولم يستطيعوا الجواب عنه؛ نراهم يلتزمون المذهب، ويهملون العمل بالحديث، ويعمدون إلى فتح باب الاحتمالات البعيدة، ويلتمسون لمذاهب أئمتهم أوجهًا من الترجيح. وإن عجزوا عن ذلك ادعوا النسخ، بلا دليل أو الخصوصية أو عدم العمل به أو غير ذلك. فإن عجزوا عن ذلك كله ادعوا أن إمامهم اطلع عل كل مروي. فما ترك هذا الحديث إلا لأنه مطعون فيه. وتارة يقولون: إن أمر الحديث عظيم، وليس لمثلنا أن يفهمه، فكيف يعمل به؟! وما دروا أن تعظيم الحديث إنما هو في العمل به، وأن تركه إهانة له، وأن فهمه على الوجه الذي هو مناط التكليف حاصل، وإلا لما قامت لله ولا لرسوله حجة إلا على أمثال الأئمة المجتهدين. وقد عاب عليهم صنيعهم هذا كثير من العلماء، منهم العز بن عبد السلام؛ حيث قال: "ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على

ضعف مأخذ إمامه؛ بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، وهو مع ذلك يقلده فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم جمودا على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة؛ نضالا عن مقلَّده" بفتح اللام المشددة. قال: "ولم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقيد بمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب، ومتعصبوها من المقلدين، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة، مقلدا له فيما قال كأنه نبي أرسل، وهذا نأى عن الحق، وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب". انظر كتاب حجة الله البالغة "1-155". 5- والذي نراه بعد هذا أن من تفقه على مذهب إمام من الأئمة وتبصر فيه، ثم اشتغل بعده بالحديث، وراض نفسه على استنباط الأحكام منه، فوجد أحاديث صحيحة على خلاف مذهب إمامه، ولا يعلم لها ناسخا ولا مخصصا ولا معارضا أنه لا مناص له من العمل بالحديث وترك المذهب، لا سيما إذا قال بالحديث إمام من الأئمة الموثوق بهم، وأن في هذا المسلك العمل بنصوص الشريعة، وتنفيذ ما أجمع عليه الأئمة، والوقوف من أصحاب المذاهب موقفهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقال لمن يفعل هذا: أنت أعلم من إمامك الذي خالفته؛ لأن إمامه قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره فالمصير إلى الحديث في هذه الحالة أولى، والإلزم عليه الإعراض عن أمر الله ورسوله، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته، واعتبر بما ورد عن ابن عباس، وقد ناظره مناظر في المتعة فقال له: "قال أبو بكر وعمر"، فقال ابن عباس: "يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر"، وكذلك ابن عمر رضي الله عنه لما سألوه عنها، فأمر بها فعارضوه بقول عمر، فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه

فألحوا عليه فقال لهم: "أرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع أم عمر" مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، والمراد بالمتعة متعة الحج لا متعة النكاح. 6- ولا بأس أن نذكر هنا كلمات عن بعض العلماء من أتباع الأئمة، تؤيد ما ذهبنا إليه، وأنه لا ينبغي لأهل العلم والمعرفة، أن يتركوا الأحاديث إلى المذاهب؛ فنقول: المقالة الأولى: قال ابن الصلاح: "من وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه؛ نظر إن كملت له آلة الاجتهاد مطلقا، أو في ذلك الباب، أو المسألة؛ كان له الاستقلال بالعمل به، وإن لم يكمل له آلة الاجتهاد، وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن يبحث، فلم يجد للمخالف جوابا شافيا عنه؛ فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذرا له في ترك مذهب إمامه ههنا"، وحسنه النووي قاله الدهلوي في حجة الله البالغة "1-158". المقالة الثانية: قال الإمام الشعراني في الميزان: "فإن قلت: فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي، ولم يأخذ بها؟ فالجواب: ينبغي لك أن تعمل بها؛ فإن إمامك لو ظفر بها، وصحت عنده لربما كان أمرك بها، فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة، ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه، ومن قال: لا أعمل بالحديث إلا إن أخذ به إمامي فاته خير كثير، كما عليه كثير من المقلدين لأئمة المذاهب، وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذًا لوصية الأئمة، فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو عاشوا، وظفروا بتلك الأحاديث، التي صحت بعدهم لأخذوا بها، وعملوا بها، وتركوا كل قياس كانوا قاسوه، وكل قول كانوا قالوه، وقد بلغنا من طرق صحيحة أن الإمام الشافعي أرسل يقول للإمام أحمد بن حنبل إذا صح عندكم حديث، فأعلمونا به لنأخذ به، ونترك كل قول قلناه قبل ذلك، أو قاله غيرنا، فإنكم أحفظ للحديث، ونحن أعلم به". اهـ.

المقالة الثالثة: وقال الإمام السندي الحنفي: "تقرر أن الصحابة ما كانوا كلهم مجتهدين على اصطلاح العلماء، فإن فيهم القروي، والبدوي ومن سمع منه صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا، أو صحبه مرة ولا شك أن من سمع حديثا، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن واحد من الصحابة رضي الله عنهم، كان يعمل به حسب فهمه مجتهدا كان أو لا، ولم يعرف أن غير المجتهد منهم كلف بالرجوع إلى المجتهد، فيما سمعه من الحديث لا في زمانه، صلى الله عليه وسلم، ولا بعده في زمان الصحابة رضي الله عنهم، وهذا تقرير منه صلى الله عليه وسلم بجواز العمل بالحديث لغير المجتهد، وإجماع من الصحابة عليه، ولولا ذلك لأمر الخلفاء غير المجتهد منهم سيما أهل البودي، أن لا يعلموا بما بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة، أو بواسطة حتى يعرضوا على المجتهدين منهم، ولم يرد في هذا عين ولا أثر، وهذا هو ظاهر قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، ونحوه من الآيات، حيث لم يقيد بأن ذلك على فهم الفقهاء. ومن هنا عرفت أنه لا يتوقف العمل بعد وصول الحديث الصحيح على معرفة عدم الناسخ، أو عدم الإجماع على خلافه، أو عدم المعارض، بل ينبغي العمل به إلى أن يظهر شيء من الموانع، فينظر ذلك ويكفي في العمل كون الأصل عدم هذه العوارض المانعة عن العمل، وقد بنى الفقهاء على اعتبار الأصل في شيء أحكاما كثيرة في الماء، ونحوه لا تخفى على المتتبع لكتبهم. ومعلوم أن من أهل البوادي، والقرى البعيدة من كان يجيء إليه صلى الله عليه وسلم مرة، أو مرتين ويسمع شيئا، ثم يرجع إلى بلاده ويعمل به، والوقت كان وقت نسخ وتبديل، ولم يعرف أنه صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من هؤلاء بالمراجعة، ليعرف الناسخ من المنسوخ بل أنه صلى الله عليه وسلم قرر من:قال "لا أزيد على هذا ولا أنقص" على ما قال ولم ينكر عليه بأنه يحتمل النسخ

بل قال: "دخل الجنة إن صدق" وكذلك ما أمر الصحابة أهل البوادي وغيرهم بالعرض على مجتهد ليميز له الناسخ من المنسوخ. فظهر أن المعتبر في النسخ ونحوه بلوغ الناسخ لا وجوده، ويدل على أن المعتبر البلوغ لا الوجود أن المكلف مأمور بالعمل على وفق المنسوخ. بل صحح ذلك حديث نسخ القبلة إلى الكعبة المشرفة، فإن خبره وصل إلى أطراف المدينة المنورة كأهل قباء، وغيرهم بعد ما صلوا على وفق القبلة المنسوخة، فمنهم من وصله الخبر في أثناء الصلاة. ومنهم من وصله بعد أن صلى الصلاة. والنبي صلى الله عليه وسلم قررهم على ذلك، ولم يأمر أحدا منهم بالإعادة، فلا عبرة لما قيل: "لا يجوز العمل قبل البحث عن المعارض والمخصص"، وإن ادعى عليه الإجماع، فإنه لو سلم فإجماع الصحابة، وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على إجماع من بعدهم، على أن ما ادعى من الإجماع، قد علم خلافه كما ذكر في بحر الزركشي في الأصول". ا. هـ. ملخصًا.

المبحث الرابع: في أن السنة النبوية مبينة للقرآن الكريم

المبحث الرابع: في أن السنة النبوية مبينة للقرآن الكريم أنزل الله القرآن الكريم هداية للناس في أمور دينهم، ودنياهم ولكن بأسلوب إجمالي في الغالب لا يمكن الوقوف منه على مراد الله عز وجل، بطريق الوضوح وقد وكل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أن يبلغ القرآن الكريم للناس وأن يبين لهم بقوله، وفعله ما يحتاج إلى البيان فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، وهو صلى الله عليه وسلم، إذ يبين للناس كتاب الله لا يصدر عن نفسه، ولكنه يتبع ما يوحى إليه من ربه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، فالسنة النبوية وظيفتها تفسير القرآن الكريم

والكشف عن أسراره وتوضيح مراد الله تعالى من أوامره، وأحكامه ونحن إذا تتبعنا السنة من حيث دلالتها على الأحكام التي اشتمل عليها القرآن إجمالا، أو تفصيلا وجدناها ترد على هذه الوجوه الأربعة. الأول: أن تكون موافقة لما جاء في القرآن، فتكون واردة حينئذ مورد التأكيد ومن أمثلة ذلك: 1- قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم، إلا بطيب من نفسه"، رواه الديلمي فإنه يوافق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . 2- قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في النساء فإنهم عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله"، فإنه يوافق قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . 3- قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته"، يوافق قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} . الثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن، ومن أمثلة هذا النوع: 1- بيان المجمل في مثل الأحاديث، التي جاء فيها تفصيل أحكام الصلاة والزكاة والصيام، والحج وغيرها. 2- تقييد المطلق كالأحاديث التي بينت المارد من اليد في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، وأنها اليمنى وأن القطع من الكوع لا من المرفق. 3- تخصيص العام كالحديث، الذي بين أن المراد من الظلم في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، هو الشرك فإن بعض الصحابة فهم منه العموم حتى قال: "أينا لم يظلم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس بذاك إنما هو الشرك".

4- توضيح المشكل كالحديث، الذي بين المراد من الخيطين في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، فهم منه بعض الصحابة العقال الأبيض، والعقال الأسود، فقال صلى الله عليه وسلم: "هما بياض النهار وسواد الليل". الثالث: أن تكون دالة على حكم سكت عنه القرآن، ومن أمثلة هذا النوع: 1- قوله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". 2- قوله صلى الله عليه وسلم في الجنين، الخارج ميتا من بطن أمه المذكاة: "ذكاة الجنين ذكاة أمه". 3- الأحاديث الواردة في تحريم ربا الفضل. 4- الأحاديث الواردة في تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم لحوم الحمر الأهلية. الرابع: أنها تكون ناسخة لحكم ثبت بالكتاب على رأي من يجوز نسخ الكتاب بالسنة، ومثال ذلك حديث: "لا وصية لوارث" فإنه ناسخ لحكم الوصية للوالدين، والأقربين الوارثين الثابت بقوله تعالى في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، على أحد الوجوه في تفسير الآية، وحديث: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"، فهو ناسخ لآية النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} ، الآية على أحد الوجوه أيضا. والأمثلة كثيرة لا سيما على مذهب الحنفية، الذين يقولون: إن الزيادة على الكتاب من قبيل النسخ. والمسألة مختلف فها بين الفقهاء على ما هو معروف في الأصول.

هذا والنسخ من قبيل البيان؛ لأنه بيان انتهاء أمد الحكم، ولذلك يطلق عليه بعض علماء الأصول "بيان التبديل". هل السنة النبوية تستقبل بالتشريع؟؟ وقد يقول قائل: أن الوجه الثالث، الذي ذكرته يفيد أن السنة قد يثبت بها أحكام لم ترد في القرآن إجمالا، ولا تفصيلا، وهو يخالف ظاهر قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، فإنه يفيد أن السنة إنما تبين القرآن، ولا تتعداه إلى غيره، ولنا عن ذلك جوابان: الجواب الأول: أنا لا نسلم خلو القرآن عن الأحكام المذكورة في الوجه الثالث من أوجه البيان، ولكنه اشتمل عليا بطريق الأجمال، فصح أن تكون السنة بيانا للقرآن بهذا الاعتبار. وتوضيح ذلك أن الأحكام التي جاءت بها السنة، وسكت عنها القرآن ظاهرا، يمكن أن تكون بيانا له إما بطريق الإلحاق، وإما بطريق القياس وإما بطريق استنباط القواعد العامة من الجزئيات، وإليك توضيح ذلك: البيان بطريق الإلحاق: قد ينص القرآن على حل شيء، وحرمة آخر، ويكون هناك شيء ثالث لم ينص على حكمه، وهو آخذ من كل منهما بطرف، فيكون ثم مجال للاجتهاد في إلحاقه بأحدهما، فيعطيه النبي صلى الله عليه وسلم حكم أحدهما، وحينئذ يتبين أنه كان من مشمولاته. ومن الأمثلة على ذلك: 1- أحل الله الطيبات وحرم الخبائث، وبقي بين هذين الأصلين أشياء يمكن إلحاقها بأحدهما، فبين عليه الصلاة والسلام في ذلك ما اتضح به الأمر، فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وقال أنها رجس. ونهى عليه الصلاة والسلام عن أكل الجلالة وألبانها ذلك لما في لحمها ولبنها من أثر

الجلة، فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث، كما ألحق عليه الصلاة والسلام الضب والحبارى، والأرنب وأشباهها بأصل الطيبات. 2- أباح الله من صيد الجارح المعلم ما أمسك عليك وعلم من ذلك أن ما لم يكن معلما، فصيده حرام إذ لم يمسك إلا على نفسه، فدار بين الأصلين ما كان معلما، ولكنه أكل من صيده، فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك، والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك، فتعارض الأصلان، فجاءت السنة ببيان ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: "إن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون، إنما أمسك على نفسه"، أخرجه الشيخان. 3- أحل الله صيد البحر فيما أحل من الطيبات، وحرم الميتة فيما حرم من الخبائث، فدارت ميتة البحر بين الطرفين، وأشكل حكمها فقال عليه الصلاة والسلام: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" أخرجه أصحاب السنن. 4- حرم الله الميتة وأحل المذكاة، فدار الجنين الخارج من بطن المذكاة ميتا بين الطرفين، فاحتمل أن يلحق بكل منهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، رواه أبو داود والترمذي، وحسنه وهذا منه صلى الله عليه وسلم ترجيح لجانب الجزئية على جانب الاستقلال. 5- قال تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ، فبقيت البنتان مسكوتا عنهما، فنقل في السنة حكمهما، وهو إلحاقهما بما فوق البنتين. فهذه أمثلة يستعان بها على ما سواها، وبها يتبين أن السنة في هذا النوع مبينة للقرآن الكريم. البيان بطريق القياس: قد ينص القرآن على حكم شيء، فيلحق به الرسول صلى الله عليه

وسلم مااجتمع معه في العلة بطريق القياس، وذلك راجع في الحقيقة إلى دلالة القرآن، فإن النص القرآني المقرر لحكم الأصل، وإن كان خاصبا به في الصورة، فهو عام في المعنى من حيث عموم العلة، وسواء علينا أقلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قاله بالقياس أم بالوحي إلا أنه جار في أفهامنا مجرى القياس. ومن أمثلة هذا النوع: 1- أن الله عز وجل حرم الربا. وربا الجاهلية الذي قالوا فيه: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} هو فسخ الدين في الدين يقول الطالب: إما أن تقضي وإما أن تربي، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} ولما كان المنع فيه من قبل كونه زيادة بلا عوض، ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بهذا المعنى، فقال عليه الصلاة والسلام: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد". 2- حرم الله الجمع بين الأختين ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ، فجاء نهيه صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين المرأة، وعمتها أو خالتها من باب القياس؛ لأن المعنى الذي من أجله حرم الجمع بين الأختين موجود هنا، وقد روي هذا المعنى في الحديث: "فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" رواه ابن حبان. 3- بين القرآن بعض المحرمات من الرضاع بقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فألحقت السنة بهاتين سائر القرابات بالرضاعة من اللاتي كن يحرمن بالنسب كالعمة، والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم من الرضاع

ما حرم من النسب" أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح وهذا الإلحاق بطريق القياس من باب نفي الفارق بين الأصل والفرع. البيان بطريق استنباط الواعد العامة من نصوص القرآن الجزئية في المواضع المختلفة: قد تأتي نصوص من القرآن الكريم في معان مختلفة، لكن يشملها معنى واحد، فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحد، فيعلم أو يظن أن ذلك المعنى مأخوذ من مجموع تلك النصوص القرآنية، ومن أمثلة ذلك: 1- قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، فهاتان القاعدان تؤخذان من الآيات، التي تحث على الإخلاص وتذم الرياء، وتبين أنه ليس للإنسان إلا ما سعى مثل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} ، {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، إلى غير ذلك. 2- قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" فهذه القاعدة مأخوذة من عدة أوامر، ونواه متفرقة في القرآن الكريم في جزئيات مختلفة منها: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} ، {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} ، {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} ، {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ} ، {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} ، وما في معناها. 3- قوله صلى الله عليه وسلم: "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه"، وقوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، فكل من الحديثين معناه سد ذرائع الفساد، وهو منتزع من آيات كثير منها: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ

لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} ، {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} ، {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} ، {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . ومن ذلك كله يعلم أن السنة موضحة للقرآن، ومبينة لمقاصده الكلية والجزئية. الجواب الثاني: فإن أبيت إلا أن تجعل الأحكام، التي جاءت بها السنة زيادة عما في القرآن من قبيل استقلال السنة بالتشريع، فلا يضيرنا ذلك بعد ما نطق القرآن نفسه بأن طاعة الرسول صل الله عليه وسلم، إنما هي طاعة لله عز وجل، وأنه لا ينطق عن الهوى، فلو كان لا يطاع إلا فيما يوافق القرآن لم تكن له طاعة خاصة وقد قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، كرر الفعل في الآية الأولى وجعل طاعته في الثانية طاعة لله إشارة إلى ما ذكرنا، وأنه يجب طاعته مطلقا وأما قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، فلا يفيد قصره صلى الله عليه وسلم على البيان، بل يستفاد من هذه الآية ومن الآيتين السابقتين، أنه يبين للناس كتاب الله، وأنه إذا جاوز البيان إلى غيره من الأحكام، التي لم يتعرض لها القرآن لا ينطق عن الهوى، وقد صرح بهذا طائفة من علماء السلف، فمن ذلك ما روي عن عبد الرحمن بن يزيد، أنه رأى محرما عليه ثيابه، فنهاه فقال: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وما روي عن طاوس أنه كان يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اتركهما فقال: إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة، فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن صلاة بعد العصر، فلا أدري أتعذب عليها أم

تؤجر؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية، وكذلك ما روي عن ابن مسعود حينما لعن الواشمة والمستوشمة، وقد تقدم "الموافقات4-24 إلى 48". هذا ونحن نرى أنه لا تخاف بين الجوابين على أصل الاعتراض، فمن قال: إن السنة لا تأتي بأحكام زائدة عما في القرآن، أراد أن القرآن اشتمل على جميع الأحكام، إما بطريق التفصيل، وإما بطريق الإجمال، ومن قال: إن السنة تأتي بأحكام زائدة عما في القرآن أراد بها الأحكام التفصيلية، التي لم ينص عليها صراحة في القرآن، وبذلك يلتقي القولان عند نقطة واحدة. بيان السنة للقرآن في غير الأحكام: يقع على ثلاثة أضرب: الأول: ما يرد موافقا لما في القرآن، فيكون مؤكدا له، ولا يخلو مع ذلك عن شرح، وبيان كحديث الخضر مع موسى عليه السلام في البخاري وغيره، فإنه يوافق القصة المذكورة عنهما في سورة الكهف. الثاني: ما يرد مورد التوضيح والشرح، ومثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح فيقال: هل بلغت فيقول: نعم فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال: من شهودك فيقول: محمد وأمته قال: فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلغ، فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} "، أخرجه البخاري، والترمذي. الثالث: ما يرد على طريق الاستقلال، ومن أمثلته حديث جريج العابد، وحديث الأبرص والأقزع، والأعمى وحديث الصخرة، فهذه الأحاديث وما في معنها مؤكدة للمقاصد، التي جاء بها القرآن وحكمتها تنشيط المكلفين وتنبيه الغافلين.

السنة في أدوارها المختلفة

السنة في أدوارها المختلفة الدور الأول: السنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم المبحث الأول: استعداد الصحابة لحفظ السنة ونشرها ... السنة في أدوارها المختلفة: الدور الأول: السنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ويشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول: استعداد الصحابة رضي الله عنهم لحفظ السنة ونشرها. المبحث الثاني: مجالس النبي صلى الله عليه وسلم العلمية. المبحث الثالث: كيف كان الصحابة يتلقون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. المبحث الرابع: البعوث والوفود، وأثرها في انتشار الحديث النبوي. المبحث الأول: "استعداد الصحابة لحفظ السنة ونشرها" كان العرب قبل البعثة المحمدية في جهالة جهلاء وضلالة عمياء. بلغ بهم الجهل أن نحتوا من الحجارة أصناما آلهة، يعبدونها من دون الله وبلغ. بهم الضلال، والقسوة أن كان يقتلون أولادهم خشية العار أو الفقر. وبلغت بهم الهمجية أن كانوا يشنون الغارات لأتفه الأسباب. الحمية الجاهلية بعض صفاتهم والعصبية القبلية متمكنة من نفوسهم يعاقرون الخمور، ويتعاملون بالميسر كثيرا ما تنشب الحرب بينهم أعواما طوالا

حتى تأتي على الأخضر واليابس. لا حاكم يزجرهم ولا دين يردعهم. وبالجملة فقد كانوا في فتن مدلهمة، وظلمات بعضها فوق بعض، حتى ضجت الجزيرة العربية من الحروب المتلاحقة، واشتكت الأرض إلى ربها من هذه الدماء المسفوكة. وتشوقت النفوس إلى من ينتشلها من ظلمات الحيرة، وينقذها من أحضان الجهل والوحشية. وجعلوا يلتمسون الخلاص مما هم فيه، فلا يستطيعون كالذي يبسط إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه. فكان من رحمة الله بهم وبالإنسانية جمعاء، أن بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وهذا الرسول هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أشرف الناس نسبا، وأكرم قريش أصلا ومحتدا. بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدعوة إلى الله سرا، حتى لا يفاجأ القوم بها وهم على ما وصفنا غارقون، فيجهلهم هائمون في غيهم، فتبعه منهم أفراد قلائل لا يتجاوزون أصابع اليد، ثم جهر بالدعوة إلى الله عز وجل، فدخل في الدين من علية القوم خلق كثير. دخلو الإسلام على بينة من أمره، واستمعوا إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم فخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، لا سيما وهم متعطشون إلى ما ينقذهم من ظلمات الشرك، ويهديهم إلى سبل السلام، فصادف الإسلام قلوبا مستعدة، ونفوسا متلهفة متهيأة، فتمكن منها كل التمكن، وجرى الإيمان فيهم مجرى الدم في عروقهم. ذلك أنهم عرفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم، أن هذا الدين هو منبع سعادتهم، ومعقد عزهم وسبب نهضتهم، فعقدوا عليه خناصرهم، وأحبوا رسول الله حبا، يعلو على حب الآباء والأبناء، وانكبوا على ما جاءهم به من القرآن يحفظونه، وعلى ما حدثهم به من بيان للكتاب، أو تشريع للأحكام فجمعوه في صدورهم

وطبقوه على جميع أحوالهم. ثم كانت الهجرة إلى المدينة، فانفسح المجال لاستماع القرآن، وحضور مجالس النبي صلى الله عليه وسلم. علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للسنة مكانها من الدين، وأنها الركن الثاني في بنائه القويم بعد الكتاب العزيز، كما علموا وصية الله تعالى باتباعها وتحذيره الشديد من مخالفتها. وأن من فرط في أمرها، أو تهاون بشأنها فهو محروم ومن حفظها، وعمل بها فهو سعيد مشكور. ولم يخف عليهم أن القرآن العزيز رفع من شأن العلم، والعلماء وحط من شأن الجهل والجهلاء فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ، وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} ، وحث على التفقه في الدين، وتبليغه إلى الناس فقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} . كما لم يخف عليهم الوعيد الشديد على كتمان العلم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} ، وكما جاءت الآيات القرآنية، حاثة لهم على تعليم الدين وأحكامه، ودرسه ونشره كذلك جاءت الأحاديث النبوية محببة إليهم حمل العلم، والتفقه في الدين محذرة لهم من كتمانه خاصة على تبليغه إلى الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، متفق عليه: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيا، إلا ذكر الله، وما والاه وعالما ومتعلما"، حسنه الترمذي: "نضر الله امرءا سمع منا شيئا، فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع"، صححه الترمذي: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى

الجنة" رواه مسلم: "من سئل عن علم فكتمه، جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار"، رواه أبو يعلى ورواته ثقات. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة وشهيرة. ملكت هذه الآيات والأحاديث على الصحابة مشاعرهم، وأخذت عليهم ألبابهم وأفعمت قلوبهم حبا لله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وألهبت نفوسهم نشاطا نحو العلم والعمل، فلم يدخروا وسعا في حفظ الأكام، والسنن وضحوا في سبيل ذلك بأموالهم وأنفسهم. وإلى جانب هذه الحمية الدينية استعداد فطري، ونشاط طبيعي هو استعداد الحافظة، ونشاط الذاكرة وسرعة الخاطر، وقوة الذكاء وكمال العبقرية. فالصحابة عرب خلص أميون لا يقرؤون، ولايكتبون فكل اعتمادهم على ملكاتهم في الحفظ، وقوة شأنهم فيه، واعتبر ذلك بحالهم في الجاهلية، فقد حفظوا أنسابهم ومناقبهم وأشعارهم، وخطبهم وكثيرا ما كانت تقع بينهم المفاخرة بالأنساب، والأحساب فلا يسعفهم غير اللسان يثيرون به ما حفظوه من أخبارهم، وأخبار خصومهم مما يرفع من شأنهم، ويحط من شأن أعدائهم. فكان كل امرئ منهم على مقدار حفظه، وقوة وعيه ترجمان قبيلته يرفع من قدرها، ويتحدث عن مفاخرها وأحسابها، والقوم من ورائه كأنهم سجل ملئ بالحواد والأخبار، وكتاب شحن بالتواريخ والآثار. ساعدهم حبهم للتفاخر بالأحساب، والأنساب والتنابز بالمثالب والألقاب مع ما رسخ فيهم من عصبية قبلية على إجادة الحفظ، والضبط ونشاط في الذاكرة لم يتوفر لأمة من الأمم. وكأن الله تعالت قدرته، هيأ هذه الأمة العربية على هذا الاستعداد الهائل، إرهاصا لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الصدور.

الحافظ مهدا لآي الذكر الحكيم، وكانت هذه القلوب الواعية أوعية لحديث النبي الكريم، فاندفع هؤلاء الصحابة الأجلاء إلى تلقي حديث، رسول الله بنهم عظيم وشوق كبير، وأظهر الله بهم دينه على الدين كله وكان أمر الله قدرا مقدورا. نعم تظاهر هذا العاملان العامل الروحي، والعامل الفطري فأتى القوم بما لم تأت به أمة من يوم أن بعث الله تعالى رسله إلى الخلق، فحفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم، واتخذوا شريعته نبراسا في أمر معاشهم، ومعادهم وبلغوها إلى الناس على وجهها غضة طرية.

المبحث الثاني: مجالس النبي صلى الله عليه وسلم العلمية

المبحث الثاني: "مجالس النبي صلى الله عليه وسلم العلمية" رأيت فيما سبق كيف، كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين أحكام القرآنالعزيز وضربنا لك المثال، التي أوضحت وظيفته صلى الله عليه وسلم في التبليغ والبيان، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مدرسة مشيدة، ولا معهد للتعليم يجلس فيه إلى أصحابه بل كانت مجالسه العلمية، كيفما اتفق فهو في الجيشمعلم وواعظ يلهب القلوب بوعظه، ويحسن الجنود بقوله، وهو في السفر مرشد، وهاد وهو في البيت يعلم أهله. وهو في المسجد مدرس، وخطيب وقاض ومفت. وهو في الطريق يستوقفه أضعف الناس ليسأله عن أمر دينه فيقف. وهو على كل أحواله مرشده وناصح ومعلم. ألا أنه كثيرا ما كان يعقد لأصحابه المجالس العلمية بالمسجد، حيث يجتمعون فيه في أغلب الأوقات لأداء فريضة الصلاة، فكان يتخولهم بالموعظة تلو الموعظة، والدرس تلو الدرس حتى لا يملو ويسأموا. روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم، يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة

علينا"، وفي هذه المجالس كان صلى الله عليه وسلم، يفيض على أصحابه من الكلم الطيب والعلم النافع، والهدى الرشيد ما يشرح صدورهم ويفعم قلوبهم. وكانوا يحضرون أولادهم مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم لسماع حديثه، والتأدب بآدابه، وكان عليه السلام كثيرا ما يستفتي فيفتي أو يسأل، فيجيب أو تقع أمامه الحادثة، فيكشف عن حكم الله فيها، أو تنزل عليه الآية من القرآن، فيفصح عن مراد الله منها، أو يقع من بعض الصحابة عمل لم يكن يعرف حكمه، فيسكت إيذانا منه بأنه جائز في الدين. ولا تظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان ملكا محجوبا عن رعيته، أو سلطانا مترفعا عن الاختلاط بأفراد أمته. بل كان على عكس ذلك متقلبا بين ظهرانيهم يبلغ رسالة ربه، ويعود مرضاهم، ويشيع موتاهم ويفصل في قضاياهم، ويفض منازعاتهم، ويقضي على اختلافاتهم، وهم في كل ذلك مقبلون عليه بآذان صاغية وقلوب واعية. هذا ولم تكن الصحابة رضي الله عنهم في حضور مجالسه العلمية، سواء بل كان منهم من يلازمه، ولا يتخلف عنه في الحضر، ولا في السفر كما كان من أبي بكر، وأبي هريرة رضي الله عنهما. وكان منهم من يتخلف عنه في بعض الأوقاف لقضاء مصالحه المعيشية كزراعة، أو تجارة أو نحوها، أو الخروج في سرية إلى غير ذلك. ومع ذلك فكانوا حريصين على ما فاتهم من دروس النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ما حضروا سألوا واستفسروا. وكان من الصحابة من يشتد به الحرص على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتناوب حضور مجالسه مع جار له يحضر هذا يوما، وهذا يوما ثم يخبر كل منهما صاحبه عما سمعه في يومه، كما جاء ذلك في صحيح البخاري، عن عمر بن الخطاب أنه كان هو، وجار له من الأنصار يتناوبان مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخبر كل منهما صاحبه بما رآه أو سمعه.

أما من بعدت عليهم الشقة، فكانوا إذا نزلت بهم نازلة، وأشكل عليهم حلها فإنهم يضربون أكباد الإبل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليقفوا على حكم الله فيما عرض لهم من الحوادث، وربما مكثوا في أسفارهم الأيام، والليالي ذوات العدد. يروي لنا البخاري في صحيحه، عن عقبة بن الحارث أنه أخبرته امرأة بأنها أرضعته هو وزوجه، فركب من فوره -وكان بمكة- قاصدا المدينة حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن حكم الله، فيمن تزوج امرأة لا يعلم أنها أخته من الرضاع، ثم أخبرته بذلك من أرضعتهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف وقد قيل"، ففارق زوجته لوقته. علم النبي صلى الله عليه وسلم أن أصحابه، سيخلفونه من بعده، وسيقع على كاهلهم أمر الإرشاد والتعليم، فأتى في دروسه التعليمية بأمور كان لها أكبر الأثر في توجيه الصحابة، وتعليمهم كيف يضطلعون بمهمة التعليم فيما بعد، ولنذكر لك أمثلة من هديه التعليمي الذي كان منارا اهتدى به أصحابه رضي الله عنهم. كان من هديه التعليمي عليه السلام أنه إذا سئل عما لا يعلم يسكت منتظرا الوحي من الله بذلك، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم، أنه إذا قال كلمة أعادها ثلاثا، حتى تفهم عنه وكان من هديه عليه السلام، أنه ربما طرح المسألة على أصحابه، ليختبر ما عندهم من العلم، وليشحذ أذهانهم للفهم. وكان إذا سئل عن مسألة، فأجاب عنها، فإنه قد يفيض في مسائل أخرى لها مناسبة بالمقام، أو صلة بالجواب، فيستطرد إليها ليفيد السائل والحاضرين علما جديدا، وكان يتخولهم بالموعظة كراهة الملل، حتى أن أصحاب ابن مسعود طلبوا منه أن يحدثهم كل يوم فأبى، وقال: إنما تتخولكم بالموعظة، كما كان رسوله الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا. كراهة السآمة علينا. وكان صلى الله عليه وسلم، يخص بع أصحابه بالعلم دون بعض مخافة ألا يفهموا فيفتنوا. إلى غير ذلك من الأمثلة، التي إذا تتبعناها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، اطلعنا منه على خطة حكيمة في توجيه الصحابة، حتى كانوا أساتذة في التعليم أمناء على أحكام الدين، كما ستطلع عليه عند الكلام على السنة في الدور الثاني إن شاء الله.

المبحث الثالث: كيف كان الصحابة يتلقون الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم

المبحث الثالث: كيف كان الصحابة يتلقون الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من يحسن الكتابة إلا نفر قليل، فقد كانت الأمية غالبة عليهم، فكان اعتمادهم في تلقي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، على استعدادهم في الحفظ على ما سبق لك آنفا، كما أنهم نهوا عن كتابة الحديث في بدء الأمر، خوف اختلاطه بالقرآن الكريم. وكان الصحابة يتلقون الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم، إما بطريق المشافهة، وإما بطريق المشاهدة لأفعاله وتقريراته، وإما بطريق السماع ممن سمع منه صلى الله عليه وسلم، أو شاهد أفعاله وتقريراته؛ لأنهم لم يكونوا جميعا يحضرون مجالسه صلى الله عليه وسلم، بل كان منهم من يتخلف لبعض حاجاته. هذا ولما كان عدد الحاضرين للسماع من حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، يختلف قلة وكثرة اختلف لذلك المروي عنه، فبعضه بلغ درجة التواتر، وهو ما نقله عنه صلى الله عليه وسلم، جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، وهذا نوعان متواتر لفظا، وهو قليل من الأحاديث كحديث: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"، ومتواتر معنى وهو كثير، ومن ذلك الأحاديث الواردة في أحكام الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم

والحج والبيوع والنكاح، والغزوات مما لم يختلف فيه فرقة من فرق الإسلام. وبعضه لم يبلغ درجة التواتر، وهو الذي يسميه العلماء "خبر الآحاد". كان الصحابة يحفظون الحاديث عن ظهر قلب، ويبلغونها للناس بطريق المشافهة، إلا ما كان من بعض أفراد قلائل كعبد الله بن عمرو بن العاص، فقد أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الحديث عنه. روى الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن عمرو هذا أنه قال: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا. فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده، ما خرج مني إلا حق". هذا ولاختلاف الصحابة في معرفة الكتابة، وعدم معرفتها وكثرة حضورهم مجالسه صلى الله عليه وسلم، وقلة حضورهم اختلفوا في تحمل الحديث، وأدائه قلة وكثرة، فكان منهم المقل ومنهم المكثر هذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول فيما رواه عنه البخاري في كتاب العلم: "ما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب". وكما اختلف الصحابة في صفة الأخذ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كثرة المروي، وقلته لأسباب أشرنا إليها كذلك اختلفوا في فقه الحديث حسب اختلافهم في الفهم، والاستعداد الفطري، فلم يكونوا سواء في معرفة الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر، ونحو ذلك إلا أنهم، كانوا كثيرا ما يرجعون إلى الرسول

صلى الله عليه وسلم عند ما يقع الاختلاف بينهم، فيصدر حكمه الفصل وقضاءه العدل. أثر النساء في نشر الحديث: لم تكن مجالسه صلى الله عله وسلم، قاصرة على الرجال بل كان كثير من النساء، يحضرن المسجد أيضا، ويستمعن إلى حديثه الشريف، وفي الاحتفالات العامة كالاحتفال بصلاة العيد، كن يخرجن جميعا إلى المصلى لاستماع الموعظة النبوية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن يلقى خطبة العيد في الصفوف الأمامية للرجال، ينتقل إلى صفوف النساء، يتحدث إليهن، ويعلمهن إلا أن المجالس النبوية بوجه عام، كانت الغلبة فيا للرجال دون النساء لذلك، جاء وفد النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبن إليه أن يجعل لهن يوما يعلمهن فيه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجيبهن إلى ذلك. على أن هذه الدروس كلها من عامة، وخاصةلم تكن قائمة بحوائج النساء الدينية، فكثيرا ما كانت تتجدد لهن شئون لا سيما، وهن حديثات عهد بالإسلام، فكانت المرأة تقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يعرض لها من أمر دينها، ولا تستحي أن تسأله لعلمها، أنه لإحياء في التعليم، وربما قدمت بين يدي سؤالها قولها: "يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق"، ثم تذكر حاجتها فتقول -كماجاء في البخاري- مثلا: "هل على المرأة من غسل، إذا هي احتلمت، وكثيرا ما يكون ذلك في نساء الأنصار، حتى امتدحتهن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بقولها: "نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين"، أما من كان يغلب عليها الحياء منهن، فكان لها من أمهات المؤمنين أعظم وسيط، لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستوضح لها عن جواب سؤالها.

أمهات المؤمنين يبلغن الحديث عن رسول الله: ولا ننس ما لزوجاته صلى الله عليه وسلم، من فضل كبير في تبليغ أحكام الدين، ونشر السنن بين نساء المؤمنين، لا سيما ما كان من عائشة رضي الله عنها، التي كانت على مقدار عظيم من الذكاء، والفهم فقد كانت تسأله صلى الله عليه وسلم، وتناقشه في بعض المسائل، التي قد تخفى عليها، وتستوضح عن كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، روى البخاري في كتاب العلم عن ابن أبي مليكة، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كانت لا تسمع شيئا لاتعرفه، إلا راجعت فيه حتى تعرفه. وأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من حوسب عذب". قالت عائشة: أو ليس يقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} . قالت فقال: "إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك". ولعل من الحكم التي لأجلها أباح الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، الزواج بأكثر من أربع قيام هؤلاء الزوجات بالتبليغ عنه صلى الله عليه وسلم، وبخاصة في الأمور، التي لا توجد منه صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، أو يستحي من فعلها بينهم، ولا يمكن الاطلاع عليها لأحد غير أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن لذلك نجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده، إذا اختلفوا في شيء من الأحكام كالغسل، والحيض والجماع، ونحوها يلجأون إلى أمهات المؤمنين، ويرجعون إلى أقوالهن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يزول ما بينهم من خلاف. هذا ولا ريب في أن نساءه، صلى الله عليه وسلم، كن على جانب عظيم من العلم فقد أمرهن الله تعالى بالاستقرار في بيوتهن، ومدارسة القرآن والسنة في قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ، إلى أن قال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} . لذا كان لأمهات المؤمنين أثر فعال في نشر السنة، ولولاهن لضاعت أحاديث، وأحكام ما كنا لنطلع عليها من غيرهن، ولا سيما الأفعال التي تقع بين النبي صلى الله عليه وسلم، وأزواجه مما لا يمكن لأحد الاطلاع عليها، والوقوف على أحكامها.

المبحث الرابع: البعوث والوفود وأثرها في انتشار الحديث النبوي

المبحث الرابع: البعوث والوفود، وأثرها في انتشار الحديث النبوي: بعوثه صلى الله عليه وسلم، وأثرها في نشر الحديث: بدأت الدعوة المحمدية سرا، كما رأيت واستمرت على ذلك ثلاث. سنين ثم أمر الله نبيه بأن يجهر بها، بعد أن تكونت نواة صالحة من المسلمين، فما كان من قريش إلا أن ناصبوه العداء، واستمر الأمر على ذلك حينا من الزمان، حتى دخل الإسلام كثير من أهل المدينة، فأمر الله نبيه بالهجرة إليها فانتقل إليها مع أصحابه، وأصبحت المدينة من ذلك الوقت مهبط الوحي، وقاعدة الإسلام. غزا منها النبي صلى الله عليه وسلم أعداء الدين، وحدث بها أكثر حديثه إلا أن القتال، كان حائلا دون دخول كثير من القبائل في الإسلام، كما كان مانعا من وصول الدعوة إلى أطراف الجزيرة، فما أن وقع صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل مكة حتى أمن الناس بعضهم بعضا، وجالس بعضهم بعضا، وتحدثوا في شأن هذا الدين الجديد، وفي ظل هذه الهدنة المباركة، دخل كثير من العرب في الإسلام، فانتهز النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة، وأرسل كتبه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وبعث بعوثه إلى القبائل المسلمة لتعليمهم السنن والأحكام، فبعث منهم إلى اليمن وإلى البحرين وإلى اليمامة، وإلى حضرموت وإلى عمان، وغير ذلك من بلاد العرب.

كانت هذه البعوث رسل رحمة، وهداية للناس بما حملوه إليهم من القرآن، والسنة اللذين هما حياة النفوس والأرواح، كما كانت هذه البعوث عاملا مهما في نشر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بين المسلمين في أنحاء الجزيرة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يتخير لهذه المهمة من كان على جانب عظيم في العلم بالقرآن، والسنن وكان يزودهم بحديثه الشريف، وإرشادهم الحكيم، ويعلمهم كيف يدعون إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة. أنظر إلى قوله لمعاذ بن جبل، حين بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فقل لهم: إن الله فرض عليكم في اليوم والليلة خمس صلوات، فإن هم أطاعوك فقل: إن الله فرض عليكم في السنة صوم شهر رمضان، فإن هم أطاعوك فقل: إن الله فرض عليكم حج البيت من استطاع إليه سبيلا، فإن أطاعوك فقل. أن الله فرض عليكم في أموالكم صدقة تؤخذ من أغنيائكم فترد في فقرائكم"، إلخ وبطبيعة الحال كان المبعوث يبين أحكام كل ذلك، بما سمعه من حديث النبي عليه الصلاة والسلام. وبسب هذا الهدي النبوي آتت هذه البعوث ثمرتها الطيبة، في نشر الحديث الشريف بين ربوع المسلمين. 2- وفود القبائل إليه صلى الله عليه وسلم، وأثر ذلك في نشر الحديث: لما تم لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الانتصارات الباهرة، والفتوح المتكاثرة، وفرغ من غزوة تبوك جاءته الوفود من أطراف الجزيرة العربية تضرب إليه أكباد الإبل، يحفزها الشوق إلى لقاء هذا النبي الأمين ليأخذوا الدين من منبعه الأول، فقد عرفت هذه القبائل أنه لا طاقة لها بحرب، محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن انضوت قريش تحت لواء الإسلام. وقريش هي هي في نظهم لها الإمامة والسيادة، فدخلت هذه القبائل في الدين أفواجا، ووفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم زرافات، ووحدانا مصداقا لقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ

وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . جاءت الوفود تترى إلى رسول الله، كما جاءته الكتب والرسل من الملوك تخبره بإسلامه، ومفارقتهم للشرك وأهله، وكلما جاء وفد أكرمهم صلى الله عليه وسلم وأرشدهم، وعرفهم أمر دينهم، وبشرهم أنهم أطاعوا وحذرهم، وأفهمهم بما لهم وما عليهم. وكان قدوم الوفود سنة تسع من الهجرة، حتى سميت هذه السنة بسنة الوفود. ولم تكن هذه الوفود تأتي لنيل عطاء، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمهم، ويعطيهم من مال الله الذي آتاه، بل كانوا يأتون إليه، فيسألون عن أحكام الإسلام أصوله، وفروعه وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يتحدث إليهم في كل ذلك، ويجيبهم على أسئلتهم، ويخطب فيهم ويرشدهم ويعلمهم، ويوصيهم بتقوى الله والسمع، والطاعة. وأن من يقرأ كتب السيرة النبوية، يجد أن وفودا كثيرة جدا، أقبلت عليه صلى الله عليه وسلم، حتى كأنه لم تبق قبيلة من قبائل العرب، إلا قدم منها وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد عرف الصحابة رضي الله عنهم تلك الوفود وفدا وفدا، وحفظوا ما حدثهم به النبي صلى الله عليه وسلم من حديث، وما خطبهم من خطب وما بثه فيهم من مواعظ، ونصائح وأحكام وسنن، حتى إنك لتجد كتب الحديث والسير، والمغازي مملوءة بذكر هذه الوفود، وما كان لها من أثر عظيم في نشر الدين، والسنن سواء ما كان من هذه الوفود في سنة تسع، وما كان قبلها. وهاك بعض الوفود التي أقبلت عليه صلى الله عليه وسلم: 1- وفد بني سعد بن بكر، وكان وافدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو ضمام بن ثعلبة، وفد على رسول الله سنة تسع من الهجرة، ولما

قدم المدينة وجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا بين أصحابه ولا يعرفه. فقال: أيكم ابن عبد الطلب؟ فأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدنا منه وقال: إني سائلك، فمشدد عليك في المسألة. قال: "سل عما بدالك". فقال: يا محمد جاءنا رسولك، فذكر لنا أنك تزعم أن الله أرسلك. قال: "صدق". فقال: أنشدك برب من قبلك ورب من بعدك، قال: "اللهم نعم". قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تصلي خمس صلوات في كل يوم وليلة؟، قال: "اللهم نعم". قال: فأنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فترده على فقرائنا؟ قال: "اللهم نعم". قال: وأنشدك بالله آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من اثني عشر شهرا؟ قال: "اللهم نعم". قال: وأنشدك بالله آلله أمرك أن يحج هذا البيت من استطاع إليه سبيلا؟ قال: "اللهم نعم". قال: فأنا قد آمنت وصدقت، وأنا ضمام بن ثعلبة"، ثم رجع ضمام إلى قومه فأسلموا جميعا. 2- وفد عبد القيس، لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك، إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من مضر، فمرنا بأمر فصل نختبر به من وراءنا، وندخل به الجنة وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع. أمرهم بالإيمان بالله وحده. قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس". ونهاهم عن أربع عن الحنتم والدباء، والنقير والمزفت. وقال: "احفظوهن وأخبروا بهن من رواءكم"، رواه البخاري في كتاب الإيمان. 3- وفد تجيب، وكانوا ثلاثة عشر رجلا، ساقوا معهم صدقات أموالهم، التي فرض الله عليهم، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بهم، وأكرم مثواهم، وقالوا: يا رسول الله، إنا سقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال لهم

"ردوها فاقسموها على فقرائكم". قالوا: يا رسول الله ما قدمنا عليك، إلا بما فضل عن فقرائنا. قال أبو بكر: يا رسول الله ما قدم علينا وفد من العرب مثل هذا الوفد، فقال عليه السلام: "إن الهدى بيد الله عز وجل، فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان"، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن. فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رغبة. وأرادوا الرجوع إلى أهليهم، فقيل لهم: ما يعجبكم قالوا: نرجع إلى من وراءنا، فنخبرهم برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلاقينا إياه وما رد علنيا، ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله علهي وسلم، فودعوه فأرسل إليهم بلالا، فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود. ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل بقي منكم أحد"، قالوا: غلام خلفناه على رحالنا، وهو أحدثنا سنا. قال: فأرسلوه فلما حضر قال: يا رسول الله أنا من الرهط الذين أتوك آنفا، فقضيت حوائجهم فاقض حاجتي، قال: "وما حاجتك"، قال: تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، ويجعل غناي في قلبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه"، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه. ثم إنهم بعد ذلك وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في الموسم إلا ذلك الغلام، فسألهم صلى الله عليه وسلم عنه، قالوا: يا رسول الله ما رأينا مثله قط، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله. لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعا". فقال رجل منهم: أو ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل الأجل يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله عز وجل في أيها هلك". من هذا ترى أن الوفود، كانت تقدم على رسول الله صلى الله عليه

وسلم لتنهل من معين العلم، ولنتفق في دين الله وتقف على أحكام الإسلام، ثم يرجعون إلى أوطانهم، يعلمون من وراءهم من قبائلهم وعشائرهم. فهذه الوفود إلى جانب البعوث، التي كان يرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبائل، والملوك كان لها أكبر الأثر في نشر السنة النبوية في أنحاء الجزيرة العربية. حجة الوداع وأثرها في نشر الحديث: هذا ولما استتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر في الجزيرة، قصد حج بيت الله الحرام، وقد حج معه من المسلمين أربعون ألفا، فألقى فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، خطة عظيمة جمع فيها أحكاما غزيرة، وسننا كثيرة، ووضع من آثار الجاهلية ما أبطله الإسلام. ولكثرة الناس في ذلك اليوم، اتخذ ربيعة بن أمية بن خلف مبلغا عنه. وافتتح هذه الخطة بعد حمد الله بقوله: "أيها الناس اسمعوا قولي، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا"، وهي خطبة طويلة بين للناس فيها مناسك الحج، وكأنه عليه السلام كان يشعر بدنو أجله، فلم يترك شيئا لم يكن بينه للناس إلا بينه وأظهره، فكانت هذه الخطبة الحافلة في هذا الجمع الحاشد، من أكبر العوامل في ذيوع السنن الكثيرة بين قبائل العرب وعشائرهم، وهي كمنهاج ختامي للدعوة الإسلامية عامة، ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد نزل في هذا الوقت قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} .

الدور الثاني: السنة في زمن الخلافة الراشدة

الدور الثاني: السنة في زمن الخلافة الراشدة المبحث الأول: وصف الحالة السياسية لهذا العهد ... الدور الثاني: السنة في زمن الخلافة الراشدة وفيه مباحث: المبحث الأول: وصف الحالة السياسية لهذا العهد. المبحث الثاني: منهج الصحابة في رواية الحديث. أ- أمرهم بتقليل رواية الحديث. ب- تثبتهم في رواية الحديث. ج- منعهم الناس من التحديث بما يعلو على مدارك العامة. المبحث الثالث: رد شبه واردة على منهج الصحابة في رواية الحديث، والعمل به. المبحث الأول: وصف الحالة السياسية لهذا العهد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يوص بالخلافة لأحد من أصحابه، فوقع بين المهاجرين والأنصار النزاع، فيمن تكون الخلافة أفي المهاجرين أم في الأنصار؟، فاجتمعوا يوم السقيفة، فأقنعهم أبو بكر بأن الخلافة في المهاجرين أول الناس إسلاما، فتقدم عمر بن الخطاب، وبايع أبا بكر الصديق وتوافد الناس على بيعته، وتم الأمر وقضى على الخلاف في مهده. وما أن تقلد أبوبكر الخلافة، حتى اشرأب النفاق بالمدينة، وارتد كثير

من القبائل عن الإسلام ومنع بعضهم الزكاة، فنشط أبو بكر لحربهم وتأهب لقتالهم، فقالوا نصلي ولا نؤدي الزكاة. فقال الناس: أقبل منهم يا خليفة رسول الله، فإن العهد حديث والعرب كثير، ونحن شرذمة قليلون ليس لنا طاقة بهم. وقد قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله". فقال أبو بكر: هذا من حقها لا بد من القتال. وكان على رأيهم عمر بن الخطاب، فلم يقبل منه أبو بكر وقال له كلمته المشهورة: "أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يا ابن الخطاب. والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. ولو لم أجد أحدا أقاتلهم به لقاتلتهم وحدي، حتى يحكم الله بيني وبينهم، وهو خير الحاكمين"، فشرح الله صدورهم لرأي أبي بكر. سار أبو بكر رضي الله عنه في طريقه لا يهن، ولا يلين فقاتل بمن أطاعه من عصاه، وضرب من أدبر منهم بمن أقبل، حتى أصاخوا جميعا لحكم الله ودخلوا الإسلام طوعا وكرها، وأدوا زكاة أموالهم إلى بيت مال المسلمين. فانتظم أمر الإسلام، وحمد الناس لأبي بكر رأيه، وعرفوا له مكانته وفضله. واستمر الأمر على هذا الحال زمن الشيخين، وصدرا من خلافة عثمان رضي الله عنهم هدوء، واستقرار في جميع نواحي الحياة سياسية، كانت أم اجتماعية فاستكمل صغار الصحابة علومهم الدينية، وتحمل كثير من التابعين الحديث والأحكام، وفتاوى الصحابة وأقضيتهم. ثم لما أخذ الناس على عثمان رضي الله عنه أمورا، قد يكون فيها معذورا دخل في الدين قوم من اليهود، التحفوا بالإسلام ولم يتبطنوه

وكان على رأسهم ذلك الطاغية المدعو بعبد الله بن سبأ اليهودي الحميري. جعل هذا الخبيث ينفخ في بوق الفتنة، ويؤلب الناس على عثمان في مختلف الأقطار، حتى كان ما كان من قتل الخليفة في بيته ظلما بلك الأيدي الأثيمة. ومن ذلك الحين انفتح على المسلمين باب شر عظيم، ودب فيهم داء الخلاف الذي أطاح برءوس الكثير، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما كاد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، يتولى الخلافة حتى قام معاوية يطالب بدم عثمان، فوقعت بينهما حروب مزقت المسلمين، وفرقت كلمتهم، وانتهت بمعركة صفين، التي كان على أثرها انشقاق أصحاب علي إلى خوارج وشيعة. فاستغل هذا النزاع طوائف من الأمم المغلوبة على أمرها من يهود، وفرس وغيرهم، وأخذوا يكيدون للإسلام، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

المبحث الثاني: منهج الصحابة في رواية الحديث

المبحث الثاني: منهج الصحابة في رواية الحديث طالما كان النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهراني أصحابه، يعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم كانوا سعيدين به في أمر دينهم، ودنياهم فلم يعد هناك خوف على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أعمال المنافقين ودجل الكذابين. فالوحي ما دام يتنزل على نبي الله يفضح أمرهم ويكشف سرهم، والسنة في أمن من عبثهم وكيدهم: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} ، كما أنه لم يكن هناك مجال لنقد الحديث، وروايته بدون الرجوع إلى صاحب الرسالة، فقد كانوا إذا جد بينهم خلاف لجأوا إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، كما أمرهم الله بذلك: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، هذا عمر بن

الخطاب يسمع هشام بن حكيم، يقرأ سورة الفرقان على غير ما يقرؤها هو فيلببه بردائه، ثم يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول له: هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم هشاما بالقراءة، ويقول: "هكذا أنزلت"، ثم يأمر عمر بالقراءة، ويقول: "هكذا أنزلت ثم يقول: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه". والحديث مروي في البخاري، وغيره إلى غير ذلك من الأمثلة والحوادث، التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي فيها على النزاع، أو يصحح فيها الرواية عنه. ومن ذلك نرى أن حياته عليه الصلاة والسلام، كانت قاضية على الخلاف إذا نشب، والشك إذا عرض بل والخاطر إذا هجس. فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعد هناك حارس للسنة إلا صدور الصحابة، فقد انقطع الوحي واشرأب النفاق، وارتد كثير من العرب، ومنع بعضهم الزكاة، فلا نعجب إذن من منافق يملي عليه نفاقه أن يكذب على رسول الله، ولا نعجب من بعض الأعراب، الذي يدعي أن رسالة محمد تنتهي بموته، أن يعبث بحديث رسول الله. ولكن أبا بكر وقف وقفة الحيطة والحذر، فكما قلم أظفار المرتدين ومانعي الزكاة كذلك سد الباب في وجوه الكذابين، بما وضعه من قوانين الرواية. وجاء عمر من بعده سائرا على نهجه، فأرهب الكذابين وخوف المكثرين وإليك طرفا من تلك الأعمال الجليلة. أ- أمر الصحابة بتقليل الرواية: نظر الخلفاء الراشدون، وتابعهم سائر الصحابة إلى السنة الشريفة، فألفوها كنوزا ثمينة في صدور الذين أوتوا العلم فلم، يشاءوا أن يعرضوها في سوق الرواية، لئلا يتخذ المنافقون من شيوع الحديث

صلى الله عليه سلم ثلاث سنين، وأتى من الرواية عنه ما لم يأتب به أحد من السابقين الأولين، فلما أخبرهم بأنه كان ألزمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يشغله عن مجالسته تجارة، ولا بيع، ولا زرع ولا غرس، فحظ ما لم يحفظوا سكتوا عنه. ومع ذلك فقد كان أبو هريرة يمسك عن التحديث زمن عمر، الذي كان شديدا على الرواة حذرا من خطر الإكثار. فقد قيل لأبي هريرة: أكنت تحدث في زمن عمر هكذا؟، قال: لوكنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته". كان عمر بن الخطاب يأمر الناس بتقليل الرواية، وكان مهيبا عند جميع الصحابة، روى الشعبي عن قرظة بن كعب أنه قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر إلى صرار فتوضأ، فغسل اثنتين ثم قال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيت معنا. فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن، كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، امضوا وأنا شريككم فلما قدم قرظة، قالوا: حدثنا، قال: نهانا عمر بن الخطاب"، وإنما ذكرنا هذه الرواية على فرض صحتها، وإلا فقد طعن فيا ابن عبد البر. وهذا عبد الله بن الزبير يسأل الزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان، فيقول له: أما أني لم أفارقه ولكن سمعته يقول: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار"، وها زيد بن أرقم يقال له حدثنا فيقول: كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد"، والسائب بن يزيد يقول: صحبت سعد بن مالك من المدينة إلى مكة فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا"، والشعبي يقول: جالست ابن عمر سنة، فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا"، وكان أنس بن

مالك يتتبع الحديث، عن النبي صلى اله عليه وسلم بقوله: "أو كما قال" حذرا من الوقوع في الكذب عليه. من هذه الآثار -وغيرها كثير- تجد أن الصحابة، وقفوا على حذر في شأن الحديث، فأقلوا من الراوية خشية أن يتخذها المنافقون مطة لأغراضهم الخبيثة، ولغير ذلك مما سبق، وهم مع ذلك واقفون عند قوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم وكثرة الحديث، ومن قال عني فلا يقولن إلا حقا" 1 واقفون عند سنة الخلفاء الراشدين المهديين، كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين". ب- تثبت الصحابة في رواية الحديث: وكما أشار الصحابة بالإقلال من رواية الحديث، وأمسكوا عن الإكثار منها كذلك ساروا على منهاج التثبت في الراوي والمروي، مستضيئين في ذلك بكتاب الله مسترشدين بما تواتر، أو اشتهر من سنة رسول الله. فأخذوا الحديث بحيطة بالغة وحذر شديد. فما اطمأنت قلوبهم إليه من الحديث بأن كان متواترا، أو مشهورا أو آحادا لم يكن في رواته من يشك، في حفظه وضبطه قبلوه، وعملوا به ولم يطلبوا عليه شهيدا ولا دليلا. وما وقع فيه شك طلبوا عليه ظهيرا. وما لم تقم البينة على صدقه مما وقع فيه الشك، أو كان مخالفا لكتاب الله ردوه على قائله. ونحن ذاكرون لك طرفا من الروايات توضح ذلك. 1- روى الحافظ الذهبي في تكرة الحفاظ في ترجمة أبي بكر الصديق قال: كان أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة أن الجدة، جاءت إلى أبي بكر تلتمس أو تورث. قال: ما أجد

_ 1 رواه أحمد والحاكم وابن ماجه.

لك في كتاب الله شيئا. وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر لك شيئا. ثم سأل الناس فقام المغيرة، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس. فقال له هل معك أحد، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنقذه لها أبو بكر رضي الله عنه. 2- وروى في ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قال: وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد، إذا ارتاب روى الجريري عن أبي نضرة، عن أبي سعيد أن أبا موسى، سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات. فل يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في أثره فقال: لم رجعت. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثا، فلم يجب فليرجع"، قال: لتأتيني على ذلك بينة أو لأفعلن بك. فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس فقلنا: ما شأنك فأخبرنا وقال: فهل سمع أحد منكم فقلنا: نعم كلنا سمعه فأرسلوا معه رجلا منهم فأخبره. 3- وروى الذهبي أيضا، عن هشام عن أبيه عن المغيرة بن شعبة. أن عمر استشارهم في أملاص المرأة -يعني السقط- فقال المغيرة: قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة1. فقال له عمر: إن كنت صادقا فأت واحد يعلم ذلك. قال: فشهد محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به. 4- وروى الذهبي أيضا أن عمر قال لأبي -وقد روى له حديثا- لتأتيني على ما تقول بينه، فخرج فإذا ناس من الأنصار، فذكر لهم. قالوا: قد سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أما إني لم أتهمك، ولكن أحببت أن أثبت.

_ 1 الغرة، بضم الغين وتشديد الراء المفتوحة، هي عند الجمهور ما بلغ نصف عشر المدية.

5- وفي ترجمة أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب يروي الذهبي، عن أسماء بن الحكم الفزاري أنه سمع عليا يقول: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني به. وكان إذا حدثني غيره استحلفته، فإذا حلف صدقته. وحدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد مسلم يذنب ذنبا، ثم يتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له". 6- وهذه عائشة، أم المؤمنين ترد حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، ليلة المعراج بظاهر قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ، وتقول: من زعم أن محمدًا رأى ربه ليلة الإسراء، فقد أعظم على الله الفرية. وهذا اجتهاد منها رضي الله عنها، وقد خالفها بعض العلماء في ذلك، وتأولوا الآية على معنى لا تحيط به الأبصار، وبذلك لا تتنافى الآية مع الحديث -وكما كان لعائشة رضي الله عنها نظرة في متن الحديث، حيث تنقده بعرضه على القرآن، كذلك كان لها نظرة في الراوي، فكانت تختبر حفظه لتقف على مبلغ ضبطه للحديث. جاء في الصحيحين عنها، أنها قالت لعروة بن الزبير. يا بن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو سار بنا إلى الحج، فألقه فاسأله فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا. قال: فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال عروة: فكان فيما ذكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعا، ولكن يقبض العلماء، فيرفع العلم معهم. ويبقى في الناس رؤوس جهال يفتونهم بغير علم فيضلون ويضلون"، قال عروة: فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك، وأنكرته قالت: أحدثك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال عروة: نعم. حتى إذا كان عام قابل قالت لي: أن ابن عمرو قد

قدم فألقه، ثم فاتحه حتى تأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم. قال: فلقيته فسالته فذكر لي نحو ما حدثني به في المرة الأولى. قال عروة: فلما أخبرتها بذلك قالت: ما أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئا، ولم ينقص. "ا. هـ. من أعلام الموقعين 1-43". فهذا من عائشة رضي الله عنها، اختبار لحفظ عبد الله بن عمرو، فأول مرة تشككت في ضبطه ثم لما وجدته في المرة الثانية، لم يزد في الحديث حرفا ولم ينقص، وقد مضى على ذلك عام كامل، علمت أنه حافظ للحديث جيد الضبط فصدقته وقبلت حديثه. وهذه الآثار -وغيرها كثير- تدل دلالة واضحة على أن الصحابة، كانوا يتثبتون في أمر الحديث، ويزنون الراوي والمروي بميزان النقد العلمي الصحيح، وهذا أمر طبيعي بعد أن لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فقد كان في حياته، يكفيهم هذه المهمة كما أشرنا من قبل. ج- منع الصحابة الرواة من التحديث بما يعلو على فهم العامة: تقدم لك الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يخص بنوع من العلم من يرى عليه أثر النبوغ، والفهم من الصحابة، وكان يمنعهم من أن يحدثوا العامة بذلك، خشية ألا يفهموه فيفتتنوا. روى البخاري في كتاب العلم من صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان راكبا، ومعاذ رديفه على الرحل فقال: "يا معاذ بن جبل". قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: "ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله صدقا من قلبه، إلا حرمه الله على النار". قال معاذ: يا رسول الله أفلا أخبر الناس فيستبشروا. قال: "إذن يتكلوا". وأخبر بذلك معاذ عند موته تجنبا لإثم كتمان العلم. وهذا عمر بن الخطاب يرد أبا هريرة -وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم، أن يبشر الناس بمثل ما في حديث معاذ- ويقول: ارجع

يا أبا هريرة، ويدخل عمر من فوره على النبي صلى الله عليه وسلم، يقول له: يا رسول الله أنت قلت لأبي هريرة كذا وكذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم"، فقال عمر: لا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس فخلهم يعملون. وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال: "فخلهم"، رواه مسلم في كتاب الإيمان. وروى في مقدمة صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع"، وذلك؛ لأن تحديث العامة بكل شيء -ومعلوم أن عقولهم لا تهضم كل شيء- مدعاة إلى تكذيبهم للمحدث فيما لا يفهمونه، وبذلك تضيع ثقتهم به، ولعلهم إن لم يكذبوه، وعملوا بما فهموا تركوا بعض الأحكام الشرعية، وكان هو كالكاذب على الله ورسوله، فقد صرفهم عن العمل بأحكام الدين بسبب تحديثهم بما يعلو على أفهامهم، وكفى بذلك كذبا. بل نقول: أن تحديث العامة بما يعلو على أفهامهم، مدعاة لارتيابهم في الدين نفسه، ولهذا قال ابن عباس: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله". هذا وقد سار الصحابة على هذا الهدي النبوي، في ذلك العصر فامتنعوا عن التحديث بما لا تدركه عامة الناس، خشية أن يفتنوا فيتركوا بعض الفرائض الدينية. يروي مسلم في مقدمة صحيحه، عن ابن مسعود أنه قال: "ما أنت محدث قوماحديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة"، ويروي البخاري عن أبي هريرة أنه كان يقول: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم"، ويروى عن علي أيضا، "حدثوا الناس بما يعرفون. أتحبون أن يكذب الله ورسوله"، وروى ابن عبد البر مثل ذلك، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وما زال الصحابة والتابعون، والأئمة من بعدهم يكرهون التحديث بما يكون مثار فتن، وقلاقل بسبب قصور بعض الناس

في الفهم أو استغلال أصحاب الأهواء، والسلاطين ظاهر النصوص لتأييد بدعهم وتسويغ ظلمهم وغشمهم. ولقد أنكر الحسن البصري تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يفعله من المبالغة في سفك الدماء، ولا حجة له في ذلك سوى تأويلاته الواهية. وهذا أحمد بن حنبل، يكره التحديث بعض الأخبار، التي يكون ظاهرها الخروج على الأمير. وهذا أبو يوسف يكره التحديث بالغرائب. وكان ذلك منهم رضي الله عنهم، محافظة على سلامة الدين من أصحاب الأهواء، وسلامة الأمة من أهل الشغب والفتن. فكثيرا ما تعلل المبطلون والإباحيون بظواهر أحاديث، غير ماردة فتحللوا من أحكام الإسلام، وخرجوا إلى صريح الكفر من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وكثيرا ما يوجد ذلك في أقوام ينصبون أنفسهم دعاة للدين، سواء أكانوا مغرضين أم غير مغرضين وصدق القائل: وآفة الأديان من جهل الدعاة. لذلك أمسك الصحابة عن التحديث بما يكون ذريعة للتقصير، والتهاون بسبب قصور النظر، أو يكون سلما لأهل الأهواء والبدع، ومن هو على شاكلتهم حتى لا تكون فتنة في الأرض وفساد كبير1.

_ 1 فتح الباري "1-160".

المبحث الثالث: رد شبه واردة على منهج الصحابة في رواية الحديث والعمل به

المبحث الثالث: رد شبه واردة على منهج الصحابة في رواية الحديث، والعمل به رب قائل يقول: إن الصحابة كانوا يزهدون في رواية الحديث، بل ويرغبون عنها؛ لأنهم ما كانوا يعملون إلا بالقرآن، وما اشتهر من السنن ثم يحكمهم آراءهم فيما سوى ذلك، ولهذا أشاروا بتقليل الرواية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقل عنهم العمل بالرأي في كثير من الحوادث، التي كانت تعترضهم، كما نقل عنهم أنهم ردوا بعض الأخبار وطلبوا البينة على صحة بعض آخر منها، أو استخلفوا الرواة على أنهم سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا منهم رغبة عن الرواية ورد للسنة الآحادية، وتقديم للرأي على النص وهو خلاف ما عرف عنهم. والجواب عن ذلك: 1- أن أمرهم بتقليل الرواية، إنما كان خشية أن يحدث المكثر بما لم يحفظه؛ لأن ضبط المقل أكثر من ضبط المكثر. كما كرهوا الإكثار لئلا يتخذه المغرضون من المنافقين مطية لأهوائهم، فيدسوا في الحديث ما ليس منه. ثم هناك أقوام لم يكونوا أحصوا القرآن، فخافوا عليهم الاشتغال بغيره، وهو الأصل الأول في الدين. 2- وأما طلبهم شاهدا على السماع، أو استحلافهم الراوي عليه، فلم يكن ذلك شأنهم المستمر، بل كان يحصل منهم ذلك، إذا ما ارتابوا في ضبط الراوي بدليل أنهم كانوا يقبلون أخبارا عن أفراد من الصحابة، لم يروها غيرهم إذا ما اطمأنوا لحفظهم، فقد قبل عمر رواية الضحاك بن سفيان، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته"، ولم يطلب منه بينة على ذلك، ورجع من"سرغ" لما بلغه أن الوباء نزل بالشام لحديث عبد الرحمن بن عوف، ولم يوجد الحديث عند غيره من المهاجرين والأنصار، ممن كانوا مع عمر، ولم يطلب على ذلك بينة، وعلي كرم الله وجهه يقول في حديثه السابق: "وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر"، فلم يستحلفه لما كان صادقا عنده وعمر يقول لأبي: أما أني لم أتهمك، ولكن أحببت أن أتثبت"، إلى غير ذلك. 3- وأما أنهم كانوا يعملون بآرائهم، ويتركون الحديث فهذا

ما ترده الوقائع المتكاثرة عنهم، والآثار المشترة على ألسنتهم. هذا عمر بن الخطاب يقول: "إياكم والرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوا" ويقول: "سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله"، ويقول: "تعلموا الفرائض والسنن كما تتعلمون القرآن". أما ما ورد عنهم من الرأي، فكان بعد أن نقبوا عن الحديث عند أصحاب رسول الله، فلم يجدوا ثم إذا رأوا قالوا: "هذا رأينا فإن كان خطأ فمنا، ومن الشيطان، وإن كان صوابا فمن الله"، ثم إذا تبين لهم بعد ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجعوا عن رأيهم إليه وعملوا به. هذا ميمون بن مهران يحدث عن أبي بكر الصديق، "أنه كان إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به. وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به. فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله، قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه بعض القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا. فإن لم يجد سنة سنها النبي صل الله عليه وسلم، جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به"، قال: "وكان عمر يفعل ذلك فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة، سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟، فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلا جمع علماء الصحابة واستشارهم. فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به". وهذا عمر أيضا يقول لشريح وقد بعثه على قضاء الكوفة: "انظر ما تبين لك في كتاب الله، فلا تسأل عنه أحدا، وما لم يتبين لك في كتاب الله، فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يتبين لك فيه

السنة فاجتهد فيه برأيك"، وهذا عبد الله بن مسعود يقول: "من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى فيه نبيه صلى الله عليه وسلم. فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض فيه نبيه، فليقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يجد في كل ذلك فليجتهد برأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحي". والآثار في الباب كثيرة جدا "أعلام الموقعين جـ1 ص51" و"حجة الله البالغة 1-129". وكيف يتصور منهم العزوف عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آرائهم، وهذا علي كرم الله وجهه، يقول: لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"، وهذا ابن عباس رضي الله عنه، ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمر، وسهل بن حنيف ومعاوية وأبو بكر، وعمر وعثمان كل هؤلاء يذمون الرأي، ويشيرون باتباع السنن. فمن هذه الآثار وغيرها ترى أن الصحابة، كانوا وقافين عند الحديث رجاعين إلى السنة، عاملين بها معنيين بأمرها، وإن أشاروا بتقليل الرواية لغرض صحيح، فلا ينبغي أن يفهم منه أنهم زاهدون في السنن، وإلا لنهوا عن الإكثار منها والإقلال. وقد سبق لك عرفان الصحابة بمكانة السنة في الدين الأمر، الذي جعلهم يعنون بها كل العناية، وهم وإن لم يدونوها، كما دونوا القرآن لأمور سنذكرها في مكانها، فقد حفظوها في صدورهم، وضبطوها كل الضبط مع ما كانوا عليه من الاستعداد الفطري في الحفظ، وسيلان الذهن. وأما ما جاء من ردهم لبعض الأحاديث، فكان منهم إما لضعف ثقتهم بالراوي، وإما لاطلاعهم على ناسخ، أو معارض أقوى، كما حصل من عائشة في حديث رؤية الله ليلة المعراج، وكما حصل من عمر في رده حديث فاطمة نت قيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها نفقة

ولا سكنى بعد الطلقة الثالثة، وأفتى بأن للمبتوتة النفقة والسكنى، لما وجد من قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وقال: لا نترك كتاب ربنا، وسنة نبينا لقول امرأة، لا ندري أصدقت أم كذبت أحفظت أم نسيت. إلى غير ذلك من المثلة، التي يكون للصحابة فيها العذر، فيظن من لا علم له بحقيقة الأمر، أنهم لا يعملون بالسنة وحاشاهم من ذلك. الرد على من يزعم أن الصحابة كانوا لا يعتمدون على أخبار الآحاد: هذا، وقد استدل فريق من الناس، على أن أخبار الآحاد لا يعتمد عليها في أمر الدين بما ثبت من توقف الصحابة فيها، وعدم عملهم بها بمجرد أن رويت لهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رد عليهم جمهو العلماء بأن هذا التوقف إنما كان لأمور طارئة، فلا يلزم منه رد جميع أخبار الآحاد. على أن ما استدلوا به من ذلك أن صح زعمهم، إنما يدل على مذهب من يشترط العدد في الرواة، ولا يدل على مذهب من يشترط التواتر في قبول الخبر. ثم نقول لهم إن هذه الآثار التي استندتم، إلا لا تخرج عن كونها أخبار آحاد، فكيف تستدلون بأخبار الآحاد على قولكم أن أخبار الآحاد ليست بحجة؟ هذا تناقض ظاهر. ثم إنه بالوقوف على جنس المعاذير في رد الأخبار، والتوقف فيها يزول هذا الاشتباه توقف النبي صلى الله عليه وسم، في قول ذي اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله، فهذا منه صلى الله عليه وسلم لأحد أمرين: إما؛ لأنه استبعد على ذي اليدين أن ينفرد بذلك، دون الجمع الغفير، فكان انفراده ذلك أمارة على غلطة، إذ الأقرب في مثل ذلك جواز الخطأ على الواحد دون الجمع الكثير، وإما؛ لأنه أراد أن يعلم أصحابه وجوب التوقف في مثل ذلك -وإن كان ذو اليدين صادقا- لئلا يتخذوها سنة، فيصدقوا الواحد مع سكوت الجماعة بدون توقف لا سيما، والجماعة كانت حاضرة

الحادث. وقد توقف أبو بكر في حديث المغيرة السابق، لينظر هل الحكم مستقر أو منسوخ، أو ليكون الحكم أوكد برواية غيره معه أو أظهر التوقف، لئلا يكثر الإقدام على الرواية عن تساهل. فيجب حمله على شيء من ذلك، فقد ثبت عن أبي بكر قطعا قبول خبر الواحد، وترك الإنكار على القائلين به. وأما توقف عمر في حديث أبي موس في الاستئذان، فقد كان مخافة أن يتقول بعض المنافقين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيروي الحديث على حسب غرضه، يدل على ذلك أن أبا موسى، لما رجع مع أبي سعيد الخدري، الذي شهد له، قال له عمر: أما أني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز للإمام أن يتوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة. كيف وهذه الآثار التي استندوا إليها -أن سلمنا دلالتها على زعمهم- قد عارضتها أخبار هي أشهر منها، وأصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده. فقد تقدم لك أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يرسل الآحاد من الأصحاب إلى الآفاق، ويلزم الناس قبول أخبارهم عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع أن أحدا رد خبر مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم. نعم كانوا يرسلون الوفود لمجرد التأكد من الدعوة، وللتشرف برؤية النبي الكريم، وللتزود من نصائحه الغالية. ا. هـ عن المستصفى باختصار، وبعض زيادات. هذا وقد سبق لك في المقدمة الكلام على خبر الواحد، والدليل على حجيته فارجع إليه إن شئت.

الدور الثالث: السنة بعد زمن الخلافة الراشدة إلى نهاية القرن الأول

الدور الثالث: السنة بعد زمن الخلافة الراشدة إلى نهاية القرن الأول المبحث الأول: وصف الحالة السياسية وظهور الفرق ... الدور الثالث: السنة بعد زمن الخلافة الراشدة إلى نهاية القرن الأول ويشتمل على ثمانية مباحث: 1- وصف الحالة السياسية وظهور الفرق. 2- الخوارج ورأيهم في الخلاف-أثر الخروج في رواية الحديث. 3- الشيعة ومعتقداتهم-أثر التشيع في رواية الحديث. 4- جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث، وروايته ومناهضتهم للكذابين من شيعة، وخوارج وغيرهما. 5- كتابة الحديث وأول من دونه. 6- تراجم لبعض مشاهير الرواة من الصحابة -من هم الصحابة؟. 7- تراجم لبعض رواة الحديث من التابعين -من هم التابعون؟. 8- رد شبه على رواية الحديث، وكتابته في القرن الأول. المبحث الأول: وصف الحالة السياسية، وظهور الفرق لما ولي أبو بكر الصديق الخلافة، وجد من بعض القبائل نكث لحبل الدين، ونزوع إلى التحلل من أحكامه، فمنع بعضهم الزكاة، وارتد بعضهم

عن الإسلام زعما منهم أن الدين يموت بموت النبي المبعوث، حتى قال شاعرهم، والشعراء يتبعهم الغاوون: أطعنا رسول الله إذ كان بيننا ... فيا لفهنا ما بال دين أبي بكر أيورثها بكرا إذا مات بعده ... فتلك لعمر الله قاصمة الظهر ولكن أبا بكر رضي الله عنه، وقف لهم وقفة البطل المغوار، والقائد المحنك، فقضى على الفتنة في مهدها، وأباد جراثيمها قبل أن يستفحل أمرها، وأعاد الشاردين إلى حظيرة الدين، فظلت أعناقهم لحكم الله خاضعين. ومكث أبو بكر سنتين وبضعة أشهر نشر الإسلام فيها رايته على بلاد فارس والروم. وعني رضي الله عنه بالقرآن فجمعه، وبالحديث فاحتاط له. ثم اختار للخلافة عمر بن الخطاب، فمد الفتوح طولا وعرضا، وشرقا وغربا. فاستولى على الشام كلها، وأخذ مصر وضم الجزيرة، وبقي في الخلافة عشرة أعوام وأشهرا لا يطمع قوي في حلمه، ولا يقنط ضعيف من عدله، بل ألزم القوي حده، وحفظ للضعيف حقه. وعمل على حفظ السنة من تقول المنافقين، وأشار على الصحابة، والبعوث بحفظ القرآن، والإفلال من الحديث، وهو في كل أموره متمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. مضى زمن عمر والمسلمون وحدة قوية وأمة فتية. فلما ولي عثمان رضي الله عنه زاد الفتوح وتوسع فيها، وأمر بكتابة المصاحف، وفرقها على الأمصار، فقضى عل خلاف كاد يفرق المسلمين. مكث رضي الله عنه في الخلافة اثني عشر عاما، قضى نصفها الأول

والناس في رغد من العيش وسعادة وأمن، ثم لما أخذوا عليه أمورا وعابوا عليه سياسته في توليته بعض قرابته، انتهز هذه الفرصة قوم من غير المسلمين، أخذوا يذكون نار الفتنة، ويلهبون شعور المسلمين ضد خليفتهم، وقصدهم بذلك الكيد لهذه الأمة، والعمل على قلب هذه الملة، فأثاروا لذلك الغوغاء من الأمصار المختلفة، حتى قتلوا خليفة المسلمين في بيته. ومن ذلك الحين انصدع بناء الإسلام، ودب الشقاق بين جماعة المسلمين، فقد بايع الناس علي بن أبي طالب، ولكن لم تصف له الخلافة يوما واحدا، ولم تستقم له البلاد جميعها. فهذه الشام في يد معاوية الذي قام يطالب بدم عثمان، وامتنع عن بيعة علي حتى يثأر للخليفة المقتول. فوقعت حروب طاحنة بين علي ومعاوية، أكلت كثيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى الأمر بموقعة "صفين" التي آل أمرها إلى التحكيم فرضيه من أصحاب علي جماعة، وأنكره آخرون، وبذلك رجعوا متخاصمين بعد أن جاءوا إخوانا متحابين. انقسم المسلمون من ذلك الحين إلى "خوارج"، وهم الذين يعدون قبول التحكيم كفرا، فحكموا بكفر علي وأصحابه لقبولهم التحكيم. "وشيعة"، وهم الذين شايعوا عليا، وقبلوا التحكيم وأصبح لهم عقيدة في الإمامة خاصة بهم "وجمهور"، وهم الذين لم يتلوثوا ببدعة الخروج أو التشيع. وكان منهم فريق مع علي، وفريق مع معاوية وفريق وقف على الحياد، فلم يغمس يده في تلك الفتنة أو يلوثها بهذه الدماء. أصبح الخوارج خطرا على جيش علي، فاشتغل بحروبهم فكان ذلك قوة لمعاوية الذي كان في أطوع جند. ثم إنه لم يطل الحال على ذلك، حتى تطوع ثلاثة من الخوارج بقتل هؤلاء الثلاثة، الذين كانوا سببا في هذه المنازعات علي ومعاوية، وعمرو بن العاص فنجا من القتل عمرو ومعاوية وأصيب خليفة المسلمين علي كرم الله وجهه، بطعنة من خارجي أثيم يدعى عبد الرحمن بن ملجم. وبقتل علي اجتمع أهل الكوفة، وبايعوا ابنه الحسن فمكث في الخلافة ستة أشهر وأياما. ثم تنازل عنها لمعاوية على صلح أبرم بينهما حقنا للدماء، وذلك سنة إحدى وأربعين التي سميت بعام الجماعة لاجتماع الناس على معاوية. ولكن رغم تنازل الحسن لمعاوية عن الخلافة لم تخمد جذوة الشيعة، ولم تهدأ ثورة الخارج، بل تعالى كل فريق في رأيه واشتط كل حزب في عقيدته، حتى أصبح لكل طائفة منزع ديني خاص، كان له أثره في الحديث والفقه. وسنفرد لكل فرقة فصلا نبين فيه أشهر تعاليمها، وعقائدها وآثارها في الحديث فنقول:

المبحث الثاني: الخوارج ورأيهم في الخلافة

المبحث الثاني: الخوارج ورأيهم في الخلافة هذه الطائفة هي التي خرجت على علي كرم الله وجهه، لما أن قبل التحكيم. ومن عجيب أمرهم أنهم قبلوا التحكيم أولا وارتضوه، في حين أن عليا كرهه وأباه، وحذر أصحابه عواقبه فلم يستجيبوا له. مبدؤهم العام: كان من رأيهم أن الخلافة يجب أن تكون باختيار حر، فإذا ما اختير الإمام فليس له أن يتنازل أو يحكم، وأن الخلافة ليست في بيت بعينه، فهي ليست في قريش وحدهم ولم يفرق الخوارج بين كافر، وفاسق بل كل من تعدى حدود الله فهو فاسق والفاسق كافر؛ لأن العمل عندهم جزء من الإيمان، فمرتكب الكبيرة في نظرهم كافر. اعترف الخوارج بصحة خلافة الشيخين أبي بكر، وعمر لصحة

انتخابهما. وبصحة خلفة عثمان في سنيه الأولى، التي سار فيها سيرة الشيخين، فلما آثر قرابته بالولاية نقموا عليه. كذلك أقروا بصحة خلافة علي رضي الله عنه إلى أن قبل التحكيم بينه، وبين معاوية في "صفين"، فحكموا بكفره؛ لأنه حكم الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله مستندين إلى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، وأنكروا على معاوية استبداده بالخلافة، فهو في نظرهم غاصب لها، وكان من مذهبهم أن من تعاون مع معاوية، ولم يبرأ من علي وعثمان فهو كافر يستباح دمه. فعلي وشيعته ومعاوية، وأعوانه وعثمان، ومن لم يبرأ منه كل هؤلاء في نظر الخوارج كفار تستحل دماؤهم. والذي يظهر أن الخوارج في مبدئهم، كانوا قوما من الأعراب الجفاة الغلاظ، الذين قال الله تعالى في شأنهم: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} ، فليس فيهم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين استضاءوا بنور النبوة وفهموا القرآن على وجهه الصحيح. فلا عجب أن يغتر الخوارج بظواهر القرآن، ولو كلفوا أنفسهم النظر في وحده لاهتدوا إلى آيات تأمر بالتحكيم، فالله تعالى يقول في سورة النساء: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ، فالتحكيم أمر مشروع، والحكمان إنما يحكمان حسب ما ما أمر القرآن العزيز: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، وإنما لم يرض علي بالتحكيم أولا؛ لأنه كان يرى الحق معه، وأن طلب التحكيم إنما هو خدعة من معاوية وعمر بن العاص، يريدان بها توهين جيش علي وتخدير أعصابهم، لما رأياه من تفوقهم في الموقعة، فرفعوا المصاحف على أسنة الرماح طالبين تحكيم كتاب الله. ولو أن أصحاب علي أطاعوه في عدم قبول التحكيم

لتغير وجه التاريخ ولوقع معاوية وأهل الشام في براثن الأسد، ولكن أراد الله ما قد كان ولا راد لقضائه. قال العلامة ابن حزم في كتابه الفصل "4-156" "إنما حكم علي رضي الله عنه أبا موسى، وعمروا ليكون كل منهما مدليا بحجة من قدمه، وليكونا متخاصمين عن الطائفتين، ثم حاكمين لمن أوجب القرآن الحكم له. وإذ من المحال الممتنع الذي لا يمكن أن يفهم لغط العسكريين، أو أن يتكلم جميع أهل العسكر بحجتهم، فصح يقينا لا محيد عنه صواب علي في التحكيم، والرجوع إلى ما أوجبه القرآن، وهذا الذي لا يجوز غيره، ولكن أسلاف الخوارج، كانوا أعرابا قرءوا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء، لا من أصحاب ابن مسعود ولا من أصحاب عمر، ولا أصحاب علي، ولا أصحاب عائشة، ولا أصحاب أبي موسى، ولا أصحاب معاذ بن جبل، ولا أصحاب أبي الدرداء، ولا أصحاب سلمان، ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر، ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضا عند أقل نازلة، تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها، فظهر ضعف القوم وقوة جهلهم". ا. هـ. استحل الخوارج قتال جمهور المسلمين، وقتلهم فحاربوا خلفاء بني أمية، وظلوا شجى في حلق الدولة الأموية، طيلة أيامها يقاتلونها في شجاعة نادرة، حتى أوشكوا أن يقضوا عليها. واستمر المهلب بن أبي صفرة ينازلهم الحروب، وهم مستبسلون في حربه لا يفترون عنها، حتى أروه الأهوال. واستمروا على ذلك حتى جاءت الدولة العباسية، فناوءوها في أول أمرها، ولكن أطاحت بهم تلك الحروب الطويلة، فخمدت جذوتهم، وانكسرت شوكتهم وأراح الله المسلمين من شرهم.

فقه الخوارج: كان جهلهم بالحديث وعدم تحملهم له عن غيرهم؛ لأنه متهم في نظرهم سببا في أن فقههم، جاء مخالفا لأحكام الشريعة الإسلامية، بل منه ما جاء من النصوص القرآن الكريم. فمنهم من يرى أن التيمم جائز، ولو على رأس بئر، ومنهم من يرى أن الواجب من الصلاة، إنما هو ركعة واحدة بالغداة، وأخرى بالعشي، ومنهم من يرى الحج في جميع شهور السنة. ومنهم من يبيح دم الأطفال، والنساء ممن لا ينتمي إلى عسكرهم. ومنهم من أباح نكاح بنات البنات وبنات البنين، مما يدل على جهل عميق، حتى بالقرآن الكريم، وأكثر ذلك أتاهم كما قلنا من أنهم لا يعتدون برواية جمهور المسلمين، وكيف يأخذون دينهم عن قوم هم كفار في نظرهم، وإنما يعتمدون ما رواه لهم أئمتهم، وهم كما قلنا خلو من العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خلو من فهم أحكام القرآن على وجهها الصحيح، ثم لا يغيب عن البال، أن هذا الحكم لا يسري على جميع أفراد الخوارج، بل قد وجد منهم فيما بعد أفراد، وأئمة تفقهوا في الدين ورووا الحديث، واعتمدهم كما قال ابن الصلاح في مقدمته: بعض أئمة الحديث كالبخاري، فقد احتج بعمران بن حطان، وهو من الخوارج لا سيما، إذا علمت أن الخوارج يحكمون بكفر من يكذب؛ لأن مرتكب الكبيرة كافر في ينظرهم والكذب من الكبائر. الخوارج، ووضع الحديث: هذا ومع أن الخوارج يحكمون بكفر الكاذب، فقد وجد من بعضهم الوضع في الحديث، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد

مذاهبهم الباطلة، حتى تروج لدى أتباعهم، فابن الجوزي في مقدمة كتاب الموضوعات، يروي عن ابن لهيعة أنه قال: سمعت شيخا من الخوارج تاب ورجع فجعل يقول: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا، وهذا عبد الرحمن بن مهدي، يقول فيما نسبوه إلى النبي صلى الله علهي وسلم من قولهم: "إذا أتاكم الحديث عني، فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته" إلخ: أن الخوارج والزنادقة، وضعوا ذلك الحديث. وهذا ليس ببعيد من قوم وقفوا عند ظواهر الكتاب وردوا الحديث، إذا جاء من غير من ينتمون إليه. إلا أن وضع الخوارج للحديث لم يكن بالكثرة، التي جاءت عن الشيعة وذلك لأمور: 1- أن الخوارج كان من مذهبهم تكفير الكاذب، وذلك مما يجعل الكذب فيهم قليلا. 2- أنهم كانوا لبداوتهم وجفاء طبعهم، وغلظتهم غير مستعدين لقبول أفراد من الأمم الأخرى، كالفرس، واليهود الذين اندسوا في الشيعة، ووضعوا كثيرا من الأحاديث. 3- كان عماد الخوارج في محاربة خصومهم، إنما هو أسلحتهم وقوتهم وشجاعتهم، وكانوا مع ذلك صرحاء لا يعرفون التقية، التي استخدمها الشيعة. لذلك تراهم لم يلجأوا إلى الكذب لانتقاص أعدائهم؛ لأنهم في نظرهم كفار، وليس بعد الكفر عيب ينتقص به صاحبه فلم يبق سوى السيف يعملونه في رقابهم من غير مداهنة، ولا مداجاة. فكل هذه العوامل كان لها أثر في تقليل الكذ في الحديث، من الخوارج بالنسبة إلى غيرهم من الفرق الأخرى. ومع ذلك لم يعدموا أفرادا منهم اصطنعوا الأكاذيب، واختلقوا الأحاديث كما رأيت.

المبحث الثالث: الشيعة ومعتقداتهم

المبحث الثالث: الشيعة ومعتقداتهم لم يوص النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، ولا لغيره بالخلافة، ولم يرد عنه في حديث صحيح أنه عين عليا للخلافة. كما أنه لم يرد من طريق صحيح أن عليا ادعى شيئا من ذلك، ولو كان عنده في ذلك شيء لذكره للصحابة، الذين كانوا لا يتوقفون في إنفاذ وصية نبيهم صلى الله عليه وسلم. بل على عكس ذلك، فقد بايع علي أبا بكر بالخلافة، كما بايع عمر ثم عثمان رضي الله عنهم. كانت الفكرة الأولى في التشيع لعلي أن جماعة من الصحابة، يرون بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الخلافة ميراث أدبي لعلي بن أبي طالب، وأنه أولى بها لعدة أمور منها أنه أقرب عاصب لرسول الله بعد عمه العباس، ومنها سبقه إلى الإسلام، وشهوده بدرا، وغيره من المشاهد، ومنها كونه زوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها مزاياه الخلقية والعلمية، فقد كان ذا شجاعة وقوة، وعبقرية قضائية نادرة حتى قيل "قضية ولا أبا حسن لها" أما عمه العباس، فقد تأخر إسلامه إلى فتح مكة، وشهد بدرا إلى جانب المشركين، ولم تتوفر لديه تلك المزايا. إلا أن أنصار علي لم يظهروا برأيهم هذا محافظة على وحدة المسلمين، فلم يتأخروا عن بيعة أبي بكر، والخليفتين من بعده فلا وقعت الفتنة بقتل عثمان، كان أنصار علي أول من ألح عليه في تولي الخلافة. ثم لما قام معاوية يطالب بدم عثمان، ووقعت بينه وبين علي حروب انتهت بمعركة "صفين" على ما سبق راينا أن فكرة التشيع لعلي تلبس ثوبا

جديدا، وينضم إليها كثير من الزنادقة، وأرباب الأهواء والمنافقين بقصد الإفساد في الدين، ويظهر على لسان هؤلاء الذين عرفوا بالشيعة، فيما بعد أن الخلافة حق شرعي، لعلي أستحقه بوصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك كانوا يطلقون عليه اسم "الوصي"، وأن الخلافة من بعده حق لبنيه من أخرجها عنهم فهو غاصب ظالم. وقد حدا بهم هذا إلى انتقاص الشيخين أبي بكر وعمر؛ لأنهما غصبا عليا حقه، وقد تولوا الحسن، ثم الحسين وبعد مقتل الأخير، اختلفوا لمن تكون الخلافة من أولاد علي، فبعضهم جعلها في أكبر أولاده، فتولوا بعد الحسين ابنه عليا زين العابدين. وبعد وفاته تولوا ابنه محمد الباقر. وبعد وفاة الباقر انقسموا، فمنهم من تولى زيد بن علي، وهم المعروفون بالزيدية. ومنهم من تولى جعفر الصادق بن محمد الباقر. إلا أن الزيدية كانت أعدلهم رأيا، وأخفهم غلوا فإنهم لم يتبرأوا من الشيخين، وكانوا يقولون: أن الخلافة في أولاد علي من فاطمة. والإمام في نظرم يتعين بالوصف لا بالاسم، كما يقول أتباع جعفر الصادق. فمن استكمل صفات الإمامة من أولاد علي، وجبت عليهم نصرته. وعلى الجملة فقد افترقت الشيعة ثلاث فرق "الكيسانية"، وتولوا محمد بن الحنفية. و"الإمامية الجعفرية"، وتولوا جعفر الصادق. و"الإمامية الزيدية"، وتولوا زيد بن علي بن الحسين. هذه هي أشهر فرقهم، وهناك فرق كثيرة منهم لا يهمنا سردها، ولكنا نشير إلى بعض عقائد الشيعة بوجه عام فنقول: من عقائد الشيعة: أولا: الرجعة يعتقد أصحاب هذه العقيدة، أن عليا لم يمت بل هو حي مختف، وسيعود فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وبعضهم

يجعل ذلك لإمامهم من أولاد علي كالكيسانية، الذين اعتقدوا أن محمد بن الحنفية حي بجبال رضوى، عن يمينه أسد وعن يساره نمر، تحدثه الملائكة يأتيه رزقه غدوا وعشيا، ولا يموت حت يملأ الأرض عدلا، كما ملئت جورا. ثانيا: النبوة ادعى بعض فرق الشيعة النبوة لعلي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول أن جبريل، أخطأ في النزول بالرسالة على محمد، وإنما هي لعلي، وبعض هؤلاء يعتذر عن جريل بأن محمد يشبه عليا، وبعضهم ينحى عليه باللائمة ويكفرونه. ثالثا: الألوهية. ذهبت فرقة من الشيعة إلى تأليه علي. وهم أصحاب ابن سبأ الحميري، ويقال: أنهم أتوا عليا فقالوا له: أنت هو، قال لهم علي: وما هو؟ قالوا: أنت الله، فاستعظم الأمر وأمر بنار فأحرقهم. ومنهم فرقة ادعت الألوهية لمحمد صلى الله عليه وسلم. رابعا: التقية. وهي المداراة والمداجاة. فكانوا يظهرون الطاعة لمن بيدهم الأمر، ويخفون عنهم أمر إمامهم المختفي في زعمهم، ويعملون على نشر دعوتهم في الخفاء، حتى إذا ما كثر أنصارهم قلبوا ظهر المجن للدولة الحاكمة، وشهروا عليها السلاح، وهم يعتقدون أن الأخذ بالتقية جزء من الدين، ويتكلفون لإثباتها تأويلات باطلة لبعض الآيات كقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} ، أي بما صبروا على التقية. أثر التشيع في الحديث النبوي: إنك إذا تأملت أيها القارئ في كثير من عقائد الشيعة، لا تتردد في الحكم بكفر كثير منهم، فمن يقول بحلول الباري في علي وغيره، ومن يقول بنوة علي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ومن يتأول القرآن على غير

تأويله ويقول: أن له سبعين بطنا. لا شك في أن جميع هؤلاء كفرة، مارقون من الدين مروق السهم من الرمية. وليس لدى هؤلاء الدعة دعاة الضلال من حجة سوى ما يزعمونه من الإلهام. والإلهام ما كان حجة عند غير الأنبياء في تقرير حقيقة من الحقائق، فإن للخصم أن يدعي الإلهام في إثبات النقيض، وإبطال ما ذهبوا إليه، إذ ليس إلهامهم بأولى من إلهام غيرهم. أما الميزان الصحيح في تحقيق الشرائع، وإثبات العقائد فهو العقل السليم، والمنطق المستقيم، والنقل الصحيح عن النبي المعصوم، الذي ثبتت نبوته بالأدلة القاطعة، والمعجزات الباهرة. التشيع ستار لأعداء الإسلام: ويقيني أن التشيع كان ستارا، احتجب وراءه كثير من أعداء الإسلام من الفرس، واليهود والروم، وغيرم ليكيدوا لهذا الدين، ويقلبوا نظام هذه الدولة الإسلامية، فقد كان الفرس يزعمون أنهم الأحرار والسادة، وأن ما سواهم من الأمم عبيد، وخدم، وكانت لهم الدولة من قديم الزمان، فلما بدل الله عزهم ذلا وصير ملكهم نهبا على يد العرب، الذين كانوا في نظرهم أقل الأمم خطرا، كبرت عليه المصيبة، وتعاظمت في نفوسهم البلية، فلم يطيقوا الخضوع للدولة الإسلامية، وأخذوا يعملون على أسقاطها، وتوهين شأنها حتى يعود إليهم مجدهم الضائع. ماذا يصنعون، وقد تبين لهم في الحروب أن المسلمين أصلب عودا منهم، وأقوى باسا وأشد شكيمة. أخذوا يتحسسون أبواب الضعف عند المسلمين، فلم يجدوا بابا أنجح لهم من الحيلة والخداع. فأظهر جماعة منهم الإسلام، وانضموا إلى أهل التشيع مظهرين محبة أهل البيت، وسخطهم على من ظلم عليا رضي الله

عنه. ثم أخذوا يسلكون بهم مفاوز الفتن، والمهالك حتى أبعدوا كثيرا منهم عن التدين الصحيح، بما بثوه فيهم من العقائد الزائفة التي يدور معظمها على هدم قواعد الدين، والتحلل من تعاليم الإسلام، وأحكامه. وأصل هذه الفتنة على ما ذكر المؤرخون، رجل يهودي يدعى عبد الله بن سبأ أظهر الإسلام، وغلافي حب علي، حتى زعم أن الله تعالى حل فيه. وأخذ يؤلب الناس على عثمان رضي الله عنه. ومن هذه الأصول الملعونة -على حد تعبير ابن حزم- حدثت طائفتا الإسماعيلية، والقرامطة اللتان تجاهران بترك الإسلام جملة، وتقولان بالمجوسية المحضة. انهالت هذه الكتائب الهائلة على الإسلام، فأجلبت عليه أول الأمر خيلها، ورجلها فردتها جيوش المسلمين مذءومة مدحورة. فالتمسوا الكيد له عن طريق الحيلة، فوجدوا إمامهم القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، والذي تكفل الله سبحنه بحفظه. فجاءت شبههم نحو يفضحها ضوء الذبالة، أما التغيير والتبديل، فلم يجدوا إليهما من سبيل، وأما التأويل والرمز كقولهم السماء محمد، والأرض أصحابه والصلاة هي دعاء الإمام، ونحو ذلك من سخافاتهم فيمجها الذوق السليم. ولما فشلوا أمام القرآن، وجهوا همهم نحو السنة النبوية، فوجدوا مجالا عظيما للدس، وإلقاء الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. من أكاذيب الشيعة: أخذ هؤلاء المتشيعون أعداء الإسلام، يصنعون الأحاديث في أغراض شتى حسب أهوائهم ونحلهم. فمن ذلك أحاديث، وضعوها في مناقب علي يرفعون من قدره، وأخرى وضعوها في الحط من شأن معاوية، وبني

أمية. وكتب الموضوعات طافحة بهذه الأكاذيب، ونحن نذكر لك بعضا منها على سبيل المثال، فمن ذلك ما ذكره السيوطي في اللآلئ المصنوعة "جـ1 ص323، 324، 359، 361، 367". "من مات وفي قلبه بغض لعلي بن أبي طالب، فليمت يهوديا أو نصرانيا" و"يا علي أخصك بالنبوة، ولا نبي بعدي، وتخصم الناس، ولا يحاجك أحد من قريش أو لهم إيمانا بالله، وأوفاهم بعهد الله وأقومهم بأمر الله" إلخ "ستكون فتنة فإن أدركها أحد منكم فعليه بخصلتين كتاب الله، وعلي بن أبي طالب. وفي آخره وهو خليفتي من بعدي". "إن لكل نبي وصيا، ووارثا وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب" "مرضرسول الله صلى الله عليه وسلم المرض الذي توفي فيه. وكانت عنده حفصة وعاشة فقال لهما: أرسلا إلى خليلي، فأرسلتا إلى أبي بكر، فجاء وسلم ودخل وجلس، فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة، ثم قام، فخرج ثم نظر إليهما ثم قال: أرسلا إلى خليلي فأرسلتا إلى عمر، فجاء فسلم ودخل، ولم يكن للنبي حاجة فقام وخرج. ثم نظر إليهما فقال: أرسلا إلى خليلي فأرسلتا إلى علي، فجاء فسلم، فلما جلس أمرهما فقامتا. فقال: يا علي ادع بصحيفة ودواة. فأملى وكتب علي، وشهد جبريل ثم طويت الصحيفة. قال الراوي: فمن حدثكم أنه يعلم ما في الصحيفة إلا الذي أملاها أو كتبها أو شهدها، فلا تصدقوه"، إلى غير ذلك من الروايات المكذوبة التي تثبت النبوة لعلي طورا، والخلافة والوصية بها طورا آخر، وعلى حسب عقائد الوضاع وآرائهم. الإمام علي يفند بعض أكاذيب الشيعة: ويظهر أن أمر الوصية من النبي لعلي بالخلافة، كان شائعا على ألسنة هؤلاء القوم، في زمن علي بن أبي طالب يدلنا على ذلك سؤال

بعض الصحابة له عن ذلك، وسؤال غيرم أيضا، وجواب علي كرم الله وجهه بأنه لم يكن من النبي صل الله عليه وسلم، شيء من ذلك، فقد روى البخاري في كتاب العلم عن أبي جحيفة الصحابي أنه قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب قال: لا "وفي رواية كتاب الجهاد: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة" إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يتل مسلم بكافر. ا. هـ فأنت ترى أبا جحيفة يسال عليا، عن شيء خصهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أسرار الوحي. وما سأل هذا السؤال إلا؛ لأنه سمع لغطا من الشيعة حول الوصية، والخلافة التي يدعونها لعلي، فنفى ذلك علي نفيا باتا، وأقسم على ذلك، ثم استثنى أشياء لا تمت إلى معتقدات الشيعة بصلة. وقد جاء هذا الحديث بروايات عدة في بعضها زيادات، وليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم، أوصى لعلي بشيء أو خصه من أسرار الوحي بشيء مما تزعمه الشيعة "فتح الباري في باب كتابة العلم 1-182". ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه ابن عساكر، عن الحسن أنه قال: لما قدم على البصرة، قام إليه ابن الكواء، وقيس بن عبادة فقالا له: ألا تخبرنا عن مسيرك هذا، الذي سرت فيه تتولى على الأمة، تضرب بضعهم ببعض. أعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهده إليك، فحدثنا فأنت الموثوق المأمون على ما سمعت فقال: أما أن يكون عندي عهد من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فلا. والله لئن كنت أول من صدق به، فلا أكون أول من كذب عليه. ولو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك، ما تركت أخاتيم بن مرة، وعمر بن الخطاب يقومان على منبره، ولقاتلتهما بيدي ولو لم أجد إلا بردي هذا. ولكن رسول الله

صلىالله عليه وسلم لم يقتل قتلا، ولم يمت فجأة مكث في مرضه أياما، وليالي يأتيه المؤذن، فيؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس، وهو يرى مكاني ثم يأتيه المؤذن، فيؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر يصلي بالناس، وهو يرى مكاني. ولقد أرادت امرأة من نسائه، أن تصرفه عن أبي بكر فأبى وغضب وقال: "أنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر يصلي بالناس"، فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم، نظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله لديننا. وكانت الصلاة أصل الإسلام، وقوام الدين فبايعنا أبا بكر، وكان لذلك أهلا لم يختلف عليه منا اثنان -إلى أن قال- فلما قبض تولاها عمر، فأخذها بسنة صاحبه وما يعرف من أمره فبايعنا عمر، ولم يختلف عليه منا اثنان. ثم قال: فلما قبض تذكرت في نفسي قرابتي، وسابقتي وسالفتي وفضلي، وأنا أظن ألا يعدل بي. ولكن خشي ألا يعمل الخليفة بعده ذنبا، إلا لحقه في قبره، فأخرج منها نفسه وولده، ولو كانت محاباة منه لآثر بها ولده. فبرئ منها إلى رهط من قريش ستة أنا أحدهم. فلما اجتمع الرهط ظننت ألا يعدلوا بي. فأخذ عبد الرحمن بن عوف مواثيقنا على أن نسمع، ونطيع لمن ولاه الله أمرنا، ثم أخذ بيد عثمان بن عفان، وضرب بيده على يده، فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا ميثاقي قد أخذ لغيري، فبايعنا عثمان فأديت له حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جيوشه، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي. فلما أصيب نظرت في أمري، فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد رسول الله إليهما بالصلاة قد مضيا، وهذا الذي أخذ له الميثاق قد أصيب فبايعين أهل الجرمين، وأهل هذين المصرين. فوثب فيها من ليس مثلي، ولا قرابته كقرابتي، ولا علمه كعلمي ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه. ا. هـ من تاريخ الخلفاء للسيوطي ص119.

فهذا الأثر إن صح يقضي على أوهام الشيعة في الوصية، ويبين لنا بوضوح أن أبا بكر وعمر لم يكونا غاصبين للخلافة، كما يقولون، وأن عثمان لم يكن متجنيا على علي في أخذه للخلافة. وقد عضدت هذه الرواية، رواية البخاري السابقة، وبهما وضح الحق لذي عينين. بعض الشيعة يتخذ من الكذب في الحديث دعاية لأغراضه الدنيوية: رأيت كيف أن الشيعة وضعوا الأحاديث، وكذبوا على رسول الله لتأييد أغراضهم الدنيئة، وأكثر من هذا كان التشيع تكأة من يطلب السلطان. فهذا هو المختار بن أبي عبيد، الذي كان أولا خارجيا، ثم زبيريا يتبع عبد الله بن الزبير، ثم شيعيا كيسانيا يدعو بالإمامة لمحمد بن الحنفية، يستغل هذه الدعوة لنفسه، ويختلق الأحاديث فقد أثر عنه، أنه لما خرج بالكوفة على عبد الله بن بن الزبير، قال لرجل من أصحاب الحديث: ضع لي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كائن بعده خليفة يطالب له بترة ولده، وهذه عشرة آلاف درهم وخلعة، ومركوب وخادم، فقال له الرجل: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا. ولكن اختر من شئت من الصحابة، وحط لي من الثمن ما شئت قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم أوكد والعذاب عليه أشد1. تمويه الشيعة بوضع الأسانيد المزيفة: اشتغل الشيعة بالحديث، وسمعوا من الثقات وعرفوا الأسانيد الصحيحة، ثم وضعوا عليها الأحاديث، التي تتفق وعقيدتهم وأضلوا بها كثيرا، فكان منهم من يسمى بالسدى، ومنهم من يسمى بابن قتيبة، وكانوا يروون عنهما، فيظن من لا يعرف حقيقة الحال أنهما المحدثان الشهيران، مع أن كلا من السدى وابن قتيبة، اللذين ينقل عنهما الشيعة رافضي غال.

_ 1 الملل والنحل "1-197" واللآلئ المصنوعة "2-468".

ولكن جهابذة السنة، وعلماء الحديث كشفوا دخيلة أمرهم، وأطلعوا الناس على حقيقة حالهم، وميزوا بين السديين بالكبير، وهو ثقة والصغير، وهوكذاب وضاع. وكذلك ميزوا بين ابن قتيبة الشيعي، وبين عبد الله بن مسلم بن قتيبة. ولم يقتصر الشيعة على ذلك، بل وضعوا الكتب وملؤوها بأباطيلهم، ونسبوها إلى أهل السنة ككتاب سر العارفين، الذين نسبوه للغزالي. وقد أفسد الشيعة علم الإمام علي، كرم الله وجهه بما نسبوه إليه من الأقوال، وما اعتقدوه فيه من العقائد، التي وضعوا لها الأحاديث مما جعل أصحاب الحديث من أهل الصحيح، لا يعتمدون من حديث علي، وفتاواه إلا ما جاء عنه من طريق أهل بيته خاصة، أو من طريق أصحاب عبد الله بن مسعود، كعبيدة السلماني، وشريح وأبي وائل ونحوهم. أعلام الموقعين "1-16". الأثر العكسي للتشيع في وضع الحديث: هذا وكان للتشيع أثر عكسي، في نفوس من ضعف إيمانهم من المسلمين لا سيما المنتمين إلى بني أمية، فوضع هؤلاء الحديث في مناقب أبي بكر وعمر، وعثمان كرد على مثالب الشيعة لهم، وانتقاصهم قدرهم، ولعمري أنها وسيلة في محاربة الخصم يمقتها الدين، بل هي من صفات المنافق، الذي إذا خاصم فجر. فلقد كان لهم من تاريخ الخلفاء الراشدين، وحسن سيرتهم وشرف صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وما صح في فضلهم من أحاديث غنية عن الكذب على رسول الله. ويظهر أنه كان للسياسة دخل كبير في ذلك، فقد وضعت الأحاديث أيضا في فضل معاوية. ونحن نذكر لك طائفة من هذه الأحاديث المكذوبة عن كتاب اللآلئ للسيوطي، فمن ذلك قولهم:

"بينما جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ مر أبو بكر فقال: هذا أبو بكر قال: أتعرفه يا جبريل قال: نعم. أنه لفي السماء أشهر منه في الأرض. فإن الملائكة لتسميه حليم قريش. وإنه وزيرك في حياتك، وخليفتك بعد موتك"، ومنها "لما عرج بي إلى السماء، قلت: اللهم اجعل الخليفة من بعدي علي بن أبي طالب، فارتجت السموات، وهتفت الملائكة من كل جانب يا محمد اقرأ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} ، قد شاء الله أن يكون من بعدك أبو بكر الصديق"، ومنها "إن في السماء الدنيا ثمانين ألف ملك، يستغفرون الله لمن أحب أبا بكر وعمر. وفي السماء الثانية ثانين ألف ألف يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر"، ومنها "ما في الجنة شجرة إلا مكتوب على كل ورقة منها لا إله إلا الله محمد رسول الله. أبو بكر وعمر الفاروق، وعثمان ذو النورين"، ومنها "الأمناء عند الله ثلاثة أنا وجبريل ومعاوية"، ومنها "إن الله ائتمن على وحيه جبريل، ومعاوية وكاد أن يبعث معاوية نبيا من كثرة علمه، وائتمانه على كلام ربي. يغفر الله لمعاوية ذنوبه، ووقاه حسابه وعلمه الكتاب، وجعله هاديا مهديا وهدى به"، ومنها "إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري، فاقبلوها فإنه أمين مأمون". ا. هـ.

المبحث الرابع: جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث ورواياته ومناهضتهم للكذابين

المبحث الرابع: جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث ورواياته ومناهضتهم للكذابين ... المبحث الرابع: جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث، وروايته ومناهضتهم للكذابين كان من وراء الشيعة، والخوارج ومن على شاكلتهم الجمهور الأعظم من المسلمين، الذين لم يتدنسوا بالتشيع، ولا بالخروج، وتمسكوا بالسنن الصحيحة ورفضوا الأحاديث، التي تروى من طريق أرباب هذه النحل، أيا كان لونهم السياسي، ونفوا عن السنة كل دخيل، وحفظوها من عبث أهل الأهواء ذلك أنه لم تزل أعلام الدين قائمة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير منهم ما زال على قيد الحياة، وهؤلاء التابعون لهم بإحسان يؤازرونهم، ويؤيدونهم في مهمة التعليم، ونشر السنة وإزالة أدران التشيع والقضاء على أباطيل الكذابين. لقد تظاهر الصحابة، والتابعون وكونوا جبهة قوية في وجوه أرباب النحل المختلة. فمن يوم أن وقعت الفتنة لم يقبلوا الأحاديث بمجرد روايتها، حتى يسألوا عن أسانيدها، ويفحصوا رجالها رجلا رجلا. يروي مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع، فلا يؤخذ حديثهم"، كذلك أخذ الرواة وحملة الحديث من التابعين، يسألون الصحابة ليميزوا لهم الطيب من الخبيث، فلم يكونوا كحاطب ليل يجمع إلى الحطب الحيات، والثعابين بل كانوا يتحرجون من حمل ما لا يعرفون له أصلا، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا ابن أبي مليكة يقول: كتبت إلى ابن عباس، أسأله أن يكتب لي كتابا، ويخفي عني فقال: ولد ناصح، أنا أختار له الأمور اختيارا، وأخفي عنه قال: فدعا بقضاء علي، فجعل يكتب منه أشياء ويمر بالشيء فيقول. والله ما قضى بهذا علي، إلا أن يكون قد ضل "روى ذلك مسلم في مقدمة صحيحه" فهذا الأثر يعطيك فكرة عن إفساد الشيعة، لقضاء علي كرم الله وجهه. كما يعطيك فكرة عن تنبه الصحابة، وعنايتهم التامة بالحديث، وتمييز غثه من سمينه. وأخيرا يعطيك فكرة واضحة عن حال الرواة في طلب الصحيح من الحديث، ورجوعهم في ذلك إلى الصحابة الأجلاء. ولقد بلغ الحد من تبجح الكذابين، إن كانوا يجلسون للحديث بالمساجد على مرأى، ومسمع من الصحابة الذين كانوا يزجرونهم أعظم

زجر ويطردونهم من المساجد أقبح الطرد، حتى لقد كان بعض الصحابة يستعين في ذلك برجال الشرط. يروي ابن أبي شيبة، والمروزي عن مجاهد قال: دخل قاص فجلس قريبا من ابن عمر، فقال له: قم، فأبى أن يقوم فأرسل إلى صاحب الشرط، فأرسل إليه شرطيا فأقامه"، وسترى كثيرا من أمثال هذه الآثار التي بها يتضح لك أن أعلام الدين من الصحابة، والتابعين كانوا واقفين لهؤلاء الوضاعين بالمرصاد، معقبين على أقوالهم، وأفعالهم بالإبطال، حتى لا تقع العامة في حبالتهم، فيضلوا عن طريق السداد. وكما ناهضوا الوضاعين، وكشفوا عن حقيقة أمرهم، بذلوا جهودا جبارة في جمع الأحاديث وروايتها، وتعلمها وتعليمها، والرحلة في طلبها، وإليك تفصيل ذلك: أولا: اتساع الفتوح الإسلامية، وتفرق الصحابة في الأمصار: اتسعت المملكة الإسلامية بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، اتساعا عظيما على يد أصحابه، تحقيقا لوعد الله الذي لا يتخلف: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} الآية. فقد فتح الشام كله، والعراق بأكمله في سنة سبع عشرة هجرية. وفتحت مصر سنة عشرين من الهجرة. وفتحت فارس سنة إحدى وعشرين. ووصل المسلمون سمرقند سنة ست وخمسين، وأخذت أسبانيا سنة ثلاث وتسعين. هذا وكان على أثر هذه الفتوح أن دخل كثير من أهلها الإسلام، وتعطشت نفوسهم إلى تعلم أحكامه، فكان لزاما على خلفاء المسلمين أن

يبعثوا إليهم من يعلمهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحكام دينهم. على أن كثيرا من الصحابة، نزحوا إلى تلك الأمصار المختلفة من تلقاء أنفسهم، معلمين، ومرشدين، ومنهم من طاب له المقام فاستوطن البلد الذي نزله حتى الممات. وبنزول الصحابة في تلك البلدان المختلفة، أصبحت معاهد لتعليم القرآن والحديث، يجتمع عليهم طلاب العلم، يغترفون من بحارهم الفياضة، ويحفظون عنهم ما حفظوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تخرج على أيديهم في كل قطر طبقة من التابعين، كانوا فيما بعد حماة السنة ورواة الحديث. ولا يقعن في خاطرك أنه كان هناك مدارس، ومعاهد بالمعنى المعروف عندنا الآن، ذات نظم خاصة ومكتبات، وقاعات للمحاضرات وما إلى ذلك. بل كان القوم على البساطة الأولى، فقد كان الصحابي يحمل علمه في صدره، ويعيه بقلبه، وكانت المساجد في الغالب هي دور العلم، ومعاهد الحديث يجلس الصحابي في المسجد، وحوله حلقة من أتباعه وتلاميذه يستمعون له، ويحفظون عنه ويسألونه ويستفتونه، وهو في كل ذلك لا يخرج عن كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الرأي المستند إلى أصل صحيح منهما، وقلما يكون ذلك. ولا بأس أن نذكر نبذا عن دور الحديث بالأقطار المختلفة فنقول: دور الحديث في الأمصار المختلفة: 1- دار الحديث بالمدينة المنورة: كانت المدينة المنورة، هي مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبها حدث النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثه؛ لأن أكثر التشريع

الإسلامي كان بها. وكان المهاجرون يحبون المقام بها، ويكرهون التحول عنها إلى مكة أو غيرها. وما زالت المدينة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، هي عاصمة الأمة الإسلامية، ومركز الخلافة الراشدة، ومقر كبار الصحابة. لذلك كانت المدينة هي موطن الصحابة الأول، الذي يفضلونه على غيره حيث يصيبون من بركة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد وفاته، وكانوا لا يبرحونها إلا لحاجة ملحة حكومية، أو معاشية أو تعليمية. روى ابن سعد في الطبقات عن محمد بن عمر أنه قال: لا نعلم أحدا من المهاجرين من أهل بدر رجع إلى مكة -يعني بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- فنزلها غير أبي سبرة، فإنه رجع إلى مكة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلها فكره ذلك له المسلمون، وولده ينكرون ذلك، ويدفعون أن يكون رجع إلى مكة، فنزلها بعد أن هاجر منها، ويغضبون من ذكر ذلك. وقد اشتهر بالمدينة من الصحابة، الذين كانت لهم قدم في الحديث، والفقه عدد كثير منهم أبو بكر وعمر، وعلي قبل انتقاله إلى الكوفة، وأبو هريرة وعائشة أم المؤمنين وعبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدري وزيد بن ثاب، الذي اشتهرم بفهم الأحكام من الكتاب والسنة والرأي السديد، حتى أن عمر كان يستبقيه للاستئناس برايه، فيما يعرض له من القضايا. وقد استمر زيد مترئسا على القضاء، والفتوى والقراء والفرائض زمن عمر، وعثمان، وعلي إلى أن مات سنة 45 في خلافة معاوية رضي الله عنهم. هذا وقد تخرج على أيدي هؤلاء الأفاضل، الفوج الأول من التابعين لهم بالمدينة، ومن أشهر هؤلاء سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير بن العوام، وابن شهاب الزهري، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود

وسالم بن عبد الله بن عمر، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، ونافع مولى ابن عمر وغير هؤلاء من حفاظ السنة، الذين كان إليهم المرجع في الحديث والفتوى. 2- دار الحديث بمكة المكرمة: لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، خلف بها معاذ بن جبل يعلم أهلها الحلال والحرام، ويفقههم في الدين ويقرئهم القرآن الكريم. وكان معاذ من أفضل شباب الأنصار علما وحلما، وسخاء شهد مع رسول الله المشاهد كلها، وكان يعد من أعلم الصحابة بالحلال والحرام. وقد روى عنه ابن عباس وعمر وابنه. وأخيرا تزعم دار الحديث بمكة عبد الله بن عباس، بعد رجوعه من البصرة وإليه يرجع الفضل فيما كان لمكة من شهرة علمية. فقد كان عبد الله من أوعية العلم وحفاظ الحديث. وكان بها كثير من الصحابة غيره ذكر منهم الحاكم في كتابه "معرفة علوم الحديث" جملة وافرة. فمنهم عبد الله بن السائب المخزومي، قارئ الصحابة مكة، وعتاب بن أسيد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه خالد بن أسيد والحكم بن أبي العاص. وعثمان بن طلحة، وغيرهم. وقد تخرج بهذه الدار على يد عبد الله بن عباس، كثير من التابعين من أشهرهم مجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم. هذا ولا تنس ما لمكة والمدينة من أثر كبير، امتازتا به على جميع بلدان العالم، حتى في عصرنا الحاضر ففيهما ينعقد هذا المؤتمر الإسلامي في كل عام، ويأتي إليه المسلمون من كل فج عميق. ولا يخفى ما لهذا الاجتماع من أثر كبير في نشر العلوم، والمعارف إذ يلتقي فيه رواة

الحديث وحملة العلم بعضهم ببعض، يعرضون الأحاديث وينقحون الأسانيد، فيستكمل الراوي علمه بالحديث ورجاله. ولقد كان الحج من أعظم الروابط، والصلات التي تربط الأقطار الإسلامية بالحياة العلمية في هذين البلدين. إلا أن ذلك لم يكن ليسد حاجة هذه الأقطار الواسعة، لذلك نزح كثير من الصحابة إليها هداة ومعلمين. 3- دار الحديث بالكوفة: كانت الكوفة هي قاعدة الجيوش الإسلامية، لذلك نزل بها عدد كبير منالصحابة، زمن الفتوح وأكثرهم دفن بها. منهم علي وعبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد وخباب بن الأرت، وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر وأبو موسى الأشعري، والبراء بن عازب والمغيرة بن شعبة، والنعمان بن بشير وأبو الطفيل، وأبو جحيفة وكثير جدا غيرهم. "علوم الحديث للحاكم ص191". وقد كانت الزعامة في هذه الدار إلى عبد الله بن مسعود، لكثرة علمه وطول مكثه بها، فتخرج على يديه كثير من أصحابه، من أشهرهم مسروق بن الأجدع الهمداني، وعبيدة بن عمرو السلماني، الذي قال فيه الشعبي: كان يوازي شريحا في القضاء. والأسود بن يزيد النخعي، وشريح بن الحارث الكندي، الذي استقضاه عمر على الكوفة، ولم يزل قاضيا عليها حتى زمن الحجاج، ثم استقال قبل موته بسنة، وإبراهيم بن يزيد النخعي فقيه العراق وسعيد بن جبير، وعامر بن شراحيل الشعبي علامة التابعين، وكان إماما حافظا. أعلام الموقعين "1-20".

4- دار الحديث بالبصرة: زعيم هذه الدار هو أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد نزلها كثير من الصحابة غيره منهم ابن عباس -وكان واليا عليها من قبل علي- وعتبة بن غزوان، وعمران بن حصين. وأبو برزة الأسلمي، ومعقل بن يسار وأبو بكرة وعبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن الشخير، وجارية بن قدامة، وغيرهم "علوم الحديث للحاكم ص191". وقد تخرج بهذه الدار من التابعين، أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي، والحسن البصري، وأدرك خمسمائة من الصحابة، ومحمد بن سيرين وأبو الشعثاء جابر بن زيد صاحب ابن عباس. وقتادة بن دعامة الدوسي، ومطرف بن عبد الله بن الشخيير، وأبو بردة بن أبي موسى، وغير هؤلاء كثير. 5- دار الحديث بالشام: لما فتح المسلمون الشام، دخل كثير من أهلها في الإسلام، وقد اهتم الخلفاء بهذا القطر، فأرسلوا إليه فضلا الصحابة كمعاذ بن جبل، الذي أخذ مكانة علمية فائقة، فهو مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وهو خليفته على أهل مكة، يعلمهم الحلال والحرام، وهو مبعوث عمر إلى الشام، ليفقههم في دين الله. روى ابن سعد في الطبقات عن أبي مسلم الخولاني قال: دخلت مسجد حمص، فإذا فيه نحو من ثلاثين كهلا، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا فيهم شاب أكحل العينين، براق الثنايا ساكت لا يتكلم، فإذا امترى القوم في شيء، أقبلوا عليه فسألوه فقلت لجليس لي: من هذا؟ قال: معاذ بن جبل، ويروي ابن سعد أيضا، عن عمر بن الخطاب أنه قال حين خرج معاذ إلى الشام: لقد أخل

خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه، وما كان يفتيهم به. ولقد كنت كلمت أبا بكر، رحمه الله أن يحبسه لحاجة الناس إليه فأبى علي، وقال: رجل أراد جهادا يريد الشهادة، فلا أحبسه فقلت: والله إن الرجل ليرزق الشهادة، وهو على فراشه". ومن أشهر من قام بالتعليم في هذا القطر أيضا عبادة بن الصامت، الذي امتاز بجمع القرآن، وكان من أفقه الناس في الدين، شديدا في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم. أنكر على معاوية كثيرًا من أموره. ومنهم أبو الدرداء الأنصاري، وكان معدودا من فقهاء الصحابة، وحفاظ الحديث، وقد أرسلهما عمر مع معاذ إلى الشام، إجابة لطلب يزيد بن أبي سفيان، فإنه كتب إلى عمر بن الخطاب: قد احتاج أهل الشام إلى من يعلمهم القرآن، ويفقههم فأرسل معاذا وعبادة وأبا الدرداء. ذكر ذلك البخاري في تاريخه. كان هؤلاء هم حجر الزاوية في الحركة العلمية، ونشر السنة المحمدية في ربوع تلك البلاد. وقد أرسل عمر أيضًا عبد الرحمن بن غنم للمهمة نفسها، وكان يقال له صاحب معاذ لكثرة ملازمته له، على أنه اختلف في صحبته. هذا وكثير من الصحابة غير هؤلاء انتشروا في الشام هداة، ومعلمين منهم شرحبيل بن حسنة، والفضل بن العباس بن عبد المطلب. يروي الحاكم أنه مدفون بالأردن. وأبو مالك الأشعري وغيرهم كثير. وقد تخرج على أيديهم كثير من التابعين في مدارس الشام، المختلفة منهم أبو إدريس الخولاني عائذ الله. وقبيصة بن ذؤيب، ومكحول بن أبي مسلم، ورجاء بن حيوة الكندي العالم، الثقة، الفاضل.

6- دار الحديث بمصر: فتح المسلمون مصر، فدخل كثير من أهلها الإسلام، كذلك نزلها كثير من الصحابة، ينشرون أحكام الدين وتعاليمه، وأشهرهم عبد الله بن عمرو بن العاص، الذي كان من أكثر الصحابة، حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما امتاز عن غيره من سائر الصحابة، بكتابة ما يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرج عبد الله مع أبيه عمرو بن العاص إلى مصر عند ما ولاه إياها معاوية، ولما توفي عمرو بقي ابنه عبد الله مقيما بمصر فكان يحج ويعتم، ثم يرجع إليها إلى أن توفي بها في بعض الأقوال. وقد نزل كثير من الصحابة غير عبد الله بن عمرو مصر، وقاموا بمهمة التعليم وتفقه على أيديهم كثير من أهل البلاد، منهم عقبة بن عامر الجهني، وخارجة بن حذافة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومحمية بن جزء، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وأبو بصرة الغفاري، وأبو سعد الخير ومعاذ بن أنس الجهني، وغيرهم حتى لقد أفردهم محمد بن الربيع الجيزي بالتأليف، فبلغ عددهم مائة ونيفا وأربعين صحابيا، كما أورد أحاديثهم في تأليفه ذلك1. تخرج على هؤلاء الصحابة كثير من التابعين، منهم أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني، مفتي أهل مصر روى عن أبي أيوب الأنصاري، وأبي بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني. ومنهم يزيد بن أبي حبيب. روى عن بعض الصحابة، وأكثر روايته عن التابعين، وهو بربري الأصل أبوه من أهل دنقلة، ولكنه نشأ مصر.

_ 1 أعلام الموقعين "1-2" علوم الحديث للحاكم "ص 193"، ضحى الإسلام "3-89".

هذه نبذة قصيرة عن معاهد العلم، ودور الحديث في أشهر الأمصار الإسلامية، لذلك العهد تدلك على مكانة هؤلاء الصحابة، وتابعيهم في نشر ورواية الحديث. ثانيا: رحلة العلماء في طلب الحديث: تفاوت الصحابة في حفظ الحديث: رأيت كيف اتسعت الفتوح الإسلامية، وما تبع ذلك من تفرق الصحابة في الأمصار المتباعدة، ينشرون دين الله، وأحاديث رسول الله. وبدهي أن الصحابة لم يكونوا على درجة واحدة في حفظ الحديث، وجمع السنن، بل كانوا مختلفين اختلافا كبيرا، فكان عند بعضهم الحديث الواحد وعند بعضهم الحديثان وهكذا. فقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم قوما بما لم يحدث به آخرين، ووقع من الحوادث أمام قوم ما لم يطلع عليه آخرون، ومن هنا قال مسروق -وكان من التابعين: لقد جالست أصحاب محمد، فوجدتهم كالأخاذ فالأخاذ يروي الرجل، والأخاذ يروي الرجلين والأخاذ يروي العشرة، والأخذا يروي المائة، والأخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم. ماذا يكون الحال إذا تفرق الصحابة، كما رأيت وحالهم على ما رأيت. لقد تناثرت الأحاديث في الأمصار، تبعا لتفرق الصحابة في البلدان والأحاديث لا غنى عنها في فهم القرآن، والتفقه في أحكام الدين نعم جمع القرآن الكريم على عهد عثمان رضي الله عنه، ووزعت المصاحف على الأقطار، وحفظه المسلمون لا يختلفون فيه. أما السنة التي هي بيان للكتاب، فلم تكتب لا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الخلفاء الراشدين إلى نهاية القرن الأول لأسباب ستأتي فيما بعد.

حاجة العلاء إلى الرحلة في هذا العصر: ماذا يصنع أهل كل مصر فيما يعن لهم من الحوادث، ويتجدد لهم من الأحكام، والحال كما وصفنا؟ إنه ليس أمامهم سوى باب واحد يطرقونه مهما كلفهم ذلك من عناء، ومهما بذلوا فيه من أموالهم وأنفسهم. وذلك هو الرحلة من قطر إلى قطر -وذلك هو الذي كان من الصحابة، والتابعين بل وأتباع التاعين فشمروا عن ساعد الجد، وجابوا البلاد شرقا، وغربا مستعذبين كل مر وصاب في سبيل الحصول على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنك إذا تتبعت تراجم المحدثين من الصحابة، والتابعين وتابعيهم، ومن جاء بعدهم إلى أن دونت السنة في بطون الكتب، بل وبعد تدوينها أيضا تجد أن المؤرخين لحياتهم، يقولون في الرجل منهم مثلا: هو فلان بن فلان المكي، ثم المدني، ثم الكوفي، ثم البصري، ثم الشامي، ثم المصري إيذانا منهم بأن هذا الراوي كان رحالة في طلب الحديث، والعلم. أثر الرحلة في تمحيص الأحاديث: ليس هناك من شك في أن الرحلة إلى العلماء، والتقاء الحفاظ بعضهم ببعض طريق عظيم في تثقيف العقول، وتنقيح العلوم، وتمحيص المحفوظ من الحديث وبها يقف الراوي بنفسه على سيرة الرواة في بلدانهم، ويعلم قوتهم من ضعفهم فضلا عن الاستزادة من الحديث، وحفظ ما لم يكن موجودا عند علماء بلده، وأهل مصره. وقد كانت الرحلة هي سنة العلماء، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن أدرك الأمة الإسلامية التكاسل، والتواكل وقعدت عن العمل النافع، المجدي الذي كان عليه أسلافهم.

وقد قدمنا لك أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا بعدت به الدار يركب إلى المدينة، فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستمر أمر الصحابة على ذلك أيضا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرحل بعضهم إلى بعض في طلب الحديث. إلا أنه لما اتسعت الفتوح الإسلامية، وتفرق بها الصحابة، كما سبق شاعت الرحلة، وظهر أمرها بين الصحابة والتابعين في عصرنا هذا. ونحن نذكر لك طائفة من الآثار بعضها عن الصحابة، وبعضها عن التابعين لتلمس بنفسك تلك الجهود الجبارة، التي قام بها أسلافنا، حيال جمع الحديث، وليتضح لك عنايتهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على جمعها. فهذا أبو أيوب الأنصاري، يرحل من المدينة إلى عقبة بن عامر بمصر، يسأله عن حديث، سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري، أمير مصر خرج إليه فعانقه ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ قال: حديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، لم يبق أحد سمعه منه غيري، وغير عقبة فابعث من يدلني على منزله، فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فخرج إليه عقبة فعانقه فقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يبق أحد سمعه منه غيري، وغيرك في ستر المؤمن. قال عقبة: نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية، ستره الله يوم القيامة"، فقال أبو أيوب: صدقت ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعا إلى المدينة، وما حل رحله فما أدركته جائزه مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر. فانظر رعاك الله إلى همة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف هانت عليهم الدنيا، وصغرت أمامهم العظائم في سبيل المحافظة

على سنة رسول الله، فضحوا براحتهم وركبوا الأخطار، وقطعوا المفاوز والقفار في طلب الحديث. فأبو أيوب على تقدم صحته، وكثرة سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرحل من المدينة إلى مصر متحملا مشقة السفر، ووعثاءه، ثم هو يرجع من ساعته، ولا تحدثه نفسه بالمقام بمصر يوما، أو يومين يستجم فيه. وهذا عمرو بن أبي سلمة يقول للأوزاعي: يا أبا عمرو أنا ألزمك منذ أربعة أيام، ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثا. قال: وتستقل ثلاثين حديثا في أربعة أيام؟ لقد سار جابر بن عبد الله إلى مصر، واشترى راحلة فركبها حتى سأل عقبة بن عامر عن حديث واحد، وانصرف إلى المدينة، وأنت تستقل ثلاثين حديثا في أربعة أيام. فجابر بن عبد الله معدود من المكثرين في الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يستعظم أن يفوته بعض الحديث، فيرحل إلى مصر على بعد الشقة بينها، وبين المدينة ويشتري لهذه الغاية الشريفة دابة يركبها. فانظر إلى أي حد كان الصحابة يخدمون دينهم، ويجمعون أحاديث نبيهم، وكل همهم أن يكونوا سعداء بحمل الحديث، وتبليغه والعمل به. وهذا سعيد بن المسيب يقول: إني كنت لأسافر مسيرة الأيام، والليالي في الحديث الواحد "روى هذه الآثار كلها الحاكم في معرفة علوم الحديث ص7، 8". وروى البخاري في كتاب العلم عن صالح الهمداني، عن الشعبي عن أبي بردة عن أبيه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل كانت عنده وليدة، فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها، وأعتقها فتزوجها فله أجران، وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه

وآمن بي فله أجران وأيما مملوك أدى حق مواليه، وأدى حق ربه فله أجران"، فلما انتهى الشعبي من وراية هذا الحديث، قال للسامع الذي يتلقاه عنه: "خذها بغير شيء قد كان الرجل، يرحل فيما دونها إلى المدينة"، فكلمة الشعبي هذه، وهو من التابعين تعلمنا بما كان يقوم به العلماء من الصحابة، والتابعين من الرحلات إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في طلب الحديث، مهما كان قليلًا. وعن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فابتعت بعيرا فشددت عليه رحلي، ثم سرت إليه شهرا، حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس الأنصاري، فأتيت منزله وأرسلت إليه أن جابر على الباب، فرجع إلى الرسول، فقال جابر بن عبد الله قلت: نعم، فخرج إلي فاعتنقته، واعتنقني قال: قلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم لم أسمعه أنا منه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله تبارك وتعالى العباد ... الحديث " وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، يقول: كان يبلغنا الحديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أشاء أن أرسل إليه حتى يجيئني فيحدثني فعلت، ولكني كنت أذهب إليه، فأقيل على داره، حتى يخرج فيحدثني، وهذا بسر بن عبد الله الحضرمي يقول: إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في طلب الحديث الواحد لأسمعه، رواهما ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وقد عقد بابا لذلك خاصة، سماه باب ذكر الرحلة في طلب العلم، وأخرج الخطيب عن أبي العالية، قال: كنا نسمع عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نرضى حتى خرجنا إليهم، فسمعنا منهم.

هكذا تعاون العلماء في الأمصار المختلفة على حفظ السنة، رحل بعضهم إلى بعض، وتلقى بعضهم عن بعض، وجاهدو في سبيل الحديث، وجمعه جهادا عظيما، وضربوا المثل عاليا لمن بعدهم من أهل الحديث، فساروا على ضوء نبراسهم. وقد كان للرحلة أثر عظيم في عصور التدوين، حتى لقد عد من يكتب الحديث في بلده، ولا يرحل في طلبه ضالا طريق الرشاد، بعيدا عن محجة الهدى والسداد. فهذا يحيى بن معين يقول: أربعة لا تؤنس منهم رشدا، حارس الدرب، ومنادي القاضي وابن المحدث، ورجل يكتب في بلده، ولا يرحل في طلب الحديث، ولأمر ما يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب، قلت لطالب العلم يتخذ نعلين من حديد. التفت أيها القارئ -وتصور العصر الذي نحدثك عنه، وكيف كانت المواصلات فيه، لم تكن هناك طرق معبدة، ولا سيارات ولا طائرات بل كانت ركوبتهم الخيل، والجمال يقطعون بها الفيافي المخيفة ما بين حزون، وسهول وجبال، وتلال وأسود وذئاب، وكثيرا ما تلفحهم الصحارى بقيظها، وتقرسهم الفيافي بقرها، ويغشاهم الليل بظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج الواحد منهم يده لم يكد يراها. وكل هذه المخاطر كانت في نظرهم قليلة في جنب الله، هينة في سبيل جمعهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجزاهم الله عن المسلمين خير الجزاء. أثر الرحلة في شيوع رواية الحديث، وتعدد طرقه: تفرق علماء الصحابة في البلدان ينشرون الحديث، ويروون السنن ولتفاوتهم في حفظ الحديث قلة، وكثرة نشطت الرحلة ونزح العلماء من قطر إلى قطر في جمع الحديث. وتبع اتساع الفتوح تجدد الحوادث، والأقضية فأبرز العلماء من الصحابة ما عندهم من أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضاياه وقضايا الخليفتين من بعده. فكان طبيعيا

أن يترتب على كل ذلك شيوع رواية الحديث بين العلماء، في الأقطار المختلفة فبعد أن كان المصري، مثلا يتحمل الحديث، ويرويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وغيره ممن نزل مصر أصبح يروى الحديث، عن معاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وأبي موسى وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وهكذا وبعد أن كان الحديث يقع للراوي من طريق واحد، أصبح يرويه من طرق عديدة. وبعد أن كانت بعض البلدان أكثر حظا بالحديث وحملته كالمدينة مثلا، أصبحت البلدان كلها تتمتع برواية الحديث، وتعمل به في أحكامها، وقضاياها، وعباداتها، ومعاملاتها. وكل ذلك بفضل ارتحال علماء الأقطار من بلد إلى بلد في طلب الحديث، وتلقيه حتى رأينا الصحابي ينزح من المدينة، التي هي مهبط الوحي، وملاذ الحديث إلى مصر في طلب حديث، سمعه زميله من النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثا: ظهور الكذب في الحديث ومناهضة العلماء للكذابين: كان حسنا أن تشيع رواية الحديث بين المسلمين في الأقطار المختلفة، وكان حسنا أن يتلقى التابعون عن الصحابة، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشغف عظيم، وكان حسنا أن يطبق المسلمون أحاديث نبيهم على كل أمورهم دينية كانت، أم دنيوية. ولكن لا تنس أيها القارئ إن للإسلام، كما قدمناه لك أعداء واقفين له بالمرصاد، فمن الوقت الذي وقعت فيه الفتنة بين المسلمين، بقتل الخليفة الثالث أولا وبافتراقهم إلى شيعة وخوارج، وجمهور ثانيا، وجد أعداء الإسلام من الفرس، وغيرهم ستارا يحجبهم، فعملوا في الخفاء ودسوا الأكاذيب، كما قدمناه لك. ولما شاعت رواية الحديث، واتسعت الأقطار.

وجد هؤلاء الكائدون جوا صالحا، لبث سمومهم وإلقاء أكاذيبهم في طول البلاد وعرضها. كان الصحابة في الدور الأول، زمن الخلافة الراشدة لا يبرحون المدينة، إلا لحاجة ماسة، وكانوا مشغولين بالحروب، وكانت المدينة هي دار الحديث الوحيدة، وكان أبو بكر وعمر قد أخذا الناس بالحزم، وأمراهم بإقلال الرواية، حتى لا تفشو وتشيع فيتخذها الجهال، والمنافقون ذريعة للكذب وإلقاء بذور الشر والفساد، وقد نجحت تلك التجربة أيما نجاح، وكفى الله السنة شر الكذابين. ولما انقضى عهد الخلافة الراشدة، وانشق المسلمون بعضهم على بعض ظهر الكذابون، والمنافقون من أهل الملل الأخرى، الذين لم يتجاوز الإيمان حناجرهم، وقد قدمنا لك بعضا من أعمالهم وخرافاتهم. فلما أن شاعت رواية الحديث، كما رأيت بين أهل الأقطار الإسلامية، ظهر هؤلاء الدجالون من أرباب الفرق المختلفة، بوجوه في نهاية التبجح، والقحة فأخذوا يكذبون على الصحابة، ويدعون أنهم رووهم الحديث، وربما لم يكونوا قد رأوهم، ولا سمعوا منهم. أخذ هؤلاء الكذابون يأتون بالعظائم، مما لم يأذن به الله ولا رسوله. فهذا جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي، أبو عبد الله الكوفي الرافضي، المتوفى سنة 127هـ يقول: عندي خمسون ألف حديث ما حدثت منها بشيء. ويقول فيه سفيان: سمعت جابرا يحدث بنحو ثلاثين ألف حديث، ما أستحل أن أذكر منها شيئا، وإن كان لي كذا وكذا. وروى الحميدي عن سفيان قال: "سمعت رجلا سأل جابرا عن قوله عز وجل: {لَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} . فقال جابر: لم يجئ تأويل هذه الآية. قال سفيان: وكذب فقلنا: وما أراد بهذا قال: إن الرافضة تقول: إن عليا في السحاب، فلا نخرج مع من خرج من

ولده حتى ينادي مناد من السماء، يريد أن عليا ينادي، اخرجوا مع فلان يقول جابر: فذا تأويل هذه الآية وكذب. كانت في أخوة يوسف". وهذا همام يقول: قدم علينا أبو داود الأعمى، فجعل يقول: حدثنا البراء، وحدثنا زيد بن أرقم. فذكرنا ذلك لقتادة فقال: كذب ما سمع منهم إنما كان إذ ذاك سائلا، يتكفف الناس زمن طاعون الجارف، أي عام سبع وثمانين ويقول همام: دخل أبو داود الأعمى على قتادة فلما قام قالوا: إن هذا يزعم أنه لقي ثمانية عشر بدريا فقال قتادة: هذا كان سائلا قبل الجارف لا يعرض لشيء من هذا ولا يتكلم فيه. فوالله ما حدثنا الحسن عن بدري مشافهة، ولا حدثنا سعيد بن المسيب، عن بدري مشافهة إلا عن سعد بن مالك1. فانظر كيف ادعى هذا الأعمى، أنه سمع ثمانية عشر صحابيا، ممن شهد بدرا مع أن الحسن، وسعيد بن المسيب، وهما أكبر منه سنا وأكثر اعتناء بالحديث، وملازمة لأهله واجتهادا في الأخذ عن الصحابة، ما حدث واحد منهما عن بدري واحد، فكيف بأبي داود الأعمى، يدعي أنه لقي ثمانية عشر بدريا، سبحانك هذا بهتان عظيم. ولكن الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم أخذوا على هؤلاء الوضاعين المسالك، وشردوا بهم من خلفهم. انظر إلى قول الشعبي رضي الله عنه. حدثني الحارث الأعور، وكان كذابا. وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يؤتى بقضاء علي كرم الله وجهه في خريطة، فيمحوه ولا يترك منه، إلا مقدار ذراع. وذلك؛ لأن الشيعة أفسدوا كثيرا من علم الإمام علي، فقاتلهم الله أنى يؤفكون. وهذا بشير بن كعب يأتي ابن عباس، فيحدثه بأحاديث فيقول له ابن عباس: عد لحديث كذا وكذا، فيعود له ثم يحدث

_ 1 هو سعد بن أبي وقاص.

فيقول له: عد لحديث كذا وكذا فيعود له. فقال له: ما أدري أعرفت حديثي كله، وأنكرت هذا أم أنكرت حديثي كله، وعرفت هذا. فقال له ابن عباس: إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعبة، والذلول تركنا الحديث عنه. وهذا مجاهد يقول: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدث، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه فقال: يا ابن عباس. ما لي أراك لا تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تسمع؟، فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعبة، والذلول لم نأخذ من الناس، إلا ما نعرف ذكر هذه الآثار مسلم في مقدمة صحيحة. هذا وهناك صنف من الوضاعين، كان شرا مستطيرا على الحديث، ألا وهم القصاص الذين يستهوون العامة بالمناكير، ويأخذون عليهم قلوبهم برواية الغرائب، التي لا أصل لها، وقد وجد منهم في هذا الدور خلق كثير. فهذا هو الشعبي التابعي العظيم، أحد أعيان المائة الأولى للهجرة "17-104" يقول: بينما عبد الملك بن مروان جالس، وعنده وجوه الناس من أهل الشام قال لهم: من أعلم أهل العراق قالوا: ما نعلم أحدا أعلم من عامر الشعبي. فأمر بالكتاب إلي، فخرجت إليه حتى نزل "تدمر"، فوافقت يوم جمعة، فدخلت أصلي في المسجد، فإذا غلى جانبي شيخ عظيم اللحية، قد أطاف به قوم فحدثهم قال: حدثني فلان، عن فلان يبلغ به النبي صلى الله عله وسلم: أن الله تعالى خلق صورين في كل صور

نفختان نفخة الصعق ونفخة القيامة. قال الشعبي فلم أضبط نفسي أن خففت صلاتي، ثم انصرفت فقلت: يا شيخ اتق الله، ولا تحدثنا بالخطأ إن الله تعالى لم يخلق إلا صورا واحدا، وإنما هي نفختان نفخة الصعق، ونفخة القيامة. فقال لي: يا فاجر، إنما يحدثني فلان عن فلان، وترد علي ثم رفع نعله، وضربني بها، وتتابع القوم علي ضربا معه، فوالله ما أقلعوا عني، حتى حلفت لهم أن الله تعالى خلق ثلاثين صورا له، في كل صور نفخة فأقلعوا عني. فرحلت حتى دخلت دمشق، ودخلت على عبد الملك، فسلمت عليه. فقال لي يا شعبي: بالله حدثني بأعجب شيء رأيته في سفرك، فحدثته حديث المتقدمين، ضحك حتى ضرب برجليه، ذكره السيوطي في تحذير الخواص ص51، 52. فانظر إلى أي حد بلغ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك العصر، وانظر إلى استماع العامة للأكاذيب، وتعلقهم بها حتى إنهم إذا نصحوا ثاروا على الناصح، فأهانوه وضربوه. فمن ذلك نأخذ أن مهمة المحدثين في هذا الوقت، كانت من أشق ما يكون فقد أفسد القصاص، والزنادقة قلوب العامة وحشوها بالخرافات، وشأن العامة في كل زمان الاستماع للغريب من الحديث، والجلوس إلى القاص، إذا ما كان كلامه عجيبا خارجا عن فطر العقول، أو كان رقيقا يحزن القلوب ويستغزر العيون. وهذا ابن عمر يزجر القاص، ويأمره بالقيام من المسجد فلا يستمع لأمره، حتى يستعين عليه بصاحب الشرطة، فيبعث إليه شرطيا يخرجه إلى غير ذلك من الحوادث. وقد رأينا أن نتكلم على نشأة الوضع في الحديث، وتاريخه وجهود العلماء لمناهضة الوضاعين في فصل خاص، إن شاء الله عند الكلام على أنواع الحديث في الخاتمة؛ لأن الوضع لم يكن خاصا بعصر من العصور، بل هو وليد العصور جميعها، ونكتفي بهذا القدر الآن.

المبحث الخامس: كتابة الحديث

المبحث الخامس: كتابة الحديث الكتابة عند العرب قبيل الإسلام: الخط مظهر من مظاهر التحضر، وأثر من آثار الاجتماع والتمدن، لذا سبق إليه الأمم المتمدنة، وكان أبعد الناس منه الأمم البادية. والعرب لما كانوا قوما بدويين، كانوا بطبيعة الحال أميين لا يقرءون، ولا يكتبون، اللهم إلا في الجهات التي عرفتها الحضارة من جزيرتهم كاليمن، فقد كان أهل هذه البلاد يخطون، وكان خطهم يسمى بالخط المسند. على أنه لم تكن الكتابة عندهم بالشيء الذائع، يتناوله جميع الأفراد، بل كان ذلك في الخاصة منهم. ومن اليمن انتقل الخط إلى الحيرة، والأنبار لما كان من الارتباط بين ملوك الإقليمين. وكانوا يسمون خطهم بخط الجزم؛ لأنه اقتطع من المسند الحميري. ومن الحيرة انتقل الخط إلى مكة، نقله حرب بن أمية، وكان رجلا سفارا، ومن عهده بدأ الخط بمكة، فتعلمه بعض رجال قريش. هذه هي الجهات الثلاث، التي وجدت بها الكتابة الخطية على أنها، كما قلنا لم تكن بالشيء الذائع المتداول. أما بادية العرب، فلم تكن تخط بل كانت ترى الخط وصمة عار، وسمة عيب كما هو شأنها في سائر الصناعات المدنية. هذا وكأن الله تعالى أذن بنقل الكتابة من الحيرة إلى مكة، قبيل الإسلام لتكون فيما بعد عاملا من عوامل حفظ القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ثم إنه لم تكن الكتابة منتشرة بين العرب، بل كانت منحصرة في أفراد قليلين، مما يجعل الحكم على الأمة العربية بأنها

أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب من السهولة بمكان، حتى لقد سماها القرآن عند مجيء الإسلام بذلك، فقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} ، وقد كان عدم انتشار الكتابة، وذيوعها بين العرب من أهم العوامل في تنمية ملكة الحفظ فيهم، فقد اعتمدوا على قوة الحافظة في جميع ما يهمهم من الأشعار، والأنساب، والمفاخر، والأيام. والملكة متى استعملت عظمت ونمت، ولذا كان العرب من أحفظ الأمم، التي عرفها التاريخ إلى يومنا هذا. الكتابة بمكة عند مجيء الإسلام: وأيا ما كان الأمر فقد جاء الإسلام، وليس بمكة ممن يعرف الكتابة، سوى سبعة عشر رجلا منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، وطلحة ويزيد بن أبي سفيان، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو سفيان بن حرب وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وحاطب بن عمرو، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي. وبعض من نسائهم كن يكتبن أيضا، منهن الشفاء بنت عبد الله العدوية، وحفصة بنت عمر، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأم كلثوم بنت عقبة، وكريمة بنت المقداد، وغيرهن. الكتابة بالمدينة عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليها: أما في المدينة فكانت الكتابة بين الأوس والخزرج قليلة، وكان بعض اليهود قد علم كتابة العربية، وكان يعلمها الصبيان بالمدينة في الزمن الأول. فجاء الإسلام وفي الأوس، والخزرج عدة يكتبون، منهم سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت الذي كان يكتب العربية، والعبرانية ورافع بن مالك، وأسيد بن حضير. وغيرهم وقد عدهم البلاذري أحد عشر رجلا.

النبي يعمل على نشر الكتابة: هذا ولما جاء الإسلام أخذ بيد العرب إلى ترقية الكتابة، والنهوض بها والعمل على نشرها، وكان للكتابة منزلة عظيمة في حفظ الوحي، وتبليغ السالة إلى الملوك وأهل الآفاق. لذا كانت عناية النبي صلى الله عليه وسلم بها شديدة، فقد انتهز أول فرصة لنشر الكتابة بين المسلمين، فجعل فداء بعض الأسرى في بدر ممن يعرفون الكتابة، أن يعلم الواحد منهم عشرة من صبيان المسلمين بالمدينة القراءة والكتابة، ولا يطلق إلا بعد أن يتم تعليمهم. كتابة القرآن والرسائل: وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم، الكتابة في تدوين ما ينزل من القرآن، وفي إرسال الرسائل إلى الملوك، يدعوهم فيها إلى الإسلام، واتخذ لذلك كتابا من الصحابة. فأول من كتب له بمكة من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لكنه ارتد وهرب من المدينة إلى مكة، ثم عاد إلى الإسلام بعد الفتح، وأول من كتب له بالمدينة أبي بن كعب، وكان إذ غاب دعا النبي صلى الله عليه وسلم، زيد بن ثابت فكتب له، وكان زيد وأبي يكتبان الوحي، والرسائل أيضا، ثم لما فتحت مكة وأسلم معاوية بن أبي سفيان، كان يكتب للنبي الوحي، وغير هؤلاء كثير، كانوا يكتبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كالخلفاء الراشدين، وأبان بن سعيد، وزيد بن أرقم، وحنظلة بن الربيع1. هذا وقد كتب القرآن كله بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، على الرقاع والأضلاع، والحجارة الرقاق؛ لأن الورق المعروف الآن، لم يكن قد وجد عند العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان نزول

_ 1 فتوح البلدان ص458.

القرآن متفرقا على حسب الحوادث والأسئلة، فكانت الآية تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فيأمر كاتب الوحي بكتابتها في موضع كذا من سورة كذا، وقد مكث الأمر على هذا الحال ثلاثة وعشرين عاما "على أحد الأقوال"، من يوم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن توفاه الله. هل كتب الحديث في حياة النبي، صلى الله عليه وسلم كما كتب القرآن؟: حكمة النهي عن كتابة الحديث: نزل القرآن كما قدمنا لك منجما آية آية وسورة سورة، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم لكتابته أفرادا من الصحابة. والقرآن الكريم، وإن امتاز عن سائر كلامالبشر بجزالة المعنى، وفخامة اللفظ، وحسن السياق، وكما النظم، الأمر الذي أعجز البلغاء عن محاكاته، فخروا لبلاغته ساجدين، فإنه مع ذلك قد يلتبس الأمر على من ليسوا من فرسان البلاغة، إذ يشته عليهم الآية من القرآن بالحديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعا لهذا الاشتباه، ومنعا للوقوع في خطر التغيير والتبديل، الذي وقع فيه أهل الكتاب من اليهود والنصارى من قبل، منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابة السنن، وتدوين الأحاديث، حتى يتسع المجال أمام القرآن، ويأخذ مكانه من الحفظ والكتابة معا، وحتى يثبت في صدور الحفاظ، وتألفه أسماعهم، وبذلك يزول خطر الالتباس. لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث. روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن، ومن

كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه". فتراه قد منعهم من كتابة الحديث، ووكله إلى حفظهم، وأجاز لهم روايته ونقله عنه، مع تحذيره لهم من الكذب عليه، وقد كان الصحابة كما تقدم لك على جانب عظيم في الحفظ، فلم يكن هناك خوف على السنن من الضياع. وشيء آخر جعل النبي صلى الله عليه وسلم، ينهاهم عن كتابة الحديث، هي المحافظة على تلك الملكة، التي امتازوا بها في الحفظ، فلو أنهم كتبوا لاتكلوا على المكتوب، وأهملوا الحفظ، فتضيع ملكاتهم بمرور الزمن. أضف إلى هذا أن الكتابة لم تكن منتشرة فيهم، ولم يكونوا أتقنوها حتى تحل محل الحفظ، وما كان من الكتابة عند أفراد قلائل، فقد انحصر عملهم في كتابة القرآن، والرسائل، ولو أنهم كلفوا مع ذلك كتابة السنن لوقع الناس في حرج عظيم، والتبس عليهم أمر السنة والكتاب. التوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن فيها: هذا وربما يقول قائل: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كما نهى عن كتابة الحديث كذلك ورد عنه الإذن بالكتابة وإباحتها، فقد روى البخاري في كتاب العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اكتبوا لأبي شاه"، يعني الخطة التي سمعها منه صلى الله عليه وسلم، يوم فتح مكة وقد سأله أبو شاه أن يكتبها له، وروي عن أبي هريرة أنه قال: ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب. إلى غير ذلك من الآثار الدالة على إباحته صلى الله عليه وسلم كتابة الحديث عنه، وهي بظاهرها تتعارض مع حديث أبي سعيد في النهي عن ذلك. والجواب عن هذا التعارض: أن النهي كان خاصا بوقت نزول

القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن بالكتاب كان في غير ذلك الوقت. أو أن النهي كان عن كتابة غير القرآن مع القرآن في صحيف واحدة، والإذن كان بكتاب ذلك متفرقا حتى يؤمن الالتباس. أو يقال: كان النهي عن الكتابة متقدما لخوف التباس القرآن بالحديث، أو لخوف الاتكال على الكتاب، وإهمال الحفظ، أو غير ذلك، وكان الإذن متأخرا ناسخا للنهي السابق، عند أمن اللبس، أو عدم الخوف من الاتكال على المكتوب. على أن بعض العلماء يرى أن حديث أبي سعيد هذا، موقوف عليه وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك البخاري وغيره. وعلى أي حال، فإن الحديث لم يكتب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، على النحو الذي كتب عليه القرآن، فلم يأمر النبي أحدا من كتاب الوحي بكتابة حديثه، وإن وجد من بعض الأفراد كتابة شيء فذلك قليل جدا، وقد كان جل اعتمادهم على الحفظ كما رأيت. ثم إننا لو لم نلتف إلى قول بعض العلماء في وقف حديث أبي سعيد، وقلنا برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الذي نميل إليه، ونستظهره هو أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الإذن بكتابة الحديث، ودليلنا على ذلك: أولا: ما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال: "لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه، قال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاا لا تضلوا بعده ... الحديث "، فقد هم النبي صلى الله عليه وسلم، أن يكتب لأصحابه كتابا حتى لا يختلفوا من بعد، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بحق، فهذا منه صلى الله عليه وسلم نسخ للنهي السابق في حديث أبي سعيد.

ثانيا: روى أحمد، والبيهقي في المدخل والعقيلي من طرق مختلفة أن أبا هريرة قال: ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يكتب بيده ما سمع منه فأذن له. فاستئذان عبد الله بن عمرو من النبي في كتابة الحديث، يدل على أن الكتابة كانت منهيا عنها في أول الأمر، وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالكتابة لما استأذنه، ولا خصوصية لعبد الله بن عمرو على غيره. وعليه فيمكن أن يقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يلتحق بالرفيق الأعلى، إلا وكتابة الحديث مأذون فيها1. كتابة الحديث بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تدون السنة كما دون القرآن الكريم للحكمة، التي أشرنا إليها فيما سبق. فلما كان عهد الخلفاء الراشدين -وقد رأيت أمرهم بتقليل الرواية، مخافة أن يشغل الناس بالحديث، ويتركوا القرآن وأكثرهم لا يزال حديث عهد به، ولما يتم له جمعه في صدره- كذلك لم يريدوا أن يدونوا الحديث في الصحف، كراهة أن يتخذها الناس مصاحف، يضاهون بها صحف القرآن العزيز، فيشتبه على بعضهم القرآن بالأحاديث، وربما اشتغلوا بها عن تلاوته ودرسه. لهذا نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليستشيرهم في كتابة السنن، فيشيرون عليه بكتابتها، ثم يحجم عمر عن كتابتها، مخافة أن يتخذها الناس مصاحف كالقرآن، فيلتبس الأمر على عامتهم، ومن يأتي بعدهم فيقعوا فيما وقع فيه أهل

_ 1 بل هذا هو المتعين قال في الفتح "1-182": إن السلف اختلفوا في ذلك عملا وتركا، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه بل على وجوبه على من خشي النسيان، ممن يتعين عليه تبليغ العلم. ا. هـ.

الكتاب حيث كتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا هذا من عند الله، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم. وقد حدثنا القرآن عنهم فقال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} . روى البيهقي في المدخل، عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب، أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشاروا عليه أن يكتها فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: أني كنت أردت أن أكتب السنن وأني ذكرت قوما كانوا قبلكم، كتبوا كتبا فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله. وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا1. وقد كان هذا رأيا من عمر رضي الله عنه، يتناسب وحالة الناس في ذلك الوقت، فإن عهدهم بالقرآن ما يزال جديدا، لا سيما من يدخل الإسلام من أهل الآفاق، فلو أن السنن دونت ووزعت على الأمصار، وتناولها الناس بالحفظ، والدرس لزاحمت القرآن الكريم، وما أمن أن تلتبس به على كثير. فأراد عمر بثاقب فكره، أن يحبس الناس على القرآن الكريم، حتى يتمكن حفظه من نفوسهم، وترسخ صورته في قلوهم، وينتشر بين خاصهم وعامهم فلا تحوم حوله الشبهات، ولا تؤثر فيه الشكوك والأوهام، فأمر بتقليل الرواية أولا، وأحجم عن كتابة السنن ثانيا، سدا لذرائع الفساد وغلقا لباب الفتنة. وليس في هذا تضييع للأحاديث، فإنه ما زال الناس خير، وما زالت ملكاتهم قوية وحوافظهم قادرة على حفظ السنن. وقد تتابع الخلفاء على سنة عمر رضي الله عنه، فلم يشأ أحدهم أن يدون السنن، ولا أن يأمر

_ 1 تدريب الراوي ص151.

الناس بذلك حتى جاء عمر بن عبد العزيز، فأمر بجمع الحديث لدواع، اقتضت ذلك بعد حفظ الأمة لكتاب ربها، وأمنها عليه أن يشتبه بالسنن. أول من أمر بتدوين السنة من الخلفاء: كاد القرن الأول ينتهي، ولم يصدر أحد من الخلفاء أمره إلى العلماء، بجمع الحديث بل تركوه موكولا إلى حفظهم، وبعض كتابات لأفراد منهم يعملونها لأشخاصهم، أو لمن يطلبها منهم. ومرور مثل هذا الزمن الطويل، كفيل بتركيز القرآن في نفوسهم، فقد أصبح يتلوه القاصي والداني، ويعرفه الخاص والعام، لا يختلف فيه أحد، ولا يتشكك في شيء من آياته، ولأول وهلة يسمع المسلم حرفا من القرآن، يعلم لوقته أنه هو القرآن لا غيره، يحمل متانة ألفاظه، وجزالة أسلوبه وقوة إعجازه. ومرور هذا الزمن الطويل، كفيل بأن يذهب بكثير من حملة الحديث من الصحابة، والتابعين، ويهيئ لكثير من أهل الأهواء، كالخوارج والروافض أن يتزيدوا في الحديث ما شاءوا، وشاءت لهم أهواؤهم. ومرور مثل هذا الزمن، جعل العرب يختلطون بالأعاجم في البلدان المختلفة، فيحصل بينهم الازدواج والتناسل، فينشأ جيل جديد قليل الضبط ضعيف الحفظ. لذلك لما أن ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز في العام التاسع والتسعين من الهجرة نظر بثاقب رأيه إلى الحديث النبوي، فوجد من الواجب عليه كتابته، وتدوينه، فقد زال المانع وتوفرت الدواعي. فإزاء هذا كله أصدر عمر بن عبد العزيز، أمره إلى علماء الآفاق بجمع الحديث وتدوينه. روى البخاري في باب كيف يقبض العلم: "وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم، انظر ما كان من حديث رسول

الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك، حتى يكون سرا"، وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان: "أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى أهل الآفاق انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه"، وروى مالك في الموطأ -رواية محمد بن الحسن- "أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى عامله، وقاضيه على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء". من هذه الروايات ترى أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى أهل الآفاق بأن يكتبوا الحديث. لكن من ذا الذي كان له فضيلة السبق في تدوين السنن منهم المشهور على ألسن علماء الحديث وحفاظ الأثر، أن ابن شهاب الزهري، هو أول من جمع الحديث على رأس المائة الأولى للهجرة، بأمر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز. ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في باب كتابة العلم من فتح الباري ما نصه: "قال العلماء وكره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا، كما أخذوه حفظا، لكن لما قصر الهمم، وخشي الأئمة ضياع العلم دونوه وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة، بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين، ثم التصنيف وحصل بذلك خير كثير، والحمد لله". ا. هـ "ج1 ص815 الأميرية". هذا وكانت طريقتهم في التدوين تتبع وحدة الموضوع، فهم يجمعون في المؤلف الواحد الأحاديث التي تدور حول موضوع واحد كالصلاة مثلا يجمعون الأحاديث الواردة فيها في مؤلف واحد، وهكذا الصوم والزكاة والطلاق وهلم جرا. إلا أنه لم يبلغنا شيء من هذه الكتب الحديثية، والظاهر أن العلماء فيما بعد أدمجوها ضمن مصنفاتهم، لا سيما إذا كانت محفوظة لهم، كما هو الغالب من حالهم.

المبحث السادس: تراجم لبعض مشاهير الرواة من الصحابة رضي الله عنهم

المبحث السادس: تراجم لبعض مشاهير الرواة من الصحابة، رضي الله عنهم رأينا أن تترجم لبعض مشاهير الروة من الصحابة، حتى يتبين لنا شيء من عنايتهم بالسنة النبوية، وحرصهم عليها تلقيا وأداء. ويحسن أن نقدم بين يدي ذلك كلمة موجزة عن معنى الصحابي، وبم تعرف الصحبة، وعن إجماع الأمة على عدالتهم، وتوثيقهم فنقول: من هو الصحابي؟: المحققون من أهل الحديث. كالبخاري، وأحمد بن حنبل على أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مميز مؤمنا به، ومات على الإسلام، طالت مجالسه له أو قصرت، روى عنه أو لم يرو، غزا معه أو لم يغز. قال البخاري في صحيحه: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. ا. هـ. وقال أبو المظفر السمعاني: أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحابي على كل من روى عنه صلى الله عليه وسلم حديثا، أو كلمة ويتوسعون حتى يعدون من رآه رؤية من الصحابة. وهذا لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، أعطوا كل من رآه حكم الصحبة. وذكر أن اسم الصحابي من حيث اللغة، والظاهر يقع على من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم

وكثرت مجالسته له على طريق التبع له، والأخذ عنه قال: وهذا طريق الأصوليين. ا. هـ. وقال ابن الصلاح في مقدمته: روينا عن شعبة، عن موسى السيلاني -وأثنى عليه خيرا- قال: أتيت أنس بن مالك فقلت: هل بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد غيرك، قال: بقي ناس من الأعراب قد رأوه، فأما من صحبه فلا" إسناده جيد حدث به مسلم بحضرة أبي زرعة. ا. هـ. وهذا القول قريب من قول الأصوليين. بم تعرف الصحبة؟ يعرف كون الراوي صحابيا: 1- بالتواتر كما في الخلفاء الأربعة. 2- أو بالاستفاضة والشهرة القاصرة عن التواتر، كما في ضمام بن ثعلبة وعكاشة بن محصن. 3- أو بأن يروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، كما في حممة بن أبي حممة الدوسي، الذي مات بأصبهان مبطونا، فإن أبا موسى الأشعري شهد له أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم. 4- أو بقوله وإخباره عن نفسه بأنه صحابي بعد ثبوت عدالته، ومعاصرته للنبي صلى الله عليه وسلم. 5- وكذلك تعرف الصحبة بأخبار أحد التابعين، أن فلانا من الصحابة بناء على قبول التزكية من الواحد العدل، وهو الراجح. إجماع الأمة على عدالة الصحابة: للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، وذلك أمر مسلم به عند العلماء لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة. قال الله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ

شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . وفي نصوص السنة الشاهدة بذلك كثرة، منها حديث أبي سعيد المتفق على صحته، أن رسول الله صلى الله وسلم قال: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه" ومنها حديث عبد الله بن مغفل عند الترمذي، وابن حبان في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه". وبعد تعديل الله تعالى ورسوله لهم، لا يحتاج أحد منهم إلى تعديل أحد من الخلق، على أنه لو لم يرد من الله تعالى ورسوله الكريم شيء في تعديلهم لأوجبت حالهم تعديلهم، لما كانوا عليه من الهجرة، والجهاد، ونصرة الإسلام، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأبناء في سبيل الله، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين. قال أبو زراعة الرازي: إذا رايت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى ذلك كله إلينا الصحابة. وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، فالجرح بهم أولى"، قال ابن الصلاح: "ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم، فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع

إحسانا للظن بهم، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة". ا. هـ. عدد الصحابة: هذا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرون جدا، ولا يعرف عددهم على اليقين، ومن حدهم من العلماء فإنما أراد التقريب. روى البخاري في صحيحه أن كعب بن مالك، قال في قصة تخلفه عن غزوة تبوك: "وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ"، وقيل لأبي زرعة: أليس يقال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث؟ قال: هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قبض رسول الله عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن روى عنه، وسمع منه فقيل له: هؤلاء أين كانوا وأين سمعوا منه؟ قال: أهل المدينة، وأهل مكة ومن بينهما والأعراب ومن شهد معه حجة الوداع كل رآه وسمع منه بعرفة". ا. هـ. ومن هذا ترى أن الرواة من الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير جدا -لذلك نكتفي بذكر بعضهم ممن اشتهروا بالحديث، مقتصرين على الناحية الحديثية لكل راو مع إجمال الكلام على حياته العامة، فنقول: أبو هريرة: هو، عبد الرحمن بن صخر وكنيته أبو هريرة، أسلم وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر سنة سبع من الهجرة في المحرم. وهو أحفظ من روى الحديث في دهره بشهادة الإمام الشافعي رضي الله عنه وغيره، مع قلة صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والسر في ذلك أمور نذكرها لك:

أولا: مواظبته على حضور مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الشيخان وغيرهما أن أبا هريرة قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، إني كنت امرأ مسكينا صحب النبي صلى الله علهي وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق في الأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرت من النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا فقال: من بسط رداءه حتى أقضي مقالتي، ثم يقبضه إليه فلن ينسى شيئا سمعه مني، فبسطت بردة علي حتى قضى حديثه، ثم قبضتها إلي فوالذي نفسي بيده ما نسي منه شيئا بعد". ثانيا: رغبته الشديدة في تحصيل العلم، حتى نالته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ألا ينسى شيئا من العلم، فبز أقرانه في كثرة الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يصحبه سوى ثلاث سنين. روى النسائي في باب العلم من سننه: "أن رجلا جاء إلى زيد بن ثابت، فسأله عن شيء فقال: عليك أبا هريرة، فإني بينما أنا جالس وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله ونذكره، إذ خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جلس إلينا فسكتنا فقال: "عودوا للذي كنتم فيه" قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا. ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي، وأسالك علما لا ينسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمين"، فقلنا يا رسول الله: ونحن نسأل الله تعالى علما لا ينسى فقال: "سبقكم بها الغلام الدوسي"، وروى البخاري في باب الحرص على الحديث من كتاب العلم، عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من

حرصك على الحديث -أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه". ثالثا: أدرك أبو هريرة كبار الصحابة، وأخذ عنهم الشيء الكثير من الأحاديث فتكامل علمه به واتسع أفقه فيه. رابعًا: طول حياته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عاش بعده سبعة وأربعين عاما ينشر الحديث، ويبثه بين الناس بعيدا عن المناصب والمشاغل والفتن. من هذه الأمور مجتمعة، كان أبو هريرة أحفظ الصحابة للحديث، متفوقا عليهم في باب التحمل والرواية معا، وكان كل ما رواه أبو هريرة مجتمعا يثبت متفرقا، لدى جميع الصحابة أو كثير منهم، لهذا كانوا يرجعون إليه، ويعتمدون في الرواية عليه، حتى أن ابن عمر كان يترحم عليه في جنازته ويقول: "كان يحفظ على المسلمين حديث النبي صلى الله عليه وسلم"، قال البخاري: "روى عن أبي هريرة نحو من ثمانمائة رجل من أهل العلم من الصحابة، والتابعين وغيرهم". ا. هـ. وجاء عنه من الحديث خمسة آلاف وثلثمائة وأربعة وسبعون حديثا "5374" اتفق الشيخان منها على ثلثمائة وخمسة وعشرين "325"، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين "93" ومسلم بمائة وتسعة وثمانين "189" توفي أبو هريرة بالمدينة سنة "57" سبع وخمسين من الهجرة على المعتمد عن ثمانية وسبعين عاما رضي الله عنه. أبو سعيد الخدري: هو، سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري الخزرجي، استشهد أبوه يوم أحد، ولم يترك له مالا فتحمل أبو سعيد هموم العيش ومصاعب

الحياة صغيرا. لكن لم يمنعه ذلك عن حضور مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقى الحديث عنه في رغبة وحرص فائقين، حتى تحمل عنه ما لم يتحمله من كان في مثل متاعبه المعيشية، فعد بحق من مشهوري الصحابة، وفضلائهم ومحدثيهم المكثرين ورواتهم النابهين. عاش أبو سعيد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة وستين عاما، مكنته من تحمل الحديث عن كبار الصحابة ثم نشره، وأدائه إلى الناس، لذلك كثر المروي عنه حتى جاوز الألف. فقد نقل عنه أصحاب الحديث "1170" ألفا ومائة وسبعين حديثا اتفق الشيخان منها على "46" ستة وأربعين وانفرد البخاري "16" بسنة عشر حديثا، ومسلم باثنين وخمسين حديثا "52". روى الحديث عن أبي سعيد كثير من الصحابة والتابعين، فمن الصحابة جابر وزيد بن ثاب، وابن عباس، وأنس وابن عمر وابن الزبير. ومن التابعين سعيد بن المسيب وأبو سلمة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعطاء بن يسار وغيرهم. وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة أولاها الخندق. وكان قوالا للحق، لا يرهب فيه أحدا مهما كان سلطانه، وعظيم شأنه. توفي أبو سعيد بالمدينة سنة أربع وسبعين عن بضع وثمانين سنة. نشر فيها كثيرا من الحديث، وكان محل تقدير الصحابة والتابعين، فرضي الله عنه. جابر بن عبد الله: هو، جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، السلمي، الصحابي

ابن الصحابي أحد المكثرين من رواية الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن كثير من أصحابه كأبي بكر، وعمر وعلي. وروى عنه أولاده عبد الرحمن وعقيل ومحمد. وكثير من التابعين كسعيد بن المسيب، وعمرو بن دينار والحسن البصري، وغيرهم. استشهد والده في غزوة أحد، وترك بنات صغارا ودينا كبيرا، مما جعل جابرا يذوق نصب الحياة وشظف العيش. إلا أن النبي صى الله عليه وسلم تلقاه بعطفه، وكرمه ورعاه بعنايته، حتى قضى دينه. على أن ما لقيه جابر من صعوبات الحياة، لم يكن مانعا له من تحصيل العلم، وتلقي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد لازمه في كل غزواته بعد مقتل أبيه، وأتاح له صغر سنة وامتداد عمره، وشهوده عصر كبار الصحابة الإكثار من تحمل الحديث، وروايته حتى كان له حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه فيها العلم. عاش جابر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة وستين عاما، قضاها في نشر الحديث حتى روى له "1540" ألف وخمسمائة وأربعون حديثا. اتفق البخاري ومسلم منها على ستين حديثا. وانفرد البخاري بستة وعشرين حديثا، ومسلم بمائة وستة وعشرين حديثا. ومناقبه رضي الله عنه كثيرة: منها ما رواه الشيخان عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم اليوم خير أهل الأرض"، وكنا ألفا وأربعمائة. قال جابر: لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة. كف بصره في أواخر عمره، وتوفي سنة ثمان وسبعين من الهجرة على أحد الأقوال رضي الله عنه.

أنس بن مالك: هو، أنس بن مالك بن النضر الأنصاري، الخزرجي النجاري، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزيل البصرة. جاءت به أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة، وقالت يا رسول الله: هذا غلام يخدمك، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم. فوجد أنس فيه أكبر العزاء عن والده، ونشأ في بيت النبوة، وشاهد ما لم يشاهده غيره، ووقف من أحوال النبي، وأفعاله على الشيء الكثير. وعاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثمانين عاما، فساعده ذلك على تلقي الكثير من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الكبار من أصحابه بعده. كما أمكنه طول حياته من نشر الحديث بين الناس. استقر بالبصرة بعد المدينة، وتصدر للرواية، وتخرج عليه كثير من أئمة الحديث من التابعين، أمثال الحسن وابن سيرين، وحميد الطويل، وثابت البناني وغيرهم. روى لأنس ألف ومائتان وستة وثمانون حديثا "1286" اتفق الشيخان منها على ائة وثمانية وستين. وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين. ومسلم بأحد وسبعين. وروى البخاري في تاريخه عن قتادة قال: لما مات أنس قال مورق: ذهب اليوم نصف العلم قيل له كيف ذلك؟ قال كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفنا في الحديث قلنا: تعال إلى من سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت وفاة أنس خارج البصرة على نحو فرسخ ونصف، ودفن في موضع يعرف بقصر أنس، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه توفي سنة ثلاث وتسعين من الهجرة.

عائشة أم المؤمنين: هي، عائشة بنت أبي بكر الصديق، إحدى أمهات المؤمنين، وزوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولدت بعد بعثة النبي بسنتين على أحد الأقوال. ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها، وهي بنت ست سنين وبنى بها، وهي بنت تسع سنين في شوال من السنة الأولى للهجرة. وقيل من السنة الثانية بعد منصرفه من بدر. هيأ لها زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلاطها به مع ذكائها النادر وفطنتها العظيمة، وفكرها الثاقب ورغبتها الشديدة في معرفة أحكام الدين أن تحملت كثيرا من الحديث، وعلوم القرآن حتى ضربت في كل علم بسهم وافر، وأصبحت المرجع في الحكم عند الاختلاف. فلا غرابة أن تلقى عنها كبار الصحابة، وتحمل عنها الحديث عمر بن الخطاب على كثرة ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أضف إلى ذلك أنها بقيت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثين عاما، يغترف الناس من بحرها الزاخر، وعلمها الفياض. فلا جرم إن كانت عائشة معدودة من المكثرين لرواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى لا ألفان ومائتان وعشرة أحاديث "2210"، اتفق الشيخان من ذلك على مائة وأربعة وسبعين حديثا. وانفرد البخاري بأربعة وخمسين ومسلم بثمانية وستين. قال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض. توفيت رضي الله عنها سنة سبع وخمسين من الهجرة.

عبد الله بن عباس: هو، عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أخت زوجه ميمونة بنتالحارث الهلالية أم المؤمنين. ولد قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثلاث عشرة سنة على أحد الأقوال. في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمه إليه، وقال: "اللهم علمه الحكمة". كان لابن عباس بحكم قرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، وصغر سنه اختلاط كثير مكنه من كثرة الرواية عنه. أضف إلى هذا ميله الطبيعي إلى تحصيل الحديث، وشغفه العظيم به مما وجه نظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه فسر به ودعا له. وقد ظهر لكل هذه العوامل آثارها في شخص هذا الصحابي الجليل، حتى أصبح ترجمان القرآن، وحبر الأمة وعد من المكثرين لرواية الحديث. عاش ابن عباس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وخمسين عاما هيأت له أسباب الأخذ، والتحمل عن كبار الصحابة وصغارهم، روى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن عباس أنه قال: "لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير. قال: واعجبا لك، أترى الناس يفتقرون إليك قال: فتركت ذلك الرجل، وأقبلت أسال فإن كان ليبلغني الحديث عن رجل، فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح علي من التراب فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلي فآتيك فقال: لا، أنا أحق

أن آتيك فأسألك عن الحديث فعاش ذلك الرجل الأنصاري، حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني. فقال: هذا الفتى كان أعقل مني". من هذا الأثر يمكنك أن تستخلص مقدار عقله، وحرصه على جميع الحديث، وتفانيه فيه، كما يؤخذ منه مبلغ ما وصل إليه ابن عباس من الإمامة في الحديث، والعمل على نشره، حتى كان الناس يجتمعون إليه، ويستمعون لحديثه، وهذا عمرو بن الخطاب على مهارته وحذقه، واجتهاده لله وللمسلمين، كان إذا جاءته قضية معضلة قال لابن عباس: إنها قد طرأت علينا أقضية وعضل، فأنت لها ولأمثالها ويأخذ بقوله. فاق ابن عباس غيره في العلم، والفقه، والحديث والتأويل والحساب، والفرائض والعربية حتى لقد كان يجلس يوما لا يذكر فيه إلا الفقه، ويوما التأويل، ويوما المغازي، ويوما أيام العرب. قالوا: وما جلس إليه عالم قط إلا خضع له ولا سأله إلا وجد عنده علما. حتى قال طاوس: وقد قيل له: لزم هذا الغلام، وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني رأيت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا تدارءوا في أمر صاروا إلى قول ابن عباس". وقصارى القول أن ابن عباس كان أمة وحده في العلم والحديث، روى له ألف وستمائة وستون حديثا، اتفق الشيخان على رواية خمسة وتسعين منها وانفرد البخاري بمائة وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين. استعمله علي رضي الله عنه على البصرة، فبقي أميرا عليها، ثم فارقها قبل مقتل علي، وعاد إلى الحجاز فقضى أخريات أيامه يعلم الناس بمكة، وتوفي بالطائف سنة ثمانية وستين من الهجرة، فرضي الله عنه.

عبد الله بن عمر بن الخطاب: أسلم عبد الله قديما، وهو صغير وهاجر مع أبيه وقيل قبله. وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن بعده شهد اليرموك وفتح مصر، وأفريقية وكان شديد الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه وعمه زيد وأخته حفصة أم المؤمنين، وأبي بكر وعثمان وعلي وبلال وزيد بن ثابت، وصهيب وابن مسعود وعائشة، ورافع بن خديج وغيرهم. وروى عنه خلق كثير فمن الصحابة ابن عباس، وجابر والأغر المزني وغيرهم. ومن التابعين أولاده الأربعة بلال وحمزة، وسالم وعبد الله ومولاه نافع وأسلم "مولى عمر"، وزيد وخالد ابنا أسلم، وعروة بن الزبير وغيرهم. قال الزبير بن بكار: إن كان ابن عمر ليحفظ ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأل من حضر -إذا غاب- عن قوله وفعله. وروى البيهقي في المدخل عن الزهري أنه قال: لا يعدل برأي ابن عمر، فإنه أقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستين سنة، فلم يخف عليه شيء من أمره ولا من أمر أصحابه. وعن مالك أنه قال: "أقام ابن عمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستين سنة تقدم عليه وفود الناس". وقد جنبه أبوه الخلافة، وجعل رأيه في أصحاب الشورى استشاريا فقط لذلك كان ابن عمر على الحياد، فلم يدخل في شيء من الفتن، والحروب التي وقعت بين الصحابة، بل توفر على العلم والعبادة.

وقد كان عبد الله معدودا من المكثرين لرواية الحديث، وساعده على ذلك أمور: 1- تقدم إسلامه، وانفساح عمره، وشدة ملازمته لمجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وكثرة اتباعه لآثاره، وسؤاله إذا غاب عن قوله وفعله، مما يدل على شغفه بالعلم وتحصيل الحديث. 2- اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم بطريق المظاهرة، فقد كانت أخته حفصة، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فسهل عليه مخالطته في أغلب الأوقات. 3- زهده في الدنيا والإمارة، ومجانبته للحروب التي شبت بين الصحابة مما أعانه على التفرغ للحديث تحملا وأداء. لهذا كله كان عبد الله من المكثرين، فقد روى له ألف وستمائة وثلاثون حديثا، اتفق الشيخان من ذلك على مائة وسبعين وانفرد البخاري بواحد وثمانين ومسلم بواحد وثلاثين. والباقي رواه غيرهما. كانت وفاته رضي الله عنه سنة 73هـ بعد مقتل عبد الله بن الزبير بثلاثة أشهر، وعمره سبع وثمانون عاما على المعتمد. عبد الله بن عمرو بن العاص: هو، أبو محمد عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي، السهمي. أسلم قبل أبيه وكان مجتهدا في العبادة مكثرا لتلاوة القرآن، كما كان أكثر الناس أخذا للحديث والعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى البخاري في كتاب العلم أن أبا هريرة قال: "ما كان أحد أكثر حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب"، وجاء عنه أنه كان يكتب كل ما يسمعه من النبي

صلى الله عليه وسلم، فنهته الصحابة عن ذلك وقالوا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب والرضا، فلا تكتب كل ما تسمع فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال له: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منهما إلا حق"، يعني شفتيه الكريمتين، وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة بن الزبير: "يا ابن أختي، بلغني أن عبد الله بن عمرو سار بنا إلى الحج فالقه فاسأله فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرا"، وروى ابن سعد عن مجاهد أنه قال: "رأيت عند عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة، فسألت عنها فقال: هذه الصادقة، فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه فيها أحد". وروى ابن سعد أيضا، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: "استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب ما سمعت منه، فأذن لي فكتبته فكان عبد الله يسمى صحيفته تلك الصادقة". ا. هـ. من هذا ترى أن عبد الله بن عمرو، قد توفر لديه من أسباب التحمل للحديث والإكثار منه ما لم يتوفر لغيره، فقد تقدم إسلامه وحفظ الحديث يصدره ووعاه بقلبه، ودونه بقلمه في الصحف حتى نقل عنه أنه قال: "حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف مثل". لماذا كانت مروياته أقل من مرويات أبي هريرة: وقد يقال: أن أبا هريرة لم يكن يكتب الحديث مثل عبد الله بن عمرو، ومع ذلك ما روي عنه أضعاف ما روي عن عبد الله كيف يتفق هذا مع ما رواه البخاري عن أبي هريرة. والجواب أن السبب في كثرة ما روي عن أبي هريرة، وقلة ما روي عن عبد الله بن عمرو مع أنه تحمل أكثر منه أمور منها:

أولا: أن عبد الله كان مشتغلا بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم، فقلت الرواية عنه بخلاف أبي هريرة، فقد كان متصدرا للتحديث. ثانيا: أن عبد الله كان أكثر مقامه بعد الفتوح بمصر، أو بالطائف ولم تكن الرحلة إليهما من طلاب الحديث كالرحلة إلى المدينة. وكان أبو هريرة مقيما بالمدينة متصديا للفتوى، والتحديث إلى أن مات. ويظهر هذا في كثرة من أخذ الحديث عن أبي هريرة، فقد بلغ عددهم ثمانمائة نفس من التابعين، ولم يقع هذا لغيره من الصحابة على ما سبق لك. ثالثا: ما اختص به أبو هريرة من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، بألا ينسى ما يحدثه به كما سبق ذلك في ترجمته. رابعا: إن عبد الله بن عمرو كان قد وقع له بالشام كتب من كتب أهل الكتاب، فكان ينظر فيها ويحفظ منها جملا، ويحدث بها فتجنب التحمل عنه لذلك كثير من أئمة التابعين. لهذه الأسباب نجد أن ما روي عنه من الحديث، لا يتناسب مع غزارة علمه وكثرة ما حفظه وكتبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يصلنا عنه سوى سبعمائة حديث اتفق الشيخان منها على سبعة عشر، وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بعشرين. روى عن عبد الله بن عمرو خلائق كثيرون من التابعين، منهم سعيد بن المسيب، وعروة وأبو سلمة، وحميد ابنا عد الرحمن، ومسروق وغيرهم وتوفي بمصر على أحد الأقوال سنة 63 من الهجرة عن اثنين وسبعين عاما عاش منها بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة وخمسين عاما. عبد الله بن مسعود: هو، أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود، ينتهي نسبه إلى هذيل بن

مدركة بن إلياس واسم أمه أم عبد بنت عبدود بن سواء بن هذيل أيضا أسلمت وهاجرت. أسلم عبد الله قديما حين أسلم سعيد بن زيد، قبل إسلام عمر بن الخطاب بزمان. جاء عنه أنه قال: "لقد رأيتني سادس ستة ما على الأرض مسلم غيرنا"، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا، والخندق وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد. وهو الذي أجهز على أبي جهل يوم بدر كما شهد اليرموك. وهو صاحب نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يلبسه إياها إذا قام، فإذا خلعها وجلس جعلها ابن مسعود في ذراعه. وكان كثير الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم والخدمة له. ففي الصحيحين أن أبا موسى الأشعري قال: "قدمت أنا وأخي من اليمن، فكمثنا حينا لا نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نرى من كثرة دخوله، ودخول أمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزومه له". ولتقدم إسلامه، وملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم، وشغفه بالأخذ عنه عد من كبار الصحابة، وفضلائهم وفقهائهم، والمقدمين في القرآن والحديث والفتوى، حتى شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوغ في القرآن وعلومه، فقال فيما رواه الشيخان: "خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ، وأبي بن كعب"، ونطق هو رضي الله عنه متحدثا بنعمة العلم، فقال كما جاء في صحيح مسلم: "والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا، وأنا أعلم حيث أنزلت وما من آية إلا وأنا أعلم فيم نزلت، ولو علمت أن أحدا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه".

وقد عرف كبار الصحابة له أيضا منزلته في العلم، ورسوخه فيه فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى أهل الكوفة: "بعثت إليكم عمارا أميرا، وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهل بدر، فاقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي"، وناهيك بهذه الشهادة من مثل عمر بن الخطاب لا سيما قوله: "وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي"، وعمر هو عمر الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه، والذي كان يرى الرأي فينزل به القرآن، وإنما يعرف الفضل من الناس ذووه. وهذا أبو الدرداء يقول حين توفي ابن مسعود: "ما ترك بعده مثله". روى الحديث عن ابن مسعود خلق كثير: فمن الصحابة أبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين، وابن عباس وابن عمر، وجابر وأنس وابن الزبير، وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة، وأبو رافع إلى غير هؤلاء من الأعلام. ومن التابعين علقمة وأبو وائل والأسود، ومسروق وعبيدة وقيس بن أبي حازم، وغيرهم من كبار التابعين. مروياته: روى لابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانمائة وثمانية وأربعون حديثا، اتفق الشيخان منها على أربعة وستين حديثا، وانفرد البخاري بأحد وعشرين حديثا، ومسلم بخمسة وثلاثين حديثا. كنا ننتظر أن يبلغنا عن ابن مسعود أضعاف ما بلغنا عنه من الحديث، لما رأيت من تقدم إسلامه، وشدة ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي مكنه من تحمل كثير عنه، فقد شاهد عصر النبوة جميعه، مع ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم، وشدة حرصه على الحديث

وقوة حفظ وزهد في الدنيا، وتفرغ لتحصيل العلم، ولكنه لم تطل به الحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتسع له زمن الأداء كما اتسع لأبي هريرة وغيره ممن ذكرنا. توفي ابن مسعود بالكوفة، وقيل بالمدينة سنة 32هـ عن بضع وستين سنة. تفاوت الصحابة في رواية الحديث: كان الصحابة رضي الله عنهم معنيين بحفظ الحديث، وكانوا يختلفون في ذلك قلة وكثرة، ولذلك أسباب خاصة تعرف من ترجمة كل صحابي على حدة وأسباب عامة نجملها لك فيما يلي: أولا: الاشتغال بالخلافة والحروب عاق كثيرا من الصحابة عن تحمل الحديث وروايته كما في الخلفاء الأربعة وطلحة والزبير، وعلى العكس من ذلك مكن التفرغ من هذه الشواغل لكثير من الصحابة في كثرة التحمل والأداء، كما في أبي هريرة وعائشة وابن عمر وغيرهم. ثانيا: طول الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكثرة ملازمته سفرا وحضرا وانفساح الأجل بعد وفاته، كان مدعاة للإكثار من تحمل الحديث، وروايته كما في ابن مسعود وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله وأنس وابن عمر وغيرهم، ولهذا قلت أو عدمت رواية من مات في عهد النبوة أو بعدها بقليل، كما قلت رواية من لم تطل صحبته أولم تكثر ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم. ثالثا: تجدد الحوادث، واحتياج الناس إلى بيان أحكامها، كان سببا في كثرة الأداء والرواية، والحرص على طلب الحديث، حتى تعرف الأحكام الشريعة في مثل هذه الحوادث، التي لم يكن لهم عهد بمثلها فلهذا

بادر الصحابة إلى إظهار ما عندهم من السنن، وتلقاها عنهم الناس بقبول ولهفة. رابعا: وقوع الفتنة وظهور الكذب في الحديث من بعض الفرق كالشيعة والخوارج، الذين وضعوا كثيرا من الحديث كان داعيا إلى قلة الأحاديث، التي تروى وإلى التشدد فيمن يؤخذ عنه الحديث من الرواة. ومن هنا قلت مرويات علي رضي الله عنه، مما جعل أصحاب الحديث يستمدون أحاديثه من أصحاب ابن مسعود، كعبيدة السلماني، وشريح وأبي وائل ونحوهم، أو من أهل بيته الأثبات، ويرفضون ما وراء ذلك. خامسا: كثرة الأتباع وقلتهم ونشاطهم، وخملوهم كان له أكبر الأثر في كثرة الرواية، وقلتها عن الصحابة رضي الله عنهم. فعثمان بن عفان لم يصلنا معظم أحاديثه لقلة الآخذين عنه بسبب اشتغاله بالخلافة، والحروب وجمع القرآن الكريم إلى غير ذلك. سادسا: قوة الحفظة وتقييد الحديث بالكتابة، كانا عاملين من عوامل الإكثار من الرواية. كما في أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومن على شاكلتهما. سابعا: التفرغ للعبادة والتحرج من رواية الحديث على غير اللفظ المسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل كثيرا من الصحابة يحجمون عن رواية الأحاديث، أو يقلون منها مع اعتمادهم في تبليغ الحديث على كثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين نصبوا أنفسهم لمهمة الرواية والأداء. ثامنا: أن يكون الطريق إلى الصحابي ضعيفا، فيترك أصحاب الصحيح تخريج حديثه كما في أبي عبيدة بن الجراح، أمين هذه الأمة لم يصح إليه الحديث من جهة الناقلين، فلم يخرج له في الصحيحين1.

_ 1 معرفة علوم الحديث للحاكم ص130.

أكثر الصحابة حديثا: هذه خلاصة العوامل التي أدت إلى كثرة الحديث عن بعض الصحابة، وقلته عن البعض الآخر لذا كان منهم المكثر، ومنهم المقل فأكثرهم حديثا أبو هريرة ثم عبد الله بن عمر بن الخطاب، ثم أنس بن مالك ثم ابن عباس، ثم جابر بن عبد الله، ثم أبو سعيد الخدري ثم عائشة أم المؤمنين. وليس في الصحابة من يزيد حديثه على ألف غير هؤلاء. قال الإمام محمد بن سعد في الطبقات: "قال محمد بن عمر الأسلمي: إنما قلت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ماتوا قبل أن يحتاج إليهم، وإنما كثر عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب؛ لأنهما وليا فسلاه قضيا بين الناس، وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا أئمة يقتدى بهم، ويحفظ عنهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون، وسمعوا أحاديث فأدوها، فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلىالله عليه وسلم أقل حديثا عنه من غيرهم مثل أبي بكر، وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي بن كعب وسعد بن عبادة، وعبادة بن الصامت وأسيد بن حضير ومعاذ بن جبل ونظرائهم، فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس، ورافع بن خديج وأنس، والبراء بن عازب ونظرائهم؛ لأنهم بقوا وطالت أعمارهم في الناس، فاحتاج الناس إليهم، فمضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله، وبعده بعلمه لميؤثر عنه شيء، ولم يحتج إليه لكثرة أصحاب

رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من لم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئان، ولعله أكثر له صحبة ومجالسة، وسماعا من الذي حدث عنه ولكنا حملنا الأمر في ذلك منهم على التوقي في الحديث، وعلى أنه لم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الاشتغال بالعبادة، والأسفار في الجهاد في سبيل الله حتى مضوا، فلم يحفظ عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء". ا. هـ. الرد على شبه وردت على عدالة الصحابة، وضبطهم لرواية الحديث: 1- ربما يقول قائل: كيف يعتمد في نقل السنة المشرفة على الصحابة من غير أن نضعهم في ميزان التعديل، والتجريح وهل صنيع أبي بكر وعمر وعلي في اشتراطهم الشهادة، أو اليمين على سماع الصحبة للحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إقرار لهذا المبدأ وهو البحث عن أحوالهم كسائر الرواة. والجواب: إننا لم نبلغ بهم درجة النبوة، ولكننا أثبتنا لهم حالة من الاستقامة في الدين تمنعهم من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الحالة دل عليها القرآن الكريم، والسنة الصحيحة وإجماع من يعتد به من المسلمين قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية. فهذه الآية تدل على أن الله تعالى رضي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السابقين منهم إلى الإسلام، واللاحقين وهو سبحانه لا يرضى عن الكاذب، وقد قدمنا لك الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمدحهم والثناء عليهم.

أما من لابس الفتن منهم كطلحة والزبير، ومعاوية وعلي رضي الله عنهم، فكانوا في ذلك مجتهدين يرى كل منهم أن الحق في جانبه، وعليه أن يدافع عنه وقد تقرر في الشريعة أن المجتهد مأجور على كل حال، أخطأ أم أصاب إلا أنه إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وقد أخبر الله تعالى بأنه رضي عن الذين بايعوا نبيه صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، وكان من هؤلاء المبايعين الذي رضي عنهم الله سبحانه من دخل الفتن كطلحة، والزبير رضي الله عنهما، فثبت بهذا أن الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم. وأما ما وقع من الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر، وعلي رضي الله عنهم، فإنما كان من قبيل التثبت عند قيام عارض الشك في ضبط الراوي لا في صدقه وعدالته. يدل على ذلك قول بعضهم للراوي "أما إني لم أتهمك، ولكني أحببت أن أتثبت"، ولئلا يتساهل الناس في باب الرواية على ما قدمنا. هذا وقد اعتاد فريق من كتاب هذا العصر، أن يطلقوا ألسنتهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كمعاوية، وعمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهم، وهذا إثم كبير باتفاق علماء المسلمين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من لعن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم كمعاوية وعمرو بن العاص، أو من هو أفضل من هؤلاء كأبي موسى الأشعري وأبي هريرة أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة والزبير وعثمان، وعلي وأبي بكر وعمر وعائشة، فإنه يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين، وتنازعوا هل يعاقب بالقتل أو ما دون القتل، وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي

نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، واللعنة أعظم من السب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن المؤمن كقتله"، وأصحابه خيار المؤمنين كما قال: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم" وكل من رآه وآمن به فله من الصحبة بقدر ذلك". ا. هـ1. 2- كيف نعتمد في نقل السنة وروايتها على الصحابة، وهم بشر كغيرهم من الرواة يقع منهم الخطأ، ويدركهم السهو والنسيان. والجواب: إن هذا قول من لم يقف على مبلغ استعدادهم الفطري للحفظ، وحميتهم الدينية في المحافظة على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالصحابة رزقوا حوافظ قوية، وقرائح وقادة، ساعدتهم كثيرا على حفظ الحديث وضبطه، وهم يعلمون أن الحديث أصل من أصول الدين، فضبطوه بالمذاكرة، وتعهدوه بالدرس والتعليم، حتى تثبتوا منه كل التثبت. يضاف إلى ذلك أن الخلفاء الراشدين، انتهجوا في رواية السنة خطة حكيمة، فسنوا للناس سنة التثبت، وطالبوا الراوي بالبينة عند عروض الشك. وكل هذه العوامل أثرت في اتجاه الرواية، فلم يندفع الصحابة في الإكثار الذي لا يؤمن عثاره. لذلك قل السهو والنسيان منهم وانعدم الخطأ، أو ندر وكان أحدهم إذا سها أو أخطأ في الرواية ذكره غيره ممن يحفظ الحديث على وجهه. وما جاء من اختلاف بعض الأحاديث، فذلك من قبيل الرواية بالمعنى، وقد أجازها علماء المسلمين من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين كأبي حنيفة، والشافعي والحسن البصري. ويستأنس لذلك بما رواه الطبراني في معجمه الكبير، وابن منده في معرفة الصحابة من حديث سليمان بن أكيمة الليثي أنه قال: قلت يا رسول الله، إني أسمع منك الحديث

_ 1 مختصر الفتاوى المصرية ص478، وما بعدها.

لا أستطيع أن أؤدية كما أسمع منك أزيد حرفا، أو أنقص حرفا فقال: "إذا لم تحلوا حراما، أو تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس". 3- فإن قلت ما تقول في الحديث الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ليردن على الحوض أقوام ثم ليختلجن دوني، فأقول يا رب أصيحابي أصيحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم"، وهو يفيد أن فريقا من الصحابة قد ارتد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وهذا ينافي القول بعدالتهم على الإطلاق. والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بالأقوام في الحديث أصحابه، الذين صدقوا في الإيمان، وإنما أراد بهم نفرا قليلا كانوا من المنافقين الذين لم يخلصوا الإيمان، وفيهم يقول الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} ، وهؤلاء كانوا يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، ويحضرون معه المغازي لا لإعلاء كلمة الله بل لأغراض أخرى كطلب الغنيمة، أو تثبيطهم المؤمنين، أو نحو ذلك فكانوا في الظاهر معدودين من الصحابة، وهم في الواقع كفار وقد أظهروا ما كانوا يضمرون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفر، والعداوة للمؤمنين وارتدوا عن الإسلام، وأما الأصحاب الصادقون فلم يكن من أحد منهم ردة أصلا، وجميعهم مات على الإيمان، والحمد لله. 4- "أبو هريرة رضي الله عنه، وما قيل فيه": طعن أرباب الأهواء قديما، وحديثا في أبي هريرة رضي الله عنه

ليتخلصوا من أحاديثه التي تقف دون أهوائهم، وترد كيدهم في نحورهم، وسندهم في هذه المطاعن إما روايات مكذوبة، أو ضيعفة وإما روايات صحيحة لم يفهموها على وجهها، بل تأولوها تأويلا باطلا يتفق وأهواءهم، وإنا لذاكرون لك بعضا من هذه الطعون، والدواب عنها بإيجاز ليكون ذلك نموذجا يحتذى في الدفاع عن هذا الصحابي الجليل، فنقول وبالله التوفيق: "أ" مما طعن به أهل الأهواء في صدق أبي هريرة رضي الله عنه: "حديث الوعاءين"، وهو ما رواه البخاري في باب حفظ العلم من كتاب العلم، عن أبي هريرة قال: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم". قالوا: هذا الحديث لو صح لترتب عليه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد كتم شيئا من الوحي، عن جميع الصحابة سوى أبي هريرة، وذلك لا يجوز بإجماع المسلمين. والجواب: أنه ليس في الحديث ما يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد اختصه بهذا الوعاء دون غيره من الصحابة، وعلى تقدير أنه اختصه بهذا الوعاء دون غيره من الصحابة، فليس فيه شيء من كتمان الوحي، الذي أمر الله رسوله أن يبلغه الناس قال ابن كثير: "هذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو الحروب، والفتن والملاحم، وما وقع بين الناس من الحروب والقتال وما سيقع". ا. هـ فالخبار عن بعض الحروب والملاحم التي ستقع ليس مما يتوقف عليه شيء من أصول الدين، أو فروعه فيجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخص بمثل هذا النوع من الوحي شخصا دون آخر، أو فريقا دون فريق.

ب- ومما اتخذ شبهة على صدق أبي هريرة في الحديث أنه كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك الصبح، وهو جنب فلا يصم" ويفتي به الناس فبلغ ذلك عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، فأنكرتا عليه وذكرتا "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر، وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم"، فرجع إلى حديثهما وقال: كذلك حدثني الفضل بن العباس، وأسامة بن زيد عنه صلى الله عليه وسلم، وأمهات المؤمنين أعلم بمثل ذلك من الرجال. والجواب: أن أبا هريرة لم يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من الفضل، وأسامة عنه صلى الله عليه وسلم، وهما من أهل الصدق والأمانة، ولكن لما ترجح لديه حديث عائشة، وأم سلمة رجع إليه وترك فتواه اتباعا للحق، وأما حديث الفضل وأسامة فقد أجاب عنه العلماء بأجوبة "منها" أنه معارض بما هو أقوى منه، فيترك العم به إلى الأرجح "ومنها" أنه كان في مبدأ فرض الصيام حين كان الأكل، والشرب والجماع محرما بعد النوم، ثم أباح الله ذلك كله إلى طلوع الفجر، فكان للمجامع أن يستمر إلى طلوعه، فيلزم أن يقع اغتساله بعد طلوع الفجر، فدل على أن حديث عائشة وأم سلمة ناسخ لحديث الفضل، وأسامة ولم يبلغهما ولا أبا هريرة الناسخ، فاستمر أبو هريرة على الفتيا به، ثم رجع عنه بعد ذلك لما بلغه قال في فتح الباري "4-128": "وفيه فضيلة لأبي هريرة لاعترافه بالحق ورجوعه إليه". ج- قالوا: روى أبو هريرة حديث: "لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة"، فقال أعرابي: يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيخالطها البيعير الأجرب فيجربها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن أعدى الأول".

وروى أيضا حديث: "لا يوردن ممرض على مصح"، أي صاحب إبل مريضة على صاحب إبل صحيحة مخافة العدوى. قالوا: وبين الحديثين تناقض إذ الحديث الأول، ينفي العدوى والثاني يثبتها، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بمثل هذا فدار الأم بين كذب أبي هريرة، أو نسيانه في الرواية فإن قلنا بكذبه ارتفعت الثقة بمروياته، وإن قلنا بنسيانه ناقض حديث ضم الرداء وقوله فيه: "فوالذي نفسي بيده ما نسيت منه شيئا بعد". والجواب: أنه لا تناقض بين الحديثين فحديث: "لا عدوى" معناه نفى أن تكون العدوى مؤثرة بذاتها دون إرادته تعالى، وحديث: "لا يوردن ممرض على مصح"، المقصود منه ألا يورد صاحب الإبل المريضة إبله على إبل صحيحة لئلا تمرض، فيتوهم الناس أن ذلك المرض جاء للإبل الصحيحة من طريق العدوى بدون إذنه تعالى، ولك أن تقول أن المقصود من الحديث الثاني هو إثبات العدوى من طريق السببية العادية، التي يجوز فيها تخلف المسبب عن سببه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك المخالطة، من باب اتقاء أسباب الهلاك العادية، امتثالا لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وإذا لم يكن بين الحديثين تناقض، فلا كذب ولا نسيان. نعم ثبت أن أبا هريرة كان يروي الحديثين جميعا في بعض المجالس، وكان يقتصر على رواية أحدهما في بعضها، فاقتصر مرة على رواية الحديث الثاني فقيل له: إنك رويت حديث: "لا عدوى" فرطن بالحبشية وأنكر على من قال ذلك فظن أبو سلمة "الراوي للحديثين عنه"، أن إعراضه عن رواية حديث: "لا عدوى" في ذلك المجلس نسيان منه لروايته، ويجاب عن

ذلك بأن إعراضه عن روايته هذا الحديث، ليس من قبيل النسيان كما فهم أبو سلمة، وإنما هو من باب مراعاة حال من يحدثهم، ولذلك يقول القرطبي في الفهم: "يحتمل أن يكون أبو هريرة خاف اعتقاد جاهل يظنهما متناقضين، فسكت عن أحدهما، وكان إذا أمن ذلك حدث بهما جميعا". ا. هـ وإن أردت زيادة على ذلك، فارجع إلى فتح الباري في باب لا هامة من كتاب الطب. د- قالوا: كان أبو هريرة يدلس في الحديث، فيروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مالم يسمعه منه، كما في حديث: "من أصبح جنبا فلا صوم له"، وقد تقدم والتدليس أخو الكذب. والجواب عن ذلك: أن أبا هريرة بحكم تأخر إسلامه إلى سنة سبع من الهجرة، قد فاته كثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عليه ليستكمل علمه بالحديث أن يأخذه عن الصحابة، الذين سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، شأنه في ذلك شأنه سائر الصحابة، الذين لم يحضروا مجالسه صلى الله عليه وسلم، إما لاشتغالهم ببعض أمور الدنيا، وإما لحداثة أسنانهم، وإما لتأخر إسلامهم، أو لغير ذلك، يؤيد ذلك ما ثبت عن حميد قال: كنا مع أنس بن مالك فقال: "والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضا"، رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح. وعن البراء قال: "ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحدثنا أصحابه عنه، كانت تشغلنا عنه رعية الإبل"، رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، ورواه الحاكم أيضا في المستدرك بلفظ: "ليس كلنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة

وأشغال، ولكن الناس كانوا لا يكذبون يومئذ، ويحدث الشاهد الغائب"، قال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. ولا ينبغي أن يعد حذف الصحابي الذي سمع الحديث، ولقنهم إياه من قبيل التدليس إذ الصحابة كلهم عدول بإجماع أهل الحق. وخلاف العلماء في الاحتجاج بالمرسل، إنما كان للجهل بحال المحذوف، وذلك لا يتأتى ههنا، ولذلك يقول ابن الصلاح في مقدمته: "مرسل الصحابي مثل ما يريوه ابن عباس، وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسمعوه منه في حكم الموصول المسند؛ لأن روايتهم عن الصحابة والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول". ا. هـ وقال السيوطي في التدريب: "أما مرسل الصحابي كإخباره عن شيء فعله النبي صلى الله عليه وسلم، أو نحوه مما يعلم أنه لم يحضره لصغر سنه، أو تأخر إسلامه، فمحكوم بصحته على المذهب الصحيح الذي قطع به الجمهور من أصحابنا، وغيرهم وأطبق عليه المحدثون المشترطون للصحيح، القائلون بضعف المرسل، وفي الصحيحين من ذلك ما لا يحصى؛ لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة، وكلهم عدول وروياتهم عن غيرهم نادرة، وإذا رووها بينوها بل أكثر ما رواه الصحابة عن التابعين، ليس أحاديث مرفوعة بل إسرائيليات أو حكايات، أو موقوفات". ا. هـ ومن ذلك كله يتبين أنه لا كذب من أبي هريرة، إذ إنه لم يقل في هذا الضرب من الحديث: "سمعت رسول الله يقول كذا أو رأيته يفعل كذا"، بل كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسم كذا أو فعل كذا وما شابه ذلك" -كما أنه لا تدليس منه أيضا؛ لأن الراوي المحذوف من الصحابة والإجماع قائم على عدالتهم.

هـ- قالوا: نهاء عمر عن التحديث، وقال له: "لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لألحقنك بأرض دوس"، وهذا من عمر يدل على كذب أبي هريرة. والجواب: أن أبا هريرة كان يرى لزاما عليه أن يحدث الناس بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، خروجا من إثم كتمان العلم، وقد ألجأه ذلك إلى أن يكثر من رواية الحديث، فكان في المجلس الواحد يسرد الكثير من أحاديثه صلى الله عليه وسلم. ولكن عمر رضي الله عنه، كان يرى أن يشتغل الناس أولا بالقرآن، وأن يقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير أحاديث العمل، وأن لا يروي للناس أحاديث الرخص، لئلا يتكلوا عليها ولا الأحاديث المشكلة، التي تعلو على أفهامهم، كما أنه كان يخاف على المكثرين الخطأ في رواية الحديث إلى غير ذلك، ومن أجل ذلك كله نهى عمر الصحابة عن الإكثار من الرواية، وأغلظ لأبي هريرة القول وهدده بالنفي؛ لأنه كان أكثر الصحابة رواية للأحاديث، أفاد ذلك الحافظ ابن كثير ثم قال: "وقد جاء أن عمر أذن له بعد ذلك في التحديث، فقال مسدد: حدثنا خالد الطحان حدثنا يحيى بن عبد الله، عن أبيه عن أبي هريرة قال: بلغ عمر حديثي، فأرسل إلي فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فلان قال: قلت نعم، وقد علمت لم تسألني عن ذلك، قال: ولم سألتك، قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يومئذ: "من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار"، قال: أما إذن فاذهب فحدث". ا. هـ من البداية والنهاية "8-106، 107". و قالوا: ولم يكن عند أبي هريرة رصيد من الأحاديث أكثر

من غيره، وإنما الذي جعله يتفوق على غيره من الصحابة في كثرة الرواية، أنه استجاز لنفسه أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل كلام حسن، قاله أو لم يقله، مما هو خارج عن دائرة الحلال والحرام، كالحث على مكارم الأخلاق، وأخبار الجنة والنار. قالوا: وسند أبي هريرة في ذلك أحاديث رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم منها: 1- "إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس". 2- "إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به، حدثت به أولم أحدث". 3- "ما بلغكم عني من قول حسن لم أقله فأنا قلته". والجواب عن ذلك: أن كثرة أحاديث أبي هريرة مع تأخر إسلامه لا ترجع إلى ما زعموه، وإنما ترجع إلى انقطاعه عن الدنيا إلى مجالسه صلى الله عليه وسلم، وملازمته إياه سفرا وحضرا، وإلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، ألا ينسى شيئا من حديثه، وغل أنه عاش بعد وفاته صلى الله عليه وسلم نحوا من خمسين عاما، يأخذ عن الصحابة ما فاته من الأحاديث، ثم يرويها للناس. وأما زعمهم أنه استجاز لنفسه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير الحلال والحرام، فباطل من وجوه: 1- أن أبا هريرة من رواة حديث: "من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار"، وثبت عنه أنه كان يذكره بين يدي ما يريد أن يرويه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من مجالسه. 2- وأن الصحابة قد أقروه على رواية الأحاديث، ورووها عنه،

ومن هؤلاء عمر وعثمان وعلي وطلحة، والزبير وزيد بن ثابت وأبو أيوب الأنصاري، وابن عباس وعائشة وجابر، وعبد الله بن عمرو، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري: "راجع في ذلك مستدرك الحاكم ج3-ص513 وتاريخ ابن كثير ج8-ص108"، وهذا إجماع منهم على صدقه وأمانته. 3- وإن الأحاديث التي رواها أبو هريرة، وجد أكثرها عند غيره من الصحابة. وأما الأحاديث التي نسبوها إلى أبي هريرة، فنجيب عنها بما يلي: 1- الحديث الأول في الرواية بالمعنى لا فيما زعموه من إباحة الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، ولم يروه أبو هريرة بل رواه غيره، ففي مجمع الزوائد "1-154"، عن يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي، عن أبيه عن جده قال: أتينا النبي صلى الله عليه فقلنا له: بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، إنا نسمع نك الحديث، فلا نقدر أن نؤديه كما سمعنا قال: "إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا، وأصبتم المعنى فلا بأس"، روا الطبراني في الكبير، ولم أر من ذكر يعقوب ولا أباه. ا. هـ وعزاه السيوطي في تدريب الراوي "ص161" إلى ابن منده في معرفة الصحابة والطبراني في الكبير. 2، 3- والحديثان الثاني، والثالث مكذوبان على أبي هريرة، إذ في سند الأول منهما أشعث بن براز: "كذاب ساقط لا يؤخذ حديثه"، وفي سند الثاني منهم عبد الله بن سعيد، "كذاب مشهور". قال ابن حزم في الأحكام. "ج2- ص76 وما بعدها": "وقد ذكر قوم لا يتقون الله عز وجل أحاديث، في بعضها إبطال شرائع الإسلام، وفي

بعضها نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإباحة الكذب عليه"، ثم سرد تلك الأحاديث، وفيها هذان الحديثان، وأبطلهما بما ذكرناه، ثم قال ردا على من أباح أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله: "حسبنا أنهم مقرون على أنفسهم بأنهم كاذبون، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حدث عني حديث، وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". ز- دائرة المعارف الإسلامية، رأيها في أبي هريرة. كتب أستاذنا العلامة الجليل الشيخ "محمد عرفة" عضو جماعة كبار العلماء، بمجلة نور الإسلام "مجلة الأزهر الآن" ص639، وما بعدها من المجلد الخامس، مقالا قيما في الدفاع راوية الإسلام "أبي هريرة" رضي الله عنه، يفند فيه مزاعم أصحاب دائرة المعارف إسلامية المترجمة عن الإنجليزية. ونحن نأتي هنا بخلاصة هذا المقال قال حفظه الله: "للمستشرق جولد تسيهر" رأى في الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، نشره في العدد السابع من المجلد الأول من دائرة المعارف الإسلامية -هذا الرأي لا يستد إلى بحث تاريخي، ولا سند علمي. طعن جولد تسيهر في أبي هريرة طعونا عدة، كلها تدور حول عدم أمانته في نقل الأحاديث. فقد ذكر أنه مختلق، ومسرف في الاختلاق، وأنه كان يفعل ذلك بداعي الورع، وإن الذين أخذوا عنه مباشرة قد شكوا فيما ينقل، وعبروا عن هذا الشك بأسلوب ساخر، وأنه كان يضمن أحاديثه أتفه الأشياء بأسلوب مؤثر، وذلك يدل على روح المزاح التي كانت فيه، والتي كانت سببا في ظهور كثير من القصص، وصاحب

هذه المطاعن يعزو مطاعنه إلى كتب إسلامية، ليلقى عليها ثوبا خلابا، وليوقع في روع الناس أنها صحيحة، وهذه طريقة فيها كثير من الخداع، واللبس والتزوير، وسنميط اللثام عما فيها وبالله التوفيق: "إن أبا هريرة الذي يجرحونه هذا التجريح، ويسيئون إليه هذه الإساءة، هو من جلة الصحابة ومن أوسعهم رواية، بل هو أوسعهم رواية لا مستثنيا أحدا إلا ابن عمرو، وتجريح هذا البحر الذي ملئ علما، وأداه إلى من حملوه عنه، وأدوه إلى من بعدهم حتى وصل إلينا، تجريح لهذا العلم الغزير، ورفع للثقة عن كل مروياته، وفيه إفساد كبير، ولو كان لهذا الطعن وجه من الصحة لاحتمل، ولكنه طعن باطل، لا حق فيه. "هذا الإمام قد روى عنه ثمانمائة من أهل العلم كما قال البخاري، وهذا فيه الدلالة على ثقتهم به؛ لأنهم لو لم يثقوا به لما رووا عنه، وهو ثقة ثبت عند الصحابة وأهل الحديث. قال ابن عمر: أبو هريرة خير مني وأعلم بما يحدث. وقال طلحة بن عبيد الله أحد العشرة: ولا شك أن أبا هريرة سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع. وروى النسائي: "أن رجلا جاء إلى زيد بن ثابت، فسأله عن شيء فقال زيد: عليك أبا هريرة ... الحديث"، وقد ذكره بتمامه1. "وكان كثير الحفظ شديد الضبط، شهد له بذلك أهل العلم والثقات، قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره. وحدث الأعمش عن أبي صالح قال: كان أبو هريرة أحفظ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أبو الزعيزعة كتب مروان: أرسل

_ 1 تقدم هذا الحديث في ترجمة أبي هريرة.

مروان إلى أبي هريرة فجعل يحدثه، وكان أجلسني خلف السرير أكتب ما يحدث به، حتى إذا كان في رأس الحول أرسل إليه، فسأله وأمرني أن أنظر، فما غير حرفا عن حرف. "هذه آراء الثقات أصحاب هذا الشان فيه، فمن عدلوه، فهو الثبت الذ لا يجرح، ومن بهرجوه فهو الزائف الذي لا يعدل، ومن حظي بمثل هذا الثناء من هؤلاء العلماء الأفاضل، فلا يضيره ما يقال بعد ذلك فيه: إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضبانا علي لئامها ولابد لنا -بعد هذا الإجمال- أن نعرض لهذه الشبه، التي أثاروها ونفندها: 1- زعموا أن علمه الواسع بالأحاديث أثار الشك في نفوس الذين أخذوا عنه مباشرة، فلم يترددوا في التعبير عن شكوكهم بأسلوب ساخر. - وأحالوا القارئ على البخاري في كتاب فضائل الأصحاب رقم 11 - يريدون بذلك حديث أبي هريرة: أن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة، وأني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني، حتى لا آكل الخمير، ولا ألبس الحبير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع -إلى آخر الحديث "5-19 من الأميرية"، والمنصف يرى من هذا الأثر أن بعض الناس قال: أكثر أبو هريرة تعجبا من كثرة حفظه وروايته، وقد أظهر لهم السبب في كثرة روايته وحفظه، وهو أنه كان ألزم الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ما كان يعنيه الغنى، وإنما كان يعنيه الأخذ عن رسول الله، وكان يلصق بطنه بالحصباء من الجوع، وما كان يشغله عن رسول الله تجارة

ولا زراعة، فحفظ ما لم يحفظوا، وسمع ما لم يسمعوا، فلما بين لهم السبب سكتوا عنه. ولنسلم ما زعموه من أنهم كانوا شاكين لا متعجبين، أفما كان ينبغي أن يأخذوا من تركهم إياه، يحدث بعد ذلك مدة عمره -وقد عمر بعد رسول الله نحوا من خمسين سنة- أنهم اقتنعوا بتعليله، وزال هذا الشك من نفوسهم، إذ لو كانوا يرون في حديثه بأسا لكفوه عن التحديث، وهم من نعلم في المحافظة على حديث رسول الله، والخوف أن يتسع الناس فيه، ويدخله التدليس والكذب. 2- وأما زعمهم أن روايته ضمنها أتفه الأشياء بأسلوب مؤثر، وذلك يدل على ما امتاز به من روح المزاح، الأمر الذي كان سببا في ظهور كثير من القصص، وعزوهم ذلك إلى ابن قتيبة، فليس شيء أوغل في التضليل والإبهام من هذا -نحن لا ندري ما هي هذه الأحاديث التي زعموها، وكان يجب عليهم أن يبينوها لنا لنناقشهم فيها. وكان يجب عليهم أيضا إذ عزوا لابن قتيبة، أن يذكروا اسم ذلك الكتاب، فإن لابن قتيبة مؤلفات كثيرة، طبع منها كثير، إنهم لو فعلوا ذلك لكنا نبين لهم أن ما في ابن قتيبة ليس كما فهموه، إذ لا يعقل أن يثنى ابن قتيبة الثناء المستطاب على أبي هريرة في كتابه "تأويل مختلف الحديث" ص48 وما بعدها، ثم هو ينسب إليه ما ذكره أصحاب الدائرة. 3- وأما ما نقلوه من وصف "شبرنجر" لأبي هريرة من أنه المتطرف في الاختلاق ورعا، فلسنا ممن يؤمن بقول "شبرنجر" وغير "شبرنجر"، من المتطرفين في الاختلاق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تضليلا للمسلمين، وتشويشا على الدين، وإيذاء للحقيقة، وسترا

للواقع، وبحسبنا أن نقول: هذا طعن لا مبرر له، وتجريح لا يستند على سند: والدعاوى إن لم تقيموا عليها ... بينات أبناؤها أدعياء وقولهم أنه المتطرف في الاختلاق ورعا، كلام متهافت؛ لأنا لا نعلم الورع إلا مانعا من الاختلاق على الناس، فضلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكيف يختلق أبو هريرة على رسول الله، وهو راوي حديث: "من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار"، وكان يبدأ به عندما يريد أن يحدث - فرجل سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، ووعاه وأداه، وكان يستذكره ويذكر به، ويقدمه أمام تحديثه عن رسول الله، وهو مؤمن ورع تقي، يستحيل في العادة أن يكذب على رسول الله، فضلا عن أن يتطرف في الكذب عليه، ويرى أن الاختلاق والكذب عليه دين وورع. 4- وأما قولهم أن كثيرا من الأحاديث التي عزيت إلى أبي هريرة نحلت عليه في عصر متأخر، فنحن نسلم أن أحاديث كثيرة وضعت، وعزيت زورا إلى أعاظم المحدثين مثل أبي هريرة، ولكن رجال نقد الحديث قد عنوا ببيان الموضوع منها، وبهرجوا الزائف، ولم يخف عليهم بطله، وأفسدوا على الوضاعين طريقهم. وبعد: فإذا كان أصحاب "دائرة المعارف" قد ألفوها لغرض أن تكون صورة صحيحة للمعارف الإسلامية، فما أبعدها عن أن تكون كذلك، وما أبعدهم فيها عن نيل هذا الغرض. وإذا كانوا قد ألفوها لغرض تقبيح حال المسلمين في نظر الغربيين، وتشويش عقائد المسلمين، وفتنة الشباب في دينهم فهي صالحة لهذا الغرض مؤدية له". ا. هـ ما أردنا نقله من كلام الباحث الجليل الشيخ محمد عرفه.

كلمة الختام في راوية الإسلام: وبعد فقد طفحت كتب المبتدعة والمستشرقين، وأعداء الدين، ومن تتلمذ لهم من جهلة المسلمين المأجورين، قدما وحديثا بالكيد للإسلام في أشخاص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما أبو هريرة راوية الإسلام الأول. وفي هذه الأزمان المتأخرة، ظهرت شرذمة من أدعياء العلم والخلق التافهين، جمعوا كناسة العصور كلها من الطعون والأزراء على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة، وأبي هريرة خاصة، يريدون ليهدموا ركنا شامخا من أركان الدين، وأصلا وطيدا من أصوله، ألا وهو سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فلم يكتفوا بما أوردناه من مزاعمهم الباطلة، ولكنهم ضموا إليها تافها من القول وزورا، ولا بأس أن نذكر لك شيئا منها مع الرد عليها بإيجاز فنقول: 1- زعموا أنأبا هريرة إنما أسلم حبا في الدنيا لا رغبة في الدين. وهذه دعوى يكذبها ما كان عليه أبو هريرة من التقشف، والانقطاع إلى العلم والعبادة، والجهاد في سبيل الله، والتفاني في تبليغ أحاديثه صلى الله عليه وسلم. 2- وزعموا أن أبا هريرة كان خفيف الوزن في العلم، والفقه وهذا محض افتراء على التاريخ، والواقع قال ابن سعد: كان ابن عباس وابن عمر، وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص وجابر ورافع بن خديج وسلمة بن الأكوع، وأبو واقد الليثي وعبد الله بن بحينة مع أشباه لهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتون بالمدينة، ويحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن توفي عثمان إلى

أن توفوا. ا. هـ. ومعنى هذا أن أبا هريرة مكث يفتي الناس على ملأ من الصحابة، والتابعين ثلاثة وعشرين عاما. وقد ذكر ابن القيم في أعلام الموقعين "1-9" المفتين من الصحابة، وذكر أنهم كانوا بين مكثر منها ومقل ومتوسط، وذكر أبا هريرة في المتوسطين مع أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبي سعيد الخدري وأم سلمة وأبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، وسعد بن أبي وقاص، وجابر بن عبد الله وغيرهم" فمن زعم أن أبا هريرة غير فقيه، فهو العاري عن الفقه. 3- وزعموا أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، ثم بلغه عنه ما يخل بأمانة الوالي العادل، فعزله وأخذ ما بيده من أموال، وضربه حتى أدماه. وهذا كلام من لم يميز بين الحق والباطل من أقوال المؤرخين. والرواية التي يعول عليها أن عمر لما استحضر أبا هريرة من البحرين، قال له: استاثرت بهذه الأموال فمن أين لك قال أبو هريرة: خيل نتجت، وأعطية تتابعت، وحراج رقيق لي، فنظر عمر فوجدها كما قال، ثم دعاه عمر ليستعمله أيضا فأبى، فقال له عمر: لقد طلب العمل من كان خيرا منك، قال أبو هريرة: أنه يوسف نبي الله بن نبي الله، وأنا أبو هريرة بن أميمة. ومن ذلك يتين أن عمر حاسبه على ما بيده من مال -كما حاسب غيره من العمال- فوجد الأمر كما قال، فعرض عليه أن يوليه ثانية فأبى، وهذا من عمر يدل على وثوقه بأبي هريرة، وأنه كان لديه أمينا حق أمين. 4- وزعموا أنه كان في الفتنة يصلى خلف علي، ويأكل مع معاوية فإذا حمي الوطيس لحق بالجبل، فإذا سئل قال: علي أعلم ومعاوية أدسم

والجبل أسلم. وهذا من إفكهم وأباطيلهم، والثابت تاريخيا أن أبا هريرة رضي الله عنه اعتزل الفتنة، وأقام بالمدينة ولم يبرحها. 5- وزعموا أنه كان متشيعا لبني أمية، ويأخذ من معاوية جعلا على وضع الأحاديث في ذم علي رضي الله عنه. والتاريخ الصحيح يسجل أن أبا هريرة روى من الأحاديث ما فيه الثناء المستطاب على علي رضي الله عنه، وآل البيت ذكر أحمد في مسنده طرفا منها، وكذلك صاحب مجمع الزوائد، وقصته مع مروان حين أرادوا دفن الحسن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد عدل على مبلغ حبه لآل البيت، وقد ذكرها ابن كثير في تاريخ "8-108" ثم أين هي تلك الأحاديث، التي وضعها أبو هريرة في ذم علي رضي الله عنه ومن رواها من الثقات. أنها لا وجود لها إلا في أدمغتهم وخيالاتهم. إن الذي نقرؤه عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس هو الإزراء على أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، وإنما هو الإشارة إلى ما سيكون من بعض حكام الأمويين من ظلم. ومن تلك الأحاديث. "هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش، فقال مروان غلمة، قال أبو هريرة: إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان". "يهلك الناس هذا الحي من قريش قالوا: فما تأمرنا قال: لو أن الناس اعتزلوهم"، وفي هذا وذاك تعريض ظاهر ببعض أمراء بني أمية، وتحريض على اعتزالهم. ومما كان يدعو به كما في الصحيح: "اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين وإمارة الصبيان"، وقد استجاب الله دعاء أبي هريرة، فمات سنة ثمان وخمسين. ولم يدرك سنة ستين التي تولى فيها يزيد وكن منه ما كان.

ثناء الحاكم في المستدرك على راوية الإسلام: عقد الحاكم أبو عبد الله في كتابه "المستدرك"1، فصلا قيما في الثناء على راوية الإسلام ذكر فيه كثيرا من الأحاديث الدالة على فضله، وعلو شأنه ثم ختم هذا الفصل بقوله نقلا عن شيخه أبي بكر قال: "وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم، فلا يفهمون معاني الأخبار: أما معطل جهمي يسمع أخباره، التي يرونها خلاف مذهبهم، الذي هو كفر فيشتمون أبا هريرة، ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه، تمويها على الرعاء والسفلة، أن أخباره لا تثبت بها الحجة. وأما خارجي يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام، إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف مذهبهم الذي هو ضلال، ولم يجد حيلة في رفع أخباره بحجة وبرهان، كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة. أو قدري اعتزل الإسلام وأهله، وكفر أهل الإسلام، الذين يتبعون الأخبار الماضية التي قدرها الله تعالى، وقضاها قبل كسب العباد لها، إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة، التي قد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر، ولم يجد حجة يؤيد بها صحة مقالته، التي هي كفر وشرك، كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها. أو جاهل يتعاطى الفقه، ويطلبه من غير مظانه. إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه، واختاره تقليدا بلا حجة ولا برهان، تكلم في أبي هريرة، ودفع أخباره التي تخالف مذهبه، ويحتج بأخاه على من خالفه إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه.

_ 1 3-506 وما بعدها.

قال الحاكم: وأنا ذاكر بمشيئة الله عز وجل في هذا رواية أكابر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين عن أبي هريرة فقد روى عنه: زيد بن ثابت، وأبو أيوب الأنصاري وابن عباس، وابن عمر وعبد الله بن الزبير، وأبي بن كعب وجابر وعائشة، والمسور بن مخرمة وعقبة بن الحارث، وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك، والسائب بن يزيد، وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسل، وأبو أمامة بن سهل، وأبو الطفيل، وأبو نضرة الغفاري وأبو رهم الغفاري وشداد بن الهاد، وأبو حدرد عبد الله بن حدرد الأسلمي، وأبو رزين العقيلي وواثلة بن الأسقع، وقبيصة بن ذؤيب وعمرو بن الحمق، والحجاج الأسلمي، وعبد الله بن حكيم والأغر الجهني، والشريد بن سويد رضي الله عنهم أجمعين، فقد بلغ عدد من روى عن أبي هريرة من الصحابي ثمانية وعشرين رجلا -فأما التابعون فليس فيهم أجل، ولا أشهر ولا أشرف ولا أعلم من أصحاب أبي هريرة، وذكرهم في هذا الموضع يطول لكثرتهم. والله يعصمنا من مخالفة رسول رب العالمين، والصحابة المنتخبين، وأئمة الدين من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، رضي الله عنهم أجمعين، في أمر الحافظ علينا شرائع الدين، أبي هريرة رضي الله عنه". ا. هـ. كلام هذا الإمام الكبير، في راوية الإسلام الجليل. ومما يؤسف له كل الأسف بعد هذا كله أن نابته من أدعياء الإسلام، لم يذوقوا للعلم طعما، ولم يعرفوا للإسلام قدرا، يكيدون لهذا الدين، بالنيل من أصحاب سيد المرسلين، ولا هم لهؤلاء سوى جمع الحطام. ومن عجب أنهم يرمون أباهريرة رضي الله عنه، بأنه كان يضع الأحاديث في ذم علي رضي الله عنه، على جعل يتقاضاه من معاوية رضي الله عنه، في الوقت الذي هم فيه يشتغلون صنائع، وعملاء لجمعيات "التبشير"، وهذه الجمعيات تغدق عليهم الأموال الطائلة، لقاء تسخيرهم في الطعن على الإسلام، والحط من قدر علمائه الأجلاء: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} .

المبحث السابع: تراجم لبعض رواة الحديث من التابعين

المبحث السابع: تراجم لبعض رواة الحديث من التابعين من هم التابعون: قال الخطيب: التابعي من صحب صحابيا، ولا يكتفى فيه بمجرد اللقى، بخلاف الصحابي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يكتفي فيه بذلك، لشرف النبي صلى الله عليه وسلم، وعلو منزلته، فالاجتماع به يؤثر في النور القلبي أضعاف ما يؤثره الاجتمع الطويل بالصحابي، وغيره من الأخيار. وقال أكثر المحدثين: هو من لقي صحابيا، وإن لم يصحبه ولذلك ذكر مسلم وابن حبان "الأعمش" في طبقة التابعين؛ لأن له لقيا وحفظا، رأى أنس بن مالك، وإن لم يصح له سماع المسند عنه. وعد الحافظ عبد الغني فيهم "يحيى بن أبي كثير" لكونه لقي أنسا. وعد فيهم أيضا "موسى بن أبي عائشة"، لكونه لقي عمرو بن حريث. واشترط ابن حبان التمييز عند اللقى، فإن كان صغيرا لم يضبط فلا عبرة برؤيته، كخلف بن خليفة عده من أتباع التابعين، وإن رأى عمرو بن حريث لكونه كان صغيرا لا يميز. قال العراقي: "وما اختاره ابن حبان له وجه كما اشترط في الصحابي رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو مميز". قال: "وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة، والتابعين بقوله: "طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن رأى من رآني" الحديث. فاكتفى فيها بمجرد الرؤية" "التدريب ص212".

هذا والتابعون كثيرون لا يحصون؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار المختلف، وكل من التقى بواحد منهم فهو تابعي. هذا ومن أشهر الرواة من التابعين بالمدينة: سعيد بن المسيب المتوفى سنة "93هـ"، وعروة بن الزبير المتوفى سنة "94"، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المتوفى سنة "94"، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة المتوفى سنة "99"، وسالم بن عبد الله بن عمر المتوفى سنة "106"، وسليمان بن يسار المتوفى سنة "93"، والقاسم بن محمد بن أبي بكر المتوفى سنة "112" ونافع مولى ابن عمر المتوفى سنة "117" وابن،شهاب الزهري المتوفى سنة "124" وأبو الزناد المتوفى سنة "130". ومن أشهرهم بمكة: عكرمة مولى ابن عباس "105"، وعطاء بن أبي رباح "115"، وأبو الزبير محمد بن مسلم "128". ومن أشهرهم بالكوفة: الشعبي عامر بن شراحيل "104"، وإبراهيم النخعي "96"، وعلقمة بن قيس بن عبد الله النخعي "62". ومن أشهرهم بالبصرة: الحسن بن أبي الحسن البصري "110"، ومحمد بن سيرين "110"، وقتادة بن دعامة الدوسي "117". ومن أشهرهم بالشام: عمر بن عبد العزيز "101"، ومكحول "118"، وقبيصة بن ذؤيب "86"، وكعب الأحبار "32". ومن أشهرهم بمصر: أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني "90"، ويزيد بن أبي حبيب "128". ومن أشهرهم باليمن: طاوس بن كيسان اليماني الحميري "106"، ووهب بن منبه "110".

وقد تكفلت كتب الرجال بتراجمهم، وبيان من أخذوا عنه ومن أخذ عنهم، ولنترجم باختصار لطائفة يسيرة منهم فنقول: ابن شهاب الزهري: هو، أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة القرشي، الزهري المدني. سكن الشام. يقولون تارة الزهري، وتارة ابن شهاب نسبة إلى جد جده، وهو معدود في صغار التابعين. سمع أنس بن مالك، وسهل بن سعد، والسائب بن يزيد وشبيبا أبا جميلة، وعبد الرحمن بن أزهر، وربيعة بن عتاد، ومحمود بن الربيع وأبا الطفيل وغيرهم من الصحابة، كما سمع من كبار التابعين. وروى عنه الحديث خلق كثير من كبار التابعين وصغارهم، ومن أتباع التابعين وشيوخه. اتفق العلماء على إمامته في الحديث، وكثرة حفظه له وتمكنه فيه مع أمانته وثقته. وشهادات المحدثين له أشهر من أن تذكر، فهذا عمرو بن دينار يقول: "ما رأيت أنص للحديث من الزهري"، وهذا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف يقول: قلت لأبي بم فاقكم الزهري، قال: كان يأتي المجالس من صدرها، ولا يأتيها من خلفها، ولا يبقى في المجلس شابا إلا سأله، ولا كهلا إلا سأله ولا فتى إلا سأله ولا عجوزا ولا كهلة إلا سألها حتى يحاول ربات الحجال"، وقال الليث بن سعد: ما رأيت عالما قط أجمع من ابن شهاب، ولا أكثر علما منه"، ويروي البخاري عن علي بن المديني أنه قال: "للزهري نحو ألفي حديث"، وهذا أحمد بن الفرات يقول: "ليس فيهم أجود مسندا من الزهري". رزق الزهري حافظة قوية متقدة، حتى لقد روى البخاري في تاريخه

أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة. وقال الزهري: ما استودعت حفظي شيئا فخانني". وعن سعد بن إبراهيم أنه قال: "ما أرى أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع ما جمع الزهري". وقد جمع الزهري إلى حفظ الحديث كتابته، وتدوينه حتى فاق أقرانه، قال صالح بن كيسان: كنت أطلب العلم أنا والزهري فقال: تعال نكتب السنن فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة فكتب ولم نكتب فنجح وضيعنا. لقد كان ابن شهاب أول من كتب الحديث، وجمعه بأمر عمر بن عبد العزيز أيام خلافته، وبالجملة فقد كان ابن شهاب أمة وحده في العلم والحفظ والضبط، جماعا للحديث ثقة فيه. سأله هشام بن عبد الملك يوما أن يملي على بعض ولده شيئا، فأملى عليه أربعمائة حديث، ثم لقيه هشام بعد شهر أو نحوه فقال له: إن ذلك الكتاب قد ضاع فدعا بكاتب، فأملاها عليه، ثم قابل ذلك بالكتاب الأول فما غادر منها حرفا واحدا. توفي الزهري سنة مائة وأربع وعشرين، ودفن بالشام بقرية تسمى "شغبدا" انظر تهذيب الأسماء واللغات "ج1-ص90"، وتهذيب التهذيب "9-445". عكرمة مولى ابن عباس: هو، التابعي الكبير أبو عبد الله عكرمة مولى ابن عباس وراويته. أصله بربري من أهل المغرب، تملكه عبد الله بن عباس، وهو وال على البصرة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. وعني بتعليمه القرآن، والسنن أشد العناية حتى حدث عكرمة عن نفسه أن ابن عباس كان يضع في رجله القيد، ويعلمه القرآن والسنن، وما زال عكرمة ينهل من مناهل ابن عباس

حتى تأهل للفتيا وأذنه مولاه بها، فقصده الناس من كل صوب وطرقوا باب للرواية والفتيا، وكان إلى جانب علمه بالسنة، والفقه من مشاهير القراء والمفسرين. وقد ظل على الرق حتى مات ابن عباس، وصار إلى ولده علي فباعه إلى خالد بن يزد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فجاء عكرمة إلى علي وقال له ما خير لك. بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار، فاستقال علي من بيعه وأعتقه. عاش عكرمة إلى سنة 105 من الهجرة، وله من العمر نيف وثمانون سنة. شيوخه وتلاميذه، ومنزلته في الرواية: أخذ عكرمة الحديث عن كثير من الصحابة، منهم عبد الله بن عباس مولاه والحسن بن علي وأبو قتادة وابن عمر، وأبو هريرة وأبوسعيد ومعاوية وابن عمرو بن العاص. وتلقى عنه الحديث جماعات من التابعين، منهم أبو الشعثاء والشعبي، والنخعي وأبو إسحاق السبيعي، وابن سيرين وعمرو بن دينار، وكثير من التابعين وغيرهم. وقد وثق الأئمة، والمحققون عكرمة واحتجوا به، ومن هؤلاء البخاري وأصحاب السنن، ولكن مسلما تركه، فلم يخرج له إلا حديثا واحدا في الحج مقرونا بسعيد بن جبير. وإنما تركه لطعن طائفة من العلماء فيه بأنه كذاب، وبأنه كان يرى رأي الخوارج، وبأنه كان يقبل جوائز الأمراء. وقد صنف كثير من الأئمة كتبا في الذب، عن عكرمة منهم أبو جعفر بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو عبد الله بن منده، وأبو حاتم ابن حبان، وأبو عمر بن عبد البر وغيرهم. وممن تصدى للدفاع عنه

أيضا الحافظ ابن حجر في مختصره لتهذيب الكمال، وفي مقدمته لفتح الباري، وكلهم مجمعون على تبرئته من الكذب، وأن الأثر الوارد عن ابن عمر أنه قال لنافع: "لا تكذب علي كما كذب عكرمة علي ابن عباس"، لم يثبت؛ لأنه من رواية أبي خلف الجزار عن يحيى البكاء، أنه سمع ابن عمر يقول ذلك، ويحيى البكاء متروك الحديث. ومن المحال أن يجرح العدل بكلام المجروح. وهم مجمعون أيضا على أنه لم يثبت عنه أنه كان يرى رأي الخوارج، وغاية ما هناك أنه كان يرى في بعض المسائل ما يوافق آراءهم من غير أن يقصد إلى هذا الوفاق، ولكن بناء على ما قام لديه من الأدلة، فنسبوه إليهم عن غير بينة ولا برهان، ولو كان من ادعى عليه أنه ينتحل مذهبا رديئا، يعد مجروحا لمجرد الدعوة لسقطت عدالة أكثر المحدثين؛ لأنه ما من أحد منهم، إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه. وأما قبول جوائز الأمراء فالأئمة والنقاد، وجماهير المحدثين لا يرون ذلك مانعا من قبول الرواية، وهذا محمد بن شهاب الزهري، كان في ذلك أشهر من عكرمة، ومع ذلك لم يترك أحد من الأئمة الرواية عنه بسبب ذلك. طرف من ثناء العلماء عليه: قال البخاري: "ليس أحد من أصحابنا، إلا احتج بعكرمة"، وعن ابن معين: "إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة، فاتهمه على الإسلام"، وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: "أجمع عامة أهل العلم على الاحتجاج بحديث عكرمة، واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا، منهم أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وأبو نور

ويحيى بن معين. ولقد سألت إسحاق عن الاحتجاج بحديثه فقال: عكرمة عندنا أمام أهل الدنيا، وتعجب من سؤالي إياه"، وقال ابن منده: "عدله أمة من التابعين تزيد على سبعين رجلا من خيار التابعين، وهذه منزلة لا تكاد توجد لأحد من كبار التابعين، على أن من جرحه من الأئمة لم يمسك عن الرواية عنه، ولم يستغن عن حديثه. وكان حديثه متلقى بالقبول قرنا بعد قرن إلى زمن الأئمة، الذين أخرجوا الصحيح. على أن مسلما، وكان أسوأهم رأيا فيه قد أخرج له مقرونا بغيره". ا. هـ. وقال أبو عمر بن عبد البر: "كان عكرمة من جلة العلماء، ولا يقدح فيه كلام من تكلم فيه؛ لأنه لا حجة مع أحد منهم"، قال: "وزعموا أن مالكا أسقط ذكر عكرمة من الموطأ، ولا أدري ما صحته؛ لأنه قد ذكره في الحج وصرح باسمه ومال إلى روايته عن ابن عباس، وترك عطاء في تلك المسألة مع كون عطاء أجل التابعين في علم المناسك". ا. هـ. ومن ذلك يتضح أنه إذا روى الثقات عن عكرمة حديثا، فلا ينبغي أن يرتاب فيه "تهذيب الأسماء 1-340، ومقدمة فتح الباري 2-148، وما بعدها وتهذيب التهذيب 7-263". عمر بن عبد العزيز: هو، أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي، الأموي التابعي العظيم، الخليفة الراشد، والإمام العادل والعالم الكامل. ولد عمر بمصر ببلدة حلوان، وأبوه أمير عليها سنة إحدى وستين، جمع القرآن وهو صغير وبعثه أبوه إلى المدينة يتادب بها، ويتعلم الدين، ويحفظ السنن، فكان يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فلما توفي أبوه طلبه عبد الملك بن مروان إلى دمشق وزوجه ابنته

فاطمة. وولي إمارة المدينة زمنا في خلافة الوليد، ثم قدم الشام سنة 93، وبويع بالخلافة سنة 99. سمع الحديث من أنس بن مالك، والسائب بن يزيد ويوسف بن عبد الله بن سلام، وخولة بنت حكيم، وغيرهم من الصحابة ومن التابعين كابن المسيب، وعروة وأبي بكر بن عبد الرحمن، والربيع بن سبرة وغيرهم. وروى عنه كثير من التابعين، أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، والزهري ويحيى الأنصاري، ومحمد بن المنكدر وحميد الطويل وآخرون. أجمع العلماء على كثرة علمه وصلاحه، وزهده وورعه وعدله، وحرصه على اتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين. كان عمر كثير الاهتمام بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظا، وجمعا حتى إنه لما أن تولى الخلافة، أصدر أمره إلى علماء الآفاق، بكتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أمرهم بالجلوس للتحديث، والرواية حتى لا تضيع الأحاديث بموت كبار العلماء من التابعين، وهو أول خليفة أمر بذلك. وكان عمر ثقة حجة، حافظا شهد له بذلك العلماء، حتى لقد كان يقرن بالزهري في علمه. قال مجاهد: أتيناه لنعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه. وما زال هذا شأنه حتى وافته منيته سنة إحدى ومائة من الهجرة. انظر تاريخ الخلفاء ص153، تهذيب الأسماء 2-17، وتهذيب التهذيب 7-475. كعب الأحبار: هو، أبو إسحاق كعب بن مانع الحميري، كان من أحبار اليهود، وأوسعهم اطلاعا على كتبهم، ويقال له: كعب الحبر وكعب الأحبار، وهو

من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية، والإسلام ولد باليمن وأقام بها، وفي خلافة عمر رضي الله عنه أسلم، وانتقل إل المدينة، فأخذ عن الصحابة الكتاب والسنة، وشارك في غزو الروم ثم انتقل إلى الشام في خلافة عثمان، رضي الله عنه، وأقام بمدينة حمص إلى أن مات بها سنة ثنتين وثلاثين، وقيل أربع وثلاثين، وقد بلغ مائة وأربع سنين. وذكر ابن سعد بطريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان، عن ابن المسيب أن العباس، قال لكعب: ما منعك أن تسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر حتى أسلمت في خلافة عمر، قال: إن أبي كان كتب لي كتابا من التوراة، فقال: اعمل بهذا وختم على سائر كتبه، وأخذ علي بحق الوالد على الولد أن لا أفض الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام، قلت لعلي: أبي غيب عني علما ففتحتها، فإذا صفة محمد وأمته فجئت الآن مسلما. ا. هـ. وفي سند هذا الخبر حماد بن سلمة، وهو مختلط تحاماه البخاري، وتحاماه مسلم أيضا لكن في غير روايته عن ثابت لبقائها في ذهنه، كما هي بعد الاختلاط، وفيه أيضا علي بن زيد بن جدعان، وضعفه غير واحد. روى كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا، وعن عمر وصهيب وعائشة وروى عنه معاوية، وأبو هريرة، وابن عباس وعبد الله بن عمرو. وعبد الله بن عمر، وابن الزبير، وأنس، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم وأخرج له البخاري ومسلم وأبو داود، والترمذي، والنسائي. ثناء العلماء عليه: ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، واتفقت كلمة نقاد الحديث على توثيقه، ولذا لا تجد له ذكرا في كتب الضعفاء والمتروكين، وترجم له النووي في تهذيبه وقال: اتفقوا على كثرة علمه، وتوثيقه. قالوا: ذكر أبو الدرداء كعبا فقال: إن عند ابن الحميرية لعلما كثيرا وذكره معاوية، فقال: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالبحار وإن كنا لمفرطين، ولقيه عبد الله بن سلام عند أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقال له يا كعب: من العلماء

قال: الذين يعملون بالعلم قال: فما يذهب العلم من قلوب العلماء، قال: الطمع وشره النفس، وتطلب الحاجات إلى الناس قال: صدقت. طعن بعض المعاصرين فيه، وتفنيد ذلك: ومع ثناء العلماء عليه، وتوثيق النقاد له وإخراج البخاري، ومسلم وأصحاب السنن عنه نجد بعض المغرورين في هذا العصر من أدعياء العلم، يطعن في كعب بأنه كان يكذب في الأخبار، وأن له يدا في مقتل عمر رضي الله عنه. أما إنه كان يكذب في الأخبار، فدليله عندهم ما رواه البخاري في كتاب الاعتصام، عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية، يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب"، والجواب عن ذلك أن هذا القول من معاوية، توثيق لكعب وثناء عليه بأنه أصدق المحدثين عن أهل الكتاب، وأن في بعض تلك الأخبار التي ينقلا بأمانة ما لا يطابق الواقع، فالكذب حينئذ مضاف إلى تلك الكتب، التي ينقل عنها لا إلى كعب، ولذلك يقول ابن الجوزي: المعنى أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار". ا. هـ فما أشبه قول معاوية: "وإن كنا لنبلو عليه الكذب"، بقول ابن عباس فيه: "بدل من قبله وقع في الكذب". وأما قولهم: أن له يدا في مقتل عمر رضي الله عنه، فدليله عندهم ما رواه ابن جرير أن كعبا، جاء إلى عمر بن الخطاب قبل مقتله بثلاثة أيام، وقال له: اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال وما يدريك، قال: أجده في كتاب الله عز وجل في التواة، قال عمر: إنك لتجد عمر بن

الخطاب في التوراة، قال: اللهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتك، وأنه قد فني أجلك" قالوا: فهذه القصة تدل على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر، بل على اشتراكه فيها، ثم وضعها هو في هذه الصيغة الإسرائيلية ليدفع عن نفسه التهمة، ولينال ثقة المسلمين فيما يخبرهم به عن التوراة وغيرها. والجواب أن ابن جرير، وغيره من المؤرخين لم يلتزموا الصحة فيما ينقلون ويحكون، ولذا تجد في كتبهم الضعيف والموضوع، والباحث المنصف إذا نقل خبرا من هذه الكتب ينبغي أن يمحصه سندا ومتنا، ولا يأخذه قضية مسلمة. ونحن إذا نظرنا في هذه القصة لا نشك في أنها تنادي على نفسها بالكذب والاختلاق، وذلك: 1- لأنها لو كانت في التوراة لما اختص بعلمها كعب وحده، ولكن كان يشاركه العلم بها، أمثال عبد الله بن سلام ممن لهم علم بالتوراة. 2- ولأنها لو صحت لكان المنتظر من عمر حينئذ أن لا يكتفي بقول كعب، ولكن يجمع طائفة ممن أسلم من أهل الكتاب، ولهم إحاطة بالتوراة، ويسألهم عن هذه القصة، وهو لو فعل لافتضح أمر كعب، وظهر للناس كذبه، ولتبين لعمر أنه شريك في مؤامرة دبرت لقتله، أو أنه على علم بها، وحينئذ يعمل عمر على الكشف عنها بشتى الوسائل، وينكل بمدبريها، ومنهم كعب هذا هو المنتظر من أي حاكم عادي يقال له مثل ذلك، فضلا عن عمر، المعروف بكمال الفطنة، وحدة الذهن، وتمحيص الأخبار. لكن شيئا من ذلك لم يحصل، فكان ذلك دليلا على اختلاقها.

3- وأيضا فإنها لو صحت لكان معناها أن كعبا له يد في المؤامرة، وأنه يكشف عن نفسه بنفسه، وذلك باطل لمخالفته طباع الناس، إذ المعروف أن من اشترك في مؤامرة، يبالغ في كتمانها بعد وقوعها، تفاديا من تحمل تبعتها، ويشتد حرصه، وتزداد مبالغته في الكتمان قبل وقوعها، حرصا على نجاحها، فالكشف عن المؤامرة قبل وقوعها لا يكون إلا من مغفل أبله، وهذا خلاف ما كان عليه كعب، من حدة الذهن، ووفرة الذكاء. 4- ثم ما للتوراة وتحديد أعمار الناس، وتاريخ وفياتهم؟ إن الله إنما أنزل الكتب نورا وهدى للناس، لا لمثل لهذه الأخبار التي لا تعدو أصحابها. ومن ذلك كله يتبين لك أن هذه القصة مفتراة بدون أدنى اشتباه، وإن رمي كعب بالكيد للإسلام في شخص عمر، والكذب في النقل عن التوراة، اتهام باطل لا يستند على دليل أو برهان، ومن عجيب أمر هؤلاء الطاعنين، أنهم يجعلون روايات المؤرخين حجة، لا يأتيها الباطل بحال إذا كان لهم غرض في إثبات مضمونها، ويتشككون في روايات البخاري، ومسلم إذا جاءت على غير ما يشتهون. وهب بن منبه: هو، التابعي العابد الثقة، أبو عبد الله وهب بن منبه، اليماني الصنعاني، عالم أهل اليمن وحافظهم، وقاضيهم على مدينة صنعاء، كان من أبناء فارس، وأصل والده "منبه" من خراسان، من أهل هراة، بعثه كسرى فيمن بعثه لأخذ اليمن، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وولد له وهب هذا سنة أربع وثلاثين، وهو باليمن

وكانت له -إلى جانب علمه بالكتاب والسنة- خبرة واسعة بكتب أهل الكتاب والتاريخ والشعر، حتى اجتمع له علم عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، روى عنه أنه قال: يقولون عبد الله بن سلام أعلم أهل زمانه، وكعب أعلم أهل زمانه، أفرأيت من جمع علمهما، "يعني نفسه"، روى الحديث عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري وجابر وغيرهم. وروى عنه ابناه عبد الله وعبد الرحمن، وابن أخيه عبد الصمد وعمرو بن دينار وسماك بن الفضل، وعوف الأعرابي وآخرون. وأخرج له البخاري، ومسلم وأبو داود والنسائي، والترمذي -وكانت وفاته سنة مائة وعشر في أحد الأقوال. ثناء العلماء عليه: قال العجيلي: كان وهب ثقة تابعيا، وقال الذهبي: كان ثقة صادقا كثير النقل من كتب الإسرائيليات، وقال النسائي: ثقة، وقال أحمد: كان يتهم بشيء من القدر ثم رجع، وقال ابن حجر: وثقة الجمهور وشذ الفلاس فقال: كان ضعيفا وشبهته في ذلك أنه كان يتهم بالقول في القدر، وقال مثنى بن الصباح: لبث وهب عشرين سنة لم يجعل بين الفجر، والعشاء وضوءا. وممن أثنى عليه عمر بن عبد العزيز، كتب إليه وهب: إني فقدت من بيت مال اليمن دنانير، فكتب إليه عمر: أما بعد فإني لست أتهم دينك ولا أمانتك، ولكن أتهم تضييعك وتفريطك، وإنما أنا حجيج المسلمين في مالهم، وإنما لأشحهم يمينك فاحلف لهم، والسلام. وإذ قد تبين لك مما أسلفنا أن كعبا، ووهبا كانا من خيار التابعين، نرانا مسوقين إلى ذكر كلمة عن "الإسرائيليات" يتبين لك منها -إن شاء الله- مدى كذب من يقدحون فيهما، وفيمن أخذ عنهم فنقول:

الإسرائيليات: "على أي وجه كانت تروى وتؤخذ، أخذها بالميزان الشرعي لا يعد طعنا في الصحابة والتابعين، لا خطر من الإسرائيليات إذا وزنت بميزان الشرع، التوفيق بين النهي عن سؤال أهل الكتاب، والإذن بالتحديث عنهم، ذكر الإسرائيليات في كتب الأئمة لا يفيد أنها صحيحة. كعب ووهب ليسا من اليهود". 1- ما رواه الصحابة رضوان الله عليهم، عن كعب الأحبار ووهب ابن منبه وأضرابهما ليس هو الحديث النبوي، وإنما هو أخبار إسرائيلية، نقلها هؤلاء عن كتب أهل الكتاب. 2- وقد أخبر الله عن أهل الكتاب أنهم غيروا في كتبهم وبدلوا، فامتزج الحق فيها بالباطل، والصدق بالكذب، ومن أجل ذلك كان موقف الصحابة إزاء ما يروى لهم منها: 1- أن يصدقوا ما وافق القرآن أو السنة؛ لأن هذه الموافقة دليل على أن الموافق لم تتناوله يد التحريف والتبديل. 2- وأن يكذبوا ما جاء على خلاف القرآن أو السنة؛ لأنا المخالفة دليل على أن أيديهم قد امتدت إليها بالعبث والتغيير. 3- وأما ما لا يصدقه شرعنا ولا يكذبه، واحتمل أن يكون وأن لا يكون، فقد جاء فيه حديث البخاري، عن أبي هريرة قال: "كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، و {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم} ... الآية "، وحديث ابن عبد البر، عن عطاء بن يسار قال: "كانت يهود يحدثون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيسبحون كأنهم يتعجبون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي

أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون"، وحكمة النهي عن التصديق، والتكذيب في هذا الضرب من أخبارهم أفصح عنها حديث أبي نملة الأنصاري عند ابن عبد البر: "أنه بينا هو جالس عند رسول الله صلى الله عله وسلم جاءه رجل من اليهود، فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم"، فقال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم"، ولفظ عبد الرزاق في هذا الحديث: "فإن كان باطلا لم تصدقوه، وإن كان حقا لم تكذبوه"، وقد أشار إلى ما أسلفنا صاحب فتح الباري إذ يقول: "قوله لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم"، أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملا، لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه، أو كذبا فتصدقوه، فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه، نبه على ذلك الشافعي رحمه الله. ا. هـ "ج8-ص129 من الأميرية". 3- ولا ينبغي أن يجعل من تلقى الإسرائيليات على هذا الوجه، ذريعة للطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك؛ لأنهم كانوا يزنوها بالميزان الشرعي كما أسلفنا، وكان ذلك منهم بعد استقرار أصول الشريعة وإرساء قواعدها، وكان في الأخبار والقصص لا في العقائد والأحكام، فلم تكن رواية هذه الأخبار بالتي تزلزل عقائدهم، أو تشوش أفكارهم، ومنزلتهم معروفة في العلم والدين -كما لا ينبغي أن يتخذ من رواية هذه الإسرائيليات، وسيلة للطعن في رواتها من

أمثال كعب ووهب ممن أثنى عليهم الصحابة، وزكاهم أهل البصر بالتعديل والتجريح، وذلك؛ لأنهم حكوها عن الكتب غير مصدقين لها على الإطلاق، بل كانت عقيدتهم فيا كعقيدة الصحابة، ما جاء على وفق شرعنا صدقوه، وما خالفه كذبوه، وما لم يوافق أو يخالف شرعنا ردوا فيه العلم إلى الله عز وجل، وما مثلهم فيما ينقلون، ويحكون إلا كمثل رجل أمين أراد أن يطلعك على كتاب مؤلف بغير لسانك، فترجمه إلى لغة تفهمها، لعرف ما فيه إن صدقا، وإن كذبا، والصدق أو الكذب حينئذ يضاف إلى الكتاب لا إلى الناقل، وليس أمثال ابن مسعود، وابن عباس وأبي هريرة، وابن عمرو بالقاصرين عن تمييز الخبيث من الطيب حتى يقال: أن نقلها إليهم يشوش على أفكارهم وعقائدهم. 4- أما إذا أخذت الإسرائيليات على غير المنهج الشرعي، كأن صدق الآخذ جميع ما فيها أو كذبه، أو كان غير ملم باصول الشريعة وقواعدها، أو لم يكن لديه من قوة النظر، وشفوف الذهن ما به يستطيع أن يميز بين حقها وباطلها، أو جعلها من موارد الشريعة، يأخذ عنها العقائد والأحكام، فإنه حينئذ يكون لها أكبر الأثر في إفساد العقيدة، وتشويش الأفكار، وقد نهى الشارع عن أخذها كذلك أعظم النهي، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث، تقرءونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم، عن الذي أنزل عليكم" وروى عبد الرازق عن عبد الله "هو ابن مسعود" قال: لا تسألوا أهل

الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم، وقد أضلوا أنفسهم، فتكذبون بحق، وتصدقون بباطل، "زاد في رواية" إن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه"، وروى ابن عبد البر عن يحيى بن جعدة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب في كتف، فقال: كفى بقوم حمقا وضلالة، أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى نبي غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم، فأنزل الله عز وجل: أو لم يكفهم إنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ... الآية"، وأخرج ابن عبد البر بإسناد فيه "مجالد": أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض الكتب، فقال: يا رسول الله إني أصبت كتابا حسنا من بعض أهل الكتاب، قال: فغضب وقال: "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيحدثونكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا، ما وسعه إلا أن يتبعني"، إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار، وإن يكن في بعضها مقال، فتعدد طرقها، يعطيها قوة تجعلها صالحة للاحتجاج. 5- وقد التبس على بعض المعاصرين، الذين اعتادوا أن يتلقفوا عن الكتب كل صحيح وسقيم، وجه التفويق بين هذه الأحاديث، والآثار التي تفيد النهي عن سؤال أهل الكتاب، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص في جواز الإذن بالتحديث عن أهل الكتاب، وهو ما رواه البخاري عنه، رضي الله عنه، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار"، فزعم أن الحديث باطل غير صحيح، والحديث صحيح والحمد لله، ويكفيك أنه في صحيح البخاري مسندا موصولا،

ولم يتكلم فيه أحد من أهل هذا الشأن بكلمة، ولا تعارض بينه، وبين ما ذكرنا من الأحاديث والآثار، وذلك؛ لأن المعنى حدثوا عنهم بما تعلمون صدقه، وهو ما يوافق القرآن، أو السنة الصحيحة، لما في الحديث عنهم من العظة والاعتبار، ولا يجوز أن يكون المعنى، حدثوا عنهم بكل حديث حق أو باطل، إذ من المعلوم ضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحديث بالكذب، كما لا يجوز أن يكون المعنى. حدثوا عنهم بما لاتعلمون كذبه، لما سنذكره، وقوله في الحديث: "ولا حرج" أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم؛ لأنه كان قد تقدم منه صلى الله عليه وسلم الزجر عن الأخذ عنهم، والنظر في كتبهم، على ما سمعت، ثم حصل التوسع في ذلك، لا لكل أحد، ولكن لم رسخ في علوم الشريعة، وتمكن من معرفة أصولها، وصار لديه من قوة النظر، ما به يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، كما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص، أصاب يوم "اليرموك" زاملتين من علوم أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما أذن به الشارع لا بكل ما فيهما، "كما يقول الجاهلون والمقصرون"- هذا وحذاق العلماء قديما وحديثا، من دأبهم أن ينظروا في كتب أهل الكتاب، ليجادلوهم بالتي هي أحسن، وليقيموا عليهم الحجة على صحة الرسالة المحمدية بما يعتقدون، وقد قال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} ، وقال: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، وقال: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} ، أي التوراة. قال الحافظ في الفتح "ج6-ص361 من الأميرية": "وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية،

خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار". ا. هـ وينبغي أن يخص الإذن بمن تمكن في علوم الشريعة، وقويت معرفته بأصولها كما ذكرنا، وإلا لحدث اللبس والتخليط في العقائد1 وقد صرح بذلك الحافظ نفسه في موضع آخر من فتح الباري "ج13-ص438" إذ يقول: "والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن، ويصر من الراسخين في الإيمان، فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك، بخلاف الراسخ فيجوز له، ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف، ويدل على ذلك نقل الأئمة قديما وحديثا من التوراة، وإلزامهم اليهود بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، بما يستخرجونه من كتابهم، ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه، وتواردوا عليه". ا. هـ وبهذا البيان تجتمع لديك الأحاديث والآثار، ولا يكون بينها تناقض أو اختلاف -ويرى بعضهم أن معنى حديث عبد الله بن عمرو: حدثوا عن بن إسرائيل بما لم يثبت لديكم كذبه في المواعظ والقصص، لا في العقائد والأحكام- وحمل

_ 1 من هنا تستطيع التوفيق بين منع ابن مسعود، وابن عباس عن سؤال أهل الكتاب والنظر في كتبهم، وما كان منهما من الأخذ عن كعب، وغيره من مسلمي أهل الكتاب. كما تستطيع أن تفهم سر منع عمر بن الخطاب كعبا من رواية الإسرائيليات، وقوله له: "إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلها الله على موسى، فاقرأها آناء الليل والنهار"، فعمر يخشى على عامة الناس أن لا يميزوا بين الحق والباطل، فتتشوش عليهم عقائدهم، ويرى أن مدارسة القرآن والحديث أهم من هذا، وكعب يرى أن ذكر ما في التوراة من البشائر النبوية، وغيرهما مما أخبر عنه القرآن، والحديث، يزيد المؤمنين إيمانا، "ولكل وجهة هو موليها"، هذا هو الباعث لكل منهما، لا ما يزعمه المبشرون وأذنابهم من أن كعبا كان كاذبا في الحديث عن التوراة، وأنه كان يهوديا يتظاهر بالإسلام ليفسد عقائد المسلمين، ومن أجل ذلك منعه عمر فيما يزعمون.

الحديث على هذا المعنى غير مرضي عندنا، وذلك؛ لأن ما لم يثبت كذبه نوعان: "أحدهما" ما ثبت صدقه، وهذا تجوز حكايته بإطلاق، ولا ينبغي أن يخص بالمواعظ والقصص، و"ثانيهما" ما لم يثبت صدقه ولا كذبه، ولا فائدة تعود على المسلمين من التحديث بهذا النوع، بعد قوله صلى الله عليه وسلم فيه: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" ... الحديث" وشرعنا والحمد لله مكتف بنفسه، وليس بحاجة إلى مثل هذا، ففيه من العقائد والأحكام، والأخلاق والآداب، والمواعظ والأمثال، ما فيه من العقائد والأحكام، والأخلاق والآداب، والمواعظ والأمثال، ما فيه كفاية وذكرى، لكل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد. 6- وفي تفاسير كبار الأئمة كثير من الإسرائيليات المنسوبة إلى كعب ووهب وغيرهما، كما تراه في تفسير ابن جرير وغيره، ولا ينبغي أن يذم هؤلاء الأئمة بذكرها في كتبهم؛ لأنهم رووها على أنها إسرائيليات توزن بميزان الشرع؛ ولأنهم قد ذكروا أسانيدها إلى قائليها، تاركين تمييز صحيحها من باطلها لمن يأتي بعدهم، كما فعل المحدثون عند تدوين الحديث؛ ولأنهم بذكر الإسناد قد برئوا من عهدتها؛ لأن أحوال الرجال كانت معروفة لمعاصريهم، على خلاف ما نحن عليه اليوم. هذا وليس كل ما ينسب إلى كعب، ووهب وأضرابهما صحيحا، فقد اختلق عليهم الوضاعون كثيرا، ليروجوا باطلهم بنسبته إليهم، وتناقل هذه الأخبار المكذوبة بعض القصاص والمؤرخين والأدباء، وبعض القاصرين من المفسرين، على أنها حقائق، من غير أن يتثبتوا من صحة نسبتها إلى من عزيت له، وبدون أن يفطنوا إلى أنهم كانوا يروونها على أنها إسرائيليات بتقدير صحتها عنهم، فضلوا وأضلوا، والذنب ليس ذنب كعب ووهب، ولكنه ذنب القصور والتقصير.

7- ومن المضحكات المبكيات، ما زعمه بعض أدعياء العلم في عصرنا، من أنه قد عني بمطالعة الكتب التي ألفها أعداء الدين، فوجد أكثر المطاعن التي تتخذ شبهة على الإسلام، مأخوذة عن إسرائيليات، تروى عن كعب ووهب، وهذا يدل -في نظره القاصر- على أنهما من اليهود الذين تظاهروا بالإسلام ليفسدوه، وزعم هذا الدعي أيضا أن الصحاة والتابعين، ومن بعدهم من علماء الجرح والتعديل، قد أثنوا عليهما خيرا وعدلوهما، من غير أن يفطنوا إلى ما فطن له هو من أمرهما -وهذا الزعم بنوعيه لا يصدر إلا عن جاهل قد ملأه الغرور، أو مجنون لا يدري ما يقول، ولو أنه كلف نفسه النظر في أسانيد هذه الروايات، التي تنسب إليهما ليتبين أصحيحة هي عنهما أم باطلة، ثم تأمل بعد ذلك إلى أنهما، كانا يرويانها على أنها إسرائيليات، ما رمى الصحابة والتابعين ومن بعدهما من حذاق الناقدين، بهذا البهتان المبين. سعيد بن المسيب: هو التابعي الجليل، أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي، أبوه وجده صحابيان، أسلما يوم فتح مكة. ولد سعيد لسنتين مضا من خلافة عمر بن الخطاب. ورأى عمر وسمع منه ومن عثمان، وعلي وسعد بن أبي وقاص وابن عباس، وابن عمر وجبير بن مطعم وعبد الله بن زيد بن عاصم، وحكيم بن حزام وأبي هريرة، ومعاوية وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعائشة وأم سلمة وغيرهم من الصحابة. وروى عنه جماعات من أعلام التابعين، كعطاء بن أبي رباح ومحمد

الباقر وعمرو بن دينار، ويحيى الأنصاري والزهري "الذي أكثر عنه من الرواية" وخلائق غيرهم. اتفق العلماء على إمامته وجلالته، وتقدمه على أهل عصره في الحديث والعلم والفضل، فقد كان رئيس أهل المدينة، في الفتوى والفقه حتى كانوا يسمونه "فقيه الفقهاء"، قال قتادة: "ما رأيت أحدا أعلم بحلال الله وحرامه من سعيد بن المسيب"، وقال مكحول: "طفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أحدا أعلم من سعيد بن المسيب"، وكان سعيد يقول: "كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد". أجمع أهل الحديث على ثقته، وعدالته وضبطه، وجدارته وشدة حرصه في طلب الحدث، وضعفه بحفظه وجمعه. كان سعيد لا يأخذ عطاء السلطان، ويتعيش من تجارته في الزيت، وكان شديد الورع في الدين، زاهدا في الدنيا، توفي سنة 93هـ. عروة بن الزبير: هو، أبو محمد عروة بن الزبير بن العوام القرشي، الأسدي، المدني، التابعي الجليل، كان من حفاظ الحديث المتقنين. سمع أباه الزبير وأخاه عبد الله، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وخالته عائشة أم المؤمنين، وسعيد بن زيد وحكيم بن حزام، وأبا هريرة وكثيرا من الصحابة والتابعين، وروى عنه عطاء وابن أبي مليكة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن والزهري، وعمر بن عبد العزيز، كما روى عنه أبناؤه الخمسة هشام، ومحمد ويحيى وعبد الله وعثمان وغيرهم. كان عروة كثير الحديث، بحكم اختلاطه بخالته عائشة أم المؤمنين،

وشدة حرصه في طلب العلم وروايته، مع الثقة التامة والضبط، والأمانة شهد له بذلك علماء الحديث من التابعين، وغيرهم. فابن شهاب الزهري يقول: "كان عروة بحرا لا يكدر". وهذا ابنه هشام يقول: "والله ما تعلمنا منه جزءا من ألفي جزء من حديثه"، وابن عيينة يقول: "كان أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة، القاسم وعروة وعمرة"، وقال محمد بن سعد: "كان ثقة كثير الحديث، فقيها مأمونا عالما ثبتا"، توفي عروة سنة 94هـ. على أحد الأقوال. نافع مولى ابن عمر: هو، أبو عبد الله نافع مولى عبد الله عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، مكنت له سماحة الإسلام، أن أصبح من الأئمة الأعلام، مع أنه كان مملوكا لعبد الله بن عمر، فلم تلهه خدمة سيده عن التفقه في الدين، وحفظ كثير من حديث سيد المرسلين، فسمع سيده عبد الله بن عمر، وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري، وأبا لبابة ورافع بن خديج، وعائشة وغيرهم من الصحابة، وخلائق من التابعين، منهم القاسم وسالم ويزيد بن عبد الله، وأسلم مولى عمر وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق وغيرهم. وروى عنه أبو إسحاق السبيعي، والحكم بن عيينة ويحيى الأنصاري، ومحمد بن عجلان والزهري، وصالح بن كيسان وأيوب وحميد الطويل، وميمون بن مهران وموسى بن عقبة، وابن عون والأعمش وغيرهم من التابعين. وروى عنه من غير التابعين ابن جريج، والأوزاعي ومالك والليث، ويونس بن عبيد وابن أبي ذؤيب، وبنو نافع عبد الله وعمر وأبو بكر، وابن أبي ليلى، والضحاك بن عثمان، وكثير غيرهم.

أجمعوا على توثيقه، وأمانته وعلو منزلته في رواية الحديث، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، وقال مالك: إذا سمعت من نافع حديث عن ابن عمر، لا أبالي إلا أسمعه من غيره". وقال عبيد الله بن عمر: لقد من الله علينا بنافع"، وقال ابن عيينة: أي حديث أوثق من حديث نافع"، ولبعد شأوه في الحديث والفقه، ومعرفته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتدبه عمر بن عبد العزيز الخليفة العالم، بمصر يعلمهم أحكام الدين، ويرويهم الحديث. قال محمد بن سعد: "بعث عمر بن عبد العزيز نافعا إلى مصر يعلمهم السنة" قال: "وكان كثير الحديث"، توفي نافع بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة. عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: هو، التابعي الجليل، والحافظ المتقن، عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المدني. اتفقوا على إمامته وجلالته، وكثرة حفظه للحديث، وضبطه له وثقته فيه، حتى كان ابن عباس يعزه ويكرمه، لنباهته وعلو شأنه في الحديث والفقه، ويقول الزهري: "ما جالست عالما، إلا ورأيت أني أتيت على ما عنده، إلا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فإني لم آته إلا وجدت عنده علما طريفا"، قال عبيد الله: ما سمعت حديثا قط، فأشاء أن أعيه إلا وعيته"، ولعلو كعبه في علوم الدين وحفظه لكثير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختير لأن يكون معلما لعمر بن عبد العزيز. قال ابن سعد: "كان عالما ثقة، فقيها كثير الحديث". أخذ عبيد الله العلم عن جماعات من الصحابة، فسمع ابن عباس وابن عمر، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري، وأبا واقد الليثي، وزيد بن

خالد والنعمان بن بشير وعائشة، وفاطمة بنت قيس وغيرهم من الصحابة، كما سمع كثيرا من كبار التابعين. وروى عنه الحديث عراك بن مالك، والزهري وأبو الزناد، وصالح بن كيسان وغيرهم. وتوفي سنة 99 على أحد الأقوال. سالم بن عبد الله بن عمر: هو، أبو عبد الله سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، القرشي العدوي، المدني التابعي الإمام، سمع أباه وأبا أيوب الأنصاري، ورافع بن خديج، وأبا هريرة وعائشة، كما سمع جماعات من التابعين، وروى عنه من التابعين عمرو بن دينار، ونافع مولى أبيه والزهري، وموسى بن عقبة، وحميد الطويل، وصالح بن كيسان وغيرهم من التابعين، كما يروى عنه خلائق من أتباع التابعين. أجمعوا على جلالته وإمامته في الفقه والحديث، حتى قال إسحاق بن راهويه: أصح الأسانيد الزهري، عن سالم عن أبيه، وقال محمد بن سعد: "كان سالم كثير الحديث عاليا في الرجال ورعا". توفي سالم سنة ست ومائة في قول البخاري وأبي نعيم. الشعبي: هو عامر بن شراحيل علامة التابعين. ولد الشعبي في خلافة عمر بن الخطاب سنة سبع عشرة. وكان إماما حافظا، وفقيها بارعا. روى الحديث عن علي بن أبي طالب، وعن أبي هريرة وابن عباس وعائشة، وابن عمر وغيرهم. وهو أكبر شيخ للإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. ولي قضاء الكوفة زمنا، وظهرت فتواه زمن الصحابة، مما يدل على أنه كان على جانب عظيم في الحديث، والفقه.

وقد اتفق العلماء على إمامته وثقته، وأثنوا على علمه وفضله، وتواضعه ونبله. قال مكحول: ما رأيت أعلم من الشعبي، وقال عنه أبو حصين: ما رأيت أحدا قط أفقه من الشعبي، وقال ابن سيرين لأبي بكر الهذلي: الزم الشعبي فقد رأيته يستفتى والصحابة متوافرون، وقال ابن أبي ليلى: كان الشعبي صاحب آثار وكان إبراهيم صاحب قياس، وجاء عن الشعبي أنه كان يقول: "إنا لسنا بالفقهاء، ولكنا سمعنا الحديث ورويناه، الفقيه من إذا علم عمل". توفي رحمه الله سنة 104 مائة وأربع هجرية. إبراهيم النخعي: هو، أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي، الكوفي، فقيه أهل الكوفة، التابعي الجليل، دخل على عائشة رضي الله عنها، ولم يثبت له سماع عنها بل سمع جماعة من كبار التابعين، منهم علقمة وخالاه الأسود، وعبد الرحمن بنا يزيد ومسروق وغيرهم. وروى عنه جماعة من التابعين منهم السبيعي، وحبيب بن أبي ثابت، وسماك بن حرب والأعمش، وحماد بن أبي سليمان، شيخ أبي حنيفة. أجمع العلماء على توثيقه وبراعته في الفقه، فالشعبي يقول حين توفي إبراهيم: ما ترك أحدا أعلم منه، أو أفقه قبل ولا الحسن وابن سيرين قال: ولا الحسن وابن سيرين، ولا من أهل البصرة ولا الكوفة، ولا الحجاز ولا الشام. وإبراهيم وإن لم يحدث عن أحد من الصحابة، مع أنه أدرك جماعة منهم، فقد كان على منزلة في الحديث، ومكانة في علم الرواية، حتى قال الأعمش فيه: "كان النخعي صيرفي الحديث"، وهذه كلمة لها

مغزى عظيم، فإن العالم لا يبلغ أن يكون نقاده في الحديث إلا إذا حفظ كثيرا منه، وعرف كثيرا من أحوال رواته، وكذلك كان إبراهيم. قال أبو زرعة: "النخعي علم من أعلام الإسلام"، وقال العجلي: كان النخعي فقيها، متوقيا قليل التكلف ... توفي سنة 96هـ، سنة ست وتسعين. علقمة: هو، التابعي الكبير، والفقيه الجليل، أبو شبل علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي عم الأسود، وعبد الرحمن بني يزيد وخالي إبراهيم النخعي. سمع عمر بن الخطاب وعثمان، وعليا وابن مسعود وسلمان الفارسي، وخبابا وحذيفة وأبا موسى، وعائشة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. وروى عنه أبو وائل وإبراهيم النخعي، والشعبي وابن سيرين، وعبد الرحمن بن يزيد وأبو الضحى، وغيرهم من التابعين. أجمعوا على جلالته ووفور علمه، وجميل سيرته حتى قال إبراهيم: "كان علقمة يشبه ابن مسعود"، وقال السبيعي: كان علقمة من الربانيين، وقال أحمد بن حنبل: "علقمة ثقة من أهل الخير"، وقال أبو سعد السمعاني: "كان علقمة أكبر أصحاب ابن مسعود وأشبههم هديا ودلا به". وتوفي سنة 62هـ.

المبحث الثامن

المبحث الثامن: الرد على شبه وردت على رواية الحديث، وكتابته في القرن الأول ظهر لنا مما تقدم أن الحفظ والكتابة تعاونا على جمع الحديث، وصيانته في القرن الأول، حتى جاء عصر التدوين، ولكن بعض الزنادقة أبوا ألا أن يشككوا المؤمنين في رواية السنة، وحملتها في عهودها المختلفة، بزخرف من القول، وباطل من الأدلة، ونحن نورد مقالتهم، ثم نتبعها بما يدحضها، معتمدين على الله، فنقول: كيف كانت تروى الأحاديث النبوية: رد شبه أثيرت حول الرواية بالمعنى: يقول دعاة الإلحاد: أن الأحاديث قد رواها الرواة بالمعنى، لا بالألفاظ المسموعة منه صلى الله عليه وسلم، وكان هذا شأن الرواة في كل طبقة، يسمعون الأحاديث بألفاظ ثم يروونها بألفاظ أخرى وهكذا، حتى وصلت إلينا، وقد انطمست معالم ألفاظها ومعانيها، فكان للرواية بالمعنى ضرر كبير في الدين واللغة والأدب، ولهذا لم يثق العلماء على اختلاف مشاربهم بالأحاديث، فالمتكلمون ردوا منها ما لا يتفق وما ذهبوا إليه من أصول، والفقهاء أخذوا منها وتركوا، وعلماء العربية لما رأوا الحاديث قد رويت بالمعنى، ولم يعلموا على اليقين لفظه صلى الله عليه وسلم الذي نطق به، رفضوا أن يستشهدوا بها في إثبات اللغة أو قواعد النحو، في الوقت الذي يستشهدون فيه بكلام أجلف العرب الذين كانوا يبولون على أعقابهم. قالوا: وقد كان الواجب يقضي أن تكتب الأحاديث بين يديه صلى الله عليه وسلم كالقرآن، ويتلقاها الرواة طبقة بعد طبقة، مضبوطة الألفاظ، متواترة الإسناد، حتى يمكن الوثوق بها. الجواب: ولتفنيد هذه الشبهة ينبغي أن نتعرض للبحث في الموضوعات الآتية: 1- لماذا لم تدون السنة بين يديه صلى الله عليه سلم كالقرآن؟ 2- رواية السنة بالمعنى لا تجوز بعد تدوينها في الكتب.

3- الصحابة ومن بعدهم كانوا يحرصون على الرواية باللفظ النبوي. لا يعدلون عنه إلا عند الاضطرار. 4- اختلاف ألفاظ الأحاديث التي تتوارد على معنى واحد، لا يرجع إلى الرواية بالمعنى وحدها. 5- قبول التشكيك في الأحاديث يرفع الثقة عن جميع العلوم. 6- لماذا أخذ العلماء من الأحاديث وتركوا. 7- المحققون من أئمة العربية على جواز الاستشهاد بالأحاديث في اللغة والنحو. وإليك هذه المباحث بإيجاز حتى تنجاب عنك تلك الظلمات: 1- "لماذا لم تدون السنة بين يديه صلى الله عليه وسلم كالقرآن". اعلم أن كتابة القرآن بين يديه صلى الله عليه وسلم، كان بوحي من الله عز وجل؛ لأنه متعبد بتلاوته، معجز بنظمه، ومن أجل ذلك لا تجوز روايته بالمعنى، بل لا بد من المحافظة على لفظه المنزل، فلو ترك لحوافظ العرب تعيه، بدون أن تستعين على وعيه بالكتابة، لما أمن أن يزيدوا فيه حرفا أو ينقصوه، أو يبدلوا كلمة بكلمة، أو جملة بأخرى، إلى غير ذلك من أنواع التغيير والتبديل، فيختل بذلك ركن من أركانه وهو النظم. وكذلك ترك كتابة السنة بين يديه صلى الله عليه وسلم، كان بوحي من الله جل شأنه؛ لأن المقصود منها المعنى دون اللفظ، ولذلك لم يتعبد بتلاوتها، ولم يقع التحدي بنظمها، وتجوز روايتها بالمعنى. هذا إلى أن في المحافظة على لفظ القرآن صيانة الشريعة، وفي الاكتفاء برواية السنة بالمعنى التيسير على الأمة، والتخفيف عنها،

في تحملها وأدائها، وذلك؛ لأن السنة لو كانت كالقرآن في وجوب أخذها وأدائها باللفظ المسموع منه صلى الله عليه وسلم، لتحملت الأمة في روايتها من ضروب الضيق والحرج ما لا يحصى، ولو كان القرآن كالسنة في جواز روايته بالمعنى لما كانت النفوس تطمئن إلى الشريعة، ولكان في القرآن منفذ للزنادقة والملحدين، إذ يقولون: لا ثقة لنا بأنه تنزيل من الله، ولكن الله عز وجل صان الشريعة، وخفف عن الأمة. ولا يغيب عنك أن رواية السنة بالمعنى، يشترط فيها أن يكون الرواي خبيرا باللغة وأسرارها، وبالشريعة ومقاصدها، ذا ملكة قوية فيهما، وأن يكون الحديث الذي يريد روايته بالمعنى ليس من جوامع الكلم، ولا مما يتعبد بلفظه، ولا مما تعيه ذاكرته، فإن كان الراوي غير عالم بأساليب العرب، أو بعلوم الشريعة ومقاصدها، أو كان الحديث من جوامع الكلم، أو مما يتعبد بلفظه كأحاديث الدعاء، أو كان محفوظا للراوي، لم تجز الرواية بالمعنى في هذه الأحوال كلها، ومن ذلك كله يتبين لك أن الرواية بالمعنى لا يترتب عليها إخلال بالسنة، أو عبث بها. فإن قال قائل بعد هذا البيان: "إن ترك كتابة السنة بين يديه صلى الله عليه وسلم مما يرفع الثقة بها"، قلنا له: معنى ذلك رمي النبي صلى الله عليه وسلم -وحاشاه- بالتقصير في تبليغ الوحي الإلهي، أو معناه أن السنة ليست من الدين، والقول بهذا أو ذاك، ضلال مبين، واتباع لغير سبيل المؤمنين. 2- الرواية بالمعنى لا تجوز بعد تدوين الحديث: الرواية بالمعنى لم تكن من الرواة بعد تدوين الحديث، وذلك؛ لأن الأصل في الرواية أن تكون على اللفظ المسموع منه صلى الله عليه

وسلم، فإذا نسي اللفظ جازت الرواية بالمعنى على سبيل التخفيف والرخصة، وبتدوين الأحاديث زال هذا المعنى الذي أوجب التيسير والرخصة، فوجب أخذ الحديث وروايته بلفظه، ولقد بدأ تدوين الحديث بشكل ظاهر منظم على رأس المائة الأولى، بأمر من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فأخذ العلماء في جميع الأمصار يدونون ما وعته حوافظهم القوية، أو صحفهم المصونة، وتتابعوا على تدوين السنة في مراحل مختلفة، وبطرق متنوعة، إلى أن انتهت تلك المراحل والطرق بظهور الأصول الخمسة، "البخاري، ومسلم، والنسائي، وأبو داود، والترمذي" في القرن الثالث، الذي يعد بحق العصر الذهبي لتدوين السنة، ولقد كانوا في تدوينهم للسنة يقابلون ما يكتبون على الأصول، خشية الزيادة أو النقص بسبب الخطأ أو النسيان، حتى إذا اطمأنوا إلى ما كتبوا صانوا تلك الكتب، أوالصحف عن أن تمتد إليها يد تغير أو تبدل، هذا مع بقائهم على ما كان عليه أسلافهم من حفظ الحديث في الصدور، وإتقانه في الأداء، وتلقيه من أفواه المشايخ بالأسانيد المتصلة، فكان التدوين عاملًا جديدًا من عوامل حفظ السنة وصيانتها، أضيف إلى ما كانوا عليه من حفظ السنة في الصدور، ووعيها في القلوب. وما ذكرنا من أن الرواية بالمعنى لم تكن بعد تدوين الكتب، ولا تجوز بعدها، نص عليه علماء الحديث الأعلام، منهم الإمام أبو عمرو، عثمان بن عبد الرحمن، المعروف بابن الصلاح، المتوفى سنة 642هـ، إذ يقول في مقدمته بعد أن ذكر اختلاف العلماء في جواز الرواية بالمعنى: "ثم إن هذا الخلاف، لا نراه جاريا ولا أجراه الناس -فيما نعلم- فيما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف، ويثبت بدله فيه لفظا آخر بمعناه، فإن الرواية

بالمعنى رخص فيها من رخص، لما كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحرج والنصب، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطون الأوراق والكتب؛ ولأنه أن ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره، والله أعلم" ا. هـ ومثله في تقريب النواوي، وشرحه تدريب الراوي. وبذلك يسقط قول الملحدين: "إن الرواة تناقلوا الحديث بألفاظهم في جميع العصور". 3- "الصحابة والتابعون كانوا يحرصون في رواية الحديث على اللفظ النبوي". الرواية بالمعنى كانت في المائة الأولى للهجرة، أي في عصر الصحابة والتابعين قبل أن يشيع تدوين الحديث، ولم يكونوا على وفاق في الرواية بها، فبعضهم كان يحجم عن رواية الحديث، إذا نسي لفظه صلى الله عليه وسلم، تورعا خشية أن لا يصيب المعنى، ويرى بأنه قد خرج من إثم كتمان العلم، بأداء غيره ممن هو أحفظ منه وأضبط، وبعضهم كان إذا نسي لفظ الحديث أو بعضه رواه على المعنى إذا كان ضابطا له، خروجا من إثم كتمان العلم، وعملا بحديث: "إذا لم تحلوا حراما، ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس"، قاله صلى الله عليه وسلم لمن قال له من الصحابة: "يا رسول الله إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك يزيد حرفا أو ينقص حرفا، قال الحسن: "لولا هذا ما حدثنا"؛ ولأن تبليغ الأحاديث واجب، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فإذا ند اللفظ عن الذهن وعلم المعنى وجب أداؤه بلفظ مماثل، روى البيهقي عن مكحول، قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع، فقلنا له يا أبا الأسقع، حدثنا

بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس فيه وهم ولا مزيد ولا نسيان، فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا، فقلنا نعم، وما نحن له بحافظين جدا، إنا لنزيد الواو والألف وننقص، قال: "فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم، لا تألونه حفظا، وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى أن لا نكون سمعناها منه لا مرة واحدة، حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى"، وأسند عن أبي أويس، قال: سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث فقال: "إن هذا يجوز في القرآن1، فكيف به في الحديث، إذا أصبت معنى الحديث، فلم تحل به حراما، ولم تحرم به حلالا فلا بأس"، وأسند عن وكيع قال: "إن لم يكن المعنى واسعا، فقد هلك الناس"، وعلى جواز الرواية بالمعنى عند نسيان اللفظ النبوي جمهور السلف، وعليه كان العمل كما بينا، ومن هنا أخذ الماوردي اشتراط نسيان لفظه صلى الله عليه وسلم، في جواز الرواية بالمعنى، إذ يقول: "إن نسي اللفظ جاز؛ لأنه تحمل اللفظ والمعنى، وعجز عن أداء أحدهما، فيلزمه أداء الآخر، لا سيما أن تركه قد يكون كتما للأحكام، فإن لم ينسه لم يجز أن يورده بغيره؛ لأن في كلامه صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما ليس في غيره". ا. هـ ونعم ما قال، رحمه الله، قال السيوطي: ولا شك في اشتراط أن لا يكون مما تعبد بلفظه، قال: وعندي أنه يشترط أن لا يكون من جوامع الكلم. ا. هـ، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه

_ 1 أي في مقام الشرح والبيان، لا في مقام التلاوة والأداء. ويجوز أن يكون في مقام التلاوة والأداء، ولكن في الجملة الوافرة من السورة. كأن يقرأ سورة الكهف من منتصفها، ثم ينشط فيقرأ باقيها من أولها.

وسلم إذا اضطروا إلى الرواية بالمعنى، أو شكوا في اللفظ النبوي أو في بعضه، أوردوا عقب الحديث لفظا يفيد التصون والاحتياط، وهم أعلم الناس بمعاني الكلام، لعلمهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر، روى ابن ماجه، وأحمد والحاكم عن ابن مسعود أنه قال يوما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، ثم قال: "أو مثله، أو نحوه، أو شبيه به"، وفي مسند الدارمي والكفاية للخطيب عن أبي الدرداء أنه كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أو نحوه أو شبهه"، وروى ابن ماجه وأحمد عن أنس بن مالك، أنه كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرغ قال: "أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم". هذا ما كان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين عند رواية الحديث النبوي، لا يترخصون في الرواية بالمعنى إلا عند نسيان اللفظ المسموع منه صلى الله عليه وسلم، وفي غير جوامع الكلم، وما تعبد بلفظه1، ثم بعد هذا كله يتبعون الحديث بقول يفيد احتياطهم في روايته، وينبهون أثناء سياق الحديث على موضع السهو أو التردد، بما لا تجده لأمة من الأمم في أي عصر من العصور، وإن شئت فاقرأ طرفا من كتب السنة المصونة كالصحيحين، أو السنن لتلمس ما كان عليه القوم من حفظ وضبط، ومن أمانة تامة، وبيان لحقيقة ما يروون: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع وأكثر ما كانوا يفعلون، الرواية على اللفظ النبوي المسموع منه

_ 1 كألفاظ الدعاء أو الأذان والإقامة، أوالتشهد في الصلاة.

صلى الله عليه وسلم، يحرصون على ذلك أشد الحرص وأبلغه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب؛ ولأن أحاديثه دين: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وساعدهم على ذلك أمور: أولا: حوافظهم الواعية، وأذهانهم الصافية، وقلوبهم العاقلة، وسجل لهم التاريخ الصحيح من ذلك، العجب العجاب، فقد كانوا يحفظون القصائد والخطب الطويلة، بسماعها مرة أو مرتين أو ثلاثا، ثم تبقى في أذهانهم ما بقوا؛ لأنهم قوم أميون، دواوينهم صدورهم، وكتبهم حوافظهم، نمت فيهم ملكة الحفظ بالممارسة، ومن الخطأ أن يقاسوا على الأمم الأخرى، أو يقاسوا علينا في هذا العصر. ثانيا: تدوين كثير منهم لأحاديثه صلى الله عليه وسلم كتابة، خشية أن يضيع منها شيء عن أذهانهم، بسبب السهو أو الخطأ أوتقديم السن، وكانت الكتابة في التابعين أكثر منها بين الصحابة، فكان هذا التدوين الشخصي إلى جانب الحفظ في الصدور من أكبر العوامل على صون الحديث، كما سمع منه صلى الله عليه وسلم، ومن كره تدوين الحديث من الصحابة أو التابعين كان خشية الاعتماد على الكتابة وترك الحفظز، أو؛ لأنهم تلقوها حفظا فأحبوا أن تؤخذ عنهم كذلك، أو؛ لأنهم خافوا أن تضعف ملكة الحفظ فيهم بسبب التدوين، إلى غير ذلك مما تقدم لنا تفصيله. ثالثا: تلك المجالس التي كانوا يعقدونها لتحمل الحديث وروايته، وتلك الرحلات إلى الأمصار المختلقة لذلك، فكانت هذه وتلك مما أعانت على بقاء حفظ السنة في أذهانهم، وضبطها في صدورهم، وتثبيتهم فيما عسى أن يكونوا قد شكوا أو ترددوا فيه، وتلقيهم ما فاتهم من حديثه

صلى الله عليه وسلم. وقد رغبهم صلى الله عليه وسلم في التبليغ عنه، فصدعوا بما أمروا، وتفانوا في القرآن والحديث أخذا وتحملا، فرضي الله عنهم، وأثابهم أعظم المثوبة. من أجل ذلك كله نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون: أن الرواية بالمعنى كانت قبل فساد اللسان العربي، ومن أئمة كبار في اللغة والشرع معا، وكانوا يرونها رخصة عند الاضطرار، وكان نسيانهم قليلا بل نادرا، فإن كان ففي بعض حروف العطف، أو المفردات، أو بعض الجمل. 4- "اختلاف ألفاظ الأحاديث لا يرجع إلى الرواية بالمعنى وحدها": من الخطأ البين أن يعزى اختلاف ألفاظ الأحاديث، التي تتوارد على معنى واحد، إلى الرواية بالمعنى وحدها، بل كان لمجالسه صلى الله عليه وسلم المتعددة بتعدد الأزمنة والأمكنة، والحوادث والأحوال، والسامعين والمستفتين، والمتخاصمين والمتقاضين، والوافدين والمبعوثين، أثر في ذلك كبير، فكانت ألفاظه صلى الله عليه وسلم تختلف في كل ذلك، إيجازا وإطنابا، ووضوحا وخفاء، وتقديما وتأخيرا، وزيادة ونقصانا، بحسب ما تقتضيه الحال، ويدعو إليه المقام، فقد يسأل عن أفضل الأعمال مثلا، فيجيب كل سائل بجواب غير جواب صاحبه، أو عن أفضل الجهاد، فيذكر لكل مستفت نوعا من أعمال البر غير ما يذكره للآخر، أو عن أحب أنواع الصدقة فيذكر لهذا غير ما يذكره لذاك، أويسأل عن معنى البر والإثم فتعدد أجوبته بتعدد السائلين، وهكذا، فيظن من لا علم عنده أن هذا من باب التعارض، أو من عدم ضبط الرواة، وواقع الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان طبيب

النفوس، فيجيب كل إنسان عن مسألته بما يناسبه، وبما يكون أنفع له أو للناس في جميع الظروف، أو في الظرف الذي كان فيه الاستفتاء. وانظر إلى اختلاف ألفاظ الأذان والإقامة والتشهد، والأذكار في الصلوات وبعدها، والأدعية فيها وفي غيرها، والرواة في الجميع عدول ضابطون، فيظن من لا علم عنده أن هذا من باب التناقض، أو أنه من عدم ضبط الرواة، أو من الوراية بالمعنى، والواقع أن كل ذلك كان بتعليم منه صلى الله عليه وسلم، إشارة إلى جواز الجميع، وأن في الأمر سعة وتيسيرا على الأمة -ثم انظر تعاليمه صلى الله عليه وسلم للوفود، ووصاياه القيمة لمن يبعثهم إلى الأقطار المختلفة، معلمين ومرشدين، ومبرشين ومنذرين، وإلى كتبه للملوك والرؤساء والحكام، تجدها حافلة ببالغ العظات، ونافع الوصايا، مع تفنن في القول، ورعاية للمناسبات، وخطاب للناس على مقدار عقولهم. ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في الجمع والأعياد، والغزوات والحروب، ومهمات المسائل وجسام الأمور، يحذر فيها وينذر، ويبصر فيها ويرشد، ويذكر قواعد الإسلام، ومعالم الأحكام، وأحوال الجنة والنار، وأشراط الساعة، وعذاب القبر، وألفاظه في ذلك تختلف باختلاف المناسبات، وتطول وتقصر تبعا لما تقتضيه الأحوال. ولقد كانت مجالسه المباركة على كثرتها سفرا وحضرا، حافلة ببيان الأحكام، وتصحيح الأخطاء، والوصايا بتقوى الله عز وجل، والحث على مكارم الأخلاق، والتحذير من مساوئها، وربما قص عليهم فيها من أنباء الأمم الخالية، ما فيه عبرة وذكرى، يصرف القول في جميع

ذلك بما يتلاءم وحال السامعين، من البسط والإيجاز، والوضوح والخفاء1. فهل ترى في أحاديثه صلى الله عليه وسلم في جميع ما ذكرنا، وتنويعها حسب ما يليق بكل حال، تناقضا واختلافا، أو أن الرواة لم يضبطوا ما سمعوا فترخصوا في الرواية بالمعنى، فكان من ذلك التناقض والاختلاف؟، اللهم لا هذا ولا ذاك، ولكنه الحكمة في التعليم، والرعاية للمناسبات، والتطلف في تبليغ الوحي الإلهي، وإعطاء ما يناسب الأفراد والجماعات، من العظات وبيان الأحكام. وما لنا نذهب بعيدا، وهذا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيه القصة الواحدة لنبي من الأنبياء، تذكر في جملة سور منه على وجوه شتى، فتارة تذكر كلها كاملة، موجزة أو مبسوطة، وتارة يذكر طرف منها في سورة وطرف آخر في سورة أخرى، موجزا ذلك الطرف أو مبسوطا، كل ذلك مع اختلاف الألفاظ، وتنوع العبارات، كما تراه في قصة آدم ونوح وإبراهيم وموسى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام، أتر في تصريف القول في كل قصة من قصص الأنبياء مثلا تناقضا واختلافا، كما يراه من في قلوبهم مرض، أم أنه الحق من ربك، يصدق بعضه بعضا، ويشرح المجمل فيه بالمفصل، ويضم طرف من القصة الواحدة في موضع إلى طرف منها في موضع آخر، فتلتئم أطراف القصة، وإن ذلك كله كان لاختلاف المقام، ورعاية الحال، كما يعلمه الراسخون في العلم، قائلين "كل من عند ربنا".

_ 1 فإذا أضفت إلى هذا كله، أو رواة أحاديثه صلى الله عليه وسلم في كل مجلس، قد يروون جميع ما سمعوا، وقد يقتصرون على بعضه، وما يقتصر عليه هذا غير ما يقتصر عليه ذاك تبعا لمواطن الاستشهاد مع المحافظة على اللفظ المسموع، استبان لك أن شبهات الملحدين قد ذهبت هباء.

أما أنه لو لم يثبت القرآن بالتواتر حفظا وكتابة، وكان ثبوته عن طريق الآحاد كالسنة، لكانت الشبهة هي الشبهة، ولكن الله عزوجل قد صانه عن الشبهات بالتواتر، ليضرب لنا فيه الأمثال على صدق السنة: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . 5- اعتبار التشكيك في الأحاديث يرفع الثقة بجميع العلوم: ليس لدينا علم من العلوم سعد باتصال الأسانيد بالثقات الضابطين، وتنوع تلك الأسانيد، ومعرفة أحوال الرواة، من جهة شيوخهم وتلاميذهم، وتعديلهم وتجريحهم، وحلهم وترحالهم، ومواليدهم ووفياتهم، مثل علم الحديث النبوي، ففيه من كتب الرجال والطبقات في جميع العصور والأمكنة، ما تستطيع به أن تطلع على تاريخ كل راو من رواة السنة وما قيل فيه، ولو حاولت أن تفعل ذلك أو بعضه مع رواة الأدب، أو مع رواة التاريخ أو غيرهما من العلوم، لالتوى عليك البحث، وأدركك العجز، مهما أوتيت من سعة الذهن، ووفرة المراجع، وسعة الاطلاع. وقد أتاح الله عز وجل لهذه السنة النبوية المباركة، أن يخدمها في كل عصر ومصر أئمة كرام بررة، وأعلام ثقات مهرة؛ لأنها شارحة للقرآن، ومفصلة لمقاصده، بمقتضى قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، فكان حفظها حفظا للقرآن، والعناية بها أخذا وتحملا، سندا ومتنا، عناية بالقرآن، الذي ضمن الله بقاءه على الدهر، بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . ولو أننا ذهبنا نستمع إلى من في قلوبهم مرض، من دعاة الإلحاد، وخصوم الإسلام، وصرنا إلى ما صاروا إليه من الشبهات، المؤسسة

على شفا جرف هار، لذهبت ثقتنا بجميع العلوم، ذلك؛ لأن علماءها لم يبذلوا فيها، من الدرس والتمحيص، والدقة والتحري، عشر معشار ما بذله علماء الحديث، في حفظ السنة ورعايتها، وتمييز صحيحها من ضعيفها، ومعرفة أحوال رواتها على اختلاف طبقاتهم وأزمنتهم وأمكنتهم، كما بينا، فإذا انهار حصن السنة الحصين، بعد تلك العناية البالغة، التي يشهد بها التاريخ والواقع، لم يبق هناك علم نرجع إليه أو نثق به، وكفى بذلك حمقا وجهلا. إنك لو فتشت عما يريده هؤلاء المارقون، لرأيتهم يريدون الإتيان على الإسلام من القواعد، لذلك ترى فريقا منهم يحاول صد الناس عن اتباع السنة، عن طريق النيل من حماتها، وتسفيه حملتها، ورميهم بكل نقيصة، بغيا وحسدا، باسم البحث الحر، والدراسة التحليلية، والطريقة العلمية، ومن عجيب أمر هؤلاء أنهم يحملون علماء السنة وحماتها، أوزار الوضاعين، من الجهلة والزنادقة والمغرضين، ويردون ما صح من الأحاديث بإجماع الأئمة، بأخبار ضعيفة، وآثار واهية، ينقلونها عن كتب الأدب والتاريخ، وعن جهلة الشيعة والمعتزلة، وهي إذا وزنت بميزان النقد الصحيح انهارت أسانيدها ومتونها، وذهبت هباء منثورا، بل ويذهبون بتسعة أعشار السنة، التي تلقاها العلماء بالقبول في جميع الإعصار والأمصار، بحديث من وضع الزنادقة لا وزن له عند علماء السنة، وهو "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله ... " إلخ، ويتظاهرون بإجلال القرآن واحترامه، وأنه الحجة التي ليس وراءها حجة، هذا حال فريق منهم إزاء السنة، وهناك فريق آخر يحاولون أن يتلاعبوا بالقرآن عن طريق التأويلات الباطلة، والأفهام الزائفة، باسم التجديد، ونبذ القديم، ويلتقي هذا الفريق وذاك عند هدف

واحد، هو هدم الإسلام، وصد الناس عن اتباعه: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . ولكن الله قد حمى عرين الدين بهؤلاء العلماء، الثقات الأمناء، فردوا كيدهم في نحورهم، وذهبوا بأباطيلهم: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . 6- ترك العلماء لبعض الأحاديث وسببه: لم يكن ذلك منهم استهانة بالسنة ومسايرة للأغراض والشهوات، معاذ الله أن يكون منهم هذا، وهم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وحملة السنة وحماتها، وفي القرآن الكريم: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} ، وفي الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"، وإنما كانوا يفعلون ذلك؛ لأن الحديث لم يبلغهم، أو بلغهم ولم يصح لديهم، أوصح ولكن عارضه ما هو أقوى من أدلة الشريعة أو رأوه منسوخا، إلى غير ذلك من الاعتبارات الشرعية، التي بسطها ابن تيمية في رسالته "رفع الملام عن الأئمة الأعلام". وقد تكلمنا عن أمثلة منها في المقدمة، ونزيد الآن على ما أسلفنا تلك الفوائد، حتى لا يختلط عليك الحق بالباطل، فنقول وبالله التوفيق: أولا: العقائد التي يتوقف عليها صحة الإسلام ثابتة بالأدلة القطعية من العقل والنقل، وذلك كالإيمان بوجود الله ووحدانيته، ووصفه بأوصاف الكمال والجلال، وتنزيهه عن سمات الحدوث والنقصان، وكالإيمان بملائكة الله، وكتبه ورسله والقدر خيره وشره، وكالإيمان

بالبعث بعد الموت، والمجازاة على الأعمال بالنعيم في الجنة، أو العذاب في النار يوم القيامة. هذا النوع من العقائد لا يثبت إلا بصريح العقل، ونصوص القرآن وما تواتر لفظا أو معنى من أحاديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فإن رأيت فيه حديثا غير متواتر فلا ترده؛ لأنه عاضد للدليل القطعي، أما العقائد التي لا يتوقف عليها أصل الإيمان، ولا تحقق الإسلام فهذه يجوز إثباتها بأخبار الآحاد الصحيحة، التي لا عارض قرآنا ولا سنة متواترة ولا إجماعا، ولا عقلا صريحا، وذلك كوصف الله تعالى بشيء من أوصاف الكمال تفصيلا، وتسميته ببعض أسمائه الحسنى، وكالأخبار عن بعض المغيبات الكائنة أو المستقبلة، وكعذاب القبر ونعيمه وما يكون فيه، وكتفاصيل ما يكون يوم القيامة من الشفاعة ووزن الأعمال، ورؤية الله عزوجل. على أن الأحاديث الآحادية في هذا النوع من العقائد كثيرا ما تتعدد طرقها، فتكتسب الشهرة أو التواتر، وقد يحتف بها من القرائن أو يعاضدها من ظواهر القرآن الكريم، وإجماع العلماء الذين يعتد بإجماعهم ما يجعلها في درج الأدلة اليقينية، وجاحد هذا النوع من العقائد ضال مضل، وفاسق مبتدع. ثانيا: علمت مما تقدم أن ما لم يتواتر من الأحاديث، "وهو خبر الوحد في اصطلاح المحدثين"، يحتج به في العقائد التي لا يتوقف عليها أصل الإيمان، وذلك بناء على أن مثل هذه العقائد يكتفي فيها بالظن القوي، أو بناء على ما يراه كثير من المحققين من أن خبر الواحد يفيد

العلم1 لا سيما إن تعددت طرقه، أو انضم إليه ظاهر القرآن الكريم، أو إجماع علماء الدين. ونفيد هنا أن الإمام البخاري في آخر صحيحه عقد كتابا خاصا بالتوحيد، أثبت فيه لله عز وجل كثيرا من أوصاف الكمال والجلال، بمقتضى الأحاديث الصحيحة، قال الحافظ في فتح الباري: "الذي يظهر من تصرف البخاري في كتاب التوحيد، أنه يسوق الأحاديث التي وردت في الصفات المقدسة، فيدخل كل حديث منها في باب، ويؤيده بآية من القرآن، للإشارة إلى خروجها عن أخبار الآحاد، على طريق التنزل في ترك الاحتجاج بها في الاعتقاديات، وأن من أنكرها خالف الكتاب والسنة جميعا، وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية بسند صحيح، عن سلام بن أبي مطيع، وهو شيخ شيوخ البخاري، أنه ذكر المبتدعة فقال: ويلهم ماذا ينكرون من هذه الأحاديث، والله مافي الحديث شيء إلا وفي القرآن مثله، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} ، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه} ، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ، {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، ونحو ذلك فلم يزل -أي سلام بن أبي مطيع- يذكر الآيات من العصر إلى غروب الشمس". ا. هـ "13-304" من الأميرية.

_ 1 روي عن مالك وأحمد، وجماعة من أهل الحديث أن خبر الواحد الصحيح يفيد القطع، وحكاه ابن حزم عن داود وانتصر له، وأفاد الحافظ في شرح النخبة أنه يفيد العلم إذا احتف بالقرائن، ومثل له بما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، وبالمشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل، وبالمسلسل بالأئمة الحفاظ حيث لا يكون غريبا.

ثالثا: أسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني، قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن، وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عله وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسر شيئا منها، وقال بقول حبهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفارق الجماعة؛ لأنه وصف الرب بصفة "لا شيء"، وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي، عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول: "لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الروية والفكر، فنثبت هذه الصفات، وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} ، وقال الترمذي في باب فضل الصدقة من جامعه: "قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم، ولا يقال كيف، كذا جاء عن مالك وابن عيينة، وابن المبارك أنهم أمروها بلا كيف، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكروها، وقالوا: هذا تشبيه، وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه لو قيل: يد كيد، وسمع كسمع، وقال في تفسير المائدة: قال الأئمة: نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير، منهم الثوري، ومالك، وابن عيينة، وابن المبارك"، وقال ابن عبد البر: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ولم يكيفوا شيئا منها، وأما الجهمية، والمعتزلة، والخوارج، فقالوا: من أقربها فهو مشبه، فسماهم من أقر بها معطلة"، وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: "اختلفت مسالك العلاء في هذه الظواهر: فرأى بعضهم تأويلا، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف، إلى الانكفاف

عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الله تعالى، والذي نرتضيه رأيا، وندن الله به عقيدة، اتباع سلف الأمة، للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما، لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع". ا. هـ راجع فتح الباري "13-342، 343 ط الأميرية". ومن ذلك يتبين لك أن الأحاديث الصحيحة، التي اشتملت على الصفات الإلهية المقدسة، لم يردها أئمة السلف، ولكنهم آمنوا بها كما جاءت، من غير أن يخوضوا في حقيقة معناها، ومع تنزيه ربنا عز وجل عن مشابهة الخلق، ولكن الذي أنكرها إنما هم الجهمية وأضرابهم من المبتدعة، وهؤلاء ليس لهم وزن عند علماء القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير، قال صاحب فتح الباري: "رد الروايات الصحيحة، والطعن في أئمة الحديث الضابطين، مع إمكان توجيه ما رووا، من الأمور التي أقدم عليها كثير من غير أهل الحديث، وهو يقتضي قصور فهم من فعل ذلك منهم، ومن ثم قال الكرماني: لا حاجة لتخطئة الرواة الثقات، بل حكم هذا حكم سائر المتشابهات إما التفويض، وإما التأويل". ا. هـ "13-339ط الأميرية"، وقد علمت أن التفويض هو ما كان عليه السلف في عصور الخير، ولا ندين الله بغيره. رابعا: النصوص الشرعية على ظواهرها، ما لم يكن هناك موجب لصرفها عن هذا الظاهر من عقل صريح، أو نقل صحيح إو إجماع ظاهر، ولا يجوز رد النصوص، أو صرفها عن ظاهرها بالهوى، أو بقياس الغائب

على الشاهد أو بناء على الاستبعاد العادي، أو؛ لأنها خارقة للنواميس العادية التي يسير عليها عالمنا الذي نعيش فيه، فإن لكل عالم نظامًا يخصه، ونواميس يجري عليها، وبناء على ما قدمنا فن الخطأ رد أحاديث الدجال، أو نزول عيسى عليه السلام، أو طلوع الشمس من مغربها، أو رد أحاديث عذاب القبر أو الشافعة، أو رؤية الله عز وجل في الآخرة، كما أن من الخطأ رد أحاديث شق الصدر الشريف، وانشقاق القمر أو الإسراء والمعراج، أو معجزاته صلى الله عليه وسلم الحسية، والفاعل هو الله، والله عز وجل لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء، ومبنى المعجزات خرق النواميس العادية، وإلا لما كانت معجزات، ولله عز وجل أن يكرم من شاء بما شاء، وهو العليم الحكيم، وأما قوله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، فهذا في قتال أهل الحق مع أهل الباطل، يبتلي الله أولياءه بأعدائه، ثم تكون العاقبة للمتقين، وفي الأمم مع رسل ربها إذا كذبت وبغت يأخذها الله أخذ عزيز مقتدر، {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا، فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} ، {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} ، هذا ما يرشد إليه السياق في جميع الآيات، ومن الحمق أن ترد تلك الأحاديث لمجرد الظاهر من غير تأمل السياق، وقد صرح القرآن نفسه بمعجزات حسية لبعض أنبياء الله، كموسى وعيسى وإبراهيم، عليهم السلام، فهل ترد تلك المعجزات لمخالفتها للنواميس العادية، كما هو دأب الزنادقة والملحدين، أو تقبل النصوص كلها، ولا يرد بعضها ببعض، كما هو دأب الراسخين في العلم، يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، لا شك أن مسالك أهل الحق هو المتعين؛ لأن ذلك جميعه

تنزيل من الله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . 7- الاستشهاد بالأحاديث في اللغة والنحو: علمت ما قدمنا أن الرواية بالمعنى لم تكن بعد تدوين السنة، وإنما كانت في القرن الأول قبل فساد اللسان العربي، على قلة وفي حدود ضيقة، وأن رواة الأحاديث كانوا أحرص ما يكون على نقل الألفاظ النبوية نفسها، ومن ثم أجاز المحققون من أئمة العربية الاستشهاد بالأحاديث على إثبات اللغة، وقواعد النحو، ومن هؤلاء ابن مالك والرضي والبدر الدماميني، وصاحب خزانة الأدب، وإليك عبارة صاحب الخزانة، وهي أجمع العبارات وأوفاها في تقرير هذا البحث، قال في الجزء الأول "ص5، وما بعدها": "وأما الاستدلال بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جوزه ابن مالك، وتبعه الشارح المحقق "الرضي" في ذلك، وزاد عليه الاحتجاج بكلام أهل البيت رضي الله عنهم، وقد منعه ابن الضائع، وأبو حيان وسندهما أمران: أحدهما: أن الأحاديث لم تنقل كما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما رويت بالمعنى. وثانيهما: أن أئمة النحو المتقدمين من المصريين "البصرة والكوفة". لم يتحجوا بشيء منها. ورد الأول -على تقدير تسليمه- بأن النقل بالمعنى إنما كان في الصدر الأول قبل تدوينه في الكتب، وقبل فساد اللغة، وغايته تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به فلا فرق، على أن اليقين غير مشروط بل الظن كاف.

ورد الثاني بأنه لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به. والصواب: جواز الاحتجاج بالحديث للنحوي في ضبط ألفاظه، ويلحق به ما روي عن الصحابة، وأهل البيت، كما صنع الشارح المحقق. ثم قال صاحب الخزانة نقلا عن الدماميني في رد المذهب الذي لا يحتج بالحديث: "وقد رد هذا المذهب الذي ذهبوا إليه البدر الدماميني في شرح التسهيل -ولله دره فإنه قد أجاد في الرد- قال: قد أكثر المصنف "يريد به ابن مالك صاحب التسهيل"، من الاستدلال بالأحاديث النبوية، وشنع أبو حيان عليه، وقال: إن ما استند إليه من ذلك لا يتم له، لتطرق احتمال الرواية بالمعنى، فلا يوثق بأن ذلك المحتج به لفظه صلى الله عليه وسلم حتى تقوم به الحجة، وقد أجريت ذلك لبعض مشايخنا، فصوب رأي ابن مالك فيما فعله، بناء على أن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب، وإنما المطلوب غلبة الظن، الذي هو مناط الأحكام الشرعية، وكذا ما يتوقف عليه من نقل مفردات الألفاظ، وقوانين الأعراب، فالظن في ذلك كله كاف، ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك المنقول المحتج به لم يبدل؛ لأن الأصل عدم التبديل، لا سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل الأحاديث، شائع بين النقلة والمحدثين. ومن يقول منهم بجواز النقل بالمعنى، فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي، الذي لا ينافي وقوع نقيضه فلذلك تراهم يتحرون في الضبط، ويتشددون مع قولهم بجواز النقل بالمعنى، فيغلب على الظن من هذا كله أنها لم تبدل، ويكون احتمال التبديل فيها مرجوحا فيلغى، ولا يقدح في صحة الاستدلال بها.

"ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى إنما هو فيما لم يدون ولا كتب، وأما ما دون وحصل في بطون الكتب، فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بينهم، قال ابن الصلاح بعد أن ذكر اختلافهم في نقل الحديث بالمعنى: "إن هذا الخلاف لا نراه جاريا، ولا أجراه الناس -فيما نعلم- فيما تضمنته بطن الكتب، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف، ويثبت فيه لفظا آخر". ا. هـ وتدوين الأحاديث والأخبار -بل وكثير من المرويات- وقع في الصدر الأول، قبل فساد اللغة العربية، حين كان كلام أولئك المبدلين -على تقدير تبديلهم- يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به، فلا فرق بين الجميع في صحة الاستدلال، ثم دون ذلك المبدل -على تقدير التبديل، ومنع من تغييره ونقله بالمعنى، كما قال ابن الصلاح، فبقى حجة في بابه، ولا يضر توهم ذلك السابق في شيء من استدلالهم المتأخر، والله أعلم بالصواب. ا. هـ كلام صاحب الخزانة. موقف صاحب مجلة المنار من الأحاديث، والآثار الواردة في كتابة الحديث: كتب المرحوم الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار في الجزء العاشر من المجلد العاشر من هذه المجلة مقالا في تدوين الأحاديث في القرن الأول، خالف فيه طريق العلماء من وجوه نذكرها، ثم تتبعها بالرد عليها فنقول: أولا: يرى أن أول من دون الحديث، هو خالد بن معدان الحمصي فيقول في ص754: "لعل أول من كتب الحديث وغيره من التابعين في القرن الأول، وجعل ما كتبه مصنفا مجموعا، هو خالد بن معدان الحمصي.

روى عنه أنه لقي سبعين صحابيا. قال في تذكرة الحفاظ وقال بحير. ما رأيت أحدا ألزم للعلم منه. وكان علمه في مصحف له أزرار وعرى" ثم قال: "فخالد بن معدان جمع علمه في مصنف واحد، جعل له وقاية لها أزرار وعرى تمسكها لئلا يقع شيء من تلك الصحف، وكان ذلك في القرن الأول فإنه مات سنة 103، أو سنة 104. ولكن المشهور أن أول من كتب الحديث ابن شهاب الزهري القرشي. ولعل سبب ذلك أخذ أمراء بني أمية عنه". ا. هـ. خالف الشيخ المشهور عند العلماء قديما وحديثا من أن أول من دون الأحاديث بأمر الخليفة، لتنشر في جميع الأقطار الإسلامية هو ابن شهاب الزهري، ولا دليل يستند إليه سوى قول بحير في خالد بن معدان، "وكان علمه في مصحف له أزرار وعرى"، مع أنه لا دلالة فيه على أولية التدوين، وهذا تدوين لنفسه خاصة سبقه به كثير كعبد الله بن عمرو بن العاص، وكل ما هنالك أنه شهد له بغزارة العلم، وأنه كان يكتبه في صحف خشية أن يضيع، والثابت أن ابن شهاب كان ألزم للعلم من خالد، وأحرص على التدوين منه وأقوى حفظا من غيره، وأنه أول من دون الحديث على الإطلاق من التابعين لينشر في الأقطار الإسلامية. وقد نقل الشيخ نفسه من ثناء العلماء على الزهري، ما هو أبلغ من قول بحير في خالد حفظا، وكتابة فهلا كان ذلك عنده مبررا لأوليته في التدوين. ثانيا: يرى أن الأحاديث التي صحت في الإذن بكتابة السنة، لا تدل لكتابتها على الإطلاق، بل هي في موضوعات خاصة لا تتعداها. وإن الأحاديث الضعيفة، التي تدل للكتابة مطلقا ساقطة لا يحتج بها، ولا ينظر إليها. قال في ص765، 766:-

1- حديث أبي هريرة "اكتبوا لأبي شاه" في الصحيحين وموضوعه خاص. وروى عنه البخاري قوله: "أن عبد الله بن عمرو كان يكتب، وأنه هو لم يكن يكتب"، وله حديث عند الترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لرجل سيئ الحفظ بأن يستيعين بيمينه". 2- حديث أنس: "قيدوا العلم بالكتاب"، ضعيف. 3- حديث أبي بكر: "من كتب عني علما أوحديثا، لم يزل يكتب له الأجر ما بقي ذلك العلم أو الحديث"، رواه ابن عساكر في تاريخه. ضعيف. 4- حديث رافع بن خديج: قلت: يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء فنكتبها قال: "اكتبوا ولا حرج"، رواه الحكيم الترمذي، والطبراني والخطيب ضعيف. 5- حديث حذيفة: "اكتبوا العلم قبل ذهاب العلماء"، عند ابن النجار في تاريخ. ضعيف أيا بل يشم منه رائحة الوضع. 6- حديث علي في الصحيفة رواه أحمد، والبخاري والثلاثة، وموضوعها خاص ومنسوب إلى الوحي -والحديث المشار إليه، هو ما رواه هؤلاء الأئمة عن مطرف بن طريف. قال سمعت الشعبي يقول: أخبرني أو جحيفة قال: قلت لعلي بن أبي طالب: "هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن. قال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه وما في هذه الصحيفة. قلت وما في الصحيفة. قال: العقل وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر". 7- كتاب الصدقات والديات والفرائض لعمرو بن حزم. رواه أبو داود والنسائي، وابن حبان والدارمي وموضوعه خاص. وإنما كتب

له ذلك ليحكم به إذ ولي عمل نجران -والحديث المذكور هو ما رواه الأئمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب كتاب الصدقات، والديات، والفرائض، والسنن لعمرو بن حزم وغيره. 8- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص هو أكثر ما ورد في الباب، وهو كما في بعض رواياته، "قلت: يا رسول الله اكتب كل ما أسمع منك، قال: نعم. قلت: في الرضا والغضب. قال: نعم، فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقا"، قال الشيخ وقد جاء بألفاظ مختلفة من طريقين فيما أعلم الآن عند أحمد، وأبي داود والحاكم. فالطريق الأول عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أي عبد الله بن عمرو بن العاص فهو جده. وهذا الطريق فيه مقال مشهور للمحدثين لم يمنع بعض المتأخرين من الاحتجاج به، وهو تساهل منهم. ونقل هنا مقالة المتقدمين في هذا الطريق عن الميزان للذهبي. ثم قال: والطريق الثاني عن عبد الله بن المؤمل، عن ابن جريج عن عطاء عنه بلفظ: "قيدوا العلم"، وعبد الله بن المؤمل، قال أحمد أحاديثه مناكير، وقال النسائي والدارقطني ضعيف أما ما رواه ابن عبد البر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص من قوله: ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان الصادقة والوهط، فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان عبد الله يقوم عليها -ففي سنده ليث، عن مجاهد، وليث هذا هو ابن سليم. ضعفه يحيى والنسائي. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي قال: ما رأيت يحيى بن سعيد أسوأ رأيا في أحد منه في ليث، ومحمد بن إسحاق وهمام لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم. ذكره في الميزان، وذكر أنه اختلط في آخر عمره. ا. هـ، ونحن نناقش الشيخ في بعض مقالته هذه لئلا يطول بنا المقال فنقول:

مناقشته في أحاديث أبي هريرة الثلاثة: ادعى أن حديث أبي هريرة عند الشيخين خاص بأبي شاه، ولم يبين لنا وجه تلك الخصوصية. ومن المقرر عند العلماء أن دعوى الخصوصية بلا دليل غير مقبولة. فإن أراد بالخصوصية أن قوله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه، خاص بخطبته عام فتح مكة فذلك صريح الحديث. لكن لا يدل على منع الكتابة في غير خطبته هذه، أو لغير أبي شاه؛ لأنه لا فارق بين خطبته في هذا المقام، وبين سائر أحاديثه في وجوب العناية بحفظها ووجوب تبليغها، كما أنه لا خصوصية لأبي شاه عن غيره من سائر الصحابة رضي الله عنهم، بل عن جميع المكلفين. فإن قيل: يحتمل أنه كان سيئ الحفظ قلنا: ويحتمل أنه أراد أن يضم الكتابة إلى الحفظ، والاحتمالات بابها واسع. فالمصير إلى احتمال معين ودعوى أن ما عداه باطل محض تحكم. وأما حديث أبي هريرة الثاني فقد سكت عنه. وهو ما رواه البخاري في صحيحه عن همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حدثا مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب"، ولا يلتفت إلى الطعن في همام بعد تخريج البخاري له في الصحيح. ونحن نستدل بهذا الحديث على أن كتابة الحديث جائزة بل مستحبة، فإن ابن عمرو فعلها، وأبو هريرة لم ينكر عليه بل جعل ذلك من محاسنه، وأنه من أجل ذلك كان أكثر حديثا منه: قال في فتح الباري وروى أحمد، والبيهقي في المدخل من طريق عمرو بن شعيب، عن مجاهد والمغيرة بن حكيم قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه

وسلم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي ولا أكتب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتابة عنه، فأذن له1 إسناده حسن. أفاد هذا الحديث أن عبد الله بن عمرو استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الحديث، فأذن له وأنه لم يكن به آفة تضطره إلى الكتابة، بدليل قول أبي هريرة "فإنه كان يكتب بيده، ويعي بقلبه"، وأن موضوعه ليس بخاص، بل هو عام في الأحاديث كلها. وأما حديث أبي هريرة الثالث عند الترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، أذن لرجل سيئ الحفظ بأن يستعين بيمينه"، فواضح الدلالة على أنه يجوز لمن كان على مثل حال هذا الرجل أن يستعين بالكتابة، وذلك لا يمنع جواز الكتابة لمن كان حسن الحفظ، فإن ذلك آكد لحفظه. ولعل صاحب المنار يقصد بإيراد حديث الترمذي المذكور، عقب حديث البخاري في كتابة عبد الله بن عمرو، أن عبد الله هو ذلك الرجل الذي كان سيئ الحفظ، وقد ذكرنا ما يبطل ذلك. وقد مر بك في ترجمة عبد الله بن عمرو السبب في قلة ما وصل إلينا من حديثه بالنسبة لأبي هريرة، مع أنه جمع إلى حفظ الحديث كتابته. مناقشته في حديث صحيفة علي، وكتاب عمرو بن حزم: بعد أن سلم الشيخ بصحة الحديثين، ادعى أن كلا منهما في موضوع خاص. وقد أبطلنا فيما سبق أن خصوص المكتوب، أو الكاتب لا يدل على المنع من الكتابة في غير المكتوب أو لغير الكاتب. فإن السنة وحي من الله يجب على الناس تبليغها، ومن وسائل ذلك التبليغ: الكتابة.

_ 1 انظر جـ1 ص148.

ومن العجيب قول الشيخ في كتاب عمرو بن حزم، "أن موضوعه خاص، وإنما كتب له ذلك ليحكم به، إذ ولي عمل نجران"، مع أن لفظ الحديث كما سبق:"كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقات، والديات، والفرائض والسنن لعمرو بن حزم وغيره"، فالكتابة لم تكن لعمرو بن حزم وحده، بل كانت له ولغيره، وموضوعها ليس بخاص كما هو ظاهر -وكأن الشيخ فهم أن الكتابة للحكم يلزم منها منع الكتابة للحفظ، مع أن الحفظ من وسائل الحكم، وعوامل الإصابة فيه، وإليك عبارة العلامة ابن القيم في زاد المعاد جـ1 ص59 قال- في معرض كلامه على كتبه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الإسلام في الشرائع ما نصه: ومنها كتابه إلى أهل اليمن، وهو الكتاب الذي رواه أبو بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جده، وكذلك رواه الحاكم في صحيحه والنسائي وغيرهما مسندا متصلا، ورواه أبوداود وغيره مرسلا، وهو كتاب عظيم فيه أنواع كثيرة من الفقه في الزكاة، والديات والحكام، وذكر الكبائر والطلاق، والعتاق وأحكام الصلاة في الثوب الواحد، والاحتباء فيه ومس المصحف، وغير ذلك. قال الإمام أحمد: لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه، واحتج الفقهاء كلهم بجملة ما فيه من مقادير الديات. ا. هـ فأنت ترى أن موضوع هذا الكتاب لم يكن خاصا، والمكتوب إليهم هم أهل اليمن عامة. مناقشته في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له أن يكتب كل ما يسمع منه: نقول: هذا الحديث صححه الحفاظ، وهو من أقوى الأدلة، وأصرحها على أن كتابة الحديث جميعه جائزة بل مستحبة. وقد روى من عدة طرق يقوي بعضها بعضا. قال الحافظ في فتح الباري: وعند أحمد

وأبي داود من طريق يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يتكلم في الرضا والغضب. فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق"، ولهذا طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو، ويقوي بعضها بعضا. ا. هـ1، ولكن الشيخ لما وجد هذا الحديث يحول بينه وبين ما يرمي إليه من النتائج، أخذ يتكلم في متنه تارة وفي إسناده تارة أخرى. فقال عن المتن: قد جاء بألفاظ مختلفة من طريقين فيما أعلم"، ونقول له: إن اختلاف ألفاظ الحديث الواحد لا يعد طعنا فيه، إذا كانت غير متعارضة ولا متدافعة. والحديث الذي معنا كذلك اختلفت ألفاظه طولا وقصرا، ولكن لا تنافي بينها، فلا يجوز أن يتخذ ذلك طعنا فيه. وقال عن السند: جاء من طريقين الأول، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، وفيه مقال مشهور للمتقدمين من علماء الحديث، ولكن هذا المقال لم يمنع بعض المتأخرين من الاحتجاج به، وهو تساهل منهم ثم أخذ يسرد ما قاله المتقدمون نقلا عن الميزان للذهبي2، والطريق الثاني عن عبد الله بن المؤمل، وعبد الله بن المؤمل، قال أحمد: إن حديثه مناكير وقال النسائي والدارقطني: ضعيف. ونحن نقول له: أما الطريق الأول، فالذي عليه المحققون والجماهير من المتقدمين، والمتأخرين أنه يحتج به. قال ابن الصلاح في النوع الخامس والأربعين من مقدمته: لعمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده

_ 1 انظر جـ1 ص149. 2 سيأتي لك في ردنا عليه أن الذهبي اعتمد طريق عمرو بن شعيب هذا، ورد على ابن حبان.

بهذا الإسناد نسخةكبيرة أكثرها فقهيات جياد. وشعيب هذا هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. قد احتج أكثر أهل الحديث بحديثه حملا لمطلق الجد فيه على الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص، دون ابنه محمد والد شعيب لما ظهر لهم من إطلاقه ذلك. ا. هـ وقال السيوطي في التدريب قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه وأبا عبيدة وعامة أصحابنا يحتجون بحديثه ما تركه أحد من المسمين، وقال مرة: اجتمع علي، ويحيى بن معين، وأحمد وأبو خيثمة وشيوخ من أهل العلم، فتذاكروا حديث عمرو بن شعيب، فثبتوه وذكروا أنه حجة، وقال أحمد بن سعيد الدارمي: احتج أصحابنا بحديثه. قال النووي في شرح المهذب: وهو الصحيح المختار الذي عليه المحققون من أهل الحديث، وهم أهل هذا الفن وعنهم يؤخذ حملا لجده على عبد الله الصحابي، دون محمد التابعي لما ظهر لهم في إطلاقه ذلك. وسماع شعيب من عبد الله بن عمرو ثابت. وقال إسحاق بن راهويه: عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده كأيوب، عن نافع عن ابن عمر. قال النووي: وهذا التشبيه غاية الجلالة من مثل إسحاق، وقد ألف العلائي جزءا مفردا في صحة الاحتجاج بهذه النسخة، والجواب عما طعن عليها قال: ومما يحتج به لصحتها احتجاج مالك بها في الموطأ، فقد أخرج عن عبد الرحمن بن حرملة عنه حديث: " الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب"! قال: وذهب قوم إلى ترك الاحتجاج به؛ لأن روايته عن أبيه عن جده كتاب ووجادة، فمنهنا جاء ضعفه؛ لأن التصحيف يدخل على الراوي من الصحف، ولذا تجنبها أصحاب الصحيح، وقال ابن حبان: إن أراد جده عبد الله فشعيب لم يلقه فيكون منقطعا، وإن أراد محمدًا فلا صحبة له فيكون مرسلًا. قال الذهبي وغيره: وهذا القول لا شيء

لأن شعيبا ثبت سماعه من عبد الله، وهو الذي رباه لما مات أبوه محمد. ا. هـ كلام السيوطي بحذف يسير. وقال ابن تيمية: "وكان عند آل عبد الله بن عمرو بن العاص نسخة، كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه شعيب عن جده، وقالوا: هي نسخة، وشعيب هو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. وقالوا: إن عني جده الأدنى محمدا، فهو مرسل فإنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وإن عني جده الأعلى عبد الله فهو منقطع، فإن شعيبا لم يدركه، وأما أئمة الإسلام وجمهور العلماء، فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده إذا صح النقل إليه مثل مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة ونحوهما، ومثل الشافعي وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيره. قالوا: الجد هو عبد الله فإنه يجيء مسمى، وشعيب أدركه. قالوا: وإذا كانت نسخة مكتوبة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان هذا أوكد لها، وأذل على صحتها، ولهذا كان في نسخة عمرو بن شعيب من الأحاديث الفقهية، التي فيها مقدرات ما احتاج إليه عامة علماء الإسلام1. ا. هـ. وأما الطريق الثاني الذي ضعفه الأئمةكما قال الشيخ، فهو وإن لم يصلح للاحتجاج به لكتابة الحديث، فهو يصلح شاهدا على ذلك، والحجة قائمة بغيره من الأحاديث الصحيحة. مناقشته في إهدار الأحاديث الضعيفة، إذا تعددت طرقها: وضعف حديث أنس، وحديث أبي بكر وحديث رافع بن خديج، وحديث حذيفة إلى غير ذلك، ونسي ما قرره العلماء من أن الأحاديث

_ 1 انظر قواعد التحديث ص36، 37.

الضعيفة إذا تعددت طرقها قوى بعضها بعضا، وأصبحت صالحة للاحتجاج فضلا عن الاعتبار، إذا كان الضعف ناشئا عن سوء حفظ الراوي، الصدوق الأمين كما هنا. فكيف وقد ورد في الإذن بالكتابة أحاديث صحيحة، بعضها يفيد العموم نصا، وبعضها يفيده دلالة. ثالثا: وبناء على ما سبق للشيخ من أن أحاديث الإذن بالكتابة، لا تدل للكتابة يرى أن الأحاديث الواردة في المنع من كتابة الحديث، أرجح من أحاديث الإذن بها، ويضيف إلى ذلك أن أقوى أحاديث المنع على الإطلاق، هو حديث أبي سعيد الخدري، عند مسلم وأحمد. فيقول: "وأما ما ورد في المنع فأقواه حديث أبي سعيد الخدري: "لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه"، وهو في صحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد، وهو أصح ما ورد في باب النهي عن كتابة الحديث والسنة". ا. هـ. ونحن نقول في الرد عليه: علمت أن أحاديث الإذن بالكتابة منها صحيح يدل عليها نصا، أو دلالة ومنها ضعيف تعددت طرقه، فيصلح للاعتبار أن قصر عن درجة الاحتجاج. فلم يبق إلا الجمع بينهما، وبين حديث أبي سعيد. وطريق الجمع أن يقال: إن النهي عن كتابة الحديث خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن بها في غير ذلك. أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في صحيفة واحدة، والإذن فيما إذا كتب الحديث في غير صحيفة القرآن. أو أن النهي خاص بمن خشي عليه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك. رابعا: حاول الشيخ أن يجمع بين أحاديث الإذن بالكتابة، والنهي عنها بما لا يصلح، فقال: "ولذلك وجوه أحدها. أن ما أمر بكتابته

لأبي شاه يحتمل أن يكون خاصا به. ثانيها. لعله كان سيئ الحفظ فأمر أن يكتب له كما طلب. ثالثها: أن حديث النهي عن الكتابة مقيدة بإبقاء المكتوب، وفيه الرخصة الصريحة لمن يكتب مؤقتا، ثم يمحوه ويؤيد هذا المعنى ما رواه ابن عبد البر، عن زيد بن ثابت، وابن مسعود وعلي في محو المكتوب. وما رواه من قول مالك: فمن كتب منهم الشيء، فإنما كان يكتبه ليحفظه، فإذا حفظه محاه. وهذا الوجه يصلح جوابا عن حديث الإذن لعبد الله بن عمرو بالكتابة، ويؤيده قول عبد الله. كنت أكتب كل شيء أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه فصرح بأنه كان يكتب ليحفظ. وقد علمت ما قاله أئمة الحديث في رواية حفيده، عن النسخةالمكتوبة، ويصلح أيضا جوابا عن صحيفة علي، وكتاب عمرو بن حزم". ا. هـ. ونحن نقول في الرد عليه: أن الخصوصية لا تثبت لمجرد الاحتمال، ودعوى أنه سيئ الحفظ، تحتاج إلى نقل صحيح، ولم يوجد ولو سلمناه، فليس حديث أبي شاه هو كل ما ورد في الإذن بالكتابة. وأما ذكره في الوجه الثالث من وجوه الجمع، فيعارضه أن عبد الله بن عمرو بن العاص، كان يكتب الحديث لا لضعف حفظه، ولكن ليرجع إليه عند الحاجة، وقد أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إذنا مطلا، فكتب عنه صحيفته الصادقة التي بقيت في آله إلى أن رواها عنه حفيده عمرو بن شعيب، واعتمدها أكابر المحدثين كالبخاري، ومالك، وأحمد، وإسحاق بن راهويه وغيره. ويعارضه أيضا ما ثبت أن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم، خص عليا رضي الله عنه بشيء من الوحي، فسأل عليا رضي الله عنه أبو جحيفة، وقيس بن عبادة

والأشتر النخعي في ذلك فقال علي كرم الله وجهه: ما عندنا شيء نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة، وكان فيها أحكام الديات، ومقاديرها، وأصنافها وحكم تخليص الأسير من يد العدو، والترغيب في ذلك وحكم تحريم قتل المسلم بالكافر، وفرائض الصدقة إلى غير ذلك من الأحكام. فلو كانت كتابة الحديث لأجل الحفظ فقط، ثم يجب محوها بعد ذلك لما بقيت صحيفة علي إلى زمن خلافته. وأما محو بعض الصحابة لما كتبوه، أو أمرهم بذلك فليس؛ لأن الكتابة منهي عنها على وجه البقاء. بل لخشيتهم أن يشتغل بها الناس عن القرآن، ولما يحفظوه بعد. أو؛ لأنهم رأوا أن الأولى التعويل على الحفظ استنهاضا لعزائم الناس، وهممهم على تنمية ملكة الحفظ التي فطر عليها العرب. أو؛ لأن هذه الصحف كات منقولة عن أهل الكتاب، فخافوا أن يشتغل بها الناس عن دينهم، بدليل ما رواه ابن عبد البر أن الأسود، وعلقمة أصابا صحيفة فانطلقا بها إلى عبد الله بن مسعود، فقالا: هذه صحيف فيها حديث حسن فأمر ابن مسعود بماء فمحاها وتلا: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ، قالا: انظر فيها فإن فيها حديثا عجيبا، فجعل يمحوها ويقول: هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره. قال أبو عبيدة "أحد رواة هذه القصة": يرى أن هذه الصحيفة أخذت من أهل الكتاب، فلذا كره عبد الله رحمه الله النظر فيها، وأذن فلا طريق للجمع بين أحاديث النهي، وأحاديث الإذن في الكتاب على وجه مقبول، إلا بما ذكرناه، واستظهرناه لا بما ذكره الشيخ، واستظهره. خامسًا: حاول الشيخ أن يقدم أحاديث النهي، عن الكتابة على أحاديث الإذن بها على تقدير صحتها، وتعذر الجمع بينها فقال: "ولو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة، والإذن بها تعارضا يصح أن

يكون أحدهما ناسخا للآخر، لكان لنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين. أحدهما: استدلال من روى عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة، ومنعها بالنهي عنها، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيهما: عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره، ولو دونوا، ونشروا لتواتر ما دونوه. ونقول في الرد عليه: أولا: أن أحاديث الإذن بالكتابة أصح عند المحدثين من أحاديث النهي بدليل أن البخاري وغيره، أعلوا حديث أبي سعيد الخدري في النهي عن كتابة الحديث. وقالوا: الصواب وقفه علي أبي سعيد مع أن هذا الحديث باعتراف الشيخ، هو أقوى أحاديث المنع على الإطلاق. ثانيا: أنه على تقدير التعارض بين أحاديث الإذن، والنهي فقد كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الإذن بالكتابة دون النهي عنها، بدليل ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه، قال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا، لا تضلوا بعده"، وفي بعض رواياته "لما حضرت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة"، وله من حديث سعيد بن جبير أن ذلك كان يوم الخميس، وهو قبل موته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام1. ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، هم قبيل وفاته أن يكتب لأمته كتابا يحصل معه الأمن من الاختلاف، وهو لا يهم إلا بحق. ثالثا: أن امتناع بعض الصحابة عن كتابة الحديث، ومنعهم منها لم يكن سببه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث، بدليل

_ 1 انظر جـ1 ص146 من فتح الباري.

أن الآثار الواردة عنهم في المنع، أو الامتناع من كتابة الحديث لم ينقل فيها التعليل بذلك، وإنما كانوا يعللون بمخافة أن يشتغل الناس بها عن كتاب الله، أو بمخافة أن يهمل الناس الحفظ اعتمادا على الكتابة، أو لغير ذلك من الأغراض. رابعا: إن عدم تدوين الصحابة للحديث، كما دونوا القرآن وجمعوه لم يكن لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث، وإنما كان خوف أن تختلط بصحف القرآن، فيلتبس على الناس أمر دينهم، في وقت لم يجمع القرآن فيه إلا نفر قليل من الصحابة. وقد روى البيهقي في المدخل، عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب، أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أردت أن أكتب للسنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم، كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا، فهذا الأثر يدل على جواز كتابة الحديث، بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم، أشاروا عليه بذلك، وأن عمر رضي الله عنه رأى أن يأخذ الحيطة لكتاب الله، ويتوثق لصيانته وذلك يستدعي أن تكون الكتابة قاصرة على القرآن، وأن يكتفي في الأحاديث بالحفظ لئلا يختلط الأمر على الناس، فما كان للصحابة أن يشيروا على عمر بكتابة السنن، إذا كان النهي عنها هو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لو كان النهي عن كتابة السنن باقيا، لما جاز لهم أن يسكتوا عن الإنكار على عمر عزمه على كتابة السنن، فضلا عن أن يشيروا عليه بكتابتها. هذا ولا بأس أن ننقل هنا نصوصا لبعض العلماء في كتابة الحديث، فنقول:

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إن السلف اختلفوا في ذلك -يعني كتابة العلم- عملا، وتركا، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان، ممن يتعين عليه تبليغ العلم1. ا. هـ. وقال أبو عمر بن عبد البر: "من كره كتاب العلم إنما كرهه لوجهين: لئلا يتخذ مع القرآن كتاب يضاهي به -ولئلا يتكل الكاتب على ما يكتب، فلا يحفظ فيقل الحفظ. ثم قال: وليس أحد اليوم على هذا، ولولا الكتاب لضاع كثير من العلم. وقد أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كتاب العلم ورخص فيه جماعة من العلماء، وحمدوا ذلك، وقد دخل على إبراهيم النخعي شيء في حفظه لتركه الكتاب. وعن منصور قال: كان إبراهيم يحذف الحديث فقلت له: إن سالم بن الجعد يتم الحديث، قال: إن سالما كتب، وأنا لم أكتب. قال ابن عبد البر: فهذا النخعي مع كراهته لكتابة الحديث، قد أقر بفضل الكتاب"2. ا. هـ. وقال ابن الصلاح في النوع الخامس والعشرين من مقدمته: اختلف الصدر الأول رضي الله عنهم في كتابة الحديث، فمنهم من كره كتابة الحديث والعلم، وأمروا بحفظه ومنهم من أجاز ذلك قال: ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته. ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة". ا. هـ3. فكيف يجمع المسلمون على نقيض آخر الأمرين، من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 انظر فتح الباري ج1 ص146. 2 انظر جامع بيان العلم وفضله جـ1 ص68، 70. 3 ص87-88.

سادسا: استخلص الشيخ من بحثه هذا أن الصحابة لم يدونوا الأحاديث؛ لأنهم لم يريدوا أن يجعلوها دينا عاما، دائما كالقرآن مؤيدا ذلك، يعمل عمر بن الخطاب على خلاف بعض الأحاديث. وباكتفاء علماء الأمصار، كأبي حنيفة بما بلغه منها وعدم تعنيه في جمعها. وبمخالفة الفقهاء لكثير من الأحاديث الصحيحة، ونحن ننقل ذلك عنه بالتفصيل، ونرد عليه فنقول: أ- قال الشيخ: وإذا أضفت إلى هذا ماورد في عدم رغبة الصحابة في التحديث، بل رغبتهم عنه بل في نهيهم عنه قوى عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث دينا عاما، دائما كالقرآن. ا. هـ. وتلك لعمر الله مقدمات عقيمة، ونتيجة باطلة وذلك؛ لأن الصحابة إنما أمروا بتقليل الرواية، لئلا يكثر الخطأ، أو السهو في الأحاديث فيدخلها ما ليس منها، ولئلا يتخذها المنافقون ذريعة للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولئلا ينصرف الناس عن القرآن، ولما يتمكن من نفوسهم فضل تمكن. كذلك لم يدونوا الأحاديث، لئلا يلتبس الأمر على عامة الناس فيضاهوا بصحف الحديث، صحف القرآن، ومخافة أن تقضي الكتابة على ملكة الحفظ فيهم. فلم يكن عدم تدوين الأحاديث، وقلة التحديث من الصحابة رضي الله عنهم لما ذكره الشيخ، من أنهم يريدون ألا يتخذوا الأحاديث دينا عاما، دائما فهذه نتيجة لا أساس لها. وأن القرآن العظيم ليفضح أمرها، ويكشف سترها. وقد تكلمنا في المقدمة على منزلة السنة في الدين، فارجع إليها إن شئت. ب- قال الشيخ: ولو كانوا فهموا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه يريد ذلك لكتبوا، ولأمروا بالكتابة، ولجمع الراشدون ما كتب

وضبطوا ما وثقوا به، وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه، ويعملوا به، ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة، المعروفة للجمهور بجريان العمل بها. وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية. ا. هـ. نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم، فهموا عن نبيهم أنه يريد أن تكون السنة دينا عاما، دائما. وكيف لا يفهمون ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، وهو يقول لهم في حجة الوداع قبل وفاته بقليل: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك، مما تحاقرون من أعمالكم واحذروا. إني قد تكت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه"، رواه الحاكم وصححه وله أصل في الصحيح، وكيف لا يفهم الصحابة عن نبيهم ذلك، وهو القائل: "من رغب عن سنتي، فليس مني"، رواه مسلم إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة المشهورة1. نقول: كيف لا يفهمون ذلك عن نبيهم، والقرآن يأمرهم بطاعته يحذرهم مخالفة أمره. ويحتم عليهم قبول حكمه، والإذعان لقضائه كما جاء ذلك في كثير من آياته. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، الآية. وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . الحق أن الصحابة فهموا أن السنة دين عام دائم كالقرآن، وكان هذا أمرا بدهيا عندهم لا يحتاج إلى استدلال، بل هو ضرورة من ضرورات الدين، وبدهي عند عامة المسلمين في جميع الأزمان حتى اليوم.

_ 1 انظر الترغيب والترهيب جـ1 ص40.

أما إنهم لو علموا ذلك لكتبوا، ولأمروا بالكتابة إلى آخر ما قاله الشيخ، فهذا غير لازم لما قدمناه لك. وأما إنهم اكتفوا بالقرآن، والسنة المتبعة المعروفة للجمهور إلخ. فهذا غير مسلم، ولا يقوله إلا من جهل طريقة الخلفاء الراشدين، وسائر الصحابة من ورائهم في العمل بأحكام الدين، وكيف كانوا يأخذونها، فقد تقدم لنا أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، كانا يطلبان الحكم أولا من القرآن، ثم إذا لم يجداه فيه طلباه في حديث رسول الله صلى الله عليه، وسلم فإن لم يوجد عندهما حديث في الحادثة سألا عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا لم يجدا عندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعا رؤوس الناس، وعلماء الصحابة وخيارهم للمشاورة، فيما عرض من الحوادث، ثم يقضيان بما اجتمعوا عليه. كما كان من عادتهما إنه إذا استبانت لأحدهما سنة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن قضى على خلافها، فإنه ينقض قضاءه، ويرجع إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقوم هذا حالهم في احترام السنة يقال فيهم إنهم لم يريدوا أن يتخذوها دينا عاما دائما. اللهم إن هذا إنكار للحقائق، وسير في طريق الخيال، وهوى متبع وإعجاب بالرأي: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} ، وإذا كان هذا حال العمرين، اللذين كانا أعلم الصحابة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال: إن الصحابة كانوا يكتفون بالقرآن، والسنة المتبعة المعروفة. ج- قال الشيخ: وإذا أضفت إلى ذلك كله، حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث، ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول، والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة

بما بلغه ووثق به من الحديث، وإن قل وعدم تعنيه في جمع غيره إليه، ليفهم دينه ويبين أحكامه قوى عندك ذلك الترجيح. ا. هـ. وللرد عليه نقول: أولًا: ما رمي به عمر بن الخطاب من أنه كان يخالف السنة، على مرأى ومسمع من الصحابة، فهذا حكم جائر بالنسبة لعمر بن الخطاب. أليس عمر هو القائل: "أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم"1، فهل هذا قول صحابي يفهم أن السنة ليست دينا عاما دائما، ويتعمد مخالفتها، أو هو قول من عرف للسنة قدرها، وحذر الناس عن مخالفتها، ونعى على أصحاب الرأي آراءهم المعارضة لها. أما ما ورد من حكم بعض الصحابة والتابعين، أو الأئمة المجتهدين على خلاف بعض الأحاديث، فإن لهم أعذارا تكلمنا عليها في مقدمة كتابنا هذا ينبغي للقارئ الرجوع إليها، ليتضح له المقام بما يرفع الملام عن هؤلاء الأئمة. ثانيا: يرمي الأستاذ علماء المسلمين في القرنين الأول، والثاني بعدم اهتمامهم بجمع الأحاديث، وأنت أيها القارئ إذا اطلعت على ما كتبناه، عن رحلة العلماء من الصحابة، والتابعين في القرن الأول وأعمال الأئمة في القرن الثاني، فإنك ترى العجب. ترى جهودا جبارة، بذلت في سبيل جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعناية فائقة بتمحيص الأسانيد، ونقد المتون ومناهضة الوضاعين بما لم يتوفر لدى أمة من الأمم.

_ 1 انظر أعلام الموقعين لابن القيم جـ1 ص45.

ثالثا: يرمى الأساذ أبا حنيفة بأنه كان يكتفي بالقليل من الأحاديث، ولا يكلف نفسه عناء البحث عن سائرها ليفهم دينه إلى آخر ما قال: ومعنى هذا أن أبا حنيفة يرى في السنة ما يراه الشيخ. ونعيذ أبا حنيفة كما نعيذ سائر علماء المسلمين من هذه الوصمة القبيحة. لقد كان أبو حنيفة إماما، وإماما مجتهدا يبذل وسعه، ويفرغ جهده في استطلاع الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة. وما جاء عنه من الأحكام، مخالفا لبعض الأحاديث فهو معذور فيه على ما بيناه في المقدمة، ونزيد هنا أن أبا حنيفة رضي الله عنه، اشترط في قبول الحديث شروطا شديدة، أملاها عليه البيئة التي عاش فيها، فقد كان بالعراق التي هي عش الخوارج والشيعة، وكثير من أخلاط الأمم، وأوشاب الناس الذين أخذوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قيل في العراق أنها "دار ضرب الحديث"، فلا عجب أن يتوقى الإمام أبو حنيفة لدينه، ويحتاط الحديث، لئلا يدخل عليه من الأباطيل ما يفسد عليه أمره، ولعل الذي دعا أبا حنيفة إلى عدم الإكثار من الرحلة في طلب الحديث، أن الكوفة كانت في الصدر الأول، مهبط الصحابة الذين بثوا أحاديثهم، وعلمهم في التابعين من أهل العراق إلى غير ذلك من الاعتبارات. وسيمر بك البيان الشافي في مبحث النزاع في حجية السنة في القرن الثاني. "د" قال الشيخ: "بل تجد الفقهاء -بعد اتفاقهم- على جعل الأحاديث أصلًا من أصول الأحكام الشرعية، وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين، وبيان ما يحتج به، وما لا يحتج به لم يجتمعوا على تحرير الصحيح، والاتفاق على العمل به، فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة لا سيما كتب الحنفية. فالمالكية والشافعية فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق عليها، وعلى صحتها، ولا يعد أحد منهم مخالفا لأصول

الدين، وقد أورد ابن القيم في أعلام الموقعين شواهد كثيرة جدا، من رد الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملا بالقياس، أو لغير ذلك ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقية. وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدا. ا. هـ. نعم إن الفقهاء اتفقوا عل جعل الأحاديث أصلا من أصول الأحكام الشرعية، ولم يخالف في ذلك أحد منهم، ولكن الأحاديث لم تجتمع كلها لدى إمام من الأئمة، حتى يكون اجتهاده، موافقا للنصوص في كل حال. بل وقع لهذا الفقيه من الحديث، ما لم يكن عند الآخر وصح عنده ما لم يصح عند غيره. لذلك وقع اختلافهم في الأحكام، ومخالفتهم للأحاديث في بعض الأحيان. ولم يكن ذلك منهم اتباعا للهوى، أو لفهمهم بأن السنة ليست دينا عاما، دائما بل لأسباب علمها العلماء، وألفوا فيها الرسائل، ومن هؤلاء الأئمة العلامة ابن تيمية، الذي ألف رسالة سماها. "رفع الملام عن الأئمة الأعلام": أما استدلال الشيخ باشتمال كتب الفقه في المذاهب المختلفة على مئات من المسائل، المخالفة للأحاديث الصحيحة، فنقول: إن جمود المتأخرين على التقليد وقف بالفقه في العصو المتأخر عن التقدم، ومسايرة الأدلة الصحيحة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو أنه وجد منهم نشاط علمي، فعرضوا مذاهب أئمتهم على الأحاديث الصحيحة، لرجعوا بالفقه إلى منبعه الأصلي من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولضاقت دائرة الخلاف بينهم. وهؤلاء الفقهاء المتأخرون هم الذين أنحى عليهم العلامة ابن القيم باللائمة، حيث يقدمون آراء أئمتهم على الحديث الصحيح، عن نبيهم صلى

الله عليه وسلم في حين أن هؤلاء الأئمة جميعا، كانوا يشيرون باتباع السنة، ويأمرون الناس بترك آرائهم إذا صح الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الشيخ عفا الله عنه خلط أعمال الفقهاء المتأخرين، الذين لا عذر لهم في ترك الأحاديث بأعمال الفقهاء المتقدمين، الذين كان لهم العذر في ذلك. كل هذا ليؤيد رأيه في أن الأحاديث النبوية ليست دينا عاما، دائما كالقرآن. وبعد فهذه الدعوى من الشيخ -عفا الله عنه- لا أساس لها بل هي تهدم نفسها بنفسها، فضلا عن أنها تخالف نصوص القرآن الكريم، وتتعارض مع ما تواتر من سنة الرسول الأمين، ولا تتفق وما أجمع عليه المسلمون في كافة الأزمان من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم.

الدور الرابع: السنة في القرن الثاني

الدور الرابع: السنة في القرن الثاني المبحث الأول: تدوين الحديث في هذا العصر وأشهر الكتب المؤلفة فيه ... الدور الرابع: السنة في القرآن الثاني الكلام على السنة في هذا القرن، يشتمل على خمسة مباحث: المبحث الأول: تدوين الحديث في هذا العصر، وأشهر الكتب المؤلفة فيه. المبحث الثاني: شيوع الوضع في الحديث، ومناهضة العلماء للوضاعين. المبحث الثالث: النزاع حول حجية السنة في هذا العصر. المبحث الرابع: تراجم لبعض مشاهير المحدثين في هذا العصر. المبحث الخامس: الرد على شبه لبعض المستشرقين. المبحث الأول: تدوين الحديث في هذا العصر، وأشهر الكتب المؤلفة فيه ظهر لك مما أسلفنا ما قام به الصحابة، والتابعون من جمع الحديث، والرحلة في طلبه، وذب الخرافات والأكاذيب عن ساحته، فانتشلوا الأحاديث من أيدي الخوارج والشيعة، ومن تظاهر بالإسلام من الفرس والروم، واليهود وغيرهم، وظهر لك أيضا أنهم أودعوا الأحاديث حوافظهم القوية، وقرائحهم الصافية، فكانوا بذلك في غنى عن الكتابة، وما روي عن بعضهم أنهم كانوا يكتبون الأحاديث، لم يكن منهم لضعف ملكة الحفظ، بل كان لزيادة التأكد من ضبط الأحاديث، وتحرير ألفاظها.

ثم لما انتشر الإسلام، واتسعت البلد، وشاع الابتداع، وتفرقت الصحابة بالأمصار، ومات كثير منهم في الحروب وغيرها، وقل الضبط لضعف ملكة الحفظ، دعت الحاجة إلى تدوين الأحاديث وكتابتها، فكتب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى إلى عامله، وقاضيه على المدينة أبي بكر بن حزم: "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء"، وأوصاه أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وكذلك كتب إلى عماله في أمهات المدن الإسلامية بجمع الحديث، وممن كتب إليه بذلك محمد بن شهاب الزهري. ومن هذا الوقت أقبل العلماء على كتابة السنن وتدوينها، وشاع ذلك في الطبقة التي تلي طبقة الزهري. فكتب ابن جريج بمكة "150"، وابن إسحاق "151"، ومالك "179" بالمدينة، والربيع بن صبيح "160"، وسعيد بن أبي عروبة "156"، وحماد بن سلمة "176" بالبصرة، وسفيان الثوري "161" بالكوفة، والأوزاعي "156" بالشام، وهشيم "188" بواسط، ومعمر "153" باليمن، وجرير بن عبد الحميد "188"، وابن المبارك "181" بخراسان. كان هؤلاء جميعا في عصر واحد، ولا يدري أيهم أسبق إلى جمع الحديث، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم، وكانت طريقتهم في جمع الحديث، أنهم يضعون الأحاديث المتناسبة في باب واحد، ثم يضمون جملة من الأبواب بعضها إلى بعض، ويجعلونها في مصنف واحد، ويخلطون الأحاديث بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، على خلاف ما كان يصنعه أهل القرن الأول كالزهري، فإنهم كانوا

يخصون كل مؤلف بباب من أبواب العلم، يجمعون فيه الأحاديث المتناسبة مختلطة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين. بدأ التدوين في أواخر عهد بني أمية على ما ذكرنا، ولكن لم يظهر شأنه تمام الظهور إلا في خلافة بني العباس، حول منتصف القرن الثاني، إذ نشطت حركة التدوين في العلوم المختلفة، وأخذت السنة حظها من ذلك1 في هذا الدور على النحو الذي سبق، ولكن أين هذه المؤلفات الحافلة، التي جمعها الزهري، ومن تلاه من المحدثين؟، إنه لم يصلنا منها إلا القليل، كموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام الشافعي، والآثار للإمام محمد بن الحسن الشيباني أحد رواة الموطأ المتوفى سنة 189. ولعل سنة التطور في التأليف، هي التي قضت على هذه المؤلفات، والتاريخ يحدثنا أن التأليف في الفنون المختلفة الحديث وغيره، أخذ في التحسن طبقة بعد طبقة، وعصرا بعد عصر، حتى وصل إلى الذروة في الجودة والإتقان، ولا ضير في ذلك ما دامت مادة الأحاديث، التي رويت في كتب الزهري، وغيره موجودة في المصنفات التي تتجدد في كل عصر، آخذة لونا من الترتيب والتهذيب، يتناسب وذوق العصر الذي وضعت فيه، ولنتكلم على أشهر الكتب المؤلفة في هذا الدور فنقول: موطأ الإمام مالك: الموطأ كتاب ألفه الإمام مالك، مشتملا على حديث رسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة وفتاوى التابعين. طلب أبو جعفر

_ 1 مقدمة فتح الباري ص4، ومفتاح السنة وكشف الظنون ج2 ص266 وتدريب الراوي للسيوطي ص24، وتاريخ الخلفاء له أيضا ص173.

المنصور الخليفة العباسي إلى الإمام مالك، أن يجمع ما ثبت لديه، ويدونه في كتاب، ويوطئه للناس، فألف كتابه هذا وسماه الموطأ. وقيل: إن سبب تسميته بذلك أنه لما ألفه عرضه على شيوخه، فواطؤوه عليه فسمي الموطأ. ذكر السيوطي في مقدمته لشرح الموطأ أن مالكا قال: "عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ". تحرى مالك في موطئه القوي من حديث أهل الحجاز، حتى قالوا: إنه مكث في تأليفه أربعين سنة كاملة ينقحه، ويهذبه. روى السيوطي في مقدمته لشرح الموطأ عن الأوزاعي أنه قال: عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يوما، فقال: "كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوما؟ ما أقل ما تفقهون فيه". ومن عادة مالك في موطئه أن يذكر في مقدمة الموضوع، ما جاء فيه من الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ما ورد فيه من الآثار عن الصحابة والتابعين، وندر أن يكونوا من غير أهل المدينة؛ لأن مالكا لم يرحل عنها، وأحيانا يذكر ما عليه العمل أو الأمر المجتمع عليه في المدينة، وأحيانا يتبع الحديث بتفسير كلمة لغوية، أو بيان المراد من بعض الجمل. درجة أحاديث الموطأ: المتتبع لسيرة مالك في الحديث يجد أنه كان يتحرى في المتون، وينتقي في الأسانيد، شهد له بذلك العلماء قديما وحديثا. ولما كان الموطأ هو خلاصة لجهود هذا المحدث الكبير، والإمام القدير، في أربعين عاما جاء كتاب عظيما، متقنا في بابه، غاية في المتانة، وقد بين العلماء سلفا، وخلفا أن أحاديث الموطأ كلها صحيحة، وأن أسانيده وردت جميعها متصلة،

أما ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني: "أن كتاب مالك صحيح عنده، وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل، والمنقطع وغيرهما"، فهو يعبر عن رأيه الخاص، ولكن يرى غيره من العلماء أنه ليس في الموطأ حديث مرسل، ولا منقطع إلا قد اتصل سنده من طرق أخرى، وعليه فأحاديثه صحيحة من هذا الوجه، وقد تناول الناس أحاديث الموطأ بالتخريج، حتى في زمن مؤلفه، ووصلوا ما فيه من مرسلات ومنقطعات، ومن هؤلاء من شارك مالكا في شيوخه كالسفيانين، وابن أبي ذئب وغيرهم1. وهذا هو الحافظ ابن عبد البر أحد علماء القرن الخامس، يصنف كتابا حافلا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنطقع، والمعضل قال: وجميع ما فيه من قوله "بلغني"، ومن قوله عن "الثقة" عنده مما لم يسنده أحد وستون حديثا، كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث لا تعرف أحدها، وهو في باب العمل في السهو: "إني لا أنسى، ولكن أنسى لأسن"، والثاني: "وهو في باب ما جاء في ليلة القدر من كتاب الاعتكاف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرى أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته، ألا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر"، والثالث: "وهو في كتاب الجامع"، قول معاذ: "آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وضعت رجلي في الغرز أن قال: "حسن خلقك للناس"، والرابع وهو في باب الاستمطار بالنجوم في أواخر كتاب الصلاة: "إذا نشأت بحرية، ثم تشاءمت فتلك عين غديقة". ا. هـ.

_ 1 انظر حجة الله البالغة جـ1 ص133.

وهذه الأحاديث الأربعة ثبت ما يشهد بوصلها أيضا. قال ابن عبد البر في الحديث الأول أن معناه صحيح في الأصول، وقد قال سفيان: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد صحيح، وأما الحديث الثاني فقال السيوطي في كتابه تنوير الحوالك: له شواهد من حيث المعنى مرسلة ثم سردها، وأما الثالث فقد ورد معناه عند الترمذي، وأما الحديث الرابع، فيشهد له ما ذكره الشافعي في الأم بسنده من غير طريق مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا نشأت بحرية، ثم استحالت شامية فهو أمطرها"، هذا وقد تناول العلماء تلك الأحاديث الأربعة بالبحث والتمحيص، وحكموا بوصلها، فأفردها الحافظ ابن الصلاح في تأليفه وحكم بوصلها، وكذلك الحافظ بن مرزوق المعروف بالخطيب أفرد جزءا في أسانيدها، وكذلك ابن أبي الدنيا أسند اثنين منها في أقليد التقليد. ومما يدل على أن هذه الأحاديث الأربعة، متصلة كغيرها من أحاديث الموطأ قول سفيان بن عيينة: "كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا، ولا يحدث إلا عن ثقات الناس"1. وبناء على شهادة العلماء من السلف، والخلف لهذا الكتاب بالصحة، والاتصال في جميع أحاديثه لا يسعنا إلا أن نتبعه في ذلك، ولا ينبغي أن يظن غير هذا بمثل الإمام الكبير، والمحدث النقادة الجليل أما مدار الهجرة، وعالم أهل الحجاز. عدد أحاديث الموطأ: اختلف العلماء في عدد أحاديثه، فابن الهباب يقول: أن مالكا روى مائة ألف حديث جمع منها في الموطأ عشرة آلاف حديث، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة، ويختبرها بالآثار، حتى رجعت إلى خمسمائة، وأبو بكر الأبهري يقول: جملة ما في الموطأ من الآثار عن النبي صلى

_ 1 انظر إضاءة الحالك ص63، وما بعدها.

الله عليه وسلم وعن الصحابة، والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثا. المسند منها ستمائة حديث، والمرسل مائتان واثنتان وعشرون حديثا، والموقوف ستمائة وثلاثة عشر، ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون، وابن حزم يقول: أحصيت ما في الموطأ لمالك، وما في حديث سفيان بن عيينة، فوجدت في كل منهما من المسند خمسمائة حديث ونيفا، وثلثمائة مرسلا ونيفا، وفيه نيف وسبعون حديثا، قد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيها أحاديث ضعيفة وهَّاها جمهور العلماء. ا. هـ. وهذا الخلاف بينهم إنما هو راجع لاختلاف آخر في روايات الموطأ، فالعادون لحديثه، إنما قال كل منهم على حسب الرواية، التي وقعت له فقد نقل السيوطي في تدريبه عن الحافظ صلا الدين العلائي أنه قال: "روى الموطأ عن مالك جماعات كثيرة، وبين رواياته اختلاف من تقديم وتأخير، وزيادة ونقص ومن أكبرها زيادات رواية ابن مصعب قال ابن حزم: في موطأ ابن مصعب هذا زيادة على سائر الموطآت نحو مائة حديث". ا. هـ. كذلك في رواية محمد بن الحسن مائة وخمسة وسبعون حديثا زادها من غير طريق مالك، منها ثلاثة عشر عن أبي حنيفة، وأربعة عن أبي يوسف والباقي عن غيرها1. ومن ذلك اختلفت أقوال الناس في عد أحاديث الموطأ، وكل حكم بما علم. روايات الموطأ: نسخ الموطأ كثيرة، والذي اشتهر منها يبلغ نحو الثلاثين نسخة، وكثيرا ما يقع بينها الاختلاف بالتقديم، والتأخير والزيادة والنقصان

_ 1 انظر تدريب السيوطي ص32، وما بعدها ومفتاح السنة للخولي ص24.

حسب تزيد الرواة فيها، وقد ذكر السيوطي أن المشتهر عن الرواة أربع عشرة نسخة ثم سردها، منها: 1- نسخة يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي، سمع الموطأ أولا عن عبد الرحمن المعروف بشبطون، ثم رحل إلى مالك مرتين، وسمع منه الموطأ بلا واسطة، إلا ثلاثة أبواب في آخر كتاب الاعتكاف. 2- نسخة أبي مصعب أحمد بن أبي بكر القاسم، قاضي المدينة قالوا: إن موطأه آخر الموطآت التي عرضت على مالك، ويوجد في موطئه زيادة نحو مائة حديث عن سائر الموطآت. 3- نسخة الإمام محمد بن الحسن الشيباني، صاحب أبي حنيفة، وهو من أجل أصحاب مالك في الحديث، كما أنه من أعظم أصحاب أبي حنيفة في الفقه، ونسخته تزيد كثيرا على نسخة يحيى الليثي، لكنه شحنها بآثار من غير طريق مالك يحتج بها لفه أبي حنيفة، وهي مطبوعة في الهند وإيران، ولها هناك وفي الحرمين شهرة عظيمة، وقال في كشف الظنون: قال أبو القاسم محمد بن حسين الشافعي الموطآت المعروفة عن مالك أحد عشر موطأ، معناها متقارب والمستعمل منها أربعة: موطأ يحيى بن يحيى، وموطأ ابن بكير وأبي مصعب الزهري. وابن وهب ثم ضعف الاستعمال إلا في موطأ يحيى، ثم موطأ ابن بكير"1. شروح الموطأ: شرح الموطأ خلق كثير منهم: 1- الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري، القرطبي، المتوفى سنة 463هـ، وله عليه شرحان أولهما "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"، رتبه على أسماء شيوخ مالك على

_ 1 انظر إضاءة الحالك ص 40-51، وكشف الظنون جـ2 ص370.

حروف المعجم وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله. قال ابن حزم: "لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله. فكيف أحسن منه". وقال ابن عبد البر في وصف هذا الكتاب: سمير فؤادي من ثلاثين حجة ... وصاقل ذهني والمفرج عن همي بسطت لهم فيه كلام نبيهم ... لما في معانيه من الفقه والعلم وفيه من الآداب ما يهتدى به ... إلى البر والتقوى، ونهي عن الظلم والثاني: "كتاب الاستذكار في شرح مذاهب علماء الأمصار"، شرح فيه الموطأ على وجهه، وكان أبو عمر رضي الله عنه، موفقا في التأليف معانا عليه. 2- ومنهم جلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911، وسمى شرحه "كشف المغطى في شرح الموطأ"، واختصره في شرحه "تنوير الحوالك"، وطبع هذا الأخير مع الشرح بمصر في ثلاثة أجزاء صغيرة. 3- ومحمد بن عبد الباقي الزرقاني، المصري المالكي، المتوفى سنة 1014هـ شرحه شرحا وسطا في ثلاثة مجلدات. 4- وعبد الحي بن محمد اللكنوي الهندي المولود سنة 1264هـ في كتابه "التعليق الممجد على موطأ الإمام محمد"، وقد طبع بالهند. 5- كما شرح الموطأ قطب الدين أحمد بن عبد الرحيم، المحدث الحنفي الدهلوي، المتوفى سنة 1176 شرحه في شرحين أحدهما باللسان الفارسي، وسماه "المصفى" جرد فيه الأحاديث والآثار، وحذف أقوال مالك وبعض بلاغاته، وتكلم فيه كلام المجتهدين، وثانيهما بالعربية وسماه "المسوى" اكتفى فيه بذكر اختلافات المذاهب وعلى شيء من شرح الغريب وغيره مما لا بد منه1.

_ 1 انظر كشف الظنون جـ2 ص370، ومفتاح السنة ص27، والانتقاء لابن البر ص5-7، وإضاءة الحالك ص8-9.

مختصرات الموطأ: اختصره كثير من العلماء منهم الإمام، أبو سليمان الخطابي، المتوفى سنة "288" وأبو الوليد الباجي، المتوفى سنة "474". وابن رشيق القيرواني، المتوفى سنة "456"، وابن عبد البر وسمى كتابه التقصي في مسند الموطأ، ومرسله وأبو القاسم عبد الرحمن الغافقي الجوهري، المتوفى سنة "385هـ"، اشتمل مختصره على ستمائة وستة وستين حديثا مسندا1. عناية الناس بالموطأ: منذ ألف مالك الموطأ، والعلماء يضربون أكباد الإبل إلى المدينة يسمعونه منه، حتى لقد رواه عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل، فكان ذلك مصادقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الترمذي: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فما يجدون أعلم من عالم المدينة"، قال عبد الرازق: "هو مالك بن أنس". عني الناس بالموطأ على اختلاف مشاربهم، فكان منهم المبرزون من الفقهاء كالشافعي، ومحمد بن الحسن وابن وهب، وابن القاسم ومنهم نحارير المحدثين كيحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق بن همام، ومنهم الملوك والأمراء كالرشيد، وابنيه الأمين والمأمون، وبذلك اشتهر الموطأ في عصر مؤلفه، فانكب الناس جميعا عليه من جميع ديار الإسلام، القاصي منهم والداني ثم لم يأت زمان، إلا ازداد الموطأ فيه شهرة على شهرة، واشتدت عناية الناس به، ولا عجب فعليه بنى فقهاء الأمصار مذاهبهم حتى أهل العراق في بعض أمورهم،

_ 1 كشف الظنون جـ2 ص370، وإضاءة الحالك والرسالة المستطرفة ص11.

ولم يزل العلماء يخرجون أحاديثه، ويذكرون متابعاته وشواهده، ويشرحون غريبه، ويضبطون مشكله ويبحثون عن فقهه ويفتشون عن رجاله، كما لم يزل الخلفاء يعرفون له قدره. فهذا أبو نعيم يروى في الحلية عن مالك بن أنس أنه قال: شاورني هارون الرشيد أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه فقلت: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكل مصيب. فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله، وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله: ما أعلم أن لملك رحلة في طلب العلم، إلا للرشيد فإنه رحل بولديه الأمين، والمأمون لسماع الموطأ على مالك. وكان أصل الموطأ بسماع الرشيد بخزانة المصريين، ثم رحل لسماعه صلاح الدين الأيوبي إلى الإسكندرية، فسمعه على ابن طاهر بن عوف1. رأى بعض الكاتبين في الموطأ، والرد عليه: يزعم بعض الكاتبين العصريين أن مالكا رحمه الله، لم يكن محدثا وأن كتاب الموطأ لم يكن كتاب حديث، وآثار وقد ذهب إلى هذا الزعم الأستاذ علي حسن عبد القادر وأيده في كتابه: "نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي". ونحن ننقل لك بعض فقرات من كلامه في ذلك، ثم نكر عليها بالأبطال. قال الأستاذ في كتابه المذكور: "وكتاب مالك الأساسي هو الموطأ الذي يعد -إذا ما استثنينا المجموع لزيد- أول كتاب فقهي وصل إلينا في الإسلام على العموم، والذي يصور لنا على وجه التقريب إلى

_ 1 انظر حجة الله البالغة جـ1 ص133، كشف الظنون ج2 ص371- مفتاح السنة ص26، تاريخ الخلفاء ص195.

أي حد وصلت الخطوات في التدوين الفقهي إلى ذلك الوقت، ولا يمكن أن يعتبر الموطأ أول كتاب كبير في الحديث، فبالرغم مما له من مكانة في الإسلام، وما لمالك أمام دار الهجرة من تقدير، فإن كتابه لم يعتبر في الأصل كتابا في الحديث. ثم قال: والحقيقة أن كتاب مالك ليس كتاب حديثث بالمعنى الصحيح، كالكتب التي وضعها المحدثون في القرون التالية، ولم يذكر في تاريخ الكتب ضمن كتب الحديث. فهو في الواقع كتاب فقه. ليس من أجل أن الموطأ لم يستوعب جميع أبواب كتب الحديث الجامعة، بل من ناحية الغرض من هذا الكتاب ومن ناحية الوضع. لم يكن الغرض فيه الإتيان بالأحاديث الصحيحة التي كانت موجودة إذ ذاك وجمعها، وإنما كان الغرض عند مالك النظر في الفقه والقانون. ثم أخذ يستدل لذلك بأن مالكا أودعه أقوال الصحابة، وفتاوي التابعين وبعض آراء له. إلى أن قال: ومن هنا نرى أن مالكا لم يكن جامعا للحديث، ولكنه كان زيادة على هذا أولا، وبالذات شارحا للأحاديث من جهة النظر العملية، ويمكن التدليل على هذا بأمثلة كثيرة من الموطأ -وساق بعض الأمثلة، وبعد أن تكلم عن الرأي عند مالك، قال: فمن هذا يتبين لنا بسهولة أن مالكا لم يكن محدثا، وأن الحديث عنده لم يكن المعتمد الوحيد لديه1". من هذا نرى أن الأستاذ يبعد الموطأ من مجموعة الكتب الحديثية، ويخرج مالكا من زمرة أئمة الحديث، وسنرد عليه في كلا الأمرين. أولا: الرد على زعمه بأن الموطأ ليس كتاب حديث. رأينا الأستاذ يعتمد في إخراج الموطأ من كتب الحديث على أمرين.

_ 1 انظر ص244-249 من كتاب "نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي".

أحدهما أنه لم يكن غرض مالك أن يجمع كتابا في الحديث الصحيح، بل كان غرضه النظر في الفقه والقانون إلخ. ثانيهما وضع الكتاب، وترتيبه على أبواب الفقه. وللرد عليه نقول: 1- سلمنا أن غرض مالك النظر في الفقه، والقانون كما قلت، فهل يمنع هذا من أن يكون له مع ذلك غرض آخر، وهو جمع طائفة من الأحاديث الصحيحة في كتابه، فيكون كتابا جامعا للحديث النبوي، وللفقه الإسلامي وبذلك يكون مرجعا للعلماء على اختلاف مشاربهم، محدثين وفقهاء؟ بل هذا هو الواقع الذي حدثنا عنه التاريخ. فقد روى الثقات أن علماء الأمصار على اختلاف منازعهم، رحلوا إلى المدينة لسماع الموطأ من مالك، وكان منهم الفقهاء المجتهدون أمثال مالك، كالشافعي الإمام، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف صاحبي أبي حنيفة النعمان. فسماع هؤلاء للموطأ وروايتهم له ونظرهم فيه ورجوعهم عن بعض المسائل إلى ما دل عليه الحديث من الموطأ، كما حصل من الإمام محمد بن الحسن، أكبر دليل على أن الموطأ أدخل في باب الحديث منه في باب الفقه، والرأي. هذا وقد سبق لك عناية المحدثين بالموطأ، حتى في عصر مالك نفسه أمثال يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرازق بن همام وغيرهم، حتى الملوك والأمراء أمثال الرشيد. وصلاح الدين الأيوبي مما يدلك على أن الموطأ أقرب إلى الحديث منه إلى الفقه. 2- أن استدلال الأستاذ بوضع الكتاب على هذا النحو من ترتيبه على الأبواب، وإيداعه كثيرا من أقوال الصحابة، وفتاوى التابعين وبعض

آراء مالك على أنه كتاب فقه لا كتاب حديث. لا يدل على ما ذهب إليه، ولا يخرج الموطأ عن كونه كتاب حديث، فالبخاري الذي هو إمام المحدثين غير منازع، قد سلك هذه الطريقة في جامعه الصحيح، ورتبه على أبواب الفقه، وذكر فيه الموقوفات وكثيرا من الآيات القرآنية، وكان له اجتهادات وآراء مال إليا واستدل عليها في كتابه، ومع ذلك لم يقل أحد: "إن صحيح البخاري، ليس كتاب حديث، بل هو كتاب فقه، وإنه إلى الفقه أقرب منه إلى الحديث". ولم يكن من غرض البخاري على ما صرح به أن يستوعب الأحاديث الصحيحة، التي كانت موجودة في عصره، ويجمعها ولو كان ما يقوله الأستاذ حقا، لكان صحيح البخاري أولى بالخروج من جملة الكتب الحديثية، مع أنه من أمهاتها، والمقدم في الحديث على جميعها. فمسلك مالك في وضع كتابه على أبواب الفقه مختلطة أحاديثه بأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين لم ينفرد به عن سائر المحدثين في عصره، بل كانت تلك طريقة المحدثين عامة في التصنيف من أقران مالك أمثال ابن عيينة، وشعبة ابن الحجاج، وعبد الرزاق، والليث بن سعد وأضرابهم. ثانيا: الرد على زعمه أن مالكا لم يكن محدثا كثيرا ما يردد الأستاذ في كتابه أن مالكا، لم يكن معدودا في طائفة أهل الحديث مخالفا في ذلك إجماع أئمة المسلمين في كل قرن من القرون. ولعل الذي جعل الأستاذ يقول ذلك، أنه وجد مالكا يجتهد رأيه في بعض مسائل لم تسعفه فيها النصوص. أو أنه بنى ذلك الزعم على زعمه في الموطا أنه ليس كتاب حديث، بل هو كتاب فقه فمالك إذن عنده فقيه لا محدث، وقد تبين لك بطلان هذا الزعم فيما سبق. أما أن مالكا

كان يرى ويجتهد فهذا مسلم؛ لأنه إمام جليل بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، ولكن ذلك لا يخرجه عن كونهم محدثا من كبار المحدثين، وجهبذا من جهابذة النقاد. اجتمع لدى مالك ثروة حديثية عظيمة، لم تجتمع لأحد من أقرانه، فقد ذكروا أنه روى مائة ألف حديث، وأنه كان نقادة للرجال بحاثة عن الأسانيد أقر له بذلك أقرانه قبل تلاميذه، والناس في كل عصر يعتمدون على حديثه، حتى إن البخاري إذا وجد الحدي عن مالك، فإنه لا يعدل عنه، ثم إن المحدث لا يخرجه من زمرة المحدثين نظره في الرأي، وبلوغه درجة الاجتهاد، وتكلمه على تفسير القرآن وفقه الحديث، فذلك وإن كان يلحقه بصفوف الفقهاء، لكنه لا يخرجه عن حظيرة المحدثين النبهاء، وليس مالك ببدع في ذلك، بل كان غيره من المحدثين من جمع إلى الحديث الرأي والاجتهاد، وكان له مذهب خاص كالثوري، وابن عيينة، والأوزاعي وإن بادت مذاهبهم. وهذا هو البخاري بلغ درجة الاجتهاد، وكان له آراء خالف فيها كثيرا من الفقهاء، كما ستقف عليه فيما بعد. يقول الأستاذ تحت عنوان: "مكان الموطأ في تدوين الحديث1". على أن مالكا، وإن لم يكن محدثا حقيقيا، فقد أعطى للمحدثين فائدة كبيرة، وأمد البحث النقدي التاريخي بأداة ثمينة، وإن لم يكن ذلك غرض مالك ذلك أنه كان ينظر بالنسبة لأغراضه العملية، إلى ما هو معترف به في المدينة من الروايات، ولم يكن قد امتد إليه هذا الشك والارتياب في الحديث، الذي أقض مضاجع المحدثين المتأخرين. فإن مسألة الإسناد لم تكن بعد أمرا ضروريا بدليل أنا نجد ثلث الموطأ مرسلا، أو مقطوعا بلا خطام، ولا أزمة كما يقول المحدثون، وقد استعمل مالك بكل هدوء المراسيل

_ 1 ص250.

في استنتاجه الفقهي؛ لأنه لم يكن يدور في خلده إلا تأييده السنة، والعمل ولم يفكر كثيرا في النقد الشكلي، فمن أحاديثه البالغة 1720 نجد 600 "ستمائة" فقط مسندة و222 مائتين واثنين وعشرين مرسلة و613 "ستمائة وثلاثة عشر"، موقوفة و285 "مائتين وخمسة وثمانين" مقطوعة وبينما كان المحدثون يبحثون عن الطرق المختلفة للحديث، كان مالك يكتفي بطريق واحد الأمر، الذي يميز المحدث من غير المحدث. ولهذا نجد عند مالك كثيرا من الأحاديث، التي لا توجد عند المتأخرين". ا. هـ. ونقول للأستاذ: من أين يعطى مالك للمحدثين فائدة كبيرة، وهو غير محدث وهل فاقد الشيء يعطيه، ومن أين هو يمد البحث النقدي التاريخي بأداءة ثمينة في الوقت، الذي تقرر فيه أنه كان لا يعتني بالأسانيد، ولا يجمع طرق الأحاديث الأمر، الذي يميز المحدث عن غير المحدث أن هذا تناقض ظاهر. يقرر الأستاذ أن مالكا لم يكن يعني بالإسناد؛ لأن مسألة الإسناد لم تكن بعد أمرا ضروريا، فلم يكن قد سرى إلى مالك الشك في أمر الأسانيد، حتى يبحث عنها، واستدل على ذلك بوجود المراسيل، والموقوفات والمقاطيع في الموطأ -وهذا افتيات على التاريخ. من الذي قال: إن مسألة الإسناد لم تعد بعد أمرا ضروريا؟، والناس من زمن فتنة الخوارج، والشيعة في عناء البحث عن الأسانيد، وتمييز الغث من السمين، وكلما امتد الزمان كثر الكذابون والمتقولون في الأحاديث خصوصا في عصر مالك، وكيف يرمي الأستاذ مالكا بالغفلة، وعدم الإمعان فيما يتلقاه من العلم، وهو القائل: ربما جلس إلينا الشيخ، فيحدث جل نهاره ما نأخذ عنه حديثا واحدا ما بنا أن تهمه، ولكن لم يكن من أهل الحديث. وكيف لا ينظر مالك في الرجال، ويفحص الأسانيد وهو القائل: "أدركت جماعة من أهل المدينة

ما أخذت عنهم شيئا من العلم، وإنهم لمن يؤخذ عنهم العلم وكانوا أصنافا، فمنهم من كان كاذبا في أحاديث الناس، ولا يكذب في علمه فتركته لكذبه في غير علمه، ومنهم من كان جاهلا بما عنده فلم يكن عندي أهلا للأخذ عنه، ومنهم من كان يرمي برأي سوء"، وكيف لا يكون مالك محدثا، وهذا يحيى بن سعيد القطان يقول: كان مالك إماما في الحديث"، وهذا أبو قدامة يقول: كان مالك أحفظ أهل زمانه1. أما وجود المراسيل، والموقوفات والمقطوعات في الوطأ، فقد كان مالك يرى الاحتجاج بها، وقد تقدم لك الكلام على ذلك فيما سبق، ويكفي في توثيقه قول سفيان بن عيينة وهو من أقرانه: "كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا، ولا يحدث إلا عن ثقات الناس". الحق أن مالكا كان إماما في الفقه والحديث معا.

_ 1 انظر ترجمة مالك في الانتقاء لابن عبد البر.

المبحث الثاني: شيوع الوضع في الحديث في هذا العصر

المبحث الثاني: شيوع الوضع في الحديث في هذا العصر بالرغم من تعاون الكتابة، والحفظ على جمع الحديث وضبطه في هذا الدور فإنه قد انبث جراثيم الشر، وعوامل الفتنة من الذين أخذوا يضعون الأحاديث، ويلقون على الناس الأساطير، وينشرون فيهم الخرافات والأكاذيب. وجد في هذا الوقت طوائف كثيرة تعمل على إفساد الحديث، وتجتهد في تزييفه، وأشهر هذه الطوائف هم الدعاة السياسيون، والقصاص، والزنادقة ونحن نذكر لك شيئا من أعمال كل طائفة من هذه الطوائف الثلاثة لترى مقدار خطرهم على الحديث، كما ترى أن مهمة أهل الحديث في ذلك العصر كانت من الصعوبة بمكان. أولا: الدعاة السياسيون: قامت الدولة العباسية على أنقاض دولة بني أمية، فكان هذا العصر عصر انتقال سياسي خطير، انتقلت فيه الخلافة من بيت إلى بيت. وبالضرورة لم يكن هذا الانتقال طفرة. بل تقدمه دعوة سرية مكثت شطرا من الزمان لم يكن هذا الانتقال طفرة. بل تقدمه دعوة سرية مكثت شطرا من الزمان، تظهر حينا وسرعان ما تخبو حتى لمحها بعض الأدباء الأمويين، فقال يحذر قومه: أرى خلل الرماد وميض نار ... ويوشك أن يكون له ضرام لئن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام بدأت هذه الدعوة السرية من أول القرن الثاني، واتخذ لها من النقباء اثنا عشر رجلا من ورائهم سبعون آخرون، يأتمرون بأمرهم ويبثون الدعوة بين الناس مختفين في زي تجار حينا، وحينا في زي حجاج. مكثوا على هذا أعواما كثيرة وما أن جاء عام سبع وعشرين ومائة، حتى كمن خلف السار داهية السواس أبو مسلم الخراساني، الذي لعب دورا هاما في قلب الدولة الأموية، وإقامة الدولة العباسية. تزعم أبو مسلم الحركة الانقلابية في بلاد خراسان، فوجد نفوسا طيعة وقلوبا مستعدة لقبول الدعوة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بني العباس واستخدم لذلك الدعاة في طول البلاد وعرضها1. اتخذ هؤلاء الدعاة فيما اتخذوا الأحاديث النبوية مطية لأغراضهم.

_ 1 تاريخ الأمم الإسلامية للخضري ص20 في الكلام على الدولة العباسية.

السياسية فدسوا فيها ما ليس منها، مما يوافق تلك الأغراض ووضع الأحاديث التي تنذر بخلافة بني أمية، وتنفر الناس منهم وفي الوقت نفسه، وضعوا الحأاديث المبشرة بخلافة بني العباس لتحبب الناس فيهم. وإليك طائفة من هذه المفتريات: 1- أحاديث وضعوها للتنفير من بني أمية: من ذلك قولهم: أن رجلا قام إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية، فقال: سودت وجوه المؤمنين فقال: لا تؤنبني فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، ونزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، يملكها بنو أمية يا محمد، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات. وأنزل الله تعالى في ذلك: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} ، ثم يروون عن يعلى بن مرة أن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية، ويروون عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن. ومن ذلك ما يروونه أيضا: "رأيت بني أمية على منابر الأرض، وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء". 2- أحاديث وضعوها في التبشير بخلافة بني العباس: عن عبد العزيز بن بكار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"يلي ولد العباس من كل يوم يليه بنو أمية يومين ولكل شهر شهرين، وعن عبد الله بن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى العباس مقبلا، فقال: هذا عمي أبو الخلفاء الأربعين أجود قريش كفا وأجملها. من ولده السفاح والمنصور والمهدي. يا عمي بي فتح الله هذا الأمر وسيختمه برجل من ولدك". وعن ابن عباس مرفوعا: "إذا سكن بنوك السواد ولبسوا السواد، وكان شيعتهم أهل خراسان لم يزل الأمر فيهم حتى يدفعوه إلى عيسى بن مريم، وعنه صلى الله عليه وسلم، قال: "رأيت بني مروان يتعاورون على منبري فساءني ذلك، ورأيت بني العباس يتعاورون على منبري فسرني ذلك". هذا وهناك أحاديث، وضعها دعاة بني العباس مروية عن علي بن أبي طالب، أو بعض أولاده أو غيرهم وقصدهم بذلك تخدير أعصاب الشيعة، وصرفهم عن المطالبة بالخلافة لمن يتولونه وإليك طائفة منها. عن علي بن موسى الرضي عن أبي موسى، عن أبيه جعفر عن محمد، عن أبيه علي عن أبيه الحسين، عن أبيه علي بن أبي طالب مرفوعا: "هبط علي جبريل وعليه قباء أسود، وعمامة سوداء فقلت: "ما هذه الصورة التي لم أرك هبطت علي فيها"، قال: "هذه صورة الملوك من ولد العباس". قلت: "وهم على حق". قال: "نعم"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم للعباس وولده حيث كانوا، وأين كانوا". قال جبريل: "ليأتين على أمتك زمان يعز الله الإسلام بهذا السواد". قلت: "رياستهم ممن". قال: "من ولد العباس"، قلت: "وأتباعهم". قال: "من أهل خراسان". قلت: "وأي شيء يملك ولد العباس". قال: "يملكون الأصفر والأخضر، والمدر والسرير، والمنبر والدنيا، والمحشر والملك إلى المنشر".

ومن ذلك زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال للعباس -وعلي عنده: "يكون الملك في ولدك، ثم التفت إلى علي فقال: لا يملك أحد من ولدك". ويروون عن أم سلمة أنها قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا الخلافة فقالوا: ولد فاطمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن يصلوا إليها أبدا، ولكنها في ولد عمي صنو أبي حتى يسلموها إلى المسيح. 2- أحاديث وضعت للتنفير من بني العباس: ثم إننا نرى الشيعة وغيرهم من دعاة بني أمية بعد أن تم الأمر لبني العباس، أو كاد يضعون الأحاديث في التنفير منهم، والتحذير من طاعتهم. ومن ذلك ما يروونه عن سعيد بن المسيب أنه قال: لما فتحت أداني خراسان بكى عمر بن الخطاب، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك وقد فتح الله عليك مثل هذا الفتح؟، قال: وما لي لا أبكي والله لوددت أن بيننا وبينهم بحرا من النار. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أقبلت رايات ولد العباس من عقاب خراسان، جاءوا بنفي الإسلام فمن سار تحت لوائهم لم تنله شفاعتي يوم القيامة". وعن ثوبان مرفوعا: "ويل لأمتي من بني العباس، صبغوها وألبسوها السواد ألبسهم الله ثياب النار. هلاكهم على يد رجل من أهل بيت هذه، وأشار إلى أم حبيبة". وعن أبي شراعة قال: كنا عند ابن عباس في البيت، فقال: هل فيكم غريب قالوا: لا. قال: إذا خرجت الرايات السود فاستوصوا بالفرس خيرا، فإن دولتنا معهم فقال أبو هريرة: ألا أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وأنك هنا؟. حدث. قال: سمعته يقول:

"إذا أقبلت الرايات السود من قبل المشرق، فإن أولها فتنة وأوسطها حرج وآخرها ضلالة1". وهذه الأحاديث كلها أباطيل لا يعول عليها في قليل، ولا كثير ومنها ترى أن هؤلاء الدعاة لبني العباس، وخصومهم من الشيعة وغيرهم ممن لا خلاق لهم، ولا دين قد استباحوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحصلوا على تلك الأغراض الدنيئة. ثانيا: الزنادقة: هم، قوم من أعداء الإسلام تظاهروا به، وانتحلوا في الدين نحلا وآراء لا تتفق وأصوله العامة وقواعده المقررة، وغرضهم من ذلك استدراج العامة إلى الخروج من الإسلام، وإضعاف شوكة المسلمين وقد وجد منهم في هذا العصر خلق كثير أخذوا يضعون الأحاديث، لاجتذاب العامة إلى معتقدهم الزائف، ويغمرون الناس بوابل من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي جعل خلفاء بني العباس يتعقبونهم، ويقتلونهم أما؛ لأنهم كانوا يضعون الأحاديث في ذم بني العباس، وتنفير الناس منهم. وهذا باب فتنة يدخلون منه على المسلمين يضعفون به دولتهم وإما؛ لأن الخلفاء كانوا حريصين على دينهم. لا يهمنا أن يكون هذا أو ذك أو هما معا. بل الذي يهمنا أن هؤلاء الزنادقة، كذبوا كثيرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلقوا من الأحاديث ما لم يأت عنه بل ما ترده أصول الدين، والعقل السليم وغرضهم كما ذكرنا هو طمس

_ 1 انظر تاريخ الخلفاء للسيوطي ص9، وتفسيري ابن كثير والألوسي في سورتي الإسراء والقدر واللآلئ المصنوعة للسيوطي ج1 كتاب المناقب في مواضع متفرقة.

هذا الدين والقضاء على الأصل الثاني من أصوله، وهو الحديث النبوي عمدة المسلمين في الأحكام وفهم القرآن. يروي السيوطي في تاريخ الخلفاء1 عن ابن عساكر، عن ابن علية أنه قال: أخذ هارون الرشيد زنيقا، فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عني؟. قال له: أريح العباد منك. قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله كلها ما فيها حرف نطق به؟، قال: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا". ا. هـ. فمن هذه الحادثة تلمح الحالة، التي أصابت الحديث من عمل الزنادقة، كما ترى منها جهود المحدثين في ذلك العصر لتنقية الحديث، والتمييز بين الغث والسمين. فهذا زنديق واحد يضع ألف حديث، ولو امتد به الأجل لوضع الآلاف المؤلفة فما بالك بالزنادقة الكثيرين، الذين أخذوا يضعون الأحاديث في الخفاء؟. كان من الزنادقة من يكتب الحديث لشيخه فينتهز غفلة شيخه، ويدس في الكتاس كثيرا من الأحاديث المكذوبة، فيرويها الشيخ على أنها من حديثه. وكان المهدي العباسي يقول: أقر عندي رجل من الزنادقة أنه وضع أربعمائة حديث، فهي تجول في أيدي الناس إلى غير ذلك، مما شحنت به كتب الموضوعات. ثالثا: القصاص: احترف القصص طائفة من الجهلة بالحديث، الذين رق دينهم ليتكسبوا به، ولتكون لهم عند عامة الناس الحظوة، والصدارة ولقد لاقى المحدثون

_ 1 ص194.

منهم كل شدة ولحقهم من ورائهم العناء الكبير. ذلك أن طبيعة العامة تنجذب إلى كل غريب من القول، لا سيما القصص فأقبلوا على هؤلاء القصاص، الذين أخذوا يضعون الأقاويل -ويروونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منها بريء، ونحن نذكر لك بعض الحوادث، التي تدل على مبلغ إفسادهم للحديث، ومقدار تعلق العامة بهم حتى إنهم كانوا يفضلونهم على الأئمة من العلماء. 1- روى ابن الجوزي في كتابه "القصاص والمذكرين"، عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال: كنت مع شعبة، فدنا منه شاب فسأله عن حديث: فقال له: أقاص أنت؟ قال: نعم. قال: اذهب فإنا لا نحدث القصاص. فقلت له: لم يا أبا بسطام؟ قال: يأخذون الحديث منا شبرا، فيجعلونه ذراعا". فهذه شهادة من شعبة، وهو من أعيان المحدثين في هذا العصر، تلقي ضوءا على أعمال القصاص الإفسادية للأحاديث، كما أنها ترينا مبلغ تنبه العلماء لأفاعيلهم، ما يتزيدونه في الحديث من أباطيلهم. 2- وأخرج ابن الجوزي بسنده إلى حجر بن عبد الجبار الحضرمي أنه قال: كان في المسجد قاص يقال له: زرعة. فأرادت أم أبي حنيفة أن تستفتي في شيء فأفتاها أبو حنيفة، فلم تقبل وقالت: لا أقبل إلا ما يقول زرعة القاص، فجاء بها أبو حنيفة إلى زرعة فقال: هذه أمي تستفيك في كذا وكذا فقال: أنت أعلم مني وأفقه فافتها أنت قال أبو حنيفة: قد أفتيتها بكذا وكذا فقال زرعة: القول كما أبو حنيفة فرضيت وانصرفت1". فهذه القصة ترينا كيف كان القصاص يسيطرون على عقول العامة.

_ 1 انظر تحذير الخواص من أكاذيب القصاص ص80-81.

أبو حنيفة الذي بلغ في الفقه والعلم، والذكاء، والفهم مبلغا عظيما وطار صيته في الآفاق لا تقنع أمه بفتواه، حتى تطلب فتوى زرعة القاص. هذا ولم تكن هذه الفرق الثلاث تعمل وحدها في وضع الأحاديث بل كان وراءهم كثير من الفرق مجسمة، ومرجئة وغيرهم يختلقون الحديث، لترويج بدعهم كما كان وراءهم كثير من جهلة المتصوفة، يستبيحون وضع الأحاديث الأحاديث في الترغيب والترهيب، يرتجون من ورائها خيرهم وخير الناس، إلا غير هؤلاء ممن أضلهم الله. اتحدوا جميعا على وضع الأحاديث واختلاق الأسانيد. لكن الله تعالى لم يترك حديث نبيه صلى الله عليه وسلم تلعب به الأهواء، ويتزيد فيه الكذابون كما يشاءون. بل قيض في كل زمان من ينافح عنه، ويكافح دونه. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} . مناهضة العلماء للوضاعين: هيأ الله تعالى للدفاع عن الأحاديث في هذا العصر طائفة من فطاحل النقاد، وكبار الحفاظ انتدبوا أنفسهم لتخليص الحق من الباطل، وتقربوا إلى الله بالكشف عن أحوال هؤلاء الكذابين على رسوله صلى الله عليه وسلم المتزايدين في حديثه. وأنزلوا الرواة منازلهم، وبينوا للناس درجاتهم ولقبوهم بما يستحقونه من المحاسن، أو المثالب لا تأخذهم بأحد رحمة في دين الله فتراهم يقولون فلان ثقة. فلا حجة. فلان كذاب. فلان لين الحديث. فلان لا بأس به. فلا ضعيف. إلى غير ذلك من ألقاب الرعفة، أو سمات الضعة والسقوط. نشط علماء الحديث في هذا العصر -الذي يعرف عند المؤرخين بعصر التدوين- نشاطا عظيما في تدوين الحديث، حتى لم يبق أحد منهم.

إلا صنف الكتب الحديثية، ورحل في سبيل ذلك المراحل العديدة، وقطع الأسفار البعيدة إلى الأمصار الإسلامية المختلفة. فتجمع لديهم ثروة عظيمة من الأحاديث، وتعددت أمامهم طرقها وأسانيدها وبسبب ذلك انكشف لهم ما كان خافيا من اتصال بعض الأسانيد، أو انقطاعها وبإمعانهم النظ في متون الأحاديث، وفحصهم الدقيق عن قيمتها ظهر لهم الدخيل من غير الدخيل منها، فكانت نهضة مباركة في جمع الحديث، وثورة عنيفة في وجوه الوضاعين غير أنهم لم يصلوا إلى هذه المرحلة الحاسمة، والنصر المبين على أعداء الإسلام الألداء إلا بشق الأنفس. فهذا أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة يقول ما خلاصته: كان سفيان ووكيع وأمثالهما يجتهدون غاية الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث1. فإذاكان الحديث الواحد المستوفي الشرائط، لا يمكن الحصول عليه إلا من بين الف حديث سواه من ضعيف وموضوع. ظهر لنا ما كان يكابده هؤلاء الأئمة من جهد جهيد، حتى أبلوا ذلك البلاء المبين، وفي الحق أن علماء الحديث أبانوا عن علم غزير في الحديث، ورجاله ومتونه، وأسانيده كا أظهروا حيطة شديدة في الأخذ والتحمل عن الشيوخ. فأنت تراهم لم يكتفوا في تصحيح الحديث بدين الراوي وأمانته، وكثرة حفظه حتى يكون مع ذلك ضابطا عارفا بما يتحمله من الحديث غير متساهل فيه. فهذا مالك بن أنس يقول: "لا يؤخذ العلم عن أربعة، ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا يؤخذ عن سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى، يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذ في أحاديث الناس، وإن كان لا يتهم

_ 1 انظر حجة الله البالغة جـ1 ص148.

على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من شيخ له فضل، وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به"1، وسئل مالك أيؤخذ العلم ممن ليس له طلب ولا مجالسة فقال: لا. فقيل: أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ ولا يفهم مايحدث به فقال: لا يكتب العلم إلا عمن يحفظ، ويكون قد طلب وجالس الناس، وعرف وعمل ويكن معه ورع"، ويقول مالك أيضًا: لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين، فما أخذت عنهم شيئا، وأن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أمينا؛ لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا ابن شهاب، فكنا نزدحم عند بابه"، وهذا عبد الله بن المبارك يقول: قلت لسفيان الثوري: أن عباد بن كثير من تعرف حاله، وإذا حدث جاء بأمر عظيم أترى أن أقول للناس: لا تاخذوا عنه؟ قال سفيان: بلى. قال عبد الله: فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد أثنيت عليه في دينه، وأقول: لا تأخذوا عنه". وهذا يحيى بن سعيد القطان، يقول: "لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث"2. وهذا سفيان الثوري يقول: إني أحب أن أكتب الحديث على ثلاثة أوجه. حديث أكتبه أريد أن أتخذه دينا. وحديث رجل أكتبه، فأوقفه لا أطرحه ولا أدين به، وحديث رجل ضعيف أحب أن أعرفه ولا أعبأ به. والأوزاعي رضي الله عنه يقول: "تعلم ما لا يؤخذ، كما تتعلم ما يؤخذ3". وهذا خليفة المسلمين في القرن الثاني هارون الرشيد يقول للزنديق، وقد قال: أني وضعت ألف حديث على رسول الله. فأين أنت يا عدو الله من أبي

_ 1 الانتقاء لابن عبد البر ص15-16. 2 انظر هذه الآثار في توجيه النظر ص35، 36. 3 انظر جامع بيان العلم وفضله جـ1 ص76.

إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا"، وتقدم لك هذا الأثر قريبا. من هذا كله يظهر لك جليا ما كان عليه أئمة الحديث، في هذا العصر من بصيرة نقادة، ومعرفة تامة بالسنة متونها وأسانيدها، فتراهم غربلوا الرواة وأقصوا كثيرا منهم عن حظيرة السنة، والتمتع بشرف روايتها. كما ميزوا الأحاديث، فحديث علموا صحته، وعملوا به وحديث علموا كذبه فتركوه، وحديث تبين لهم ضعفه فلم يعتمدوا عليه وحده، وحديث اشتبه أمره فتوقفوا فيه، حتى يظهر حاله وينكشف أمره. وتراهم يأمرون بحمل جميع ما يسمعونه لينتقوا منه الصحيح، حتى أصبحوا بحق صيارفة الحديث، ونقاد الأسانيد. وإليك جملة مما ذكره ابن عدي في كامله، تلقي لنا ضوءا على جهود هؤلاء الجهابذة في هذا العصر قال رحمه الله ما نصه: "وأما القرن الثان فقد كان في أوائله من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء. وضعف أكثرهم نشأ غالبا من قبل تحملهم وضبطهم للحديث. فكانوا يرسلون كثيرا ويرفعون الموقوف، وكانت لهم أغلاط، وذلك مثل أبي هارون العبدري المتوفى سنة 143هـ. ولما كان آخر عصر التابعين، وهو حدود الخمسين ومائة تكلم في التعديل، والتجريح طائفة من الأئمة فضعف الأعمش المتوفى سنة 128هـ جماعة ووثق آخرين. ونظر في الرجال شعبة المتوفى سنة 160هـ، وكان متثبتا لا يكاد يروي إلا عن ثقة. ومثله مالك المتوفى سنة 179هـ، وممن كان في هذا العصر إذا قال: قبل قوله معمر المتوفى سنة 153، وهشام الدستوائي المتوفى سنة 154، والأوزاعي المتوفى سنة 156هـ. وسفيان الثوري المتوفى سنة 161هـ.

وابن الماجشون المتوفى سنة 213هـ، وحماد بن سلمة المتوفى سنة 167هـ. والليث بن سعد المتوفى سنة 175. وبعد هؤلاء طبقة. منهم ابن المبارك المتوفى سنة 181. وهشيم بن بشير المتوفى سنة 188هـ. وأبو إسحاق الفزاري المتوفى سنة 185هـ. والمعافى بن عمران الموصلي المتوفى سنة 185هـ. وبشر بن المفضل المتوفى سنة 186هـ. وابن عيينة المتوفى سنة 197هـ. وقد كان في زمنهم طبقة أخرى منهم ابن علية المتوفى سنة 193هـ. وابن وهب المتوفى سنة 197هـ. ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197هـ. وقد انتدب في ذلك الزمان لنقد الرجال، الحافظان الحجتان يحيى بن سعيد القطان، المتوفى سنة 189، وعبد الرحمن بن مهدي المتوفى سنة 198هـ، وكان للناس وثوق بهما فصار من وثقاه مقبولا، ومن جرحاه مجروحا. ومن اختلفا فيه، وذلك قليل رجع الناس إلى ما ترجح عندهم. ثم ظهرت بعدهم طبقة أخرى يرجع إليهم في ذلك، منهم يزيد بن هارون المتوفى سنة 206هـ، وأبو داود الطيالسي المتوفى سنة 204، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة 211هـ، وأبو عاصم الضحاك النبيل بن مخلد المتوفى "سنة 212هـ". ا. هـ1.

_ 1 توجيه النظر ص114.

المبحث الثالث: النزاع حول حجية السنة في القرن الثاني

المبحث الثالث: النزاع حول حجية السنة في القرن الثاني رأيت كيف عمل الوضاعون على إفساد الحديث النبوي، كما رأيت جهود الأئمة في مناهضتهم، وتزييف ما قذفوا به من أباطيلهم وأكاذيبهم. والآن نحدثك عن خصوم آخرين للسنة، ظهروا في هذا العصر أيضا بمبدأ خبيث وأقاموها حربا شعواء على الحديث وأئمة الحديث. كان هؤلاء القوم طوائف مختلفة، فطائفة رفضوا السنة جملة وتفصيلا، وأنكروا أن تكون أصلا من أصول التشريع الإسلامي، زاعمين أن في القرآن غنية لهم عن كل ما سواه، وأنه يتعذر الاطمئنان إلى الأحاديث من جهة أنه يجوز على رواتها الخطأ، والنسيان، والكذب، وطائفة أخرى قالوا: لا نقبل من الحديث، إلا ما كان بيانا لما نطق به الكتاب العزيز، وطائفة ثالثة قالوا: لا نقبل من السنة أخبار الخاصة التي ترعف عند المحدثين "بأخبار الآحاد" مهما كان رواتها من العدالة والضبط، ولا نعتمد إلا ما تواتر نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم. تلك هي الطوائف، التي لم تقم للسنة وزنا، ولم ترفع لها رأسا في هذا العصر، وهي لا تقل خطرا عن الطوائف الأخرى، التي حاول تزييف السنة عن طريق الكذب عليه صلى الله عليه وسلم. وقد تصدى للرد على هذه الفرق المبطلة، كثير من أئمة المسلمين وفي مقدمتهم الإمام الجليل، محمد بن إدريس الشافعي، الذي وهبه الله تعالى بيانا ناصعا، وحجة دامغة، ومقدرة علمية فائقة. وقد جاء في كتابه المعروف "بالأم" رواية الربيع بن سليمان المرادي عنه حوار بينه، وبين بعض المنسوبين إلى هذه الفرق، كما جاء في رسالته المشهورة دفاع مجيد عن السنة وحجيتها. ونحن نذكر لك طرفا من أقواله، لتكون على بينة مما قام به العلماء في القضاء على هذه الطوائف الزائغة. مناظرة الإمام الشافعي لمن يرد الأحاديث كلها: قال الشافعي رحمه الله تعالى: قال لي قائل: ينسب إلى العلم بمذهب أصحابه. أنت عربي والقرآن نزل بلسان من أنت منهم. وأنت أدرى بحفظه. وفيه لله فرائض أنزلها. لو شك شاك قد تلبس عليه القرآن.

بحرف منها استتبته فإن تاب وإلا قتلته. وقد قال الله عز وجل في القرآن: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، فكيف جاز عند نفسك، أو لأحد في شيء فرضه الله أن يقول مرة الفرض فيه عام. ومرة الفرض فيه خاص، ومرة الأمر فيه فرض ومرة الأمر فيه دلالة. وإن شاء ذو أباحه. وكثر ما فرقت بينه من هذا. عندك حديث ترويه عن رجل، عن آخر، عن آخر أو حديثان، أو ثلاثة حتى تبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد وجدتك، ومن ذهب مذهبك لا تبرئون أحدا لقيتموه، وقدمتموه في الصدق والحفظ. ولا أحدا لقيت ممن لقيتم من أن يغلط، وينسى ويخطئ في حديثه، بل وجدتكم تقولون لغير واحد منهم أخطأ فلان في حديث كذا، وفلان في حديث كذا. ووجدتكم لو قال رجل لحديث أحللتم به، وحرمتم من علم الخاصة. "لم يقل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أخطأتم أو من حدثكم وكذبتم، أو من حدثكم"، لم تستتيبوه ولم تزيدوا على أن تقولوا له: بئس ما قلت، أفيجوز أن يفرق بين شيء من أحكام القرآن، وظاهره واحد عند من سمعه بخبر من هو كما وصفتم، وتقيمون أخبارهم مقام كتاب الله، وأنتم تعطون بها وتمنعون بها. قال: وإذا أقمتم على أن تقبلوا أخباهم، وفيهم ما ذكرت فما حجتكم فيه على من ردها، وقال: لا أقبل منها شيئا إذا كان يمكن فيهم الوهم، ولا أقبل إلا ما أشهد به على الله1، كما أشهد بكتابه الذي لا يسع أحدا الشك في حرف منه. أو يجوز أن يقوم شيء مقام الإحاطة2، وليس بها؟ فقلت له: من علم اللسان الذي به كتاب الله، وأحكام الله دله علمه بهما على قبول أخبار

_ 1 لا يقال إن هذا المشتبه يعترف بالسنة المتواترة أخذا من هذه العبارة لا يقال هذا؛ لأن بقية الكلام لا يدل عليه، ولعل سند هذه الطائفة في رد المتواتر أيضا أنه جاء من طرق آحادها ظني. 2 المراد من الإحاطة العلم اليقيني.

الصادقين عن رسول الله صلى الله وسلم ... قال: فاذكر شيئا أن حضرك. قلت: قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ، قال: فقد علمنا أن الكتاب كتاب الله. فما الحكمة؟. قلت: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أفيحتمل أن يكون يعلمهم الكتاب جملة، والحكمة خاصة وهي أحكامه؟ قلت: تعني بأن يبين لهم عن الله عز وجل مثل ما بين لهم في جملة الفرائض من الصلاة، والزكاة والحج وغيرها، فيكون الله تعالى قد أحكم فرائض من فرائضه بكتابه، وبين كيف هي على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: إنه ليحتمل ذلك. قلت: فإن ذهبت هذا المذهب، فهو في معنى الأول قبله الذي لا تصل إليه، إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن ذهبت مذهب تكرير الكلام؟، قلت: وأيهم أولى به إذا ذكر الكتاب والحكمة أن يكونا شيئين أو شيئا واحدا. قال: يحتمل أن يكونا كما وصفت كتابا، وسنة فيكونا شيئين، ويحتمل أن يكونا شيئا واحدا، قلت: فأظهرهما أولاهما وفي القرآن دلالة على ما قلنا، وخلاف ما ذهت إليه قال: وأين؟. قلت: قول الله عز وجل. {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} ، فأخبر أنه يتلى في بيوتهن شيئان. قال: فهذا القرآن يتلى فكيف تتلى الحكمة؟، قلت: إنما معنى التلاوة أن ينطق بالسنة كما ينطق بالقرآن. قال: فهذه أبين في أن الحكمة غير القرآن من الأولى. وقلت: افترض الله علينا اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: وأين؟. قلت: قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وقال الله عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} .

وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قال: ما من شيء أولى بنا أن نقوله في الحكمة من أنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان كما قال بعض أصحابنا. "إن الله أمر بالتسليم لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكمه إنما هو لما أنزله"، لكان من لم يسلم له أولى أن ينسب إلى عدم التسليم، لحكم الله منه إلى عدم التسليم لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: لقد فرض الله عز وجل علينا اتباع أمره. فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، قال: إنه لبين في التنزيل أن علينا فرضا أن نأخذ الذي أمرنا به، وننتهي عما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: والفرض علينا وعلى من هو قبلنا، ومن بعدنا واحد. قال: نعم. فقلت: فإن كان ذلك علينا فرضا في اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنحيط أنه إذا فرض علينا شيئا، فقد دلنا على الأمر الذي يؤخذ به فرضه قال: نعم. قلت: فهل تجد السبيل إلى تأدية فرض الله عز وجل في اتباع أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد قبلك أو بعدك ممن لم يشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت له أيضا. يلزمك هذا في ناسخ القرآن ومنسوخه. قال: فاذكر منه شيئا قلت. قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ، وقال في الفرائض: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} . فزعمنا1 بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آية الفرائض

_ 1 أي علمنا.

نسخت الوصية للوالدين والأقرين، فلو كنا ممن لا يقبل الخبر فقال قائل: الوصية نسخت الفرائض، هل نجد الحجة عليه إلا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: هذا شبيه بالكتاب والحكمة، والحجة لك ثابتة بأن علينا قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد صرت إلى أن قبول الخبر لازم للمسلمين لما ذكرت، وما في مثل معانيه من كتاب الله، وليست تدخلني أنفة من إظهار الانتقال، عما كنت أرى إلى غيره إذا بانت الحجة فيه، بل أتدين بأن علي الرجوع عما كنت أرى إلى ما رأيته الحق، وهنا سأل المناظر عن العام في القرآن، يبقى على عمومه مرة ويخصص مرة، فأجابه الإمام بأمثلة كثيرة ثم قال للمناظر: "فقد بان لك في أحكام الله تعالى في كتابه فرض طاعة رسوله، والموضع الذي وضعه الله عز وجل به من الإبانة عنه، ما أنزل خاصا، وعاما، وناسخا، ومنسوخا. قال: نعم، وما زلت أقول بخلاف هذا حتى بأن لي خطأ من ذهب هذا المذهب، ولقد ذهب فيه أناس مذهبين. أحد الفريقين لا يقبل خبرا، وفي كتاب الله البيان. قلت: فما لزمه؟. قال: أفضى به ذلك إلى عظيم من الأمر فقال: من جاء بما يقع عليه اسم صلاة، وأقل ما يقع عليه اسم زكاة، فقد أدى ما عليه لا وقت في ذلك ولو صلى ركعتين في كل يوم، أو في كل أيام. وقال: ما لم يكن فيه كتاب الله فليس على أحد فيه فرض، وقال غيره: ما كان فيه قرآن يقبل فيه الخبر، فقال بقريب من قوله فيما ليس فيه قرآن، فدخل عليه ما دخل على الأول أو قريب منه. ودخل عليه أن صار إلى قبول الخبر بعد رده، وصار إلى ألا يعرف ناسخا، ولا منسوخا، ولا خاصا، ولا عاما، وأخطأ. قال: ومذهب الضلال في هذين المذهبين واضح لست أقول بواحد منهما. ولكن هل من حجة في أن تبيح المحرم بإحاطة بغير إحاطة؟ قلت: نعم. قال: ما هو، قلت: ما تقول في هذا الرجل

إلى جنبي، أمحرم الدم والمال؟ قال: نعم. قلت: فإن شهد عليه شاهدان بأنه قتل رجلا، وأخذ ماله وهو هذا الذي في يديه. قال: أقتله فور وأدفع ماله الذي في يديه إلى ورثة المشهود له. قلت: أو يمكن في الشاهدين أن يشهدا بالكذب والغلط؟. قال: نعم. قلت: فكيف أبحث الدم والمال المحرمين بإحاطة شاهدين، وليسا بإحاطة قال: أمرت بقبول الشهادة. قلت: فإن كنت أمرت بذلك على صدق الشاهدين في الظاهر، فقبلتهما على الظاهر، ولا يعلم الغيب إلا الله، فأنا لنطلب في المحدث أكثر مما نطلب في الشاهد، فنجيز شهادة البشر لا نقبل حديث واحد منهم، ونجد الدلالة على صدق المحدث، وغلطه ممن شركه من الحفاظ، وبالكتاب وبالسنة ففي هذه الدلالات، ولا يمكن هذا في الشهادات. فقال لي: قد قبلت منك أن أقبل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمت أن الدلالة على معنى ما أراد بما وصفت من فرض الله طاعته، فأنا إذا قبلت خبره فعن الله قبل ما أجمع عليه المسلمون، فلم يختلفوا فيه، وعلمت ما ذكرت من أنهم لا يجتمعون، ولا يختلفون إلا على حق إن شاء الله تعالى". ا. هـ بحذف بعض الجمل1. استدلال الإمام الشافعي، رضي الله عنه على حجية خبر الواحد: ننقل لك فقرات مما جاء في رسالة الإمام القرشي، رضي الله عنه تحت عنوان "الحجة2 في تثبيت خبر الواحد"، قال الشافعي: قال لي قائل. اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنص خبر، أو دلالة يه أو إجماع فقلت له: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله

_ 1 ثم سأله عن حجية القياس، فأجابه وإن شئت أن تطلع على هذه المناظرة بتمامها، فانظر الجزء السابع من "الأم" ص250، وما بعدها. 2 ص401، وما بعدها طبع الحلبي.

ابن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها، ووعاها وأداها فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"، فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها، وأدائها امرأ يؤديها والمرء واحد دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يؤدي عنه حلال يؤتى وحرام يجتنب وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى ونصيحة في دين، ودنيا ودل على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه يكون له حافظا، ولا يكون فيه فقيها وأمر رسول الله بلزوم جماعة المسلمين، مما يحتج به في أن إجماع المسلمين إن شاء الله لازم. قال الشافعي: أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ أتاهم آت فقال: إن رسول الله قد أنزل عليه قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إل الكعبة"، وأهل قباء أهل سابقة من الأنصار وفقه، وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالها، ولم يكن لهم أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم به عليهم الحجة، ولم يلقوا رسول الله ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة، فيكونوا مستقبلين بكتاب الله، وسنة نبيه سماعا من رسول الله، ولا بخبر عامة وانتقلوا بخبر واحد إذا كان عندهم من أهل الصدق عن فرض كان عليهم، فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أحدث عليهم من تحويل القبلة. ولم يكونوا ليفعلوه إن شاء الله بخبر إلا عن علم بأن الحجة، تثبت بمثله إذا كان من أهل الصدق، ولا ليحدثوا أيضا مثل هذا العظيم في دينهم، إلا عن علم بأن لهم أحداثه، ولا يدعون أن يخبروا رسول

الله بما صنعوا منه. ولو كان ما قبلوا من خبر الواحد عن رسول الله في تحويل القبلة -وهو فرض- مما لا يجوز لهم لقال لهم: -إن شاء الله- رسول الله صلى الله عليه وسلم. قد كنتم على قبلة، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم به عليكم حجة من سماعكم مني، أو خبر عامة أو أكثر من خبر واحد عني. قال الشافعي: أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: "كنت أسقي أبا طلحة، وأبا عبيدة بن الجرح، وأبي بن كعب شرابا من فضيح1، وتمر فجاءهم آت. فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس2 لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت"، وهؤلاء في العلم والمكان من النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم صحبته بالموضع، الذي لا ينكره عالم، وقد كان الشراب عندهم حلالًا يشربونه، فجاءهم آت واحد، وأخبرهم بتحريم الخمر. فأمر أبوطلحة -وهو مالك الجرار- بكسر الجرار ولم يقل هو ولا هم ولا واحد منهم: نحن على تحليلها، حتى نلقى رسول الله مع قربه منا أو يأتينا خبر عامة. وذلك أنهم لا يهرقون حلالا إهراقه سرف، وليسوا من أهله والحال أنهم لا يدعون أخبار رسول الله بما فعلوا، ولايدع -لو كان ما قبلوا من خبر الواحد ليس لهم- أن ينهاهم عن قبول مثله. قال الشافعي: وأمر سول الله أنيسا أن يغدو على امرأة رجل ذكر أنها زنت. "فإن اعترف فارجمها"، فاعترفت فرجمها. قال الشافعي: وبعث رسول الله أبا بكر واليا على الحج في سنة

_ 1 قال في النهاية، هو شراب يتخذ من البسر المفضوح أي المشدوخ. 2 المهراس حجر مستطيل منقور يتوضأ منه ويدق فيه.

تسع وحضره الحاج من أهل بلدان مختلفة، وشعوب متفرقة فأقام لهم مناسكهم، وأخبرهم عن رسول الله بما لهم وما عليهم. وبعث علي بن أبي طالب في تلك السنة فقرأ عليهم في مجمعهم يوم النحر آيات من سورة براءة، ونبذ إلى قوم على سواء، وجعل لقوم مددا، ونهاهم عن أمور، فكان أبو بكر وعلي معروفين عند أهل مكة بالفضل والدين، والصدق، وكان من جهلهما، أو أحدهما من الحاج وجد من يخبره عن صدقما وفضلها. ولم يكن رسول الله ليبعث واحدا، إلا والحجة قائمة بخبره على من بعثه إليه إن شاء الله. قال الشافعي: وقد فرق النبي عمالا على نواحي عرفنا أسماءهم، والمواضع التي فرقهم عليها. وكل من ولي فقد أمره أن يأخذه ما أوجب الله على من ولاه عليه، ولم يكن لأحد عندنا في أحد ممن قدم عليه من أهل الصدق، أن يقول أنت واحد، وليس لك أن تأخذ منا ما لم نسمع رسول الله يقول أنه علينا. ولا أحسبه بعثهم مشهورين في النواحي، التي بعثهم إليها بالصدق، إلا لما وصفت من أن تقوم بمثلهم الحجة على من بعثه إليه. قال الشافعي: ولم تزل كتب رسول الله تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي، ولم يكن لأحد من ولاته ترك إنفاذ أمره، ولم يكن ليبعث رسولا إلا صادقا عند من بعثه إليه، وهكذا كانت كتب خلفائه بعده، وعمالهم وما أجمع المسلمون عليه من أن يكون الخليفة واحدا، والقاضي واحدا، والأمير واحدا والإمام واحدا قال: والولاة من القضاة وغيرهم يقضون، وتنفذ أحكامهم ويقيمون الحدود، وينفذ من بعدهم أحكامهم، وأحكامهم أخبار عنهم. قال الشافعي: ففيما وصفت من سنة رسول الله، ثم ما أجمع المسلمون عليه منه دلالة على فرق بين الشهادة، والخبر، والحكم.

احتياط علماء هذا العصر في قبول خبر الواحد: وقفت على ما كان من أهل الأهواء، نحو العمل بالسنة وأن منهم من ردها جمبلة، ومنهم من ردها إذا لم تكن بيانا للقرآن الكريم، ومنهم من لم يقبل منها إلا المتواتر خاصة. أما علماء الإسلام، فكانوا على وفاق في أن السنة أصل من أصول الدين المتواتر منها، وغير المتواتر إذا صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنهم اختلفوا في بعض الشروط، التي تصح بها السنة الآحادية. فاشترط الإمام مالك في قبول خبر الواحد، أن لا يعمل على خلافه الجمهور، والجم الغفير من أهل المدينة، إذ إن عملهم بمنزلة روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواية جماعة عن جماعة أولى بالقبول من رواية فرد عن فرد، واشترط الإمام أبو حنيفة في قبول خبر الواحد شروطا منها: 1- ألا يخالف السنة المشهورة سواء أكانت سنة فعلية، أم قولية عملا بأقوى الدليلين. 2- ألا يخالف المتوارث بين الصحابة، والتابعين في أي بلد نزلوه بدون اختصاص بمصر دون مصر. 3- ألا يخالف عمومات الكتاب، أو ظواهره فإن الكتاب قطعي الثبوت وظواهره، وعموماته قطعية الدلالة، والقطعي يقدم على الظني أما إذا لم يخالف الخبر عاما، أو ظاهرا في الكتاب، بل كان بيانا لمجمل فيه، فإنه يأخذ به حيث لا دلالة فيه بدون بيان. 4- أن يكون راوي الخبر فقيها إذا خالف الحديث قياسا جليا؛ لأنه إذا كان غير فقيه، يجوز أن يكون قد رواه على المعنى فأخطأ. 5- أن لا يكون فيما تعم به البلوى، ومنه الحدود والكفارات التي

تدرأ بالشبهات؛ لأن العادة قاضية أن يسمعه الكثير دون الواحد، أو الاثنين فلا بد والحالة هذه من أن يشتهر، أو تتلقاه الأمة بالقبول. 6- ألا يسبق طعن أحد من السلف فيه، وألا يترك أحد المختلفين في الحكم من الصحابة الاحتجاج بالخبر الذي رواه. 7- وألا يعمل الراوي بخلاف خبره، كحديث أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا، فإنه مخالف لفتوى أبي هريرة، فترك أبو حنيفة العمل به لتلك العلة. 8- أن لا يكون الراوي منفردا بزيادة في المتن، أو السند عن الثقات، فإن زاد شيئا من ذلك كان العمل على ما رواه الثقات احتياطا في دين الله، ولا تقبل زيادته1. أما جمهور المحدثين، والفقهاء وفي مقدمتهم الإمام الشافعي، رحمه الله فعلى أن صحة الحديث تثبت برواية الثقة عن الثقة، حتى يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الراوي واحدا فقط، ولم يقيموا لغير ذلك من الشروط وزنا، فإذا صح الحديث على هذا الوصف، كان أصلا من أصول الشريعة لا يقدم عليه عمل، ولا غيره وقد أطال الشافعي الحجاج، لهذا المذهب في الأم والرسالة ورد على المخالفين، وقد نال بهذا الدفاع، وغيره حظا كبيرا عند أهل الحديث الذين كانت لهم الكلمة العليا، ولهذا أطلق عليه أهل بغداد "ناصر السنة". هذا، والشافعي لا يحتج بالأحاديث المرسلة أخذا بالاحتياط، وإن خالف في ذلك كثيرا من العلماء قبله كالثوري، ومالك، وأبي حنيفة، واستثنى من

_ 1 تأنيب الخطيب للعلامة، الشيخ محمد زاهد الكوثري ص153، 154، وشرح التوضيح في أصول الحنفية. جـ2 ص250.

ذلك مراسيل كبار التابعين إن جاءت من وجه آخر، ولو مرسلة أو اعتضدت بقول صحابي، أو أكثر العلماء، أو كان المرسل لو سمي لا يسمى إلا ثقة، فحينئذ يكون مرسله حجة عنده، ولا ينتهض إلى رتبة الحديث المتصل، وأما مراسيل غير كبار التابعين، فلا يحتج بها بحال1. ومما تقدم يتبين أن الاختلاف كان عظيما في تقدير قيمة الحديث المروي، فقد تجد الحديث يعمل به الحنفي لشهرته، ويرفضه الشافعي لضعف في سنده، وتجد المالكي يرفض الحديث؛ لأن عمل أهل المدينة جرى على خلافه، ويعمل به الشافعي لقوة في سنده، ولما جاءت طبقة الناصرين للمذاهب، والناقدين لها لم يلتفتوا إلى هذه الأصول، التي أخذ بها أئمتهم، وصاروا يأخذون على خصومهم مخالفة أي حديث صح سنده، وإن لم يستوف تلك الشروط التي اشترطها من ينتقدونه، كذلك نجدهم يجتهدون في إضعاف كل حديث لم يأخذ به إمامهم بالطعن في سنده، أو بأي مأخذ آخر مع أنه كان من السهل أن يقال إن الإمام لم يأخذ بهذا الحديث، لعدم استيفائه الشرط، الذي جمعله أصلا للعمل بالحديث2. أبو حنيفة كان واسع الاطلاع في الحديث ويعمل به: ترك أبو حنيفة رحمه الله العمل بكثير من الحاديث الآحادية، بناء على أصوله التي قدمناها لك، واحتج بالأحاديث المرسلة المشهورة، وأكثر من القياس فيها لم يصح فيه أثر فرماه بعض المتعصبين من أهل الفقه، والحديث بأنه:

_ 1 اختصار علوم الحديث لابن كثير ص39. 2 تاريخ التشريع الإسلامي للخضري ص210.

1- كان قليل البضاعة في الحديث. 2- وأنه كان يقدم الرأي على الحديث. 3- وأنه لذلك لم يخرج له البخاري، ومسلم في صحيحهما. ولما كان هذا القول بمعزل عن الحق رأينا أن نتعقب هذه الشبه الثلاث بالرد عليها واحدة واحدة فنقول: 1- زعمهم أنه كان قليل البضاعة في الحديث، زعم باطل بعد أن أجمعت الأمة على أنه من أئمة الهدى المجتهدين، الذين لهم خبرة واسعة بالكتاب والسنة ومعانيهما، وقد جمع محمد بن محمود الخوارزمي المتوفى سنة 665 مسند لأبي حنيفة، أخذه من خمسة عشر مسندا، جمعها لأبي حنيفة علماء الحديث، ورتبه على أبواب الفقه مع حذف المعاد، وعدم تكرير الإسناد قال في خطبته: "وقد سمعت في الشام عن بعض الجاهلين بمقداره ما ينقصه، ويستصغره، وينسبه إلى قلة الحديث، ويستدل على ذلك بمسند الشافعي، وموطأ مالك. وزعم أنه ليس لأبي حنيفة مسند، وكان لا يروي إلا عدة أحاديث، فلحقتني حمية دينية، فأردت أن أجمع بين خمسة عشر من مسانيده، التي جمعها له فحل علماء الحديث -وسرد أسماءهم واحدا واحدا ثم قال: فجمعتها على ترتيب أبواب الفقه بحذف المعاد، وترك تكرير الإسناد. ا. هـ. وقال الحافظ، محمد بن يوسف الصالحي، الشافعي، محدث الديار المصرية في عقود الجمان: "كان أبو حنيفة من كبار حفاظ الحديث، وأعيانهم، ولولا كثرة اعتنائه بالحديث ما تهيأ له استنباط مسائل الفقه. وذكره الذهبي في -طبقات الحفاظ، ولقد أصاب وأجاد". ا. هـ. ثم قال في الباب الثالث والعشرين من عقود الجمان. "إنما قلت الرواية

عنه وإن كان متسع الحفظ لاشتغاله بالاستنباط، وكذلك لم يرو عن مالك والشافعي، إلا القليل بالنسبة إلى ما سمعاه للسبب نفسه، كما قلت رواية أمثال أبي بكر، وعمر من كبار الصحابة رضي الله عنهم، بالنسبة إلى كثرة اطلاعهم وقد كثرت رواية من دونهم بالنسب إليهم". ا. هـ. ثم ساق أخبارا تدل على كثرة ما عند أبي حنيفة من الحديث، ثم سرد أسانيده في رواية مسانيد أبي حنيفة السبعة عشر لجامعيها، تدليلا على كثرة حديثه. هذا ولأبي حنيف مسانيد أخرى، غير السبعة عشر منها مسند أبي حنيفة للدارقطني، ومسنده لابن شاهين، ومسنده للخطيب، ومسنده لابن عقده. وذكر البدر العيني في تاريخه الكبير: أن سند أبي حنيفة لابن عقده، يحتوي وحده على ما يزيد على ألف حديث، وابن عقدة كما قال السيوطي في "التعقبات" من كبار الحفاظ، وثقة الناس وما ضعفه إلا متعصب1. ا. هـ. 2- زعمهم أنه كان يقدم الرأي على الحديث زعم باطل على إطلاقه. بل كانت طريقته في الاستنباط ما قاله عن نفسه: "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآثار الصحاح عنه، التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم فإذا انتهى الأم إلى إبراهيم والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب وعدد رجالا قد اجتهدوا فلي أن أجتهد كما اجتهدوا"2. ا. هـ. ومن ذلك ترى أنه يأخذ بقول الصحابي، إذا أعوزته السنة الصحيحة عنده، ويقدمه على اجتهاده فكيف ينسب إليه، أنه يقدم الرأي على السنة، بل نقول: إن الإمام كان شديد

_ 1 تأنيب الخطيب ص156. 2 تاريخ التشريح للخضري ص244.

التمسك بالسنة بدليل أنه كان يحتج بمراسيل الثقات، التي اشتهرت بين العلماء. أما تشدده رحمه الله في شروط قبول الأحاديث، التي تروى آحادا، فكان مبعثه الاحتياط البالغ لدين الله، وذلك أن الوضع في عصره قد كثر كثرة مزعجة من الزنادقة، والمبتدعة فاضطره ذلك إلى تشدده في شرط الصحيح، ولهذا قال العلماء: "أن أبا حنيفة لم يخالف الأحاديث عنادا، بل خالفها اجتهادا لحجج واضحة، ودلائل صالحة وله بتقدير الخطأ أجر، وبتقدير الإصابة أجران والطاعنون عليه أما حساد، أو جهال بمواقع الاجتهاد". وما من إمام من الأئمة إلا رد كثير من الأحاديث، لعدم استيفائها شروط الصحة عنده، أو لظهور نسخها أو لقيام معارض لها، أو لغير ذلك من الأعذار المقبولة. وهذا مالك أمام دار الهجرة، وأمير المؤمنين في الحديث يخالف السنة في سبعين مسألة إلى رأيه لعدم استيفائها شروط العمل عنده1. 3- وأما عدم تخريج الشيخين له في صحيحيهما، فلا يدل على ضعفه في الحديث، فإنها لم يستوعبا الأحاديث الصحيحة، ولا الأئمة الموثوق بهم، وإلا لزم تجريح كثير من الصحابة، وكثير من أئمة الهدى كالشافعي، ولا يقول بذلك أحد من المسلمين. ولعل السر في عدم تخريجهما لأمثال أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما، أنهما عنيا بجمع الحديث الصحيح، عمن لو ترك عندهم لمات بموته، لعدم وجود أتباع لهم أو لقلتهم أما أمثال

_ 1 انظر جامع بيان العلم لابن عبد البر جـ2 ص148، شروط الأئمة الخمسة ص49-50، مقدمة ابن خلدون عند الكلام على علوم الحديث، ومقدمة القسطلاني على البخاري ص33.

أبي حنيفة، والشافعي فإن لهم أصحابا يحملون عنهم أحاديثهم، يؤمن عليها من الضياع. هذا وربما كان عزوف الشيخين عن التخريج لأمثالهما هو اشتغالهم بفقه الأحاديث، واستنباط الأحكام منها لا بجمع طرقها، والانقطاع لحفظها وأدائها إنما كانوا يروون تلك الأحاديث على تلاميذهم خاصة في أثناء مجالسهم الفقهية، وأيضا قد يكون عدم تخريجهما لإمام من الأئمة؛ لأنه يقع الحديث بروايته نازلا، وبرواية غيره عاليا، فيقدمان العالي على النازل لما فيه من القرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك كله يتبين أن أبا حنيفة رحمه الله لم يكن قليل البضاعة في الحديث، ولم يكن يقدم رأيه عليه وأنه من كبار الحفاظ، الذين لهم خبرة واسعة بالحديث رواية، ودراية، وأن الطعن عليه بمثل ما تقدم لا يصدر إلا عن حاسد، أو جاهل، فلا ينبغي أن يغتر بما ذكره ابن خلدون في مقدمته من أن أبا حنيفة لتشدده في شروط الصحة، لم يصح عنده سوى سبعة عشر حديثا، ولا بالروايات الزائفة، التي ذكرها الخطيب البغدادي في كتابه -تاريخ بغداد- وفيها نسبة أبي حنيفة إلى ما هو بريء منه. وقد تصدى لتفنيد هذه الروايات الإمام الفقيه، المحدث الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري في كتاب خاص أسماه "تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب"، أجاد فيه، وأفاد فجزاه الله عن أمة الإسلام خيرًا.

المبحث الرابع: تراجم لبعض مشاهير المحدثين في القرن الثاني

المبحث الرابع: تراجم لبعض مشاهير المحدثين في القرن الثاني مالك بن أنس: هو، الإمام الجليل مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر. ينتهي نسبه إلى ذي أصبح -قبيلة باليمن- قدم أحد أجداده إلى المدينة، وسكنها وجده أبو عامر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد معه المغازي كلها ما خلا بدرا. ولد مالك بالمدينة سنة ثلاث وتسعين، وأخذ العلم عن علماء المدينة، وأول من لازمه منهم عبد الرحمن بن هرمز، الذي أقام معه مدة طويلة من الزمان لم يشركه بغيره، وسمع نافعا مولى ابن عمر، ومحمد بن المنكدر، وأبا الزبير، والزهري، وكثيرا من التابعين، وتابعيهم بلغ عددهم على ما يقال تسعمائة شيخ. من التابعين ثلثمائة، ومن تابعيهم ستمائة، وكلهم ممن اختاره مالك، وارتضى دينه وفقههه، وقيامه بحق الرواية، وشروطها، وخلصت الثقة به. كما ترك الرواية عن أهل دين وصلاح لا يعرفون الرواية، وأخذ عنه الحديث يحيى الأنصاري، والزهري، وهما من شيوخه، وينازع ابن عبد البر في رواية الزهري عن مالك. كذلك أخذ عنه ابن جريج، ويزيد بن عبد الله بن الهادي، والأوزاعي، والثوري، وابن عيينة، وشعبة، والليث، وابن المبارك والشافعي وابن علية وابن وهب، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة، وابن مهدي ومعن بن عيسى وخلائق لا يحصون غيرهم. أجمع العلماء على إمامته، وجلالته في الحديث ونقد الرواة، واستخراج الأحكام من الكتاب والسنة، وشهد له بذلك أقرانه وعلماء عصره. فذا حبيب الوراق يقول: دخلت على مالك فسألته عن ثلاثة رجال لم لم يرو عنهم، قال: فأطرق ثم رفع رأسه، وقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله -وكان كثيرًا ما يقولها- فقال: يا حبيب أدركت هذا المسجد، وفيه سبعون شيخا ممن أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن التابعين، ولم نحمل الحديث إلا عن أهله. وكان مالك يقول: ربما جلس إلينا الشيخ، فيحدث نهاره ما نأخذ عنه حديثا واحدا ما بنا أن نتهمه، ولكن لم يكن من أهل الحديث. كان مالك ثبتا في الحديث عالما بالرجال، موثوقا به في كل ذلك حتى

أخذ الحديث عنه شيوخه وأقرانه، ولما كانت المدينة هي منبع الحديث، ومهبط الوحي لم يرحل مالك عنها، لذا تجد معظم روايته عن أهل الحجاز، وقلما تجد في موطئه ذكرا لغيرهم، ورحل إليه الناس من الأقطار البعيدة يتلقون عنه الحديث والمسائل، لما سمعوا عن علمه ونباهة شأنه في علوم الحديث، والفقه وكانوا يزدحمون على بابه، ويقتتلون عليه من الزحام لطلب العلم. امتحن مالك سنة 147 وضرب بالسياط، واختلف الناس في سبب ذلك فقيل: أنه أفتى بعدم وقوع طلاق المكره، وقد كانوا يكرهون الناس على الحلف بالطلاق عند البيعة، فرأوا أن فتوى مالك تجعل الناس في حل من نقض البيعة، وقيل: إن ابن القاسم سأل مالكا عن البغاة يجوز قتالهم. فقال: إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز. قال: فإن لم يكن مثه. فقال: دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما. فكانت هذه الفتوى سبب محنته، فضربه عامل المنصور بالمدينة سبعين سوطا، ولما بلغ ذلك المنصور غضب على عامله وعزله، ثم لقي المنصور مالكا من قابل في موسم الحج، فاعتذر إليه، وفاتحه في كثير من مسائل الدين، وطلب إليه أن يجمع ما ثبت لديه من الأحاديث، والآثار ويدونها في كتاب يوطئه للناس، فاعتذر الإمام عن ذلك فلم يقبل المنصور عذره، فألف كتاب الموطأ، ولما جاء المهدي حاجا بعد ذلك سمعه منه، ولم يزل مالك رحمه الله محل احترام الخلفاء، وإجلالهم وتقدير العلماء وتعظيمهم، وقد سمع منه الرشيد وأولاده االموطأ في موسم الحج. وقال له الرشيد: أردت أن أعلق كتابك هذا في الكعبة، وأفرقه في الأمصار، وأحمل الناس عليه. فقال له مالك: لا تفعل، فإن الصحابة تفرقوا في الآفاق، ورووا أحاديث غير أحاديث أهل الحجاز، وأخذ الناس بها، فاتركهم وما هم عليه

فقال له الرشيد: جزاك الله خيرا يا أبا عبد الله. وكان مالك رحمه الله كثير التواضع، جم الحياء عظيم الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه كان لا يركب دابة في المدينة، إجلالا لأرض ضمت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي رحمه الله سنة مائة وتسعة وسبعين بالمدينة، ودفن بالبقيع1. يحيى بن سعيد القطان: هو، أبو سعيد يحيى بن سعيد بن فروخ التميمي، ولاء البصري القطان إمام جليل، ومحدث كبير من أتباع التابعين. أخذ الحديث عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وابن جريج وسعيد بن أبي عروبة، والثوري وابن عيينة، ومالك وشعبة وكثير غيرهم، وأخذ عنه الحديث السفيانان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وابن مهدي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وخلائق غيرهم. اتفق العلماء على إمامته، وكثرة حفظه، وعلمه وصلاحه، وشهد له بذلك كثير من المحدثين، قال ابن حنبل: ما رأيت مثل يحيى القطان في كل أحواله، وقال فيه أيضا: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وهو أثبت من وكيع وابن مهدي، وأبي نعيم ويزيد بن هارون، وقد روى عن خمسين شيخا ممن روى عنهم سفيان. قال: ولم يكن في زمان يحيى مثله. وقال أبو زرعة: هو من الثقات الحفاظ. وقال ابن منجويه: كان يحيى القطان من سادات أهل زمانه حفظا، وورعا، وفقهاء، وفضلا ودينا وعلما، وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات وترك

_ 1 تهذيب الأساء ج2 ص75، الانتقاء لابن عبد البر، مفتاح السنة ص23.

الضعفاء. قال ابن سعد: توفي يحيى القطان في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة وكان مولده سنة 120هـ مائة وعشرين رحمه الله1. وكيع بن الجراح: هو، الحافظ الجليل، والمحدث الكبير، إمام أهل الكوفة في الحديث وغيره، أبو سفيان وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي من أتباع التابعين. أخذ الحديث عن الأعمش، وهشام بن عروة وعبد الله بن عون، وحنظلة بن أبي سفيان، وابن جريج، وشريك بن عبد الله، والأوزاعي والسفيانين وغيرهم. اتفق العلماء على جلالته، وكثرة علمه، وحفظه للحديث، وإتقانه له وصلاحه وفضله. كان أحمد بن حنبل إذا حدث عنه قال: حدثني من لم تر عيناك مثله وكيع بن الجراح. وقال فيه: ما رأيت رجلا قط مثل وكيع في العلم، والحفظ والإسناد، والأبواب، ويحفظ الحديث جيدا، ويذاكر بالفقه مع ورع، واجتهاد ولا يتكلم في أحد، وقال ابن معين: ما رأيت أحدا يحدث لله غير وكيع بن الجراح. وهو أحب إلي من سفيان وابن مهدي، وأبي نعيم، وما رأيت رجلا قط أحفظ من وكيع، ووكيع في زمانه كالأوزاعي في زمانه، وقال ابن عمار: ما كان بالكوفة في زمن وكيع أفقه، ولا أعلم بالحديث من وكيع. توفي وكيع سنة 197هـ، سبع وتسعين ومائة. وكان مولده سنة 127هـ2. سفيان الثوري: هو، أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق، الثوري، الكوفي الإمام الفذ. كان من تابعي التابعين. تلقى الحديث عن أبي إسحاق السبيعي

_ 1 تهذيب الأسماء جـ2 ص154. تهذيب التهذيب جـ11 ص216. 2 تهذيب التهذيب جـ11 ص123، تهذيب الأسماء جـ2 ص144.

وعبد الملك بن عمير، وعمرو بن مرة، وخلائق من كبار التابعين وغيرهم، وأخذ الحديث عنه محمد بن عجلان، والأعمش وهما تابعيان ومعمر والأوزاعي، ومالك وابن عيينة وشعبة، والفضيل بن عياش، وابن المبارك ووكيع، وأبو نعيم ويحيى بن القطان، وكثير من الأئمة الأعلام. اتفق العلماء على إمامته، وتقدمه في الحديث والفقه والورع والزهد، وخشونة العيش والقول بالحق، وغير ذلك من المحاسن. قال أبو عاصم: الثوري أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من الثوري. وقال يحيى بن معين: كل من خالف الثوري فالقول قول الثوري، وقال ابن مهدي: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري. وقال ابن عيينة: كان ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه والثوري في زمانه. وقال أيضا: أنا من غلمان الثوري، وما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه، وقال الأوزاعي -وقد ذكر ذهاب العلماء: لم يبق منهم من يستمع عليه العامة بالرضى والصحة إلا الثوري، وقال عباس الدوري: رأيت ابن معين لا يقدم على الثوري في زمانه أحدا في كل شيء، وبالجملة فالثناء عليه مشهور، وهو أحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة -مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، والثوري، ولد الثوري سنة 97هـ، وتوفي بالبصرة سنة 161هـ إحدى وستين ومائة رضي الله عنه1. سفيان بن عيينة: هو، أبو محمد سفيان بن عيينة بن عمران، الكوفي ثم المكي الهلالي، ولاء، كان من أتباع التابعين. أخذ الحديث عن الزهري، وعمرو بن

_ 1 انظر تهذيب التتهذيب جـ4 ص111. تهذيب الأسماء جـ1 ص222.

دينار، والشعبي. وعبد الله بن دينار، ومحمد بن المنكدر، وخلائق من التابعين وغيرهم. وتلقى الحديث عنه الأعمش، والثوري، وابن جريج، وشعبة وهمام ووكيع وابن المبارك وابن مهدي والقطان، والشافعي وأحمد بن حنبل، وابن المديني وابن معين وابن راهويه، والحميدي وخلائق كثيرة لا يحصون من علماء الحديث والفقه. اتفق المحدثون على إمامته وفضله، وبعد شأوه في الحديث وحفظه. قال أبو حاتم وغيره: أثبت الناس في حديث عمرو بن دينار بن عيينة، وكان أعلم بحديث عمرو بن دينار من شعبة، وقال يحيى القطان في حياة سفيان: سفيان إمام من أربعين سنة وقال أيضا: ما رأيت أحسن حديثا من ابن عيينة، وقال الشافعي: ما رأيت أحدا أكف عن الفتيا من سفيان، وما رأيت أحدا أحسن لتفسير الحديث منه، وقال أحمد بن عبد الله: كان ابن عيينة حسن الحديث، وكان يعد من حكماء أصحاب الحديث، وقال ابن وهب: ما رأيت أعلم بكتاب الله من ابن عيينة. ومناقبه كثيرة مشهورة. ولد سفيان سنة 107هـ، وتوفي سنة 198هـ رضي الله عنه1. شعبة بن الحجاج: هو، أبو بسطام شعبة بن الحجاج بن الورد، العتكي الأزدي ولاء الواسطي، ثم البصري أصله من واسط، ثم انتقل إلى البصرة فاستوطنها. وهو من تابعي التابعين إمام جليل، وحافظ كبير من أعلام المحدثين، وكبار المحققين. تلقى الحديث عن أنس بن سيرين، وعمرو بن دينار والشعبي، وكثير من التابعين وغيرهم، وأخذ عنه الحديث الأعمش، وأيوب السختياني ومحمد بن إسحاق، وهم من التابعي والثوري وابن مهدي

_ 1 تهذيب التهذيب جـ4 ص117. تهذيب الأسماء جـ1 ص224.

ووكيع وابن المبارك ويحيى القطان، وكثير لا يحصون من كبار الأئمة. أجمعوا على إمامته في الحديث وجلالته، وتحريه واحتياطه وإتقانه. قال الإمام أحمد: لم يكن في زمن شعبة مثله في الحديث، ولا أحسن حديثا منه قسم له منه حظ، وروى عن ثلاثين رجلا من الكوفة، لم يرو عنهم سفيان الثوري، وقال الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق، وقال حماد بن زيد: لا أبالي من يخالفني إذا وافقني شعبة؛ لأن شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة، وإذا خالفني شعبة في شيء تركته، وقال سفيان الثوري: شعبة أمير المؤمنين في الحديث، وقال لمسلم بن قتيبة حين قدم من البصرة: ما فعل أستاذنا شعبة؟ وقال صالح بن محمد أول من تكلم في الرجال شعبة، ثم تبعه يحيى القطان ثم أحمد بن حنبل وابن معين، وقال أحمد بن حنبل: كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن، يعني علم الحديث وأحوال الرواة، وقال عبد الصمد: أدرك شعبة من أصحاب ابن عمر نيفا وخمسين رجلا. توفي شعبة بالبصرة في أول سنة 160، ستين ومائة وهو ابن سبع وسبعين سنة رحمه الله1. عبد الرحمن بن مهدي: هو، الإمام أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن، العنبري البصري، اللؤلئي، إمام أهل الحديث في عصره، والمعول عليه فيه. أخذ الحديث عن خالد بن دينار، ومالك بن مغول، ومالك بن أنس والسفيانين، والحمادين وشعبة، وخلائق من أعلام المحدثين، وروى عنه ابن وهب وأحمد بن حنبل، وابن معين، وابن المديني وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهم. اتفق الأئمة على جلالته ورسوخه

_ 1 تهذيب التهذيب جت4 ص338. تهذيب الأسماء جـ1 ص244.

في نقد الرجال وفحص الأحاديث مع الورع، والزهد، والأمانة. قال أحمد بن حنبل: كأن ابن مهدي خلق للحديث، وقال ابن معين: ما رأيت رجلا أثبت في الحديث من ابن مهدي، وعن علي بن المديني أنه قال غير مرة: والله لو أخذت وحلفت بين الركن، والمقام لحلفت بالله أني لم أر قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي، وكان عبد الرحمن بن مهدي، يقول: لا يجوز أن يكون الرجل إماما، حتى يعلم ما يصح ما لا يصح، وحتى لا يحتج بكل شيء، وحتى يعلم مخارج العلم، وجاءه رجل فقال: يا أبا سعيد إنك تقول هذا ضعيف، وهذا قوي وهذا لا يصح. فعم تقول ذاك؟ فقال ابن مهدي: لو أتيت الناقد فأريته دراهم فقال: هذا جيد وهذا ستوق وهذا بهرج، أكنت تسأله عم ذاك أم تسلم الأمر إليه؟ فقال: بل كنت أسلم الأمر إليه. فقال ابن مهدي: هذا كذلك. هذا بطول المجالسة، والمناظرة والمذاكرة، والعلم به، ولد سنة 135هـ، وتوفي سنة 198هـ رحمه الله1. الأوزاعي: هو، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الشامي، الدمشقي، كان إمام أهل الشام في عصره بلا نزاع. وكان أهل الشام والمغرب على مذهبه، قبل انتقالهم إلى مذهب مالك رحمه الله، وهو من أتباع التابعين. سمع الحديث عن جماعات من التابعين، كعطاء بن أبي رباح، وقتادة ونافع مولى ابن عمر، والزهري، ومحمد بن المنكدر وغيرهم، وروى عنه جماعة من التابعين من شيوخه كقتادة، والزهري، ويحيى بن أبي كثير وجماعات من أقرانهم، وروى عنه أيضا من الأئمة الكبار سفيان ومالك

_ 1 تهذيب الأسماء جـ1 ص304. تهذيب التهذيب جـ6 ص279.

وشعبة، وابن المبارك وكثير غيرهم. أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي، وجلالته وعلو مرتبته وكمال فضله، كما اتفقوا على كثرة حديثه، وغزارة فقهه، وشدة تمسكه بالسنة وبراعته في الفصاحة. عن عبد الرحمن بن مهدي قال: ما كان بالشام أحد أعلم بالسنة من الأوزاعي، وقال أيضا: الأئمة في الحديث أربعة. الأوزاعي ومالك، وسفيان الثوري وحماد بن زيد، وقال أبو حاتم: الأوزاعي إمام متبع لما سمع1، وعن هقل: "وهو أثبت الناس في الرواية عن الأوزاعي" قال: "أجاب الأزاعي في سبعين ألف مسألة أو نحوها"، وكان علماء عصره يجلونه غاية الإجلال، ويكبرونه في أنفسهم ويعترفون له بالإمامة، والسبق والزهد والورع، والجهر بالحق. قيل لأمية بن يزيد: أين الأوزاعي من مكحول. قال: هو عندنا أرفع من مكحول. فقيل له: إن مكحولا رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وإن كان قد رآهم فإن فضل الأوزاعي في نفسه. فقد جمع العبادة، والورع، والقول بالحق. وعن سفيان الثوري أنه لما بلغه مقدم الأوزاعي، خرج حتى لقيه بذي طوى، فحل سفيان رأس البعير عن القطار ووضعه على رقبته، وكان إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ.

_ 1 وأما قول الإمام أحمد في الأوزاعي. حديث ضعيف، فهو محمول عند المحققين كالبيهقي على أنه كان يحتج في بعض مسائل الفقه بالروايات الضعيفة، وهذا لا يضيره في الفقه، ولا في الحديث أما الأول؛ فلأن للعلماء في طرق الاستدلال على الأحكام مسالك مختلفة، وكثيرا ما يستدلون بالأحاديث المرسلة، والمنقطعة، والموقوفة لا سيما إذا تعددت طرقها، أو كان لا شواهد تؤيدها. وأما الثاني فقد كان من عادة المحدثين ألا يقصروا أنفسهم على رواية الصحيح من الأحاديث، بل يذكرون الموضوع لبيان حاله، والضعيف لجواز الاعتبار به، أو الاحتجاج إذا تعددت طرقه، أو أيدته الشواهد، أو لغير ذلك من المقاصد.

ولد الأوزاعي رحمه الله سنة 88 من الهجرة. ومات سنة 157هـ في بيروت، وكان قد نزل بها مرابطا في أواخر عمره "تهذيب الأسماء 1-298". الليث بن سعد: هو، الإمام الكبير والفقيه البارع، والمحدث الحافظ، أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، مولاهم المصري، كان من أتباع التابعين. أخذ الحديث عن عطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن أبي مليكة، ونافع مولى ابن عمر، وسعيد المقبري، والزهري، ويحيى الأنصاري، وأبي الزبير، وكثير من التابعين وتابعيهم، وتلقى عنه الحديث محمد بن عجلان، وهشام بن سعد، وهما من شيوخه، وقيس بن الربيع وابن المبارك، وابن وهب وابن لهيعة وعبد الله بن صلاح كاتبه، وكثير من الأئمة. أجمع العلماء على جلالته، وإمامته وعلو مرتبته في الفقه، والحديث وهو إمام أهل مصر في زمانه. قال الشافعي رحمه الله: كان الليث بن سعد أفقه من مالك إلا أنه ضعيه أصحابه، وقال محمد بن سعد: كان الليث مولى لقريش، وكان ثقة كثير الحديث وصحيحه، وكان استقل بالفتوى ف زمانه بمصر، وكان سريا نبيلا سخيا، وقال أحمد بن حنبل: الليث كثير العلم صحيح الحديث ليس في هؤلاء المصريين أثبت منه ما أصح حديثه. وقال أيضا: رأيت من رأيت فلم أر مثل الليث، كان فقيه البدن عربي اللسان يحسن القرآن، والنحو ويحفظ الحديث، والشعر وحسن الذاكرة، وعد خصالا جميلة عنه حتى بلغ عشرا. ولد الليث سنة ثلاث أو أربع وتسعين وتوفي سنة 165 خمس وستين ومائة في قول ابن سعد1.

_ 1 انظر تهذيب الأسماء جـ2 ص73، تهذيب التهذيب جـ8 ص459.

الإمام الشافعي، رضي الله عنه: هو، أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس، بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، يلتقي نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، والسائب بن عبيد أسلم يوم بدر، وابنه شافع بن السائب من صغار الصحابة، وأم الشافعي من الأزد. ولد الشافعي رحمه الله بغزة سنة 150هـ، ومات أبوه، وهو صغير فحملته أمه إلى مكة، وهو ابن سنتين لئلا يضيع نسبه، فنشأ بها وقرأ القرآن وأقام في هذيل نحوا من عشر سنين، فعلم منهم اللغة والشعر، وأخذ الفقه والحديث، عن مسلم بن خالد الزنجي، مفتي مكة وغيره من الأئمة، ثم قدم المدينة فلزم مالكا رحمه الله، وأكرمه مالك لعلمه وفهمه وعقله وأدبه، وقرأ الموطأ عليه حفظا فأعجبته قراءته، فكان مالك يستزيده من القراءة لذلك، وكان للشافعي حين قدومه المدينة ثلاث عشرة سنة، ولفقهره ساعده مصعب بن عبد الله القرشي، قاضي اليمن عند هارون الرشيد، فولاه الحكم بنجران من أرض اليمن، ثم وشى به إلى الرشيد أنه يروم الخلافة فاستقدمه الخليفة إلى بغداد سنة 184هـ، وعمره ثلاثون سنة، فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد، وأحسن محمد القول فيه، وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه، وأنزله محمد بن الحسن عنده، وأكرمه وكتب عنه الشافعي وقر بعير، وعاد الشافعي إلى مكة، ثم قدم العراق للمرة الثانية سنة 195هـ، فاجتمع به جماعة من العلماء هذه المرة، منهم أحمد بن حنبل، وأبو ثور والحسين بن علي الكرابيسي، والزعفراني، وغيرهم، وصاروا يأخذون عنه، وأملى عليهم مذهبه القديم، ثم رجع إلى مكة، وفي سنة 198هـ رحل إلى العراق للمرة الثالثة، فأقام بها مدة يسيرة

وفي أواخر سنة 199هـ انتقل إلى مصر، فأقام بها إلى أن مات سنة 204هـ، وفي مصر ظهرت مواهبه، ومقدرته العلمية، وقصده الناس من سائر الأقطار للتفقه عليه والرواية عنه، وأملى على تلاميذه كتبه الجديدة، وفيها مذهبه المصري أو الجديد. وقد أجله المصريون حيا وميتا. والشافعي، هو الإمام الذي نشر مذهبه بنفسه، بما قام به من الرحلات التي اكتسب فيها علوم الحجازيين، والعراقيين، وهو الذي كتب كتبه بنفسه وأملاها على تلاميذه، ولم يعرف هذا لغيره من كبار الأئمة. عناية الشافعي رضي الله عنه بالسنة: كان الشافعي رضي الله عنه أعلم أهل عصره بمعاني القرآن والسنة، وقد جمع في مذهبه بين أطراف الأدلة مع الإتقان، والتحقيق والغوص على المعاني، وهو صاحب الفضل على أهل الآثار، وحملة الحديث بتوقيفه إياهم على معاني السنة، ونصرهم على مخالفيهم بواضح البراهين. فأيقظهم بعد أن كانوا غافلين، وأصبحت لهم الكلمة العليا بعد أن كانوا خاملين، وغلب في عرف العلماء على متبعي مذهبه لقب "أصحاب الحديث"، وكثيرا ما كان ينهى رضي الله عنه، عن ترك الكتاب والسنة إلى غيرهما من آراء الناس وأهوائهم. قال: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد. وقال: حكمي في أهل الكلام، أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في القبائل، وينادى عليه: "هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام"، وقال البويطي: سمعت الشافعي يقول: عليكم بأصحاب الحديث، فإنهم أكثر الناس صوابا. وقال: إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث، فكأنما رأيت رجلا من أصحابرسول الله صلى الله عليه وسلم. جزاهم الله خيرا حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل. ومن شعره في هذا المعنى.

كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه "قال حدثنا" ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين وقد قدمنا لك أنه دافع دفاعا عظيما عن خبر الواحد، إذا اتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنقل الثقة عن الثقة، وقد نال بذلك الدفاع عن الحديث، وأهله حظا كبيرا عند حملة الآثار، حتى كان أهل بغداد يطلقون عليه "ناصر السنة". قال محمد بن الحسن: إن تكلم أصحاب الحديث يوما فبلسان الشافعي. وقال الزعفراني: كان أصحاب الحديث رقودا فأيقظهم الشافعي. وقال أحمد بن حنبل: "ما أحد مس بيده محبرة، ولا قلما إلا وللشافعي في رقبته منة"، وقال أحمد أيضا لمحمد بن مسلم بن وارة أحد أئمة الحديث -وقد قدم من مصر: "كتبت كتب الشافعي؟ فقال: لا. قال: فرطت. ما علمنا المجمل من المفسر، ولا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه، حتى جالسنا الشافعي". وقال ابن خزيمة: وقد سئل هل سنة لم تبلغ الشافعي -فقال: لا، وقال داود بن علي الظاهري: "للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره من شرف نسبه، وصحة دينه، ومعتقده، وسخاوة نفسه، ومعرفته بصحة الحديث وسقمه وناسخه، ومنسوخه وحفظ التاب والسنة وسيرة الخلفاء، وحسن التصنيف وجودة الأصحاب والتلامذة". وقال الكرابيسي: "ما كنا ندري ما الكتاب والسنة والإجماع، حتى سمعناه من الشافعي، وما رأيت مثل الشافعي ولا رأى الشافعي مثل نفسه، وما رأيت أفصح منه وأعرف".

ومع ثناء هؤلاء الأئمة وغيرهم عليه بالفهم الثاقب، والإحاطة الواسعة بالحديث كان يقول: "إذا صح عندكم الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا به ودعوا قولي، فإني أقول به وإن لم تسمعوا مني". هذا وإذا كان العلماء يعتبرون الإمام الشافعي أول من ألف في أصول الفقه، فلا يفوتنا أن نقول أنه أيضا أول من ألف في أصول السنة، وقوانين الرواية ورسم لعلماء الحديث طريقة التدوين في علوم السنة. وأن كل من ألف بعد الشافعي في قواعد الحديث، وعلومه إنما هم عيال عليه، وغارفون من بحاره وكلامهم في ذلك لا يعدو فروعا فرعوها على أصول أصلها، وقواعد وضعها وأوضحها. وأن من يقرأ كلامه عن الحديث والمحدثين في رسالته، ثم يقرأ ما دونه علماء الحديث كابن الصلاح، وغيره يرى أن الشافعي هو أستاذ الجميع في هذه الفنون. فجزاء الله عن الحديث، وأهله خير الجزاء1.

_ 1 البداية والنهاية جـ10 ص251، تهذيب الٍماء واللغات جـ1 ص44، تاريخ التشريع الإسلامي للخضر ص264.

المبحث الخامس: الرد على تمويهات لبعض المستشرقين لها صلة بهذا العصر وما قبله

المبحث الخامس: الرد على تمويهات لبعض المستشرقين لها صلة بهذا العصر، وما قبله اطلعت أيها القارئ على تاريخ السنة في القرن الأول، والثاني للهجرة المباركة ورأيت أن علماء الصحابة والتابعين، ومن بعدهم كان يتلقاها بعضهم عن بعض في أمانة وضبط، وأنهم كانوا يذبون عنها أكاذيب الشيعة، والخوارج والزنادقة، ومن كان على شاكلتهم في الكيد للإسلام عن طريق الحديث، وما زالوا يجاهدون صادقين في سبيل السنة، حتى أسلموها إلى علماء القرن الثالث كاملة غير منقوصة، وصحيحة غير مكذوبة عن طريق الأسانيد التي تطمن لها القلوب، ثم قام علماء القرن الثالث بدورهم في رواية السنة، وحفظها وكتابتها وتدوينها، حتى وصلت إلينا طاهرة نقية. ولكن شرذمة من أهل الكفر والضلال، يدعون بالمستشرقين كبر عليهم أن تبقى هذه الثروة الإسلامية المباركة محفوظة من التبديل، والتحريف في وقت ضعف فيه المسلمون، واستولت عليهم الأمم الكافرة، فعمل هؤلا المستشرقون جاهيدن على تشكيك المسلمين في دينهم، عن طريق الطعن في الحديث ورواته باسم البحث الحر، وطريقة هؤلاء القوم التي اختاروها لأنفسهم، وأملتها عليهم أغراضهم السياسية، هي توهين القوي من الحديث وتقوية الضعيف، أو الموضوع وتضخيم الصغير وتحقير العظيم، وتشويه الحقائق والتعامي عما تقضي به الأدلة والبراهين. كل هذا ليشوهوا. محاسن الإسلام علمائه في أنظار من افتتن بمدنيتهم المادية الزائفة من صغار الأحلام، وضعفاء الإيمان. وما موقفهم هذا من الإسلام إلا ما يقول القائل. إذا رأوا هفوة طاروا بها فرحًا ... مني وما علموا من صالح دفنوا ونحن1 نذكر مثلا من تمويهات هؤلاء المبطلين، تكشف لك عن نواياهم الخبيئة ونعقب عليها بما يدحضها، وإن كانت عند التأمل كهشيم تذروه الرياح لا تقوم، إلا على مجرد الدعوى والتغافل عن الحقائق الثابتة فنقول: أولا: زعموا "أن القسم الأكبر من الحديث ليس إلا نتيجة

_ 1 نقلنا هذه الشبه من كتاب تاريخ الفقه الإسلامي، للأستاذ علي حسن عبد القادر ص121، وما بعدها.

للتطور الديني والسياسي، والاجتماعي للإسلام في القرنين الأول، والثاني وأنه ليس صحيحا ما يقال: من أنه وثيقة للإسلام في عهده الأول عهد الطفولة، ولكنه أثر من آثار جهود الإسلام في عصر النضوج". ونحن نقول: هذا قول من يتجاهل الحقائق الثابتة، ويخلط الحق بالباطل، ثم يقول: إن الجميع باطل وإنهم بما يقولون يطعنون في الأحاديث النبوية بأمرين. أولهما: إن الأغلبية العظمى منها من وضع المسلمين، لا من قول نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. ثانيهما: أن الأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم قليلة، ومع قلتها لم تكن حجة يعتمد عليها في العهد الذهبي للإسلام عصر النبوة، وما بعده الذي أطلقوا عليه عصر الطفولة. والنتيجة التي يريدونها من ذلك أن السنة قامت على غير أساس، ولا فائدة منها للمسلمين في قليل، ولا كثير سواء الصحيح منها، وهو قليل وغير الصحيح منها، وهو الغالب الكثير. أما زعمهم أن أغلب الأحاديث من وضع المسلمين نتيجة للتطور الديني، والسياسي، والاجتماعي للإسلام فهذا منهم كذب على الواقع، والتاريخ فقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدار وفير جدا من الأحاديث في الأحكام، وغيرها حفظها عنه أصحابه، ثم تلقاها عنهم الثقات من الرواة طبقة بعد طبقة وعصرا بعد عصر، حتى وصلت إلينا صحيحة الأسانيد نقية المتون، والأئمة في جميع العصور كانوا ينفون عنها الكذب، والدخيل ويبالغون في التثبت، والحفظ ويشددون في نقد المتون، والأسانيد امتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: "من كذب علي

متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، وبعملهم هذا سلمت الأحاديث من وضع الزنادقة والخوارج، ومن سار على طريقهم، وقد اطلعت على ما قدمناه من الجهود الجبارة التي قام العلماء بها في القرن الأول، والثاني حيال الأحاديث وتمحيصها. وأما زعمهم أن السنة ليست حجة، يعتمد عليها في الدين فهذا زعم باطل سبقهم إليه أهل الأهواء في العصور الأولى، والكتاب والسنة وإجماع العلماء وعمل المسلمين في جميع العصور يناقض هذه الدعوى، ويأتي على بنيانها من القواعد، هذا وتقدمت البراهين الساطعة على حجية السنة في المقدمة، وفي كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه، ومناظراته لبعض من ينكر حجية السنة فارجع إليها إن شئت1. ثانيا: قالوا: إن العصر الأول كان مثار خصومة بين الأمويين، والعلماء الأتقياء الذين اشتغلوا بجمع الحديث والسنة، ونظرا؛ لأن ما بأيديهم من الأحاديث لم يسعفهم في تحقيق أغراضهم أخذوا يخترعون أحاديث، لا تنافي الروح الإسلامية في مناقب آل بيت علي بن أبي طالب، وامتداحهم فيكونون بذلك قد ثلبوا الأمويين، وهاجموهم ولكن من طريق غير مباشر، وبرروا عملهم هذا بأنهم إنما يحاربون الظلم، والطغيان وقد ردت عليهم الحكومة، فوضعت الأحاديث ودعت إلى وضعها، وقد كانت طريقة الأمويين كما قال معاوية للمغيرة بن شعبة: "لا تهمل في أن تسب عليا، وأن تطلب الرحمة لعثمان، وأن تسب أصحاب علي، وتضطهد من أحاديثهم وعلى الضد من هذا أن تمدح عثمان، وأهله وأن تقربهم وتسمع إليهم"، وقد استغل الأمويون لذلك أمثال الإمام الزهري في وضع الأحاديث، ومن هذه الأحاديث حديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، فهذا الحديث يمثل

_ 1 انظر ص21، وص272.

ميولهم السياسية في تقديس بيت المقدس، وجعله مثل البيت الحرام، ومسجد المدينة حتى يكون محجا للناس في الوقت الذي منع فيه ابن الزبير أهل الشام من الحج إلى الكعبة، ونحو هذا أحاديث في فضل بيت المقدس والشام. ا. هـ. ونقول في الرد عليهم: نحن لاننكر أنه قامت خصومة سياسي بين الأمويين والشيعة وأن الشيعة وضعوا أحاديث في مناقب الإمام علي بن أبي طالب، وأن الأمويين ردوا عليهم بأحاديث وضعوها في مناقب أبي بكر وعمر، وعثمان ومعاوية ولكنلم يكن هؤلاء، ولا هؤلاء هم أهل الحديث، ولا العلماء الأتقياء كما يموهون علينا بذلك، وإنما كان من العلماء الأتقياء أمثال الإمام الزهري، وسعيد بن المسيب وابن عباس، وابن عمر العمل على حفظ الأحاديث الصحيحة، ونشرها والاحتياط لها، وبيان الأحاديث التي نسبت كذبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا تجوز روايتها ولا نشرها من غير أن يخافوا في الله لومة لائم أو سطوة ظالم، ومما يثير العجب أن يطلق هؤلاء المستشرقون على الشيعة لقب "العلماء الأتقياء"، مع أن منهم من كانوا أداة فساد، وإفساد يتظاهرون بحب آل علي رضي الله عنه، ويغالون في ذلك حتى ألهوه، ووضعوا الأحاديث في تأليهه، ويضمرون في أنفسهم كيد الإسلام والمسلمين. أما ما نسبوه إلى معاوية رضي الله عنه، فنحن في شك منه، ومما يقوله المؤرخون المتساهلون في نقل الأخبار وتدوينها، فإن معاوية صحابي جليل ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتابة الوحي، ورضيه الخلفاء الراشدون الثلاثة، لإمارة الشام وما حصل بينه، وبين علي كرم الله وجهه، فإنما كان عن اجتهاد، فيبعد كل البعد أن يأمر المغيرة بن شعبة بسب علي، والعمل على إخفاء الأحاديث، التي صحت في فضله لا سيما، وقد أثبت التاريخ أن

الحسن بن علي رضي الله عنه تنازل له عن الخلافة، طائعا، مختارا ولم يقاتله يوما واحدا، وأنه كان يترحم على علي كرم الله وجهه، وقد طلب إلى ضرار الصدائي أن يصف له عليا فاستعفاه، فأبى فوصفه له بأبلغ وصف، فبكى معاوية رضي الله عنه، وقال: رحم الله أبا الحسن، فقد كان كذلك، وأثبت التاريخ أيضا أنه كان حليما واسع الحلم، سياسيا ثاقب النظر، فلا يعقل بعد هذا كله أن يأمر المغيرة أو غيره بإثارة فتنة، يكون من ورائها تمزيق الوحدة وتفريق الكلمة. نعود بعد ذلك إلى زعمهم أن الأمويين استغلوا أمثال الإمام الزهري في وضع الأحاديث، التي تتفق وميولهم، وهذا محض افتراء على أئمة الدين لا سند له من الواقع. وقد شهد للإمام الزهري بالورع، والحفظ والضبط مئات بل ألوف من فحول العلماء، فالشافعي يقول فيه: "لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة"، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه يقولان فيه: "أصح الأسانيد مطلقا الزهري، عن سالم، عن أبيه"، وعمرو بن دينار يقول فيه: "ما رأيت أنص للحديث من الزهري، وما رأيت أحدا الدينار والدرهم أهون عنده منه أن كانت الدنانير والدراهم بمنزلة البعر"، أفنترك مثل هذه الشهادات الثابتة إلى أقوال شرذمة من أئمة الكفر، ليسوا من الإنصاف في شيء.، ودعوى أن حديث: "لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"، من وضع الزهري، تبعا لميول الحكام السياسية ... إلخ. دعوى خاطئة كاذبة فإن الزهري، ثقة بإجماع أئمة المسلمين، فلو انفرد بهذا الحديث لكان صحيحا لا ريب فيه، فكيف ولم ينفرد به، وقد أخرجه مسلم من غير طريقه1 في آخر

_ 1 صحيح مسلم أواخر كتاب الحج.

كتاب الحج من صحيحه، قال: حدثنا هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر أن عمران بن أبي أنس، حدثه أن سلمان الأغر، حدثه أنه سمع أبا هريرة، يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء"، وأخرجه الشيخان1. من غير طريقه أيضًا عن شعبة عن عبد الملك سمعت قزعة مولى زياد، قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، يحدث بأربع عن النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبنني، وآنقنني قال: "لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم. ولا صوم في يومين، الفطر والأضحى. ولا صلاة بعد صلاتين بعد الصبح، حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب. ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجد الحرام، ومسجد الأقصى ومسجدي". ثم ما لهذا الحديث، وصرف الناس عن حج بيت الله الحرام إلى المسجد الأقصى، وغاية ما يدل عليه أن الرحال لا تشد إلى مسجد من المساجد بقصد الصلاة فيه، إلا لهذه المساجد الثلاثة، فهو إنما يدل على فضل الصلاة في المسجد الأقصى، كما يدل على فضلها في المسجدين الآخرين. ثم ماذا يقولون فيما ثبت من أن المسلمين، كانوا يصلون إلى بيت المقدر قبل أن يصلوا إلى الكعبة، وهو يدل على أنه موضع احترام لدى المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، من أول يوم فرضت فيه الصلاة. وماذا يقولون في قول الله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ، أما أن بني أمية لو كانوا بحاجة إلى ما يدل على فضل بيت المقدس لكفتهم هذه الآية، أم يقولون أن الآية من وضع الزهري أيضا! سبحانك هذا بهتان عظيم.

_ 1 شرح مسلم في الحج، وفتح الباري "جـ3 ص46".

نحن لا ننكر أن هناك أحديث وضعت في فضل الأمويين، والعلويين أو في فضل بعض الأماكن، ولكنا ننكر أن يكون واضعوها من العلماء الأتقياء حقا كما ننكر أن أئمة الأحاديث سكتوا عن هذه الموضوعات، وها هي آثارهم تدل على ما بذلوه من جهد في تمحيص الأحاديث ونقدها، فماذا بعد الحق إلا الضلال. ثالثا: قالوا: "ولم يقتصر الأمر على وضع أحاديث سياسية، بل تعدى ذلك إلى الناحية الدينية في أمور العبادات، التي لا تتفق مع ما يراه أهل المدينة، مثل ما هو معروف من أن خطبة الجمعة كانت خطبتين، وكان يخطب الخلفاء وقوفا، وأن خطبة العيد كانت تتبع الصلاة، فغير الأمويون من ذلك فكان يخطب الخليفة خطبة الجمعة الثانية جالسا، وجعلوا خطبة العيد قبل الصلاة، واستدلوا لذلك بما رواه رجاء بن حيوة، من أن الرسول والخلفاء كانوا يخطبون جلوسا في حين قال جابر بن سمرة: من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب جالسا فقد كذب. ومثل ذلك ما حصل من زيادة معاوية في درجات المنبر، وما كان من جعله المقصورة، التي زالها العباسيون بعد ذلك. كما لم يقتصر الأمر على نشر أحاديث ذات ميول، بل تعداه إلى اضطهاد أحاديث لا تمثل وجهات النظر، والعمل على إخفائها وتوهينها. فمما لا شك فيه أنه كان هناك أحاديث في مصلحة الأمويين، اختفت عند مجيء العباسيين". ونقول: حقا إن الوضع في الحديث لم يقتصر على الميول السياسية، بل تعداه إلى العبادات، لكن لم يكن ذلك من علماء الملة، وأئمة الحديث إنما كان من زنديق يكيد للإسلام، أو من داعية سوء يريد أن يتقرب إلى أهل الأهواء، أو من جاهل لم يخالط قلبه بشاشة الإيمان، أما علماء الإسلام فقد قذفوا بالحق على الباطل، وأخلصوا للأمة النصح من غير

أن تأخذهم فيه لومة لائم، وما ذكره المستشرقون هنا من الشواهد، لا دلالة فيه والتاريخ يحدثنا أن ما أحدثه بعض الخلفاء، من اتخاذ المقوصرة في المسجد أو تقديم الخطبة على صلاة العيد، أو الجلوس في خطبة الجمعة الثانية إلى غير ذلك لم يكن منهم بناء على أحاديث وضعوها، أو وضعت لهم، وإنما كان عن اجتهاد، أو عذر قضى بذلك سواء أكانوا في ذلك مصيبين، أم مخطئين فعن الشعبي1 أنه قال: "أول من خطب الناس قاعدا معاوية، وذلك حين كثر شحمه، وعظم بطنه"، أخرجه ابن أبي شيبة، وذكر ابن خلدون في مقدمته2 أن أول من اتخذ المقصورة في المسجد معاوية بن أبي سفيان، حين طعنه أحد الخوارج طعنة كادت تقضي عليه. وعن طارق3 بن شهاب، قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة قد ترك ما هنالك، فقال أبوسعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، رواه الإمام مسلم في الصحيح، ومن ذلك ترى أن معاوية رضي الله عنه خطب جالسا، واتخذ المقصورة في المسجد لعذر قاهر لا لحديث رواها، أو رويت له وأن مروان بن الحكم معترف بأن السنة تقديم صلاة العيد على الخطبة، لكن أداه اجتهاده إلى تقديم الخطبة، لئلا ينصرف الناس عن سماعها بعد الصلاة، وكأنهم فعلوا معه ذلك بدليل قوله لمن أنكر عليه: "قد ترك ما هنالك"، ولم يستدل لما فعل بشيء من الأحاديث، إنما استدل بتغير أحوال الناس

_ 1 تاريخ الخلفاء ص143. 2 ص299. 3 صحيح مسلم في كتاب الإيمان.

ومع ذلك فقد أنكروا عليه، وبين أبو سعيد الخدري أن من قال لمروان: "الصلاة قبل الخطبة"، قد قضى ما عليه، وهو إنكار المنكر بلسانه حيث عجز عن إزالته بيده، ثم روى الحديث الدال لما يقول على ملأ من الناس ومروان يسمع، ودعوى أن رجاء بن حيوة روى: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء من بعده كانوا يخطبون من جلوس"، دعوى كاذبة ليست إلا في أوهام هؤلاء المسشرقين، ولا يعقل بحال أن يختلق عالم جليل ومحدث أمين كرجاء حادثة يكذبها الواقع والحس، أمام كثير من الصحابة والتابعين، ثم يعدونه بعد ذلك من ثقاة الرواة، وأساطين المحدثين. ثم نقول ثانيا: لا يبعد أن يكون التنافس السياسي بين الأمويين، والعباسين له أثر في خفاء بعض الأحاديث، وظهور بعض آخر منها، ولكن الذي لا نقره أن ينسب ذلك إلى حفاظ السنة ورواة الحديث الموثوق بهم، فإن هؤلاء جدوا في خدمة السنة تحملا وأداء، وذبوا عنها الكذب بكل ما أوتوا من قوة، ولم يكتموا شيئا مما ثبت لديهم، أنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهما لقوا من عنت واضطهاد، ولقد دلتنا أخبارهم على أنهم كانوا أشجع الناس في الحقد، وأجرأهم على الحكام، وأصبرهم على الأذى وأخشاهم لله، وأحرصهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى أن كان أحدهم ليرحل الليالي ذوات العدد إلى الخليفة، إذا بلغه أنه خالف شيئًا، مما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون من بعده. رابعا: أخذ هؤلاء القوم يؤيدون ما ذهبوا إليه، من أن أكثر الأحاديث من وضع العلماء في القرن الأول، والثاني بما ورد من كلام علماء الجرح، والتعديل كقول عاصم بن نبيل المتوفى سنة 212: ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث، وقول يحيى بن سعيد القطان

نحو ذلك وقول يزيد بن هارون: إن أهل الحديث بالكوفة في عصره ما عدا واحدا، كانوا مدلسين حتى السفيانان ذكرا بين المدلسين، قالوا: وقد شعر المسلمون في القرن الثاني بأن الاعتراف بصحة الأحاديث، يجب أن يرجع إلى "الشكل" فقط، وأنه يوجد بين الأحاديث الجيدة الإسناد كثير من الأحاديث الموضوعة، وساعدهم على هذا ما ورد من الحديث: "سيكثر التحديث عني فمن حدثكم بحديث، فطبقوه على كتاب الله فما وافقه فهو مني قلته، أو لم أقله"، هذا هو المبدأ الذي حدث بعد قليل عند انتشار الوضع. قالوا: ويمكن أن نتبين شيئا من ذلك في الأحاديث الموثوق بها. فمن ذلك ما رواه مسلم عن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ألا كلب صيد، أو كلب ماشية" فأخبر ابن عمر أن أبا هريرة يزيد: "أو كلب زرع"، فقال ابن عمر: إن أبا هريرة كانت له أرض يزرعها. فملاحظة ابن عمر تشير إلى ما يفعله المحدث لغرض نفسه. ا. هـ. ونحن نقول: الناظر في قولهم هذا يرى أنهم يستدلون على دعواهم، أن أغلب الأحاديث النبوية من وضع العلماء في القرن الأول، والثاني بأدلة. 1- نسبة بعض الصالحين إلى الكذب في الحديث، كما يدل لذلك قول عاصم وغيره. 2- تدليس كثير من المحدثين، كما قال يزيد بن هارون. 3- وجود أحديث حكم العلماء عليها بالوضع وهي جيدة الإسناد. 4- اتجاه العلماء إلى النقد الشكلي في الأحاديث، وهو عرضها على كتاب الله فما وافقه قبلوه، وما لم يوافقه ردوه من غير نظر إلى الإسناد. 5- اعتراف ابن عمر أن أبا هريرة زاد في الحديث السابق، الذي رواه "أو كلب زرع".

وللرد على دعواهم الباطلة نقول: تكرر منا تزييف هذه الدعوى، وأن أئمة الدين ورجال الحديث لم يتقولوا على النبي صلى الله عليه وسلم، بشيء من الأقاويل، بل عملوا على نشر سنته الصحيحة، وإبطال ما نسبه إليه أهل الأهواء كذبا وزورا. وما استدل به المستشرقون لدعواهم الزائفة باطل، وبيان ذلك: 1- إن رد المحدثين لبعض أحاديث الصالحين دليل على تحريهم البالغ في الأحاديث، ونفي الدخيل عنها، فإنهم لم يكتفوا في الرواة بالصلاح، وحسن السيرة حتى يجمعوا إلى ذلك الحفظ والضبط، واليقظة التامة، فكثيرا ما يروج على الصالح، إذا لم يجمع الأوصاف المذكورة أحاديث الكذابين، بناء على ما يظهر له من أحوالهم، وكثيرا ما تدخل عليه الغفلة لسوء حفظه. 2- وأن التدليس ليس هو الكذب -كما فهم المستشرقون- حتى يستلد به على أن من فعله من العلماء كان يكذب في الحديث. وبيان ذلك أن التدليس عند علماء الحديث قسمان: أحدهما: تدليس الإسناد، وهو أن يروي المحدث عمن لقيه من الرواة ما لم يسمعه منه، موهما أنه سمعه منه، أو عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه قد لقيه وسمعه منه. ومن شأنه ألا يقول في ذلك: "أخبرنا فلان"، ولا "حدثنا فلان" وما أشبههما، وإلا كان كذبا صريحا وإنما يقول: "قال فلان أو عن فلان"، ونحو ذلك من العبارات التي ليست صريحة في السماع. ثانيها: تدليس الشيوخ، وهو أن يروى عن شيخ حديثا، سمعه منه فيسميه أو يكنيه، أو يصفه بما لا يعرف به. كأن يروي عن أبي داود

السجستاني فيقول: "حدثنا أبو عبد الله"، مع أنه لم يشتهر بذلك، وقد كرهه العلماء بقسميه ورأوا أن البعد عنه أقرب إلى الثقة بالراوي، والاطمئنان إلى مروياته، وإن كانت كراهتهم للقسم الأول منه أشد، ومع ذلك فلم يجرحوا به الراوي الثقة، ولكنهم احتاطوا لقبول الأحاديث، التي يرويها المدلس أعظم حيطة. فما رواه المدلس بلفظ محتمل لم يبين فيه السمع والاتصال، فحكمه عندهم حكم المنقطع من الأحاديث. وما رواه بلفظ مبين للاتصال نحو "سمعت، وحدثنا، وأخبرنا"، وأشباهها فهو مقبول محتج به. وهذا؛ لأن التدليس ليس كذبا وإنما هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل. ويجري هذا الحكم على الراوي المدلس، إذا ثبت عنه التدليس، ولو مرة كما قال الإمام الشافعي رحمه الله1، ومن ذلك يتبين أن التدليس شيء، والكذب شيء آخر وأن العلماء يقلون أحاديث المدلس إذا كان ثقة، وصرح بما يدل على السماع من تحديث أو أخبار أو نحوهما، وأنهم توقفوا فيما رواه بلفظ موهم، حتى يتبين حال ما عسى أن يكون قد أسقطه من شيوخه أفبعد ذلك يقال: "إن العلماء كانوا يضعون الأحاديث، وإنها ليست في الغالب من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم": إنه لبهتان عظيم. هذا وقد كان لعلماء الحديث في عصوره المختلفة عناية تامة بالبحث عن المدلسين، من الرواة وحصرهم في بلدانهم، وتمييزهم بأسمائهم ومن أمثلة ذلك ما جاء في معرفة علوم الحديث للحاكم أبي عبد الله قال: أهل الحجاز والحرمين، ومصر، والعوالي وخراسان، والجبال، وأصبهان، وبلاد فارس وخوزستان، وما وراء النهر ليس التدليس من مذهبهم، ولا يعلم أحد من أئمتهم دلس، وأكثر المحدثين تدليسا أهل الكوفة، ونفر يسير

_ 1 مقدمة ابن الصلاح في النوع الثاني عشر.

من أهل البصرة فأما مدينة مدينة السلام "بغداد"، فقد خرج منها جماعة من أئمة الحديث -وذكر أسماءهم وطبقاتهم- لا يذكر عنهم، وعن أقرانهم التدليس إلا أبي بكر محمد بن سليمان الباغندي الواسطي، فإن اخذ أحد من أهل بغداد فعن الباغندي وحده. ا. هـ باختصار1. وهذا من أئمة الحديث غاية في البحث، والتحري عن أحوال الرواة في جميع المواطن، مما يدل على أنهم بذلوا جهودا جبارة في خدمة الحديث. 3- وأما الحكم بالوضع على أحاديث صحت أسانيدها، فهذا من العلماء نهاية الأمانة، وغاية التحري واليقظة، وأنه لم يرج عليهم ما كان يفعله بعض أهل الزيغ، والجهلة من تركيب حديث مختلق على إسناد مقبول. وهذا يدل على عكس ما يدعونه. 4- ومن الباطل دعوى أن العلماء اتجهوا في نقد الأحاديث، إلى عرض متونها على كتاب الله من غير نظر إلى الإسناد، وأنه شجعهم على ذلك حديث "سيكثر التحديث عني، إلخ"، ثم الاستدلال بذلك على أن الحديث أكثره من وضع العلماء. والمعروف عند المحدثين في قبول الأحاديث، أنه لا بد من أن يتصل السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، برواية الثقة مع سلامة متن الحديث من الشذوذ، والعلة، وأنه لا يغني في ذلك سلامة الإسناد من غير نظر إلى المتن، ولا سلامة المتن من غير نظر إلى الإسناد. وأما حديث "سيكثر التحديث عني، فمن حدثكم بحديث فاعضروه على كتاب الله فما وافقه فهو مني قلته، أو لم أقله"، فهو حديث باطل بإجماع أئمة الحديث، وضعه الزنادقة لترويج الأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العوام والجهلة.

_ 1 انظر معرفة علوم الحديث للحاكم ص111-112.

5- ومن الخطأ البين والكذب الفاضح دعواهم أن أبا هريرة رضي الله عنه، زاد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أو كلب زرع"، لمصلحته بناء على ما فهموه من قول ابن عمر رضي الله عنه. والصواب أن قول ابن عمر هذا تثبيت منه لأبي هريرة فيما قال: لا تكذيب له بدليل أنه رواه بعد ذلك كما رواه أبو هريرة، وأن أبا هريرة لم ينفرد بهذه الزيادة وحده، بل رواه كذلك من الصحابة عبد الله بن مغفل، وسفيان بن أبي زهير. قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: "ليس هذا -يعني قول ابن عمر أن لأبي هريرة زرعا- توهينا لرواية أبي هريرة، ولا شكا فيها بل معناه أنه لما كان صاحب زرع، وحرث اعتنى بذلك، وحفظه، وأتقنه والعادة أن المبتلى بشيء يتقنه ما لا يتقنه غيره، ويتعرف من أحكامه ما لا يعرفه غيره. وقد ذكر مسلم هذه الزيادة، وهي "كلب زرع" من رواية ابن المغفل، ومن رواية سفيان بن أبي زهير، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرها أيضا مسلم من رواية ابن الحكم -واسمه عبد الرحمن بن أبي نعيم البجلي- عن ابن عمر، فيحتمل أن ابن عمر لما سمعها من أبي هريرة، وتحققها عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها عنه بعد ذلك، وزادها في حديثه الذي كان يرويه بدونها، ويحتمل أنه تذكر في وقت أنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، فرواها ونسيها في وقت فتركها. قال: والحاصل أن أبا هريرة ليس منفردا بهذه الزيادة، بل وافقه جماعة من الصحابة في روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو انفرد بها لكانت مقبولة مرضية مكرمة1، ا. هـ من شرح مسلم في باب الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخة وبيان تحريم اقتنائها، إلا لصيد أو زرع، أو ماشية ونحو ذلك من كتاب المساقاة والمزارعة.

_ 1 جـ 6 ص452-453 من هامش القسطلاني.

الدور الخامس: السنة في القرن الثالث

الدور الخامس: السنة في القرن الثالث المبحث الأول: النزاع بين المتكلمين وأهل الحديث وأثر ذلك في الحديث ... الدور الخامس: السنة في القرن الثالث ويشتمل هذا الدور على أربعة مباحث: المبحث الأول: النزاع بين المتكلمين، والمحدثين، وأثر ذلك في الحديث. المبحث الثاني: نشاط أهل الأهواء وغيرهم في وضع الأحاديث. المبحث الثالث: تراج لبعض أعلام المحدثين في هذا العصر. المبحث الرابع: نهضة علماء الحديث بتدوين السنة. المبحث الأول: النزاع بين المتكلمين، وأهل الحديث وأثر ذلك في الحديث كان أول ما نشأ الخلاف بين أهل الحديث، وأصحاب الكلام الذين حكموا عقولهم في أصول الدين، وعقائده بمدينة البصرة عندما اعتزل واصل بن عطاء المتوفى سنة 131، أستاذه الحسن البصري، وأخذ يقرر أصولا ليست على مذهب الحسن وغيره من السلف، ومن هذا الوقت سمي أتباع واصل بالمعتزلة، وقد ظهر من رءوس الاعتزال -بعد واصل هذا- عمرو بن عبيد "143"، ثم أبو الهذيل العلاف "235" والنظام "221"، وبشر المريسي "218"، وعمرو بن بحر الجاحظ "225"، وثمامة بن الأشرس، وغيرهم من أصحاب الآراء والأقوال. كان أهل الكلام يخوضون في مسائل كثيرة من أصول الدين، التي خالفوا فيها الجمهور، وأهم تلك المسائل مسألتان:

إحداهما: أفعال العباد يقول المعتزلة: أن أفعال العباد مخلوقة لهم لا لله تعالى، ولهذا استحقوا عليها الثواب والعقاب، ويقول الجمهور: أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وليس للعباد فيها سوى جريانها على أيديهم بكسبهم واختيارهم. والثانية: صفات الله تعالى يقوله المعتزلة: إن الله تعالى منزه عن ثبوت صفات قائمة بذاته، كالسمع والبصر والحياة والقدرة والكلام. أداهم إلى ذلك خوف تعدد القدماء. ويقول الجمهور: إن هذه الصفات من السمع، والبصر ... إلخ قديمة قائمة بذاته تعالى ليست عين الذات ولا غيرها. وقد تفرع على هذا الخلاف في مسألة الصفات خلاف آخر في القرآن، الذي هو كلام الله تعالى أقديم هو؛ لأنه صفة لله جل علاه -وعليه الجمهور- أم حادث مخلوق ككل المخلوقات، فيخلق الله هذه الحروف والأصوات في جسم محدث، يسمعه النبي منه -وإلى ذلك ذهب المعتزلة- وكانوا يحكمون سلطان العقل، ويغلبونه في كثير من أبحاثهم في العقائد، والأحكام حتى أكسبهم ذلك جرأة على الأحاديث، إذا ما صادمت عقائدهم، فكان من السهل عليهم ردها إن لم يجدوا لها تأويلا، ولو كان بعيدا كل البعد، إلا أنه لم يتح للمتكلمين إظهار آرائهم في العامة قبل القرن الثالث، بل كانوا يخشون سلطا العامة أن تبطش بهم كما لم يكن أحد من الخلفاء يناصرهم لمخالفتهم الجمهور الأعظم من المسلمين، فلما جاء القرن الثالث، وقبض على زمام الخلافة المأمون "198-218"، وكان ميالا إلى حرية البحث، والمناظرة أفسح المجال أمام المتكلمين، فظهروا بآرائهم ومن ذلك الموت حديث أحداث عظيمة، وقامت معركة هائلة بينهم وبين المحدثين. كان المأمون بطبعه ميالا إلى العلم شغوفا به، عالما بالكتاب والسنة

مع نباهة وذكاء عظيمين. سمع المأمون موطأ مالك واطلع على كثير من أقوال حكماء الفرس، وفلاسفة اليونان مما عني بترجمته المنصور والرشيد، ولما تولى الخلافة أمر بترجمة كثير من كتب الروم، وبذلك في ذلك الأموال الطائل، حتى أصبح عصره أزهى عصور العلم في خلافة بني العباس، إذ أقبلت الأمة على العلم بنهم كثير وشوق عظيم لا سيما، وقد وجدوا خليفتم يقدر العلم، ويرفع من شأن العلماء. جاء المأمون فوجد العلماء فريقين متنافرين، ووجد الخلاف على أشده بين أهل الحديث، وأصحاب الكلام، فرأى أن يجمع العلماء من المتكلمين والفقهاء، وأصحاب الحديث، ويعقد لهم مجالس للمناظرة أملا في أن يتفقوا على رأي فيما يلقيه عليهم منالمسائل المختلف فيها، ثم يحمل الجميع على ما اتفقوا عليه، وبذلك تجتمع الأمة كلها على كلمة واحدة في الدين لا سيما فيما يرجع إلى العقائد، ومباحث الإمامة. عقد المأمون المجالس للمناظرة، والمحاورة فكانت النتيجة أن كشفت المناظرات الكثيرة، والمناقشات الحادة التي كانت تدور بين يدي المأمون عن رأيه في بعض المسائل الخلافية، وأنه كان ينحاز إلى المعتزلة في بعض آرائهم لا كلها. وكان مما وافقهم عليه القول بخلق1 القرآن. وقد أعلن رأيه بذلك سنة 212هـ على زعم أنه إذا أعلن رأيه للعلماء وفقهاء الأمة، فإنهم يستجيبون لرأيه، ويرتضونه تبعا له. ولكن الأمر جاء على عكس ما كان ينتظره المأمون. قد تكلم الناس فيه ورموه بالابتداع، وتغالى بعضهم فحكم بكفر من يرى خلق القرآن، ومن هذا الحين أخذ الكلام بين المتكلمين، وأهل الحديث يقوى، والنزاع يشتد حتى جاء

_ 1 أول من قال بخلق القرآن الجعد بن درهم في سنة نيف وعشرين ومائة، ثم جهم بن صفوان، ثم بشر بن غياث "تأنيث الخطيب ص53".

عام "218"، فرأى المأمون أنه إن لم يضرب على أيدي خصومه، فسينكشف أمره ويظهر أمام رعيته بمظهر التخاذل، فاستعمل سلطانه في رد أهل الحديث إلى رأيه. محنة القول بخلق القرآن: لما أخفق سعى المأمون في القضاء على الخلاف من طريق سلمي، قوامه المناظرة لإحقاق الحق أراد أن يرغم المحدثين، والفقهاء على قبول رأيه بخلق القرآن لا سيما بعد أن طعنوا فيه بالابتداع، فاستنفدت هذه المسألة جانبا كبيرًا من تفكيره ووقته حتى في أيام غزواته وحروبه مع الروم. ففي عام "218" بينما كان المأمون يغزو بلاد الروم، كتب إلى عامله على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي كتابا يقول فيه فيه "وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية، وسفلة العامة ممن لا نظر لهم، ولا روية، ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه. أهل جهالة بالله وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه. وذلك أنهم ساووا بين الله وبين خلقه، وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله ويخترعه. وقد قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ، وكل ما جعله الله فقد خلقه كما قال تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} ، وقال: {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} ، فأخبر أنه قص لأمور أحدثه بعدها وقال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت} ، والله محكم كتابه ومفصله، فهو خالقه ومبتدعة، ثم انتسبوا إلى السنة وأنهم أهل الحق والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر، فاستطالوا بذلك وغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب في التخشع لغير الله إلى موافقتهم فنزعوا الحق

إلى باطلهم واتخذوا دين الله وليجة إلى ضلالهم -ثم أخذ يصفهم بأنهم شر الأمة وإخوان إبليس- ثم قال لعامله فاجمع من بحضرتك من القضاة، فاقرأ عليهم كتابنا وامتحنهم فيما يقولون، واكشفهم عا يعتقدون في خلقه وأحداثه، وأعلمهم أني غير مستعين في عملي ولا أوثق من لا يوثق بدينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود، ومسألتهم عن علمهم في القرآن وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق، واكتب إلينا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك، ثم وردت من المأمون عدة كتب إلى عامله يأمره فيها بامتحان أهل الحديث في مسألة خلق القرآن، وفي بعضها يقول له: "فمن لم يجب أنه مخلوق فامنعه من الفتوى والرواية"، كما أمر عامله بقتل من لم يقل بخلق القرآن، ولم يكتف المأمون بذلك، بل أنفذ وصيته إلى أخيه المعتصم بالسير على طريقته في مسألة خلق القرآن، ومع أن المعتصم لم يكن على جانب عظيم في العلم، كما كان المأمون إلا أن رغبته في تنفيذ وصية أخيه، واستعداء المعتزلة له على أهل السنة جعله يشتد في المحنة، فكتب إلى البلاد بامتحان الناس في مسألة القرآن، وأمر المعلمين أن يعلموا الصبيان أن القرآن مخلوق، وقتل في ذلك خلقا من العلماء، وأهان كثيرا من أهل الحديث لا سيما الإمام أحمد بن حنبل، الذي أصر على امتناعه من القول بخلق القرآن، واستمرت المحنة إلى أن مات المعتصم سنة 227، ولما تولى ابنه الواثق الخلافة أحيا الفتنة، وأقام سوق المحنة. وفي سنة 231 أصدر أمره إلى أمير البصرة بامتحان الأئمة، والمؤذنين بخلق القرآن. وأظهر الغلظة لمن يقول بخلاف رأيه بل قتل في ذلك بعض أهل الحديث.

رجوع الواثق عن المحنة: اشتد الواثق في مسألة خلق القرآن كثيرا، وساعده على ذلك وزيره أحمد بن أبي دؤاد، وكان من رءوس الاعتزال حتى إن أحمد هذا كان يقول: "من قال من الأسارى القرآن مخلوق خلصوه، وأعطوه دينارين ومن امتنع دعوه في الأسر"، قال الخطيب: كان أحمد بن أبي دؤاد قد استولى على الواثق، وحمله على التشدد في المحنة، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن، واستمر على ذلك حتى مل الواثق المحنة وسئمتها نفسه، فرجع عنها في آخر عمره. هذا أبو عبد الرحمن بن محمد الأذرمي، شيخ أبي داود والنسائي يحمل مكبلا بالحديد من بلاده إلى الواثق، فسأله ابن أبي دؤاد في مجلس الواثق عن قوله في القرآن، فقال له الشيخ: هذا الذي تقوله يا ابن أبي دؤاد من خلق القرآن شيء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، أو جهلوه فقال: بل علموه. قال: فهل دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت أو سكتوا فقال: بل سكتوا. قال: فهلا وسعك ما وسعهم من السكوت، فبهتوا وضحك الواثق، وقام قابضا على فمه وهو يقول: هلا وسعك ما وسعهم ويكررها. ثم أمر أن يعطى الرجل ثلثمائة دينار، ويرد إلى بلده ولم يمتحن أحدا بعدها، وسخط على ابن أبي دؤاد من يومئذ. المتوكل يأمر برفع المحنة، وينتصر لأهل الحديث: ولما ولي المتوكل على الله بن المعتصم الخلافة بعد الخلافة بعد أخيه الواثق سنة "232"، أظهر ميلا عظيما إلى السنة، فرفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق واستقدم المحدثين إلى "سامرا"، وأجزل عطاياهم وأكرمهم، وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤيا. وجلس أبو بكر بن شيبة في جامع

الرصافة، فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس، وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور، فاجتمع إليه أيضا نحو من ثلاثين ألف نفس، وتوفر دعاء الخلق للمتوكل وبالغوا في الثناء عليه، وتعظيمه حتى قيل: الخلفاء ثلاثة، أبو بكر الصديق في قت أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة، وإماتة التجهم1. انتقاص أهل الكلام لأهل الحديث: هذا، ولم يقف المعتزلة عند هذا الحد من إغراء الخلفاء بأهل الحديث، بل أطلقوا ألسنتهم بالسوء، وأخذوا يقبحون أهل الحديث، ويعيبون عليهم طريقتهم، ويحطون من قدرهم، ويرمونهم بالعي والفهاهة، وكل نقيصة. انظر إلى ابن قتيبة أحد علماء القرن الثالث، كيف يصور لنا ما كانوا يرمون به أهل الحديث من شناعات. قال رحمه الله في مقدمة كتابه: "تاويل مختلف الحديث"، الذي ألفه في الرد على أعداء الحديث: "أما بعد أسعدك الله تعالى بطاعته وحاطك بكلاءته ووفقك للحق برحمته، وجعلك من أهله فإنك كتبت إلي تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث، وامتهانهم وإسهابهم في الكتب بذمهم، ورميهم بحمل الكذب، ورواية المتناقض حتى وقع الخلاف، وكثرت النحل وتقطعت العصم، وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضا، وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث. فالخوارج تحتج بروايتهم: "ضعوا سيوفكم على عواتقكم، ثم أبيدوا خضراءهم"، "ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم"، "ومن قتل دون ماله فهو شهيد"، والقاعد

_ 1 انظر البداية والنهاية لابن كثير جـ10 ص272، وما بعدها -تاريخ الخلفاء للسيوطي ص204، وتاريخ الأمم الإسلامية للخضري ص279.

يحتج بروايتهم، "عليكم بالجماعة فإن يد الله عز وجل عليها"، "ومن خالف الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" و "اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف"، "وصلوا خلف كل بر وفاجر"، "لا بد من إمام بر أو فاجر"، "وكن حلس بيتك فإن دخل عليك، فادخل مخدعك فإن دخل عليك فقل بئر بإثمي وإثمك"، و "كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل"، وقد أفاض الإمام ابن قتيبة في نقل كثير من ذلك عنهم ثم قال: هذا مع روايات كثيرة في الأحكام اختلف لها الفقهاء في الفتيا، حتى اختلف الحجازيون، والعراقيون في أكثر أبواب الفقه، وكل يبنى على أصل من روايتهم ومع روايتهم كل سخافة تبعث على الإسلام الطاعنين، وتضحك منه الملحدين وتزهد في الدخول فيه المرتادين، وتزيد في شكوك المرتابين. كروايتهم في عجيزة الحوراء أنها ميل في ميل. ويمن قرأ سورة كذا ومن فعل كذا أسكن من الجنة سبعين ألف قصر في كل قصر سبعون ألف مقصورة في كل مقصورة سبعون ألف مهاد، على كل مهاد سبعون ألف كذا. وكروايتهم في الفأرة أنها يهودية، وأنها لا تشرب ألبان الإبل كما أن اليهود لا تشربها، قالوا: ومن عجيب شأنهم أنهم ينسبون الشيخ إلى الكذب، ولا يكتبون عنه ما يوافقه عليه المحدثون بقدح يحيى بن معين، وعلي بن المديني وأشباههما ويحتجون بحديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة، وقد أكذبه عمر وعثمان، وعائشة وقالوا: لا ندع كتاب ربنا، وسنة نبينا لقول امرأة، ويبهرجون الرجل بالقدر، ولا يحملون عنه كغيلان، وعمرو بن عبيد ومعبد الجهني وعمرو بن فائد، ويحملون عن أمثالهم من أهل مقالتهم كقتادة، وابن أبي عروبة وابن أبي نجيح، ومحمد بن المنكدر وابن

أبي ذئب، ويقدحون في الشيخ يسوى بين علي وعثمان، أو يقدم عليا عليه ويروون عن أبي الطفيل عامل بن واثلة صاحب راية المختار، وعن جابر الجعفي وكلاهما يقول بالرجعة. قالوا: وهم مع هذا أجهل الناس بما يحملون، وأبخس الناس حظا فيما يطلبون، وقالوا في ذلك: زوامل للأشعار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأحماله أو راح ما في الغرائز قد قنعوا من العلم برسمه، ومن الحديث باسمه ورضوا بأن يقولوا: فلان عارف بالطرق وراوية للحديث وزهدوا في أن يقال: عالم بما كتب أو عامل بما علم. قالوا: وما ظنكم برجل منهم يحمل عنه العلم، وتضرب إليه أعناق المطي خمسين سنة أو نحوها. سئل في ملأ من الناس عن فأرة، وقعت في بئرة فقال: "البئر جبار"، وآخر سئل عن قوله تعالى: {رِيحٍ فِيهَا صِر} ، قال: "هو هذا الصرصر"، يعني صراصر الليل. وآخر حدثهم "عن سبعة وسبعين"، ويريد "شعبة وسفين". ا. هـ. ثم أخذ ابن قتيبة يذكر رءوس المعتزلة واحدا واحدا، ويفند ما ألصقوه بأهل الحديث من الكذب والمحال، ومن عجب أن المستشرقين وأعداء الإسلام من الملحدين ينقلون هذه الطعون، ولا ينقلون جواب الإمام ابن قتيبة عنها وصدق القائل: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا كان أهل الحديث على طريقة السلف من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم يحتاطون لأمر الدين، ويتثبتون في رواية السنة، ويقفون مع ظواهر النصوص، ولا يفتحون على العامة باب التأويل، حتى لا يفتتنوا بما لا تهضمه عقولهم، ولا تستسيغه أفهامهم، ووجد منهم في هذا العصر أئمة كبار

وحفاظ عظام عرفوا الأحاديث، وميزوا بين المزيف منها والصحيح، ونقدوا الرواة ووقفوا على أحوالهم أمثال الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه وغيرهم. ألا إنه وجد قوم انتسبوا إلى أهل الحديث، كانوا وصمة عار في جبين الحديث والمحدثين منهم القصاص المخرفون، والمرتزقة الذين يتكسبون بالحديث، والجهلة بأحكام الشرع وأوليات الفقه. فالقصاص كانوا يبثون الغرائب والمناكير، التي تبعث على الإسلام المطاعن، والجهلة المتفيهقون كانوا كالحمار يحمل أسفارا "إذا سئل أحدهم عن حكم شرعي تخبط في جهله، وتعثر في غيه وقد يكون إماما في أتباعه، فيفتي بكل منكر في الشرع. وكان لهم أفهام في الحديث تضحك الثكلى، وتبعث في نفس المؤمن الحزن والأسى، فمن ذلك أن أحدهم كان يصلي الوتر بعد الاستنجاء من غير أحداث وضوء، ويستدل على هذا العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "من استجمر فليوتر"، والمقصود من الحديث إيتار الجمار عند الاستنقاء، لا صلاة الوتر بعد نقض الوضوء مباشرة من غير توضؤ، وسئل كبير منهم في مجلس تحديثه عن دجاجة، وقعت في بئر فقال للسائل: ألا غطيتها حتى لايقع فيها شيء، فأسرع بعض المتفقهة بالإجابة سترا لجهل الشيخ، وسئل أحدهم عن مسألة في الفرائض، فكتب في الفتوى. تقسم على فرائض الله سبحانه وتعالى. وسئل أحدهم عن الحالف بصدقة إزاره فقال: بكم اشتريته فقال: باثنين وعشرين درهما، فقال: اذهب وصم اثنين وعشرين يوما. وفهم بعضهم من حديث، "نهي أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره"، المنع من سقي بساتين الجيران مع أن المراد وطء الحبالى من السبايا1. إلى غير ذلك من سخافاتهم.

_ 1 انظر تأنيب الخطيب ص5.

وقد ضاق ذرعا بأمثال هؤلاء الجهال كثير من أعلام المحدثين، فشعبة يقول فيهم: "كنت إذا رأيت رجلا من أهل الحديث، يجيء أفرح به فصرت اليوم ليس شيء أبغض إلي من أن أرى واحدا منهم"، ويقول ابن عيينة: "أنتم سخنة عين لو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضربا". ويقول عمرو بن الحارث -شيخ الليث- في أمثال هؤلاء: "ما رأيت علما أشرف وأهلا أسخف من أهل الحديث". وقال محمد بن سهل بن عسكر: وقف المأمون يوما للأذن، ونحن وقوف بين يديه إذ تقدم إليه غريب يده محبرة. فقال: يا أمير المؤمنين صاحب حديث منقطع به، فقال له المأمون: أيش تحفظ في باب كذا فلم يذكر فيه شيئا، فما زال المأمون يقول: حدثنا هشيم وحدثنا الحجاج بن محمد، وحدثنا فلان حتى ذكر الباب، ثم سأله عن باب ثان فلم يذكر فيه شيئا، فذكره المأمون ثم نظر إلى أصحابه فقال: "يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام ثم يقول: "أنا من أصحاب الحديث"، أعطوه ثلاثة دراهم"، وإذا علمت أن هذه المثالب والطعون موجهة إلى قوم من المتكسبين بالحديث الأدعياء في الرواية، علمت أن أعداء الإسلام في كل عصر ليسوا على حق في توجيه هذه الطعون إلى الأئمة الأعلام، والحفاظ العظام الذين كشفوا عن الدخيل، وميزوا الحق من الباطل، وجاهدوا في سبيل السنة وصونها حتى أبلوا في ذلك أحسن البلاء مما قرأته عنهم، وما ستقرؤه إن شاء الله. هذا ما يقال في أهل الحديث، أما أهل الكلام فإننا نجدهم يرتفعون بالعقل، ويذهبون بسلطانه إلى أقصى حدوده حى ساقهم ذلك إلى التطرف في تأويل النصوص بما يمجه الذوق السليم، ويدفعه الطبع المستقيم كل ذلك محافظة على ما اعتقدوه من الآراء.

أخذ المعتزلة في هذا العصر في بحث كتب الفلسفة اليونانية وغيرها، وتشبعوا من علوم الحكمة، فحكموا آراءهم في الدين، وطبقوا ما فهموه من هذه الدراسات على الكتاب والسنة، وانفتح عليهم باب التأويل والطعن في الأخبار، حتى لم يسلم منهم بعض الصحابة رضي الله عنهم، وليتهم وقفوا عند هذا الحد، ولكنهم أرادوا العامة على سلوك طريقتهم، واعتقاد آرائهم واستعدوا عليهم الخلفاء، كما رأيت والعامة كما ترى لا تهضم هذه الفلسفات، ولا تفهم الكم والأين وغيرهما من المقولات، قد كان يكفيهم مناظرة علماء الجمهور من أئمة الحديث والفقه في مجالس المأمون، وغيرها ليظهروا سلطان العقل، ويقيموا البراهين الساطعة على خصومهم، ثم بعد ذلك يقولون لهم معا على الرسول إلا البلاغ، ولا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. ولكن المعتزلة انتهزوا قربهم من الخلفاء، وأخذهم بزمام الوزارة والقضاء، فانتقموا من أهل الحديث ومن جمهور الأمة ما أمكنهم الانتقام، ولم يبالوا بسفك الدماء الطاهرة البريئة، ومن عجيب أمرهم أنهم يختلفون على أنفسهم في مسائل الدين اختلافا عظيما، لكن لم يصلوا في خصومتهم إلى عشر معشار ما فعلوه مع أهل الحديث. هذا أحمد بن أبي دؤاد يحكم بكفر من لم يقل بخلق القرآن، ثم يستعمل سلطة الوزارة، فيأمر بفداء الأسرى من قال منهم بخلق القرآن، أما من لم يقل بذلك فإنه يترك أسيرا في أيدي الكفار؛ لأنه في نظره غير مسلم فلا يستحق الفداء. أفما كان الأجدر بهم -لو كانوا يريدون الخير للإسلام وأهله- أن يتحدوا مع أهل الحديث، ويكون الجميع جبهة في الدفاع عن الدين

ومحاربة الوضاعين من زنادقة وقاصين. أما المسائل التي كانوا على خلاف فيها، فإما أن يكون الجدال فيها بالتي هي أحسن من غير أن تراق الدماء، أو تستعمل وسائل الإرهاب، وأما أن يسلكوا فيها مسلك السلف الصالح، وهو الإمساك عنها وعدم الخوض فيها. هذا مالك إمام دار الهجرة يسأل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، فيقول: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وهذا أبو حنيفة ينهى أصحابه، ويحذرهم من التكلم في القرآن أمخلوق هو أم غير مخلوق. وهذا بطل المحنة الإمام أحمد بن حنبل، يمسك عن الخوض في مسألة خلق القرآن، وكل ذلك منهم كان محافظة على عقيدة العامة، واتباعا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح من بعده. أما أنهم لو سلكوا أحد الطريقين لكان خيرا وأولى، ولكن قدر فكان. من هذا البيان ترى أن المتكلمين والمحدثين، كانوا في هذا العصر بل وقبل هذا العصر على طرفي نقيض. لقد حط من شأن المحدثين في نظر المتكلمين، وجود أدعياء الرواية وجهلة الشيوخ، وكذبة القصاص بينهم فرموهم بالجهل، وبكل نقيصة، ووضع من شأن المعتزلة في نظر أهل الحديث اعتناقهم لآراء الفلاسفة وخروجهم عن النصوص، وردهم للأحاديث الصحيحة، وطعنهم في الصحابة حيث فسقوهم وبدعوهم، ولم يقبلوا الحديث من طريقهم. فلما جاء المأمون وكان متضلعا من العلوم العقلية، والنقلية رأى أن يقضي على الخلاف بين الفريقين ويوحد كلمة الأمة في العقائد، ويوجه جهودها إلى محاربة الخارجين عن الشرع الشريف من أهل الزيغ والضلال، فعقد مجالس المناظرة لذلك، فكان من ورائها

اتساع هوة الخلاف ورميه بالكفر والضلال، فرأى أن يأخذ أهل الحديث بالشدة لما وقر في صدره أن القرآن المكتوب في المصاحب، لا ينبغي أن يرتاب في حدوثه، ولكنا نأخذ عليه أنه اشتط كثيرا في مسلكه بإراقة الدماء البريئة واستعمال وسائل الإرهاب والعنف. ولقد كان يكفيه -إذا فاته ما كان يقصد من القضاء على الخلاف- أن يحظر الرواية، والفتوى على القصاص، والزنادقة والجهلة من أدعياء الحديث، ويأذن بذلك لأئمة الحديث والفقه، ثم يترك العلماء بعد ذلك أحرارا فيما يذهبون، وأن يسعه ما وسع سلف الأمة الصالح من الإمساك عن الغوص في مثل هذه الأمور، التي لا يترتب عليها فائدة عملية للمسلمين. وكذلك نأخذ على المعتزلة أنهم لم يكونوا على شيء من النبل في الخصومة، فإنهم أخذوا المحق بذنب المبطل، وسووا بين الأشراف والسفلة، والعلماء والجهلة، وسلوا سيف البغي على أئمة الدين، ورواة الحديث من غير أن تأخذهم في أحد رحمة. لذلك قابلهم جمهور المسلمين بما يجب أن يقابلوا به بعد أن رفعت المحنة، وزالت الشدة، فلم تقم لهم قائمة من ذلك الوقت إلى اليوم. أما موقف المحدثين في هذه المحنة، فقد كان سليما ومحمودا ذلك أنهم أمسكوا عن الخوض في أمور ضررها أكبر من نفعها، فكانوا بذلك على طريقة السلف الصالح، أغلقوا بموقفهم من الخلفاء والمعتزلة أبوابا من الشر لا نهاية لها ولو أنهم استكانوا، وقالوا بخلق القرآن لكان ذلك ذريعة لاستدراجهم إلى عقائد المعتزلة شيئا فشيئا، وفي ذلك من الخطر ما فيه، فجزاهم الله عن الدين وأهله أحسن الجزاء. هذا وقد يقول قائل: إن مسألة خلق القرآن من أوضح المسائل

فهذه الألفاظ التي نقرؤها بألسنتنا كل يوم في الصلاة وغيرها، ونكتبها بأقلامنا في المصاحب وغيرها، لا يشك أحد في أنها مخلوقة. فكيف يقف المحدثون هذا الموقف الذي جر عليهم كل هذه النكبات، وهل يدخل في عقل إنسان أن هذه الألفاظ القرآنية قديمة وليست بمخلوقة. ونقول: إنه لم يخف على كبار أئمة الحديث أمثال الإمام أحمد بن حنبل حقيقة الحال، ولكنهم آثروا الإمساك عن النطق بذلك محافظة على عقيدة العامة، فالقرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته قديمة، والعامي لا يميز بين كلام الله الذي هو الصفة القديمة، وبين كلام الله المنزل الذي هو ألفاظ مكتوبة مقروءة، وحادثة مخلوقة فإذا قيل: إن القرآن مخلوق، وهو كلام الله التبس الأمر على العامة بين الحادث، والقديم لذلك لما طلب إلى الإمام أحمد أن يقول بخلق القرآن تقية. قال: "إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق"، وهذا أبو يعقوب البويطي يعرض عليه والي مصر أن يقول فيما بينه وبينه أن القرآن مخلوق، ويطلقه فيقول: "إنه يقتدي بي مائة ألف ولا يدرون المعنى"، ويفضل أن يؤتى به إلى بغداد ويموت في السجن. من هنا نأخذ أن موقف المحدثين كان موقفا سليما، فقد أحاطوا عقيدة العامة حتى لا تزل بهم الأهواء، وحافظوا على قدسية القرآن في نفوسهم، وهم في ذلك سالكون منهج السلف الصالح، الذين وسعهم السكوت عن الخوض في مثل هذه المسائل، بل نهوا الناس عن الدخول فيما لا يعنيهم، والتكلم بما يعلو على أفهامهم. النتائج التي عادت على الحديث، وأهله من وراء هذا النزاع: كان لهذا النزاع الشديد، وذلك الصراع العنيف أثره البالغ في الحديث والمحدثين، وإليك بعض هذه الآثار:

1- كانت محنة القول بخلق القرآن خافضة رافعة، رفعت رجال الحديث إلى السماكين، وخفضت المعتزلة إلى الحضيض، ومن هذا الحين عظم احترام العامة لأهل السنة، وأحبوهم أكثر من ذي قبل وحمدوا لهم سيرتهم. 2- كان لموقف المحدثين أثر بالغ في المحافظة على عقيدة العامة من أن تعصف بها بدع أهل الأهواء، وتتجاذبها أعاصير الأباطيل، وشكوك المموهين. 3- كان للقول بخلق القرآن أثر كبير في جرح الرواة، أو عدالتهم فالمأمون كان يرد رواية من لم يقل بخلق القرآن، ويحكم بفسق الشهود والقضاة إن لم يقروا بذلك، وكذلك فعل المحدثون ففسقوا من يقول بخلق القرآن وبالغ آخرون فردوا رواية من يثير الكلام في هذه المسألة، وأظن أن هذا كان سدا للذريعة فقط، حتى يتناسى القوم المسألة وتمحى من الأذهان، فلا يقع المسلمون فيها مرة أخرى. وكادت شظايا هذه الفتنة تصيب الإمام البخاري، فإنه لما قدم نيسابور وسألوه عن اللفظ، فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأعمالنا مخلوقة. فلما سمع بذلك الإمام الذهلي قال: "القرآن كلام الله غير مخلوق ومن زعم، "لفظي بالقرآن مخلوق"، فهو مبتدع لا يجلس إلينا، ولا نكلم من يذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل"، فانقطع الناس عن البخاري إلا مسلم بن الحجاج، وأحمد بن سلمة1. 4- كان لهذه المعركة أثر سيئ في وضع الحديث، فقد انتهز الزنادقة ومن لا دين له هذا النزاع فوضعوا الأحاديث فيه، واختلقوها زورا

_ 1 شروط الأئمة الخمسة للحازمي ص21.

وبهتانا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرووا عن أبي الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من قال القرآن مخلوق فقد كفر"، ورووا عن أنس مرفوعا، "كل ما في السموات والأرض، وما بينهما مخلوق غير الله والقرآن وذلك أنه كلامه منه بدأ، وإليه يعود وسيجيء أقوام من أمتي يقولون: القرآن مخلوق فمن قاله منهم فقد كفر بالله العظيم، وطلقت امرأته من ساعته؛ لأنه لا ينبغي للمؤمنة أن تكون تحت كافر، إلا أن تكون سبقته بالقول"، وغير ذلك كثير في اللآلئ المصنوعة للسيوطي وكشف الخفاء. 5- كان من النتائج السيئة لهذه الفتنة أن أهل الأهواء أطلقوا ألسنتهم حدادا في ذم أهل الحديث، فطعنوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأزروا على المحدثين، ورموهم بالجهل الفاضح، وألصقوا بهم صفت المرتزقة من دعاة العلم وأدعياء الحديث وألفوا الكتب في ذلك حتى جاء المستشرقون في عصور الضعف العلمي والسياسي للمسلمين، فوجدوا ثروة طائلة من هذه السخافات، والمثالب وصوروا الإسلام في صورة الخرافات، وطعنوا بدورهم في أئمة المسلمين، وقد اغتربهم الجهلة في عصرنا الحاضر، ونسجوا على منوال أساتذتهم ورموا علماء المسلمين في كل عصر بكل نقيصة وبهتان، والله يشهد إنهم لكاذبون.

المبحث الثاني: نشاط أهل الأهواء في وضع الأحاديث

المبحث الثاني: نشاط أهل الأهواء في وضع الأحاديث حدثناك أيها القارئ عن جهود علماء الإسلام في القرن الأول والثاني تجاه الوضاعين، وأنهم أخذوا عليهم كل مسلك، وقعدوا لهم كل مرصد ميزوا بين الدخيل، والأصيل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزنوا الرواة بميزان الجرح والتعديل، وفحصوا عن مروياتهم وأسانيدهم، وعلى الرغم من هذه الجهود العظيمة فإنه ماكاد يطل هذا القرن الثالث حتى كثر الوضع في الحديث بشكل مزعج فهؤلاء الزنادقة يبثون سمومهم لإفساد عقائد المسلمين، وهؤلاء الشعوبيون يضعون الحديث في فضل الفرس، وتفضيلهم على العرب، ومن ورائهم القصاص يستولون على قلوب العامة بالمناكير. ونحن نذكر لك شيئا من أعمال هذه الطوائف، لتلمس الخطر الذي أحدق بالسنة، وكاد يذهب بنورها وليكبر في عينك ما قام به علماء الحديث من مطاردة الكذابين، والقضاء على أباطيل الأفاكين بما صنفوه من الكتب الحافلة بالحديث، وعلومه في هذا العصر فنقول: 1- التعصب للجنس وأثره في وضع الحديث: قامت الدولة العباسية على أكتاف الفرس من أهل خراسان، وكانت هذه البلاد موطن التشيع لآل البيت، ولما كان الفرس يفهمون أن الملك ينال بالوراثة تأثروا إلى حد كبير بآراء الشيعة، فعدوا بني أمية غاصبين لحقوق آل البيت ينغي قتالهم، وتخليص الحق إلى صاحبه الشرعي. وكانت الفرس أمة ذات حضارة، وتأريخ عظيمين، وكانت لهم السيطرة على كثير من الأمم العربية كالعراق، واليمن فلما دالت دولتهم، ووقعوا في قبضة العرب وأصبحوا موالي لهم يتحكمون فيهم، حنوا بعد ذلك إلى عظمتهم الأولى، ولما قام بنو العباس يطالبون بالخلافة، وجدوا من الفرس قلوا مستعدة لا سيما عند الخاصة منهم، فقد كانوا يأملون الحصول على شيء من السلطان الضائع. لذلك رأينا أبا مسلم الخراساني وأضرابه، يتفانون في نصرة بني العباس ويحاربون بني أمية بكل سلاح، وفي

الواقع لم يكن الصراع بين بني أمية، وبني العباس وإنما كان بين العرب والفرس، ولما استقر الأمر لني العباس لم يكونوا يتحمسون للعرب ضد الفرس؛ لأن الفرس نصروهم وشيدوا لهم الملك بدمائهم؛ ولأن بعض خلفاء بني العباس كانوا من أمهات فارسيات، لكن كانوا يتحمسون كثيرا لأمر الدين، ولا تأخذهم رحمة في محاربة الزنادقة، وقتلهم والتشهير بهم، وهل كان ذلك من الخلفاء حمية دينية أو فكرة سياسية، هذا ما لا يهمنا البحث فيه الآن. بل الذي يهمنا أن فكرة ظهرت على ألسن بعض العامة، وأشربتها قلوب الخاصة ألا وهي فكرة تفضيل العجم على العرب والحط من شأن الآخرين، وهي المعروفة عند المؤرخين بالشعوبية. أثر الشعوبية في الحديث: نمت هذه الفكرة، وترعرعت في القرن الثاني ثم بلغت أوجها في القرن الثالث، وساعد على ظهورها أن خلفاء بني العباس لم يقابلوا العصبية الفارسية بالعصبية العربية، كما كان الحال في الدولة الأموية، بل لم يتعصبوا كثيرا للعربية وإن تعصبوا كثيرا للإسلام كما أشرنا إليه، ولقد انتهز الشعوبيون هذا الضعف من الخلفاء، وحاربوا العرب وعابوهم، وسخروا منهم، وقالوا في ذلك الأشعار والخطب الطوال، وألفوا الكتب في مفاخر العجم، ومثالب العرب ولم يدعوا بابا من أبواب الهجاء إلا طرقوه وستغلوا لهذه النزعة الخبيثة وضع الأحاديث، ورواية الأكاذيب في فضل الفرس وبلدانهم وعلمائهم. كما وضعوا أحاديث في الحط من قيمة العرب وعلمائهم، وإليك بعض هذه الأباطيل التي اختلقوها. قالوا: لما فتحت خراسان، وتطاول إليها العساكر، واجتمعت أذربيجان والجبال ضاق ذرع عمر بن الخطاب فقال: "ما لي وخراسان، وما بخراسان

من ولي وددت أن بيني وبين خراسان جبالا من برد وجبالا من نار، وألف سد كل سد مثل سد يأجوج ومأجوج، فقال علي بن أبي طالب: مهلا يا بن الخطاب هل أتيت بعلم محمد أو اطعلت على علم محمد، فإن لله بخراسان مدينة يقال لها "مرو"، أسسها أخي ذو القرنين، وصلى فيها عزير أنهارها سياحة وأرضها فياحة على كل باب من أبوابها ملك شاهر سيفه، يدفع عن أهلها الآفات إلى يوم القيامة، وإن لله بخراسان مدينة يقال لها "الطالقان"، وإن كنوزها لا ذهب ولا فضة، ولكن رجال مؤمنون يقومون إذا قام الناس وينصرون إذا فشل الناس، وإن لله بخراسان لمدينة يقال لها "الشاش" القائم فيها، والنائم كالمتشحط بدمه في سبيل الله. وإن لله بخراسان لمدينة يقال لها "بخارى"، وإن رجال بخارى آمنون من الصرخة عند الهول إذا فزعوا. مستبشرين إذا حزنوا فطوبى لبخاري، يطلع الله عليهم في كل ليلة إطلاعة فيغفر لمن يشاء منهم، ويتوب على من تاب منهم ... إلخ. وهو كلام طويل جدا. ومن ذلك قولهم: "جور الترك، ولا عدل العرب"، وزعمهم الباطل أن الأعاجم ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "لأنا بهم أوثق مني بكم"، وفي رواية: "لأنا ببعضهم أوثق مني ببعضكم". "سيأتي ملك من ملوك العجم، فيظهر على المدائن كلها إلا دمشق"، ومن ذلك ما رووه في فضل محمد بن كرام السجستاني العابد، المشهور بالتجسيم، ووضع الحديث المتوفى سنة 255، وقد ارتحل من خراسان إلى الشام، وأقام بها "يجيء في آخر الزمان رجل يقال له محمد بن كرام يحيي السنة والجماعة، هجرته من خراسان إلى بيت المقدس كهجرتي من مكة إلى المدينة"، وما وضعوه في فضل أبي حنيفة النعمان؛ لأنه من أصل فارسي وذم الشافعي؛ لأنه عربي "يكون في أمتي رجل يقال له: محمد ابن إدريس أضر على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له: أبو حنيفة هو سراج أمتي"، وضعه

مأمون بن أحمد الهروي، من أهل القرن الثالث ومن ذلك: "إن آدم افتخر بي وأنا أفتخر برجل من أمتي اسمه نعمان، وكنيته أبو حنيفة وهو سراج أمتي "وفي رواية" إن سائر الأنبياء يفتخرون بي، وأنا أفتخر بأبي حنيفة من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني". هذا وقد استعمل العرب، أو من تعصب لهم هذا السلاح سلاح الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك قولهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العرب سادات العجم". تلك هي آثار العصب للجنس في وضع الحديث، وإنك لتلمح في بعضها معاني الإلحاد في الدين، والدعوة إلى التحلل من أحكامه كقولهم في فضل مدينة الشاش: "القائم فيها والنائم كالمتشحط بدمه في سبيل الله"1. 2- الزندقة وأثرها في وضع الحديث: أكثر ما تطلق الزندقة عليه في العصر العباسي -على ما يظهر- هو اتباع دين المجوس، وخاصة دين "ماني" مع التظاهر بالإسلام، ثم توسعوا في استعمالها فأطلقوها على الملحد الذي لا دين له، وعلى التهتك، والفجور مع تبجح في القول يصل أحيانا إلى ما يمس الدين لكن لا عن نظر بل عن خلاعة ومجون. وقد أشرنا عبد الكلام على الدور السابق إلى شيء من أعمال الزنادقة

_ 1 تاريخ الأمم الإسلامية للخضري "نشأة الدولة العباسية"، ضحى الإسلام جـ1 ص49= 74. اللآلئ المصنوعة جـ1 ص441، كشف الخفاء، ومزيل الإلباس جـ1 ص337.

في وضع الحديث، وهنا نبين لك شيئا عن العوامل التي ساعدت على فشو الزندقة في العصر العباسي، وعن أثرها في وضع الحديث في هذا القرن الثالث. ساعد على فشو الزندقة في العصر العباسي عامة، وفي القرن الثالث خاصة عدة أمور منها: 1- كثرة الجدال حول المسائل الأساسية في الدين، وشيوع الأبحاث الفلسفية، فقد ترجمت كتب الحكمة، والفلسفة، وأقبل على قراءتها كثير من العلماء وبعض الخلفاء كالمأمون، حتى رمي من أجل ذلك بالزندقة. 2- عدم حصول الفرس على حكومة فارسية بعد زوال دولة بني أمية، فأخذوا يكيدون للإسلام عن طريق إفساد عقائد المسلمين ببث تعاليم المجوسية، وبخاصة مذهب "ماني". 3- إسناد السلطة الحكومية إلى الموالي من الفرس، وإقصاء العرب عنها مكن للفرس من إظهار مذاهبهم القديمة، وتعضيد من يتظاهر بها. هذه هي أهم عوامل انتشار الزندقة، التي مكنت الزنادقة من الكيد للإسلام، وكان من أسهل الطرق عليهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبثوا في الناس كثيرا من الأقاويل، التي تشوه جمال الدين، وتثير حوله المطاعن والشبه يريدون بهذا هدم الإسلام، وتنفير الناس منه ودعوة المسلمين إلى التحلل من أحكامه، وبذلك تضعف شوكة المسلمين، ويصير من السهل على هؤلاء الزنادقة التغلب على البقية الباقية من أهل الإسلام، وإعادة سلطانهم كما كان. فأخذوا ينشرون بين الناس تعاليم المجوسية، ومذاهب المانوية، وظهر منهم طوائف كثيرة بمذاهب خبيثة من

التجسيم وغيره، وكان منهم القصاص والمتصوفة الذين يتظاهرون بالتقوى والورع، ويضمرن الحقد على الدين وأهله1. من أوضاع الزنادقة: ونحن نذكر لك طائفة من الأباطيل، التي نسبوها للنبي صلى الله عليه وسلم وهو براء منها. فمن ذلك زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لما أراد الله خلق نفسه خلق الخيل، فأجراها حتى عرقت ثم خلق نفسه من ذلك العرق"، قال ابن عساكر: حديث إجراء الخيل موضوع، وضعته الزنادقة ليشنعوا به على أصحاب الحديث في روايتهم المستحيل، فقبله من لا عقل له وهو مما يقطع ببطلانه شرعا وعقلا. ومن ذلك زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى خلق الملائكة من شعر ذراعية وصدره، أو من نورهما"، "وأنه -تعالى عن ذلك علوا كبيرا- ينزل عشية عرفة على جمل أورق، يصافح الركبان ويعانق المشاة"، وأنه عليه السلام قال: "رأيت ربي في المنام في أحسن صورة شابا موقرا رجلاه في خضر له نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب"، وكروايتهم في عجيزة الحوراء، أنها ميل في ميل وفيمن قرأ سورة كذا وكذا، ومن فعل كذا وكذا أسكن من الجنة سبعين ألف قصر، في كل قصر سبعون ألف مقصورة، في كل مقصورة سبعون ألف مهاد على كل مهاد سبعون ألف كذا. وكروايتهم أن الفأرة كانت يهودية، وأنها لا تشرب ألبان الإبل، كما أن اليهود لا تشربها. وكروايتهم في السنور أنه عطسة الأسد، والخنزير أنه عطسة الفيل. وأن الضب كان يهوديا عاقا فمسخ.

_ 1 ضحى الإسلام جـ1 ص137، وما بعدها.

وأن سهيلا كان عشارا باليمن، وأن الزهرة كانت بغيا عرجت إلى السماء باسم الله الأكبر، فمسخها الله شهابا، وإن الأرض على ظهر حوت1. إلى غير ذلك من الأكاذيب والأباطيل. مقاومة الخلفاء العباسيين للزنادقة: ولقد قاوم الخلفاء الزنادقة، وطهروا الأرض من جراثيمهم، فلم تأخذهم بهم هوادة، بل قتلوهم وحبسوهم، وشردوا بهم من خلفهم. اضطهدهم أبو جعفر المنصور في خلافته، ونكل بهم المهدي أيما تنكيل أيام دولته، وعين للزنادقة رجلا سماه "صاحب الزنادقة"، وكل إليه أمر إبادتهم والقضاء عليهم، وأمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين، وإقامة البراهين على المعاندين، وإيضاح الحق للشاكين. وأوصى ابنه موسى الهادي بالعمل على إبادة الزنادقة، وشرح له أمرهم وسوء نيتهم نحو الإسلام والمسلمين، وجاء عنه أنه قال: "والله لئن عشت لأقتلن هذه الفرقة كلها حتى لا أترك منها عينا تطرف"، وقد أنفذ الهادي وصية أبيه بكل أمانة. كذلك تعقبهم هارون الرشيد والمأمون من بعده، روى أن المأمون بلغه خبر عشرة من الزنادقة من أهل البصرة، يذهبون إلى قول "ماني"، ويقولون بإله النور وإله الظلمة، فأمر بحملهم إليه بعد أن سموا واحدا واحدا، فكان يدعوهم رجلا رجلا، ويسألهم عن دينهم، فيخبرونه بالإسلام، فيمتحنهم بأن يظهر لهم صورة "ماني"، ويأمرهم أن يتلفوا عليها، ويبرءوا منها فامتنعوا فقتلهم، وفي عهد المعتصم كانت حادثة كبرى في تاريخ الزندقة، وهي محاكمة قائد جيوشه المسمى "بالأفشين"، اتهم بالزندقة فحبس ومنع من الطعام، والشراب حتى مات ثم صلب، وأحرق بالنار2.

_ 1 انظر مقدمة تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة. 2 انظر ضحى الإسلام جـ1 ص140.

القصص في القرن الثالث وأثره في الحديث: كما انتشرت الزندقة في هذا العصر، كذلك ذاع القصص، وكثر المحترفون له ولا ننسى أن بين هؤلاء القصص فريقا من الزنادقة أيضا، "كما أشرنا إليه آنفا" ومنهم المرتزقة، ومدعو العلم والإمامة في الحديث، ولقد انتشر القصاص، والزنادقة في هذا العهد حتى أن الخلفاء، كانوا يصدرون أوامرهم بمنع القصاص، والمنجمين من الجلوس في المساجد والطرقات. كذلك منعوا من بيع كتب الفلسفة ففي سنة 279هـ، وهي السنة التي بويع فيها المعتضد الخليفة العباسي بالخلافة أصدره أمره بمنع الوراقين من بيع كتب الفلاسفة، وما شاكلها ومنع القصاص، والمنجمين من القعود في الطريق1. هذا وإن أصدق مرآة تتراءى لنا فيها أعمال القصاص في هذا القرن، ما ذكره العلامة الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة 276هـ في كتابه "تأويل مختلف الحديث"2. قال رحمه الله: الحديث يدخله الشوب والفساد من وجوه ثلاثة "منها الزنادقة"، واجتيالهم للإسلام، وتهجينه بدس الأحاديث المستشنعة والمستحيلة، كالأحاديث التي قدمنا ذكرها من عرق الخيل، وعيادة الملائكة، وقفص الذهب على جمل أورق وزغب الصدر، ونور الذراعين مع أشياء كثيرة، ليست تخفى على أهل الحديث، ومنهم ابن أبي العوجاء الزنديق، وصالح بن عبد القدوس الدهري "والوجه الثاني القصاص"، على قديم الأيام فإنهم كانوا يميلون وجوه العوام إليهم، ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب

_ 1 انظر تاريخ الخلفاء للسيوطي ص246. 2 ص355، وما بعدها.

من الأحاديث. ومن شأن العوام القعود عند القاصد ما كان حديثه عجبا خارجا عن فطر العقول، أو كان رقيقا يحزن القلوب، ويستغزر العيون. فإذا ذكر الجنة. قال: فيها الحوراء من مسك أو زعفران، وعجيزتها ميل في ميل. ويبوئ الله تعالى وليه قصرا من لؤلؤة بيضاء. فيه سبعون ألف مقصورة في كل مقصورة سبعون ألف قبة، في كل قبة سبعون ألف فراش على كل فراش سبعون ألف كذا وكذا، فلا يزال في سبعين ألف كذا وسبعين ألف كذا، كأنه يرى أنه لا يجوز أن يكون العدد فوق السبعين ألفا، ولا دونها ويقول: لأصغر من في الجنة منزلة عند الله من يعطيه الله تعالى مثل الدنيا كذا وكذا ضعفا. وكلما كان هذا أكثر كان العجب أكثر، والقعود عنده أطول، والأيدي بالعطاء إليه أسرع. والله تبارك وتعالى يخبرنا في كتابه بما في جنته بما فيه مقنع عن أخبار القصاص، وسائر الخلق إلى أن قال: ثم يذكر آدم عليه السلام. ويصفه فيقول: كان رأسه يبلغ السحاب أو السماء، ويحاكها فاعتراه لذلك الصلع، ولما هبط على الأرض بكى على الجنة، حتى بلغت دموعه البحر وجرت فيها السفن، ويذكر داود عليه السلام، فيقول: سجد لله تعالى أربعين ليلة، وبكى حتى نبت العشب بدموع عينيه، ثم زفر زفرة هاج له ذلك النبات، ويذكر عصا موسى عليه السلام، فيقول: كان نابها كنخلة سحوق، وعينها كالبرق الخاطف وعرفها كذا ثم قال: ويذكر عبادا أتاهم يونس عليه السلام في جبل لبنان فيخبرهم عن الرجل منهم أنه كان يركع ركعة في سنة ويسجد نحو ذلك، ولا يأكل إلا في كذا وكذا من الزمان ثم قال: "وأما الوجه الثالث الذي يقع فيه فساد الحديث، فأخبار متقادمة كان الناس في الجاهلية يروونها تشبه أحاديث الخرافة"، كقولهم أن الضب كان يهوديا عاقا، فمسخه الله تعالى ضبا، وكقولهم في الديك، والغراب أنهما كانا

متنادمين فلما نفد شرابهما رهن الغراب الديك عند الخمار، ومضى فلم يرجع إليه، وبقي الديك عند الخمار حارسا. ا. هـ، وروى السيوطي في كتابه1 تحذير الخواص من أكاذيب القصاص، عن جعفر بن محمد الطيالسي قال: "صلى أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهم قاص فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، قالا: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله، خلق الله من كل كلمة طيرا منقاره من ذهب وريشه من مرجان، وأخذ في قصة نحوا من عشرين ورقة، فجعل أحمد ينظر إلى يحيى بن معين ويحيى ينظر إلى أحمد فقال له: أنت حدثته بهذا، فقال: والله ما سمعت بهذا إلا الساعة، فلما فرغ من قصصه، وأخذ القطيعات، ثم قعد ينتظر بقيتها قال يحيى بن معين بيده: تعالى فجاء متوهما لنوال، فقال له يحيى: من حدثك بهذا الحديث، فقال: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فقال له: أنا يحيى بن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط، في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان ولا بد والكذب فعلى غيرنا. فقال له: أنت يحيى بن معين. قال: نعم. قال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق ما حققته إلا الساعة. فقال له يحيى: وكيف علمت أني أحمق. قال: كأن ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما. قد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين. فوضع أحمد كمه على وجهه، وقال: دعه يقوم فقام كالمستهزئ بهما" ا. هـ.

_ 1 ص48، وما بعدها.

المبحث الثالث: تراجم لبعض أئمة الحديث في هذا العصر

المبحث الثالث: تراجم لبعض أئمة الحديث في هذا العصر اشتهر في هذا القرن كثير من نحارير المحدثين، وجهابذة السنة كانت لهم أياد بيضاء في خدمة الحديث، ومعرفة رجاله والبحث عن علله، وإليك طائفة منهم: علي بن المديني: كان من أئمة الحديث الممتازين لم يترك بابا من أبوابه، إلا طرقه وبخاصة ما يرجع إلى الرجال والعلل، وقد صنف في ذلك الكتب الكثيرة، التي لم يسبق إلى معظمها، ولم يلحق في كثير منها. لذا أثنى عليه العلماء، وشهدوا له بالتقدم والمعرفة فسفيان بن عيينة، وهو من شيوخه يقول: "والله لقد كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني". وكذلك قال يحيى بن القطان وهو من مشايخه وقال البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد قط، إلا عند علي بن المديني"، وقال أبو حاتم: "كان ابن المديني علما في معرفة الحديث والعلل"، هذا وقد ذكر الحاكم في معرفة علوم الحديث جملة وافرة من مؤلفاته، تدل على رسوخ قدمه واتساع أفقه في علوم السنة، فمن ذلك كتاب الأسامي والكنى ثمانية أجزاء، وكتاب الضعفاء عشرة أجزاء، وكتاب المدلسين خمسة أجزاء، وكتاب الطبقات عشرة أجزاء، وكتاب علل المسند ثلاثون جزءا، وكتاب علل حديث ابن عيينة ثلاثة عشر جزءا، وكتاب من لا يحتج بحديثه ولا يسقط جزءان، وكتاب الكنى خمسة أجزاء، وكتاب الوهم والخطأ خمسة أجزاء، وكتاب من نزل من الصحابة سائر البلدان خمسة أجزاء، وكتاب من حدث ثم رجع عنه جزءان، وكتاب اختلاف الحديث خمسة أجزاء، وكتاب العلل المتفرقة ثلاثون جزءا، وكتاب مذاهب المحدثين جزءان. إلى غير ذلك من مصنفاته الباهرة، التي تدل على تبحره، وتقدمه، وكمال

معرفته. توفي رحمه الله سنة 234هـ. بسرمرى1. يحيى بن معين: هو، أحد الأئمة الذين انتهت إليهم الزعامة في الحديث -أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين. وعلي بن المديني. وأبي بكر بن أبي شيبة- سمع الحديث من ابن المبارك وابن عيينة، وابن مهدي وهشيم ووكيع وغيرهم، وسمع منه أبو زرعة الرازي، وأبو حاتم والبخاري ومسلم، وأبو داود وكثير غيرهم. أجمع العلماء على إمامته وجلالته في هذا الشأن لا سيما ما يتعلق بالجرح والتعديل، وكشف حال الكذابين مع التثبت، والتمكن حتى رووا عنه أنه استقبل القبلة، ورفع يديه يقول: "اللهم إن كنت كلمت في رجل ليس هو عندي كذابا، فلا تغفر لي"، ورووا عنه أنه قال: "لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها مع علقناه". قال فيه أحمد بن حنبل: "السماع من يحيى بن معين شفاء لما في الصدور"، وقال أيضا: "يحيى بن معين رجل خلقه الله لهذا الشأن يظهر كذب الكذابين، وكل حديث لا يعرفه يحيى ليس بحديث"، وقال ابن المديني: "ما رأيت في الناس مثله"، وقد عده الحاكم في كتابه علوم الحديث من فقهاء المحدثين. توفي بالمدينة المنورة سنة "233"، ودفن بالبقيع، ونودي يوم وفاته: هذا الذي كان ينفي الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم2. أبو بكر بن أبي شيبة: هو، الحافظ المتقن عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي. روى عن

_ 1 تهذيب الأسماء للنووي جـ1 ص350. فهرست ابن النديم ص322، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص71. 2 تهذيب الأسماء للنووي جـ1 ص156، الفهرست لابن النديم ص322- معرفة علوم الحديث للحاكم ص72.

أبي الأحوص وابن المباك، وشريك وهشيم وجرير بن عبد الحميد، ووكيع وابن علية وابن مهدي، وابن القطان وابن عيينة، وزيد بن هارون وخلق كثير. وروى عنه البخاري، ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وروى له النسائي بواسطة أحمد بن علي القاضي، وابنه أبو شيبة إبراهيم، وأحمد بن حنبل ومحمد بن سعد وأبو زرعة، وأبو حاتم وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وإبراهيم الحربي وكثير غيرهم. كان أبو بكر ثقة، حافظا للحديث، أثنى عليه بالحفظ والاتقان كثير من أهل عصره. قال أبو عبيد القاسم: "انتهى العلم إلى أربعة: فأبو بكر أسردهم له وأحمد أفقههم فيه، ويحيى أجمعهم له وعلي أعلمهم به". وقال صالح بن محمد: "أعلم من أدركت بالحديث وعلله علي بن المديني، وأعلمهم بتصحيف المشايخ يحيى بن معين، وأحفظهم عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة". وقال أبو زرعة الرازي: "ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة"، وقال ابن حبان: كان متقنا حافظا، دينا ممن كتب وجمع وصنف، وذاكر وكان أحفظ أهل زمانه للمقاطيع. توفي رضي الله عنه سنة "235"1. أبو زرعة الرازي: هو، عبد الله بن عبد الكريم أحد الحفاظ، المشهورين أثنى عليه أهل عصره بالعلم، والورع، والحفظ، وشهدوا له بالتفوق على أقرانه. قالوا: كان يحفظ سبعمائة ألف حديث. وكان في شبيبته إذا اجتمع بأحمد بن حنبل اقتصر أحمد على الصلوات المكتوبات، ولا يفعل المندوبات اكتفاء

_ 1 تهذيب التهذيب جـ6 ص2.

بمذاكرته وحسبك هذا من مثل أحمد بن حنبل دليلا على إتقان أبي زرعة وحفظه وضبطه. روى الحاكم في معرفة علوم الحديث: "لما انصرف قتيبة بن سعد إلى الري، سألوه أن يحدثهم فامتنع وقال: أحدثكم بعد أن حضر مجلسي أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو خيثمة. فقالوا له: إن عندنا غلاما يسرد كل ما حدثت به مجلسا مجلسا. قم يا أبا زرعة فقام أبو زرعة، فسرد كل ما حدث به قتيبة، فحدثهم قتيبة"، وعده الحاكم في فقهاء الحديث في كتابه المذكور. توفي رحمه الله سنة "264"1. أبو حاتم الرازي: هو، محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران، أبو حاتم الحنظلي الرازي أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، العارفين فعلل الحديث والجرح والتعديل، وهو قرين أبي زرعة سمع الكثير، وطاف الأقطار وروى عن كثير من الأئمة الكبار. جاء عنه أنه قال لابنه عبد الرحمن: يا بني مشيت على قدمي في طلب الحديث أكثر من ألف فرسخ، وكان يتحدى من حضر عنده من الحفاظ، وغيرهم يقول: من أغرب علي بحديث واحد صحيح فله علي درهم أتصدق به، قال: ومرادي "سمع ما ليس عندي"، فلم يأت أحد بشيء من ذلك، وكان من جملة من حضر أبو زرعة الرازي. أجمعوا على جلالته، وعلو شأه في الحديث وعلله وعده الحاكم من فقهاء الحديث. توفي رحمه الله سنة "277"2. محمد بن جرير الطبري: هو، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، الطبري.

_ 1 تاريخ ابن كثير جـ11 ص37. معر علوم الحديث 75، وما بعدها. 2 تاريخ ابن كثير جـ11 ص59. معرفة علوم الحديث للحاكم ص76.

ولد بآمل سنة "224"، واستوطن ببغداد حتى توفي بها، وكان يعد في طبقة الترمذي، والنسائي. سمع كثيرا من شيوخ البخاري، ومسلم وغيرهم وحدث عنه كثير من العلماء منهم أحمد بن كامل، ومحمد بن عبد الله الشافعي، ومخلد بن جعفر، كان ابن جرير من أكابر الأئمة يحكم بقوله، ويرجع إلى معرفته وعلمه حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات كلها، بصيرا بالمعاني فقيها في الأحكام، عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله من المصنفات كتابه المشهور "تاريخ الأمم والملوك"، وكتاب التفسير الذي قال فيه أبو حامد الإسفرائيني: "لو سافر رجل إلى الصين ليحصل تفسير ابن جرير الطبري، لم يكن هذا كثيرا"، وكتاب "تهذيب الآثار" ألا أنه لم يتمه، ولو تم لكان آية في علوم السنة. ابتدأ فيه بما رواه أبو بكر الصديق، وتكلم على كل حديث، وعلته، وطرقه وما فيه من الفقه، واختلاف العلماء وحججه، واللغة فتم مسند العشرة، وأهل البيت والموالي، وقطعة من مسند ابن عباس، وهو من عجائب كتبه. قال ابن كثير في التاريخ: وقد رأيت له كتابا جمع فيه أحاديث "غدير خم" في مجلدين ضخمين، وكتابا جماع فيه طرق حديث الطير. توفي رحمه الله سنة "310"1. ابن خزيمة: هو، محمد بن إسحاق أبو بكر بن خزيمة النيسابوري، إمام الأئمة رحل إلى الري، وبغداد والبصرة، والكوفة والشام، والجزيرة ومصر وواسط، وسمع الحديث من خلق كثير منهم إسحاق بن راهويه، ومحمد بن حميد

_ 1 تاريخ ابن كثير جـ11 ص145، وما بعدها -ومفتاح السنة ص33 طبقات الشافعية الكبرى جـ2 ص135.

الرازي، ولم يحدث عنهما لكونه سمع منهما في صغره، وحدث عن محمود بن غيلان، ومحمد بن أبان المستملي وإسحاق بن موسى الخطمي، وأبي قدامة السرخسي وغيرهم، وروى عنه الأئمة الكبار كالبخاري، ومسلم خارج الصحيح، ومحمد بنعبد الله بن عبد الحكم شيخه، ويحيى بن محمد بن صاعد وأبو علي الغساني، وإسحاق بن سعد النسوي وخلائق كثير. كان ابن خزيمة قبلة العلم والعلماء، وإماما يقصده الناس من كل ناحية. كالبحر يقذف للقريب جواهرا ... كرما، ويبعث للغريب سحائبا وكان شديد التحري للحديث، حتى ليتوقف في التصحيح لأدنى كلام يقال في الإسناد. روى الحاكم عن أبي العباس بن سريج أنه قال فيه: "إنه يخرج النكت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنقاش"، وقال الربيع بن سليمان: "استفدنا من ابن خزيمة أكثر مما استفاد منا"، وقال محمد بن حبان التميمي: "ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن، ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها، حتى كأن السنن كلها بين عينيه إلا محمد بن إسحاق"، وقال الدارقطني: "كان ابن خزيمة إماما ثبتا معدوم النظير". عده الحاكم من فقهاء الحديث، قال: "ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتابا، سوى المسائل والمسائل المصنفة أكثر من مائة جزء، فإن فقه حديث بريرة ثلاثة أجزاء، ومسألة الحج خمسة أجزاء". وله كتاب الصحيح، وهو من أجل كتب الحديث يتلو صحيح مسلم بن الحجاج، على ما ذكره السيوطي في ألفيته، إلا أنه قد انعدم أكثره. توفي رحمه الله سنة "311"1.

_ 1 الطبقات الكبرى للشافعية جـ2 ص130. معرفة علوم الحديث للحاكم ص83، الرسالة المستطرفة للكتاني ص17.

محمد بن سعد كاتب الواقدي: هو، الإمام الحافظ المؤرخ الثقة أبو عبد الله، محمد بن سعد بن منيع القرشي الهاشمي ولاء البصري ثم البغدادي. كان أبوه مولى الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي. ولد بالبصرة سنة 168، وتوفي ببغداد سنة 230. روى عن محمد بن عمر الواقدي، وبه تخرج، وعن ابن علية وسفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون الواسطي، وعبيد الله بنموسى العبسي، وأبي نعيم الفضل بن دكين الكوفي، وغيرهم من شيوخ الرواية بالبصرة، والكوفة، وواسط وبغداد ومكة المكرمة، والمدينة المنورة والشام واليمن، ومصر وسائر البلاد، وهو من المكثرين جدا من الرواية عن شيوخ الأمصار وعمدته في العلم ذلك البحر المواج محمد بن عمر الواقدي، وممن روى عنه مصعب الزبيري، والحارث محمد بن أبي أسامة صاحب المسند، وأحمد بن عبيد بن ناصح الهاشمي، وأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري صاحب فتوح البلدان، وأبو بكر عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي الدنيا، والحسين بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن فهم رواية الطبقات الكبرى، عن ابن سعد، وهو الذي قال عن شيخه: "كان كثير العلم، كثير الكتب كتب الحديث والفقه والغريب". كان ابن سعد مرضيا عند الرواة حيث لم يلابس الفتن الهوجاء في عهد المأمون وبعده، فأمكنه ذلك نشر علمه وعلم أستاذه، وبقيت كتبه محفوظة مقبولة عندهم ومن أهمها كتاب الطبقات الكبير، جمع فيه صفوة ما ذكره علماء السير أمثال الشعبي، والأوزاعي، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق الواقدي. ذكر في هذا الكتاب أخبار الأنبياء عليهم

السلام وسائر آباء سيد المرسلين، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، تمهيدا لذكر سيره ومغازيه عليه السلام، وبعد أن انتهى من السيرة النبوية ذكر طبقات الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إلى وقته ووزعهم على أمصار المسلمين: المدينة المنورة، ومكة المكرمة، والشام، واليمن، ومصر، والكوفة، والبصرة، وبغداد، وسائر البلدان، وهو أقدم كتاب متوارث في موضوعه لا يستغنى عنه محدث، ولا فقيه ولا مؤرخ وقد أجاد فيه وأحسن. لكن ليس كل ما فيه من الروايات قويا، بل بين أسانيده ما هو مقطوع أو مرسل. وإنما فعل ذلك ليستوفي جميع ما ورد في الموضوع الذي يبحث عنه. وتمحيص هذه الأسانيد هين عند أهل العلم. هذا والذين جاءوا بعد ابن سعد، ممن كتب في الرجال هم عالة على علمه، ومع ذلك فقد فاتهم ترتيبه وسياق أسانيده بسبب اختصارهم1. إسحاق بن راهويه: هو، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم، أبو يعقوب الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه -راهويه لقب أبيه إبراهيم- كان من أئمة المسلمين والعلماء البارزين. جمع إلى إمامته في الحديث إمامته في الفقه، وبراعته فيه مع الحفظ والصدق، والورع والزهد. رحل إلى العراق والحجاز، واليمن والشام، وسمع جرير بن عبد الحميد الرازي، وإسماعيل بن علية، وسفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح، وبقية بن الوليد، وعبد الرازق بن همام، والنضر بن شميل وآخرين، وروى عنه محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو عيسى الترمذي، وأحمد بن سلمة وكثير غيرهم،

_ 1 تاريخ بغداد للخطيب، ومقدمة الطبقات الكبرى للشيخ محمد زاهد الكوثري. طبع مصر.

وروى عنه من قدماء شيوخه يحيى بن آدم1، وبقية بن الوليد، ومن أقرانه أحمد بن حنبل، وكان رحمه الله مضرب المثل في الحفظ، والاتقان، والإمامة والصدق قال عن نفسه: "أعرف مكان مائة ألف حديث كأني أنظر إليها، وأحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلب، وأحفظ أربعة آلاف حديث مزورة. فقيل له: ما معنى حفظ المزورة؟ قال: إذا مر بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة فليته منها فليا"، وقيل له: إنك تحفظ مائة ألف حديث؟ قال: مائة ألف ما أدري ما هو، ولكني ما سمعت شيئا قط، إلا حفظته ولا حفظت قط شيئا فنسيته"، وقال أبو داود الخفاف: "أملى علينا إسحاق بن راهويه أحد عشر ألف حديث من حفظه، ثم قرأها علينا فما زاد حرفا، ولا نقص حرفا"، وقال أبو حاتم الرازي: "ذكرت لأبي زرعة إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وحفظه للأسانيد والمتون، فقال أبو زرعة: ما رؤي أحفظ من إسحاق"، قال أبو حاتم: "والعجب من إتقانه وسلامته من الغلط مع ما رزق من الحفظ"، وكلام الأئمة في الثناء على إسحاق يطول ذكره، فنكتفي بذلك. قال أبو داود: "إسحاق بن راهويه تغير قبل أن يموت بخمسة أشهر، وسمعت منه في تلك الأيام ورميت به. ولد سنة 161، وتوفي سنة 238 بنيسابور عن سبع وسبعين سنة2. الإمام أحمد بن حنبل: هو، إمام الأئمة وحافظ الأمة، وفقيهها أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي، ثم البغدادي.

_ 1 روى عن إسحاق بن راهويه، قال: كتب عني يحيى بن آدم ألفي حديث. 2 تاريخ بغداد للخطيب جـ6 ص345، وما بعدها.

ولد في بغداد سنة 164. وفي حداثته كان يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف، ثم ترك ذلك وأقبل على سماع الحديث سنة 187. وقد طاف في البلاد والآفاق، وسمع من مشايخ العصر، وكانوا يجلونه ويحترمونه، ومن مشايخه هشيم وإبراهيم بن سعيد، وسفيان بن عيينة، وتفقه بالشافعي حين قدم بغداد ولزمه واستفاد منه، وعني عناية عظيمة بالسنة والفقه، حتى عده أهل الحديث إمامهم وفقيههم، وقد أخذ عنه الحديث جماعة من الأماثل، منهم محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، والشافعي، وعبد الرزاق ووكيع وهؤلاء الثلاثة من شيوخه، وقد كان الإمام الشافعي على جلالة قدره في الحديث، والفقه يعتمد الإمام أحمد في تصحيح الأحاديث، وتضعيفها ولذلك لما اجتمع به في بغداد سنة 198. قال له: يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث، فأعلمني به أذهب إليه حجازيا كان، أو شاميا، أو عراقيا، أو يمنيا، وعمر أحمد إذ ذاك نيف وثلاثون سنة، وقال الشافعي: خرجت من العراق فما تركت رجلا أفضل، ولا أعلم ولا أورع، ولا أتقى من أحمد بن حنبل، وكذلك اعترف له بعلو المكانة في العلم، والحديث علماء عصره على اختلاف ميولهم، ومشاربهم قال إسحاق بن راهويه: "أحمد حجة بين الله، وبين عبيده في أرضه"، وقال يحيى بن معين: "كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط كان محدثا، وكان حافظا وكان عالما، وكان ورعا وكان زاهدا وكان عاقلا"، وقال أيضا: "أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، والله ما نقوى أن نكون مثله، ولا نطيق سلوك طريقه". ا. هـ. وقد استحوذ جماعة من المعتزلة على المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق ودعوهم إلى أن يحملوا الناس على القول بخلق القرآن، وممن أريد على ذلك الإمام أحمد بن حنبل، فأبى كل الإباء فضرب وحبس وهو

مصر على الامتناع سنة "220" في عهد المعتصم. قال بشر الحافي بعد ما ضرب أحمد: "أدخل أحمد الكير، فخرج ذهبا أحمر"، وقال علي بن المديني: "ما قام أحمد في الإسلام ما قام أحمد بن حنبل"، ولما بلغت هذه المقالة أبا عبيد القاسم بن سلام قال: "صدق علي، أن أبا بكر وجد يوم الردة أنصارا وأعوانا، وإن أحمد بن حنبل لم يكن له أنصار، ولا أعوان". ثم أخذ أبو عبيد يطريه، ويقول: "لست أعلم في الإسلام مثله"، وقد توفي أحمد رحمه الله سنة 241 ببغداد، وله عند العلماء حسن الذكرى، وجميل الأحدوثة تاريخ ابن كثير "10-335". الإمام البخاري: هو، إمام المحدثين، وشيخ الحفاظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة الجعفي مولاهم. إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أقرانه. ولد البخاري رحمه الله ببخارى سنة "194هـ"، وألهمه الله حفظ الحديث، وهو في المكتب قال الفربري: سمعت محمد بن أبي حاتم وراق البخار يقول: سمعت البخاري يقول: ألهمت حفظ الحديث، وأنا في الكتاب قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتاب، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم. فقلت: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم فانتهرني فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل فنظر فيه، ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام، فقلت: هو الزبير، وهو ابن عدي عن إبراهيم فأخذ القلم وأصلح كتابه، وقال لي: صدقت قال: فقال له إنسان ابن كم حين رددت عليه؟، فقال: ابن إحدى عشرة سنة. قال: فلما طعنت في ست عشرة سنة

حفظت كتب ابن المبارك، ووكيع وعرفت كلام هؤلاء يعني أصحاب الرأي، قال: ثم خرجت مع أمي وأخي إلى الحج. قال: ولما طعنت في ثماني عشرة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين، ثم صنفت التاريخ في المدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت أكتبه في الليالي المقمرة، وقل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة، إلا أني كرهت أن يطول الكتاب. ارتحل البخاري لطلب الحديث وتنقل في البلاد. قال سهل بن السري: قال البخاري: "دخلت إلى الشام ومصر، والجزيرة مرتين وإلى البصرة أربع مرات وأقمت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين"، وكان لا يجارى في حفظ الحديث سندا ومتنا، مع تمييزه للصحيح منه والسقيم. دخل مرة إلى سمرقند، فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها، فجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها، وخلطوا في الأسانيد، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، ثم قرءوها على البخاري يقصدون امتحانه، فرد كل حديث إلى إسناده، وقوم تلك الأحاديث والأسانيد كلها ولم يقدروا أن يأخذوا عليه سقطة في إسناد ولا متن، وكذلك صنعوا معه في بغداد، فأذعنوا له بالفضل والسبق، وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب، فيحفظه من نظرة واحدة، والأخبار عنه في ذلك كثيرة. وقد أثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه. فقال الإمام أحمد: ما أخرجت خراسان مثله، وقال ابن المديني: لم ير البخاري مثل نفسه، وقال محمود بن النظر بن سهل الشافعي: دخلت البصرة والشام والحجاز، والكوفة ورأيت علماءها كلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري، فضلوه على أنفسهم. وقال أحمد بن حمدون القصار: "رأيت مسلم بن الحجاج جاء إلى البخاري، فقبل بين عينيه، وقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله، ثم

سأله عن حديث كفارة المجلس، فذكر له علته، فلما فرغ قال مسلم: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك"، وقال الترمذي: "لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ، ومعرفة الأسانيد أعلم من البخاري"، وقال ابن خزيمة: "ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري"، وكان البخاري رحمه الله من الأئمة المجتهدين في الفقه، واستنباط الأحكام من السنن والآثار، ومما يؤثر عنه قوله: "لا أعلم شيئا يحتاج إليه، إلا وهو في الكتاب والسنة"، فقيل له: يمكن معرفة ذلك فقال: نعم. وتراجمه على الأحاديث في كتابه الجامع الصحيح تدل على ذلك. قال إسحاق بن راهويه أحد شيوخه: "لو كان البخاري في زمن الحسن لاحتاج الناس إليه في الحديث، ومعرفته، وفقهه"، وقال أبو نعيم، وأحمد بن حماد وغيرهما: "البخاري فقيه هذه الأمة"، وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: "محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا، وأغوصنا، وأكثرنا طلبا"، وقال ابن كثير في التاريخ: "ومنهم من فضله في الفقه، والحديث على الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه"، وقد كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة، والسخاء، والورع والزهد في الدنيا شريف النفس بعيدا عن الأمراء والسلاطين حتى إن أمير بخارى خالد بن أحمد الذهلي، طلب إليه أن يحضر ليسمع أولاده منه فأبى أن يذهب. وقال: في بيته يؤتى العلم فأرد الأمير أن يصرف الناس عن السماع منه، فلم يقبلوا من الأمير، فأمر عند ذلك بنفيه فنزح البخاري من بلده إلى بلدة يقال لها: "خرتنك" على فرسخين من سمرقند، وجعل يدعو الله أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين، فمرض على أثر ذلك، وتوفي ليلة عيد الفطر عن اثنتين وستين سنة، وقد ترك بعده علما نافعا

لجميع المسلمين بما بثه في مؤلفاته من العلم الغزير، ومن هذه المؤلفات: قضايا الصحابة والتابعين والتاريخ الكبير، والتاريخ الأوسط والتاريخ الصغير والأدب المفرد، والقراءة خلف الإمام وبر الوالدين، وخلق أفعال العباد وكتاب الضعفاء، والجامع الكبير والمسند الكبير، والتفسير الكبير وكتاب الأشربة وكتاب الهبة، وأسامي الصحابة وكتاب الوحدان، وكتاب المبسوط، وكتاب العلل وكتاب الكنى، وكتاب الجامع الصحيح، وهو أجل كتبه نفعا، وأعلاها قدرا. ورحم الله البخاري رحمة واسعة، وأجزل له العطاء آمين1. الإمام مسلم بن الحجاج: هو، الإمام الكبير، وحافظ الحفاظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، النيسابوري. ولد بنيسابور "204"، وطلب الحديث صغيرا ورحل في طلبه إلى جميع محدثي الأمصار فرحل إلى العراق والحجاز، والشام ومصر، وأخذ عن شيوخها من مشايخ البخاري وغيرهم. ولما ورد البخاري ونيسابور في آخر أمره لازمة مسلم وأدام الاختلاف إليه ونظر في علمه، وحذا حذوه، وكان يناضل عنه، وقد هجر من أجله شيخه محمد بن يحيى الذهلي، لما قال يوما لأهل مجلسه، وفيهم مسلم بن الحجاج، إلا من كان يقول بقول البخاري في مسألة "اللفظ بالقرآن"، فليعتزل مجلسنا فنهض مسلم من فوره إلى منزله، وجمع ما كان سمعه من الذهلي، وأرسله إليه وترك الرواية عنه في الصحيح وغيره، روى عن مسلم جماعة كثيرون من أئمة عصره وحفاظه، وفيهم طائفة من أقرانه، ومنهم أبو حاتم. الرازي وموسى بن هارون، وأحمد بن سلمة، والترمذي وغيرهم. أجمعوا

_ 1 تاريخ ابن كثير جـ11 ص24، وما بعدها ومفتاح السنة ص38-39- مقدمة فتح الباري الجزء الثاني ص193، وما بعدها.

على جلالته وإمامته وعلو مرتبته في السنة، وحذقه فيها وتضلعه منها، ومن أكبر الدلائل على ذلك كتابه الصحيح، الذي لم يوجد في كتاب قبله، ولا بعده ما فيه من حسن الترتيب، وتلخيص طرق الحديث بغير زيادة، ولا نقصان والاحتراز من التحويل في الأسانيد، عند اتفاقها من غير زيادة، وتنبيهه على ما في ألفاظ الرواة من اختلاف في المتن، أو الأسانيد ولو قل، واعتنائه بالتنبيه على الروايات المصرحة بسماع المدلسين، وغير ذلك مما هو معروف في كتابه، وقد أثنى عليه كثير من العلماء من أهل الحديث وغيرهم. قال أحمد بن سلمة: "سمعت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما"، وقال إسحاق بن منصور لمسلم: "لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين". صنف مسلم في علم الحديث كتبا كثيرة، منها كتابه الصحيح الذي من الله به على المسلمين، ومنها الكتاب المسند الكبير على أسماء الرجال، وكتاب الجامع الكبير على الأبواب. وكتاب العلل وكتاب أوهام المحدثين، وكتاب التمييز وكتاب من ليس له إلا راو واحد، وكتاب طبقات التابعين، وكتاب المخضرمين وغير ذلك. توفي رحمه الله بنيسابور "261"، عن 57 عاما "تهذيب الأسماء، وتاريخ ابن كثير 11-32". الإمام النسائي: هو، الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر بن سنان بن دينار النسائي، نسبة إلى نساء بلدة مشهورة بخراسان، ويقال: النسوي بقلب الهمزة واوا. ولد رحمه الله سنة "215"، وكان أحد أعلام الدين وأئمة الحديث إمام أهل عصره، وقدوتهم بين اصحاب الحديث في معرفة الجرح والتعديل. قال الحاكم أبو عبد الله: "سمعت الدارقطني غير

مرة يقول: أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بعلم الحديث من أهل زمانه في جرح الرواة، وتعديلهم وكان شديد التحفظ والورع، فتراه يقول في سننه وهو يروي عن الحارث بن مسكين: هكذا قرئ عليه، وأنا أسمع ولا يقول في الرواية عنه: حدثنا أو أخبرنا كما يقول في روايات أخرى عن مشايخه". سمع إسحاق بن راهويه، وأبا داود السجستاني، ومحمود بن غيلان، وقتيبة بن سعيد، وعلي بن خشرم وغيرهم من أهل خراسان، والحجاز والجزيرة، ومصر والشام وغيرها، وأخذ عنه الحديث خلق كثير منهم الدولابي، وأبو القاسم الطبراني، وأبو جعفر الطحاوي، ومحمد بن هارون بن شعيب. رحل وهو ابن "15" سنة إلى قتيبة بن سعيد البلخي، ومكث عنده سنة وشهرين، وأخذ عنه الحديث وقدم مصر، وأقام بها طويلا وانتشرت بها تصانيفه، وأخذ عنه الناس، ثم خرج منها سنة "302" إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، ففضل عليا عليه، فما زالوا به حتى قتلوه ضربا. قال الدارقطني: "لما امتحن النسائي بدمشق قال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها فتوفي بها، ودفن بين الصفا والمروة"، وصوب الذهبي أنه مات بالرملة بفلسطين. نقل التاج السبكي عن شيخ الحافظ الذهبي ووالده التقي السبكي، أن النسائي أحفظ من مسلم صاحب الصحيح، وأن سننه أقل السنن بعد الصحيحين حديثا ضعيفا، بل قال بعض الشيوخ: أنه أشرف المصنفات كلها، وما وضع في الإسلام مثله، وقد قال ابن منده وابن السكن، وأبو علي النيسابوري، وأبو أحمد بن عدي، والخطيب والدارقطني: "كل ما في سنن النسائي صحيح"، لكن في هذا تساهل صريح، وشذ بعض المغاربة ففضله

على كتاب البخاري، ولعله لبعض الحيثيات الخارجة عن كمال الصحة، وقال أبو علي النيسابوري: "للنسائي شرط في الرجال أشد من شرط مسلم"، وهذا القول غير مسلم قال البقاعي في شرح الألفية عن ابن كثير: "أن في النسائي رجالا مجهولين إما عينا، أو حالا ومنهم المجروح وفيه أحاديث ضعيفة، ومعلة ومنكرة"، وللنسائي مصنفات كثيرة في الحديث والعلل توفي رحمه الله سنة "303"، بعد أن عمر 89 عاما1. أبو داود: هو، سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأسدي السجستاني، ولد سنة "202" ورحل في طلب العلم، وكتب عن أهل العراق والشام، ومصر وخراسان وأخذ الحديث عن مشايخ البخاري، ومسلم كأحمد بن حنبل، وعثمان بن أبي شيبة وقتيبة بن سعيد، وغيرهم من أئمة الحديث، وأخذ عنه ابنه عبد الله، وأبو عبد الرحمن النسائي، وأبو علي اللؤلؤي وخلق سواهم. أثنى العلماء عليه ووصفوه بالحفظ التام، والعلم الوافر والفهم الثاقب في الحديث، وغيره مع الدين والورع فكان علما من أعلام الحفاظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسننه وأيامه. قال الحاكم أبو عبد الله: كان أبو داود إمام أهل الحديث في عصره، بلا مدافعة سمعه بمصر والحجاز والشام، والعراقين، وخراسان". وكان علماء الحديث قبل أبي داود قد صنفوا الجوامع، والمسانيد ونحوها فتجمع كتبهم إلى السنن والأحكام أخبارا وقصصا، وآدابا ومواعظ، فأما السنن المحضة، فلم يقصد أحد منهم إفرادها واستخلاصا، حتى جاء أبو داود فعمل على جمع أحاديث الأحكام، والاقتصار عليها

_ 1 تاريخ ابن كثير "جـ11 ص123-124"، ومقدمة شرح المجتبى للسندي والسيوطي.

فاتفق له ما لم يتفق لغيره وقد عرضا على أحمد بن حنبل، فاستجادها واستحسنها. وقال إبراهيم الحربي: "لما صنف أبو داود هذا الكتاب ألين له الحديث، كما ألين لداود الحديد"، صنف أبو داود كتبا كثيرة، وتوفي بالبصرة سنة "275". الترمذي: هو، الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي، الترمذي ولد سنة 209 بترمذ، وكان إماما ثقة حجة. أخذ الحديث عن جماعة كثيرة منهم قتيبة بن سعيد، وإسحاق بن موسى ومحمود بن غيلان وسعيد بن عبد الرحمن، ومحمد بن بشار وعلي بن حجر، وأحمد بن منيع ومحمد بن المثنى، وسفيان بن وكيع ومحمد بن إسماعيل البخاري. وأخذ عنه الحديث خلق كثير منهم محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبي، راوي الجامع عنه وأبو حامد أحمد بن عبد الله المروزي، والهيثم بن كليب الشاشي، ومحمد بن المنذر بن شكر. طاف أبو عيسى البلاد، وسمع خلقا كثيرا من الخراسانيين والعراقيين، والحجازيين، وكتب الحديث وصنف التصانيف العجيبة. منها: الجامع، وكتاب الأسماء والكنى، والشمائل، والتواريخ، والعلل، وكتاب الزهد، واتفقوا على إمامته وجلالته. ذكره ابن حبان في الثقات فقال: "كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر"، وقال أبو يعلى الخليلي: "ثقة متفق عليه"، ويكفي في توثيقه أن إمام الحديث، والمحدثين محمد بن إسماعيل البخاري، كان يعتمده ويأخذ عنه، وقال الحافظ ابن كثير: "روى عنه غير واحد من العلماء منهم محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح". وعلى هذا التفات إلى قول ابن حزم فيه، أنه مجهول. قال الحافظ ابن كثير: وجهالة ابن حزم لأبي عيسى الترمذي لا تضره حيث قال في محلاه:

"ومن محمد بن عيسى بن سورة"، فإن جهالته لا تضع من قدره عند أهل العلم، بل وضعت من منزلة ابن حزم عند الحفاظ. وكيف يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل وقال الذهبي في ميزانه: "محمد بن عيسى بن سورة الحافظ العلم، أبو عيسى الترمذي صاحب الجامع، ثقة مجمع عليه ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم فبه في الفرائض من كتاب الاتصال أنه مجهول فإنه ما عرف ولا درى بوجود الجامع، ولا العلل التي له". ا. هـ. كف بصره في آخر عمره، وتوفي رحمه الله تعالى بترمذ سنة "279هـ" عن سبعين عاما1. ابن ماجه: هو، أبو عبد الله محمد بن يزيد بن عبد الله بن ماجه "ماجه اسم ليزيد"، القزويني صاحب كتاب السنن المشهورة، والتفسير، والتاريخ. ولد سنة "209"، وارتحل لكتابة الحديث وتحصيله إلى الري، والبصرة، والكوفة وبغداد، والى الشام ومصر والحجاز، وأخذ الحديث عن كثير من شيوخ الأمصار كأبي بكر بن أبي شيبة، وأصحاب مالك والليث، وروى عنه خلق كثير منهم ابن سيبويه، ومحمد بن عيسى الصفار، وإسحاق بن محمد وعلي بن إبراهيم بن سلمة القطان، وأحمد بن إبراهيم جد الحافظ بن كثير، وسليمان بن يزيد. قال أبو يعلى الخليلي القزويني: "كان عالما بهذا الشأن، صاحب تصانيف منها التاريخ والسنن، وارتحل إلى العراقين، ومصر، والشام"، قال ابن كثير: "محمد بن يزيد بن ماجه صاحب كتاب السنن المشهورة، وهي دالة على عمله، وعلمه وتبحره واطلاعه

_ 1 ميزان الاعتدال للذهبي جـ3 ص117. البداية والنهاية للحافظ ابن كثير جـ11 ص66-67.

واتباعه للسنة في الأصول، والفروع ويشتمل على اثنين وثلاثين كتابا وألف وخمسمائة باب، وعلى أربعة آلاف حديث كلها جياد سوى اليسيرة"، وتوفي رحمه الله سنة "273". ا. هـ. الإمام ابن قتيبة الدينوري: هو، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي اللغوي صاح كتاب المعارف، وأدب الكاتب كان فاضلا ثقة. سكن بغداد، وحدث بها عن إسحاق بن راهويه، وأبي إسحاق إبراهيم الزيادي "نسبة إلى جده زياد بن أبيه"، وأبي حاتم السجستاني وتلك الطبقة. روى عنه ابنه أبو جعفر أحمد الفقيه، الذي تولى القضاء بمصر وقدمها سنة "321"، ويقال: أنه روى عن أبيه كتبه المصنفة كلها، وممن روى عن ابن قتيبة أيضا ابن دستويه الفارسي، وتصانيفه كلها مفيدة. منها ما تقدم ذكره، ومنها: غريب القرآن، وغريب الحديث، وعيون الأخبار، ومشكل القرآن، ومشكل الحديث، وطبقات الشعراء، والأشربة، وإصلاح الغلط، وكتاب التفقيه، وكتاب الخيل، وكتاب إعراب القرآن، وكتاب الأنواء، وكتاب المسائل والجوابات، والميسر والقداح، وغير ذلك، أقرأ كتبه ببغداد إلى حين وفاته. قيل: إن أباه مروزي، وأما هو فمولده ببغداد وقيل: بالكوفة، وأقام بالدينور مدة قاضيا فنسب إليها، ا. هـ "من ابن خلكان". علمه وفضله: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه تفسيره سورة الإخلاص، بعد أن حكى القول بأن الراسخين يعلمون التأويل الصحيح للمتشابه ما نصه: وهذا القول اختيار كثير من أهل السنة، منهم ابن قتيبة وأبو سليمان الدمشقي وغيرهما، وابن قتيبة من المنتسبين إلى أحمد، وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات

متعددة. قال فيه صاحب كتاب التحديث: وهو أحد أعلام الأئمة والعلماء والفضلاء. أجودهم تصنيفا، وأحسنهم ترصيفا له زهاء ثلاثمائة مصنف، وكان يميل إلى مذهب أحمد وإسحاق، وكان معاصرا لإبراهيم الحربي، ومحمد بن نصر المروزي، وكان أهل المغرب يعظمونه، ويقولون: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة، ويقولون: "كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه لا خير فيه". ا. هـ. قلت: ويقال: هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب أهل السنة كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة. انتهى كلام شيخ الإسلام. ثم ناقش رحمه الله ابن الأنباري في رده على ابن قتيبة، فقال: وليس هو "يعني ابن الأنباري"، أعلم بمعاني القرآن والحديث، وأتبع للسنة من ابن قتيبة ولا أفقه في ذلك، وإن كان ابن الأنباري من أحفظ الناس للغة، لكن باب فقه النصوص غير باب حفظ ألفاظ اللغة. ا. هـ. وقال الذهبي في الميزان: عبد الله بن مسلم بن قتيبة، أبو محمد صاحب التصانيف صدوق قليل الرواية. روى عن إسحاق بن راهويه، وجماعة. قال الخطيب: كان ثقة دينا، فاضلا. توفي في رجب سنة 276.

المبحث الرابع: تدوين الحديث في هذا العصر وطريقة العلماء في ذلك

المبحث الرابع: تدوين الحديث في هذا العصر وطريقة العلماء في ذلك ... البحث الرابع: تدوين الحديث في هذا العصر، وطريقة العلماء في ذلك تبلور التدوين للحدي تبعا لسنة التطور من جهة، ولعوامل خاصة، أملتها ظروف الحوادث من جهة أخرى، فبعد أن كان العلماء يدونون الأحاديث ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وجدناهم في هذا الدور يفردون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ثم لما قامت محنة القول بخلق القرآن التي أثارها المأمون، وتسلط فيها المعتزلة على أهل الحديث بالانتقاص من قدرهم، ورميهم بحمل المتناقض والمشكل ورواية الخافات، وجدنا من علماء الحديث من انتدب نفسه للرد عليهم، فجمع طعونهم، والأحاديث التي زعموها مشكلة، أو متناقضة ورد عليهم ببيان الحق الذي أزهق باطلهم، ومحق دجلهم وبهتانهم، وعلى ضوء هذا يمكننا أن نرجع الطرق التي تطور إليها التدوين للحديث في هذا الدور إلى ثلاث طرق وهي: الطريقة الأولى: في هذه الطريقة كان العلماء يجمعون الطعون، التي وجهها أهل الكلام إلى أهل الحديث، سواء منها ما كان يرجع إلى أشخاصهم من العدالة، والضبط أم ما كان يرجع إلى ما حملوه من الحديث، من كونه كلام خرافة أو متناقضا، أو مشكلا ثم يكرون عليها بالإبطال، وينزهون ساحة الأئمة والأحاديث عن هذه الطعون الزائفة، وكان من هؤلاء الأعلام الإمام ابن قتيبة رحمه الله صاحب كتاب "تأويل مختلف الحديث في الرد على أعداء الحديث"، وسيأتي الكلام عليه1. الطريقة الثانية: جمع الحديث على المسانيد، وذك أن يجمع المحدث في ترجمة كل صحابي ما يرويه عنه من حديثه سواء كان صحيحا أم غير صحيح، ويجعله على حدة، وإن اختلفت أنواعه فمثلا يذكر أبا بكر، ثم يسرد ما رواه عنه من الأحاديث، وإن اختلفت موضوعاتها، ثم عمر كذلك وهلم جرا، ولهم في ترتيب أسماء الصحابة طرق مختلفة، فمنهم من رتبها على القبائل، فقدم بني هاشم ثم الأقرب فالأقرب نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من رتبها على السوابق في الإسلام، فقدم العشرة المشهود لهم بالجنة، ثم أهل بدر ثم أهل الحديبية، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم من أسلم يوم الفتح، ثم أصاغر الصحابة سنا ثم النساء، ومنهم

_ 1 ومنهم علي بن المديني، فقد صنف كتاب "اختلاف الحديث" في خمسة أجزاء.

من لم يراع شيئا من ذلك، والمسانيد التي ألفت في هذا العصر كثيرة جدًّا منها: مسند عبيد الله بن موسى المتوفى سنة "213"، ومسند الحميدي "219" ومسند مسدد بن مسرهد "228"، ومسند إسحاق بن راهويه "237"، ومسند عثمان بن أبي شيبة "239"، ومسند الإمام أحمد بن حنبل "241"، ومسند عبد بن حميد "249"، والمسند الكبير ليعقوب بن شيبة "262"، ولم يؤلف1 أحسن منه لكنه لم يتمه، ومسند محمد بن مهدي "272"، والمسند الكبير لبقي بن مخلد القرطبي "276"، رتبه على أسماء الصحابة، ثم رتب حديث كل صحابي على أبواب الفقه، ومجموع من روى عنه من الصحابة فيه "1600"، فجاء فكتابا حافلا مع ثقة مؤلفه، وضطه واتقانه، وقد فضله ابن حزم على مسند الإمام أحمد بن حنبل. قال ابن كثير في التاريخ، وعندي في ذلك نظر، والظاهر أن مسند أحمد أجود منه أجمع. ا. هـ. وهذه الطريقة من التصنيف لا تخلو عن عيوب، فإن المطلع على المسانيد إذا لم يكن من أهل الفن المتضلعين فيه الواقفيه على أحوال المتون، والأسانيد تعذر عليه الوقوف على درجة الحديث من الصحة، والضعف، والاحتجاج به أو عدمه إذ كل حديث في نظره يحتمل الصحة والضعف. هذا إلى أن الوقوف على الأحكام الشرعية منها شاق على غير الحفاظ، المتقنين لعدم التناسب في جمع الأحاديث بين موضوعاتها، ومهما يكن من شيء، فلأصحاب المسانيد الفضل الأكبر في تجريد الأحاديث النبوية عن غيرها، وجمعهم كثيرا من متونها وأسانيدها، ولهم في تدوين الأحاديث التي لم تبلغ مرتبة الصحة مقاصد جليلة، منها أن طرقه قد تتعدد فيبلغ مبلغ الصحيح، ومنها أنها تصلح للاعتبار بها ومنها ما تتبين صحته

_ 1 لأنه جمع الأحاديث، وأبان عن عللها.

فيما بعد لأهل الحديث ونقاده، فلا يخطرن ببالك أنهم كانوا فيما جمعوا كحاطب ليل. بل كانوا على علم تام بصحيحها وضعيفها وأسانيدها وعللها كيف لا وقد رحلوا في سبيلها إلى الأقطار المختلفة، وأفنوا أعمارهم في جمعها وتمحيصها حتى كانوا صيارفة الحديث بحق. وقد رأيت أن بعض أصحاب المسانيد لم يقتصر على جمع الأحاديث، من غير أن يبين حال متونها، وأسانيدها وأن بعضهم قد جمع إلى ترتيبها على أسماء الصحابة، ترتيبها على أبواب الفقه، كما في المسند الكبير لبقي بن مخلد. والمسند الكبير ليعقوب بن شيبة، فإن الأول رتب حديث كل صحابي على أبواب الفقه، والثاني ألف مسنده معللا، فجمع في كل حديث طرقه واختلاف الرواة فيه. الطريقة الثالثة: التصنيف على الأبواب، وهو تخريج الأحاديث على أحكام الفقه، وغيرها وتنويعه أنواعا، وجمع ما ورد في كل حكم، وكل نوع في باب حيث يتميز ما يتعلق بالصلاة مثلا، عما يتعلق بالصيام، وأهل هذه الطريقة منهم من اقتصر على إيراد ما صح فقط، كالبخاري، ومسلم في صحيحيهما ومنهم من لم يقتصر على ذلك، كأبي داود، والترمذي، والنسائي. وكان أول الراسمين لهذه الطريقة المثلى، شيخ المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري "256"، فجمع في صحيحه "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسننه، وأيامه": ما تبين صحته من الأحاديث مرتبة على الأبواب، واقتفى أثره في ذلك الإمام مسلم بن الحجاج القشيري "261" في صحيحه، وكان من الآخذين عن البخاري، وقد اتفق العلماء على أن كتابيهما أصح الكتب المصنفة.

ثم حذا حذوهما كثير من المحدثين في مصنفاتهم كالنسائي، وأبي داود، والترمذي. وفي هذه الطريقة من الفوائد الوقوف على درجة الأحاديث بسهولة، وتيسير الاطلاع على الأحكام الشرعية، وغيرها في الأبواب المختلفة، ولذلك جعل العلماء الأحاديث هذه الكتب المرتبة الأولى في الاعتبار، ولأحاديث المسانيد المرتبة الثانية. هذا والقرن الثالث، يعتبر أجل عصور الحديث، وأسعدها بتدوين الحديث، وتقريبه على طالبيه ففيه ظهر كبار المحدثين، وحذاق الناقدين ومهرة المؤلفين وفيه ظهرت الكتب الخمسة: الصحيحان للبخاري ومسلم، والسنن لأبي داود والنسائي، والترمذي، وقد اعتمدها المحدثون وعول عليها المستنبطون، وحظيت بخدمة العلماء في جميع العصور ما بين شارح ومختصر، وناقد ومنتصر، ومستخرج عليها ومؤرخ لرجالها، وجامع لأطرافها ومستدرك عليها. وقال النووي وغيره: لم يفت الكتب الخمسة من الأحاديث الصحيحة، إلا النزر اليسير، وإليك الكلام على أشهر الكتب المؤلفة في هذا الدور: كتاب تأويل مختلف الحديث: هذا كتاب جليل القدر، عظيم النفع. ألفه الإمام ابن قتيبة مدافعا به عن السنة، وأهلها مناضلا عن الحق وداحضا لأباطيل المموهين. رد فيه على أعداء أهل الحديث، وجمع بين الأخبار، التي زعموا فيها التناقض والاختلاف، وأجاب عما أورده من شبه حول بعض الآثار المتشابهة، أو المشكلة بادئ الرأي: طريقته فيه: بدأ رحمه الله الكلام في الباعث له على تأليفه، ثم تكلم

على أهل الكلام وأصحاب الرأي فبين حال الفريقين، ثم تحدث عن كبار المعتزلة الطاعنين في أهل الحديث واحدا واحدا، بادئا بالنظام ذاكرا طعنه في "أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما"، واعتراضه على "علي وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبي هريرة رضي الله عنهم"، ثم انبرى للإجابة عن جميع هذه الطعون وتفنيدها، ثم ذكر أبا الهذيل العلاف وسخافاته، وعبيد الله بن الحسن وتناقضاته، وبكرا صاحب البكرية وتهجماته، وهشام بن الحكم وقبح مقالاته، ثم عرج على الجاحظ، خطيب المعتزلة فبين تذبذبه في العقائد والدين، واستهزاءه بحديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وأبان عن كذبه، ووضعه للحديث ونصره للباطل، إلى غير ذلك من مزاعمهم وغرائب أقوالهم، ثم ذكر الإمام ابن قتيبة: أنه كان في أول الأمر مغترا بالمتكلمين من أهل الاعتزال، وأنه كان يرتاد مجالسهم، ويغشى نواديهم ويسمع لكلامهم. ثم لما أن وقف على جرأتهم على الله تبارك وتعالى، وردهم للأحاديث الصحيحة. الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع منهم تفسير كتاب الله بالعجيب من الآراء ميلا مع أهوائهم ونحلهم: ترك مجالسهم بل وأخذ ينشر على الناس ما خفي من هناتهم غير الهينات، ثم ذكر تفسير الروافض لبعض آيات القرآن على هواهم، زاعمين أنهم على علم بباطن القرآن، لما ورثوه من -علم الجفر- عن الإمام علي كرم الله وجهه، وفند تلك المزاعم كلها. ثم شرع في الكلام على أهل الحديث، وبين التماسهم للحق من طريقة الصحيح، وأجاب عن معايب نسبته إليهم، وهم بريئون منها، ونبه على بعض أحاديث من وضع القصاص، والزنادقة وأهل الأهواء، وبين أن حمل المحدثين لبعض الأحاديث الضعيفة إنا ذلك؛ لأنهم ينخلون المتون والأسانيد جميعا، ويميزون بين الصحيح منها، والسقيم، وينصون على ذلك

ويبينونه للناس، وضرب لذلك كثيرا من الأمثال. كما أوضح أن زلل المحدث في الإعراب لا يعد عيبا فيه كما أن زلل الفقيه في الشعر لا يعتبر نقصا له. ثم أخذ هذا الإمام الجليل في ذكر الجمع بين الأحاديث، التي زعم المتكلمون أنها متناقضة أو مشكلة فرفع التناقض عنها وأزل الإشكال، وسجل على أهل الكلام التعصب، الذي أعماهم فاتخذوا إلههم هواهم: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} . هذا ونلفت نظر القارئ الكريم -وقد شرحنا له الغرض من تأليف هذا الكتاب العظيم، ووقفناه على جل محتوياته -أن جمهرة المستشرقين، ومن على نهجهم من الملحدين والمتحللين في عصرنا هذا يسطون على هذا الكتاب، ويلتقطون منه هذه المطاعن التي فندها هذا الإمام الجليل، دون أن ينبهوا للناس على أن إماما كبيرا من أئمة المسلمين تولى الإجابة عنها -وهذا أمر طبيعي فيهم- بل وينسبون هذه المطاعن إلى ابن قتيبة نفسه، على أنها من آرائه في الصحابة، وأهل الحديث وفوق هذه الخيانة العلمية العظمى، يقوم هؤلاء الأعداء الألداء بصوغ هذه الشبهات على أنها قواعد مسلمة عند المسلمين، ثم يبنون عليها آراءهم الزائفة، التي تطعن في هذا الدين الحنيف، وتأتي على بنائه من القواعد، وأن من ألقى نظرة على ما جاء في هذا الدين الحنيف، وتأتي على بنائه من القواعد، وأن من ألقى نظرة على ما جاء في هذا الكتاب، ثم طالع بعض مقالات هؤلاء القوم افتضح أمامه أمرهم، وظهر له ضلالهم وتضليلهم، والله لا يهدي كيد الخائنين. مسند الإمام أحمد: هو، كتاب عظيم في السنة شهد له المحدثون قديما، وحديثا بأنه أجمع كتب السنة للحديث، وأوعاها لكل ما يحتاج إليه المسلم في أمر دينه ودنياه، وقد سلك الإمام أحمد في ترتيبه مسلكا، يتفق وطريقة أهل طبقته، فهو يذكر الصحابي، ثم يورد ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث

غير ناظر إلى ترتيبها حسب موضوعاتها ثم يتلوه بالصحابي الآخر، وهكذا، فالمتصفح لهذا الكتاب يرى حديثا في الحدود، يلي حديثا آخر في العبادات إلى جانب ثالث في الترغيب والترهيب. وهذه الطريقة، وإن كانت لا تلائم أهل عصر، الحاضر الذين قعدت بهم الهمم، وضعفت فيهم ملكة الحفظ والضبط كانت سائغة ميسورة لأهل القرن الثالث، الذين عظمت عنايتهم بحفظ الحديث وضبطه، ومذاكرته ودرسه حتى كان الواحد منهم يحفظ المسند الكبير كما يحفظ السورة من القرآن الكريم، ويعرف صحيحه من سقيمه وغثه من سمينه. هذا وقد اشتمل مسند أحمد على أربعين ألف حديث بالمكرر، ومن غير المكرر على ثلاثين ألفا، ومع ذلك فلم يستوعب الأحاديث كلها، ومن زعم ذلك فقد أخطأ. قال الحافظ ابن كثير: "لا يوزاي مسند أحمد كتاب مسند في كثرته وحسن سياقاته، وقد فاته أحاديث كثيرة جدا، بل قيل: إنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريبا من مائتين"1. ا. هـ. وفي المسند نحو ثلاثمائة حديث، ليس بين أحمد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها غير ثلاثة رواة. المسند الذي بأيدينا اليوم: والمسند الذي بأيدينا اليوم ليس كله من رواية الإمام أحمد، ولكن أضاف إليه ابنه عبد الله زيادات ليست من رواية أبيه، وكذلك فعل الإمام أبو بكر القطيعي رواية المسند عن عبد الله بن الإمام أحمد. قال الأستاذ المحدث الشيخ أحمد البنا الشهير بالساعاتي، في مقدمة الفتح الرباني: "بتتبعي لأحاديث المسند، وجدتها تنقسم إلى ستة أقسام: 1- قسم رواه أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد، عن أبيه سماعا منه، وهو المسمى

_ 1 تدريب الراوي ص57.

بمسند الإمام أحمد، وهو كبير جدا يزيد عن ثلاثة أرباع الكتاب. 2- قسم سمعه عبد الله من أبيه، ومن غيره وهو قليل جدا. 3- وقسم رواه عن غير أبيه، وهو المسمى عند المحدثين بزوائد عبد الله، وهو كثر بالنسبة للأقسام كلها عدا القسم الأول. 4- وقسم قرأه عبد الله على أبيه، ولم يسمعه منه وهو قليل. 5- وقسم لم يقرأه ولم يسمعه، ولكنه وجده في كتاب أبيه بخط يده. 6- وقسم رواه الحافظ أبو بكر القطيعي، عن غير عبد الله وأبيه رحمهما الله تعالى، وهو أقل الجميع فهذه ستة أقسام، وكل هذه الأقسام من المسند إلا الثالث فإنه من زوائد عبد الله والسادس فإنه من زوائد القطيعي"1. ا. هـ. سمع المسند من الإمام أحمد أولاده الثلاثة: صالح وعبد الله وحنبل. قال عثمان بن السباك: حدثنا حنبل قال: جمعنا أحمد بن حنبل أنا وصالح، وعبد الله وقرأ علينا المسند وما سمعه غيرنا وقال لنا: "هذا الكتاب جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألفا، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارجعوا إليه فإن وجدتموه، وإلا فليس بحجة"، وسئل الشيخ الإمام الحافظ علي بن الحافظ، الفقيه محمد اليونيني رحمهما الله تعالى. أنت تحفظ الكتب الستة. فقال: أحفظها وما أحفظها فقيل له كيف هذا. فقال: أنا أحفظ مسند أحمد، وما يفوت المسند من الكتب الستة، إلا قليل فأنا أحفظها بهذا الوجه2. ومما تقدم يتبين لك أن المسند جمع مقدارا عظيما من الأحاديث النبوية، وأن صاحبه انتقاه من أكثر من "750" ألف حديث، وأن عبد الله بن الإمام زاد فيه كثيرا من الأحاديث، التي لم يأخذها

_ 1 مقدمة الفتح الرباني ص19 وما بعدها. 2 مقدمة الفتح الرباني ص8.

عن أبيه وكذلك فعل الإمام أبو بكر القطيعي راوية المسند، عن عبد الله بن الإمام أحمد. درجة أحاديثه: للعلماء في درجة أحاديثه أقوال: الأول: إن ما فيه من الأحاديث حجة، وهو ظاهر عباة الإمام السابقة التي رواها ابن السباك، عن حنبل عن الإمام، وفي معناه ما روى أبو موسى المديني عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث، فقال: انظروه فإن كان في المسند وإلا فليس بحجة. وما قاله أبو موسى المديني أيضا في كتابه خصائص المسند، قال: وهذا الكتاب أصل كبير ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتقي من حديث كثير ومسموعات وافرة، فجعله صاحبه إماما ومعتمدا وعند التنازع ملجأ ومستندا، قال: ولم يخرج إلا عمن ثبت عنده صدقه وديانته دون من طعن في أمانته. قال: ومن الدليل على أن ما أودعه الإمام أحمد رحمه الله مسنده قد احتاط فيه إسنادا ومتننا، ولم يورد فيه إلا ما صح عنده ما رواه القطيعي قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني أبي قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أبا زرعة يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يهلك أمتي هذا الحي من قريش، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم"، قال عبد الله: قال لي أبي في مرضه الذي مات فيه: اضرب على هذا الحديث، فإنه خلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني قوله: "اسمعوا وأطيعوا"، فهذا الحديث مع ثقة رجال إسناده حين شذ لفظه عن المشاهير أمر بالضرب عليه، فقال عليه ما قلنا وفيه نظائر له. ا. هـ بحذف يسير. قال الأستاذ المحدث الشيخ، أحمد بن عبد الرحمن البنا: هذا مثال لشدة احتياط الإمام أحمد في المتن، وأما احتياطه في السند فقد روى

القطيعي، قال: حدثنا عبد الله، حدثني أبي حدثنا علي بن ثابت الجزري، عن ناصح أبي عبد الله، عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يؤدب الرجل ولده، أو أحدكم ولده خي له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع"، قال عبد الله: وهذا الحديث لم يخرجه أبي في مسنده من أجل ناصح؛ لأنه ضعيف في الحديث وأملاه على في النوادر1. ا. هـ. القول الثاني: أن فيه الصحيح والضعيف، والموضوع فقد ذكر ابن الجوزي في الموضوعات تسعة وعشرين حديثا منها، وحكم عليها بالوضع، وزاد الحافظ العراقي عليه تسعة أحاديث، حكم عليها بالوضع وجمعها في جزء. قال العراقي ردا على من قال أن أحمد شرط في مسنده الصحيح: لا نسلم ذلك والذي رواه عنه أبو موسى المديني، أنه سئل عن حديث فقال: انظروه فإن كان في المسند، وإلا فليس بحجة فهذا ليس بصريح في أن كل ما في حجة، وإنما هو صريح في أن ما ليس فيه ليس بحجة. قال: على أن ثم أحاديث صحيحة مخرجة في الصحيحين، وليست فيه منها حديث عائشة في قصة أم زع قال: وأما وجود الضعيف فيه، فهو محقق بل فيه أحاديث موضوعة جمعتها في جزء، ولعبد الله ابنه فيه زيادات، فيها الضعيف والموضوع2. ا. هـ. القول الثالث: أن فيه الصحيح والضعيف الذي يقرب من الحسن، وممن ذهب إلى ذلك من الحفاظ أبو عبد الله الذهبي، وابن حجر العسقلاني، وابن تيمية والسيوطي. وإليك أقوالهم في ذلك: قال الحافظ السيوطي في خطبة الجامع الكبير ما لفظه: "وكل ما كان في مسند

_ 1 مقدمة الفتح الرباني ص9. 2 تدريب الراوي ص56.

أحمد فو مقبول، فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن"، وقال الحافظ ابن حجر في كتابه تعجيل المنفعة في رجال الأربعة: "ليس في المسند حديث لا أصل له، إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة منها حديث عبد الرحمن بن عوف "أنه يدخل الجنة زحفا"، والاعتذار عنه أنه مما أمر أحمد بالضرب عليه، فترك سهوا أو ضرب، وكتب من تحت الضرب". ا. هـ. وقال ابن تيمية في كتابه منهاج السنة: "شرط أحمد في المسند ألا يروى عن المعروفين بالكذب عنده، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف، قال: ثم زاد عبد الله بن أحمد زيادات على المسند ضمت إليه، وكذلك زاد أبو بكر القطيعي، وفي تلك الزيادات كثير من الأحاديث الموضوعة، فظن من لا علم عنده أن ذلك من رواية أحمد في مسنده" ا. هـ. وقال الحافظ الذهبي: "ولو أنه -يعني عبد الله بن الإمام أحمد- حرر ترتيب المسند وقربه وهذبه لأتى بأسنى المقاصد، ولعل الله تباك وتعالى أن يقيض لهذا الديوان السامي من يخدمه، ويبوب عليه ويتكلم على رجاله، ويرتب هيئته ووضعه، فإنه محتو على أكثر الحديث النبوي، وقل أن يثبت حديث إلا وهو فيه. قال: وأما الحسان فما استوعبت فيه بل عامتها إن شاء الله تعالى فيه، وأما الغرائب وما فيه لين فروي من ذلك الأشهر، وترك الأكثر مما هو مأثور في السنن الأربعة، ومعجم الطبراني الأكبر والوسط، ومسندي أبي يعلى والبزار، وأمثال ذلك قال: ومن سعد مسند الإمام أحمد قل أن تجد فيه خبرا ساقطا"1 ا. هـ. هذا وقد ألف شيخ الإسلام ابن حجر كتابا سماه "القول المسدد في الذب عن المسند"، قال في خطبته: "ذكرت في هذه الأوراق ما حضرني

_ 1 تدريب الراوي ص56، منهاج السنة ص37.

من الكلام على الأحاديث التي زعم بعض أهل الحديث أنها موضوعة، وهي في مسند أحمد ذبا عن هذا التصنيف العظيم، الذي تلقته الأمة بالقبول والتكريم، وجعله إمامهم حجة يرجع إليه، ويعول عند الاختلاف عليه، ثم سرد الأحاديث التي جمعها العراقي في جزء، وحكم عليها بالوضع، وهي تسعة وأضاف إليها خمسة عشر حديثا، أوردها ابن الجوزي في الموضوعات، وهي فيه وأجاب عنها حديث حديثا". ا. هـ، قال السيوطي في التدريب: وقد فاته أحاديث أخر أوردها ابن الجوزي، وهي فيه وجمعتها في جزء سميته "الذيل الممهد"، وعدتها أربعة عشر حديثا1. ا. هـ. قال الشوكاني: وقد حقق الحافظ نفي الوضع عن جميع أحاديثه، وأنه أحسن انتقاء وتحريرا من الكتب، التي لم يلتزم مصنفوها الصحة في جميعها، وليست الأحاديث الزائدة فيه على الصحيحين، بأكثر ضعفا من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمذي. ا. هـ. الجمع بين أقوال العلماء في مسند أحمد: يمكن إرجاع القولين الأولين إلى القول الثالث، وبذلك لا يكون هناك خلاف في درجة أحاديث المسند، فمن حكم على بعض أحاديثه بالوضع، نظر إلى ما زاده فيه أبو بكر القطيعي، وعبد الله بن الإمام أحمد، والقول بحجية ما فيه من الأحاديث لا ينافي القول بأن فيه الضعيف، فإن الضعيف فيه دائر بين الحسن لذاته، والحسن لغيره، وكلاهما مما يحتج به عند العلماء. عناية الأمة بمسند الإمام أحمد: قال في كشف الظنون: جمع غريبه أبو عمر محمد بن عبد الواحد

_ 1 التدريب ص56.

المعروف بغلام ثعلب في كتاب، وتوفي سنة "345"، واختصره الشيخ الإمام سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن الشافعي، المتوفى سنة 805 خمس وثمانمائة، وعليه تعليقة للسيوطي في إعرابه سماها عقود الزبرجد، وقد شرح المسند أبو الحسن بن عبد الهادي السندي، نزيل المدينة المنورة المتوفى سنة "1139" شرحا كبيرا نحوا من خمسين كراسة كبار، واختصره الشيخ زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي1. ا. هـ. وقال الحافظ ابن الجزري: أقام الله تعالى لترتيبه شيخنا خاتمة الحفاظ، أبا بكر محمد بن عبد الله بن المحب الصامت، فرتبه على معجم الصحابة، ورتب الرواة كذلك كترتيب الأطراف تعب فيها تعبا كثيرا، ثم إن شيخنا الإمام مؤرخ الإسلام، وحافظ الشام عماد الدين أبا الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير رحمه الله تعالى، أخذ هذا الكتاب المرتب من مؤلفه، وأضاف إليه أحاديث الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي، وجهد نفسه كثيرا، وتعب فيه تعبا عظيما، فجاء لا نظير له في العالم، وأكمله إلا بعض مسند أبي هريرة، فإنه قبل أن يكمله كف بصره ومات، وقال رحمه الله تعالى: لا زلت أكتب فيه في الليل والسراج ينونص، حتى ذهب بصري معه، ولعل الله أن يقيض له من يكمله مع أنه سهل. فإن معجم الطبراني الكبير لم يكن فيه شيء من مسند أبي هريرة رضي الله عنه. ا. هـ. واسم هذا الكتاب الذي ألفه ابن كثير "جامع المسانيد والسنن"، ويوجد منه في دار الكتب المصرية ثمانية أجزاء2، وقد رتب المسند

_ 1 جـ2 ص265. 2 مقدمة الفتح الرباني.

على الأبواب بعض الحفاظ الأصبهانيين، وكذا الحافظ ناصر الدين بن رزيق وغيره ورتبه على حروف المعجم الحافظ، أبو بكر محمد بن أبي محمد عبد الله المقدسي، الحنبلي1، وقد رتب المسند على الأبواب ترتيبا متقنا مهذبا، معاصرنا الفاضل الشيخ المحدث العلامة أحمد بن عبد الرحمن بن محمد البنا، الشهير بالساعاتي انتهى من تبييضه عام "1351" للهجرة، وجعله سبعة أقسام: قسم التوحيد وأصول الدين، وقسم الفقه، وقسم التفسير، وقسم الترغيب، وقسم الترهيب، وقسم التاريخ، وقسم القيامة، وأحوال الآخرة. على هذا الترتيب وكل قسم من هذه الأقسام السبعة، يشتمل على جملة كتب وكل كتاب يندرج تحته جملة أبواب، وبعض الأبواب يدخل فيه جملة فصول، وفي أكثر تراجم الأبواب ما يدل على مغزى أحاديث الباب، وسمى هذا الكتاب "الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني"، ثم شرح كتابه هذا وخرج أحاديثه في كتاب آخر سماه "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني" جعله معه، ثم شرع في طبعهما، وقد صدر حتى الآن أحد وعشرون جزءًا ونسأل الله أن يعينه على إتمامه، ويتقبل منه عمله. صحيح البخاري: الباعث له على تأليفه: رأى البخاري رحمه الله تعالى دواوين السنة، التي ألقت في عصره وقبله جامعة بين الصحيح، والحسن، والضعيف من الأحاديث لا يستطيع الناظر فيها أن يميز بين الصحيح، وغيره إلا إذا كان من أهل الفن والخبرة التامة، وكذلك لا يستطيع أن يجمع الأحاديث التي تتعلق بموضوع

_ 1 الرسالة المستطرفة 15، 16.

واحد من الأحكام الشرعية؛ لأن هذه الدواوين -كما قلنا- كان يقصد منها جمع الأحاديث وحفظها على الأمة فقط، فلم تراع فيها المناسبات في ترتيب الأحاديث، وضم بعضها إلى بعض. هذا إلى أن بعض أهل ورواته، أهملوا فقه الأحاديث، وما تدل عليه ألفاظها من المعاني والفوائد إلى مجرد الحفظ والرواية، فكان من أثر ذلك أن عجز هؤلاء عن مناهضة أهل البدع والأهواء بالحجة، وقمعهم بالبرهان. كما شاعت الأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة فيما بين الناس، عن طريق القصاص الذين لا يميزون بين المقبول، والمردود من الأحاديث. وأوغل بعض المنتسبين إلى أهل الرأي في مخالفة السنن الثابتة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحركت هذه العوامل مجتمعة من إمام المحدثين، أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري همته العالية لجمع طائفة كبيرة من الأحاديث، التي صحت أسانيدها، وسلمت متونها من العلل مرتبة على أبواب الفقه، والسير والتفسير إلى غير ذلك. وقوى عزمه على ذلك ما سعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث، والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه، حيث قال لتلاميذه: "لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع "الجامع الصحيح". خرجه من ستمائة ألف حديث، ولم يخرج فيه إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسند المتصل الذي توفر في رجاله العدالة، والضبط، ومكث في تصنيف ستة عشر عامًا، وما وضع فيه حديثا إلا غتسل قبله، وصلى ركعتين، ولما أن تم عرضه على الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني وغيرهم فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة

وقد تلقاه العلماء بالقبول في كل عصر، وشهدوا له بالتفوق على كل ما سبقه من المصنفات. وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: وأما جامع البخاري الصحيح، فأجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى، قال: فلو رجل الشخص لسماعه من ألف فرسخ لما ضاعت رحلته. ا. هـ. وقد روى الحفاظ، والأئمة عن البخاري أنه قال: جعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى، وما أدخلت فيه إلا صحيحا، وما تركت من الصحيح أكثر حتى لا يطول. ا. هـ. وقوله: "وما أدخلت فيه إلا صحيحا"، محمول على الأحاديث المسندة المتصلة، فإنها موضوع الكتاب ومقوصده، وقد ذكر البخاري فيه عرضا الموقوف، والمعلق وفتاوى الصحابة والتابعين، وآراء العلماء. وليست هذه الأحاديث المعلقة، والآثار الموقوفة من موضوع كتابه كما يدل لذلك تسميته له: "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه"، وإنما ذكرها لقصد الاستئناس بها فقد، ولذلك غاير في سياقها لتمتاز. عدد أحاديثه: وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن عدة ما فيه من الأحاديث بالمكرر "7397"، سوى المعلقات والمتابعات، والموقوفات، وبغير المكرر من المتون الموصولة "2602". رواته: وقد سمعه منه نحو من تسعين ألفا من أشهرهم: أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري، المتوفى سنة "320"، وكان سماعه للصحيح مرتين بفرير سنة 248، وببخارى سنة 252، ومنهم إبراهيم بن معقل بن الحجاج النسفي، وكان من الحافظ، وله تصانيف وتوفي سنة "294" وفاته من الجامع أوراق رواها بالإجازة عن البخاري،

ومنهم حماد بن شاكر النسوي مات حوالي سنة "290"، وفاته منه شيء أيضان وأبو طلحة منصور بن محمد بن علي بن قرينة البزدوي، المتوفى سنة "329"، وهو آخر من حدث عن البخاري بصحيحه، كما جزم به ابن ماكولا غيره1. ما اشتملت عليه تراجم البخاري من الفوائد: قدمنا أن البخاري رحمه الله تعالى، كان من أئمة الفقه المجتهدين لذلك جاء كتابه جامعا لكثير من المسائل الفقيه، فقد أودع تراجم الأبواب كثيرا مما اهتدى إليه باجتهاده، واستنبطه بعقله مما يدل على براعته في الفقه واستنباط الأحكام الشرعية من الأحاديث، وله في تلك التراجم طريقتان ظاهرة وخفية: الطريقة الأولى: أن تكون الترجمة دالة بطريق المطابقة على ما ساقه من الأحاديث كأن يقول: هذا الباب الذي فيه كيت وكيت، أو باب ذكر الدليل على الحكم الفلاني مثلًا، وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له، وقد تكون ببعض ألفاظه، وقد تكون بمعناه، وهذا هو الغالب على تراجمه. الطريقة الثانية: أن يأتي في الترجمة بلفظ عام، ويكون المترجم له من الأحاديث خاصا تنبيها منه على أن الحكم عام، وأن الحديث وإن كان خاصا، فهو مراد به العموم، وقد يكون الأمر على عكس ذلك، فينبه بالترجمة على أن الحديث وإن كان عاما إلا أنه يراد منه الخصوص، وعلى هذا الأمر في المطلق والمقيد وشرح المشكل، وتفسير الغامض، وتأويل

_ 1 مقدمة فتح الباري جـ1 ص4، خطبة فتح الباري، مفتاح السنة ص39، وما بعدها.

الظاهر وتفصيل المجمل "وهذا الموضع هو معظم ما يشكل من تراجم هذا الكتاب، ولهذا اشتهر عن جمع من الفضلاء: فقه البخاري في تراجمه"، وأكثر ما يفعل البخاري ذلك إذا لم يجد حديثا على شرطه في الباب ظاهر المعنى في المقصد، الذي تجم به، وقد يفعل ذلك لغرض شحذ الأذهان في إظهار مضمره، وكثيرا ما يترجم بلفظ الاستفهام كقوله باب هل يكون كذا، أو من قال كذا، وذلك حيث لا يتجه له القطع بأحد الاحتمالين، وكثيرا ما يترجم بأمر ظاهره قليل الجدوة، ولكنه إذا حققه المتأمل، كان كثير النفع كقوله: "باب قول الرجل: ما صلينا"، فإنه أشار به إلى الرد على من كره ذلك وكقوله: "باب قول الرجل: فاتتنا الصلاة"، فإنه أشار به إلى الرد على من كره ذلك، وكثيرا ما يترجم بلفظ يومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه، أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحا في الترجمة، ويورد في الباب مما يؤدي معناه تارة بأمر ظاهر وتارة بأمر خفي، ومن ذالك قوله: باب الأمراء من قريش. فهذا حديث ليس على شرط البخاري وأورد فيه: "لا يزال وال من قريش"، ومنها قوله: "باب اثنان فما فوقهما جماعة"، وربما اكتفى أحيانا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه، وأورد معها أثرا أو آية فكأنه يقول لم يصح في الباب شيء على شرطي. صحيح مسلم: هو كتاب صنفه إمام مسلم بن الحجاج، النيسابوري في الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، ويقع في الدجة الثانية من الصحة بعد صحيح البخاري. احتوى على أربعة آلاف من الأحاديث الصحاح من غير المكرر. وبالمكرر "7275"، وقد سلك مسلم في صحيحه

طريقة حكيمة جعلته سهل التناول، قريب المأخذ فهو يجمع الأحاديث المتناسبة في مكان واحد ويذكر طرق الأحاديث، التي ارتضاها ويورد أسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة مع إيجاز في العبارة، وترتيب حسن واحتياط بالغ. ذكر مسلم رحمه الله في مقدمة جامعه الصحيح أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام: الأول ما رواه الحفاظ المتقنون. والثاني ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والاتقان. والثالث ما رواه الضعفاء المتروكون، وأنه إذا فرغ من القسم الأول، أتبعه الثاني. وأما الثالث فلا يعرج عليه1. وصحيح مسلم مرت على أبواب الفقه، غير أنه لم يذكر تراجم الأبواب فيه، لئلا يزداد بها حجم الكتاب. وقد ترجم جماعة من الشراح أبوابه تباجم بعضها جيد، وبعضها ليس بجيد وتولى الإمام النووي الترجمة عنها بعبارات تليق بها، فأجاد كثيرا2. الباعث لمسلم على تأليف الجامع الصحيح أمران: أحدهما: جمع طائفة من الأحاديث الصحيحة، المتصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المشتملة على أحكام الدين وسننه، وغير ذلك على وجه يقربها للباحثين في الفقه الإسلامي وغيره وذلك؛ لأن المصنفات في ذلك العصر كانت صعبة المأخذ ممزوجا فيها الصحيح بغيره، وصحيح البخاري، وإن كان قد رتبه على الأبواب إلا أنه ما زال الكشف فيه من الصعوبة بمكان لخفاء تراجمه، ودقة وضعه على من ليسوا من أهل الفن. الأمر الثاني: رأى مسلم رحمه الله ما كان من القصاص، والزنادقة

_ 1 قيل: إن المنية عاجلته قبل إخراج القسم الثاني، وقيل: إنه استوفى القسمين الأول والثاني، ورجحه النووي. 2 مقدمة النووي لشرح مسلم ص30-33 بهامش القسطلاني.

وجهلة المتصوفة في خداع العامة، وإغرائهم بالمناكير، وحشوهم لأذهان الناس بالأساطير. فأراد أن يجذب العامة من الظلمة إلى النور، ويقدم لهم كتاب في الصحاح من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطمئن قلوبهم إليها، وبذلك يشغلون عن هذه الطوائف المفسدة، ونحن ننقل لك جملة من كلام الإمام نفسه، تدل على غرضه ذلك قال رحمه الله في مقدمة صحيحه: "الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، أما بعد فإنك يرحمك الله بتوفيق خالقك، ذكرت أنك هممت بالفحص عن تعرف جملة الأخبار المأثورة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنن الدين، وأحكامه، وماكان منها في الثواب، والعقاب، والترغيب والترهيب، وغير ذلك من صنوف الأشياء بالأسانيد، التي بها نقلت وتداولها أهل العلم فيما بينهم، فأردت -أرشدك الله- أن توقف على جملتها مؤلفة محصاة، وسألتني أن ألخصها لك في التأليف بلا تكرار يكثر -إلى أن قال: إلا أن ضبط القليل من هذا الشأن، وإتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير منه، ولا سيما عند من لا تمييز عنده من العوام، إلا بأن يوقفه على التمييز غيره، وإذا كان الأمر في هذا كما وصفنا، فالقصد منه إلى الصحيح القليل أولى بهم من ازدياد السقيم، وإنما يرجى بعض المنفعة في الاستكثار من هذا الشأن، وجمع المكررات منه لخاصة من الناس ممن رزق فيه بعض التيقظ، والمعرفة بأسبابه وعلله، فأما عوام الناس الذين هم بخلاف معاني الخاصة، فلا معنى لهم في طلب الكثير وقد عجزوا عن معرفة القليل، ثم قال: وبعد يرحمك الله فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا، فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة، والروايات المنكرة، وتركهم الاقتصار على الأخبار الصحيحة المشهورة مما نقله الثقات

المعروفون بالصدق والأمانة، بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرا مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس هو مستنكر، ومنقول عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة الحديث، مثل مالك بن أنس رحمه الله، وشعبه بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من الأئمة لما سهل علينا الاتنصاب لما سألت من التمييز، والتحصيل ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة، وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف على قلوبنا أجابتك إلى ما سألت". ا. هـ. من هذا ترى أن همة مسلم في صحيحه، كانت متوجهة إلى تجريد الأحاديث الصحاح من غير تعرض للاستنباط، ليكون سائغا عند الخاصة، والعامة على السواء ليصرف العامة عن الاستمعال إلى المناكير التي يبثها من نصبوا أنفسهم محدثين كالقصاص، والمتصوفة. وقد تلقته الأمة هو وصحيح البخاري بالقبول، وأقبل عليها العامة والخاصة، وحصل بذلك خير كثير، والحمد لله. شرط البخاري ومسلم في صحيحهما: اعلم أن البخاري، ومسلما لم ينقل عن واحد منهما أنه قال: شرطت أن أخرج في كتابي ما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يعرف ذلك من سير كتابيهما. وللعلماء في تحقيق شرطهما في الصحيحين أقوال: الأول: قال الحاكم أبو عد الله النيسابوري، المتوفى سنة "405" في كتابه المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل: "الدرجة الأولى من الصحيح اختيار البخاري، ومسلم، وهو أن يروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي، المشهور وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه التابعي المشهور

بالرواية عن الصحابي وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين، حافظ متقن وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة، ثم يكون شيخ البخاري، أو مسلم حافظا، مشهورا بالعدالة في روايته". ا. هـ. قال أبو علي الغساني: ليس المراد أن يكون كل خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابيه، ثم عن تابعيه فمن بعده، فإن ذلك يعز وجوده، وإنما المراد أن هذا الصحابي، وهذا التابعي قد روى عنه رجلان، خرج بهما عن حد الجهالة. ا. هـ. وقال ابن حجر في مقدمته لشرح البخاري: ما ذكره الحاكم وإن كان منتقضا في حق بعض الصحابة، الذين أخرج لهم -يعني البخاري- إلا أنه معتبر في حق من بعدهم، فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له، إلا راو واحد فقط. ا. هـ. القول الثاني: قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي، المتوفى سنة "507" في شروط الأئة الستة: شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلا غير مقطوع، وإن كان للصحابي راويان فصاعدا، فحسن، وإن لم يكن إلا راو واحد، وصح الطريق إلى كفى، إلا أن البخاري ترك أحاديث أقوال لشبهة، وقعت في نفسه أخرج مسلم أحاديثهم لزوال الشبهة عنهم عنده. ومثال ذلك أن سهيل بن أبي صالح، تكلم بعضهم في سماعه من أبيه، فقيل: صحيفة فترك البخاري حديث في الأصول لا في الشواهد، واستغنى عنه بغيره من أصحاب أبيه احتياطا، ومسلم اعتمد عليه لما سبر أحاديثه، فوجده يحدث عن عبد الله بن دينار، عن أبيه ومرة عن الأعمش عن أبيه، ومرة يحدث عن أخيه، عن أبيه بأحاديث فاتنة من أبيه فصح عنده أنه سمع من أبيه، إذ لو كان سماعه صحيفة، لكان يروى هذه الأحاديث، مثل تلك الأخر. وكذلك حماد

ابن سلمة إمام كبير مدحه الأئمة، وأطنبوا لكن تكلم فيه بعض منتحلي المعرفة أن بعض الكذبة، أدخل في حديثه ما ليس منه لم يخرج عنه البخاري في صحيحه، معتمدا عليه، بل استشهد به في مواضع ليبين أنه ثقة، وأخرج أحاديثه التي يرويها من حديث غيره من أقرانه، كشعبة وحماد بن زيد، وأبي عوانة وأبي الأحوص وغيرهم، ومسلم اعتمد عليه؛ لأنه رأى جماعة من أصحابه القدماء، والمتأخرين رووا عنه لم يختلفوا عليه، وشاهد مسلم منهم جماعة، وأخذ عنهم ثم عدالة الرجل في نفسه، وإجماع أئمة النقل على ثقته وإمامته، ومثل حماد بن سلمة، وسهيل بن أبي صالح في ذلك داود بن أبي هند، وأبو الزبير بن عبد الرحمن وغيرهما. فلما تكلم في هؤلاء بما لا يزيل العدالة، والثقة ترك البخاري إخراج حديثهم في الأصول تحريا، وأخرج مسلم أحاديثهم لزوال الشبهة. قال العراقي: وليس ما قال ابن طاهر بجيد؛ لأن النسائي ضعف جماعة، أخرج لهم الشيخان، أو أحدهما وأجيب بأنهما أخرجا من أجمع العلماء على ثقته إلى حين تصنيفهما، ولا يقدح في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين. قال شيخ الإسلام ابن حجر الحافظ: تضعيف النسائي إن كان باجتهاده، أو نقله عن معاصر فالجواب ذلك، وإن نقله عن متقدم فلا. قال: ويمكن أن يجاب بأن ما قاله ابن طاهر هو الأصل، الذي بنيا عليه أمرهما، وقد يخرجان عنه لمرجح يقوم مقامه "تدريب الراوي ص38". القول الثالث: ما قاله الحافظ أبو بكر محمد بن موسى الحازمي، المتوفى سنة "584"، قال في كتابه شروط الأئمة الخمسة ما ملخصه: مذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه العدول، وفيمن روى عنهم من الثقات، فبعضهم حديثه صحيح، ثابت يلزم إخراجه، وبعضهم حديثه مدخول لا يصلح إخراجه إلى في الشواهد والمتابعات

وهذا باب فيه غموض، وطريقه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل، ومراتب مداركهم ولنوضح ذلك بمثال: وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلا على خمس طبقات، ولكل طبقة منها مزية على التي تليها: فالطبقة الأولى: جماعة من الرواة العدول، جمعوا بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري، حتى كان فيهم من يزامله في السفر ويلازمه في الحضر وهذه هي الغاية في الصحة، وهؤلاء مثل مالك، وابن عيينة، ويونس وعقيل الأيليين وشعيب بن أبي حمزة، وغيرهم. والطبقة الثانية: جماعة من الرواة العدول، لم يلازموا الزهري إلا مدة يسيرة، فلم يمارسوا حديثه، وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى مثل الأوزاعي، والليث بن سعد، والنعمان بن راشد، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر وغيرهم. والطبقة الثالثة: جماعة من الرواة لازموا الزهري، ملازمة طويلة كرجال الطبقة الأولى، غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح، فهم بين القبول والرد مثل سفيان بن حسين الأسلمي، وجفر بن برقان وعبد الله بن عمر بن حفص العمري، وزمعة بن صالح المكي، وغيرهم. والطبقة الرابعة: قوم شاركوا أهل الطبقة الثالثة في عدم السلامة من غوائل الجرح، غير أنهم لم يلازموا الزهري طويلا، فلم يمارسوا حديثه مثل إسحاق بن يحيى الكلبي، ومعاوية بن يحيى الصدفي، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة المدني. وإبراهيم بن يزيد المكي، والمثنى بن الصباح وجماعة سواهم. والطبقة الخامسة: نفر من الضعفاء والمجهولين، لا يجوز لمن يخرج الحديث على الأبواب، أن يخرجوا حديثهم إلا على سبيل الاعتبار

والاستشهاد عند أبي داود والنسائي، والترمذي فأما عند الشيخين "البخاري ومسلم"، فلا وهؤلاء مثل بحر بن كنيز السقا، والحكم بن عبد الله الأيلي، وعبد القدوس بن حبيب الدمشقي، ومحمد بن سعيد المصلوب وغيرهم. قال: فأما الطبقة الأولى فهم شرط البخاري، وقد يخرج من أحاديث أهل الطبقة الثانية1 ما يعتمد من غير استيعاب، وأما مسلم فيخرج أحاديث الطبقتين الأولى، والثانية باستيعاب، وينتقى من أحاديث أهل الطبقة الثالثة، وأما الرابعة والخامسة، فلا يعرجان عليهما2. ا. هـ. كلام الحازمي. قال الحافظ بن حجر معقبا على كلامه: وهذا المثال الذي ذكره الحازمي، عن الزهري إنما يتأتى في حق المكثرين، فيقاس على أصحاب الزهري، أصحاب نافع وأصحاب الأعمش، وأصحاب قتادة وأمثالهم. قال: فأما غير المكثرين، فقد اعتمد الشيخان في تخريج أحاديثهم على الثقة والعدالة وقلة الخطأ، نلكن منهم من قوي الاعتماد عليه، فأخرجا ما تفرد به كيحيى بن سعيد الأنصاري، ومنهم من لم يقو الاعتماد عليه، فأخرجا له ما شاركه فيه غيره، وهو الأكثر. ا. هـ "مقدمة الفتح 1-6".

_ 1 وقال ابن حجر في مقدمة الفتح "أكثر ما يخرج البخاري حديث الطبقة الثانية تعليقا، وربما أخج اليسير من حديث الطبقة الثالثة تعليقا أيضا". ا. هـ ص6 جـ1. 2 قال الحازمي: فأما أبو داود والنسائي، فهما يخرجان من أحاديث الطبقة الأولى والثانية، والثالثة، ولا يتجاوزانها إلى الرابعة وما بعدها في الأصول بخلاف المتابعات والشواهد، وأما الترمذي فيخرج لغير الطبقة الخامسة في الأصول، وللخامسة في غيرها مع بيانه لحال كل حديث يخرجه من الصحة أو الضعف.

المقارنة بين الصحيحين: التزم كل من البخاري ومسلم، ألا يخرج في كتابه غير الأحاديث الصحيحة، وكتابهما وإن اشتركا في أصل الصحة، لكن صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم، ومقدم عليه ويدل على ذلك أمران. الأول: شهادة أهل الفن وجهابذة الحديث، فمن ذلك ما رواه الحافظ ابن حجر، عن أبي عبد الرحمن النسائي أنه قال: "ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل"، قال الحافظ: والنسائي لا يعني بالجودة إلا جودة الأسانيد، كما هو المتبادر إلى الفهم من اصطلاح أهل الحديث، ومثل هذا من النسائي غاية في الوصف مع شدة تحريه، وتوقيه وتثبته في نقد الرجال وتقدمه في ذلك على أهل عصره، حتى قدمه قوم من الحذاق في معرفة ذلك على مسلم بن الحجاج، وقدمه الدارقطني وغيره على إمام الأئمة، أبي بكر بن خزيمة صاحب الصحيح، وقال الإسماعيلي في المدخل له: "أما بعد فإني نظرت في كتاب الجامع الذي ألفه أبو عبد الله البخاري، فرأيته جامعا كما سمى لكثير من السنن الصحيحة، ودالا على جمل من المعاني الحسنة المستنبطة، التي لا يكمل لمثلها إلا من جمع إلى معرفة الحديث ونقلته، والعلم بالروايات وعللها علما بالفقه واللغة، وتمكنا منها وتبحرا فيها، وكان يرحمه الله الرجل الذي قصر زمانه على ذلك، فبرع وبلغ الغاية، فحاز السبق وقد نحا نحوه في التصنيف جماعة منهم مسلم بن الحجاج، وكان يقاربه في العصر فرام مرامه، وكان يأخذ عنه، أو عن كتبه إلا أنه لم يضايق نفسه مضايقة أبي عبد الله، وروى عن جماعة كثيرة لم يتعرض أبو عبد الله للرواية عنهم، وكل قصد الخير غير أن أحدا لم يبلغ في التشدد مبلغ أبي عبد الله، ولا تسبب إلى استنباط المعاني، واستخراج لطائف فقه الحديث، وتراجم الأبواب الدالة على ما له

وصلة بالحديث المروي فيه تسببه ولله الفضل يختص به من يشاء"، وقال الدارقطني لما ذكر عند الصحيحان: لولا البخاري لما ذهب مسلم، ولا جاء وقال مرة أخرى: "وأي شيء صنع مسلم إنما أخذ كتاب البخاري، فعمل عليه مستخرجا وزاد في زيادات"، ونقل كلام العلماء في ذلك يطول، فنكتفي بهذا القدر على أنه يكفي لتقديم كتاب البخاري على كتاب مسلم، إجماع أهل الحديث على أن البخاري أعلم بهذا الفن من مسلم، وهو أستاذ مسلم فيه حتى شهد له مسلم بالتفرد بمعرفة ذلك في عصره. الأمر الثاني: إن مدار الحديث الصحيح على اتصال السند، واتقان الرجال والسلامة من الشذوذ والعلة. وهذه الأوصاف في كتاب البخاري أقوى منها في كتاب مسلم، فهو أشد اتصالا، وأوثق رجالا وأبعد عن الشذوذ والعلة، وبيان ذلك: أولا: فيم يرجع إلى اتصال السند: إن الإسناد المعنعن الذي يقال فيه: "فلان عن فلان"، اكتفى مسلم فيه بالمعاصرة أما البخاري، فلا يحمل ذلك على الاتصال، حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة. وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه، وجرى عليه في صحيحه، كما جرى مسلم على مذهبه المذكورة في صحيحه، وصرح به في مقدمته، وبالغ في الرد على من خالفه، ولا شك أن مذهب البخاري في المعنعن أدخل في باب الاتصال، وأبعد عن شائبة الانقطاع بخلا ما ذهب إليه مسلم. ثانيا: فيما يرجع إلى السلام من الشذوذ والعلة: إن الأحاديث التي انتقدت عليها بلغت "210"، اختص البخاري منها بثمانية وسبعين، واختص مسلم بمائة واشتركا في الباقي، وهو اثنان وثلاثون ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر فيه.

ثالثا: فيما يرجع إلى إتقان الرواة يتبين رجحان صحيح البخاري على صحيح مسلم في هذا الباب بعدة أمور: أ- إن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضع وثلاثون رجلا المتكلم فيه بالضعف منهم "80" رجلًا. والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري "620" رجلا. المتكلم فيه بالضعف منهم "160" رجلا، ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلًا أولى من التخريج عمن تكلم فيه، وإن لم يكن ذلك الكلام قادحًا. ب- إن الذين انفرد بهم البخاري، ممن تكم فيه لم يكثر من التخريج عنهم، وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها كلها، أو أكثرها إلا ترجمة عكرمة عن ابن عباس. بخلاف مسلم فإنه أخرج أكثر تلك النسخ كأبي الزبير عن جابر، وسهيل عن أبيه والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، وحماد بن سلمة عن ثابت وغير ذلك. ج- إن الذين انفرد بهم البخاري، ممن تكلم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم، وجالسهم وعرف أحوالهم، واطلع على أحاديثهم وميز جيدها من غيره. بخلاف مسلم فإن من انفرد بتخريج حديثه، ممن تكلم فيه أكثرهم ممن تقدم عصره من التابعين ومن بعدهم. ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه دون غيرهم. د- أن البخاري يخرج أحاديث الطبقة الأولى، وهي أعلى الطبقات في الحفظ والإتقان، وطول الصحبة لمن أخذوا عنه استيعابا، وينتقي من أحاديث الطبقة الثانية، التي هي دون الأولى في الصفات المذكورة، ومسلم يخرج حديث الطبقة الثانية استيعابا، وفي أصل موضوع كتابه فكان البخاري أقوى إسنادا وأوثق رجالًا.

هذا وأما ما نقل عن أبي علي النيسابوري أنه قال: "ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج"، لا ينافي ما تقدم، فقد قال الحافظ بن حجر، الذي يظهر لي من كلام أبي على أنه، إنما قدم صحيح مسلم لمعنى غير ما يرجع إلى ما نحن بصدده من الشرائط المطلوبة في الصحة، بل ذلك؛ لأن مسلما صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ، ويتحرى في السياق، ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الأحكام ليبوب عليها، ولزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه، بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد، واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات، فلم يعرج عليها إلا في بع المواضع على سبيل الندرة، تبعا لا مقصودا، فلهذا قال أبو علي ما قال. قال: وكذلك ما نقل عن بعض المغاربة أنه فضل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فذلك فيما يرجع إلى حسن السياق، وجودة الوضع والترتيب، ولم يفصح أحد منهم بأن ذلك راجع إلى الأصحية، ولو أفصحوا لرده عليهم شاهد الوجود. ا. هـ "مقدمة الفتح جـ1 ص8، وشرح النخبة ص10". الشيخان لم يستوعبا الصحيح في الصحيحين: قرر الحفاظ، وأئمة الحديث أن البخاري، ومسلما لم يستوعبا في صحيحهما الأحاديث الصحيحة، ولا التزاما ذلك فقد رووا عن البخاري أنه قال: "ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح وتركت من الصحاح لملال الطول"، وأنه قال: "احفظ مائة ألف حديث صحيح، واحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح"، وأنه قال: أكنت عند إسحاق بن راهويه فقال: "لو جمعتهم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال: "فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح"، ورووا عن مسلم أنه قال: "ليس كل شيء عندي صحيح، وضعته ههنا. إنما وضعت

ههنا ما أجمعوا عليه"1، ورووا عنه أيضا أنه لما عوتب على ما فعل من جمع الأحاديث الصحاح في كتاب، وقيل له: أن هذا يطرق لأهل البدع علينا فيجدون السبيل، لأن يقولوا: إذا احتج عليهم بحديث: ليس هذا في الصحيح. قال: إنما أخرجت هذا الكتاب، وقلت: هو صحاح ولم أقل: أن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب، فهو ضعيف2، ومن ذلك يتبين لنا: أولا: أنه لا وجه لإلزام من ألزمهما إخراج أحاديث لم يخرجاها مع كونها صحيحة على شرطيهما، كالدارقطني، والبيهقي، وابن حبان، فقد روى عن ابن حبان أنه قال: "ينبغي أن يناق البخاري ومسلم في تركهما إخراج أحاديث هي من شرطهما"، وذكر الدارقطني وغيره "إن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورويت أحاديثهم من وجوه صحاح لا مطعن في ناقليها، ولم يخرجا من أحاديثهم شيئًا، فيلزمهما على مذهبهما"، وذكر البيهقي: "أنهما اتفقا على أحاديث من صحيفة همام بن منبه، وإن كل واحد منهما انفرد عن الآخر بأحاديث، منهما على أن الإسناد واحد". ا. هـ. وصنف الدارقطني، وأبو ذر الهروي في هذا النوع الذي ألزموهما به، ولكن هذا كله ليس بلازم في الحقيقة -كما قلنا- فإنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح، بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوبعاه، وإنما قصدا جمع جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه إلى جمع جملة من مسائله3.

_ 1 أراد أنه لم يضع في كتابه، إلا الأحاديث التي وجد عنده فيها شرائط الصحيح المجمع عليه، وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم. قاله ابن الصلاح في مقدمته. 2 توجيه النظر ص91. 3 انظر مقدمة النووي لشرحه على صحيح مسلم.

ثانيا: لا يلزم من عدم تخريج الشيخين لراو من الرواة في الصحيحين سقوطه، أو ضعفه فإنهما كما لم يستوعبا الأحاديث الصحيحة، لم يستوعبا الرواة الذين توافرت فيهم صفات القبول والصحة، وهم خلائق كثير يبلغ عددهم نيفا وثلاثين ألفا؛ لأن تاريخ البخاري يشتمل على نحو من أربعين الفا، وزيادة وكتابه في الضعفاء دون سبعمائة نفس، ومن خرجهم في جامعه دون ألفين، كما قال الحافظ الحازمي في شروط الأئمة الخمسة. وقد ذكر الحاكم، أبو عبد الله النيسابوري، جماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الرواة، ولم يخرج لهم في الصحيح، ولم يسقطوا -في كتابه معرفة علوم الحديث في النوع الحادي والخمسين- منهم: 1- في الصحابة، أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، وعتبة بن غزوان، وأبو كبشة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، والأرقم بن الأرقم، وقدامة بن مظعون، والسائب بن مظعون، وشجاع بن وهب الأسدي، وعباد بن بشر الأشهلي، وسلامة بن وتش. في جماعة من الصحابة، قال الحاكم: إلا أني ذكرت هؤلاء رضي الله عنه فإنهم من المهاجرين، الذين شهدوا بدرا، وليس لهم في الصحيح رواية إذ لم يصح إليهم الطريق، ولهم ذكر في الصحيح في روايات غيرهم من الصحابة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وما يشبه هذا. 2- وفي التابعين: محمد بن أبي بن كعب، والسائب بن خلاد بن السائب، ومحمد بن أسامة بن زيد، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن سعد بن عبادة، وعبيد الله بن رافع بن خديج، في طائفة من

التابعين، قال الحاكم: هؤلاء التابعون على علو محالهم في التابعين، ومحل آبائهم في الصحابة ليس لهم في الصحيح ذكر لفساد الطريق إليهم، لا لجرح فيهم فقد نزههم الله عن ذلك. 3- ومن أتباع التابعين: عبد الرحمن بن أبي الزناد، وعطاء بن السائب الثقفي، وأبو يعقوب العبدي، وعبد الله بن شبرمة الضبي، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وبشر بن سليمان النهدي، والحسن بن الحر وغيرهم. وقال الأستاذ المحدث، الشيخ محمد زاهد الكوثري، في تعليقه على شروط الأئمة الخمسة للحازمي: "ومما يتجه إليه النظر أن الشيخين لم يخرجا في الصحيحين شيئا من حديث الإمام أبي حنيفة، مع أنهما أدركا صغار أصحاب أصحابه، وأخذا عنهم ولم يخرجا أيا من حديث الإمام الشافعي، مع أنهما لقيا بعض أصحابه، ولا أخرج البخاري من حديث أحمد إلا حديثين، أحدهما تعليقا، والآخر نازلا بواسطة مع أنه أدركه ولازمه، ولا أخرج مسلم في صحيحه، عن البخاري شيئا مع أنه لازمه، ونسج على منواله، ولا عن أحمد إلا قدر ثلاثين حديثا، ولا أخرج أحمد في مسنده عن مالك، عن نافع بطريق الشافعي -وهو أصح الطرق أو من أصحها- إلا أربعة أحاديث، وما رواه عن الشافعي بغير هذا الطريق لا يبلغ عشرين حديثا، مع أنه جالس الشافعي، وسمع موطأ مالك منه وعد من رواة مذهبه القديم. قال الأستاذ: والظاهر من دينهم، وأمانتهم إن ذلك من جهة أنهم كانوا يرون أن أحاديث هؤلاء في مأمن من الضياع، لكثرة أصحابهم القائمين بروايتها شرقا وغربا، وجل عناية أصحابة الدواوين بأناس من

الرواة ربما كانت تضيع أحاديثهم لولا عنايتهم بها؛ لأنه لا يستغنى من بعدهم عن دواوينهم في أحاديث هؤلاء دون هؤلاء. قال الأستاذ: ومن ظن أن ذلك لتحاميهم عن أحاديثهم، أو لبضع ما في كتب الجرح من الكلام في هؤلاء الأئمة، كقول الثور في أبي حنيفة، وقول ابن معين في الشافعي، وقول الكرابيسي في أحمد، وقول الذهلي في البخاري، ونحوها فقد حملهم شططا". ا. هـ. والذي يظهر لنا من كلام الحاكم، وغيره أن الشيخين أو أحدهما، قد يترك الإمام الثقة لأسباب منها: 1- أن يقع الضعف في الإسناد الذي بينه، وبين صاحب الصحيح فلا يروي الحديث من طريقه. 2- قد يكون الإمام الذي ترك حديثه له أصحاب أجلاء، يحملون عنه علمه وحديثه، فلا يخاف على مروياته من الضياع، فيستغني صاحب الصحيح بذلك عن الرواية عنه. 3- طلب علو الإسناد، فقد يكون الحديث من طريق ذلك الإمام نازلا، ومن طريق غيره من الثقات عاليا، فيختار صاحب الصحيح الإسناد العالي لما فيه من القرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. اختلاف العلماء في أن أحاديث الصحيحين ثابتة بالعلم، أو الظن: قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: جميع ما حكم مسلم بصحته في كتابه فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأم، وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه وذلك؛ لأن الأمة تلقت الكتابين بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه، ووفاقه في الإجماع ويستثنى من ذلك أحاديث يسيرة، تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني، وغيره وهي معروفة عند المحدثين، قال: والذي نختاره أن تلقى الأمة للخبر القاصر عن درجة التواتر بالقبول يوجب العلم النظري

بصدقه خلافا لبعض محققي الأصوليين، حيث نفى ذلك بناء على أنه لا يفيد في حق كل منهم إلا الظن، وإنما قبله؛ لأنه يجب عليه العمل بالظن، والظن قد يخطئ. قال: وهذا مندفع؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ. وقد مال النووي إلى أن أحاديث الصحيحين، التي لم تتواتر ثابتة بالظن لا بالعلم، وتعقب ابن الصلاح في شرحه لمسلم، فقال: وهذا الذي ذكره الشيخ خلاف ما قاله المحققون، والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن، فإنها آحاد والآحاد إنما تفيد الظن على ما تقرر، ولا فرق بين البخاري ومسلم، وغيرهما في ذلك وتلقي الأمة بالقبول، إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما وهذا متفق عليه، فإن أخبار الآحاد التي في غيرها يجب العمل بها، إذا صحت أسانيدها ولا تفيد إلا الظن. فكذا الصحيحان، وإنما يفترق الصحيحان، وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى النظر فيه، بل يجب العمل به مطلقا، وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر، وتوجد فيه شروط الصحيح، ولا يزلم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع، بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. وقد انحاز إلى كل طائفة من العلماء، ففريق يرجع كلام ابن الصلاح في أنها ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم بطريق العلم النظري، وفريق آخر يرجح كلام النووي في أنها ثابتة بطريق الظن. قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: ما ذكره النووي مسلم من جهة الأكثرين، أما المحققون فلا فقد وافق ابن الصلاح أيضا محققون، وقال في شرح النخبة: الخبر المحتف بالقرائن، يفيد العلم خلافا لمن أبى ذلك، قال: وهو أنواع منها ما أخرجه الشيخان في صحيحهما مما لم يبلغ

حد التواتر فإنه احتفت به قرائن منها جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمها في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا مختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين، حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما، من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته. قال: وما قيل من أنهم إنما اتفقوا على وجوب العمل به، لا على صحته ممنوع؛ لأنهم اتفقوا على وجوب العمل بكل ما صح، ولو لم يخرجاه فلم يبق للصحيحين في هذا مزية، والإجماع حاصل على أن لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة قال: وممن صرح بإفادة ما خرجه الشيخان العلم النظري الأستاذ، أبو إسحاق الاسفرائيني، ومن أئمة الحديث، أبو عبد الله الحميدي، وأبو الفضل بن طاهر وغيرهما. ويحتمل أن يقال: المزية المذكورة كون أحاديثهما أصح الصحيح، ثم قال: والعلم بصدق الخبر المحتف بالقرائن، إنما يحصل للعالم بالحديث المتبحر فيه العارف بأحوال الرواة، المطلع على العلل وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الأوصاف المذكورة، لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور. ا. هـ، وقال ابن كثير في الباعث الحثيث1: وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه، وأرشد إليه، ثم وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه: إنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول، عن جماعات من الأئمة منهم: القاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبو حامد الإسفرائيني، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، وأبو حامد وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الخطاب، وابن الزاغوني وأمثالهم

_ 1 ص23.

من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخسي من الحنفية، قال: وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم. كأبي إسحاق الإسفرائيني، وابن فورك. قال: وهو مذهب أهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامة. ا. هـ. قال السيوطي في تدريبه، وهو الذي اختاره ولا أعتقد سواه. ا. هـ. انتقاد بعض الحفاظ على الشيخين، والجواب عنه: انتقد جماعة من الحفاظ على البخاري، ومسلم أحاديث أخلا فيها بشرطيهما، ونزلت عن درجة ما التزماه، منهم الدارقطني، وأبو مسعود الدمشقي، وأبو علي الغساني، وألفوا في ذلك. قال الحافظ ابن حجر: وليست عللها كلها قادحة، بل أكثرها الجواب عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف. قال: والأحاديث التي انتقدت عليهما، إن كانت مذكورة على سبيل الاستئناس والتقوية كالمعلقات، والمتاعات، والشواهد أجيب عن الاعتراض عليها أن توجه بأنها ليست من موضوع الكتابين، فإن موضوعهما المسند المتصل، ولهذا لم يتعرض الدارقطني في نقده على الصحيحين إلى الأحاديث المعلقة، التي لم توصل في موضع آخر لعلمه بأنها ليست من موضوع الكتابين، وإنما ذكرت استئناسا واستشهادا، وإن كانت من الأحاديث المسندة، فأما أن يكون الطعن مبنيا على قواعد ضعيفة لبعض المحدثين، فلا يقبل لضعف مبناه وأما أن يكون مبنيا على قواعد قوية، فحينئذ يكون قد تعارض تصحيحهما، أو تصحيح أحدهما مع كلام المعترض، ولا ريب في تقدمهما في باب التصحيح والتضعيف على غيرهما، قال الحافظ ابن حجر: وعدة ما انتقد عليهما من الأحاديث المسندة "210" مائتا حديث وعشرة. اشتركا في "32" اثنين وثلاثين حديثا. واختص البخاري بثمانية

وسبعين ومسلم بمائة. قال: والجواب عن ذلك على سبيل الإجمال أن نقول: لا ريب في تقديم البخاري، ثم مسلم على أهل عصرهما، ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني، كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك، حتى كان يقول: ما استصغرت نفسي عند أحد إلى عند علي بن المديني، ومع ذلك فكان علي بن المديني، إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه، وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعًا. وروى الفربري عن البخاري، قال: ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى، وتيقنت صحته. وقال مكي بن عبد الله: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: عرضت كتابي هذا علي أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته. قال: فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث، إلا ما لا علة له أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام المنتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقدمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة، ثم أجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله، عن النقد جوابا تفصيليا: قسم فيه الأحاديث التي انتقدت عليهما إلى ستة أقسام تكلم عليها، ثم أجاب عن الأحايدث، التي أوردها الدارقطني على البخاري حديثا حديثا، ثم قال: فإذا تأمل المنصف ما حررته من ذلك عظم مقدار هذا المصنف في نفسه وجل تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول، والتسليم وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم. قال: وإنما اقتصرت على ما ذكرته عن الدارقطني؛ لأني أردت أن

يكون عنوانا لغيره، فإنه الإمام المقدم في هذا الفن. ا. هـ1. هذا وأما الأحاديث التي انتقدت على الإمام مسلم في صحيحه، فقد أجاب عنها واحدا واحدا جهابذة من أئمة الحديث، قال السيوطي: ورأيت فيما يتعلق بمسلم تأليفا مخصوصا، فيما ضعف من أحاديثه بسبب ضعف رواته. وقد ألف الشيخ ولي الدين العراقي كتابا في الرد عليه. قال السيوطي: وذكر بعض الحفاظ أن في كتاب مسلم، أحاديث مخالفة لشرط الصحيح، بعضها أبهم راوية وبعضها فيه إرسال، وانقطاع وبعضها فيه، وجادة وهي في حكم الانقطاع، وبعضها بالمكاتبة، وقد ألف الرشيد العطار كتابا في الرد عليه، والجواب عنها حديثا حديثا وقد وقفت عليه. ا. هـ. كلامه. "تدريب ص42". وللإمام الحافظ، أبي عمرو بن الصلاح جواب موجز محرر في الدفاع، عن مسلم رحمه الله يحسن بنا أن نذكره لك، نقلا عن الإمام النووي في مقدمته لشرح مسلم. قال النووي رحمه الله: عاب عائبون مسلما بروايته في صحيحه، عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية، الذين ليسوا من شرط الصحيح ولا عيب عليه في ذلك، بل جوابه من أوجه ذكرها الشيخ الإمام، أبو عمرو بن الصلاح: أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، ولا يقال: الجرح مقدم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتا مفسر السبب، وإلا فلا يقبل الجرح، وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب، البغدادي وغيره: ما احتج البخاري، ومسلم وأبو داود به من

_ 1 مقدمة فتح الباري لابن حجر جـ2 من ص81 إلى ص110.

جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم، محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب. الثاني: أن يكون ذلك واقعا في المتابعات، والشواهد لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف، ورجال ثقات، ويجعله أصلا، ثم يتبع بإسناد آخر، أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه، وقد اعتذر الحاكم أبو عد الله بالمتابعة، والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح، منهم مطر الوراق وبقية بن الوليد، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وعبد الله بن عمر العمري، والنعمان بن راشد، وأخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين. الثالث: أن يكون ضعف الضعيف، الذي احتج به مسلم طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حديث عليه، فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته، كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، فقد ذكر الحاكم، أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر، فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق، وغيرهما ممن اختلط آخرا، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك. الرابع: أن يعلوا بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي، ولا يطول إضافة النازل إليه، مكتفيا بمعرفة أهل الشأن في ذلك، وهو خلاف حاله فيما رواه عن الثقات أولا، ثم أتبعه بمن دونهم متابعة، وكأن ذلك وقع منه على حسب حضور باعث النشاط وغيبته، وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصا روينا عن سعيد

ابن عمرو البرذعي أنه حضر أبا زرعة الرازي، وذكر عنده صحيح مسلم، فأنكر عليه روايته فيه عن أسباط بن نصر وقطين بن نسير، وأحمد بن عيسى المصري. قال سعيد بن عمرو: فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة، فقال لي مسلم: إنما أدخلت من حديث أسباط، وقطين وأحمد ما قد رواه الثقات، عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع لي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فاقتصر على ذلك: وأصل الحديث معروف من رواية الثقات. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: فهذا مقام وعر، وقد مهدته بواضح من القول لم أره مجتمعا في مؤلف ولله الحمد. قال: وفيما ذكرته دليل على أن من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه، بأنه من شرط الصحيح عند مسلم فقد غفل، وأخطأ بل يتوقف ذلك على النظر في أنه، كيف روى عنه على ما بيناه. ا. هـ. المستخرجات على الصحيحين: معنى الاستخراج: هو أن يعمد حافظ من الحفاظ إلى كتاب من كتب الحديث، كصحيح البخاري، أو صحيح مسلم، أو غيرهما من الكتب، فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب، فيجتمع معه في شيخه أو من فوقه، ولو في الصحابي مع رعاية ترتيبه، ومتونه وطرق أسانيده، وشرطه ألا يصل إلى شيخ أبعد، حتى يفقد سندا يوصله إلى الأقرب ما لم يكن هناك عذر من علو في السند، أو زيادة مهمة في المتن، وربما أسقط المستخرج أحاديث لم يجد له بها سندا يرتضيه، وربما ذكرها من طريق صاحب الكتاب، الذي يستخرج عليه، وقد صنف كثير من العلماء في هذا النوع على الصحيحين، وغيرهما من كتب الحديث.

المستخرجات على صحيح البخاري: هي كثيرة منها: 1- مستخرج الحافظ أبي بكر الإسماعيلي، الجرجاني المتوفى سنة "371". قال الذهبي: "ابتهرت بحفظه، وجزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ، والمعرفة". 2- ومستخرج الحافظ أبي بكر البرقاني، المتوفى سنة "425". 3- ومستخرج الحافظ أبي بكر بن مردويه، الأصبهاني الكبير صاحب التاريخ، والتفسير المسند المتوفى سنة 416، وهو غير الحافظ ابن مردويه، محدث أصبهان فإنه حفيد الكبير ولم يلقح جده. توفي سنة "498". 4- ومستخرج الغطريفي المتوفى سنة "377". 5- ومستخرج الحافظ أبي عبد الله، محمد بن العباس المعروف بابن أبي ذهل الهروي المتوفى سنة "378". المستخرجات على صحيح مسلم: هي كثيرة منها: 1- مستخرج الحافظ أبي عوانة، يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني المتوفى سنة "316"، روى فيه عن يونس بن عبد الأعلى، وغيره من شيوخ مسلم. 2- مستخرج الحافظ، أبي بكر محمد بن محمد بن رجاء النيسابوري، الحافظ وهو متقدم توفي سنة "286"، ويشارك مسلما في أكثر شيوخه. 3- مستخرج الحافظ، أبي بكر محمد بن عبد الله، الجوزقي، النيسابوري، المتوفى سنة "388"، وجوزق قرية من قرى نيسابور. 4- مستخرج الحافظ، أحمد بن سلمة النيسابوري البزار، المتوفى سنة "286"، وهو رفيق مسلم في الرحلة إلى بلخ والبصرة. المستخرجات على الصحيحين منها: 1- مستخرج الحافظ محمد بن يعقوب، الشيباني النيسابوري، المعروف بن الأخرم المتوفى سنة "344". 2- مستخرج الحافظ، أبي ذر الهروي

المتوفى سنة "434". 3- مستخرج الحافظ أبي محمد البغدادي، المعروف بالخلال "439". 4- مستخرج الحافظ أبي علي الماسرجسي النيسابوري، المتوفى "365"، أسلم جده ماسرجس -وكان نصرانيا- على يد عبد الله بن المبارك. 5- مستخرج الحافظ المصنف، أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، المتوفى "430"، هؤلاء الأئمة خرج كل واحد منهم على كل من الصحيحين، منفردا ومن العلماء من استخرج عليهما معا في كتاب واحد، كأبي بكر بن عبدان الشيرازي، المتوفى "388"1. حكم الرواية عن الكتب المستخرجة: لم يلتزم واحد من هؤلاء الأئمة موافقة الكتاب الأصلي في ألفاظ الحديث؛ لأنهم إنما يروون بالألفاظ، التي وقعت لهم عن شيوخهم، فحصل فيها تفاوت قليل في الألفاظ، وتفاوت أقل منه في المعاني، فلا يجوز لمن ينقل عن أحد هذه الكتب المستخرجة حديثا، ثم ينسبه إلى الصحيحين مثلا، ويقول هو هكذا فيهما، إلا أن يقابله بهما، أو يكون صاحب الكتاب المستخرج، قد صرح بأنه استخرجه بلفظه كأن يقول أخرجه البخاري بلفظه. فوائد المستخرجات: فوائدها كثيرة منها: 1- ما يقع فيها من زيادات في الأحاديث، لم تكن بالأصل وإنما وقعت لهم تلك الزيادات؛ لأنهم لم يلتزموا إيراد ألفاظ الأصل، بل الألفاظ التي وقعت لهم بالرواية عن شيوخهم.

_ 1 وقد استخرج محمد بن عبد الملك بن أيمن على سنن أبي داود. وأبو علي الطوسي على الترمذي، وأبو نعيم على التوحيد لابن خزيمة. وأملى الحافظ، أبو الفضل العراقي على المستدرك مستخرجا لم يكمل -انظر التدريب ص35.

2- علو الإسناد؛ لأن صاحب المستخرج لو روى الحديث من طريق صاحب الأصل، لوقع أنزل من الطريق الذي يرويه به في المستخرج. 3- تقوية الحديث بكثرة الطرق، وربما ساق له طرقا أخرى إلى الصحابي، بعد فراغه من استخراجه كما يصنع أبو عوانة. 4- أن يكون صاحب الأصل قد روى عمن اختلط، ولم يبين أن السماع منه كان قبل الاختلاط، أو بعده فيبينه المستخرج صريحا، أو بالرواية عمن لم يسمع منه، إلا قبل الاختلاط. 5- أن يروي صاحب الأصل عن مدلس بالعنعنة، فيرويه صاحب المستخرج مع التصريح بالسماع، أو نحوه. 6- أن يروي صاحب الأصل الحديث عن مبهم، كحدثنا رجل أو غير واحد فيعينه المستخرج. 7- أن يروي صاحب الأصل، عن مهمل كحدثنا محمد من غير ذكر ما يميزه عن غيره من المحمدين، فيميزه المستخرج. 8- أن يكون في الأصل حديث مخالف لقاعدة اللغة العربية، يتكلف لتوجيهه، ويتحمل لتخريجه، فيجيء من رواية المستخرج على القاعدة، فيعرف بأنه هو الصحيح، وأن الذي في الأصل قد وقع فيه الوهم من الرواة. 9- قال العلامة ابن حجر: "وكل علة أعل بها الحديث في أحد الصحيحين، وجاءت رواية المستخرج سالمة منها، فهي من فوائده وذلك كثير جدا". ا. هـ. حكم الزيادة الواقعة في الكتب المستخرجة على الصحيحين: ذهب الحافظ ابن الصلاح في مقدمته عند الكلام على فوائد الكتب المستخرجة: إلى أن الزيادة الواقعة في المستخرجات لها حكم الصحيح

لأنها واردة بالأسانيد الثابتة في الصحيحين، أو أحدهما وخارجة من ذلك المخرج الثابت، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر فقال: "هذا مسلم في الرجل، الذي التقى فيه إسناد المستخرج، وإسناد مصنف الأصل، وفيمن بعده وأما من بين المستخرج، وبين ذلك الرجل فيحتاج إلى نقد؛ لأن المستخرج لم يلتزم الصحة في ذلك، وإنما جل قصده العلو، فإن حصل وقع على غرضه، فإن كان مع ذلك صحيحا، أو فيه زيادة فزيادة حسن حصلت اتفاقا، وإلا فليس ذلك همته". ا. هـ. وهذا بيان حسن. ثم إن الكلام إنما هو في الزيادة، التي تقع تتمة لمحذوف في أحاديث الصحيحين، ونحو ذلك إما زيادة أحاديث بتمامها، فلا ريب أنها تتبع قوة السند، وضعفه فقد تكون صحيحة، وقد تكون حسنة أو ضعيفة، وقد وقع في مستخرج أبي عوانة أحاديث كثيرة زائدة على أصله من هذا النوع الأخير، وفيها الصحيح والحسن، والضعيف1. المستدركات على الصحيحين: الاستدراك في اصطلاح أهل الحديث، هو جمع الأحاديث التي تكون على شرط أحد المصنفين، ولم يخرجها في كتابه. ومعلوم مما تقدم أن الشيخين لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما، ولا التزما ذلك، وأذن هناك أحاديث هي على شرطهما، أو على شرط أحدهما لم يخرجاها في كتابيهما، وقد عني العلماء بالاستدارك عليهما، وألفوا في ذلك المصنفات، وأطلقوا عليها اسم المستدركات، ومن أهم هذه المستدركات.

_ 1 انظر. تدريب الراوي ص33-34. كشف الظنون جـ1 ص286، توجيه النظر ص142، وما بعدها. الرسالة المستطرفة للكتاني ص21، وما بعدها.

1- المستدرك لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، الحاكم النيسابوري المتوفى سنة "405"، أودعه من الأحاديث ما هو على شرط الشيخين، أو شرط أحدهما، ولكن لم يخرجاه في كتابيهما، وما أدى اجتهاده إلى تصحيحه، وإن لم يكن على شرط واحد منهما. وهو ينبه على القسم الأول بقوله: هذا حديث على شرط الشيخين، أو على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، وعلى القسم الثاني بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد، وقد يورد فيه ما لم يصح عنده منبها على ذلك، وهو متساهل في التصحيح. وقد لخص1 المستدرك الحافظ الذهبي، المتوفى "748"، وتعقب كثيرا منه ببيان ضعفه، أو نكارته ووضعه وجمع جزءا في الأحاديث الموضوعة، التي وجدت فيه فبلغت نحو مائة حديث، وذكر له ابن الجوزي في موضوعاته، نحو ستين حديثا أيضا. وقد تطرف أبو سعد الماليني، فحكم بأنه ليس في المستدرك حديث على شرط الشيخين، ورد عليه الذهبي ذلك بأن فيه جملة وافرة على شرطهما، وأخرى كبيرة على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع مما صح سنده وإن كان فيه علة، وما بقي وهو نحو الربع فهو مناكير وواهيات لا تصح، وفي بعض ذلك موضوعات. ا. هـ. هذا وقد اعتذر الحافظ ابن حجر، عن التساهل الواقع في مستدرك الحاكم، فقال: إنما وقع للحاكم التساهل؛ لأنه سود الكتاب لينقحه فعاجلته منيته، ولم يتيسر له تحريره وتنقيحه، قال: وقد وجدت قريبا من نصف الجزء الثاني من تجزئة ستة من المستدرك: "إلى هنا انتهى إملاء الحاكم"، وما عدا ذلك من الكتاب لا يؤخذ عنه إلا بطريق الإجازة،

_ 1 وقد طبع الكتابان في حيدر آباد بالهند.

والتساهل في القدر المملى قليل جدا بالنسبة إلى ما بعده. ا. هـ وكثير من المحدثين على أن ما انفرد بتصحيحه الحاكم في المستدك، عن أئمة الحديث يبحث عنه، ويحكم عليه بما يليق بحاله من الصحة، أو الحسن أو الضعف. 2- كتاب الإلزامات لأبي الحسن علي بن عمر بن أحمد الدارقطني، البغدادي أمير المؤمنين في الحديث المتوفى سنة "385". جمع فيه ما وجده على شرط الشيخين من الأحاديث، وليس بمذكور في كتابيهما، وألزمهما ذكره -وهو غير لازم كما تقدم لك- ورتبه على المسانيد في مجلد لطيف. 3- المستدرك على الصحيحين، للحافظ أبي ذر عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، الأنصاري الهروي، نزيل مكة صاحب التصانيف الكثيرة، المتوفى سنة "434"، وهو كالمستخرج على كتاب الدارقطني1. سنن النسائي: صنف النسائي كتاب السنن الكبرى، مشتملا على الصحيح، والمعلول ثم اختصره في كتاب السنن الصغرى، وسماه "المجتبى"، وهو صحيح عند النسائي جاء عنه أنه قال: "كتاب السنن كله صحيح، وبعضه معلول والمنتخب المسمى بالمجتبى صحيح كله"2، قالوا: أنه لما صنف السنن الكبرى أهداها إلى أمير الرملة، فقال له: أكل ما في هذا صحيح قال: لا.

_ 1 انظر تدريب الراوي ص31. مفتاح السنة ص72، الباعث الحثيث ص15 وما بعدها، الرسالة المستطرفة ص17-19. 2 هكذا نقل عنه، ولعله يريد كله صحيح متنا، وبعض أسانيده معلول؛ لأنه لا يلزم من صحة المتن صحة السند.

قال: فجرد الصحيح منه فصنف له المجتبى، وإذا نسب إلى النسائي حديث، فإنما يعنون روايته في السنن الصغرى المسماة بالمجتبى. وكتاب المجتبى أقل السنن حديث ضعيفا، ورجلا مجروحا ودرجته في الحديث بعد الصحيحين، فهو مقدم على سنن أبي داود، وسنن الترمذي؛ لأن النسائي يمتاز عنهما بشدة تحريه في الرجال، حتى قيل: إنه كان أحفظ من مسلم بن الحجاج. شرط النسائي في سننه الصغرى: قدمنا لك عن الحازمي أن أبا داود، والنسائي يخرجان من أحاديث الطبقة الأولى والثانية، والثالثة ولا يتجاوزانها إلى الرابعة في الأصول بخلاف المتابعات، والشواهد، غير أن سنن النسائي تقدم على سنن أبي داود، لتحري مؤلفه واحتياطه في أمر الرجال، وفصحه الشديد عن حال الرواة، وتركه لكثير ممن روى عنه أبو داود والترمذي. قال الحافظ ابن حجر: "كم من رجل أخرج له أبو داود، والترمذي تجنب النسائي إخراج حديثه، بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين". ا. هـ. وقال الحافظ أحمد بن نصر شيخ الدارقطني: "من يصبر على ما يصبر عليه النسائي، كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة، فما حدث عنه بشيء"، قال ابن حجر: "وكان عنده عاليا عن قتيبة عنه، ولم يحدث به لا في السنن، ولا في غيرها"، وبالجملة فشرط النسائي في المجتبى، هو أقوى الشرط بعد الصحيحين مما جعله عظيما في نظر أهل العلم. شروح المجتبى: شرح جلال الدين السيوطي المتوفى سنة "911" في كتاب مختصر، سماه زهر الربى على المجتبى، وشرحه أيضا محمد

ابن عبد الهادي السندي المتوفى سنة "1138"، قال في مقدمته: "وبعد فهذا تعليق لطيف على سنن الإمام الحافظ، أبي عبد الرحمن النسائي، رحمه الله تعالى يقصتر على حل ما يحتاج إليه القارئ، والمدرس من ضبط اللفظ، وإيضاح الغريب والإعراب"، والمجتبى مع شرحيه المذكورين مطبوع الآن1. سنن أبي داود: انتقى أبو داود رحمه الله سننه من خمسمائة ألف حديث، فبلغت أربعة آلاف وثمانمائة حديث كلها في الأحكام وأكثرها مشاهير، وكان رحمه الله أفقه الأئمة الستة بعد البخاري. لذلك جاء كتابه هذا كتابا حافلا جامعا لأبواب الفقه، وللأحاديث التي استدل بها فقهاء الأمصار، وبنوا عليها الأحكام حتى قالوا: "إنها تكفي المجتهد بعد كتاب الله تعالى"، وقد أجاد رحمه الله إجادة تامة في التراجم على الأحاديث، مما يدل على كمال إحاطته بمذاهب العلماء، ومعرفته بمسالكهم في الاستدلال، فإنه ترجم على كل حديث، بما استنبط منه عالم أو ذهب إليه ذاهب. لذلك اشتهر هذا الكتاب بين الفقهاء اشتهارا عظيما، لجمعه أحاديث الأحكام. قال الإمام أبو سليمان الخطابي، المتوفى سنة "328" في كتاب معالم السنن: "اعلموا رحمكم الله تعالى أن كتاب السنن لأبي داود، كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من كافة الناس، فصار حكما بين فرق العلماء، وطبقات الفقهاء على اختلاف

_ 1 مقدمة السيوطي لشرحه على سنن النسائي، ومقدمة السندي لشرحه أيضا، ومفتاح السنة ص79-80، وكشف الظنون جـ1 ص479، وشروط الأئمة الستة لابن طاهر. وتدريب الراوي ص30.

مذاهبهم فلكل منه ورد، ومنه شرب وعليه معول أهل العراق، وأهل مصر وبلاد المغرب، وكثير من أقطار الأرض. فأما أهل خراسان، فقد أولع أكثرهم بكتاب محمد بن إسماعيل، ومسلم بن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاء. إلا أن كتاب أبي داود أحسن وضعا، وأكثر فقها، وكتاب أبي عيسى كتاب حسن، والله يغفر لجماعاتهم، ويحسن على جميل النية، فيما سعوا له مثوبتهم برحمته". ا. هـ. شرطه ودرجة أحاديثه: قال الإمام الحافظ، أبو عمرو بن الصلاح، المتوفى سنة "642"1 في مقدمته ما نصه: "ومن مظانه -يعني الحديث الحسن- سنن أبي داود السجساني، رحمه الله روينا عنه أنه قال: ذكرت فيه الصحيح، وما يشبهه ويقاربه، وروينا عنهأيضا ما معناه أنه يذكر في كل باب أصح ما عرفه في ذلك الباب، وقال: ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد، فقه بينته، وما لم أذكر فيه شيئا، فهو صالح وبعضها أصح من بعض. قال ابن الصلاح: فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا، وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح، والحسن عرفنا بأنه من الحسن عند أبي داود، وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عنده، ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به. إذ حكى أبو عبد الله بن منده، الحافظ أنه سمع محمد بن سعد الباوردي بمصر يقول: كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي، أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه2. قال ابن منده: وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه، ويخرج الإسناد الضعيف، إذا لم يجد في الباب غيره؛ لأنه أقوى عنده من رأي الرجال". ا. هـ.

_ 1 ص18. 2 المراد في سننه الكبرى، أما الصغرى فقد تقدم لك الكلام على شرطه فيها.

وقال السيوطي في التدريب: "فعلى ما نقل عن أبي داود، يحتمل أن يريد بقوله "صالح" الصالح لاعتبار دون الاحتجاج، فيشمل الضعيف أيضًا. لكن ذكر ابن كثير أنه روى عنه: "وما سكت عنه فهو حسن"، فإن صح ذلك فلا إشكال"1 ا. هـ. هذا، وكلام أبي داود فيما يتعلق بكتابه -وقد نقل ابن الصلاح بعضه- مأخوذ من رسالته إلى أهل مكة، ونحن ننقل لك شيئا منها. قال: "إنكم سألتموني أن أذكر لكم الأحاديث، التي في كتاب السنن أهي أصح ما عرفت في الباب. فاعلموا أنه كله كذلك، إلا أن يكون قد روي من وجهين أحدهما أقوم إسنادا والآخر أقوم في الحفظ فربما كتبت ذلك، ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث ولم أكتب في الباب إلا حديثا، أو حديثين وإن كان في الباب أحاديث صحاح، فإنها تكثر وإنما أردت قرب منفعته فإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين، أو ثلاثة فإنما هو من زيادة كلام فيه، وإنما تكون فيه كلمة زائدة على الأحاديث، وربما اختصرت الحديث الطويل؛ لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من يسمعه المراد منه، ولا يفهم موضع الفقه منه فاختصرته لذلك، وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى، مثل سفيان الثوري، ومالك، والأوزاعي حتى جاء الشافعي، فتكلم فيها وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل، وغيره. فإذا لم يكن مسند غير المراسيل، فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة، وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء، فإذا كان فيه حديث منكر بينته أنه منكر، وليس على نحوه في الباب غيره. وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد، فقد بينته ومنه ما لا يصح سنده، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من

_ 1 ص55.

بعض وهو كتاب لا ترد عليك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهي فيه ولا أعلم شيئا بعد القرآن، ألزم للناس أن يتعلموه من هذا الكتاب، ولا يضر رجلا، إلا يكتب من العلم شيئا بعد ما يكتب هذا الكتاب، وإذا نظر فيه وتدبره، وتفهمه حينئذ يعلم مقداره، وأما هذه المسائل مسائل الثوري، ومالك والشافعي فهذه الأحاديث أصولا. والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئا من الأحاديث، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس، فالحديث المشهور المتصل الصحيح، ليس يقدر أن يرده عليك أحد، وأما الحديث الغريب، فإنه لا يحتج به ولو كان من رواية الثقات من أئمة العلم. قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث، وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة، فإن عرف وإلا فدعه، ولم أصنف في كتاب السنن إلا الحكام، فهذه أربعة آلاف، وثمانمائة كلها في الأحكام، فأما أحاديث كثيرة في الزهد والفضائل، وغيرها فلم أخرجها والسلام عليكم". ا. هـ. شروحه ومختصراته: شرح السنن كثير من العلماء، منهم الإمام أبو سليمان الخطابي، المتوفى سنة "328" في كتابه معالم السنن في مجلدين، وقطب الدين أبو بكر، اليمني الشافعي، المتوفى سنة "652" في أربع مجلدات كبار، وشهاب الدين الرملي، المتوفى سنة "848" وغيرهم. واختصرها الحافظ عبد العظيم، المنذري صاحب الترغيب، والترهيب المتوفى سنة "656"، وهذب المختصر ابن قيم الجوزية المتوفى سنة "751"، ذكر فيه أن الحافظ المنذري، قد أحسن في اختصاره، فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل، وزدت عليه من الكلام على علل سكت عنها، إذ لم يكملها

وتصحيح أحاديثه والكلام على متون مشكلة لم يفتح معضلها، وقد بسطت الكلام على مواضع لعل الناظر لا يجدها في كتاب سواه1. الجامع لأبي عيسى الترمذي: اشتهر هذا الكتاب بجامع الترمذي، ويقال له: السنن أيضا والأول هو الأكثر على ما ذكره صاحب كشف الظنون "1-288"، ألف الترمذي جامعه على أبواب الفقه، وغيره وأودعه الصحيح، والحسن والضعيف مبينا درجة كل حديث في موضعه من الكتاب، مع بيان وجه الضعف، كما بين مذاهب الصحابة، والتابعين وفقهاء الأمصار، واختصر طرق الحديث، فذكر واحدا وأشار إلى ما عداه، وجعل في آخره كتابا للعلل جمع فيه فوائد هامة، لذلك جاء كتابه فذا في بابه، ففيه من الفوائد الفقهية، والحديثية ما ليس في غيره. قال أبو عيسى الترمذي، رحمه الله: "عرضت هذا الكتاب على علماء الحجاز والعراق، وخراسان فرضوا به واستحسنوه، ومن كان في بيته، فكأنما النبي في بيته يتكلم"، وقال: ما أخرجت في كتابي هذا، إلا حديثا عمل به بعض الفقهاء سوى حديث: "فإن شرب في الرابعة فاقتلوه"، وحديث: "جمع بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف ولا سفر". ا. هـ. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي، المتوفى سنة "795" في شرح علل الترمذي: "وقد اعترض على الترمذي بأنه في غالب الأبواب، يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالبا. وليس ذلك بعيب؛ لأنه رحمه الله يبين ما فيها من العلل، ثم يبين الصحيح في الإسناد، وكأن قصده رحمه الله ذكر العلل، ولهذا نجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما هو غلط

_ 1 كشف الظنون جـ1 ص478، مفتاح السنة 86.

ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له، وأما أبو داود فكانت عنايته بالمتون أكثر، ولهذا يذكر الطرق واختلاف ألفاظها، والزيادات المذكورة في بعضها دون بعض فكانت عنايته بفقه الحديث أكثر من عنايته بالأسانيد، فلهذا يبدأ بالصحيح من الأسانيد، وربما لم يذكر الإسناد المعلل بالكلية"1. ا. هـ. وقال ابن الصلاح في مقدمته: "كتاب أبي عيسى الترمذي، أصل في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نوه باسمه، وأكثر من ذكره في جامعه، ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه، والطبقة التي قبله كأحمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهما وتختلف النسخ من كتاب الترمذي في قوله "هذا حديث حسن"، أو "هذا حديث حسن صحيح"، فينبغي أن تصحح أصلك به بجماعة أصول، وتعتمد على ما اتفقت عليه". ا. هـ2. وبالجملة فجامع الترمذي كتاب جليل القدر عظيم الفوائد. درجة أحاديثه: قال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي: "اعلم أن الترمذي خرج في كتابه الحديث الصحيح، والحديث الحسن، وهو ما نزل عن درجة الصحيح، وكان فيه بعض ضعف، والحديث الغريب، والغرائب التي خرجها فيها بعض المناكير، ولا سيما في كتاب الفضائل، ولكنه يبين ذلك غالبا، ولا يسكت عنه، ولا أعلم أنه خرج عن متهم بالكذب، متفق على إتهامه: حديثا بإسناد منفرد إلا أنه قد يخرج حديثا مرويا من طرق، أو مختلفا في إسناده وفي بعض طرقه متهم، وعلى هذا الوجه: خرج حديث محمد بن سعيد المصلوب، ومحمد بن السائب

_ 1 شروط الأئمة الخمسة ص44 من تعليقات الشيخ، زاهد الكوثري. 2 ص17، 18.

الكلبي نعم قد يخرج عن سيئ الحفظ، وعمن غلب على حديث الوهن، ويبين ذلك غالبا ولا يسكت عنه". ا. هـ1. مقارنة بين جامع الترمذي، وسنن أبي داود والنسائي: قال أبو جعفر بن الزبير: "لأبي داود في حصر أحاديث الأحكام واستيفائها ما ليس لغيره، وللترمذي في فنون الصناعة الحديثية ما لم يشاركه غيره، وقد سلك النسائي أغمض تلك المسالك، وأجلها". ا. هـ. وقال الحافظ الذهبي: "انحطت رتبة جامع الترمذي، عن سنن أبي داود والنسائي لإخراجه حديث المصلوب، والكلبي وأمثالهما". ا. هـ2. وأفاد الحازمي في شروط الأئمة الخمسة، أن أبا داود والنسائي لا يجاوزان الطبقة الثالثة في الأصول، وأن أبا عيسى الترمذي لا يجاوز الطبقة الرابعة. ثم قال: "وفي الحقيقة شرط الترمذي أبلغ من شرط أبي داود؛ لأن الحديث إذا كان ضعيفا، أو مطلعه من حديث أهل الطبقة الرابعة، فإنه يبين ضعفه وينبه عليه فيصير الحديث عنده من باب الشواهد، والمتابعات ويكون اعتماده على ما صح عند الجماعة، وعلى الجملة فكتابه مشتمل على هذا الفن، فلهذا جلعنا شرطه دون شرط أبي دود". ا. هـ3. شروحه: شرح جامع الترمذي كثير من العلماء منهم 1- أبو بكر بن العربي، المتوفى سنة "546"، وسمي شرحه: "عارضة الأحوذي في شرح الترمذي"، وهو مطبوع بمصر الآن في ثلاثة عشر جزءا، إلا أنه غير مصحح فكان فيه خطأ كثير. 2- الحافظ أبو الفتح محمد

_ 1 ص54 من تعليقات الشيخ زاهد الكوثري على شروط الأئمة الخمسة للحازمي. 2 انظر التدريب ص56. 3 ص44.

ابن محمد بن سيد الناس اليعمري، المتوفى سنة "734" بلغ فيه إلى أقل من ثلثي الجامع في نحو عشرة مجلدات، ولم يتمه ثم أكمله الحافظ زين الدين بن عبد الرحيم بن حسين العراقي المتوفى سنة "806". 3- سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني، المتوفى سنة "805"، وسماه "العرف الشذي على جامع الترمذي"، كتب منه قطعة ولم يكمله. 4- جلال الدين السيوطي، وسماه "قوت المغتذي على جامع الترمذي". 5- الحافظ زين الدين بن عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، الحنبلي المتوفى سنة "795". 6- الشيخ أبو الحسن بن عبد الهادي السندي، المتوفى سنة "1139"1. سنن ابن ماجه القزويني: المتقدمون من أهل الحديث، وكثير من محققي المتأخرين عدوا أصول كتب الحديث خمسة: الصحيحين وسنن النسائي، وأبي داود والترمذي، وخالفهم بعض المتأخرين، فعد الأصول ستة بإضافة سنن ابن ماجه إلى الخمسة المذكورة، وذلك؛ لأنهم رأوا كتابه مفيدا عظيم النفع في الفقه، وأول من أضافه إلى الخمسة الحافظ أبو الفضل بن طاهر المقدسي، المتوفى سنة "507" في أطراف الكتب الستة له، وكذلك في كتابه شروط الأئمة الستة، ثم الحافظ عبد الغني المقدسي في كتابه الإكمال في أسماء الرجال -أي رجال الكتب الستة، وهو الذي هذبه الحافظ المزي، وتبعهما على ذلك أصحاب الأطراف والرجال، ولما كان ابن ماجه قد أخرج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب، وسرقة الأحاديث قال بعضهم: ينبغي أن يجعل السادس كتاب الدارمي، فإنه قليل الرجال

_ 1 انظر كشف الظنون جـ1 ص288.

الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة، وإن كانت فيه أحاديث مرسلة وموقوفة، فهو مع ذلك أولى منه، وجعل آخرون الموطأ هو السادس لصحته وجلالته كرزين السرقسطي، المتوفى سنة "535" في كتابه تجريد الصحاح، وتبعه ابن الأثير في جامع الأصول وكذا غيره. هذا وسن ابن ماجه مصنف على الأبواب كالسنن الثلاثة السابقة، وهو دونها في الدرجة إذ المشهور أن ما انفرد به، يكون ضعيفا إلا أن هذا ليس على عمومه، فقد قال الحافظ ابن حجر: "إنه انفرد بأحاديث كثيرة، وهي صحيحة فالأولى حمل الضعيف على الرجال، وقد ألف الحافظ أحمد بن أبي بكر البوصيري كتابا في زوائده على الخمسة، نبه فيه على غالبها". قال السيوطي في شرحه على مجتبى النسائي، المسمى بزهر الربى: "إن كتاب ابن ماجه قد تفرد فيه بإخراج أحاديث، عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث. وبعض تلك الأحاديث، لا تعرف إلا من جهتهم مثل حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك، والعلاء بن زيد وداود بن المحبر، وعبد الوهاب بن الضحاك، وإسماعيل بن زياد الكوفي، وعبد السلام بن يحيى بن أبي الجنوب، وغيرهم. قال: وأما ما حكاه ابن طاهر، عن أبي زرعة الرازي أنه نظر فيه فقال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا، مما فيه ضعف فهي حكاية لا تصح لانقطاع سندها. وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة للغاية، أو كان ما رأى من الكتاب إلا جزءا منه فيه هذا القدر، وقد حكم أبو زرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطة، أو ساقطة أو منكرة، وذلك محكي في كتاب العلل لأبي حاتم. ا. هـ وقال الذهبي:

"قد كان ابن ماجه حافظا صدوقا، واسع العلم وإنما غض من رتبة سننه ما في الكتاب من المناكير، وقليل من الموضوعات" شروحه: هي كثيرة منها: 1- شرح محمد بن موسى الدميري المتوفى سنة "808"، وشرحه يسمى "الديباجة" في خمسة مجلدات، ومات قبل تحريره. 2- شرح جلال الدين السيوطي، وشرحه يسمى "مصباح الزجاجه على سنن ابن ماجه". 3- شرح إبراهيم بن محمد الحلبي المتوفى سنة "841". 4- شرح السندي، وهو مطبوع1.

_ 1 انظر مقدمة السندي لشرح سنن ابن ماجه -مقدمة السيوطي لشرح سنن النسائي، وشروط الأئمة الستة ص16-17، الرسالة المستطرفة ص10-11، توجيه النظر ص153، مفتاح السنة ص101 كشف الظنون جـ1 ص477- قواعد التحديث ص233.

الدور السادس

الدور السادس المبحث الأول: وصف الحالة السياسية في هذا الدور ... الدور السادس: السنة من عام "300"هـ إلى عام "656" هجرية. ويشتمل هذا الدور على ثلاثة مباحث: البحث الأول: وصف الحالة السياسية في هذا الدور. المبحث الثاني: السنة في القرن الرابع. المبحث الثالث: السنة بعد القرن الرابع إلى نهاية هذا الدور. المبحث الأول: وصف الحالة السياسية في هذا الدور منيت الدولة الإسلامية من مبدأ القرن الرابع الهجري، بتدهور سياسي قطع أوصالها، وجعلها دويلات متناثرة، وأشلاء ممزقة فدولة بني أمية بالأندلس، وعلى رأسها عبد الرحمن الناصر ملقبا نفسه بأمير المؤمنين سنة "325هـ"، وذلك لما أن أحس بضعف الدولة العباسية، والفاطميون يستقلون بشمال أفريقية، والدولة الإخشيدية بمصر، وإن كانت تدعو لبني العباس إلى أنها مستقلة عنهم في حقيقة الأمر، ودولة بني حمدان، والشيعة الزيدية باليمن، أقاموا لهم دولة، والدولة السامانية العظيمة تسيطر على المشرق، وبلاد ما وراء النهر، ودولة بني بويه تسيطر على بغداد، ولا تبقى لبني العباس سوى مجرد الاسم، ولم تكن الحياة السياسية حياة استقرار، بل كانت مضطربة مائجة فالفاطميون يغيرون على مصر، ويستقلون بها سنة 358هـ، وآل سلجوق يطغى سيلهم على

معظم البلاد الإسلامية، فينتزعون الملك من بني بويه، ويستولون على الجزيرة وآسيا الوسطى، وينازعون الفاطميين ملك الشام، وتصبح لهم الكلمة النافذة في جميع الأقاليم الإسلامية، ما عدا مصر وبلاد المغرب. ثم لما دب الخلاف بين آل سلجوق، هبت ريح الصليبيين فقاموا في أواخر القرن الخامس، واستولوا على بيت المقدس سنة 490، وكانت لهم حروب طويلة مع المسلمين، وعلى أنقاض الدولة السلجوقية، قامت دولة الأتابكية وانتشرت شرقا وغربا، حتى سقطت الدولة الفاطمية بمصر على يد محمود نور الدين، وعادت مصر ولاية عباسية، وأقام بها صلاح الدين الأيوبي، أحد قواد محمود نور الدين دولة عظيمة. أما في بلاد المشرق خراسان، وما إليها، فقد أقام خوارزم شاه محمد بن تكش دولة قوية، قضت على الملوك وضمت الممالك، وفي أواخر القرن السادس، عزم خوارزم شاه على التوجه إلى الخليفة، ليقضي عليه، فلم يتيسر له ذلك وباغته التتار النازحون من أطراف الصين، والبراري -وهم قوم اشتهروا بالشر والغدر- وعلى رأسهم جنكيز خان قائدهم الأعلى، ولم يلبثوا أن أغاروا على البلاد الإسلامية في سرعة هائلة، يسفكون الدماء ويقتلون الأبرياء، حتى وصلوا إلى بغداد، وقتلوا الخليفة وأسقطوا الخلافة العباسية، وذلك سنة 656هـ. هذا ومما هو جدير بالذكر أن هذه الأحداث التاريخية، الهائلة، والتقهقر السياسي الخطير لم يصحبه تقهقر علمي، بل ما زالت الحركة العلمية قائمة، فالعلماء يرحلون من قطر إلى آخر، ويتلقى بعضهم عن بعض، ويعرضون الكتب والمسموعات على الشيوخ. وكان لهم نشاط علمي في نقد الرجال، وتمحيص الأحاديث، ومصنفات جياد في علل الحديث، وتاريخ الرواة وعلوم الحديث عامة. غير أنهم لم يبلغوا شأو المتقدمين، بل كثيرا ما كانوا يتكلمون بلسان أهل القرون السابقة1.

_ 1 تاريخ التشريع للحصري ص333، وما بعدها وتاريخ الخلفاء للسيوطي في عدة أماكن.

المبحث الثاني: السنة في القرن الرابع

المبحث الثاني: السنة في القرن الرابع كان القرن الثالث، الهجري هو أزهى عصور السنة، وأحفلها بخدمة الحديث، ففيه ظهر أفذاذ الرجال من حفاظ الحديث وأئمة الرواية. وفيه ظهرت الكتب الستة، التي لم تغادر من الحديث الصحيح، سوى النزر اليسير، وفيه اعتنى أئمة السنة بالكلام على الأسانيد، وتواريخ الرجال ومنزلتهم في الجرح والتعديل، ولم يكن العلماء في هذا القرن، يدونون الأحاديث بالنقل من كتب أخرى، بل كان اعتمادهم على ما حفظوه عن مشايخ الحديث، وعرفوا جيده من رديئه وصحيحه من ضعيفه، وما كادت شمس هذ القرن تؤذن بمغيب حتى كانت الموسوعات الحديثية، تزخر بالحديث وعلومه وصار العلماء في القرن الرابع، وما بعده يجمعون ما تفرق في كتب الأولين، أو يختصرونها بحذف الأسانيد، أو يقومون بشيء من الترتيب، والتهذيب إلى غير ذلك، وإذا تكلموا في شيء من الأسانيد، فبلسان من سبقهم من أهل القرون الأولى -غير أن جمهرة كبيرة منهم نسجوا على منوال السابقين، وكان لهم في رواية الأحاديث، وفحص الأسانيد باع طويل. هذا وكان العلماء في الأدوار السابقة، لا يعتمدون إلا الرواية الشفاهية في نقل الأحاديث، ولا يعولون على مجرد الكتب، حتى ينقلوا أحاديثها بطريق السماع من مؤلفيها، ولو كلفهم ذلك أن يرحلوا الشهور الطوال.

أما في هذا الدور السادس، فقد لفظت فيه الرواية الشفاهية أنفاسها، وذهب من بين الرواة ريحها، وطغى عليها التدوين، الذي بلغ أشده في ذلك الوقت لهذا جعل العلماء الحد الفاصل بين المتقدمين، والمتأخرين من رواة الحديث وحملته هو رأس سنة ثلاثمائة، كما قرره الحافظ الذهبي في خطبة ميزانه. ولا يغيبن عن بالك أن هذا التطور في تدوين الحديث، وروايته لم يكن طفرة بل كان تدريجيا سنة الله في أنواع العلوم، والصنائع، والدول وغيرها لذلك وجد من بين علماء القرن الرابع طائفة كبيرة، كان لها في تدوين الحديث، طريقة استقلالية على نمط التدوين في القرن الثالث، فمن1 هؤلاء الأئمة الأعلام: الحاكم: أبو عبد الله النيسابوري، المعروف بابن البيع وهو صاحب "المستدرك" الذي حدثناك عنه في الدور السابق، وله غيره من التصانيف الحديثية: العلل، والأمالي، وفوائد الشيوخ، وأمالي العشيات، ومعرفة علوم الحديث وهو مطبوع بمصر إلى غير ذلك من كتبه التي بلغت ألفا وخمسمائة جزء. رحل إلى العراق والحجاز رحلتين، وذاكر الشيوخ وناظر الحفاظ وتولى القضاء بنيسابور سنة 359هـ، وتوفي رحمه الله بها سنة 405 2هـ. الدارقطني: هو علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن دينار بن عبد الله الحافظ، الكبير أمير المؤمنين في الحديث، وأستاذ هذه الصناعة. سمع الكثير وصنف، وألف وأجا وأفاد وأحسن النظر، والتعليل

_ 1 كشف الظنون جـ1 ص325. 2 تاريخ ابن كثير جـ11 ص355، ومفتاح السنة ص71.

كان إمام عصره في صناعة الجرح والتعديل، وحسن التأليف واتساع الرواية، وله كتاب الإلزامات، وهو كالمستدرك على الصحيحين، وقد تقدم الكلام عليه، وله كتاب السنن وقد طبع بالهند مع تعليقات لشمس الحق أبي الطيب، محمد بن أحمد بن علي الآبادي، وله كتاب العلل بين فيه الصواب من الدخل، وكتاب الأفراد. وكان الدارقطني من صغره موصوفا بالحفظ، والفهم. قال ابن الجوزي: "اجتمع له مع معرفة الحديث العلم بالقراءات، والنحو، والفقه والشعر مع الإمامة، والعدالة وصحة العقيدة"، وثناء العلماء عليه لا يحصى، توفي رحمه الله سنة 385هـ1. ابن حبان: هو محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد، أبو حاتم البستي التميمي، الحافظ الجليل. سمع كثير من الشيوخ في كثير من الأمصار، فقد كان رحالة زمانه. قال ابن السمعاني: "كان أبو حاتم، إمام عصره رحل فيما بين الشاش والإسكندرية"، وقال الحاكم: "كان من أوعية العلم والفقه والحديث، واللغة والوعظ، من عقلاء الرجال"، وقال الخطيب: "كان ثقة نبيلا وله التصانيف الكثيرة منها المسند الصحيح المسمى الأنواع، والتقاسيم قال فيه: لعلنا كتبنا عن ألف شيخ ما بين الشاش والإسكندرية"، وكتابه هذا على ترتيب مخترع. فلا هو على الأبواب، ولا هو على المسانيد. رتبه مؤلفه على خمسة أقسام، وهي الأوامر، والنواهي، والأخبار، والإباحات، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ونوع كل واحد من هذه الخمسة إلى أنواع لذا كان الكشف في كتابه عسرا جدا، وقد ربه بعض المتأخرين، وهو علاء الدين علي بن لبان الفارسي المتوفى سنة 937 على الأبواب وسماه: "الإحسان

_ 1 تاريخ ابن كثير جـ11 ص317.

في تقريب صحيح ابن حبان". قالوا: وأصح من صنف في الصحيح المجرد بعد الشيخين ابن خزيمة، فابن حبان وقد نسبوا إليه التساهل في التصحيح، إلا أن تساهله أقل من تساهل الحاكم. قال الحازمي: "ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم". ومنشأ تساهل ابن حبان أنه كان يقول: "من كان منكر الحديث على قلته لا يجوز تعديله إلا بعد السير. ولو كان ممن يروي المناكير، ووافق الثقات في الأخبار لكان عدلا مقبول الرواية، إذ الناس في أقوالهم على الصلاح والعدالة، حتى يتبين منهم ما يوجب القدح هذا حكم المشاهير، فأما المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلا الضعفاء، فهم متروكون على الأحوال كلها". قال ابن حجر في مقدمة لسان الميزان، بعد أن حكى قوله هذا: "وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة، حتى يتبين جرحه مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات، فإنه يذكر خلقا ممن نص عليهم أبو حاتم، وغيره على أنهم مجهولون. وقد أفح ابن حبان بقاعدته فقال: العدل من لم يعرف فيه الجرح، إذ التجريح ضد التعديل، فمن لم يجرح فهو عدل حتى يتبين جرح، إذ لم يكلف الناس ما غاب عنهم، وقال في ضابط الحديث الذي يحتج به: "إذا تعرى رواية من أن يكون مجروحا، أو فوقه مجروح أو دونه مجروح، أو كان سنده مرسلا أو منقطعا، أو كان المتن منكرا". ا. هـ فمن هذا ترى أن ابن حبان، يحكم للرجل بالعدالة إذا انتفت جهالة عينه1، حتى يتبين جرحه

_ 1 وجهالة العين ترفع عنده برواية واحد مشهور، وهو مذهب شيخه ابن خزيمة. ومجهول العين عند الجمهور، هو كل من لم يعرفه العلماء، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد.

وهذا خلاف ما عليه الجمهور، فإن جهاة العين عندهم لا تزول إلا برواية عدلين، فصاعدا عن المجهول وتعيينهما له، ومع ذلك لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما هذه. وزعم قوم أن عدالته تثبت بذلك وهذا باطل؛ لأنه يجوز أن يكون العدل لا يرعف عدالته، فلا تكون روايته عنه تعديلا له، ولا خبرا عن صدقه وقد وجد من جماعة من الثقات، الرواية عن جماعة غير مرضيين أمسكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم، وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب، فرواية العدل، أو العدلين، أو الأكثر عن راو لا يعد توثيقا له خلافا لما ذهب إليه ابن حبان، ومن هنا نرى أن إطلاق الصحيح على كتابه فيه تجوز؛ لأن كلامه في الرواة يدخل عليه الحسن، وقد حاول بعض العلماء الدفاع عنه. فقال: "إن كانت نسبة التساهل إليه باعتبار وجدان الحسن في كتابه، فهي مشاحة في الاصطلاح؛ لأنه يسميه صحيحا، وإن كانت باعتبار خفة شروطه، فإنه يخرج في الصحيح، ما كان راويه ثقة غير مدلس، سمع من شيخه وسمع منه الآخذ عنه، ولا يكون هناك إرسال لا انقطاع، وإذا لم يكن في الراوي جرح، ولا تعديل، وكان كل من شيخ، والراوي عنه ثقة، ولم يأت بحديث منكر، فهو عنده ثقة وفي كتاب الثقات له كثير ممن هذه حاله، ولأجل هذا ربما اعترض عليه في جعلهم ثقات من لم يعرف اصطلاحه، ولا اعتراض عليه، فإنه لا مشاحة في ذلك، فابن حبان وفي بما التزمه من الشروط بخلاف الحاكم"، توفي رحمه الله سنة 354هـ1. الطبراني: هو، الإمام أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، المتوفى

_ 1 طبقات الشافعية جـ2 ص141، ولسان الميزان. جـ5 ص112، وما بعدها وتوجيه النظر ص140، 325، والرسالة المستطرفة ص66، وما بعدها ومقدمة لسان الميزان لابن حجر.

سنة 360هـ ألف المعاجم1 الثلاثة: الكبير والصغير والأوسط، فالكبير جمع فيه مسانيد الصحابة مرتبين على حروف المعجم، ما عدا مسند أبي هريرة، فإنه أفرده في مصنف، ويقال: إنه أورد في الكبير نحو خمسمائة وعشرين ألف حديث وإذا أطلق المعجم في كلام العلماء فالمراد الكبير، والأوسط ألفه على أسماء شيوخه، وهم نحو ألفي رجل حتى إنه روى عمن عاش بعده لسعة روايته، وكثرة شيوخه وأكثر من غرائب حديثهم، ويقال: إن فيه ثلاثين ألف حديث، وهو في ست مجلدات كبار، وكان يقول فيه: "هذا الكتاب روحي"؛ لأنه تعب فيه. قال الذهبي: "وفيه كل نفيس عزيز ومنكر"، وأما الصغير فهو في مجلد واحد، خرج فيه عن ألف شيخ، يقتصر فيه غالبا على حديث واحد عن كل واحد من شيوخه، وهو نحو ألف وخمسمائة حديث بأسانيدها2. قاسم بن أصبغ: هو أبو محمد قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف البياني، نسبة إلى بيانه كجبانة بلدة بالأندلس، على بعد ثلاثين ميلا من قرطبة المالكي، المتوفى سنة 340، وله كتاب الصحيح المنتقى3. ابن السكن: الحافظ أبو علي، سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن، البغدادي نزيل مصر، والمتوفى بها سنة 353 هجرية الف الصحيح المنتقى، ويسمى أيضا بالسنن الصحاح المأثورة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

_ 1 المعجم في اصطلاحهم، ما يذكر فيه الحديث على ترتيب الصحابة، أو الشيوخ، أو البلدان أو غير ذلك، والغالب أن يكونوا مرتبين على حروف الهجاء. 2 كشف الظنون جـ2 ص290، والرسالة المستطرفة ص101، وما بعدها. 3 الرسالة المستطرفة ص20.

ألفه على الأبواب في جميع ما يحتاج إليه من الأحكام، وضمنه ما صح عنده من السنن المأثورة مع حذف الأسانيد. قال: وما ذكرته في كتابي هذا مجملا، فهو مما أجمعوا على صحته وما ذكرته بعد ذلك مما يختاره أحد من الأئمة، الذين سميتهم، فقد بينت حجته في قبول ما ذكره، ونسبته إلى اختياره دون غيره، وما ذكرته مما ينفرد به أحد من أهل النقل للحديث، فقد بينت علته، ودللت على انفراده دون غيره1. ا. هـ. أبو جعفر، أحمد بن محمد الطحاوي: هو أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، المتوفى سنة 321، وله كتاب معاني الآثار، وهو كتاب جليل القدر، ذكر فيه أنه سأله بعض أصحابه تأليفا في الآثار المأثورة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحكام، التي يتوهم أهل الإلحاد، والزندقة أن بعضها ينقض بعضا لقلة علمهم بناسخها ومنسوخها، فألف هذا الكتاب، وجعله أبوابا ذكر في كل باب ما فيه من الناسخ، والمنسوخ وتأويل العلماء، وإقامة الحجة على الصحيح، وقد عمل العيني المتوفى سنة "855" عليه شرحا ولابن قطلوبغا المتوفى سنة "879" كتاب الإيثار برجال معاني الآثار2.

_ 1 الرسالة المستطرفة ص20-21، وكشف الظنون جـ1 ص510. 2 كشف الظنون جـ2 ص286.

المبحث الثالث: السنة بعد القرن الرابع إلى آخر هذا الدور

المبحث الثالث: السنة بعد القرن الرابع إلى آخر هذا الدور قدمنا لك في المبحث السابق نخبة من علماء القرن الرابع، الذين تضلعوا في علوم السنة، وكانوا يدونون كتبهم من محفوظهم، ومسموعاتهم عن شيوخهم، كما كان يفعل أهل القرن الثالث، ثم ما كاد ينتهي القرن الرابع حتى أصبح عمل العلماء قاصرا على الجمع، والترتيب أو التهذيب لكتب السابقين، ونحن نذكر لك جملة من أعمالهم التهذيبية في الدور السادس، فنقول: الجمع بين الصحيحين: تناول كثير من الناس الجمع بين أحاديث الصحيحين في مصنف على حدة، فمن ذلك الجمع بينهما لإسماعيل بن أحمد المعروف بابن الفرات المتوفى سنة "414"، والجمع بينهما لمحمد بن نصر الحميدي، الأندلسي سنة "488"، وربما زاد زيادات ليست فيهما، والجمع بينهما لحسين بن مسعود البغوي، سنة "516"، والجمع بينهما لمحمد بن عبد الحق الأشبيلي سنة "582"، والجمع بينهما لأحمد بن محمد القرطبي، المعروف بابن أبي حجة سنة "642". الجمع بين الكتب الستة 1: جمع بينها أحمد بن رزين بن معاوية، العبدري السرقسطي المتوفى سنة "535" في كتابه تجريد الصحاح، لكنه لم يحسن في ترتيبه، وتهذيبه، وترك بعضا من أحاديث الستة، ولما جاء أبو السعادات مبارك بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري، الشافعي، المتوفى سنة "606". هذب كتابه، ورتب أبوابه، وأضاف إليه ما فاته من الأصول، وشرح غريبه وبين مشكل إعرابه، وخفي المعنى وحذف أسانيده، ولم يذكر إلا راوي الحديث من صحابي، أو تابعي كما ذكر المخرج له من الستة، ولم يذكر من أقوال التابعين، إلا النادر ورتب أبوابه على حروف المعجم، وسماه جامع الأصول لأحاديث الرسول، فجاء كتابا عظيما سهل العسير وقرب البعيد. وهو بدار الكتب المصرية في عشرة أجزاء متوسطة، وقد شرع أحد علماء الأزهر الشريف، وهو الشيخ عبد ربه بن سليمان بن محمد المشهور بالقليوبي في شرحه، وسماه

_ 1 المراد بالكتب الستة الصحيحان، وموطأ مالك وسنن النسائي، وأبي داود والترمذي.

"جامع المعقول والمنقول. شرح جامع الأصول". إلا أنه لم يكمل1. وجمع بين الكتب الستة أيضا عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي، المعروف بابن الخراط سنة "582هـ". الجمع بين أحاديث من كتب مختلفة: أ- مصابيح السنة للإمام حسين بن مسعود البغوي سنة "516"، جمع فيه "4484" من الأحاديث الصحاح، والحسان وهو يريد بالصحاح ما أخرجه الشيخان، أو أحدهما وبالحسان ما أخرجه2 أبو داود، والترمذي وغيرهما، وما كان فيها من ضعيف، أو غريب بينه، ولا يذكر ما كان منكرا أو موضوعًا، وقد اعتنى العلماء بها عناية عظيمة، فشرحوها شروحا كثيرة، وهذبها محمد بن عبد الله الخطيب، وذيل أبوابها فذكر الصحابي الذي روى الحديث، والكتاب الذي أخرجه وزاد على كل باب من الصحاح، والحسان فصلا ثالثا عدا بعض الأبواب، وكان ذلك سنة 737 هجرية، وسمى كتابه هذا مشكاة المصابيح وقد شرح المشكاة كثيرون، منهم القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي سنة "685". ب- جامع المسانيد والألقاب لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي، المتوفى سنة "597" جمع فيه بين الصحيحين، ومسند أحمد وجامع الترمذي، وقد رتبه أبو العباس أحمد بن عبد الله المكي، المعروف بالمحب الطبري المتوفى سنة "964"هـ3.

_ 1 اختصر جامع الأصول كثير من العلماء، منهم محمد المروزي، المتوفى سنة "682"، وهبة الله بن الرحيم الحموي، سنة "718"هـ، وعبد الرحمن بن علي المعروف بابن الديبع الشيباني الزبيدي "944"هـ، وكتابه أحسن المختصرات، وهو مطبوع بمصر في ثلاثة أجزاء، أو أربعة. 2 وهذا اصطلاح له خاصة، وإلا ففي السنن الصحيح، والضعيف أيضا انظر كشف الظنون جـ2 ص272. 3 كشف الظنون جـ1 ص295.

ج- بحر الأسانيد للإمام الحافظ، الحسن بن أحمد السمرقندي، المتوفى سنة "491" جمع فيه مائة ألف حديث رتبه وهذبه، ويقال: إنه لم يقع في الإسلام مثله1. كتب منتقاة في أحاديث الأحكام والمواعظ: أ- كتاب منتقى الأخبار في الأحكام للحافظ، مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم، الحراني المعروف بابن تيمية الحنبلي، المتوفى سنة "652" انتقاه من صحيحي البخاري، ومسلم ومسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي والسنن للنسائي، وأبي داود وابن ماجه، واستغنى بالعزو إلى هذه الكتب عن الإطالة بذكر الأسانيد، وهو كتاب جليل الفائدة، لولا إطلاقه العزو إلى الأئمة دون التحسين، والتضعيف فقد يقول رواه الترمذي مثلا، وهو في جامع الترمذي منصوص على ضعفه، فيعزوه إليه من غير بيان، وقد بين ذلك محدث اليمن محمد بن علي الشوكاني، المتوفى سنة "1250" في كتابه نيل الأوطار، الذي شرح به منتقى الأخبار، وهو مطبوع بمصر في ثمانية أجزاء. ب- السنن الكبرى للبيهقي أحمد بن حسين، المتوفى سنة "458"، قال ابن الصلاح: ما تم كتاب في السنة أجمع للأدلة من كتاب السنن الكبرى، للبيهقي وكأنه لم يترك في سائر أقطار الأرض حديثا، إلا وقد وضعه في كتابه، وقد طبع في الهند، وعمل له في آخره فهرس بأسماء الصحابة، والتابعين ومسانيدهم ومروياتهم. وللبيهقي أيضا السنن الصغرى قيل: إنه لم يصنف في الإسلام مثلها. ج- الأحكام الصغرى. للحافظ أبي محمد عبد الحق الإشبيلي

_ 1 كشف الظنون جـ1 ص144.

المعروف بابن الخراط سنة "582"، قال فيها: "جمعت في هذا الكتاب متفرقا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في لوازم الشرع، وأحكامه وحلاله وحرامه وفي ضروب من الترغيب، والترهيب أخرجتها من كتب الأئمة، وهداة الأمة أبو عبيد الله مالك بن أنس، وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، النيسابوري وبقية الكتب الستة، وفيها أحاديث من كتب أخرى1. د- عمدة الأحكام. للإمام الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، الدمشقي المتوفى سنة "600"، جمع فيها أحاديث الأحكام التي اتفق عليها البخاري، ومسلم، وقد شرحها شرحا وسطا ابن دقيق العيد، وقد طبعت بمصر مع الشرح في أربعة أجزاء صغيرة. هـ- الترغيب والترهيب: للحافظ الحجة عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري، المتوفى سنة "656"هـ وهو من أحسن الكتب في جمع الحديث وبيان درجته، وعليه جل اعتماد الوعاظ والمرشدين في عصرنا الحاضر، وقد طبع بمصر عدة مرات. كتب الأطراف: هذا وقد وجد في هذا الدور طائفة من المحدثين، عملوا ما يسمى بكتب الأطراف وطريقتهم فيها أن يذكروا طرفا من الحديث، يدل على بقيته ثم هم يجمعون أسانيده إما على وجه الاستيعاب، وإما مقيدة بكتب مخصوصة وإليك بعض هذه الكتب: 1- أطراف الصحيحين للحافظ، إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي، المتوفى سنة "400"، وأطراف الصحيحين لأبي محمد خلف بن محمد

_ 1 كشف الظنون جـ1 ص45.

الواسطي سنة "401"، قال الحافظ ابن عساكر: وكتاب خلف أحسنهما ترتيبا ورسما، وأقلهما خطأ ووهما، ويوجد بدار الكتب المصرية في أربعة مجلدات. وأطرافهما أيضا لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، سنة "430هـ". 2- أطراف السنن الأربعة لأبي القاسم، علي بن الحسن المعروف بابن عساكر الدمشقي "571" في ثلاثة مجلدات مرتبا على حروف المعجم، واسمه الإشراف على معرفة الأطراف. 3- أطراف الكتب الستة1 لمحمد بن طاهر المقدسي "507"، ولما كان كتابه مشتملا على أوهام كثيرة، وترتيب مختل لخصه الحافظ شمس الدين محمد بن علي بن الحسين الحسيني، الدمشقي "765"، ورتبه أحسن ترتيب2.

_ 1 هي الصحيحان والسنن الأربعة. 2 كشف الظنون جـ1 ص85، 92.

الدور السابع

الدور السابع المبحث الأول: وصف الحالة السياسية ... الدور السابع: السنة من عام "656" الهجري إلى عصرنا الحاضر. ويشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول: وصف الحالة السياسية لهذا العهد. المبحث الثاني: منهج العلماء في رواية السنة في هذا الدور. المبحث الثالث: عناية المسلمين بالسنة في الممالك الإسلامية المختلفة. المبحث الرابع: طريقة العلماء في تصنيف الحديث لهذا الدور. المبحث الأول: وصف الحالة السياسية سقطت الخلافة العباسية على أيدي التتار سنة 656هـ، وفي سنة 658، وصل التتار إلى حلب وأغاروا عليها، ثم قصدوا إلى دمشق. وكانت الدولة الأيوبية بمصر قد انقرضت، وحل محلها دولة المماليك، فخرج إليهم المصريون والتقوا بهم عند "عين جالوت"، ووقعت بين الفريقين معركة عظيمة، أسفرت عن هزيمة ذريعة للتتار، فولوا الأدبار يتخطفهم الناس من كل مكان، وفي هذا التاريخ قدم إلى مصر أحد أعقاب العباسيين، فبايعه بالخلافة الملك الظاهر بيبرس، وبذلك أصبحت القاهرة عاصمة الخلافة العباسية، ولكن سلطة الخليفة كانت في حكم العدم، فهو خليفة بالاسم، أما السلطة الحقيقية، فكانت في أيدي المماليك، وما كاد القرن السابع الهجري، يتم حتى أصبح العنصر التركي هو المسيطر على جميع الممالك

الإسلامية ما عدا البلاد المغربية، فكانت الحكومة فيها لبرابرة المغرب، وفي مستهل القرن الثامن ظهر بآسيا الصغرى، بلاد تركيا اليوم -رجل يدعى "عثمان كجق" -مؤسس الدولة العثمانية- على رأس قبيلته التركية، فأسس ملكا على أنقاض الدولة السلجوقية، ولم تزل دولة آل عثمان تتسع رقعتها، وتستولي على ما جاورها من الممالك، والدويلات حتى فتحوا القسطنطينية في منتصف القرن التاسع الهجري، واتخذوها عاصمة لهم، ثم فتحوا مصر وأزالوا الخلافة العباسية، ولقبوا ملوكهم بالخلفاء، ومن هذا الوقت انتقلت الخلافة الإسلامية إلى القسطنطينية، وأصبحت مصر ولاية عثمانية، فضاع مركزها السياسي والعلمي، أما دولة بني عثمان فقوي شأنها وعظم ملكها، ومما يؤسف له أنها وهي في أوج عظمتها سقطت دولة الأندلس، وانطفأ نور الإسلام في هذه البلاد بعد أن مكث بها نحوا من ثمانية قرون. ثم أخذت دول أوربة الغاشمة، تعمل جهدها على إضعاف المسلمين، منتهزة غفلتهم واختلافهم، فأوقعت بينهم الفتنة حتى مزقت شمل الدولة الإسلامية، وقضت على الخلافة العثمانية، وعبثوا بحقوق المسلمين وحجروا عليهم في بلادهم، واستعبدوهم أيما استعباد، حتى أصبحنا من هذا الوقت، لا يستطيع المصري الرحلة إلى الحجاز، أو إلى الشام أو غيرهما من بلاد الإسلام، إلا بجواز بذلك، وقل مثل هذا في أهل الأقطار الإسلامية جميعها. ومن هنا انعدمت الرحلة بين العلماء، وانقطع الاتصال العلمي بين سكان البلدان المختلفة، بعد أن كان الوطن الإسلامي وحدة لا تنفصم عراها، ينتقل فيه المسلم أنى شاء، وينشر دينه كيفما أراد، فعسى الله أن يكف بأس الذين كفروا، والله أشد بأسا، وأشد تنكيلا.

المبحث الثاني: منهج العلماء رواية السنة في هذا الدور

المبحث الثاني: منهج العلماء رواية السنة في هذا الدور ... المبحث الثاني: منهج العلماء في رواية السنة في هذا الدور حيال هذه الأحداث التاريخية الخطيرة تبللت الأفكار. وتقاعدت همم العلماء عن الرحلة إلى الأقطار، فانقرضت الرواية الشفاهية. وحل محلها الإجازة والمكاتبة وصار الإسناد في الحديث، يقصد للتبرك اللهم إلا في أفراد تبعث بهم الأقدار الإلهية من وقت لآخر، يجددون ما خلق، ويحيون ما اندثر، وقد اشتهر من هؤلاء الأعلام طائفة، كانوا يرحلون إلى الأقطار، ويجلسون للإملاء1، ويكتب عنهم أتباعهم الأمالي، ومن أمثال هؤلاء الحافظ، الكبير أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، الأثري الإمام حافظ العصر وصاحب المصنفات البديعة في الحديث، المتوفى سنة "806"، ومجالسه للإملاء تزيد على أربعمائة مجلس. قال تلميذه ابن حجر: "شرع في إملاء الحديث من سنة "796"، فأحيا الله به السنة بعد أن كانت داثرة، فأملى أكثر من أربعمائة مجلس، غالبها من حظفه متقنة مهذبة محررة، كثيرة الفوائد الحديثية". ا. هـ. ومنهم شهاب الدين، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن حجر العسقلاني الأصل، ثم المصري المولد، والمنشأ والدار والوفاة الحافظ، بل سيد الحفاظ والمحدثين في تلك الأمصار، وما جاورها المتوفى سنة "852هـ". قال السيوطي: "وختم به الفن". وقال غيره: "انتهت إليه الرحلة والرياسة في الحديث في الدنيا بأجمعها، فلم

_ 1 الإملاء من وظائف العلماء قديما، لا سيما الحفاظ من أهل الحديث، يجلس المحدث ويسمى "المملي" في المسجد يوما من أيام الأسبوع، والمستحب أن يكون يوم الجمعة، ويكتب عنه التلاميذ، ويتخذ لذلك في العادة منهم رجلا يبلغ عنه يسمى "المستملي".

يكن في عصره حافظ سواه، ألف كتبا كثيرة، وأملى أكثر من ألف مجلس"، ومنهم الحافظ السخاوي تلميذ ابن حجر العسقلاني، قال في كتابه فتح المغيث: "أمليت بمكة وبعدة أماكن من القاهرة، وبلغ عدة ما أمليته من المجالس إلى الآن نحو الستمائة، والأعمال بالنيات". ا. هـ. الآن أن هذه الطريقة كانت غير منتشرة انتشارا في العصور الأولى، بل كان جل علماء الحديث في هذا الدور، عاكفين على كتب الأولين بالجمع والاختصار، والشرح والتخرييج، وما إلى ذلك إلا أنه في أواخر هذا الدور انعدمت العناية بالحديث، وعكف الناس على الفروع، إلا في قليل من البلدان، وأفراد قلائل من العلماء. هذا وفي حدود هذه الإمكانيات، كان هناك نشاط في علوم الحديث تتناوبه الأقطار الإسلامية في أوقات مختلفة، وهذا ما نريد أن نحدثك عنه، بعون الله تعالى فنقول:

المبحث الثالث: عناية المسلمين بالسنة في الممالك المختلفة

المبحث الثالث: عناية المسلمين بالسنة في الممالك المختلفة إنه إذا ما استثنينا البلاد المغربية، التي كان لها فضل مشكور على السنة في جميع العصور، وجدنا أنفسنا أمام بلدين عظيمين يتناوبان النشاط العلمي، الحديثي وهما البلاد المصرية والهندية، فمن يوم أن سقطت بغداد عاصمة الخلافة العباسية على أيدي التتار -الذين بلغ من جهلهم وغشمهم، أن ألقوا بالمكتبة الإسلامية العظيمة في "دجلة"، ليجعلوا منها جسرا تعبر عليه جيوشهم الغاشمة- نقول: من هذا اليوم أخذت العلوم، والمعارف ترحل عن بغداد إلى أقطار أخرى، ثم كانت بينها دولا، فينما نجد الديار المصرية بعد سقوط بغداد مزدهرة بعلوم السنة زاخرة بالعلم والعلماء، طيلة القرون الثلاثة الأولى من هذا الدور.

حتى كان لمصر القدح المعلى، دون جميع البلدان إذا بنا نجدها في منتصف القرن العاشر وقد آذنت شمس الحديث فيها بمغيب، وأخذت السنة وعلومها ترحل عنها إلى بلد آخر هو القطر الهندي، ومن هذا الوقت أخذت البلاد الهندية تسعد بخدمة السنة، ودام الأمر على هذا الحال إلى وقتنا هذا قرابة أربعة قرون أو تزيد، ولنتكلم على أشهر الممالك، التي كان لها أثر ملموس في خدمة السنة لهذا العصر: دور مصر في العناية بالسنة وعلومها: في هذه الفترة من الزمان -أي بعد سقوط بغداد- كانت مصر محكومة لدولتي المماليك البحرية والبرجية، ويحدثنا التاريخ عما كان عليه هؤلاء السلاطين من حب للعلم وتقدير للعلماء. ومن أجل ذلك شيدوا الجامعات، والمدارس الحديثية، واستقدموا لهذه العرض العلماء من الأقطار البعيدة. وحبسوا الأموال الطائلة على تلك المؤسسات الدينية، والعلمية، وها هي آثارهم الخالدة ماثلة للعيان. تحدث عما كان للقوم من عناية بعلوم الشريعة والسنة. هذا ولم يقف الأم عند حد المعاونة بالمال أو السلطان. بل لقد انغمر السلاطين في حلبة الدروس مع المتعلمين، وتتلمذوا للعلماء وأئمة الحديث، وتحملوا السنة بأسانيدها الصحيحة، حتى صار بعهم حافظا، يتلقى عنه الحديث ويسمع منه الصحيح، فهذا هو "الظاهر برقوق"، يتفقه على الإمام أكمل الدين "البابرتي"، ويشارك المحدثين في رواية الصحيحين، ويستقدم المسندين أمثال "ابن أبي المجد" من الأقطار النائية. رغبة منه في إعلاء الإسناد لدى المتعلمين بمصر، لسماعهم الحديث من أصحاب الأسانيد العالية، وهذا هو "المؤيد"، يروي الصحيح عن

السراج "البلقيني"، حتى إن الحافظ ابن حجر يسمع الحديث من "المؤيد"، ويترجم له في عداد مشايخه في "المعجم المفهرس"، وقد استقدم "المؤيد" إلى مصر العلامة "شمس الدين الديري"، المحدث العظيم، صاحب كتاب "المسائل الشريفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة"، وهذا هو "الظاهر جقمق"، يسمع الصحيح من ابن الجزري، ويستقدم كبار المسندين إلى مصر، ليتلقى عنهم المتعلمون مروياتهم في السنة من الصحاح والمسانيد، ويجعل من القلعة المصرية مجمعا علميا للعلماء، وناديا يؤمه طلاب الحديث يتلقون المرويات عن الحفاظ المتقنين، والمحدثين النابهين، وبهذه العناية من السلاطين والأمراء، كانت مصر دار حديث وفقه وأدب طيلة هذه القرون الثلاثة الأولى من هذا الدور، وكانت أسعد بلاد الإسلام حظا بالحديث، وعلومه، وها هي كتب التاريخ قد اكتظت بتراجم لرجال نبهاء، وفطاحل علماء. أنجبتهم مصر في تلك القرون الذهبية، وكانت لهم مؤلفات كثيرة جدا في علوم شتى. بحيث يعدون بحق مفخرة الإسلام، وإن مآثرهم المحفوظة في خزانات العالم، ومكتباته لما يشهد لمصر بالمجد التالد والشرف الرفيع. استمرت النهضة العلمية بمصر -على ما وصفنا- إلى أوائل القرن العاشر الهجري، إذ بانقراض دولة المماليك البرجية في أوائل هذا القرن، أخذ النشاط العلمي يتضائل ويضمحل، وطفق يرحل شيئا فشيئا إلى بلاد أخرى، ألا وهي البلاد الهندية التي أفسحت صدرها للحديث، وعلومه وسهرت على خدمته فكانت أسعد بلاد المسلمين بعلوم السنة إلى يومنا هذا.

دور الهند في العناية بالسنة: كان للبلاد الهندية حظ كبير في خدمة السنة -بعد أن كان الهنود قبل منتصف القرن العاشر الهجري منصرفين إلى العلوم النظرية، والأحكام الفقهية المجردة، فمن هذا الوقت أخذوا يعكفون على دراسة الحديث، وعلومه ويعنون برواية السنة وبحث الروايات، وانتقاد الأسانيد، ولو ذهبنا نستعرض ما لهؤلاء الأعلام، من همة عظيمة في علوم الحديث، في الوقت الذي قعدت فيه الهمم عن خدمة السنة، لوقع ذلك موقع الإعجاب والشكر البليغ، فكم لعلماء الهند من شروح ممتعة، وتعليقات نافعة على الأصول الستة وغيرها، وكم لهم من مؤلفات كبيرة في أحاديث الأحكام، وكم لهم من أياد بيضاء في نقد الرجال، وبيان علل الحديث، وشرح الآثار، وكم لهم من مؤلفات في شتى فنون الحديث، وما يتصل به1. ومما هو جدير بالتقدير، والإعجاب أن هؤلاء القوم لم تفتنهم المدنية الغربية عن دينهم. بل إنها زادتهم تمسكا به وتعصبا له، فكثيرا ما ألفوا الكتب في الرد على القساوسة والمستشرقين، وكثيرا ما كانت تقام مجالس للمناظرة أمام الحكام -الانجليز، فينتصر حق المسلمين على باطل المستشرقين، وكثيرا ما كان يفر هؤلاء القسس من مجالس المناظرة، قبل أن تتم فصولها يجرون أذيال الخيبة ويعثرون في أثواب الهزيمة، هذا ومما يدل على حرص هؤلاء القوم على السنة، وحدبهم على نشر علومها أن بعض المبعوثين منهم إلى جامعات أوربة، كان يشتغل بطبع كتب الحديث، وها هو "الدكتور السيد معظم حسين"، الذي كان يتلقى دروسه بجامعة أكسفورد بانجلترا، يأخذ في طبع كتاب "معرفة علوم

_ 1 عن مقالات العلامة، المرحوم الشيخ محمد زاهد الكوثري ص71، وما بعدها بتصرف.

الحديث" للحاكم أبي عبد الله النيسابوري، ويعتني بتصحيحه، ويقدم له مقدمة عظيمة يذكر فيها ترجمة المؤلف. ونبذة قيمة عن تاريخ تدوين الحديث، ونشأة علم المصطلح، وقد رحل في سبيل نشر هذا الكتاب إلى بلدان عديدة من أوربة، وتردد على مكتباتها العامة في عواصمها المختلفة، وقابل ما كتبه على نسخ خطية كثيرة، كان منها ما هو محفوظ في مكتبة المتحف البريطاني بلندن، كما رحل إلى عدة مكتبات في بلاد الشرق، كمصر والشام واستنبول، ثم طبع الكتاب، وأخرجه للناس في غاية من الضبط والإتقان. إنها لهمة عالية من هؤلاء القوم، فلله درهم وبورك جهادهم. النهضة العلمية بالمملكة السعودية: أنه لا يسعنا أن نترك الكلام على هذا الدور، من غير أن ننوه بتلك الأعمال المجيدة، والجهود المشكورة، التي قام بها جلالة العاهل الراحل الملك "عبد العزيز آل سعود" عليه رحمة الله، فإنه والأمراء السعوديين من بعده قد عنوا كل العناية بطبع كثير من كتب السنة النبوية، التي لها أهمية عظمى في المكتبة الإسلامية، ولنذكر منها على سبيل المثال "جامع الأصول من أحاديث الرسول"، و"مختصر وشرح وتهذيب سنن أبي داود" و"زاد المعاد في هدي خير العباد" و"البداية والنهاية في السيرة، والتاريخ لابن كثير"، ومختصر "الفتاوى المصرية" لابن تيمية. وتفسير الحافظ ابن كثير، ومعه تفسير البغوي وكتاب المغني لابن قدامة، وهو من أنفس الكتب الفقهية الحديثية، الجامعة إلى غير ذلك وهو كثير جدا، وفي الحق أن لآل سعود فضلا يشكر، وجهودا لا ينبغي أن تنكر لما لهم من أياد بيضاء على السنة النبوية، ولما أنفقوه من الأموال الطائلة في سبيل هذا الغرض النبيل، في الوقت الذي ماتت فيه القلوب، وركدت

فيه النفوس وتسلط الجانب المادي على الجانب الروحي، ولقد سنوا بذلك للناس سنة حسنة، حتى نسج على منوالهم بعض وزرائهم. هذا ومما يكتب لهذه الأسرة بمداد الفخار، أنهم لم يقتصروا في خدمة السنة النبوية على طبع الكتب الحديثية، وتوزيعها على الناس دون مقابل، ولكنهم مع ذلك نهضوا بنشر علوم الشريعة الإسلامية، والسنة النبوية نهضة كبرى، فأسسوا معاهد علمية في جميع أنحاء الجزيرة العربية، كما أسسوا للدراسات العليا الكليات، ومن ذلك كلية الشريعة بمكة المكرمة، وكليتا الشريعة واللغة العربية بمدينة الرياض، وانتدبوا لهذه الغاية الشريفة خيرة العلماء من الجامع الأزهر، للقيام بالدراسة على الطريقة التحليلية المنتجة في علوم القرآن، والحديث، والفقه واللغة العربية، وغيرها. ولقد شهدت عن كثب أيام، كنت مدرسا بالمعهد العلمي بالرياض هذه النهضة، ولمست العناية التامة، التي يقوم بها آل الشيخ، وعلى رأسهم "الشيخ الرئيس"، المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ أطال الله بقاءه، ونفع به المسلمين، فجزاهم الله من ملوك وأمراء، وعلماء عن السنة أفضل الجزاء.

المبحث الرابع: طريقة العلماء في تصنيف الحديث في هذا الدور

المبحث الرابع: طريقة العلماء في تصنيف الحديث في هذا الدور عكف علماء الحديث في هذا الدور على كتب السابقين، فتناولوها بالترتيب والتهذيب والانتقاء والتخريج، ونحن نذكر لك جل هذه الطرق وأشهر ما دون من كتب الحديث لذلك العهد فنقول: كتب الزوائد وطريقة أصحابها: من المعلوم أن مصنفا ما في الحديث لم يستوعب جميع الأحاديث، فإن الأحاديث بحار زاخرة وكل من المصنفين يغترف منها على حسب ما تيسر له لذلك، جاءت كتب الحديث مختلفة بالطول، والقصر والقلة والكثرة، فجاء المتأخرون وأخرجوا الأحاديث الزائدة في كتاب على آخر في مصنفات خاصة لهم، وسموا ذلك بكتب الزواد، ومن أشهر هذه الكتب: 1- كتاب زوائد سنن ابن ماجه على الكتب الخمسة. 2- كتاب إتحاف المهرة بزوائد المسانيد العشرة: "أي على الكتب الستة"، والمسانيد العشرة هـ. مسند أبي داود الطيالسي، والحميدي، ومسدد، وابن أبي عمر، وإسحاق بن راهويه، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن منيع، وعبد بن حميد، والحارث بن محمد بن أبي أسامة، وأبي يعلى الموصلي. 3- وكتاب زوائد السنن الكبرى للبيهقي. على الكتب الستة أيضا، ويسمى فوائد المنتقى لزوائد البيقهي. وهذه الكتب الثلاثة للحافظ، شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم البوصيري، المتوفى سنة "840هـ". 4- كتاب المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية، للحافظ ابن حجر سنة "852" على الكتب الستة "والمسانيد الثمانية: هي مسند ابن أبي عمر العدني، ومسند أبي بكر الحميدي، ومسند مسدد، ومسند الطيالسي. ومسند ابن منيع، ومسند ابن أبي شيبة، ومسند عبد بن حميد، ومسند الحارث، وله أيضا زوائد مسند البزار، ومسند أحمد على الكتب الستة.

5- كتاب زوائد مسند أحمد على الكتب الستة في مجلدين. وكتاب زوائد مسند البزار على الكتب الستة في مجلد ضخم، ويسمى البحر الزخار في زوائد مسند البزار، وكتاب زوائد مسند أبي يعلى الموصلي على الكتب الستة في مجلد واحد، وكتاب زوائد المعجم الكبير للطبراني على الكتب الستة، واسمه البدر المنير في زوائد المعجم الكبير في ثلاث مجلدات، وكتاب زوائد المعجم الأوسط والأصغر للطبراني على الكتب الستة، واسمه مجمع البحرين في زوائد المعجمين وهو في مجلدين، وهذه الكتب كلها للحافظ نور الدين أبي الحسين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي "بالمثلثة" المصري، المتوفى سنة "807هـ". وهو رفيق أبي الفضل العراقي في سماع الحديث وصهره وتلميذه. ثم إنه جمع هذه الكتب كلها في كتاب عظيم سماه "مجمع الوائد ومنبع الفوائد"، مع حذف الأسانيد والتمييز بين الصحيح، والحسن والضعيف، وهو كتاب قل أن يوجد مثله ولا صنف نظيره إلى الآن، وقد طبع والحمد لله بمصر، وللهيثمي هذا أيضا كتاب زوائد صحيح ابن حبان على الصحيحين في مجلد سماه "مورد الظمآن إلى زوائد ابن حبان". وكتب الزوائد كثيرةجدا، وفي هذا القدر كفاية1. الجوامع العامة: وطريقتهم فيها أن يجمعوا بين جملة من الكتب في مؤلف واحد، فمن ذلك: 1- كتاب جامع المسانيد والسننن، الهادي لأقوم سنن للحافظ إسماعيل بن عمر القرشي، الدمشقي المعروف بابن كثير المتوفى سنة "774" جمع فيه بين الصحيحين وسنن النسائي، وأبي داود والترمذي، وابن ماجه ومسانيد أحمد والبزار وأبي يعلى، والمعجم الكبير للطبراني.

_ 1 كشف الظنون جـ1 ص38، جـ2 ص230، والرسالة المستطرفة ص128، وما بعدها.

2- جمع الجوامع للحافظ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المتوفى سنة "911" جمع فيه بين الكتب الستة وغيرها، وقد قصد في كتابه هذا جمع الأحاديث النبوية بأسرها. وقال: المناوي أنه مات قبل أن يتمه، ولقد اشتمل كتابه على كثير من الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة قد هذب ترتيبه علاء الدين علي بن حسام الهندي المتوفى سنة "975" في كتابه أسماه "منتخب كنز العمال"، وقد طبع المنتخب مع مسند أحمد بمصر كما طبع كنز العمال بالهند، وقد اختصر السيوطي كتابه هذا، وسمي المختصر الجامع الصغير في حديث البشير النذير1. كتب جامعة لأحاديث الأحكام: من ذلك 1- كتاب الإلمام في أحاديث الأحكام لابن دقيق العيد المتوفى سنة "702" جمع فيه متون الأحكام مع حذف الأسانيد، وشرحه في كتابه الإمام لكن لم يكمل شرحه، ويقال: إن شرحه هذا لم يؤلف أعظم منه في بابه لما فيه من الاستنباطات والفوائد2. 2- كتاب "تقريب الأسانيد، وترتيب المسانيد" لمجدد المائة الثامنة زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، المولود عام "725هـ"، المتوفى عام "806هـ". جمع فيه أحاديث الأحكام لابنه أبي زرعة. قال في خطبته: "وبعد فقد أردت أن أجمع لابني أبي زرعة مختصرا في أحاديث الأحكام، يكون متصل الأسانيد بالأئمة الأعلام، فإنه يقبح بطالب الحديث ألا يحفظ بإسناده عدة من الأخبار، يستغنى بها عن حمل الأسفار في الأسفار، وعن مراجعة الأصول عند المذاكة والاستحضار، قال:

_ 1 انظر كشف الظنون جـ1 ص288، والرسالة المستطرفة ص137، ومفتاح السنة ص112. 2 انظر كشف الظنون جـ1 ص113.

ولما رأيت صعوبة حفظ الأسانيد في هذه الأعصار لطولها، وكان قصر أسانيد المتقدمين وسيلة لتسهيلها، رأيت أنأجمع أحاديث عديدة في تراجم محصورة، وتكون تلك التراجم فيما عد من أصح الأسانيد، إما مطلقا على قول من عممه، أو مقيدا بصحابي تلك الترجمة"، ثم أخذ يبين طريقته في نقله عن الكتب وعزوه إليها. وهو كتاب عظيم في بابه، وقد شرح تقريب الأسانيد هذا مؤلفه نفسه، وقد بدأ الشرح بمقدمة في تراجم رجال إسناده، وضم إليهم ن وقع له ذكر في أثناء الكتاب لعموم الفائدة، حتى ترجم لولده أبي زرعة الذي ألف الكتاب من أجله. قال: "تقدم في خطبة هذا الشرح أني أترجم كل من ذكر فيه، فلم أر أن أخل ذكر من ألف له الكتاب، ولم أرى إدخاله في رجال الكتاب لصغر سنه عن الشيوخ، فرأيت أن أذكره هنا، وأبين وقوع أحاديث الكتاب له عالية لاحتمال أن يطول عمره فيحدث به"، ثم أخذ في ذكر ترجمته، ولكنه لم يكمل هذا الشرح، بل شرح منه عدة مواضع وقد أكمله ابنه أبو زرعة المذكور، المتوفى سنة "826هـ" واسم هذا الشرح: "طرح التثريب في شرح التقريب"، وقد طبع بمصر سنة "1353هـ"، ووضع المتن في أعلى الصفحة مفصولا من الشرح في ثمانية أجزاء لطيفة، وهو كتاب حافل بالفوائد والأبحاث جرى فيه مؤلفه على البحث العلمي الحر دون تعصب لمذهب من المذاهب وإن كان مذهبه، مما رفع من شأن هذا الكتاب أضف إلى ذلك ما شحنه به من النكت الفقهية، والفوائد الحديثية. 3- كتاب بلوغ المرام من أحاديث الأحكام لخاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني، المتوفى سنة "852هـ" اشتمل على ألف وأربعمائة حديث في الأحكام، وهو مطبوع بمصر في مجلد لطيف، وقد شرحه خلق كثير منهم القاضي شرف الدين الحسين بن محمد المغربي، ومنهم محمد بن

إسماعيل الصنعاني المتوفى سنة "1182" في كتاب سماه سبل السلام، وقد طبع بمصر في أربعة أجزاء، ومنهم الفاضل صديق خان سنة "1307" في كتاب سماه فتح العلام، وطبع بمصر ونفدت نسخه. تخريجهم لأحاديث جاءت في بعض الكتب العلمية: يقع في كلام بعض المصنفين في العلوم المختلفة كالعقائد، والفقه، وأصوله والتفسير وشروح الحديث والتصوف، واللغة كثير من الأحاديث على وجه الاستدلال، أو الاستشهاد، ولما كان كثير من هؤلاء المصنفين لا يعنون بتخريج تلك الأحاديث بعزوها إلى الكتب، التي نقلوها منها ولا يبينون صحتها من ضعفها تجرد بعض حفاظ الحديث، فخرج تلك الأحاديث، وكشف عن أماكنها من كتب الحديث، وجمع ذلك في كتاب على حدة ومن هذه الكتب: 1- تخريج أحاديث تفسير الكشاف للحافظ، جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي نسبة إلى زيلع، ميناء على ساحل البحر الأحمر الحنفي المتوفى بالقاهرة سنة "762هـ" استوعب ما في الكشاف من الأحاديث المرفوعة، وأكثر من تبيين طرقها وتسمية مخارجها، لكن فاته كثير من الأحاديث المرفوعة، التي يذكرها الزمخشري على سبيل الإشارة، ولم يتعرض غالبا للآثار الموقوفة، وهو غير الزيلعي عثمان بن علي بن محمد شارح الكنز في فقه الحنفية، المتوفى سنة "743". كان جمال الدين الزيلعي هذا مرافقا لزين الدين العراقي في مطالعة الكتب الحديثية، لتخريج الكتب التي كانا قد اعتنينا بتخريج أحاديثها، فالعراقي خرج أحاديث الإحياء للغزالي، والأحاديث التي يشير إليها الترمذي في كل باب، والزيلعي خرج أحاديث الكشاف، وأحاديث الهداية في فقه الحنفية.

2- الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف، للحافظ ابن حجر العسقلاني لخصه من تخريج الزيلعي، وزاد عليه ما أغفله من الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة، وهذا الكتاب مطبوع مع آخر جزء من الكشاف بمصر الآن. 3- تخريج أحاديث البيضاوي للشيخ عبد الرءوف المناوي. وللشيخ محمد همات زاده بن حسن همات زاده المحدث، المتوفى سنة "1175" كتاب سماه "تحفة الراوي في تخريج أحاديث البيضاوي". 4- تخريج أحاديث شرح معاني الآثار للطحاوي، لبعض العلماء سماه الحاوي في بيان آثار الطحاوي عزا فيه كل حديث إلى الكتب المشهورة، وبين الصحيح من الضعيف. 5- تخريج أحاديث الأذكار للنووي، والأربعين له، وأحاديث المصابيح، والمشكاة، للحافظ ابن حجر، ولم يكمل تخريج الأذكار، وسمى تخريج المصابيح والمشكاة "هداية الرواة إلى تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة". 6- تخريج أحاديث "الشفاء للقاضي عياض". للحافظ السيوطي سماه "مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا". 7- تخريج أحاديث "منهاج الأصول للبيضاوي"، للتاج السبكي. كذلك خرج أحاديث المنهاج ابن الملقن، والحافظ زين الدين العراقي. 8- تخريج أحاديث المختصر لابن الحاجب في الأصول لابن حجر، وابن الملقن ومحمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي، المتوفى سنة "724هـ". 9- تخريج أحاديث الهداية في فقه الحنفية، لجمال الدين الزيلعي المتقدم سماه "نصب الراية لأحاديث الهداية"، وهو مطبوع بمصر الآن.

ومنه استمد كثير ممن جاء بعده من شراح الهداية، كما استمد منه الحافظ ابن حجر في تخاريجه كثيرا، وهو شاهد على تبحر جمال الدين الزيلعى في الحديث وأسماء الرجال، وسعة نظره في فروع الحديث، وللحافظ ابن حجر "الدراية في منتخب تخريج أحاديث الهداية"، مطبوع بدهلي سنة "1350". 10- تخريج أحاديث الإحياء للغزالي لزين الدين العراقي، وله عليها تخريجان كبير وصغير، والأخير هو المتداول المطبوع مع كتاب الأحياء بمصر الآن. هذا وكتب التخاريج كثيرة جدا، وهي رمز صادق لأعمال المحدثين، وجهودهم في الكشف عن قيمة الأحاديث المتناثرة في كتب العلوم المختلفة، حتى لا يغتر الناس بما يجدونه منها، بل ينبغي لهم الرجوع إلى تلك التخاريج، ليعلموا الصحيح منها من العليل1. تخريجهم لأحاديث اشتهرت على الألسن: يدور على ألسنة الناس في كل زمان أحاديث يذكرونها على سبيل الأمثال، والحكم بعضها صحيح وبعضها ضعيف، وبعضها موضوع مكذوب، وأكثر ما يروج هذا على ألسنة العامة ومن لا علم عندهم من الخاصة، ولم يهمل هذا النوع من الأحاديث أهل الحديث، وحفاظ الأمة بل ألقوا فيه كتبا كثيرة أظهرت الناس على حقيقة الحال، وبينت لهم الحق من الضلال، وإليك بعض هذه الكتب: 1- "المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة". للحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، وقد

_ 1 الرسالة المستطرفة ص139، وما بعدها.

اختصر المقاصد تلميذ السخاوي عبد الرحمن بن الديبع الشيباني، وسمى مختصره "تمييز الطيب من الخبيث، فيما يدور على الألسنة من الحديث". 2- الدرة اللامعة في بيان كثير من الأحاديث الشائعة لبعض العلماء، اختصرها من المقاصد الحسنة. 3- "تسهيل السبل إلى كشف الالتباس، عما دار من الأحاديث بين الناس"، للشيخ عز الدين محمد بن أحمد الخليلي، المتوفى سنة "1057"1. 4- "كشف الخفاء ومزيل الألباس، عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس"، للحافظ إسماعيل بن محمد العجلوني، المتوفى سنة "1162"، وهو كتاب كثير الفوائد لخص فيه المقاصد الحسنة للسخاوي، وضم إليه كثيرا مما في الكتب الأخرى، والكتاب مطبوع بمصر الآن في جزأين لطيفين. كتب الأطراف: تقدم الكلام في الدور السادس على طريقة العلماء في تأليف كتب الأطراف، كما ذكرنا طائفة من كتب الأطراف لذلك العهد، وإليك جملة من كتب الأطراف في هذا الدور: 1- كتاب اتحاف المهرة بأطراف العشرة، للحافظ ابن حجر العسقلاني في ثمان مجلدات، والمراد من العشرة هي: الموطأ. مسند الشافعي. مسند أحمد. مسند الدارمي. صحيح ابن خزيمة: منتقى ابن الجارود: صحيح ابن حبان. مستدرك الحاكم. مستخرج أبي عوانة: شرح معاني الآثار. سنن الدارقطنى. وإنما زاد العدد واحد؛ لأن صحيح ابن خزيمة لم يوجد منه سوى قدر ربعه.

_ 1 الرسالة المستطرفة ص143، وما بعدها.

2- أطراف مسند الإمام أحمد لابن حجر أيضا أفرده من "كتاب إتحاف المهرة". ويسمى "أطراف المسند المعتلى بأطراف المسند الحنبلي"، وهو في مجلدين. 3- أطراف الأحاديث المختارة للضياء المقدسي، لابن حجر العسقلاني في مجلد ضخم. 4- أطراف مسند الفردوس لابن حجر أيضًا. 5- أطراف صحيح ابن حبان لأبي الفضل العراقي. 6- أطراف المسانيد العشرة لشهاب الدين أبي العباس، أحمد بن أبي بكر الكناني، البوصيري الشافعي نزيل القاهرة، المتوفى سنة "840هـ"، ويريد بالمسانيد العشرة: مسند أبي داود الطيالسي، ومسند أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، ومسند مسدد بن مسرهد، ومسند محمد بن يحيى بن عمر العدني، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند أبي بكر بن أبي شيبة، ومسند أحمد بن منيع، ومسند عبد بن حميد، ومسند الحارث بن محمد بن أبي أسامة، ومسند أبي يعلى الموصلي1. هذه هي أهم أعمال العلماء فيما يتعلق بجمع الحديث، وترتيبه في هذا الدور وما وراء ذلك، فشروح ومختصرات لبعض كتب الحديث، ومع ذلك فهي لا تتجاوز في الغالب أهل القرن الحادي عشر الهجري، وبعض الثاني عشر، أما فيما بعد ذلك إلى عصرنا الحاضر، فقد فترت الهمم حتى عن قراءة كتب الحديث، فضلا عن القيام بأعمال التدوين، وأصبح الناس يقرءون صحيح البخاري لمجرد التبرك بما نقول أكثر من ذلك: أنه قد انقطعت الصلة بين علمائنا اليوم، وبين هذه الثروة الطائلة

_ 1 الرسالة المستطرفة ص126، وما بعدها.

من كتب الحديث قديمها، وحديثها حتى إن كثيرا منهم لا يدري إذا ذكر عنده اسم كتاب منها ما موضوعه. أفي الحديث هو أم في الفقه أم في التاريخ، أم في السيرة اللهم إلا بعض أفراد، قصروا حياتهم على حفظ السنة ومطالعة الكتب، والقيام بما وفقهم الله إليه من انتقاء بعض المتون الحديثية، أمثال المرحوم شيخنا العلامة المحدث، حبيب الله الشنقيطي. قام رحمه الله في أخريات أيامه بجمع كتاب جليل في الأحاديث، التي اتفق عليها البخاري، ومسلم في صحيحيهما وسماه: "زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم"، رتبه على حروف المعجم فبلغت أحاديثه ألفا ومائتين كلها متصلة الأسناد، وقد شرحه شرحا وسطا جمع فيه كثيرا من الفوائد الفقية، والحديثية وسماه "فتح المنعم ببيان ما احتيج لبيانه من زاد المسلم"، كما تصدى رحمه الله في هامش هذا الكتاب، الجليل لبيان مواضع كل حديث من زاد المسلم في الصحيحين من الكتب والأبواب، مما يدل دلالة واضحة على اتساع حفظه، ونباهة شأنه ورسوخ قدمه في علوم السنة1، فتغمده الله برحمته ونفعنا بعلمه.

_ 1 وقد قام تلميذه الأستاذ، محمد بن محمد الشرنوبي بطبع زاد المسلم، وشرحه في خمسة أجزاء على ورق جيد بمطبعة مصر، فجزاه الله خيراس.

الخاتمة

الخاتمة: أطلعناك أيها القارئ على ألوان من جهود علماء الإسلام، في خدمة الحديث النبوي من حفظ في الصدور إلى تدوين في الكتب، إلى بيان حال المتون من صحة، وضعف إلى محاربة للكذابين في كل عصر، حتى وصلتنا الأحاديث مشفوعة ببيان حالها، فحفظوا بذلك على الأمة دينها، واستحقوا من الله أفضل الجزاء، ومن المسلمين أعظم ثناء وتقدير. والآن نتحدث إليك عن لون آخر من جهودهم، في خدمة السنة عن طريق علومها المختلفة الأنواع، وما قاموا به من جلائل الأعمال، كوضع قوانين الرواية، وتأسيس قواعد الجرح والتعديل، ورفع التناقض الظاهري عن أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك مما ستقف على فوائده، فتؤمن ايمانا صادقا بما لأسلافنا من نفاذ في البصيرة، وبعد نظر في عواقب الأمور، وعلو كعب في هذه الفنون الحديثية القيمة، لا سيما إذا علمت أن هذه الفنون لم تأت عفو الخاطر، بل كان بعضها وليد عصور متقادمة، وجهود أمة بأسرها عرفت للسنة قدرها، فأتوا بما لم يأت بعشر معشاره، أمة من الأمم من يوم أن بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى خلقه، وإليك طرفا من جهود علماء الحديث في ذلك: 1- علم ميزان الرجال، أو الجرح والتعديل: هذا الفن هو، عماد علوم السنة، إذ به يتميز الصحيح من السقيم، والمقبول من المردود، وقد أطبق العلماء على وجوب كشف حال الضعفاء، والكذابين من الرواة، وإقامة النكير عليهم صيانة للدين، فالكلام على جرح الرواة، وتعديلهم أمر واجب على المسلمين، وقد دلت قواعد الشريعة الغراء على أن حفظها فرض كفاية، ولا يتأتى حفظها إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. لذا تكلم في الجرح والتعديل خلائق، لا يحصون ذكر منهم ابن عدي الجرجاني المتوفى سنة "365" في كتابه الكامل جملة إلى زمنه: فمن الصحابة ابن عباس سنة "68"، وعبادة بن الصامت سنة "34"، وأنس بن مالك المتوفى سنة "93"، ومن التابعين عامر الشعبي "104"، وابن سيرين "110"هـ، وسعيد بن المسيب سنة "93"، وهم قليل بالنسبة

لمن بعدهم وذلك لقلة الضعف، فيمن يروون عنهم إذ أكثرهم صحابة، وهم عدول وغير الصحابة منهم أكثرهم ثقات، ولا يكاد يوجد في القرن الأول من الضعفاء إلا القليل. وأما القرن الثاني فقد كان في أوائله من أوساط التابعين، جماعة من الضعفاء وضعف أكثرهم نشأ غالبا من قبل تحملهم، وضبطهم للحديث، فكانوا يرسلون كثيرا، ويرفعون الموقوف، وكانت لهم أغلاط وذلك مثل أبي هارون العبدري سنة"143"، ولما كان آخر عصر التابعين، وهو حدود الخمسين ومائة تكلم في التعديل والتجريح طائفة من الأئمة، فضعف الأعمش المتوفى سنة"148" جماعة ووثق آخرين. ونظر في الرجال شعبة "سنة160"، وكان متثبتا لا يروى إلا عن ثقة، ومثله مالك بن أنس "سنة179"، وممن كان في هذا العصر إذا قال قبل قوله معمر "سنة153"، وهشام الدستوائي "سنة154" والأوزاعي "سنة156"، وسفيان الثوري "سنة161"، وابن الماجشون "سنة213"، وحماد بن سلمة "سنة167"، والليث بن سعد "سنة175". وبعد هؤلاء طبقة منهم ابن المبارك "سنة181"، وهشيم بن بشير "سنة188"، وأبو إسحاق الفزاري "سنة185"، والمعافى بن عمران الموصلي "سنة185" وبشر بن المفضل "سنة816"، وابن عيينة "سنة197"، وقد كان منهم طبقة أخرى منهم ابن علية "193"، وابن وهب "197" ووكيع بن الجراح "سنة197". وقد انتدب في ذلك الزمان لنقد الرجال، الحافظان الحجتان يحيى بن سعيد القطان "سنة189"، وعبد الرحمن بن مهدي "سنة198"، وكان للناس وثوق بهما، فصار من وثقاه مقبولا، ومن جرحاه مجروحا

ومن اختلفا فيه -وذلك قليل- رجع الناس فيه إلى ما ترجح عندهم. ثم ظهرت بعدهم طبقة أخرى يرجع إليهم في ذلك منهم يزيد بن هارون "سنة206"، وأبو داود الطيالسي "سنة204"، وعبد الرزاق بن همام "211"، وأبو عاصم النبيل بن مخلد "سنة212". ثم صنفت الكتب في الجرح والتعديل، والعلل وبينت فيها أحوال الرواة، وكان رؤساء الجرح والتعديل في ذلك الوقت جماعة، منهم يحيى بن معين "سنة 233"، وقد اختلف آراؤه وعباراته في بعض الرجال، كما تختلف آراء الفقيه النحرير وعبارته في بعض المسائل، التي لا تكاد تخلص من أشكال، ومن طبقته أحمد بن حنبل "سنة241"، وقد سأله جماعة من تلامذته عن كثير من الرجال، فتكلم فيهم بما بدا له، ولم يخرج بهم عن دائرة الاعتدال، وقد تكلم في هذا الأمر محمد بن سعد "سنة230"، كاتب الواقدي في طبقاته، وكلامه جيد معقول، وأبو خيثمة زهير بن حرب "سنة234"، وله في ذلك كلام كثير، وأبو جعفر عبد الله بن محمد النبيل، حافظ الجزيرة الذي قال فيه أبو داود: لم أر أحفظ منه، وعلي بن المديني "سنة234"، وله التصانيف الكثيرة في العلل والرجال، ومحمد بن عبد الله بن نمير "سنة234" الذي قال فيه أحمد: "هو درة العراق"، وأبو بكر بن أبي شيبة "سنة235"، صاحب السند وكان آية في الحفظ، وعبد الله بن عمرو القواريري "سنة235"، الذي قال فيه صالح جزرة: "هو أعلم من رأيت بحديث أهل البصرة"، وإسحاق بن راهويه إمام خراسان "سنة237"، وأبو جعفر محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي "سنة242"، الحافظ وله كلام جيد في الجرح والتعديل، وأحمد بن صالح حافظ مصر "سنة248"، وكان قليل المثل، وهارون بن عبد الله الحمال "سنة243"، وكل هؤلاء من أئمة الجرح والتعديل.

ثم خلفهم طبقة أخرى متصلة بهم منهم إسحاق الكوسج "سنة251"، والدارمي "سنة255"، والبخاري "سنة256"، والحافظ العجلي نزيل المغرب، ويتلوهم أبو زرعة "سنة264". وأبو حاتم "سنة277" الرازيان، ومسلم "سنة261"، وأبو داود السجستاني "سنة275"، وبقي بن مخلد "سنة276"، وأبو زرعة الدمشقي "سنة281". ثم من بعدهم جماعة منهم عبد الرحمن بن يوسف البغدادي، وله مصنف في الجرح والتعديل، وكان كأبي حاتم في قوة النفس، وإبراهيم بن إسحاق الحربي "سنة285"، ومحمد بن وضاح "سنة289" حافظ قرطبة، وأبو بكر بن أبي عاصم "سنة287"، وعبد الله بن أحمد "سنة290"، وصالح جزرة "سنة293"، وأبو بكر البزار "سنة292"، ومحمد بن نصر المروزي "سنة294"، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة "سنة297"، وهو ضعيف لكنه من الأئمة في هذا الأمر. ثم من بعدهم جماعة، منهم أبو بكر الفريابي والبرديجي، والنسائي "سنة303"، وأبو يعلى "سنة307"، وابن خزيمة "سنة311"، وابن جرير الطبري "سنة310"، والدولابي "سنة311"، وأبو عروبة الحراني "سنة318"، وأبو الحسن أحمد بن عمير، وأبو جعفر العقيلي "سنة322". ويتلوهم جماعة منهم ابن أبي حاتم "سنة327"، وأحمد بن نصر البغدادي، شيخ الدارقطنى "سنة323"، وآخرون. ثم من بعدهم جماعة منهم أبو حاتم بن حبان البستى "سنة354"، والطبراني "سنة360"، وابن عدي الجرجاني "سنة365"، وكتابه في الرجال إليه المنتهى في الجرح والتعديل.

وقد جاء من بعد ابن عدي وطبقته جماعة، منهم أبو علي الحسين بن محمد النيسابوري "سنة365"، وله مسند معلل في ألف جزء وثلثمائة جزء، وأبو الشيخ بن حيان "سنة369"، وأبو بكر الإسماعيلي "سنة371"، وأبو أحمد الحاكم "سنة378"، والدارقطنى "سنة385"، وبه ختمت معرفة العلل. ثم من بعدهم جماعة منهم أبو عبد الله بن منده "سنة395"، وأبو عبد الله الحاكم "سنة405"، وأبو نصر الكلاباذى "سنة398"، وعبد الرحمن بن فطيس قاضي قرطبة "سنة402" وله دلائل السنة، وعبد الغني بن سعيد "سنة409"، وأبو بكر بن مردويه الأصفهاني "سنة416". ثم من بعدهم جماعة منهم: محمد بن أبي الفوارس البغدادي "سنة412"، وأبو بكر البرقاني "سنة425"، وأبو حاتم العبدري، وخلف بن محمد الواسطي، وأبو مسعود الدمشقي، وأبو الفضل الفلكي "سنة438"، وله كتاب الطبقات في ألف جزء، وأبو القاسم محمود السهمي، وأبو يعقوب وأبو ذر الهرويان. ثم من بعدهم جماعة منهم أبو الحسن الخلال "سنة439"، وأبو يعلى الخليلي "سنة446"، وأبو عبد الله الصوري وأبو سعد السمان، ثم من بعدهم جماعة منهم ابن عبد البر "سنة463"، وابن حزم "سنة456"، والأندلسيان والبيهقي "سنة458"، والخطيب "سنة 463". ثم من بعدهم جماعة منهم ابن ماكولا "سنة475"، وأبو الوليد الباجي "سنة474"، وقد صنف في الجرح والتعديل، وأبو عبد الله الحميدي "سنة488" وغيرهم.

ثم من بعدهم جماعة منهم أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي "سنة507"، والمؤتمن بن أحمد بن علي الساجي "سنة507". ثم من بعدهم جماعة منهم أبو موسى المديني "سنة581"، وأبو القاسم بن عساكر "سنة523"، وابن بشكوال "سنة578"، وبعدهم جماعة منهم عبد الحق الأشبيلي، وابن الجوزي "سنة597"، وأبو عبد الله بن الفخار المالقي، وأبو القاسم السهيلي "سنة581"، وبعدهم جماعة منهم أبو بكر الحازمي "سنة584"، وعبد الغني المقدسي "سنة600" والرهاوي، وابن المفضل "سنة616". ثم من بعدهم جماعة منهم أبو الحسن القطان "سنة638"، وابن الأنماط "سنة619"، ابن نقطة "سنة629"، وغيرهم. ثم من بعدهم جماعة منهم ابن الصلاح "سنة642"، والحافظ المنذري "سنة656"، وأبو عبد الله البراذلي "سنة636"، وابن الأبار، وأبو شامة "سنة625"، وأبو البقاء النابلسي وبعدهم جماعة منهم ابن دقيق العيد "سنة702". ثم من بعدهم جماعة منهم ابن تيمية "سنة728"، والحافظ المزي "سنة742"، وابن سيد الناس "سنة734"، وأبو عبد الله بن أيبك الذهبي "سنة748"، والشهاب بن فضل الله "سنة749"، والحافظ مغلطاي "سنة763"، والشريف الحسيني الدمشقي، والزين العراقي "سنة806". ثم من بعدهم جماعة منهم الولي العراقي، والبرهان الحلبي. وابن حجر العسقلاني "سنة852"، وغير هؤلاء كثير في كل عصر، إلا أن المتقدمين كانوا أرسخ قدما في هذا الفن من المتأخرين1. فأنت ترى أن

_ 1 توجيه النظر ص114-116.

هذه ثمانية قرون كاملة تبدأ بعصر الصحابة، وكلها مشحونة بالأئمة الأعلام من علماء الجرح والتعديل، الذين وزنوا الرواة بميزان العدل، وأنزلوهم منازلهم فجزاهم الله عن الدين خير الجزاء. كتب الجرح والتعديل: من العلماء من تكلم في كتابه على الضعفاء من الرواة فقط، ومنهم من قصر مؤلفاته على الثقات لا غير، ومنهم من جمع النوعين، وكل قصد الخير وإليك طائفة من أشهر الكتب في ذلك. كتب الثقات: أفرد الثقات بالتأليف، كثير من العلماء ومن هذه الكتب: 1- كتاب الثقات لأبي حاتم بن حبان البستي. إلا أنه ذكر فيه عددا كثيرا من المجهولين، الذين لا تعرف أحوالهم، وطريقته فيه أنه يذكر من لم يعرفه بجرح وإن كان مجهولا لم يعرف حاله، وقد قال هو في صفة العدل: "العدل من لم يعرف من الجرح، إذ الجرح ضد العدالة فمن لم يعرف بجرح فهو عدل". ا. هـ. وقد سبق لك أن جمهور المحدثين يخالفونه في ذلك على أنه قد ذكر في الثقات قوما، أعاد ذكرهم في كتاب الضعفاء والمجروحين له، وبين ضعفهم فهذا الصنيع إن لم يعد من باب تغير الاجتهاد، فهو منه غفلة وسهو وقد رتب الثقات لابن حبان الحافظ، نور الدين الهيثمي. 2- كتاب الثقات لزين الدين، قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفى "سنة879" جميع فيه الثقات، ممن ليس في الكتب الستة في أربع مجلدات. 3- وكتاب الثقات لخليل بن شاهين1.

_ 1 كشف الظنون ج1 ص272، والرسالة المستطرفة ص109 و110.

كتب الضعفاء: صنف في هذا النوع كثير من الحفاظ والجهابذة من علماء السنة، ونقدة الرجال فمن ذلك: كتاب الضعفاء لإمام المحدثين أبي عبد الله البخاري "256"، وكتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي، وكتاب الضعفاء لأبي حاتم بن حبان البستي، وكتاب الضعفاء للدارقطنى، وكتاب الضعفاء لمحمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي، المتوفى "سنة322"، الثقة صاحب التصانيف وكتابه كبير مفيد. وكتاب الضعفاء لأبي نعيم عبد الملك بن محمد، الجرجاني "سنة323"، وكتاب الضعفاء لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي "سنة597"، وكتابه كبير وقد اختصره الذهبي، ثم ذيله كما ذيله علاء الدين مغلطاي "سنة762"، ومن الكتب الهامة في ذلك: كتاب الكامل لأبي أحمد عبد الله بن محمد بن عدي بن عبد الله بن محمد بن المبارك، الجرجاني الحافظ الكبير، أحد الجهابذة المرجوع إليهم في العلل والرجال، ومعرفة الضعفاء المتوفى سنة "365هـ". ذكر فيه كل من تكلم فيه، وأن كل من رجال الصحيحين وذكر في ترجمة كل راو حديثا، أو أكثر من غرائبه ومناكيره، وهو في مقدار ستين جزءا في اثني عشر مجلدا، ويعتبر هذا الكتاب أكمل كتب الجرح، وعليه اعتماد العلماء، ومنها. ميزان الاعتدال في نقد الرجال للحافظ، شمس الدين الذهبي المتوفى "سنة 748"، رتبه على حروف المعجم حتى في الآباء، ورمز على اسم الرجل لمن أخرج له في كتابه من الأئمة الستة، قال في خطبته: "وفيه من تكلم فيه مع ثقته، وجلالته بأدنى لين، وبأقل تجريح فلولا أن ابن عدي، أو غيره من مؤلفي كتب الجرح، ذكروا ذلك الشخص لما ذكرته لثقته، ولم أر من الرأي أن أحذف اسم أحد ممن ذكر بتليين خوفا من أن يتعقب علي، لا أني ذكرته لضعف فيه عندي، إلا ما كان في كتاب البخاري وابن عدي، وغيرهما من الصحابة

فإني أسقطهم لجلالة الصحابة، ولا أذكرهم في هذا المصنف فإن الضعف، إنما جاء من جهة الرواة إليهم، وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين في الفروع أحدا لجلالتهم في الإسلام، وعظمتهم في النفوس". ا. هـ. وكتابه مطبوع في مجلدين أو ثلاثة، وقد ذيل عليه الحافظ زين الدين العراقي في مجلد، وعمل ابن حجر العسقلاني "لسان الميزان"، ضمنه ما في الميزان، مما ليس في تهذيب الكمال، وزاد في الكتاب جملة كثيرة كما زاد فيه تذييل شيخه العراقي على الميزان، ورمز لزيادته هو بحرف زاي، ولتذليل شيخه بحرف ذال، وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات1. كتب جامعة بين الثقات، والضعفاء: الكتب في هذا النوع كثيرة جدا منها تواريخ البخاري الثلاثة الكبير، وهو على حروف المعجم ابتدأ بمن اسمه محمد والأوسط، وهو على السنين والصغير، وكتاب الجرح والتعديل لابن حبان، وكتاب الجرح والتعديل لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي المتوفى "سنة327"، وهو كبير في ستة مجلدات اقتص فيه أثر البخاري وأجاد فيه، وكتاب الجرح والتعديل لأبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني الحافظ، وكتاب التكميل في معرفة الثقات والضعفاء، والمجاهيل للعماد ابن كثير جمع فيه بين تهذيب المزي، وميزان الذهبي مع زيادات وتحرير في العبارات، وهو أنفع شيء للمحدث والفقيه، وكتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد المتوفى "سنة235"، وهو من أعظم ما صنف جمع فيه الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى وقته، فأجاد وأحسن إلى غير ذلك2.

_ 1 توجيه النظر ص118، وكشف الظنون ج1 ص272 و515 والرسالة المستطرفة ص108 و109. 2 كشف الظنون ج1 ص272 الرسالة المستطرفة ص110. مفتاح السنة ص151، وما بعدها توجيه النظر ص118.

2- معرفة الصحابة: معرفة الصحابة بأسمائهم وكناهم فن جليل اعتنى به علماء الحديث، قديما وحديثا إذ به يعرف الحديث أمتصل هو أم مرسل. قال الحاكم1 في كتابه علوم الحديث: "ومن تبحر في معرفة الصحابة، فهو حافظ كامل الحفظ، فقد رأيت جماعة من مشايخنا، يروون الحديث المرسل عن تابعي، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتوهمونه صحابيا، وربما رووا المسند عن صحابي يتوهمونه تابعيا". ا. هـ. وقد تناول العلماء هذا الفن بالتأليف فمن ذلك: كتاب الصحابة لابن حبان وهو مختصر في مجلد، وكتاب أبي نعيم الأصفهاني، وكتاب معرفة الصحابة لأبي أحمد بن عبد الله العسكري، وهو مرتب على القبائل، وكتاب علي بن المديني شيخ البخاري، ذكر فيه من نزل من الصحابة في سائر البلدان، وهو في خمسة أجزاء لطيفة. وكتاب ابن منده، وذيله لأبي موسى المديني. هذا ومن أحسن الكتب في هذا الفن وأكثرها فوائد: "الاستيعاب في معرفة الأصحاب"، للحافظ ابن عبد البر لولا ما شأنه بذكر ما شجر بين الصحابة، وحكايته عن الأخباريين والغالب عليهم الإكثار والتخليط في ما يروونه، وهو مطبوع الآن وقد ذيل عليه ابن فتحون ذيلا حافلا، كما ذيل عليه آخرون، وكتاب أسد الغابة لعز الدين بن الأثير، المتوفى سنة "630" جمع فيه كتبا أربعة: هي كتاب ابن منده، وكتاب أبي موسى المديني، وكتاب أبي نعيم، وكتاب ابن عبد البر، وزاد عليها أسماء من غيرها وضبط، وحقق أشياء حسنة. على ما فيه من التكرار حسب الاختلاف في الاسم أو الكنية، وهو مطبوع أيضا وقد اختصره الحافظ الذهبي "748" في كتاب لطيف سماه

_ 1 ص25.

"التجريد"، وبين من ذكر غلطا، ومن لا تصح صحبته، ولم يستوعب ذلك، ثم جاء شيخ الإسلام العسقلاني المتوفى سنة "852" فألف كتابه: "الإصابة في تمييز الصحابة". جمع فيه ما في الاستيعاب وذيله وأسد الغابة وتجريده، واستدرك عليهم كثيرا، فجاء كتابا عظيم النفع كثير الفائدة، وهو مطبوع الآن1. 3- علم تاريخ الرواة: تكلم الناس على تاريخ الرواة ورحلاتهم، ومواطنهم وأبانوا عن مواليدهم ووفياتهم، وكثير من أحوالهم مما له أثر في توهينهم، أو تقويتهم فميزوا أوقات ضبطهم، وانتباههم من أوقات غفلتهم واختلاطهم، وكشفوا عن كل ذلك بما لا يدع مجالا للريب فتراهم يقولون مثلا: فلان ولد عام كذا، وسمع عمره كذا وارتحل إلى البلد الفلاني في وقت كذا، وسمع من الشيخ الفلاني والتقى بفلان ولم يلتق بفلان، وفلان اختلط قبل موته بكذا شهر أو سنة، وفلان سمع من فلان قبل الاختلاط، فيقبل وفلان سمع منه بعد الاختلاف، فلا يقبل وهلم جرا. وإنك لتلمح من أقوالهم هذه الفائدة الكبرى، التي يفيدها هذا الفن من فنون الحديث، ولقد وفاه علماء الحديث حقه لما يترتب عليه من اتصال الحديث وانقطاعه، وقوته وضعفه إلى غير ذلك، ونحن نذكر لك شيئا من هذه الفوائد ليعظم في نظرك هذا الفن فمن ذلك: 1- أن العلم بتاريخ الرواة طريق لمعرفة ما يقبل من أحاديث الثقات، الذين أدركهم الاختلاط، وما لا يقبل منها.

_ 1 كشف الظنون ج1 ص74، والتدريب ص201، وما بعدها والرسالة المستطرفة ص94، 151.

2- أن العلم بتاريخ الرواة يعرف به المتقدم، والمتأخر من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيعلم أن أحد الخبرين ناسخ، والآخر منسوخ عند تعارضهما مع تعذر الجمع بينهما، وبذلك يذهب التعارض، ويندفع التناقض عن حديثه -صلى الله عليه وسلم. 3- الوقوف على اتصال السند، وانقطاعه فقد يقع من بعض الرواة الكذب أو التدليس، أو الارسال ولا يظهر ذلك إلا للعالم بالتاريخ الواقف على حقيقة الحال، وكثيرا ما حكم العلماء على رواة بالكذب، وعلى أحاديث بالوضع بسبب اطلاعهم على تواريخهم، وأنهم لم يلتقوا بمن حدثوا عنه، بل ولدوا بعد موتهم بسنين طوال، وإليك بعض الأمثلة: سأل إسماعيل بن عياش رجلا أي سنة كتبت، عن خالد بن معدان؟ فقال: سنة 113هـ، فقال: أنت تزعم أنك سمعت خالد بن معدان بعد موته بسبع سنين، فإنه مات سنة 106هـ، وسأل الحاكم محمد بن حاتم الكشي، عن مولده لما حدث عن عبد عن حميد، فقال سنة "260"، فقال: هذا سمع من عبد بن حميد بعد موته بثلاث عشرة سنة، وروى مسلم في مقدمة صحيحه، أن المعلى بن عرفان قال: حدثنا أبو وائل قال: خرج علينا ابن مسعود بصفين. قال أبو نعيم: يعني الفضل بن دكين حاكيه، عن المعلى- أتراه بعث بعد الموت وذلك؛ لأن ابن مسعود توفي سنة 32هـ قبل انقضاء خلافة عثمان بثلاث سنين، وصفين كانت في خلافة علي بعد ذلك. هذه أمثلة ناصعة تصور لنا مبلغ حرص هؤلاء الأعلاء، وعنايتهم بالوقوف على أحوال الرواة، واهتمامهم البالغ بالرواية والإسناد لذلك قال سفيان الثوري: "لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ"، وقال حفص بن غياث القاضي: "إذا اتهمتم الشيخ، فحاسبوه بالسنين"،

يعني سنة وسن من كتب عنه، وقال حسان بن يزيد: "لم نستعن على الكذابين بمثل التاريخ نقول للشيخ: سنة كم ولدت؟. فإذا أقر بمولده عرفنا صدقه من كذبه"، وكتب تاريخ الرواة كثير جدا، وقد تقدم لك بعضها وإليك جملة من كتب وفيات الرواة فمن ذلك: الوفيات لعبد الله بن أحمد بن ربيعة الربعي، الدمشقي سنة "373" جمعه من الهجرة إلى سنة "338". وذيله لعبد العزيز بن أحمد بن محمد الكتاني، الدمشقي الحافظ سنة 466، وذيل على كتاب الكتاني، تلميذه هبة الله بن أحمد الأنصاري الأكفاني، المتوفى سنة524 نحو عشرين سنة إلى سنة485، وسماه جامع الوفيات، ثم ذيل على الأكفاني شرف الدين علي بن المفضل المقدسي، ثم الإسكندري الحافظ، المتوفى سنة611، وصل فيه إلى سنة581، ثم ذيل على ابن المفضل زكي الدين، أبو محمد عبد العظيم المنذري، المتوفى سنة "656" وهو ذيل كبير كثير الإتقان والفائدة في ثلاثة مجلدات سماه "التكملة لوفيات النقلة"، ثم ذيل على المنذري تلميذه الحافظ، عز الدين أحمد بن محمد الشريف الحسيني الحلبي المصري، المتوفى سنة 695 في مجلد. ثم ذيل على الشريف أحمد بن أيبك الدمياطي، المحدث وصل فيه إلى سنة 749، ثم ذيل على ابن أيبك الحافظ زين الدين العراقي إلى سنة "762"، ثم ذيل عليه ابنه ولي الدين العراقي المتوفى سنة "826". ومن كتب الوفيات "كتاب در السحابة في وفيات الصحابة للصاغاني" والأعلام بوفيات الأعلام للذهبي، وتاريخ الوفاة للمتأخرين من الرواة لأبي سعد السمعاني، إلى غير ذلك1.

_ 1 التدريب ص254، توجيه النظر ص118 و119، مقدمة ابن حجر ج2 ص143، الباعث الحثيث 293 مقدمة ابن الصلاح ص189 و190 ومفتاح السنة ص155.

هذا ولم يقتصر الأئمة على التأليف في رجال الحديث عامة، بل أفردوا بالتصنيف رجال بعض كتب الحديث فمن ذلك: رجال صحيح البخاري لأحمد بن محمد الكلاباذي، المتوفى سنة 398هـ، ورجاله كذلك لمحمد بن داود الكردي، المتوفى سنة 925هـ، ورجال صحيح مسلم لأحمد بن علي المعروف بابن منجويه، المتوفى سنة 428هـ، ورجاله أيضا لأحمد بن علي الأصفهاني، وجمع محمد بن طاهر المقدسي، المتوفى سنة "507" بين رجال الصحيحين في كتاب جمع فيه بين كتابي الكلاباذي، وابن منجويه ورتبه على الحروف، وأحسن كما استدرك عليهما، وكذلك جمع بينهما اللالكائي، المتوفى سنة "498"، وأفرد رجال السنن لأبي داود أبو علي الغساني، المعروف بالجياني، المتوفى سنة "498"، وجمع السيوطي رجال الموطأ، وتعجيل المنفعة في رجال الأربعة: موطأ مالك ومسند الشافعي، ومسند أحمد، ومسند أبي حنيفة، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ورجال السنن الأربع، سنن النسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه، لأحمد بن أحمد الكردي، المتوفى سنة 763، والكمال في معرفة الرجال لعبد الغني المقدسي، المتوفى سنة 600 جمع فيه رجال الكتب الستة، وتهذيب الكمال لجمال الدين يوسف المزي، المتوفى سنة 742هـ، وهو كتاب كبير لم يؤلف مثله، وزوائد الرجال على تهذيب الكمال للسيوطي، وقد اختصر التهذيب الحافظ للذهبي في كتابه الكاشف، اقتصر فيه على من ذكر له رواية في الكتب الستة، دون من عداهم مما في كتاب المزي، واختصره أيضا الحافظ ابن حجر في كتابه، تهذيب التهذيب، وهو أكمل من كاشف الذهبي، ولابن حجر أيضا تقريب التهذيب، وهو مختصر جدا وتهذيب التهذيب وتقريب التهذيب مطبوعان الآن، إلى غير ذلك من كتب الرجال، وهي كثيرة1.

_ 1 الرسالة المستطرفة ص153، وما بعدها.

4- معرفة الأسماء، والكنى، والألقاب: قد يكون للراوي اسم وكنية أو اسم ولقب، وربما اشتهر باسمه دون كنيته أو العكس، أو اشتهر بلقبه دون اسمه أو العكس، وقد عني الحفاظ ببيان هذا النوع عناية تامة، فتكلموا على كل صنف، ودونوا ذلك في مؤلفات خاصة، وفائدة التنبيه على أن الراوي، اشتهر باسم كذا وكنيته كذا، أو العكس أو اشتهر بلقب كذا، واسمه كذا أو العكس، ألا يظن من لا معرفة له بذلك، أنهما شخصان وربما ذكر الراوي بهما معا في الإسناد، فيظن من لا يقف على حقيقة الأمر، أنهما رجلان، وقد يجره ذلك إلى تضعيف الثقة، وتوثيق الضعيف وفي هذا من الخطر ما فيه، وإليك جملة من الكتب في هذا النوع: كتب في أسامي من يعرف بكنيته: 1- كتاب علي بن المديني. 2- كتاب مسلم. 3- كتاب النسائي. 4- كتاب ابن أبي حاتم. 5- كتاب ابن حبان. 6- كتاب الحاكم أبي أحمد النيسابوري -شيخ أبي عبد الله الحاكم- المتوفى سنة378، في أربعة عشر سفرا حرر فيه، وأجاد وزاد على غيره، ورتبه الذهبي على المعجم، واختصره وزاد عليه وسماه "المقتنى في سرد الكنى". 7- كتاب ابن عبد البر، وهو المسمى بالاستغنا في معرفة الكنى. 8- كتاب "المنى في الكنى" للحافظ السيوطي، هذا ولأبي بشر محمد بن أحمد الدولابي، المتوفى سنة 310 كتاب الكنى والأسماء، وهو مطبوع بحيدر أباد بالهند سنة "1322" في مجلدين. وفي بيان كنى المعروفين بالأسماء، الذي هو عكس هذا النوع كتاب لابن حبان يقع في ثلاث مجلدات.

كتب في الألقاب: 1- كتاب الأسماء والألقاب لأبي الفرج بن الجوزي، واسمه كشف النقاب عن الأسماء والألقاب. 2- وكتاب مجمع الآداب في معجم الأسماء، والألقاب لأبي الوليد الفرضي، محدث الأندلس. 3- وكتاب الكنى، والألقاب لأبي عبد الله الحاكم. 4- وكتاب نزهة الألباب للحافظ العسقلاني، جمع فيه مع التلخيص ما لغيره وزيادة وزاد عليه تلميذه السخاوي زوائد كثيرة، وضمها إليه في تصنيف مستقل، وللسيوطي كتاب "كشف النقاب على الألقاب"1. المتفق والمفترق، والمؤتلف، والمختلف، والمتشابه: هذه أنواع ثلاثة تقع في أسماء الرواة، ولا يحصل العلم بها إلا للحفاظ المتقن الذي سبر هذا الفن، ومارس تلك الصناعة وقد كان للمحدثين عناية فائقة ببيان هذه الأنواع، ولنتكلم على كل منها فنقول: 1- المتفق والمفترق: وهو أن يتفق اثنان فأكثر من الرواة في الاسم لفظا، وخطا وذلك مثل الخليل بن أحمد مسمى به ستة أشخاص. ومثل أحمد بن جعفر بن حمدان مسمى به أربعة أشخاص إلى غير ذلك، وقد تناول العلماء هذا النوع بالتصنيف فمن ذلك: كتاب المتفق، والمفترق للخطيب البغدادي، وهو كتاب نفيس في مجلد كبير وكتاب المتفق، والمفترق للحافظ محمد بن النجار البغدادي، وكتاب أبي بكر الجوزقي.

_ 1 مقدمة ابن الصلاح ص164 وما بعدها، الباعث الحثيث ص256، وما بعدها وتدريب الراوي ص221، وما بعدها مفتاح السنة ص155.

2- المؤتلف والمختلف: وهو أن يتفق اسما راويين، فأكثر خطأ فقط ويختلفا بالنطق نحو سلام وسلام، وعماره وعمارة، وقد صنف في بيان هذا النوع كثير من المحدثين فمن هذه المصنفات: كتاب المؤتلف والمختلف للدارقطنى وكتابه حافل، وكتاب عبد الله بن علي الأندلسي، الرشاطي، المتوفى "542"، وكتاب أبي سعيد الماليني، وكتاب عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري، الحافظ المشهور النسابة المتفنن، المتوفى سنة 409، وهو مطبوع في الهند، وكتاب تكملة المختلف للخطيب أحمد بن علي "سنة463"، جمع فيه بين كتابي الدارقطنى، وعبد الغني وزاد عليهما وجعله كتابا مستقلا، ثم جاء هبة الله بن علي بن جعفر، الحافظ، المعروف بابن ماكولا المتوفى سنة475، فزاد على كتاب التكملة المذكور، وضم إليها أسماء وقعت له، وجعله كتابا مستقلا وسماه الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف، والمختلف من الأسماء والكنى والأنساب، وهو في مجلدين وعليه اعتماد المحدثين، وقد تناوله الناس كل بعد الآخر بالزيادة والتذييل، وكتاب تقييد المهمل، وتمييز المشكل لأبي علي الغساني الجياني، نسبة إلى جيان مدينة كبيرة بالأندلس، المتوفى سنة "498"، وهو خاص بأسماء رجال الصحيحين، وللذهبي كتاب مختصر لخصه من كتب عبد الغني، وابن ماكولا وابن نقطة، وأبي الوليد الفرضي، ولكنه أجحف في الاختصار، واكتفى بضبط القلم فصار مناقضا لموضوعه لعدم الأمن من التصحيف فيه، وفاته من أصوله أشياء واسم كتابه المشتبه في أسماء الرجال طبع في ليدن، وقد اختصر كتاب الذهبي هذا الحافظ ابن حجر العسقلاني، وضبطه بالحروف على الطريقة المرضية، وزاد فيه كثيرا مع شدة تحريه وسماه: "تبصرة المنتبه في تحرير المشتبه"، ويوجد مخطوطا بدار الكتب المصرية.

3- المتشابه: كالوليد بن مسلم ومسلم بن الوليد، ويزيد بن الأسود والأسود بن يزيد. وقد تناوله العلماء أيضا بالبيان، والتصنيف ومن هذه الكتب: كتاب "تلخيص المتشابه في الرسم، وحماية ما أشكل منه عن بوادر التصحيف والوهم" للخطيب البغدادي في مجلد، ثم ذيل عليه هو أيضا، وهو كتاب كثير الفائدة قال ابن الصلاح: أنه من أحسن كتبه، وقد اختصره علاء الدين بن التركماني، المارديني كما اختصره جلال الدين السيوطي، وسمى كتابه "تحفة النابه بتلخيص المتشابه"1. 5- علم تأويل مشكل الحديث: هذا فن جليل، ويسمى أيضا تأويل مختلف الحديث، وعلم اختلاف الحديث وكل عالم بل كل مسلم يحتاج للوقوف عليه، فإن بمعرفته يندفع التناقض عن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم، ويطمئن المكلف إلى أحكام الشرع. ومشكل الحديث هو أن يرد حديثان، يناقض كل منهما الآخر ظاهر. وقد عني علماء الحديث بالكلام على هذا النوع، ووفقوا بين المتون المتعارضة بما يزيل إشكالها. ولا يكمل لذلك الفن، سوى فقهاء المحدثين الغواصين على دقائق المعاني: وأول من تكلم في هذا الفن الإمام، محمد بن إدريس الشافعي، المتوفى سنة 204، رحمه الله وصنف فيه كتابه المعروف باختلاف الحديث، وإن كان لم يقصد إلى استيفائه، بل ذكر جملة منه يسبه بها على طريقة الجمع بين ما ظاهره التناقض، وهذا الكتاب من رواية الربيع بن سليمان، المرادي عن الشافعي في مجلد واحد، مطبوع على هامش الجزء السابع من كتاب الأم للشافعي أيضا،

_ 1 مقدمة ابن الصلاح ص172-185، والباعث الحثيث 274، وما بعدها وتدريب الراوي ص235، وما بعدها والرسالة المستطرفة ص86، وما بعدها ومفتاح السنة ص156، وما بعدها.

ثم صنف في هذا النوع من العلم، الإمام أبو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة276هـ، وسمى كتابه "تأويل مختلف الحديث"، رد فيه على أعداء أهل الحديث، وجمع بين الأخبار التي ادعوا فيها التناقض، وأجاب عما أوردوه من الشبه على بعض الأخبار المتشابهة، وقد أحسن فيه كثيرا وأجاد، وكتابه مطبوع متداول في جزء صغير، ثم صنف أيضا محمد بن جرير الطبري "310"، وأبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي "307"، وأبو جعفر الطحاوي "321"، وسمى كتابه مشكل الآثار، وهو من أجل كتبه ولأبي الفرج بن الجوزي "597" "التحقيق في أحاديث الحلاف"، هذا وقد كان أمام الأئمة ابن خزيمة من أحسن الناس كلاما في هذا النوع من فنون الحديث، حتى روى عنه أنه قال: "لا أعرف حديثين متضادين، فمن كان عنده، فليأتيني به أؤلف بينهما". ا. هـ1. 6- معرفة الناسخ والمنسوخ من الحديث: عني السلف الصالح من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم بمعرفة الناسخ والمنسوخ، وهو فن صعب المنال، إلا على جهابذة السنة، وحفاظها الواقفين على تاريخ التشريع الإسلامي. قال الإمام الزهري "124": "أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ الحديث من منسوخه"، وقد كان للإمام الشافعي -رضي الله عنه- في هذا النوع من علوم الحديث، اليد الطولى والسابقة الأولى، فالإمام أحمد بن حنبل على جلالته في علم السنة، يقول لابن وارة -وقد قدم من مصر: كتبت كتب الشافعي؟ قال: لا، قال: فرطت، ما علمنا المجمل من المفسر ولا ناسخ الحديث من منسوخه، حتى جالسنا الشافعي.

_ 1 التدريب ص197، وما بعدها. مقدمة ابن الصلاح ص143، كشف الظنون ج1 ص206، مفتاح السنة ص154، الرسالة المستطرفة ص118، وما بعدها.

والنسخ في اصطلاح العلماء، هو رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه متأخر. فالمتأخر يسمى الناسخ والمتقدم يسمى المنسوخ. وله شروط تكلفت بذكرها كتب أصول الفقه. وله طرق يعرف بها منها التصريح من النبي -صلى الله عليه وسلم، به كما في حديث: "كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها"، ومنها تصريح الصحابي به كقوله مثلا: "كان آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ترك الوضوء مما مست النار"، ومنه ما يعرف بالتاريخ كحديث شداد بن أوس، عند أبي داود والنسائي مرفوعا: "أفطر الحاجم والمحجوم"، ذكر الشافعي رحمه الله أنه منسوخ بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم، احتجم وهو محرم صائم"، أخرجه مسلم، فإن في بعض طرق حديث شداد أن ذلك كان زمن الفتح سنة ثمان وابن عباس، إنما صحبه -صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع سنة عشر، ومنه ما عرف بدلالة الإجماع، كحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، ولفظه على ما رواه أبو داود والترمذي من حديث معاوية: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه". قال النووي في شرح مسلم: "دل الإجماع على نسخه، وإن كان ابن حزم خالف في ذلك، فخلاف الظاهر لا يقدح في الإجماع"، والإجماع لا ينسخ ولا ينسخ، ولكن يدل على وجود ناسخ غيره. هذا وقد صنف في الناسخ والمنسوخ من الحديث خلق كثير، منهم الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبو داود السجستاني، صاحب السنن، وأحمد بن إسحاق الديناري "318"، ومحمد بن بحر الأصفهاني "323"، وأحمد بن محمد النحاس "338"، وأبو محمد قاسم بن أصبغ "340"، وهبة الله بن سلامة "140"، وأبو حفص عمر بن شاهين "385"، وللإمام

أبي بكر زين الدين محمد بن أبي عثمان الحازمي -نسبة إلى جدة حازم- الهمداني الحافظ المتقن، المتوفى سنة "584" ببغداد كتاب مشهور بين العلماء يسمى "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار"، في مجلد وهو مطبوع في حيدر آباد وحلب ومصر1. 7- معرفة غريب الحديث: غريب الحديث ما يقع فيه من كلمات غامضة بعيدة من الفهم لقلة استعمالاتها، قال الإمام أبو سليمان الخطابي: "الغريب من الكلام إنما هو الغامض البعيد من الفهم، كما أن الغريب من الناس هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل. والغريب من الكلام يقال على وجهين، أحدهما أن يراد به أنه بعيد المعنى غامضه لا يتناوله الفهم إلا عن بعد ومعاناة فكر، والوجه الآخر أن يراد به كلام من بعدت به الدار من شواذ القبائل. فإذا وقعت إلينا كلمة من كلامهم استغربناها". ا. هـ. قد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أفصح العرب لسانًا. حتى كان يخاطب وفود العرب على اختلاف قبائلهم، وألسنتهم بما يفهمونه، وكان أصحابه -رضي الله عنهم، يفهمون أكثر ما يقوله. وما لم يفهموه سألوه عنه واستمر الأمر على هذا المنوال، إلى أن لحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم، بالرفيق الأعلى، وفي عصر الصحابة كان اللسان العربي سليما، لا يعتريه خلل ولا تشوبه عجمة إلى أن حصلت الفتوحات، ودخل في الإسلام كثير من الأعاجم، واختلطوا مع العرب بالازدواج، فنشأ جيل جديد تشوب لسانه عجمه، فتعلموا من اللسان ما لا بد لهم منه

_ 1 معرفة علوم الحديث للحاكم ص85، وتدريب الراوي ص195، ومقدمة ابن الصلاح ص139. والباعث الحثيث ص202، وكشف الظنون ج2 ص276، والرسالة المستطرفة ص60، ومفتاح السنة ص158.

في الخطاب، ثم جاء التابعون سالكين طريقتهم، إلا أن لغة القوم كانت سائرة إلى الاستعجام شيئا فشيئا، فما انقضى عصر التابعين، إلا وقد استحال اللسان العربي أعجميا، واستغلق على الناس فهم كثير من ألفاظ الحديث النبوي، فألهم الله أئمة الدين معالجة هذا الداء العضال صيانة لهذا العلم الشريف، حتى لا يصبح طلاسم أمام عجمة المتأخرين، فتكلم في غريب الحديث جماعة من أتباع التابعين، منهم مالك بن أنس الإمام، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، ثم تتابع الناس بعدهم في الكلام على هذا الفن، مبينين للناس معاني كلماته المستغلقة، وألفوا في ذلك الكتب القيمة، التي كانت فيما بعد عدة الأجيال المتلاحقة، وذخيرة القرون المتأخرة، ولولا همة هؤلاء الأئمة الأعلام لما انتفعنا اليوم بأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإليك نبذة عن تاريخ التدوين في هذا النوع من علوم الحديث: أول من صنف في غريب الحديث -على ما قيل- أبو عبيدة، معمر بن المثنى التميمي، البصري المتوفى سنة "210" جمع فيه كتابا صغيرا، ولم تكن قلته لجهله بغيره بل؛ لأن كل مبتدئ في شيء يكون مقلا فيه عادة؛ ولأن الناس كانت لا تزال فيهم بقية من معرفة، وأثارة من علم فلعله قصد إلى ما يخفى على بعض الناس، وترك ما يعرفه كل الناس، ثم جمع أبو الحسن النضر بن شميل المازني، النحوي "204" بعده أكثر منه، ثم جمع عبد الملك بن قريب، الأصمعي كتابا أحسن فيه وأجاد، وكان في عصر أبي عبيدة، وكذلك جمع فيه محمد بن المستنير، المعروف بقطرب المتوفى "206" وغير هؤلاء من الأئمة، جمعوا أحاديث، وتكلموا على لغتها في أوراق، ولم يكد أحدهم ينفرد عن غيره بكثير، بل كانوا فيما جمعوه متقاربين، ثم ألف من بعدهم أبو عبيد القاسم بن سلام "سنة224"

كتابا جليلا: اتخذه الناس العمدة في هذا الفن، ويقال: أنه أفنى فيه عمره إذ جمعه في أربعين سنة، بقي هذا الكتاب يرجع فيه الناس فيما أهمهم، حتى جاء أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، الدينوري المتوفى سنة276، فصنف كتابه المشهور نهج فيه منهج أبي عبيد القاسم، فجاء كتابه مثل كتابه أو أكبر، ولم يودعه من كتاب أبي عبيد القاسم شيئا، إلا ما تدعوا إليه الحاجة، كزيادة شرح أو بيان لفظ، وقال في مقدمته: "أرجو ألا يكون بقي بعد هذين الكتابين من غريب الحديث، ما يكون لأحد فيه مقال"، وممن صنف في ذلك الإمام إبراهيم الحربي، المتوفى سنة285 بسط القول في كتابه، واستقصى الأحاديث وأطال بذكر المتون، وأسانيدها مما زهد الناس فيه. ثم أكثر الناس التصنيف لهذا الفن إلى أن جاء الإمام، أبو سليمان حمد الخطابي البستي، المتوفى سنة378، فصنف كتابه المشهور في غريب الحديث، سلك فيه طريقة أبي عبيد القاسم، وابن قتيبة، ووجه همته إلى جمع ما بين في كتابيهما، فكانت هذه الكتب الثلاثة تعد أمهات كتب غريب الحديث المتداولة، غير أنه لم يكن بين تلك الثلاثة، وغيرها من الكتب كتاب مرتب يسهل الاطلاع عليه، فتخلص في هذا العصر عصر الخطابي الإمام، أحمد بن محمد الهروي المتوفى سنة401، فصنف كتابه المشهور في الجمع بين غريبي القرآن والحديث، مرتبا له على حروف المعجم على وضع لم يسبق إليه، ولم يشحنه بالمتون والأسانيد والرواة، وجمع فيه من غريب الحديث ما في كتب من تقدمه، وزاد عليه، فجاء كتابا جامعا حسن الوضع، إلا أنه جاء الحديث فيه متفرقا في حروف كلماته: صار هذا الكتاب عدة الناس في معرفة الغريب، وقد اقتفى أثره كثير من الناس، واستدركوا ما فاته أيضا إلى أن جاء جار الله أبو القاسم، محمود بن عمر الزمخشري "سنة538"، فصنف كتابه "الفائق"، ورتبه

على وضع اختاره مقفى على حروف المعجم، ولكن في العثور على معرفة الغريب منه مشقة، وإن كانت أقل من غيره مما سبقه؛ لأنه جمع في التقفية بين إيراد الحديث مسرودا جميعه أو بعضه، ثم شرح ما فيه من غريب، فيجيء شرح كلماته الغريبة في حرف واحد، فترد الكلمة في غير حروفها، فكان كتاب الهروي أقرب متناولا، وأسهل مأخذا، وقد ألف أبو موسى محمد بن أبي بكر المديني، الأصفهاني "581" كتابا جمع فيه على طريقة الهروي ما فاته من غريب القرآن والحديث، وكذلك صنف أبو الفرج ابن الجوزي "514" كتابا في غريب الحديث خاصة نهج فيه منهج الهروي، بل إن كتابه مختصر من كتاب الهروي، لا يزيد عليه إلا الكلمة الشاذة، بخلاف كتاب أبي موسى المديني، فإنه لا يذكر منه، إلا ما دعت إليه الحاجة. ثم جاء الإمام، أبو السعادات مبارك بن محمد بن محمد الشيباني، المعروف بابن الأثير المتوفى "606"، فجمع ما في كتاب الهروي، وأبي موسى من غريب الحديث والأثر، وأضاف إليه ما عثر عليه في كتب السنة من صحيح، وسنن وجوامع، ومصنفات، ومسانيد، وقد رمز لما في كتاب الهروي بالهاء، ولما في كتاب أبي موسى المديني بالسين، وسمى كتابه "النهاية في غريب الحديث والأثر". قال السيوطي: "وهو أحسن كتب الغريب، وأجمعها وأشهرها الآن وأكثرها تداولا، وقد فاته الكثير فذيل عليه الصفي الأرموي "سنة723" بذيل لم تقف عليه". ا. هـ. وقد لخص النهاية لابن الأثير الحافظ، جلال الدين السيوطي "سنة911" في كتاب سماه "الدر النثير تلخيص نهاية ابن الأثير"، وزاد فيه زيادات، وهو مطبوع الآن مع النهاية على هامشها1.

_ مقدمة ابن الصلاح ص137، وما بعدها والرسالة المستطرفة ص115، وتدريب الراوي ص193، والباعث الحثيث ص200، ومفتاح السنة ص140، وكشف الظنون ج2 ص55 و407، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص88.

ومما يلتحق بكتب الغريب كتب المجازات النبوية، التي جاءت في الحديث ومن أحسن ما ألف في ذلك "كتاب المجازات النبوية" للإمام العالم الشريف الرضي، محمد بن الحسين، المتوفى سنة406، وهو مطبوع بمصر الآن. 8- معرفة علل الحديث: هذا الفن من أجل علوم الحديث، وأشرفها، وأدقها، ولا يتأهل للنظر فيه إلا الراسخون في علوم الحديث من أهل الخبرة، والحفظ والفهم الثاقب، ولهذا لم يتصدر للكلام فيه، إلا أفذاذ الرجال وجهابذة السنة وأطباء الحديث، كابن المديني وأحمد بن حنبل، والبخاري ومسلم ويعقوب بن شيبة، وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطنى، وذلك؛ لأن العلة في اصطلاحهم عبارة عن أسباب خفية غامضة، قادحة في صحة الحديث مع أن الظاهر السلامة منها، وربما وجدت العلة في الإسناد الذي رجاله ثقات الجامع، لشروط الصحة من حيث الظاهر، قال الحاكم: "وهذا النوع من معرفة علم الحديث، علم برأسه غير الصحيح والسقيم والجرح والتعديل، قال: وإنما يعلل الحديث من أوجه، ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه، وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات بأن يحدثوا بحديث له علة، ويخفى عليهم علته فيصير الحديث معلولا والحجة فيه عندنا الحفظ، والفهم والمعرفة لا غير". ا. هـ. وقد تناول هذا العلم بالتصنيف كثير من الأئمة، فمن ذلك كتاب علي بن المديني، المتوفى "سنة234"، وكتابه من أجل الكتب، وكتاب العلل للبخاري "سنة256"، وكتاب العلل لمسلم بن الحجاج النيسابوري، وكتاب العلل للترمذي، وقد شرحه الحافظ، أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد البغدادي، ثم الدمشقي الحنبلي المعروف بابن رجب، المتوفى

سنة "795"، وكتاب العلل لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون، البغدادي المعروف بالخلال، المتوفى سنة "311"، وكتاب العلل لابن أبي حاتم عبد الرحمن الرازي، الحافظ الثبت، المتوفى سنة 327، وكان ممن جمع بين علوم الرواية، ومعرفة الفقه، وكتابه مطبوع بمصر في مجلدين، وهو من أجل الكتب في بابه مرتب على أبواب الفقه، وكتاب العلل لعلي بن عمر الدارقطنى، المتوفى سنة "375"، وهو أجمع كتاب في العلل مرتب على المسانيد، وليس من جمع الدارقطنى، بل الجامع له تلميذه الحافظ أبو بكر البرقاني، وكتاب ابن الجوزي وهو المسمى "بالعلل المتناهية في الأحاديث الواهية"، وعليه في كثير منه انتقاد. وللحافظ ابن حجر العسقلاني كتاب في علل الحديث سماه "الزاهر المطول في الخبر المعلول"، هذا ويوجد الكلام على علل الحديث، مفرقا في كتب الحديث الأخرى، كنصب الراية لتحريج أحاديث الهداية للحافظ الزيلعي، وفتح الباري لابن حجر العسقلاني، ونيل الأوطار للشوكاني، وكتاب المحلى لابن حزم، وكتاب تهذيب سنن أبي داود لابن القيم، وغير ذلك1. 9- معرفة الموضوعات، وكشف حال الوضاعين: نشأة الوضع في الحديث وبدء ظهوره: كانت السنة النبوية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مصونة من تقول الكذابين، محفوظة من دجل المنافقين، وذلك أنه فوق وجوده -صلى الله عليه وسلم- بين ظهراني المسلمين. يقضي على الخرافات

_ 1 الرسالة المستطرفة ص110، والتدريب ص88، وما بعدها وتوجيه النظر ص264، وما بعدها ومقدمة ابن الصلاح في بحث المعلل ص42، وعلوم الحديث للحاكم ص71 و112، وما بعدها ومفتاح السنة ص159، والباعث الحثيث ص58، وما بعدها.

والأكاذيب، فإن الوحي ما زال ينزل عليه، وكثيرا ما كان يفضح سر المنافقين، لذلك لم يجرؤ أحد أن يتقول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما كان زمن الشيخين احتاطا كثيرا للأحاديث، وأرهبا المنافقين والأعراب من التزيد فيها كما سبق لك بيانه، ولما أن ولي عثمان -رضي الله عنه، ووقعت الفنتة في زمنه، وجد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أوقد نيران الفتنة، وألب الناس على خليفة المسلمين حتى قتلوه ظلما، ثم لما ولي علي كرم الله وجهه الخلافة، وكان ما كان بينه وبين معاوية في صفين، افترق الناس إلى شيعة وخوارج، وجمهور كما رأيت وهنا ظهر الكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واشتد أمره من الشيعة، والخوارج ودعاة بني أمية، لذلك يعتبر العلماء مبدأ ظهور الوضع في الحديث من هذا الوقت "سنة41هـ"، وهذا التحديد إنما هو لظهور الوضع في الحديث، وإلا فقد وجد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك حتى في زمنه، صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك يقول -صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار"، فما قال النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، إلا لحادثة وقعت في عصره كذب عليه فيها، ويستأنس لذلك بما أخرجه ابن عدي في كامله عن بريدة قال: "كان حي من بني ليث على ميل من المدينة، وكان رجل قد خطب منهم في الجاهلية، فلم يزوجوه فأتاهم وعليه حلة فقال: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كساني هذه وأمرني أن أحكم في أموالكم ودمائكم، ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان خطبها، فأرسل القوم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: كذب عدو الله، ثم أرسل رجلا فقال: إن وجدته حيا، فاضرب عنقه، وإن وجدته ميتا فاحرقه بالنار، فجاء فوجده قد لدغته أفعى

فمات فأحرقه بالنار فلذلك، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار"، وقد ذكر السيوطي في تحذير1 الخواص طائفة من الروايات بهذا المعنى، ولكن كما قلنا: إن هذا كان قليلا نادرا في عهد النبوة. ثم إن الوضع في الحديث أخذ يشيع، وينتشر في كل عصر وقد حدثناك عن عوامل ذلك في القرون الثلاثة، وعن جهود العلماء في مناهضة الوضاعين. والآن نذكر لك الوسائل، التي اتخذوها في جهاد هؤلاء الكذابين، والطرق التي سلكوها في القضاء على أباطيلهم، فإنهم لم يكتفوا بطريق دون طريق، بل حاربوا أعداء الحديث بكل سلاح، وأخذوا عليهم المسالك، وسدوا في وجوههم جميع الطرق. سلك علماء الإسلام، وأعلام السنة طريقين. "إحداهما": نظرية فوضعوا القواعد الدالة على وضع الحديث، وأقاموا الإمارات الصادقة على ذلك بما لا يدع مجالا للشك، و"الأخرى": عملية وذلك ببيانهم لأشخاص الوضاعين، وتعريف الناس بهم وبيان الموضوعات، التي وضعوها والأكاذيب التي اختلقوها، وصنفوا في ذلك الكتب المعروفة بكتب الموضوعات، وأصبحت السنة النبوية أمامنا بحذافيرها في الصحاح، والجوامع، والسنن والمسانيد، وغيرها معروفة، وصارت الأحاديث المكذوبة غير خافية على أحد من علماء الحديث، وبذلك سهلت مهمة الوقوف على درجة الأحاديث، أهي صحيحة أم حسنة، أم ضعيفة أم موضوعة مكذوبة، فجزى الله علماء السنة أفضل ما يجزى علماء أمة.

_ 1 ص11، وما بعدها.

الطريقة الأولى في الدلالة على وضع الحديث: وضع علماء الإسلام وجهابذة هذه الفنون قواعد، لا تكاد تخطئ في الدلالة على وضع الحديث، وذلك؛ لأن ملكة النقد كانت راسخة فيهم، حتى أصبحوا نقادا بالأرواح والأبدان، ونحن نذكر لك بعض هذه القواعد لتلمس بنفسك، أنهم ما فرطوا في مهمتهم الشريفة فنقول: 1- يعرف الوضع بقرينة في الراوي، تنادى عليه بالكذب فيما يقول، ومثال ذلك ما أسنده الحاكم عن سيف بن عمر التميمي أنه قال: كنت عند سعد بن ظريف، فجاء ابنه من الكتاب يبكي، فقال مالك؟ قال: ضربني المعلم، قال: لأخزينهم اليوم، حدثني عكرمة عن ابن عباس مرفوعا: "معلمو صبيانكم شراركم أقلهم رحمة لليتيم، وأغلظهم على المسكين"، ومثال ذلك أيضا ما روي أنه قيل لمأمون بن أحمد الهروي، ألا ترى إلى الشافعي ومن تبعه بخراسان، فروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي رجل يقال له: محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له: أبو حنيفة هو سراج أمتي"، إلى غير ذلك. 2- يعرف الوضع بقرينة في المروي، كأن يكون الحديث ركيك المعنى فقط أو ركيك اللفظ والمعنى معا، أما ركة اللفظ فقط، فلا تدل على الوضع لجواز أن الراوي تصرف في لفظ الحديث، فأتى بلفظ ركيك من عنده، ويكون معنى الحديث صحيحا، وله أصل عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فلا تدل ركاكة اللفظ فقط على أن الحديث الموضوع، اللهم إلا إذا ادعى الراوي أن الحديث الذي رواه من لفظ النبي، صلى الله عليه وسلم، وصرح بذلك فإنه يكون كاذبا؛ لأن النبي، صلى الله عليه

وسلم كان أفصح العرب، وعند ذلك تدل ركاكة اللفظ وحدها على وضع الحديث وكذب راويه، ومثال ركاكة المعنى ما نسبوه كذبا إلى النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الديك فإنه صديقي"، و"الديك الأبيض الأفرق حبيبي وحبيب حبيبي جبريل" و"لو كان الأرز رجلا لكان حليما". 3- من أدلة وضع الحديث أن يكون مخالفا للعقل، بحيث لا يقبل التأويل أو مخالفا للمحس المشاهد مثال الأول: الإخبار عن الجمع بين الضدين، أو نفي الصانع وذلك؛ لأنه لا يجوز ورود الشرع بخلاف مقتضى العقل، ومثال ذلك الحديث: "خلق الله الفرس فأجراها، فعرقت فخلق نفسه منها"، فهذا لا يقوله عاقل، ومثال الثاني حديث: "الباذنجان شفاء من كل داء"، فهذا باطل؛ لأن المشاهد المحس هو أن الباذنجان يزيد الأمراض شدة. 4- من أدلة الوضع أن يكون الحديث مخالفا لدلالة القرآن القطعية، أو السنة المتواترة، أو الإجماع القطعي مع عدم إمكان الجمع، ومن هنا زيف العلماء الحديث، الذي يحدد المدة الباقية للدنيا بسبعة آلاف سنة؛ لأنه يخالف قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} ، وأبطلوا حديث: "ولد الزنا لا يدخل الجنة"، لمعارضته لقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، كما زيفوا أحاديث متناقضة للسنة المتواترة، أو الإجماع القطعي، كالأحاديث الدالة على أن كل ما يسمى بأحمد أو محمد لا يدخل النار، فإنه من المعلوم من الدين بالضرورة، أن النار لا يجار منها بالألقاب، والأسماء وإنما يتخلص منها بالعمل الصالح. 5- من علامات وضع الحديث، اشتماله على مجازفات يرتفع عنها

كلام النبوة كحديث: "من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرًا له سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف ألف لغة يستغفرون الله له"، ومن ذلك حديث: "من اغتسل من الجنابة حلالا، أعطاه الله قصرا من درة بيضاء، وكتب له بكل قطرة ثواب ألف شهيد". 6- من علامات كذب الحديث، أن يكون أمرا تتوفر الدواعي على نقله، أو يصرح الحديث نفسه بأن الواقعة، حصلت في مشهد عظيم من الصحابة، ثم لا يشتهر ولا يرويه إلا عدد قليل، ومن ذلك ما يدعيه بعض الشيعة أن النبي -صلى الله عليه وسلم، أعطى عليا الخلافة في غدير خم حين رجوعه من حجة الوداع، بحضرة جم غفير أكثر من مائة ألف. 7- مجيء الحديث على خلاف مقتضى الحكمة، والمنطق السليم المعقول كحديث: "جور الترك ولا عدل العرب"، فإن الجور مذموم على الإطلاق كما أن العدل محمود على كل حال. 8- من علامات وضع الحديث، أن يكون الراوي له رافضيا والحديث في فضائل آل البيت؛ لأن الروافض متعصبون لآل البيت طاعنون على سائر الصحابة، ويعدون الشيخين غاصبين للخلافة من علي بن أبي طالب، ومالأهما على ذلك سائر الصحابة. 9- من أمارة بطلان الحديث مناقضته للتاريخ الصحيح، كحديث وضع الجزية عن أهل خيبر، الذي قرنه واضعه بشهادة سعد بن معاذ، إذ إن سعدا توفي في غزوة الخندق وكانت قبل خيبر، على أن الجزية لم تشرع في زمن خيبر ولم تكن معروفة للصحابة إلا بعد عام تبوك. 10- ومن أدلتهم على وضع الحديث ادعاء أحد رواته، أنه أدرك من العمر فوق ما جرت به سنة الله في خلقه، حتى لقي من تقدم بزمن

بعيد، وتلقى عنه، وذلك كالأحاديث التي رواها رتن الهندي مدعيا أنه لقى النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو لم يظهر إلا بعد ستمائة سنة من الهجرة، فإن بعض الجهال يزعم أنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: عمرك الله، فهذا ليس له أصل عند أئمة الحديث إذ إنه لم يعش أحد من الصحابة ممن لقي النبي، صلى الله عليه وسلم، أكثر من خمس وتسعين سنة، غير أبي الطفيل، حتى إن الناس بكوا عليه، وقالوا: هذا آخر من لقي النبي، صلى الله عليه وسلم. 11- من أدلة الوضع في الحديث، ادعاء بعض الصوفية أنه تلقى الحديث، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بطريق الكشف، دون أن يكون له سند متصل صحيح، أو بطريق الرؤيا كذلك إذ إنه من المتفق عليه بين علماء الدين أن الرؤيا، والكشف لا يتقرر بهما حقيقة شرعية، لما يكتنفهما من التخليط وعدم الضبط، فإضافة شيء إلى الدين من غير أن يقوم عليه دليل من الكتاب، أو السنة المتلقاة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بالسند الصحيح يعتبر ابتداعا في الدين، وزعما باطلا مردودا على من يزعمه. هذا وقد تكلم المحدثون على سبيل الإجمال، والتفصيل في معرفة الموضوعات والوضاعين، فتراهم يقولون: من الأحاديث الموضوعة أحاديث الاكتحال، والأدهان والتطيب يوم عاشوراء، والأحاديث التي وضعها بعض الزنادقة، وجهلة المتصوفة في فضائل القرآن سورة سورة إلا ما استثنى1، والأحاديث التي تروى في التختم بالعقيق لا يثبت منها

_ 1 قال الحافظ السيوطي في تدريبه: اعلم أن السور التي صحت الأحاديث في فضائلها: الفاتحة، والزهراوان، والأنعام، والسبع الطوال مجملا، والكهف، ويس، والدخان، والملك، والزلزلة، والنصر، والكافرون، والإخلاص، والمعوذتان، وما عداها لم يصح فيها شيء.

شيء، والحرز المنسوب لأبي دجانة الأنصاري، ومسند أنس بن مالك الذي يروي عن جعفر بن هارون الواسطي، عن سمعان بن أنس، وهو مقدار ثلثمائة حديث يرويها سمعان المهدي، عن أنس وأوله: "إن أمتي في سائر الأمم كالقمر في النجوم"، وأحاديث الأشج وأحاديث خراش، وأحاديث نسطور الرومي، وأحاديث رتن الهندي، والأحاديث المنسوبة إلى محمد بن سرور البلخي، وأحاديث شهر بن حوشب كلها موضوعة. كذلك تتبعوا الأخبار الواردة في كتب التفسير، والملاحم، والمغازي، ووزنوها بميزان النقد الصحيح، فالإمام أحمد بن حنبل يقول: "ثلاث كتب ليس لها أصل المغازي، والملاحم، والتفسير"، قال الخطيب في جامعه: وهذا محمول على كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة، غير معتمد عليها لعدم عدالة ناقليها، وزيادة القصاص فيها، فأما كتب الملاحم فجميعها بهذه الصفة، وليس يصح في ذكر الملاحم المرتقبة، والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة، وأما كتب التفاسير فمن أشهرها كتابا الكلبي. ومقاتل بن سليمان، وقد قال الإمام أحمد في تفسير الكلبي من أوله إلى آخره كذب، قيل له: فيحل النظر فيه؟ قال: لا، وقال أيضا: كتاب مقاتل قريب منه، وأما المغازي فمن أشهرها كتب محمد بن إسحاق، وكان يأخذ عن أهل الكتاب. وقال الشافعي: كتب الواقدي كذب. وليس في المغازي أصح من مغازي موسى بن عقبة1. ا. هـ. الطريقة الثانية في بيان العلماء للموضوعات، ومحاربة الوضاعين: هذه هي الطريقة العلمية، التي استنفذت كثيرا من جهود العلماء في كل عصر، فإنه لم يخل عصر من وجود أعداء الإسلام، كادوا له عن طريق

_ 1 تدريب الراوي ص98، وما بعدها وكشف الخفاء ومزيل الإلباس وخاتمته.

وضع الأحاديث: ومن أبرز الأعمال التي قام بها هؤلاء الجهابذة هي تصنيف الكتب في بيان الأحاديث الموضوعة، وإليك طائفة من هذه الكتب: 1- كتاب تذكرة الموضوعات لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، المتوفى سنة "507". 2- كتاب الأباطيل لأبي عبد الله الحسن بن إبراهيم، الهمداني الجوزقي. نسبة إلى جوزقان ناحية من همدان، الحافظ المتوفى سنة "543"، قال الذهبي: وهو محتو على أحاديث موضوعة، وواهية مع أوهام فيه، وقد بين بطلان أحاديث واهية بمعارضة أحاديث صحاح لها. ا. هـ. 3- كتاب الموضوعات الكبرى، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، المتوفى سنة "597" في نحو مجلدين، إلا أنه تساهل فيه كثيرا بحيث أدخل فيه الضعيف، والحسن والصحيح قال الذهبي: "ربما ذكر ابن الجوزي في الموضوعات أحاديث حسانا قوية. قال: ونقلت من خط السيد أحمد بن أبي المجد قال: صنف ابن الجوزي كتاب الموضوعات، فأصاب في ذكره أحاديث شنيعة مخالفة للنقل، والعقل وما لم يصب فيه إطلاقه الوضع على أحاديث بكلام بعض الناس في أحد رواتها كقوله: فلان ضعيف أو ليس بالقوي أو لين، وليس ذلك الحديث مما يشهد القلب ببطلانه، ولا فيه مخالفة، ولا معارضة لكتاب ولا سنة ولا إجماع. ولا حجة بأنه موضوع سوى كلام ذلك الرجل في روايه، وهذا عدوان ومجازفة". ا. هـ. وقال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني: "غالب ما في كتاب ابن الجوزي موضوع، والذي ينتقد عليه بالنسبة إلى ما لا ينتقد قليل جدا، قال: وفيه من الضرر أن يظن ما ليس بموضوع موضوعا، عكس الضرر بمستدرك الحاكم، فإنه يظن

ما ليس بصحيح صحيحا، قال: وينبغي الاعتناء بانتقاد الكتابين، فإن تساهلهما أعدم الانتفاع بهما إلا لعالم بالفن؛ لأنه ما من حديث إلا ويمكن أن يكون قد وقع فيه تساهل". ا. هـ. وقد ألف الحافظ ابن حجر "القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد"، أورد فيه أربعة وعشرين حديثا في المسند، ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات ومن بينها حديث في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن طالت بك مدة أوشك أن ترى قوما يغدون في سخط الله، ويروحون في لعنته في أيديهم مثل أذناب البقر". وذيل السيوطي على هذا الكتاب بذيل في الأحاديث، التي بقيت في كتاب الموضوعات من المسند، وهي أربعة عشر مع الكلام عليها. 4- كتاب اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للحافظ السيوطي اختصره من كتاب ابن الجوزي، فعلق الأسانيد وذكر منها ما تمس إليه الحاجة، وأتى بالمتون وكلام ابن الجوزي عليها، وتعقب كثيرا منها وتتبع كلام الحفاظ في تلك الأحاديث لا سيما شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر، والآلئ المصنوعة مطبوعة بمصر الآن، هذا وقد ألف السيوطي كتابا سماه "القول الحسن في الذب عن السنن"، أورد فيه مائة وبضعة وعشرين حديثا ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات مع أنها ليست بموضوعة، ففي سنن أبي داود منها أربعة أحاديث، وفي سنن الترمذي 23 حديثا، وفي سنن النسائي حديث واحد، وفي سنن ابن ماجه 16 حديثا، وفي صحيح البخاري، رواية حماد بن شاكر، حديث واحد، وهو: "كيف بك يا ابن عمر إذا عمرت بين قوم يخبأون رزق سنتهم؟ "، ومنها ما هو في كتاب خلق الأفعال للبخاري في غير الصحيح، وفي مسند الدارمي، والمستدرك للحاكم، وصحيح ابن حبان، وتصانيف البيهقي، وغيرها من الكتب أحاديث كثيرة حكم عليها ابن الجوزي بالوضع، وليست بموضوعة.

5- كتاب "تنزيه الشريعة المرفوعة، عن الأخبار الشنيعة الموضوعة". لأبي الحسن علي بن محمد الكناني، المتوفى سنة "963"، وهو أجمع كتاب في الموضوعات. 6- تذكرة الموضوعات لرئيس محدثي الهند، جمال الدين الفتني الملقب بملك المحدثين، المتوفى قتيلا سنة 986هـ. 7- كتاب الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، للقاضي أبي عبد الله محمد بن علي بن محمد الشوكاني، اليمني المتوفى سنة "1250هـ"، لكنه أدرج فيه كثيرا من الأحاديث، التي لم تبلغ درجة الوضع، بل ومنها صحاح وحسان قلد في ذلك ابن الجوزي، وأضرابه من المتساهلين. 8- كتاب "تحذير المسلمين، من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين"، في جزء لطيف لمحمد البشير، ظافر أبي عبد الله المالكي، الأزهري، المتوفى سنة "1325هـ"1. علم أصول الرواية، أو علم مصطلح الحديث: قدمنا لك بضعة أنواع من علم أصول الرواية، وإليك الآن نبذة يسيرة عن تاريخه والتعريف به: هو علم يبحث فيه عن حقيقة الرواية وشروطها، وأنواعها وأحكامها، وحال الرواة وشروطهم، وأصناف المرويات وما يتعلق بها2، وهذا العلم

_ 1 انظر تدريب الراوي ص100، وما بعدها، والرسالة المستطرفة ص111، وما بعدها. 2 "حقيقة الرواية": نقل الخبر وإسناده إلى من عزي إليه بتحديث، أو إخبار وغير ذلك، و"شروطها": تحمل الراوي لما يرويه بنوع من أنواع التحمل من سماع، أو عرض أو إجازة ونحوها. و"أنواع الرواية": الاتصال والانقطاع ونحوهما، "وأحكامها" القبول أو الرد، و"حال الرواة العدالة، والجرح وشروطهم في التحمل، والأداء، و"أصناف المرويات": المصنفات من المسانيد والمعاجم والأجزاء، وغيرها من أحاديث، وآثار ونحوهما و"ما يتعلق بهذه المصنفات": هو معرفة اصطلاح أهلها، انظر مقدمة تدريب الراوي للسيوطي.

هو المسمى بعلم مصطلح الحديث، وبه يعرف المقبول من المردود من حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم. نشأته: ولم يكن هذا العلم بحالته الراهنة، معروفا لدى أهل القرون الثلاثة الأولى، مسمى بهذا الاسم مجموعة أنواعه بعضها إلى بعض في مصنف واحد، وإن كان قد سبق منهم الكلام في أنواع مفردة، وتثبتوا في قبول الأخبار، كما كان من الشيخين أبي بكر وعمر، وتكلموا في الجرح والتعديل، ونقبوا عن علل الأحاديث، ووضعوا في بعض الأنواع كتبا كما حصل ذلك من علي بن المديني، شيخ البخاري الذي كان علامة زمانه في علوم الحديث، فلم يترك بابا من أبوابه إلا وضع فيه كتابا، كذلك ألف غيره أنواعا مفردة كالبخاري ومسلم، والترمذي وغيرهم، وكان تأليفهم كما قلنا لا يعدو الكلام على أنواع مفردة، أما جمع هذه الأنواع، والكلام عليها في مصنف واحد فلم يحدث ذلك إلا في منتصف القرن الرابع الهجري فيما يغلب على الظن. قال الحافظ ابن حجر في أول شرحه للنخبة ما نصه: "إن أول من صنف في ذلك القاضي، أبو محمد الرامهرمزي، المتوفى سنة 360 في كتابه "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي"، لكنه لم يستوعب، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، المتوفى سنة405، لكنه لم يهذب ولم يرتب، ثم تلاه أبو نعيم الأصفهاني، فعمل على كتاب الحاكم مستخرجا، وأبقى أشياء للمتعقب، ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي، المتوفى سنة "463"، فصنف في قوانين الرواية كتابا سماه "الكفاية"، وفي آدابها كتابا سماه "الجامع لآداب الشيخ والسامع"، وقل فن من فنون الحديث، إلا وقد صنف فيه الخطيب كتابا مفردا، فكان كما قال الحافظ ابن نقطة: "كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على

كتبه"، ثم جاء بعدهم بعض من تأخر عن الخطيب، فأخذ من هذا العلم بنصيب، فجمع القاضي عياض المتوفى سنة "544" كتابا لطيفا سماه "الإلماع"1 وأبو حفص الميانجي جزءا سماه "ما لا يسع المحدث جهله"، وأمثال ذلك من التصانيف التي اشتهرت. قال: إلى أن جاء الحافظ تقي الدين عمرو بن عثمان بن الصلاح عبد الرحمن الشهرزوري، نزيل دمشق فجمع في ذلك كتابه المشهور بمقدمة ابن الصلاح، فهذب فنونه وأملاه شيئا بعد شيء على تلاميذه بالمدرسة الأشرفية، عندما ولي تدريس الحديث بها، فلهذا لم يقع ترتيبه على وضع متناسب، إذ كان الأولى به أن يذكر ما يتعلق بالمتن وحده، وما يتعلق بالسند وحده، وما يشتركان معا فيه. وما يختص بكيفية التحمل والأداء وحده، وما يختص بصفات الرواة وحدة، واعتنى بتصانيف الخطيب المفرقة فجمع شتات مقاصدهم، وضم إليها من غيرها مخب فوائدها فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، فلهذا عكف الناس عليه، وساروا بسيره فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر ومعارض له ومنتصر". ا. هـ. بتصرف يسير. هذه نبذة يسيرة توضح لنا، كيف نشأ التأليف في علم أصول الرواية على الوضع الحالي، من ضم أنواع مختلفة بعضها إلى بعض في مصنف واحد، ولننتقل بك إلى الكلام على أشهر تلك الكتب، وأهمها: أهم كتب أصول الرواية: أولا: كتاب "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي"، لأبي الحسن بن خلاد الرامهرمزي، المتوفى سنة "360" هجرية. وهو أول مصنف ظهر في فن مصطلح الحديث، وهو وإن لم يستوعب أنواع الفن يعتبر أجمع

_ 1 منه نسخة بدار الكتب الظاهرية بدمشق.

ما صنف في عصره، والكتاب لم يطبع إلى الآن، ويوجد مخطوطا بدار الكتب المصرية. ثانيا: معرفة علوم الحديث للحاكم، أبي عبد الله النيسابوري، المتوفى سنة "405"هـ، وهو كتاب قيم اشتمل على اثنين وخمسين نوعا من علوم الحديث، وهو مدعم بالأسانيد قد طبع لأول مرة بمطبعة دار الكتب المصرية بتصحيح، وتعليق العالم الهندي الجليل الأستاذ، الدكتور السيد معظم حسين كما قدمه بنبذة عن تاريخ تدوين الحديث، ونشأة علوم المصطلح، ولم يغفل الكلام على ترجمة المؤلف، فجزاه الله خيرًا. ثالثًا: كتاب "الجامع لآداب الراوي والسامع"، للحافظ أحمد بن علي المعروف بالخطيب، البغدادي صاحب تاريخ بغداد، المتوفى "463". رابعا: "الكفاية في معرفة أصول الرواية"، للخطيب البغدادي أيضا. خامسا: كتاب علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح، للحافظ البارع أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، المشهور بابن الصلاح المتوفى سنة "642هـ"، لخص فيه كتب الخطيب المتفرقة وزاد عليها، فجمع بذلك على طالبي هذا الفن ما تفرق من أنواعه في حسن عبارة، وكمال وتهذيب وقد اتقد عليه في وضعه، كما سبق لك وهو انتقاد شكلي لا يضيره، وكتابه مطبوع بالهند الآن، ويشتمل على خمسة وستين نوعا من علوم الحديث. وكتاب ابن الصلاح هذا يعتبر خاتمة المصنفات، وأجودها في هذا الفن لذلك نجد العلماء فيما بعد يعولون عليه في أبحاثهم، ومن تصدى منهم للتأليف في علوم الحديث، لا يعدو أن يكون ناظما له، أو مختصرا

أو شارحا فمن الناظمين له زين الدين العراقي، المتوفى سنة 806هـ في ألفية سماها "نظم الدرر في علم الأثر"، وقد أتمها سنة 768هـ، وعمل عليها شرحا سماه فتح المغيث بشرح ألفية الحديث، وقد طبع بمصر عام "1355هـ"، وقد تناول الناس ألفية العراقي بالشرح منهم السخاوي، والسيوطي والشيخ زكريا الأنصاري، المتوفى سنة "928هـ". وقد نظم مقدمة ابن الصلاح أيضا الحافظ السيوطي، المتوفى سنة 911هـ في ألفية زاد فيها على ألفية العراقي نكتبا عزيزة، وفوائد جليلة وهي مطبوعة الآن بمصر قال في أولها: لله حمدي وإليه أستند ... وما ينوب فعليه أعتمد ثم على نبيه محمد ... خير صلاة وسلام سرمد وهذه ألفية تحكي الدرر ... منظومة ضمنتها علم الأثر فائقة ألفية العراقي ... في الجمع والإيجاز واتساق والله يجزي سابغ الإحسان ... لي وله ولذوي الإيمان وممن شرح مقدمة ابن الصلاح الزين العراقي، المتوفى سنة806 شرحها شرحا مختصرا سماه "التقييد والإيضاح لما أطلق، وأغلق من كتاب ابن الصلاح"، ويعرف أيضا بنكت العراقي على مقدمة ابن الصلاح، وللحافظ ابن حجر عليها نكت أيضا تسمى "الإفصاح بتكميل النكت على ابن الصلاح"، وكذلك شرحها بدر الدين الزركشي، المتوفى سنة "714هـ". وقد اختصر المقدمة كثير من العلماء منهم الإمام، شرف الدين النووي، المتوفى سنة "676"، وسمى كتابه "الإرشاد في علم الإسناد"، ثم اختصر الإرشاد في كتاب آخر سماه "التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير

النذير"، وهو المشهور الآن وعليه عدة شروح للزين العراقي، والسخاوي وللحافظ السيوطي شرح سماه "تدريب الراوي شرح تقريب النواوي"، وهو من أعظم الكتب في أصول الرواية، ومن أنفس كتب الحافظ السيوطي، وقد طبع بمصر سنة "1307هـ"، ونفدت نسخه. هذا ومن المتون الجامعة الممتعة "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة "852هـ"، وشرحها له أيضا ويسمى. "نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر"، وهو شرح وجيز عظيم النفع غزير العلم، وقد شرحه كثير من العلماء منهم على القارئ الحنفي، المتوفى سنة "1014هـ" وهو على شرح النخبة، وسماه "مصطلحات أهل الأثر"، وقد طبع بمطبعة أخوت باستنبول. وللسيد الشريف الجرجاني، المتوفى سنة "816هـ" كتاب "المختصر في مصطلح أهل الأثر"، وقد شرحه محمد عبد الحي اللكنوي، الهندي المتوفى سنة "1304هـ" في كتاب "ظفر الأماني في شرح مختصر الجرجاني"، وقد طبعت رسالة الجرجاني، وشرحها ظفر الأماني بالهند، ولعمر بن محمد بن فتوح البيقوني الدمشقي، المتوفى سنة "1080هـ" منظومة تعرف بالبيقونية، وعليها شروح كثيرة منها شرح الزرقاني، وطبعت بمصر مرارا وطبع أحد شروحها المسمى "البهجة الوضية شرح متن البيقونية"، للشيخ محمود نشابه بدار الخلافة سنة "1328"، إلى غير ذلك من المنظومات، والمختصرات وهي كثيرة جدا بعضها مطبوع، والآخر مخطوط يطول ذكرها، ويصعب عدها فنجتزئ بما ذكرناه1. هذه أيها القارئ قرابة أربعة عشرة قرنا من الزمان، والسنة النبوية

_ 1 أنظر مقدمة الدكتور معظم حسين لمعرفة علوم الحديث للحاكم.

الشريفة بين أعداء يكيدون لها، وأنصار يناضلون عنها وهذه أيها القارئ جهود جبارة، قام بها هؤلاء الأئمة الأعلام في كل مكان، وزمان مخلفين وراءهم تلك الثروة الطائلة من الحديث، وعلومه في متناول أيدينا اليوم ناطقة بحسن صنيع الأولين، شاهدة على المتأخرين بالتفريط، والإهمال حيث أغفلوا تلك الكنوز الثمينة، وتركوها تنعى أصحابها، حتى أصبحت ما بين مستشرق يبعث بها، وجاهل لا يعرف قيمتها ولا غرابة فإن هذا هو الطابع العام لنا في هذه الأيام، ولكنا مع ذلك لا نقطع الرجاء في أن يهيئ الله تعالى لدينه من ينصره على أعدائه، وأملنا وطيد في نخبة من علماء الأزهر اليوم، كرست حياتها على إحياء السنة، والدفاع عنها بالكتابة تارة وبالدرس أخرى، وأخيرا نوجه رجاءنا لأولي الشأن في الأزهر أن يعملوا على إحياء المخطوطات الحديثية بطبعها، وتحريرها وتسهيلها على طلاب العلم، والتوسع في دراسة الحديث النبوي دراسة، تعتمد على تحليل الأسانيد، والمتون ونقدهما، ويعني فيها برد الشبهات، وحل المشكلات فإنه لا يخفى عليهم مكان السنة من التشريع الإسلامي. وبعد فإنى لمتفائل لهذه العجالة بالنفع العميم، أن تم تأليفها صبيحة ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر في السابع والعشرين من رمضان سنة 1365 هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، والحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات.

خاتمة الطبع

خاتمة الطبع: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على نبينا محمد رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. وبعد فقد اقتضانا الداعي إلى نشر هذا الكتاب في هذه الأيام، حسبما نوهنا عنه في مطلعه، أن حذفنا تراجم لبعض الرواة، ووضعنا بدلا منها بحوثا هامة، يتطلبها الرد على بعض الملاحدة الذين يكيدون للسنة النبوية، كما ألجأنا غلاء الورق إلى الإجمال في الكلام عن الدورين السادس والسابع، والكمال لله جل جلاله. وعلى الله قصد السبيل، وهو الهادي إلى أقوم طريق. محمد أبو زهو. القاهرة في2 من جمادى الثانية 1378هـ.

تقاريظ الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم: تقاريظ الكتاب: -1- تفضل مولانا الأستاذ الإمام عالم العلماء، ومفتي الإسلام، فضيلة الشيخ "حسنين محمد مخلوف"، مفتي الديار المصرية سابقا، ورئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف، وعضو هيئة كبار العلماء، بكلمة رائعة قيمة، بعد اطلاعه على هذا الكتاب، فقال حفظه الله، وأبقاه ذخرا للإسلام والمسلمين: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع هداه، أما بعد، فقد طالعت كثيرا من مباحث كتاب "الحديث والمحدثون"، للأستاذ الجليل العلامة الشيخ، محمد محمد أبي زهو الأستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر، فحمدت الله أجل الحمد، إذ وفقه لإخراجه في وقت أحوج ما نكون فيه إلى عالم ثبت قدير، وباحث ثقة بصير، ينفي عن السنن النبوية تحريف الغالين. وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويدفع عن رواياتها ورواتها مطاعن الملحدين، وافتراءا أعداء الدين. فجاء كتابه وافيا بذلك، في سلاسة عبارة، واستقصاء بحث، وعمق فكرة وقوة حجة. يجد فيه طلاب الحقائق العلمية البيان الشافي، والبحث الوفي، عن منزلة السنة من الكتاب، وأنها بصريح القرآن الأصل الثاني في تشريع

الأحكام، وعن مبلغ عناية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين ومن بعدهم من أئمة الإسلام، باستقصائها وضبطها وتمحيصها ونفي الزيف عنها، وتحقيق أسانيدها، والتثبت من حال رواتها في الحفظ والضبط والعدالة، ثم تدوين علومها رواية ودراية، فهناك الصحاح، والمسانيد التي بلغ الضبط والتثبت فيها غايته، وهناك علم الحديث دراية، الذي يعرف منه شروط الرواية وشروط الصحة وكيفيات التحمل والأداء وأنواع الأحاديث المقبولة والمردودة، وهناك علم الجرح والتعديل، الذي يعرف منه حال كل راو من رواة الحديث قبولا وردا. وبجانب ذلك ما ألف من الكتب في الموضوعات المنتحلة، لنفي نسبها من السنن الثابتة، وما سلكه أئمة الفقه حيال الأحاديث، التي اعتمدوا عليها في استنباط الأحكام، واتخذوها مجال أنظارهم ومدار اجتهادهم. وكانت نتيجة هذه الجهود، التي لا نظير لها تمييز الصحيح من السنة والمقبول منها في الاستدلال، وبقاء السنة سليمة من كل شائبة. وقد جرت سنة الله أن يكون لكل حق أعداء، ولكل نور من يحاول إطفاءه، ليميز الله الخبيث من الطيب، ويزداد الحق ثباتا ورسوخا، والنور ضياء ووضوحا، بتمسك أهله به، وقوة دفاعهم عنه، فكان للسنن في العصور الأولى أعداء من الملحدين والزنادقة، والداخلين في الإسلام على دخل ومكيدة، وممن تبعهم على جهالة وعمى بصيرة، فطعنوا في متونها ورواتها، وفي كتبها بما شاءت لهم الأهواء، ثم ارتدت سهامهم في نحورهم، ولم ينالوا منها منالا، بجهاد أولئك الأبطال من الأئمة الأعلام، الذين قعدوا لهم كل مرصد، وأخذوا عليهم كل سبيل. وقسم لعصرنا من أولئك نفر من الكاتبين، تساقطوا كالفراش على تلك الشبه الواهية، والطعون البالية، التي افتراها الأقدمون من

الملاحدة، فأثاروها فخورين بأنهم بناتها، وحملة لوائها. وصالوا وجالوا بها بين الجهال بالسنن وعلومها، عسى أن ينالوا بها حطاما، أو يظفروا من العامة بسمة العلم والعلماء، ومكن لهم في هذه الفتنة الفهم الخاطئ لمعنى حرية الفكر واللسان والقلم. أنهم لم يأتوا بجديد، وإنما سطوا على القديم من الشبه والآراء، وطلوه بطلاء حديث تغريرا للبسطاء، واستمالة للدهماء، فجمعوا بين جريمتين جريمة الخيانة وجريمة الخداع، فوق ما اقترفوا من جريمة الطعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الأصل الثاني في التشريع، والوحي المنزل للهدى والإرشاد، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} . ولكن الرأي العام الإسلامي سليم العقل، صحيح الفكر، راسخ العقيدة، لا يخدع بالأضاليل، ولا ينقاد بالأباطيل، ولا يلقى لها بالا، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله. ألا فليعلم ذلك هذا النفر، وليعلوا أن الله تعالى إذ حفظ كتابه من المعتدين، حفظ سنة رسوله التي أقامها من كتابه مقام الشرح والبيان، من كل اعتداء وعدوان، فستبقى محفوظة بحفظ الله، عالية الذرا، ناصعة الجبين واضحة المحجة، ظاهرة الحجة، داعية إلى الحق والهدى، نابذة للضلالة والعمى، رغم أنوف الغواة والمضللين. وإن كتاب الأستاذ أبي زهو -والحمد لله- صوت حق، ولسان صدق، وبلاغ للناس، يفخر به العلماء، ويعتز به المنصفون من الباحثين. ونسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يثيب مؤلفه أجزل الثواب، ويجزيه خيرا عن السنة والكتاب. 15 رجب سنة 1378هـ. 24 يناير سنة 1959م. حسنين محمد مخلوف.

-2- وكتب زميلنا الأستاذ الجليل، الشيخ "محمد عبد الوهاب بحيري"، مدرس التفسير والحديث، بكلية الشريعة، بالأهر الشريف، بعد أن اطلع على هذا الكتاب: كلمة جامعة، نسطرها شاكرين مقدرين. قال حفظه الله ورعاه: بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه رحمة للعالمين، وخاتما للنبيين، سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه إلى يوم الدين. أما بعد فقد قرأت كلمة للكاتب الإسلامي المعروف، أخينا وصديقنا في الله عز وجل، الأستاذ الشيخ محمد الغزالي، يقول فيها: "هناك مستشرقون مصريون، ولدوا في بلادنا هذه، ولكن عقولهم وقلوبهم تربت في الغرب، ونمت أعوادهم مائلة إليه، فهم أبدا تبع لما جاء به. أنهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، بيد أنهم خطر على كياننا؛ لأنهم كفار بالعروبة والإسلام، أعوان -عن اقتناع أو مصلحة- للحرب الباردة التي يشنها الاستعمار علينا، بعد الحرب التي مزق بها أمتنا الكبيرة خلال قرن مضى. "وهم سفراء فوق العادة لانجلترا وفرنسا وأمريكا، دول التصريح الثلاثي الذي خلق إسرائيل وحماها، والفرق بينهم وبين السفراء الرسميين

أن هؤلاء لهم تقاليد تفرض عليهم الصمت، وتصبغ حركاتهم بالأدب، أما أولئك المستشرقون السفراء فوظيفتهم الأولى، أن يثرثروا في الصحف وفي المجالس، وأن يختلقوا كل يوم مشكلة موهومة، ليسقطوا من بناء الإسلام لبنة، وليذهبوا بجزء من مهابته في النفوس، وبذلك يحققون الغاية الكبرى من الزحف المشترك، الذي تكاتفت فيه الصهيونية، والصليبية في العصر الحديث. "أن هذا النفر من حملة الأقلام الملوثة، أخطر على مستقبلنا من الأعداء السافرين، فإن النفاق الذي برعوا فيه يخدع الأغرار بالأخذ عنهم، وقد يقولون كلمات من الحق تمهيدا لألف كلمة من الباطل تجيء عقيبها". ا. هـ1. هذه الأوصاف تنطبق تمام الانطباق على صاحب كتاب ظهر حديثا، يكيد للسنة باسم الدفاع عنها، ويلبس فيه الحق بالباطل، ويشوه الحقائق، ويفتات على التاريخ الصحيح، ويحرف الكلم عن مواضعه في جرأة وعدم مبالاة، كما فعل مع ابن حزم وابن قتيبة، وفخر الدين الرازي وابن كثير وغيرهم، ينقل ما يرد عليه هؤلاء على أنه رأي لهم، والمؤلف في هذا الكتاب يستبيح لنفسه، ولكل باحث على شاكلته، أن يأخذ من السنة ويترك، تبعا لهواه، تحت ستار العلم والمعرفة، والدراسة المحررة، التي تقوم على قواعد التطبيق العلمي. وسنده فيما يزعم "أولا" أن علماء الأمة قاطبة، لم يولوا الحديث النبوي ما يستحق من العناية والدرس، إذ تركوا أمره لمن يسمون "رجال الحديث" يدرسونه علىطريقتهم، التي قامت على معرفة رواة الحديث،

_ 1 عن مقدمة كتابه القيم "ظلام من الغرب".

والبحث في تاريخهم، ولا عليهم بعد ذلك أن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة، صحيحا في نفسه أو غير صحيح، معقولا أو غير معقول "ثانيا"، وأنه لا يمكن الوثوق بالأحاديث المدونة، حتى في الصحيحين والسنن وما في رتبتها؛ لأنها نقلت إلى مصنفيها، مغيرة الألفاظ، مبدلة المعاني، نتيجة للرواية بالمعنى، ذلك أن الأحاديث لم تدون في عهد النبوة، كالقرآن، بل ثبت النهي عن كتابتها، واستجاب الصحابة لهذا النهي، بل ثبت عنهم -فيما يزعم- أنهم كانوا يرغبون عن رواية الحديث، وينهون الناس عنها، ولما رأى بعض الصحابة أن يروو للناس، استباحوا لأنفسهم الرواية على المعنى، فغيروا وبدلوا، ثم سار على سبيلهم كل من جاء من الرواة بعدهم، وهكذا ظلت الألفاظ تختلف، والمعاني تتغير بتغير الرواة، إلى عهد التدوين في القرنين الثاني والثالث، وكان من ذلك ضرر كبير في الدين، واللغة والأدب "ثالثا"، وأنه قد اندس بين الرواة من تظاهر بالإسلام والصلاح، من أرباب الملل الأخرى، فأدخلوا في الحديث كثيرا من الإسرائيليات والمسيحيات، التي راجت على رجال الحديث، فقبلوها فيما يزعم. وقد أخذ يشكك في جميع أنواع الحديث، حتى في الحديث المتواتر، فيقولمروجا لعقيدة صلب المسيح ما نصه: "وقد انكر المسلمون أعظم الأمور المتواترة، فالنصارى والهيود هما أمتان عظيمتان يخبرون بصلب المسيح، والإنجيل يصرح بذلك، فإذا أنكروا هذا الخبر وقد وصل إلى أعلا درجات التواتر، فأي خبر بعده يمكن الاعتماد عليه، والركون إليه". ا. هـ، وأني أقول له أي خبر ينكره المسلمون؟ إن كان هو زعم النصارى واليهود صلب المسيح، فالمسلمون ينسبون إليهم ذلك الزعم، والقرآن الكريم يحكي عن اليهود قولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ

مَرْيَمَ} ، وإن كان هو وقوع صلب المسيح حقيقة، فالقرآن يبطله في قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} ، فدعوى حصوله باطل من القول فضلا عن دعوى تواتره، ودعوى أنه في كتب الله المنزلة. ويقول هذا المؤلف أيضا: "ولو أن الحديث قد دون في عصر النبي، كما دون القرآن، واتخذ له من وسائل التحري، والدقة مثل ما اتخذ للقرآن، لجاء كله متواترا كذلك، ولما اختلف المسلمون فيه هذا الاختلاف الشديد، الذي لم يستطع أحد -على مد العصور- تلافيه". ا. هـ. وهو يعترف أن عدم تدوين الصحابة للحديث، كان بأمره صلى الله عليه وسلم، فهذا منه إما طعن في الجناب النبوي الكريم -وحاشاه- بالتقصير، وفتح باب الاختلاف الشديد الذي لا يمكن تلافيه، وأما أبعاد للسنة عن حظيرة الاستدلال بها في الدين، ولذلك لم تنل حظها من العناية في زعم الكاتب، وهذا وذاك إثم كبير، واتباع لغير سبيل المؤمنين، وأنا نبرأ إلى الله من مثل هذه الأفكار الخبيثة. والدعوة إلى نبذ السنة دعوة إلى التلاعب بالقرآن الكريم، وماذا يبقى من الإسلام إذا سرنا كما يريد هؤلاء، وهل للصهيونية والصليبية مطمع وراء هذا. قال الأستاذ الشيخ "محمد رشيد رضا"، رحمه الله وعفا عنا وعنه، ناعيا على هؤلاء الأغرار مسلكهم: "ومن الغريب أننا نرى أمم العلم، والحضارة تعني بحفظ ما ينقل عن علمائها وأدبائها، في التشريع والحقوق، والحكم، والآداب، ويفاخر بعضهم بعضا بهم وبآثارهم، ونرى هؤلاء المخدوعين من مبتدعة المسلمين، لا يكتفون بهضم حقوق علماء ملتهم، ومؤسسي حضارتها ومجدها بالعلم والعمل، والسياسة والآداب، بل ينبذون سنة الرسول الذي يدعون اتباع ملته،

وما روى سلفهم عنه، من التشريع والحكم والآداب، ومنهم من يدعي اتباع سنته العملية، التي تلقاها عنه أصحابه بالعمل، دون ما ثبت عنه بالأحاديث القولية، وإن كانت صحيحة المتون والأسانيد، لا يعارضها معارض من القرآن ولا قطعي آخر يثبته العلم والعقل، ويدعون أنهم يتبعون نصوص القرآن، كأن فهمهم وبيانهم له، وحرصهم على العمل به، فوق فهم من أوحى إليه، وكلفه الله بيانه بالقول والعمل، وعصمه من الخطأ في كل ما يبلغه عنه، من نصوصه ومن المراد منها"، إلى أن يقول: "والذي نعلمه بالاختبار أن بعض هؤلاء الدعاة إلى هد الإسلام، جاهل غبي قد فتن بحب الظهور، وبعضهم ملحد يدعو المسلمين إلى الإلحاد لهوى في نفسه، أو خدمة لبعض الدول الطامعة في بلاد الإسلام واستعباد المسلمين". ا. هـ1 وأرباب هذه الأفكار الخبيثة يهدفون إلى رد المسلمين عن دينهم، جريا وراء حطام هذه الحياة، الذي تبذله الصليبية والصهيونية، حتى تستطيع استعباد المسلمين، والاستيلاء على بلادهم بيسر وسهولة، ولهم في الوصول إلى هذا الهدف مسالك شتى، وطرق مختلفة فمنهم من يحاول النيل من قدسية السنة بالطعن في رواتها، وحملتها حتى ينفسح أمامهم مجال العبث والتضليل. ومنهم من يحاول النيل من قدسية القرآن، باتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، أو بمحاولة تغيير نظمه المعجز الذي نزل به الروح الأمين من لدن حكيم عليم، أو بالسعي في الكيد للغة العرب وعلومها وآدابها، ومرسوم خطها حتى تنقطع الصلة بيننا، وبين كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وبيننا وبين ماضينا وحاضرنا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} .

_ 1 عن رسالة "تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها"، المرحوم السيد سليمان الندوي كبير علماء الهند ص27، 28، 29.

والمسلمون -ولا سيما العلماء والحكام- إزاء هذه الحملات الظالمة المتلاحقة، عليهم أن يجاهدوا في الله بأنفسهم، وأقلامهم وألسنتهم وأموالهم، حتى يكون الناس على بينة من أمر دينهم. وكان ممن جاهد بعلمه في هذا الظرف العصيب، أخونا وزميلنا العلامة الفاضل، الأستاذ الشيخ محمد محمد أبو زهو من علماء الأزهر الشريف، إذ أخرج كتابه القيم "الحديث والمحدثون" في أحسن حلة، وأبهج صورة بعد أن راجعه وهذبه، وأضاف إليه بعض المباحث الهامة، فكان هداية ونورا، يأخذ بيد الحائر إلى طريق الحق، وسبيل الصواب، ويدفع في صدر المعاند الجاحد بأمضى حجة، وأقوى برهان. ولقد قرأت هذا الكتاب جميعه على مكث، ققبل أن يقدم إلى الطبع قراء فحص وبحث، فراقني منه سلامة الترتيب والتبويب، وقوة الحجة ونصوع الفكرة، والوصول إلى الهدف من أقرب الطرق، وأقوم السبل، باسلوب هادئ مشرق. يأتي على شبه القوم من القواعد، ويكشف عن جهلهم الفاضح، وكذبهم الآثم، وضلالهم المبين، ويبين ما السنة في جميع عصورها من منزلة رفيعة، ومكانة سامية، وعناية تامة، وما قام به علماؤها، الذين اختارهم الله لصيانتها، فزين قلوبهم بالإيمان، وأعانهم على حفظ السنن والآثار، وحبب إليهم الرحلة والأسفار، وفراق الأهل والأوطان، فتجردوا للحديث وطلبوه، وسألوا عنه وأحكموه، وذاكروا به ونشروه، وتفقهوا فيه وأذاعوه، وكشفوا عن حال الرواة الأثبات، والعدول الثقات، كما كشفوا عن حال المجهولين والمجروحين، والضعفاء والمتروكين، حتى حفظ الله بهم الدين على المسلمين، وجعلهم عن التنازع أئمة الهدى، ومصابيح الدجى.

وأني- إذ أنصح لأهل العلم بقراءة هذا الكتاب ونشره، وللشباب المثقف المسلم بفهمه وتدبره -أدعو الله عز وجل للأستاذ المؤلف، أن يتقبل منه صالح سعيه، وجميل صنعه، وأن يضعه في ميزانه، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وأن يوفق علماءنا إلى خدمة الدين، ورفع راية الكتاب والسنة في كل مكان وزمان، حتى يرجع إلى الدين عزه ومجده. والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين. 3 رجب سنة 1378هـ. محمد عبد الوهاب بحيري. مدرس الحديث بكلية الشريعة.

الفهرس

الفهرس: صفحة التعريف بالكتاب والباعث على تأليفه 5 المقدمة معنى السنة 8 السنة من الوحي 11 الوحي وأقسامه 12 الحديث القدسي 16 الحكمة في نزول بعض الوحي باللفظ وبعضه بالمعنى 18 منزلة السنة من الدين 20 الرد على من ينكر الاحتجاج بالسنة 21 خبر الواحد الثقة يلزم العمل به 25 عذر الأئمة في ترك العمل ببعض الأحاديث 27 العالم إذا وجد حديثا على خلاف مذهبه 32 السنة مبينة للقرآن الكريم 37 هل تستقل السنة بالتشريع؟ 40 الجواب عن ذلك 40 السنة في أدوارها المختلفة، الدور الأول، السنة في عهد النبوة استعداد الصحابة لحفظ السنة ونشرها 46 مجالسه صلى الله عليه وسلم 50 كيفية تلقي الصحابة للحديث 53 النساء كن ينشرن الحديث 55 أمهات المؤمنين يتحملن الحديث وينشرنه 56 البعوث والوفود وأثرهما في نشر الحديث 57 الدور الثاني: السنة في زمن الخلافة الراشدة وصف الحالة السياسية 63 منهج الصحابة في رواية الحديث 65 أقلالهم للرواية وأسبابه 66 تثبتهم في رواية الحديث 69 منعهم التحديث بما يعلو على فهم العامة 72 رد شبه على منهج الصحابة في رواية الحديث والعمل به 74 الدور الثالث: السنة بعد الخلافة الراشدة إلى نهاية القرن الأول وصف الحالة السياسية وظهور الفرق 80 الخوارج ورأيهم في الخلافة 83 فقه الخوارج ووضعهم للحديث 86 الشيع وعقائدهم 88 أثر التشيع في الحديث 90 التشيع ستار لأعداء الإسلام 91 أمثلة من أكاذيب الشيعة في الحديث 92 الإمام علي يفند مزاعم الشيعة 93 تمويه الشيعة بوضع الأسانيد 96 الأثر العكسي التشيع في وضع الحديث 97 جهود الصحابة والتابعين في مناهضة الكذابين 98 اتساع الفتوح وتفرق الصحابة في الأمصار 100 دور الحديث في الأمصار المختلفة 101 رحلة العلماء في طلب الحديث 8

صفحة أثر الرحلة في تمحيص الحديث 109 أثرها في شيوع الرواية وتعدد الطرق 113 ظهور الكذب في الحديث ومناهضة العلماء للكذابين 114 كتابة الحديث 119 هل كتب الحديث في حياته صلى الله عليه وسلم 122 حكمة النهي عن كتابة الحديث ... التوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن فيها 123 كتابة الحديث بعد زمنه صلى الله عليه وسلم 125 أول من أمر بتدوين الحديث 127 تراجم لبعض مشاهير الرواة من الصحابة 129 من هو الصحابي؟ ... بم تعرف الصحبة؟ 130 إجماع الأمة على عدالة الصحابة أبو هريرة رضي الله عنه 132 أبو سعيد الخدري 134 جابر 135 أنس 137 عائشة 138 ابن عباس 139 ابن عمر 141 عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنه 142 عبد الله بن مسعود رضي الله عنه 144 تفاوت الصحابة في رواية الحديث وسببه 147 أكثر الصحابة حديثا 149 الرد على شبه في عدالة الصحابة وروايتهم 150 لماذا لم يبحث عن عدالتهم 150 لماذا لم ينظر إليهم كسائر الرواة؟ 152 هل حديث وليردن على الحوض إلخ" يقدح في عدالة الصحابة؟ 153 أبو هريرة رضي الله عنه وما قيل فيه 153 الكلام عن حديث الوعاءين 154 رجوع أبي هريرة إلى حديث عائشة وأم سلمة شاهد بفضله 155 لا تناقض بين حديثي نفي العدوى وإثباتها 155 أخذ أبي هريرة ما فاته من الحديث عن بعض الصحابة لا يقدح فيه 157 نهى عمر لأبي هريرة عن التحديث؟ 159 كثرة مروياته مع تأخر إسلامه؟ 159 دائرة المعارف الإسلامية الإنجليزية تفنيد مزاعمها في أبي هريرة 162 كلمة الختام في راوية الإسلام 167 مزاعم أخرى للزنادقة في أبي هريرة ... زعمهم أنه أسلم حيا في الدنيا 167 زعمهم أنه غير فقيه 167 زعمهم أنه خان الأمانة 168 زعمهم أنه كان يصلي خلف علي إلخ 168 زعمهم أنه كان يأخذ الحمل من معاوية على وضع الحديث في ذم علي 169 ثناء الحاكم في المستدرك على أبي هريرة 170 ذكره للأحاديث الدالة على فضل أبي هريرة ... بيانه الأسباب التي دعت الزنادقة للنيل منه 171 الرواة عن أبي هريرة من الصحابة والتابعين 171 الطاعنون على أبي هريرة اليوم صنائع المبشرين 171 تراجم لأشهر الرواة من التابعين 172 من هم التابعون؟ ... ابن شباب الزهري 174 عكرمة مولى ابن عباس 175 عمر بن عبد العزيز 178 كعب الأحبار 179

صفحة طعن بعض المعاصرين فيه وتفنيد ذلك 181 وهب بن منبه 183 الإسرائيليات 185 على أي وجه كانت تروى وتؤخذ أخذها بالميزان الشرعي لا يعد طعنا في الصحابة والتابعين لا خطر من الإسرائيليات إذا وزنت بميزان الشرع التوفيق بين النهي عن سؤال أهل الكتاب، والإذن بالتحديث عنهم ذكر الإسرائيليات في كتب الأئمة لا يفيد أنها صحيحة سعيد بن المسيب 192 عروة بن الزبير 193 نافع مولى ابن عمر 194 عبيد الله بن عبد الله بن عتبة 195 سالم بن عبد الله بن عمر 196 الشعبي 196 ابراهيم النخعي 197 علقمة 198 الرد على شبه في رواية الحديث وكتابته 198 كيف كانت تروى الأحاديث النبوية 199 رد شبه حول الرواية بالمعنى ... لماذا لم تدون السنة في العهد النبوي 200 الرواية بالمعنى لا تجوز بعد تدوين الحديث 201 حرص الصحابة والتابعين على اللفظ النبوي 203 اختلاف ألفاظ الحديث وسببه 207 التشكيك في الأحاديث يرفع الثقة بجميع العلوم 210 ترك العلماء لبعض الأحاديث وسببه 212 الاستشهاد بالحديث في اللغة والنحو 218 موقف صاحب مجلة المنار من الأحاديث الواردة في كتابة السنة، ومناقشته في بعض آرائه 220 مخالفته المشهور في أول من دون الحديث 220 تأويله لأحاديث الأذن في الكتابة 221 ترجيحه لأحاديث النهي على أحاديث الكتابة 230 جمعه بين أحاديث الإذن والنهي بما لا يصلح 230 جعله أحاديث النهي ناسخة لأحاديث الإذن 232 دعواه أن الصحابة لم يدونوا الأحاديث؛ لأنهم لم يتخذوها دينا عاما دائما كالقرآن 236 الدور الرابع، السنة في القرن الثاني تدوين الحديث وأشهر الكتب المؤلفة فيه 243 موطأ مالك وعناية الأمة به 245 رأي لبعض الكاتبين في الموطأ 253 شيوع الوضع في الحديث 259 الدعاة السياسيون 260 الزنادقة 264 القصاص 265 مناهضة العلماء للوضاعين 267 النزاع حول حجية السنة 271 مناظرة للإمام الشافعي 272 استدلاله على حجية خبر الواحد 277 احتياط العلماء في قبول خبر الواحد 281 شبه أثيرت حول الإمام أبي حنيفة 283 تراجم لبعض مشاهير المحدثين 287 مالك بن أنس 287 يحيى بن سعيد القطان 290 وكيع، سفيان الثوري 291 سفيان بن عيينة 292

صفحة شعبة بن الحجاج 293 عبد الرحمن بن مهدي 294 الأوزاعي 295 الليث بن سعد 297 الشافعي 298 عنايته بالسنة 299 الرد على تمويهات المستشرقين 301 زعمهم أن معظم الحديث من وضع المسلمين 302 تسميتهم الوضاع بالعلياء الأتقياء 304 زعمهم أن العلماء وضعوا الأحاديث لإرضاء الخلفاء 308 الرد على مزاعم أخرى لهم 310 الدور الخامس: السنة في القرن الثالث النزاع بين المتكلمين والمحدثين وأثره في الحديث 316 محنة القول بخلق القرآن في عصر المأمون 319 رجوع الواثق عن المحنة 321 المتوكل يرفع المحنة وينتصر للمحدثين 321 طريقة أئمة الحديث في هذا الدور 324 المتطفلون على موائد الحديث وخطرهم 325 طريقة المتكلمين في هذا العصر 326 المعتزلة يحملون العامة على معتقدهم 327 النتائج التي عادت على الحديث وأهله من هذا النزاع 330 نشاط أهل الأهواء في وضع الأحاديث 332 التعصب للجنس وأثره في وضع الحديث 333 الزندقة وأثرها في ذلك 338 أمثلة من أوضاع الزنادقة 338 مقاومة الخلفاء العباسيين للزنادقة 339 القصص وأثره في الحديث 340 تراجم لبعض أئمة الحديث 342 علي بن المديني 343 يحيى بن معين، أبو بكر بن أبي شيبة 344 أبو زرعة الراوي 345 أبو حاتم الارزي، ابن حرير الطبري 346 ابن خزيمة 347 ابن سعد، كاتب الواقدي 349 إسحاق بن راهوية 350 أحمد بن حنبل 351 البخاري 353 مسلم بن الحجاج 356 النسائي 357 أبوداود 359 الترمذي 360 ابن ماجه 361 ابن قتيبة الدينوري 362 تدوين الحديث في هذا القرن وطريقة العلماء فيه 363 تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة 367 مسند أحمد 369 المسند الذي بأيدينا اليوم 370 درجة أحاديث المسند 372 عناية المسلمين به 375 صحيح البخاري، الباعث له على تأليفه 277 رواته وعدد أحاديثه 379 تراجمه وما اشتملت عليه من الفوائد 380 صحيح مسلم 381 الباعث له على تأليفه 382 شرط البخاري ومسلم في الصحيح 384

صفحة المقارنة بين الكتابين 389 الشيخان لم يستوعبا الصحيح في الكتابين 392 هل أحاديث الكتابين ثابتة بالعلم أو الظن 396 افتقاد بعض الحفاظ عليهما والجواب عنه 399 المسترجات عليهما، معنى الاستخراج 403 حكم الرواية من الكتب المستخرجة 405 فوائد المستخرجات 405 حكم زيادة الكتب المستخرجة عليهما 406 المستدركات عليهما 407 معنى الاستدراك سنن النسائي 409 شروطه في السنن الصغرى 410 سنن أبي داود 411 شروطه ودرجة أحاديثه 412 سنن الترمذي 415 درجة أحاديثه 416 مقارنة بين السنن الثلاث 417 سنن ابن ماجه 418 الدور السادس: السنة من عام "300هـ" إلى عام "656هـ" وصف الحالة السياسة 421 السنة في القرن الرابع 423 تراجم لبعض الأعلام 424 الحاكم، الدارقطني ابن حبان 425 الطبراني 427 قاسم بن أصبغ، ابن السكن 428 أبو جعفر الطحاوي 429 السنة بعد القرن الرابع 429 الجمع بين الصحيحين. الجمع بين الكتب الستة 430 الجمع بين أحاديث من كتب مختلفة 431 كتب منتقاة من أحديث الأحكام والمواعظ 432 كتب الأطراف 433 الدور السابع: السنة من عام "656هـ" إلى عصرنا الحاضر وصف الحالة السياسة 435 منهج العلماء في رواية السنة 437 عناية المسلمين بالسنة في الممالك المختلفة 438 دور مصر 439 دور الهند 441 النهضة العلمية بالمملكة السعودية 442 طريقة العلماء في تصنيف الحديث 443 كتب الزوائد 444 الجوامع العامة 445 الجمع لأحاديث الأحكام 446 تخريج أحاديثه في بعض الكتب العلمية 448 تخريج أحاديث اشتهرت على ألسن الناس 450 طائفة من كتب الأطراف 451 الخاتمة في ذكر أنواع من علوم الحديث وغيرها 453 علم ميزان الرجال المتكلمون في الجرح والتعديل 454 كتب الجرح والتعديل. كتب الثقاة. كتب الضعفاء 460 كتب جاعة بين الثقاة والضعفاء 462 معرفة الصحابة رضي الله عنهم 463 علم تاريخ الرواة 464 معرفة الأسماء والكنى والألقاب 468 المتفق والمفترق والمؤتلف والمختلف والمتشابه 469 علم تأويل مشكل الحديث 471

الصفحة علم الناسخ والمنسوخ 472 علم غريب الحديث 474 العلم بعلل الحديث 478 العلم بالموضوعات. نشأة الوضع في الحديث وبدء ظهوره 479 طريقة العلماء في الدلالة على الوضع 481 الطريقة الأولى 482 الطريقة الثالثة 486 كتب في الأحاديث الموضوعة 487 علم أصول الرواية نشأته 489 أهم الكتب المؤلفة فيه 491

§1/1