الحديث في علوم القرآن والحديث

حسن أيوب

المقدمة

المقدّمة بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي هو الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء، له الخلق والأمر، وبيده التدبير والتكوين، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن البعث حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأنه تعالى له الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير. وبعد: فهذه بحوث وعلوم خاصة بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أردت تقديمها سهلة ميسرة لأبناء عصري، مساهمة مني في إبراز هذه الجواهر النفيسة، واللآلئ المضيئة، راجيا أن يفيدوا منها، ويتجملوا بجمالها وكمالها وجلالها؛ لأنها أنوار مقتبسة من كتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولأنها مع جلالها لا يهتم بها إلا القليل من طلبة العلوم الشرعية، ولا يعمل بها إلا الحريصون على اتباع السنة المحمدية، لذلك أسأل الله تعالى أن يشرح صدور الكثيرين لدراستها وتدريسها، وأن يوفق الجميع لفهمها والعمل بها وهو تعالى سميع مجيب. وقد سميت هذا الكتاب الجامع لأهم علوم القرآن والسنة «الحديث في علوم القرآن والحديث» والله ولي التوفيق. المؤلف حسن أيّوب

علوم القرآن

علوم القرآن القرآن الكريم: هو الكلام المعجز المنزل على النبي محمد صلّى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته. هذا التعريف جمع الخصائص العظمى التي امتاز بها القرآن الكريم، وإن كان قد امتاز بكثير سواها كما قال الزرقاني. والمراد بعلوم القرآن: كل علم يخدم القرآن أو يستند إليه ويؤخذ منه. ويشمل ذلك علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الرسم العثماني، وعلم إعجاز القرآن، وعلم أسباب النزول، وكل علم يساعد على فهمه كالنحو والصرف والبلاغة، أو يؤرخ لتطور علومه، أو يستنبط من كلماته ومفاهيمه، فهي إذا علوم لا تحصى، وقد توسع السيوطي فيها حتى اعتبر منها علم الهندسة والطب والفلك ونحوها، وتوسع أكثر منه ابن العربي حتى أوصل هذه العلوم إلى خمسين وأربعمائة وسبعة وسبعين ألف علم، وهذا الكلام محمول على ضرب ونوع من التوسع والشطح بحيث يحاول كل عالم أن يأخذ من كلام الله تعالى علوما من كل كلمة من كلماته، ومن كل جملة من جمله، وبذلك يتحول العلماء إلى باحثين في كتاب الله، ومكتشفين من كلماته ظاهرها وباطنها، ونصها ومفهومها وإشاراتها علوما لا حصر لها. ولو أن المسلمين الأولين اشتغلوا بذلك عن الهدف الأساسي الذي أنزل القرآن لأجله، ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من إبراز جمال دين الله وكماله وجلاله، واشتماله على كل ما يحتاج إليه الخلائق لكي يكونوا سعداء في دنياهم، ناجين مقربين إلى الله في أخراهم. إن الهدف الأساسي لكتاب الله تعالى هو هداية الناس ودلالتهم على الطريق الذي ضلوا عنه مع بحثهم الدائم، وشغفهم الكبير للوصول إليه وهو: «طريق السعادة الدائمة» والفوز الحقيقي، والسلام الشامل. وكل ما في القرآن الكريم من أحكام وحكم، وأمثال وعبر، وقصص وعظات، وحجج وبراهين، وأدلة تملأ القلب والعقل نورا، إنما أريد به الهداية إلى هذا الطريق. قال الله تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة آية: 1، 2]. وقال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [سورة الأنعام آية: 155].

تاريخ علوم القرآن

وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [سورة النساء آية: 105]. وقال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [سورة طه آية: 123 - 126]. تاريخ علوم القرآن كان الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه يعرفون عن القرآن وعلومه، ما عرفه العلماء وفوق ما عرفه العلماء من بعد. ولكن معارفهم لم توضع على ذلك العهد كفنون مدوّنة ولم تجمع في كتب مؤلفة؛ لأنهم لم تكن لهم حاجة إلى التدوين والتأليف. أما الرسول صلوات الله وسلامه عليه فلأنه كان يتلقى الوحي عن الله وحده، والله تعالى كتب على نفسه ليجمعنه له في صدره، وليطلقن لسانه بقراءته وترتيله، وليميطن له اللثام عن معانيه وأسراره. اقرأ إن شئت قوله سبحانه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [سورة القيامة آية: 16 - 19]. ثمّ بلّغ الرسول صلّى الله عليه وسلم ما أنزل عليه لأصحابه، وقرأه على الناس على مكث أي: على مهل وتؤدة، ليحسنوا أخذه، ويحفظوا لفظه، ويفهموا سره، ثم شرح الرسول صلّى الله عليه وسلم لهم القرآن بقوله، وبعمله، وبتقريره، وبخلقه: أي بسنته الجامعة لأقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته، مصداقا لقوله سبحانه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل آية: 44]. وكان الصحابة وقتئذ عربا خلّصا، متمتعين بجميع خصائص العروبة ومزاياها الكاملة من قوة في الحافظة، وذكاء في القريحة، وتذوق للبيان، وتقدير للأساليب، ووزن لما يسمعون بأدق المعايير، حتى أدركوا من علوم القرآن ومن إعجازه بسليقتهم وصفاء فطرتهم، ما لا نستطيع نحن أن ندركه مع زحمة العلوم، وكثرة الفنون. وكان الصحابة رضوان الله عليهم مع هذه الخصائص أميين، وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لديهم، والرسول صلّى الله عليه وسلم نهاهم أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن، وقال لهم أول العهد بنزول القرآن فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه. وحدثوا عني ولا حرج. ومن كذب

عهد التمهيد لتدوين علوم القرآن

عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». وذلك مخافة أن يلتبس القرآن بغيره، أو يختلط بالقرآن ما ليس منه، مادام الوحي نازلا بالقرآن، فلتلك الأسباب المتضافرة لم تكتب علوم القرآن، كما لم يكتب الحديث الشريف إلا عدد محدود في آخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، ومضى الرعيل الأول على ذلك في عهد الشيخين أبي بكر وعمر. ولكن الصحابة كانوا مضرب الأمثال في نشر الإسلام وتعاليمه، والقرآن ومفاهيمه، وتعليم السنة ونقلها إلى غيرهم تلقينا لا تدوينا، ومشافهة لا كتابة. عهد التمهيد لتدوين علوم القرآن ثم جاءت خلافة عثمان رضي الله عنه، وقد اتسعت رقعة الإسلام، واختلط العرب الفاتحون بالأمم التي لا تعرف العربية، وخيف أن تذوب خصائص العروبة من جراء هذا الفتح والاختلاط، بل خيف على القرآن نفسه أن يختلف المسلمون فيه إن لم يجتمعوا على مصحف إمام، فتكون فتنة في الأرض وفساد كبير. لهذا أمر رضي الله عنه أن يجمع القرآن في مصحف إمام، وأن تنسخ منه مصاحف يبعث بها إلى أقطار الإسلام، وأن يحرق الناس كل ما عداها ولا يعتمدوا سواها كما يأتيك تفصيله في مبحث «جمع القرآن وكتابته». وبهذا العمل وضع عثمان رضي الله عنه الأساس لما نسميه «علم رسم القرآن أو علم الرسم العثماني». ثم جاء عليّ رضي الله عنه فلاحظ العجمة تحيف على اللغة العربية، وسمع ما أوجس منه خيفة على لسان العرب، فأمر أبا الأسود الدؤلي أن يضع بعض قواعد لحماية لغة القرآن من العبث والخلل، وخط له الخطط وشرع له المنهج، وبذلك يمكننا أن نعتبر أن عليّا رضي الله عنه قد وضع الأساس لما نسميه علم النحو، ويتبعه علم إعراب القرآن (على الخلاف في هذه الرواية). ثم انقضى عهد الخلافة الرشيدة، وجاء عهد بني أمية، وهمة مشاهير الصحابة والتابعين متجهة إلى نشر علوم القرآن بالرواية والتلقين، لا بالكتابة والتدوين، ولكن هذه الهمة يصح أن نعتبرها تمهيدا لتدوينها، وعلى رأس من ضرب بسهم وفير في هذه الرواية: الأربعة الخلفاء، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وكلهم من الصحابة رضوان الله عليهم. وعلى رأس التابعين في تلك الرواية: مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن البصري، وسعيد بن

عهد التدوين لعلوم القرآن

جبير، وزيد بن أسلم بالمدينة، وعنه أخذ ابنه عبد الرحمن، ومالك بن أنس من تابعي التابعين رضي الله عنه أجمعين، وهؤلاء جميعا يعتبرون واضعي الأساس لما يسمى علم التفسير، وعلم أسباب النزول، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم غريب القرآن ونحو ذلك. وستجد بسطا لهذا الإجماع في بحث طبقات المفسرين. عهد التدوين لعلوم القرآن ثم جاء عصر التدوين، فألفت كتب في أنواع علوم القرآن، واتجهت الهمم قبل كل شيء إلى التفسير باعتباره أم العلوم القرآنية لما فيه من التعرض لهذه العلوم في كثير من المناسبات عند شرح الكتاب العزيز. ومن أوائل الكاتبين في التفسير: شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وتفاسيرهم جامعة لأقوال الصحابة والتابعين، وهم من علماء القرن الثاني. ثم تلاهم ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ، وكتابه أجل التفاسير وأعظمها؛ لأنه أول من تعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، كما تعرض للإعراب والاستنباط. وبقيت العناية بالتفسير قائمة إلى عصرنا هذا حتى وجدت منه مجموعة رائعة فيها المعجب والمطرب، والموجز والمطول والمتوسط، ومنها التفسير بالمعقول، والتفسير بالمأثور، ومنها تفسير القرآن كله، وتفسير جزء، وتفسير سورة، وتفسير آية، وتفسير آيات الأحكام، إلى غير ذلك. أما علوم القرآن الأخرى ففي مقدمة المؤلفين فيها: علي بن المديني شيخ البخاري، إذ ألف في أسباب النزول، وأبو عبيد القاسم بن سلام إذ كتب في الناسخ والمنسوخ، وكلاهما من علماء القرن الثالث. وفي مقدمة من ألف في غريب القرآن: أبو بكر السجستاني، وهو من علماء القرن الرابع. وفي طليعة من صنف في إعراب القرآن: علي بن سعيد الحوفي، وهو من علماء القرن الخامس، ومن أوائل من كتب في مبهمات القرآن: أبو القاسم عبد الرحمن المعروف بالسبيلي، وهو من علماء القرن السادس. كذلك تصدى للتأليف في مجاز القرآن: ابن عبد السلام، وفي القراءات: علم الدين السخاوي، وهما من علماء القرن السابع. وهكذا قويت العزائم، وتبارت الهمم، ونشأت علوم جديدة للقرآن. وظهرت مؤلفات في كل نوع منها، سواء في ذلك أقسام القرآن، وأمثال القرآن،

وحجج القرآن، وبدائع القرآن، ورسم القرآن، وما أشبهها مما يروعك تصوره والاطلاع عليه، ومما يملأ خزائن كاملة من أعظم المكتبات في العالم. ثم لا يزال المؤلفون إلى عصرنا هذا يزيدون، وعلوم القرآن ومؤلفاته تنمو وتزدهر. أليس ذلك إعجازا آخر للقرآن يريك إلى أي حد بلغ علماء الإسلام في خدمة التنزيل. ويريك أنه كتاب لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي معارفه، ولن يستطيع أن يحيط بأسراره إلا صاحبه ومنزله؟. وإذا أضفت إلى علوم القرآن ما جاء في الحديث النبوي الشريف وعلومه وكتبه وبحوثه باعتبارها من علوم القرآن، نظرا إلى أن الحديث شارح للقرآن يبين مبهماته، ويفصل مجملاته، ويخصص عامّه، كما قال سبحانه لنبيه صلّى الله عليه وسلم: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل آية: 44]. أقول: إذا أضفت الحديث النبوي وعلومه إلى علوم القرآن تراءى لك بحر متلاطم الأمواج. وتزداد عجبا إذا علمت أن طريقة أولئك المؤلفين في تأليفهم كانت طريقة استيعاب واستقصاء بحيث يقصد أصحابها أن يحيطوا بجزئيات القرآن من الناحية التي كتبوا فيها بقدر طاقتهم البشرية. فمن يكتب في غريب القرآن مثلا يذكر كل مفرد من مفردات القرآن التي فيها غرابة وإبهام. ومن يكتب في مجاز القرآن يقتفي أثر كل لفظ فيه مجاز أيّا كان نوعه في القرآن. ومن يكتب في أمثال القرآن يتحدث عن كل مثل ضربه الله في القرآن، وهكذا سائر أنواع علوم القرآن. ولهذا اشرأبت أعناق العلماء أن يعتصروا من تلك العلوم علما جديدا يكون كالفهرس والدليل عليها، والمتحدث عنها. فكان هذا العلم هو ما نسميه «علوم القرآن» بالمعنى المدون، ولا نعلم أن أحدا قبل المائة الرابعة للهجرة ألّف أو حاول أن يؤلف في علوم القرآن بالمعنى المدون؛ لأن الدواعي لم تكن موفورة لديهم نحو هذا النوع من التأليف. وإن كنا نعلم أنها كانت مجموعة في صدور المبرزين من العلماء، على الرغم من أنهم لم يدونوها في كتاب، ولم يفردوها باسم. أجل: كانت علوم القرآن مجموعة في صدور هؤلاء العلماء. فنحن نقرأ في تاريخ الشافعي رضي الله عنه أنه أثناء محنته التي اتهم فيها بأنه رئيس حزب العلويين باليمن، وسيق بسبب هذه التهمة إلى الرشيد مكبلا بالحديد في بغداد، سأله الرشيد حين لمح علمه وفضله، فقال: كيف علمك يا شافعي بكتاب الله عزّ وجلّ؟ فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به؟ فقال الشافعي: عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين؟ فإن الله تعالى قد أنزل

أول عهد لظهور هذا الاصطلاح

كتبا كثيرة. قال الرشيد: قد أحسنت، لكن إنما سألت عن كتاب الله المنزل على ابن عمي محمد صلّى الله عليه وسلم. فقال الشافعي: إن علوم القرآن كثيرة، فهل تسألني عن محكمه ومتشابهه، أو عن تقديمه وتأخيره، أو عن ناسخه ومنسوخه، أو عن ... ، أو عن ... ؟؟ وصار يرد عليه من علوم القرآن، ويجيب عن كل سؤال بما أدهش الرشيد والحاضرين. فأنت ترى من جواب الشافعي هذا، ومن نطقه بالحكمة في هذا الموقف الرهيب ما يدلك على أن قلوب أكابر العلماء كانت أوعية لعلوم القرآن من قبل أن تجمع في كتاب. ونحن لا نستبعد على الشافعي هذا، فقد كان آية من آيات الله في علمه وذكائه، وفي ابتكاره وتجديده، وفي قوة حجته وتوفيقه. حتى إنه وضع كتابه (الحجة) في العراق يستدرك به على مذاهب أهل الرأي، وألف في مصر كتبا يستدرك بها على مذاهب بعض أهل الحديث ثم وضع دستورا للاجتهاد والاستنباط لم يتسن لأحد قبله، إذ كان أول من صنف في أصول الفقه وهو من علوم القرآن كما علمت. قال ابن خلدون في مقدمته: «كان أول من كتب فيه- أي علم أصول الفقه- الشافعي رضي الله عنه، أملى فيه رسالته المشهورة، تكلم فيها على الأوامر والنواهي، والبيان، والخبر، والنسخ، وحكم العلة المنصوصة من القياس اهـ. أول عهد لظهور هذا الاصطلاح لقد كان المعروف لدى الكاتبين في تاريخ هذا الفن، أن أول عهد ظهر فيه هذا الاصطلاح أي اصطلاح علوم القرآن، وهو القرن السابع. لكني ظفرت في دار الكتب المصرية بكتاب لعليّ بن إبراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي المتوفى سنة 330 هـ اسمه «البرهان في علوم القرآن» وهو يقع في ثلاثين مجلدا، والموجود منه الآن خمسة عشر مجلدا، من نسخة مخطوطة، وإذا نستطيع أن نتقدم بتاريخ هذا الفن إلى بداية القرن الرابع. ثم جاء القرن السادس فألف فيه ابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ كتابين: أحدهما اسمه: «فنون الأفنان في علوم القرآن»، والثاني اسمه: «المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن». وكلاهما مخطوط بدار الكتب المصرية. وفي القرن السابع ألف علم الدين السخاوي المتوفى سنة 641 هـ كتابا سماه: «جمال القراء». وألف أبو شامة المتوفى سنة 665 هـ كتابا أسماه: «المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز» وهما- كما قال السيوطي:- عبارة عن طائفة يسيرة ونبذ

جمع القرآن وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها

قصيرة بالنسبة للمؤلفات التي ألفت بعد ذلك في هذا النوع. ثم أهلّ القرن الثامن فكتب فيه بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794 هـ كتابا سماه «البرهان في علوم القرآن» يقع في مجلدين ناقصين. ثم طلع القرن التاسع على هذا العلم باليمن والبركة، فدرج فيه وترعرع، إذ ألف محمد ابن سليمان الكافيجي المتوفى سنة 873 هـ كتابا يقول السيوطي عنه: «إنه لم يسبق إليه». وفي هذا القرن التاسع أيضا ألف السيوطي كتابا سماه: «الإتقان في علوم القرآن» وهو عمدة الباحثين والكاتبين في هذا الفن. ذكر فيه ثمانين نوعا من أنواع علوم القرآن على سبيل الإجمال والإدماج، ثم قال بعد أن سردها نوعا نوعا: «ولو نوعت باعتبار ما أدمجته فيها لزادت على الثلاثمائة» اه. وتوفي السيوطي رحمه الله سنة 911 هـ في مفتتح القرن العاشر، وكأن نهايته كانت نهاية لنهضة التأليف في علوم القرآن (عليه سحائب الرحمة والرضوان) فلم نر من سار في هذا المضمار مثله بعده، كما لم نر من بزه فيه قبله. اه. مناهل. باختصار. جمع القرآن وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها كان القرآن في مدة النبي صلّى الله عليه وسلم متفرقا في صدور الرجال، وقد كتب الناس منه في صحف وفي جريد، وفي لخاف، وظرر، وفي خزف وغير ذلك. قال الأصمعي: اللخاف: حجارة بيض رقاق واحدتها لخفة. والظرر: حجر له حدّ كحد السكين والجمع ظرار، مثل رطب ورطاب، وربع ورباع. فلم استحرّ القتل بالقرّاء يوم اليمامة في زمن الصديق رضي الله عنه، وقتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل سبعمائة، أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء، كأبيّ، وابن مسعود، وزيد، فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك، فجمعه غير مرتب السور بعد تعب شديد رضي الله عنه. روى البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلى أبي بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القراء إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر؛ قال زيد: وعنده عمر جالس لا يتكلم، فقال لي أبو

بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن؛ قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر؛ فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب، وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخرها. فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر. وقال الترمذي في حديثه عنه: فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [قال: حديث حسن صحيح]. وفي البخاري عن زيد بن ثابت قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. فإن قيل: فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه، وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك وفرغ منه؟ قيل: إن عثمان رضي الله عنه لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف، ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردّها إليك على ما يأتي؛ وإنما فعل ذلك عثمان؛ لأن الناس اختلفوا في القراءات بسبب تفرق الصحابة في البلدان واشتد الأمر في ذلك وعظم اختلافهم وتشبثهم ووقع بين أهل الشام والعراق ما ذكره حذيفة رضي الله عنه وذلك أنهم اجتمعوا في غزوة أرمينية فقرأت كل طائفة بما روي لها، فاختلفوا وتنازعوا وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه وتلاعنوا، فأشفق حذيفة مما رأى منهم، فلما قدم حذيفة المدينة «فيما ذكر البخاري والترمذي» دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى بيته، فقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك، قال: في ماذا؟ قال: في كتاب الله، إني حضرت هذه الغزوة وجمعت ناسا من العراق والشام والحجاز فوصف له ما تقدم، وقال: إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى، قلت: وهذا أدل دليل على بطلان من قال: إن المراد بالأحرف

السبعة قراءة القراء السبعة؛ لأن الحق لا يختلف فيه، وقد روى سويد بن غفلة عن علي ابن أبي طالب أن عثمان قال: ما ترون في المصاحف فإن الناس قد اختلفوا في القراءة حتى إن الرجل ليقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وقراءتي أفضل من قراءتك، وهذا شبيه بالكفر، قلنا: ما الرأي عندك يا أمير المؤمنين؟. قال: الرأي عندي أن يجتمع الناس على قراءة، فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا، قلنا: الرأي رأيك يا أمير المؤمنين. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاصي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق، وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم في ذلك، فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت من القراءات المشهورة عن النبي صلّى الله عليه وسلم واطّراح ما سواها، واستصوبوا رأيه وكان رأيا سديدا موفقا رحمة الله عليه وعليهم أجمعين. قال ابن شهاب: وأخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال،: يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر؟ يريد زيد بن ثابت. قال أبو بكر الأنباري: ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر وعمر وعثمان على عبد الله بن مسعود في جمع القرآن، وعبد الله أفضل من زيد، وأقدم في الإسلام وأكثر سوابق وأعظم فضائل، إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد الله إذ وعاه كله، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم حي، والذي حفظ منه عبد الله في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم نيف وسبعون سورة، ثم تعلّم الباقي بعد وفاة الرسول، فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول الله صلّى الله عليه وسلم حي أولى بجمع المصحف وأحق بالإيثار والاختيار، ولا ينبغي أن يظن جاهل أن في هذا طعنا على عبد الله بن مسعود؛ لأن زيدا إذا كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبا لتقدمته عليه؛ لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كان زيد أحفظ منهما للقرآن، وليس هو خيرا منهما، ولا مساويا لهما في الفضائل والمناقب. ونسخ منها عثمان نسخا، قال غيره: قيل سبعة، وقيل أربعة، وهو الأكثر، ووجّه بها

ترتيب آيات القرآن وسورة

إلى الآفاق، فوجه للعراق والشام ومصر بأمهات، فاتخذها قراء الأمصار معتمد اختياراتهم ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه، وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم على بعض وينقصها بعضهم فذلك لأن كلّا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه؛ إذ قد كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ ولم يكتبها في بعض إشعارا بأن كل ذلك صحيح، وأن القراءة بكل منها جائزة. قال ابن عطية: ثم إن عثمان أمر بما سواها من المصاحف أن تحرق، أو تخرق- تروى بالحاء غير منقوطة وتروى بالخاء على معنى «تدفن» - ورواية الحاء غير منقوطة أحسن. وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد عن سويد بن غفلة قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: يا معشر الناس: اتقوا الله وإياكم والغلق في عثمان وقولكم: حرّاق المصاحف، فو الله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم. وعن عمر بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان. قال أبو الحسن بن بطال: وفي أمر عثمان بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى، وأن ذلك إكرام لها وصيانة عن الوطء بالأقدام، وطرحها في ضياع من الأرض. روى معمر عن ابن طاووس عن أبيه: أنه كان يحرق الصحف إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم الله الرحمن الرحيم. وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرة. وكره إبراهيم أن تحرق الصحف إذا كان فيها ذكر الله تعالى، وقول من حرقها أولى بالصواب، وقد فعله عثمان؛ وقد قال القاضي أبو بكر لسان الأمة: جائز للإمام تحريق الصحف التي فيها القرآن، إذا أدّاه الاجتهاد إلى ذلك. اه ملخصا من مقدمة القرطبي. ترتيب آيات القرآن وسوره انعقد إجماع الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على هذا النمط الذي نراه اليوم بالمصاحف، كان بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلم عن الله تعالى، وأنه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه. بل كان جبريل ينزل بالآيات على الرسول صلّى الله عليه وسلم ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها. ثم يقرؤها النبي صلّى الله عليه وسلم على أصحابه، ويأمر كتاب الوحي بكتابتها معيّنا لهم السورة التي تكون فيها الآية، وموضع الآية من هذه السورة. وكان يتلوه عليهم مرارا وتكرارا في صلاته وعظاته. وكان يعارض به جبريل كل عام مرة، وعارضه به في العام

الأخير مرتين. كل ذلك كان على الترتيب المعروف لنا في المصاحف. وكذلك كان كل من حفظ القرآن أو شيئا منه من الصحابة، حفظه مرتب الآيات على هذا النمط، يتدارسونه فيما بينهم، ويقرءونه في صلاتهم، ويأخذه بعضهم عن بعض، ويسمعه بعضهم من بعض بالترتيب القائم الآن، فليس لواحد من الصحابة والخلفاء الراشدين يد ولا تصرف في ترتيب شيء من آيات القرآن الكريم. بل الجمع الذي كان على عهد أبي بكر لم يتجاوز نقل القرآن من العسب واللخاف وغيرها في مصحف، والجمع الذي كان على عهد عثمان لم يتجاوز نقله من الصحف في مصاحف. وكلا هذين كان وفق الترتيب المحفوظ المستفيض عن النبي صلّى الله عليه وسلم عن الله تعالى. أجل: انعقد الإجماع على ذلك تامّا لا ريب فيه. وممن حكى هذا الإجماع جماعة منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر في المناسبات إذ يقول ما نصه: «ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلّى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين. واستند هذا الإجماع إلى نصوص كثيرة: منها ما سبق لك قريبا، ومنها ما رواه الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع من السورة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» [سورة النحل آية: 90]. ومنها ما ثبت في السنن الصحيحة من قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم بسور عديدة كسورة البقرة، وآل عمران، والنساء، ومن قراءته لسورة الأعراف في صلاة المغرب، وسورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وسورة «الروم» في صلاة الصبح، وقراءة سورة «السجدة» وسورة هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ في صبح يوم الجمعة، وقراءة سورتي «الجمعة والمنافقون» في صلاة الجمعة، وقراءته سورة «ق» في الخطبة، وسورتي «اقتربت وق» في صلاة العيد، كان يقرأ ذلك كله مرتب الآيات على النحو الذي في المصحف على مرأى ومسمع من الصحابة. ومنها ما رواه مسلم عن عمر قال: ما سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري: «تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء». فأنت ترى أنه صلّى الله عليه وسلم دله على موضع تلك الآية من سورة النساء، وهي قوله سبحانه: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إلخ.

ملاحظة:

ملاحظة: ذكر بعضهم أن كلمات القرآن 77439 تسع وثلاثون وأربعمائة وسبعة وسبعون ألف كلمة، وذكر بعضهم غير ذلك. قيل: وسبب الاختلاف في عدد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز، ولفظ ورسم، واعتبار كل منها جائز، وكل من العلماء اعتبر أحد ما هو جائز. قال السخاوي: لا أعلم لعدد الكلمات والحروف من فائدة؛ لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقصان، والقرآن لا يمكن فيه ذلك، وذكر ابن كثير أن عدد آيات القرآن 6000 ستة آلاف آية وأن عدد حروفه قيل: 321180 وقيل: 323015، وقيل: 340740 اه. ولكن ورد من الأحاديث في اعتبار الحروف ما أخرجه الترمذي عن ابن مسعود مرفوعا «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول «آلم» حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». ترتيب السور معنى السورة: السورة في اللغة تطلق على ما ذكره صاحب القاموس بقوله: والسورة: «المنزلة»، ومن القرآن معروفة؛ لأنها منزلة بعد منزلة: مقطوعة عن الأخرى، «والشرف» «وما طال من البناء وحسن»، «والعلامة»، «وعرق من عروق الحائط» اه. ويمكن تعريفها اصطلاحا بأنها: طائفة مستقلة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع. قالوا: وهي مأخوذة من سور المدينة. وذلك إما لما فيها من وضع كلمة بجانب كلمة، وآية بجانب آية، كالسور توضع كل لبنة فيه بجانب لبنة، ويقام كل صف منه على صف. وإما لما في السورة من معنى العلو والرفعة المعنوية الشبيهة بعلو السور ورفعته الحسية، وإما لأنها حصن وحماية لمحمد صلّى الله عليه وسلم، وما جاء به كتاب الله القرآن، ودين الحق الإسلام، باعتبار أنها معجزة تخرس كل مكابر، ويحق الله بها الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، أشبه بسور المدينة، يحصنها ويحميها من غارة الأعداء، وسطوة الأشقياء. وسور القرآن مختلفة طولا وقصرا، فأقصر سورة فيه سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات قصار، وأطول سورة فيه سورة البقرة، وهي خمس وثمانون أو ست وثمانون ومائتا

أقسام السور:

آية، وأكثر آياتها من الآيات الطوال، بل فيها آية الدّين التي هي أطول آية في القرآن كما سبق، وبين سورة البقرة وسورة الكوثر سور كثيرة تختلف طولا وتوسطا وقصرا. ومرجع الطول والقصر والتوسط وتحديد المطلع والمقطع إلى الله وحده، لحكم سامية علمها من علمها وجهلها من جهلها. أقسام السور: قسّم العلماء سور القرآن إلى أربعة أقسام، خصّوا كلّا منها باسم معين، وهي الطوال، والمئين، والمثاني، والمفصّل. فالطوال سبع سور: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، فهذه ستة، واختلفوا في السابعة أهي الأنفال وبراءة معا لعدم الفصل بينهما بالبسملة، أم هي سورة يونس؟؟. والمئون: هي السور التي تزيد آياتها على مائة أو تقاربها. والمثاني: هي التي تلي المئين في عدد الآيات، وقال الفراء: هي السور التي آيها أقل من مائة آية؛ لأنها تثنى أي «تكرّر» أكثر مما تثنّى الطوال والمئون. والمفصّل: هو أواخر القرآن، واختلفوا في تعيين أوله على اثني عشر قولا فقيل: أوله «ق»، وقيل: غير ذلك، وصحح النووي: أن أوله الحجرات، وسمي بالمفصل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، وقيل: لقلة المنسوخ منه، ولهذا يسمى المحكم أيضا، كما روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: «إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم». والمفصل ثلاثة أقسام: طوال، وأوساط، وقصار، فطواله من «أول الحجرات» إلى سورة «البروج»، وأوساطه من سورة «الطارق» إلى سورة لَمْ يَكُنِ، وقصاره من سورة إِذا زُلْزِلَتِ إلى آخر القرآن. المذاهب في ترتيب السور: اختلف في ترتيب السور على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن ترتيب السور على ما هو عليه الآن لم يكن بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلم، وإنما كان باجتهاد من الصحابة ، وينسب هذا القول إلى جمهور العلماء، منهم مالك والقاضي أبو بكر فيما اعتمده من قوليه. وإلى هذا المذهب يشير ابن فارس في كتاب «المسائل الخمس» بقوله: «جمع القرآن على ضربين»:

أحدهما: تأليف السور، كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين، فهذا هو الذي تولته الصحابة رضي الله عنهم، وأما الجمع الآخر وهو جمع الآيات في السور، فذلك شيء تولاه النبي صلّى الله عليه وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه عزّ وجل. وقد استدلوا على رأيهم هذا بأمرين: أولا: أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة في ترتيب السور قبل أن يجمع القرآن في عهد عثمان، فلو كان هذا الترتيب توقيفيّا منقولا عن النبي صلّى الله عليه وسلم ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجاوزوه ويختلفوا فيه ذلك الاختلاف الذي تصوره لنا الروايات. فهذا مصحف أبي بن كعب، روي أنه كان مبدوءا بالفاتحة ثم البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأنعام. وهذا مصحف ابن مسعود كان مبدوءا بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران .. إلخ على اختلاف شديد. وهذا مصحف عليّ كان مرتبا على النزول، فأوله «اقرأ» ثم «المدثر» ثم «ق»، ثم «المزمل»، ثم «تبت»، ثم «التكوير»، وهكذا إلى آخر المكي والمدني. ثانيا: ما أخرجه ابن أشته في المصاحف من طريق إسماعيل بن عباس عن حبان بن يحيى عن أبي محمد القرشي قال: «أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال فجعل سورة الأنفال وسورة التوبة في السبع، ولم يفصل بينهما «ببسم الله الرحمن الرحيم» اه. ولعله يشير بهذا إلى ما رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، ففرقتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فقال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من يكتب فيقول: «ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا»، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتهما في السبع الطوال» اه. ويمكن أن يناقش هذا المذهب بالأحاديث الدالة على التوقيف وسيأتيك في الاحتجاج للقول الثاني، ويمكن- أيضا- مناقشة دليلهم الأول باحتمال أن اختلاف من خالف من

القول الثاني: أن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم

الصحابة في الترتيب، إنما كان قبل علمهم بالتوقيف، أو كان في خصوص ما لم يرد فيه توقيف دون ما ورد فيه، ويمكن مناقشة دليلهم الثاني بأنه خاص بمحل وروده وهو سورة الأنفال والتوبة ويونس، فلا يصح أن يصاغ منه حكم عام على القرآن كله. القول الثاني: أن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول صلّى الله عليه وسلم كترتيب الآيات وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه صلّى الله عليه وسلم. واستدل أصحاب هذا الرأي بأن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كتب في عهد عثمان ولم يخالف منهم أحد، وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذي أجمعوا عليه عن توقيف؛ لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بمخالفتهم، لكنهم لم يتمسكوا بها بل عدلوا عنها وعن ترتيبهم، وعدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها، ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه جميعا، ثم ساقوا روايات لمذهبهم كأدلة يستند إليها الإجماع. منها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة الثقفي قال: «كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف، إلى أن جاء في هذه الرواية ما نصه: فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «طرأ عليّ حزب من القرآن، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه، فسألنا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا؟: نحزّبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من «ق» حتى نختم». قالوا: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. لكن هذه الدلالة غير ظاهرة فيما نفهم اللهمّ إلا في ترتيب حزب المفصل خاصة بخلاف ما سواه. واحتجوا لمذهبهم أيضا بأن السور المتجانسة في القرآن لم يلتزم فيها الترتيب والولاء، ولو كان الأمر بالاجتهاد للوحظ مكان هذا التجانس والتماثل دائما، لكن ذلك لم يكن، بدليل أن سور المسبّحات لم ترتب على التوالي بينما هي متماثلة في افتتاح كل منها بتسبيح الله، بل فصل بين سورها بسور «قد سمع»، «والممتحنة»، «والمنافقون» وبدليل أن «طسم الشعراء وطسم القصص» لم يتعاقبا مع تماثلهما بل فصل بينهما بسورة أقصر منهما وهي «طس» النمل وقد أيد هذا المذهب أبو جعفر النحاس فقال: «المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحديث وائلة» «أعطيت مكان التوراة السبع الطوال».

القول الثالث: أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة

وكذلك انتصر أبو بكر الأنباري لهذا المذهب فقال: أنزل الله القرآن إلى سماء الدنيا ثم فرّقه في بضع وعشرين سنة، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابا لمستخبر، ويقف جبريل النبيّ صلّى الله عليه وسلم على موضع السورة، والآيات، والحروف، كله من النبي صلّى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها أفسد نظم القرآن. وأخرج ابن أشته في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل: لم قدّمت البقرة وآل عمران وقد أنزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قدّمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه به، إلى أن قال: فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه. اه. القول الثالث: أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلم، وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة ، وقد ذهب إلى هذا الرأي فطاحل من العلماء، ولعله أمثل الآراء؛ لأنه وردت أحاديث تفيد ترتيب البعض- كما مر بك من الرأي الثاني القائل بالتوقيف- وخلا البعض الآخر مما يفيد التوقيف، بل وردت آثار تصرح بأن الترتيب في البعض كان عن اجتهاد كالحديث الآنف في القول الأول المروي عن ابن عباس. بيد أن المؤيدين لهذا المذهب اختلفوا في السور التي جاء ترتيبها عن توقيف. والسور التي جاء ترتيبها عن اجتهاد، فقال القاضي أبو محمد بن عطية: «إن كثيرا من السور قد علم ترتيبها في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم كالسبع الطوال والحواميم والمفصل، وأما ما سوى ذلك فيمكن أن يكون فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده». وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية، ويبقى فيها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف كقوله صلّى الله عليه وسلم: «اقرءوا الزهراوين؛ البقرة وآل عمران» [رواه مسلم]. وكحديث سعيد بن خالد: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالسبع الطوال في ركعة». رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصل في ركعة. وروى البخاري عن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلم قال في بني إسرائيل والكهف ومريم، وطه، والأنبياء: «إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي» قبل آل عمران؛ لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب، ولعله فعل ذلك لبيان الجواز، اه. والأمر على كل حال سهل، حتى لقد رأى الزركشي في البرهان: أن يجعل الخلاف من أساسه لفظيّا.

احترام هذا الترتيب:

احترام هذا الترتيب: وسواء أكان ترتيب السور توقيفيّا أم اجتهاديّا فإنه ينبغي احترامه خصوصا في كتابة المصاحف؛ لأنه عن إجماع الصحابة، والإجماع حجة، ولأن خلافه يجر إلى الفتنة، ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب. أما ترتيب السور في التلاوة فليس بواجب، وإنما هو مندوب، وإليك ما قاله الإمام النووي في كتابه «التبيان» إذ جاء في هذا الموضوع بما نصه: قال العلماء: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف فيقرأ الفاتحة، ثم البقرة، ثم آل عمران، ثم ما بعدها على الترتيب، سواء أقرأ في الصلاة أم في غيرها، حتى قال بعض أصحابنا: إذا قرأ في الركعة الأولى سورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ يقرأ في الثانية بعد الفاتحة من البقرة. وقال بعض أصحابنا: ويستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التي تليها، ودليل هذا أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة، فينبغي أن يحافظ عليها، إلا فيما ورد الشرع باستثنائه، كصلاة الصبح يوم الجمعة، يقرأ في الأولى سورة «السجدة» وفي الثانية هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، وصلاة العيد في الأولى «ق»، وفي الثانية اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وركعتي الفجر في الأولى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وفي الثانية قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، وفي الثالثة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين. ولو خالف الموالاة فقرأ سورة لا تلي الأولى، أو خالف الترتيب فقرأ سورة قبلها، جاز فقد جاءت بذلك آثار كثيرة، وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الركعة الأولى من الصبح بالكهف، وفي الثانية بيوسف. وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعا متأكدا؛ لأنه يذهب بعض ضروب الإعجاز، ويزيل حكمة ترتيب الآيات. وقد روى ابن أبي داود عن إبراهيم النخعي الإمام التابعي الجليل وعن الإمام مالك ابن أنس أنهما كرها ذلك وأن مالكا كان يعيبه ويقول: هذا عظيم، وأما تعليم الصبيان من آخر المصحف إلى أوله فحسن. وليس من هذا الباب، فأن ذلك قراءة متفاضلة في أيام متعددة، على ما فيه من تسهيل الحفظ عليهم. والله أعلم. اه. رحمه الله.

المكي والمدني من القرآن الكريم

المكي والمدني من القرآن الكريم الاصطلاحات في معنى المكي والمدني للعلماء في معنى المكي والمدني ثلاثة اصطلاحات: الاصطلاح الأول: أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني: ما نزل بالمدينة، ويدخل في مكة ضواحيها كالمنزل على النبي صلّى الله عليه وسلم بمنى وعرفات والحديبية، ويدخل في المدينة ضواحيها- أيضا- كالمنزل عليه في بدر وأحد، وهذا التقسيم لوحظ فيه مكان النزول كما ترى، لكن يرد عليه أنه غير ضابط ولا حاصر؛ لأنه لا يشمل ما نزل بغير مكة والمدينة وضواحيهما، كقوله سبحانه في سورة التوبة: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [سورة التوبة آية: 42]، فإنها نزلت بتبوك. وقوله سبحانه: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [سورة الزخرف آية: 45]، فإنها نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء. ولا ريب أن عدم الضبط في التقسيم يترك واسطة لا تدخل فيما يذكر من الأقسام، وذلك عيب يخل بالمقصود الأول من التقسيم، وهو الضبط والحصر. الاصطلاح الثاني: أن المكي: ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني: ما وقع خطابا لأهل المدينة، وعليه يحمل قول من قال: إن ما صدّر في القرآن بلفظ يا أَيُّهَا النَّاسُ فهو مكي، وما صدّر بلفظ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو مدني؛ لأن الكفر كان غالبا على أهل مكة فخوطبوا ب: يا أَيُّهَا النَّاسُ وإن كان غيرهم داخلا فيهم، ولأن الإيمان كان غالبا على أهل المدينة فخوطبوا ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وإن كان غيرهم داخلا فيهم- أيضا، وألحق بعضهم صيغة يا بَنِي آدَمَ بصيغة يا أَيُّهَا النَّاسُ. أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن عن ميمون بن مهران قال: ما كان في القرآن يا أَيُّهَا النَّاسُ أو يا بَنِي آدَمَ، فإنه مكي، وما كان ب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فإنه مدني. الاصطلاح الثالث وهو المشهور: أن المكي: ما نزل قبل هجرته صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإن كان نزوله بغير مكة، والمدني: ما نزل بعد هذه الهجرة وإن كان نزوله بمكة. وهذا التقسيم كما ترى لوحظ فيه زمن النزول، وهو تقسيم صحيح سليم؛ لأنه

فائدة العلم بالمكي والمدني

ضابط حاصر ومطّرد لا يختلف باختلاف سابقيه، ولذلك اعتمده العلماء، واشتهر بينهم. وعليه فآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة آية: 3]، مدنية مع أنها نزلت يوم الجمعة بعرفة في حجة الوداع. وكذلك آية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [سورة النساء آية: 58]. فإنها مدنية مع أنها نزلت بمكة في جوف الكعبة عام الفتح الأعظم، وقل مثل ذلك فيما نزل بأسفاره عليه السّلام كفاتحة سورة الأنفال، وقد نزلت ببدر، فإنها مدنية لا مكية على هذا الاصطلاح المشهور. فائدة العلم بالمكي والمدني من فوائد العلم بالمكي والمدني تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات من القرآن الكريم في موضوع واحد، وكان الحكم في إحدى هاتين الآيتين أو الآيات مخالفا للحكم في غيرها، ثم عرف أن بعضها مكي وبعضها مدني، فإننا نحكم بأن المدني منها ناسخ للمكي نظرا إلى تأخر المدني عن المكي. ومن فوائده أيضا: معرفة تاريخ التشريع وتدرجه الحكيم بوجه عام، وذلك يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية في تربية الشعوب والأفراد، وسيستقبلك في هذا المبحث فروق بين المكي والمدني تلاحظ فيها جلال هذه الحكمة. ومن فوائده أيضا: الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالما من التغيير والتحريف. ويدل على ذلك اهتمام المسلمين به كل هذا الاهتمام حتى ليعرفون ويتناقلون ما نزل منه قبل الهجرة وما نزل بعدها، وما نزل بالحضر وما نزل بالسفر، وما نزل بالنهار وما نزل بالليل، وما نزل بالشتاء وما نزل بالصيف، وما نزل بالأرض، وما نزل بالسماء إلى غير ذلك، فلا يعقل بعد هذا أن يسكتوا ويتركوا أحدا يمسه ويعبث به، وهم المتحمسون لحراسته وحمايته والإحاطة بكل ما يتصل به أو يحتفّ بنزوله إلى هذا الحد. الطريق الموصلة إلى معرفة المكي والمدني لا سبيل إلى معرفة المكي والمدني إلا بما ورد عن الصحابة والتابعين في ذلك؛ لأنه لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلم بيان للمكي والمدني. وذلك لأن المسلمين في زمانه لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان، كيف وهم يشاهدون الوحي والتنزيل، ويشهدون مكانه وزمانه وأسباب نزوله عيانا، «وليس بعد العيان بيان».

الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت؟ ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما نزلت؟ ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه». وقال أيوب: سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال: «نزلت في سفح ذلك الجبل» وأشار إلى سلع. اه. ولعل هذا التوجيه الذي ذكرته أولى مما ذكره القاضي أبو بكر في الانتصار؛ إذ يقول ما نصه: «ولم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلم في ذلك قول؛ لأنه لم يأمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول صلّى الله عليه وسلم». اه. قرطبي. الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني قد عرفنا فيما مضى أن مرد العلم بالمكي والمدني هو السماع عن طريق الصحابة والتابعين، بيد أن هناك علامات وضوابط يعرف بها المكي والمدني، وهاك ضوابط المكي. 1 - كل سورة فيها لفظ «كلا» فهي مكية، وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن ثلاثا وثلاثين مرة، في خمس عشرة سورة كلها في النصف الأخير من القرآن. قال الدريني رحمه الله: وما نزلت «كلا» بيثرب فاعلمن ... ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى قال العمّاني: «وحكمة ذلك أن نصف القرآن الأخير نزل أكثره بمكة، وأكثرها جبابرة، فتكررت فيه على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم، بخلاف النصف الأول. وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم اه. 2 - كل سورة فيها سجدة فهي مكية لا مدنية سوى سورة الحج. 3 - كل سورة في أولها حروف التهجي فهي مكية سوى سورة البقرة وآل عمران، فإنهما مدنيتان بالإجماع، وفي الرعد خلاف. 4 - كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم السابقة فهي مكية سوى البقرة. 5 - كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة أيضا. 6 - كل سورة فيها يأيها الناس، وليس فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهي مكية ولكنه ورد على هذا ما تقدم بين يديك من سورة الحج.

عدد السور المكية والمدنية والمختلف فيها

7 - كل سورة من المفصل فهي مكية. أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: «نزل المفصل بمكة فمكثنا حججا نقرؤه ولا ينزل غيره» لكن يردّ على هذا: أن بعض سور المفصل مدني نزل بعد الهجرة اتفاقا كسورة «النصر»، فإنها كانت من أواخر ما نزل بعد الهجرة، بل قيل إنها آخر ما نزل، كما في مبحث «أول ما أنزل وآخر ما أنزل»، فالأولى أن يحمل كلام ابن مسعود هذا على الكثرة الغالبة من سور المفصل لا على جميع سور المفصل. والمفصّل على وزن معظّم: هو السور الأخيرة من القرآن الكريم مبتدأة من سورة الحجرات على الأصح، وسميت بذلك لكثرة الفصل فيها بين السور بعضها وبعض من أجل قصرها، وقيل سميت بذلك لقلة المنسوخ فيها، فقولها قول فصل: لا نسخ فيه ولا نقض. أما ضوابط المدني فكما يأتي: 1 - كل سورة فيها الحدود والفرائض فهي مدنية. 2 - كل سورة فيها إذن بالجهاد وبيان لأحكام الجهاد فهي مدنية. 3 - كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية ماعدا سورة العنكبوت. والتحقيق أن سورة العنكبوت مكية ما عدا الآيات الإحدى عشرة الأولى منها فإنها مدنية- وهي التي ذكر فيها المنافقون. عدد السور المكية والمدنية والمختلف فيها نقل السيوطي في الإتقان أقوالا كثيرة في تعيين السور المكية والمدنية، من أوفقها ما ذكره أبو الحسن الحصار في كتابه «الناسخ والمنسوخ» إذ يقول: «المدني- باتفاق- عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة، وما عدا ذلك مكي بالاتفاق». ثم نظم في ذلك أبياتا رقيقة جامعة، وهو يريد بالسور العشرين المدنية بالاتفاق: سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والجمعة، والمنافقون، والطلاق، والتحريم، والنصر. ويريد بالسور الاثنتى عشرة المختلف فيها سورة الفاتحة، والرعد، والرحمن، والصف، والتغابن، والتطفيف، والقدر، ولم يكن، وإذا زلزلت، والإخلاص، والمعوذتين. ويريد بالسور المكية باتفاق ما عدا ذلك وهي اثنتان وثمانون سورة. وإلى هذا القسم

إنزالات القرآن

المكي يشير في منظومته بقوله: وما سوى ذاك مكيّ تنزّله ... فلا تكن من خلاف الناس في حصر فليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر وقد جرى هذا البيت مجرى الأمثال عند أهل العلم. اه. إنزالات القرآن شرّف الله هذا القرآن بأن جعل له ثلاثة إنزالات: الإنزال الأول: إلى اللوح المحفوظ، ودليله قول الله سبحانه: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [سورة البروج آية: 21، 22]. وكان هذا الوجود في اللوح بكيفية لا يعلمها إلا الله تعالى، ثم من أطلعه الله على غيبه، وكان جملة لا مفرّقا؛ لأنه الظاهر من اللفظ عند الإطلاق ولا صارف عنه. ولأن حكمة تنجيم القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلم لا يعقل تحقيقها في هذا الإنزال. وحكمة هذا الإنزال، ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح نفسه، وإقامته سجلا جامعا لكل ما قضى الله وقدر، وكل ما كان وما يكون فهو شاهد ناطق، ومظهر من أروع المظاهر الدالة على عظمة الله وعلمه، وإرادته، وحكمته، وواسع سلطانه وقدرته. الإنزال الثاني: كان إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، والدليل عليه قول الله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [سورة الدخان آية: 3]، وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر آية: 1] وقوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة آية: 185]. دلت هذه الآيات على أن القرآن أنزل في ليلة واحدة توصف بأنها مباركة أخذا من آية الدخان، وتسمى ليلة القدر أخذا من آية سورة القدر، وهي من ليالي شهر رمضان أخذا من آية البقرة. وإنما قلنا ذلك جمعا بين هذه النصوص في العمل بها، ودفعا للتعارض فيما بينها. ومعلوم بالأدلة القاطعة- كما يأتي- أن القرآن أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلم مفرقا لا في ليلة واحدة، بل في مدى سنين عددا. فتعين أن يكون هذا النزول الذي ذكرته هذه الآيات الثلاث نزولا آخر غير النزول على النبي صلّى الله عليه وسلم. وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول، وأنه في بيت العزة من السماء الدنيا. كما تدل الروايات الآتية: 1 - أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: «فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلّى الله عليه وسلم».

2 - وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: «أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. ثم قرأ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [سورة الفرقان آية: 33]. ووَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [سورة الإسراء آية: 106]. 3 - وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله ينزله على رسوله صلّى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض». 4 - وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال: أوقع في قلبي الشك قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وهذا أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم، وصفر، وشهر ربيع. فقال ابن العباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام. قال أبو شامة: رسلا: أي رفقا، وعلى مواقع النجوم: أي على مثل مساقطها. يريد أنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم مفرقا يتلو بعضه بعضا على تؤدة ورفق. هذه أحاديث من جملة أحاديث ذكرت في هذا الباب، وكلها صحيحة كما قال السيوطي، وهي أحاديث موقوفة على ابن عباس غير أن لها حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، لما هو مقرر من أن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات، حكمه حكم المرفوع. ولا ريب أن نزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء الغيب التي لا تعرف إلا من المعصوم صلّى الله عليه وسلم، وابن عباس لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات، فثبت الاحتجاج بها وكان هذا الإنزال جملة واحدة في ليلة واحدة هي ليلة القدر كما علمت؛ لأنه المتبادر من نصوص الآيات الثلاث السابقة، وللتنصيص على ذلك في الأحاديث التي عرضناها عليك. بل ذكر السيوطي أن القرطبي نقل حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا. وهناك قول ثان بنزول القرآن إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين ينزل في كل ليلة قدر منها ما يقدر الله إنزاله في كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجما في جميع السنة على النبي صلّى الله عليه وسلم.

الإنزال الثالث: كان على قلب النبي ص بواسطة جبرئيل ع

وثمة قول ثالث: أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأزمان على النبي صلّى الله عليه وسلم. وكأن صاحب هذا القول ينفي النزول جملة إلى بيت العزة في ليلة القدر. وذكروا قولا رابعا أيضا هو أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة، وأن جبريل نجمه على النبي صلّى الله عليه وسلم في عشرين سنة. ولكن هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة بمعزل عن التحقيق، وهي محجوجة بالأدلة التي سقناها بين يديك تأييدا للقول الأول. والحكمة في النزول، على ما ذكره السيوطي نقلا عن أبي شامة هي تفخيم أمره (أي القرآن) وأمر من نزل عليه بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم، وبإنزاله مرتين، مرة جملة، ومرة مفرقا. بخلاف الكتب السابقة، فقد كانت تنزل جملة مرة واحدة. الإنزال الثالث: [كان على قلب النبي ص بواسطة جبرئيل ع] هذا هو واسطة عقد الإنزالات؛ لأنه المرحلة الأخيرة التي منها شع النور على العالم، ووصلت هداية الله إلى الخلق، وكان هذا النزول بوساطة أمين الوحي جبريل يهبط به على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم، ودليله قول الله تعالى مخاطبا رسوله صلّى الله عليه وسلم: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سورة الشعراء آية: 193 - 195]. كيفية أخذ جبريل للقرآن؟ وعمن أخذ؟ هذا من أنباء الغيب، فلا يطمئن الإنسان إلى رأي فيه إلا إن ورد بدليل صحيح عن المعصوم صلّى الله عليه وسلم، وكل ما عثرنا عليه أقوال منثورة هنا وهناك. وأيّا ما تكن هذه الأقوال، فإن هذا الموضوع لا يتعلق به كبير غرض، ما دمنا نقطع بأن مرجع الإنزال هو الله تعالى وحده. ما الذي نزل به جبريل؟ ولتعلم في هذا المقام أن الذي نزل به جبريل على النبي صلّى الله عليه وسلم هو القرآن باعتبار أنه الألفاظ الحقيقية المعجزة من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس. وتلك الألفاظ هي كلام الله وحده، لا دخل لجبريل ولا لمحمد صلّى الله عليه وسلم في إنشائها وترتيبها. بل الذي رتبها أولا هو الله سبحانه تعالى، ولذلك تنسب له دون سواه، وإن نطق بها جبريل ومحمد، وملايين الخلق

من بعد جبريل ومحمد، من لدن نزول القرآن إلى يوم الساعة، وذلك كما ينسب الكلام البشري إلى من أنشأه ورتبه أولا دون غيره، ولو نطق به آلاف الخلائق في آلاف الأيام والسنين. فالله- جلت حكمته- هو الذي أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة، ولذلك لا يجوز إضافة القرآن على سبيل الإنشاء إلى جبريل أو محمد، ولا لغير جبريل ومحمد صلّى الله عليه وسلم. وقد أسفّ بعض الناس فزعم أن جبريل كان ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلم بمعاني القرآن والرسول صلّى الله عليه وسلم يعبر عنها بلغة العرب. وزعم آخرون أن اللفظ لجبريل وأن الله كان يوحي إليه المعنى فقط وكلاهما قول باطل أثيم، مصادم لصريح الكتاب والسنة والإجماع، ولا يساوي قيمة المداد الذي يكتب به. وعقيدتي أنه مدسوس على المسلمين في كتبهم، وإلا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ لمحمد أو لجبريل؟ ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله؟ مع أن الله يقول: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [سورة التوبة آية: 6]، إلى غير ذلك مما يطول بنا تفصيله. والحق أنه ليس لجبريل في هذا القرآن سوى حكايته للرسول وإيحائه إليه، وليس للرسول صلّى الله عليه وسلم في هذا القرآن سوى وعيه وحفظه، ثم حكايته وتبليغه، ثم بيانه وتفسيره، ثم تطبيقه وتنفيذه. إنا نقرأ في القرآن الكريم أنه ليس من إنشاء جبريل ولا محمد نحو قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [سورة النمل آية 6]. ونحو قوله تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي [سورة الأعراف آية: 203]. ونحو قوله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة يونس آية: 15]. ونحو قوله: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [سورة الحاقة آية: 44 - 47].

الفرق بين القرآن والسنة في الوحي

الفرق بين القرآن والسنة في الوحي إنّ ما ذكرناه هو تحقيق ما نزل على النبي صلّى الله عليه وسلم من القرآن. وإن كان قد نزل عليه أيضا غير القرآن. نقل السيوطي عن الجويني أنه قال: كلام الله المنزّل قسمان: «قسم» قال الله لجبريل: قل للنبي الذي أنت مرسل إليه، إن الله يقول: افعل كذا وكذا. وأمر بكذا وكذا، ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل جبريل على ذلك النبي «محمد صلّى الله عليه وسلم» وقال له ما قاله ربه، ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك: لمن يثق به: قل لفلان يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة، واجمع جندك للقتال، فإن قال الرسول: يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي، ولا تترك الجند يتفرق وحثهم على المقاتلة، لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة. «قسم آخر» قال الله لجبريل: اقرأ على النبي صلّى الله عليه وسلم هذا الكتاب، فنزل به جبريل من الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا» اه. قال السيوطي بعد ذلك: قلت: القرآن هو القسم الثاني: والقسم الأول هو السنة. كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن. ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى؛ لأن جبريل أداها بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى لأن جبريل أدى القرآن باللفظ، ولم يبح له أداؤه بالمعنى. والسر في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه، وأن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه. والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين: قسم يروونه بلفظ الموحى به، وقسم يروونه بالمعنى. ولو جعل كل مما يروى باللفظ لشق، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف فتأمل. اه. أقول: وهذا كلام نفيس، بيد أنه لا دليل أمامنا على أن جبريل كان يتصرف في الألفاظ الموحاة إليه في غير القرآن. وما ذكره الجويني فهو احتمال عقلي لا يكفي في هذا الباب. ثم إن هذا التقسيم خلا من قسم ثالث للكتاب والسنة، وهو الحديث القدسي الذي قاله الرسول حاكيا عن الله تعالى، فهو كلام الله تعالى أيضا، غير أنه ليست فيه خصائص القرآن التي امتاز بها عن كل ما سواه. ولله تعالى حكمة في أن

مدة نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم

يجعل من كلامه المنزل معجزا وغير معجز، لمثل ما سبق في حكمة التقسيم الآنف، من إقامة حجة للرسول ولدين الحق بكلام الله المعجز، ومن التخفيف على الأمة بغير المعجز؛ لأنه تصح روايته بالمعنى، وقراءة الجنب وحمله له ومسه إياه إلى غير ذلك. وصفوة القول في هذا المقام أن القرآن أوحيت ألفاظه من الله اتفاقا، وأن الحديث القدسي أوحيت ألفاظه من الله على المشهور، والحديث النبوي أوحيت معانيه في غير ما اجتهد فيه الرسول والألفاظ من الرسول صلّى الله عليه وسلم، بيد أن القرآن له خصائصه من الإعجاز والتعبد به ووجوب المحافظة على أدائه بلفظه ونحو ذلك. وليس للحديث القدسي والنبوي شيء من هذه الخصائص، والحكمة في هذا التفريق أن الإعجاز منوط بألفاظ القرآن، فلو أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه، وكان مظنة للتغيير والتبديل والاختلاف في أصل التشريع والتنزيل، أما الحديث القدسي والحديث النبوي فليست ألفاظهما مناط إعجاز، ولهذا أباح الله روايتهما بالمعنى، ولم يمنحهما تلك الخصائص والقداسة الممتازة التي منحها للقرآن الكريم، تخفيفا على الأمة ورعاية لمصالح الخلق في الحالين من منح ومنع، إن الله بالناس لرءوف رحيم اه. من مناهل العرفان باختصار وتصرف. مدة نزول القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم ابتدأ إنزال القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم من مبعثه عليه الصلاة والسلام، وانتهى بقرب انتهاء حياته الشريفة، وتقدر هذه المدة بعشرين أو ثلاثة وعشرين أو خمسة وعشرين عاما، تبعا للخلاف في مدة إقامته صلّى الله عليه وسلم في مكة بعد البعثة، أكانت عشر سنين أم ثلاث عشرة أم خمس عشرة. أما مدة إقامته في المدينة فعشر سنين اتفاقا كذلك قال السيوطي. ولكن بعض محققي تاريخ التشريع الإسلامي يذكر أن مدة مقامه صلّى الله عليه وسلم بمكة اثنتا عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما من 17 رمضان سنة 41 من مولده الشريف صلّى الله عليه وسلم إلى ربيع الأول سنة 54 منه. أما مدة إقامته في المدينة بعد الهجرة فهي تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام. من أول ربيع الأول سنة 54 من مولده إلى تاسع ذي الحجة سنة 63 منه. ويواقف ذلك سنة عشر من الهجرة. وهذا التحقيق قريب من القول بأن مدة إقامته صلّى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، وفي المدينة عشر سنين، وأن مدة الوحي بالقرآن ثلاثة وعشرون عاما.

دليل تنجيم هذا النزول

دليل تنجيم هذا النزول والدليل على تفرق هذا النزول وتنجيمه، قول الله- تعالت حكمته- في سورة الإسراء: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [سورة الإسراء آية: 106]. وقوله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [سورة الفرقان آية: 32، 33]. روي أن الكفار من يهود المشركين عابوا على النبي صلّى الله عليه وسلم نزول القرآن مفرقا، واقترحوا عليه أن ينزل جملة، فأنزل الله هاتين الآيتين ردّا عليهم، وهذا الرد يدل على أمرين: أحدهما: أن القرآن نزل مفرقا على النبي صلّى الله عليه وسلم. الثاني: أن الكتب السماوية من قبله نزلت جملة، كما اشتهر ذلك بين جمهور العلماء حتى كاد يكون إجماعا. الحكم والأسرار في تنجيم القرآن لتنجيم نزول القرآن الكريم آثار عدة وحكم كثيرة، نستطيع أن نجملها في أربع حكم رئيسية. الحكمة الأولى تثبيت فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلم، وتقوية قلبه ، وذلك من وجوه أربعة: الوجه الأول: أن في تجدد الوحي، وتكرار نزول الملك به من جانب الحق سبحانه وتعالى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم، سرورا يملأ قلب الرسول، وغبطة تشرح صدره، وكلاهما يتجدد عليه بسبب ما يشعر به من هذه العناية الإلهية وتعهد مولاه إياه في كل نوبة من نوبات هذا النزول. الوجه الثاني: أن في التنجيم تيسيرا عليه من الله في حفظه، وفهمه، ومعرفة أحكامه وحكمه، كما أن فيه تقوية لنفسه الشريفة على ضبط ذلك كله. الوجه الثالث: أن في تأييد حقه ودحض باطل عدوه- المرة بعد الأخرى- تكرارا للذة فوزه وفلجه بالحق والصواب، وشهوده لضحايا الباطل في كل مهبط للوحي والكتاب وكل ذلك مشجع للنفس مقوّ للقلب والفؤاد. الوجه الرابع: تعهد الله إياه عند اشتداد الخصام بينه وبين أعدائه بما يهون عليه هذه

الحكمة الثانية التدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علما وعملا

الشدائد. ولا ريب أن تلك الشدائد كانت تحدث في أوقات متعددة، فلا جرم كانت التسلية تحدث هي الأخرى في مرات متكافئة. فكلما آذاه خصمه، سلاه ربه، وتجيء تلك التسلية تارة عن طريق قصص الأنبياء والمرسلين التي لها في القرآن عرض طويل، وفيها يقول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [سورة هود آية: 120]. وتارة تجيء التسلية عن طريق وعد الله لرسوله بالنصر والتأييد والحفظ كما في قوله سبحانه: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [سورة الطور آية: 48]. وقوله سبحانه: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة آية: 67]، ونحو ما في سورتي الضحى، وألم نشرح، من الوعود الكريمة والعطايا العظيمة. وطورا تأتيه التسلية عن طريق إيعاد أعدائه وإنذارهم نحو قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر آية: 45]، وقوله سبحانه: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [سورة فصلت آية: 13]. وطورا آخر ترد التسلية في صورة الأمر الصريح بالصبر نحو قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف آية: 35]. أو في صورة النهي عن التفجع عليهم، والحزن منهم بنحو قوله تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ [سورة فاطر آية: 8]. ونحو قوله سبحانه: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [سورة النحل آية: 127]. ويمكن أن تندرج هذه الحكمة بوجوهها الأربعة تحت قول الله تعالى في بيان الحكمة من تنجيم القرآن كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [سورة الفرقان آية: 32]. الحكمة الثانية التدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علما وعملا ، وينضوي تحت هذا الإجمال أمور خمسة أيضا: أولها: تيسير حفظ القرآن على الأمة العربية، وهي كما علمت أمة أمية. وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لدى الكاتبين منهم على ندرتهم، وكانت مشتغلة بمصالحها المعاشية، وبالدفاع عن دينها الجديد، فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه، فاقتضت الحكمة العليا أن ينزله الله إليهم مفرقا ليسهل عليهم حفظه، ويتهيأ لهم استظهاره. ثانيها: تسهيل فهمه عليهم كذلك، مثل ما سبق في توجيه التيسير في حفظه.

ثالثها: التمهيد لكمال تخليهم عن عقائدهم الباطلة، وعباداتهم الفاسدة، وعاداتهم المرذولة، وذلك بأن يراضوا على هذا التخلي شيئا فشيئا، بسبب نزول القرآن عليهم كذلك شيئا فشيئا، فكلما نجح الإسلام معهم في هدم باطل، انتقل بهم إلى هدم آخر وهكذا كان يبدأ بالأهم ثم المهم، حتى انتهى بهم آخر الأمر إلى التخلص من تلك الأرجاس كلها، فطهرهم منها وهم لا يشعرون بعنت ولا حرج، وفطمهم عنها بسهولة ويسر، وكانت هذه سياسة رشيدة، لابد منها في تربية هذه الأمة المجيدة، لا سيما أنها كانت أبية معاندة، تتحمس لموروثاتها، وتستميت في الدفاع عما تعتقده من شرفها وتتهور في سفك الدماء وشن الغارات لأتفه الأسباب. رابعها: تربيتهم على العقائد الحقة، والعبادات الصحيحة، والأخلاق الفاضلة بتلك السياسة الرشيدة. ولهذا بدأ الإسلام بفطامهم عن الشرك والإباحية، وإحياء قلوبهم بعقائد التوحيد والجزاء، من جراء ما فتح عيونهم عليه من أدلة التوحيد، وبراهين البعث بعد الموت، وحجج الحساب والمسئولية والجزاء. ثم انتقل بهم بعد هذه المرحلة إلى العبادات فبدأهم بفرضية الصلاة قبل الهجرة، وثنى بالزكاة وبالصوم في السنة الثانية من الهجرة، وختم بالحج في السنة السادسة منها وكذلك كان الشأن في أهم التشريعات. أليس ذلك إعجازا للإسلام في سياسة الشعوب وتهذيب الجماعات وتربية الأمم؟ بلى، والتاريخ على ذلك من الشاهدين. خامسها: تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم الفينة بعد الفينة، والحين بعد الحين، من قصص الأنبياء والمرسلين، وما حصل لهم ولأتباعهم مع الأعداء والمخالفين، وما وعد الله به عباده الصالحين، من النصر والأجر والتأييد والتمكين. والآيات في ذلك كثيرة حسبك منها قول العلي الكبير: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [سورة النور: 55]. وقد صدق الله وعده، ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [سورة الأنعام آية 45].

الحكمة الثالثة مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها

الحكمة الثالثة مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها فكلما جد منهم جديد، نزل من القرآن ما يناسبه، وفصل الله لهم من أحكامه ما يوافقه، وتنتظم هذه الحكمة في أمور أربعة: أولها: إجابة السائلين على أسئلتهم عندما يوجهونها إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم سواء أكانت تلك الأسئلة لغرض التأكد من رسالته كما قال الله تعالى في جواب سؤال أعدائه إياه: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الإسراء آية: 85] وقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً [سورة الكهف آية: 83] ... إلخ. الآيات في هذا الموضوع من سورة الكهف، أو كانت لغرض معرفة حكم الله كقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [سورة البقرة آية: 219]. وقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [سورة البقرة آية: 220]. ولا ريب أن تلك الأسئلة كانت ترفع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة وعلى نوبات متعددة. ثانيها: مجاراة الأقضية والوقائع في حينها ببيان حكم الله فيها عند حدوثها ووقوعها. ومعلوم أن تلك الأقضية والوقائع لم تقع جملة، بل وقعت تفصيلا وتدريجا فلا مناص إذا من فصل الله فيها بنزول القرآن على وفقها تفصيلا وتدريجا. والأمثلة على هذا كثيرة، منها قول الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ إلى قوله: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة النور آية: 11 - 26]. ومن الأمثلة أيضا قوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ... إلى قوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة المجادلة آية: 1 - 4]. وهن ثلاث آيات نزلت عندما رفعت خولة بنت ثعلبة شكواها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أن زوجها أوس بن الصامت ظاهر منها، وجادلت الرسول بأن معها صبية صغارا إن ضمتهم إلى زوجها ضاعوا، وإن ضمتهم إليها جاعوا. ثالثها: لفت أنظار المسلمين إلى تصحيح أغلاطهم التي يخطئون فيها وإرشادهم إلى الصواب في الوقت نفسه. ولا ريب أن تلك الأغلاط كانت في أزمان متفرقة، فمن الحكمة أن يكون القرآن النازل في إصلاحها متكافئا معها في زمانها. اقرأ إن شئت قوله سبحانه: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [سورة آل عمران آية: 121] إلى آيات كثيرة بعدها، وكلها نزلت في غزوة أحد إرشادا

الحكمة الرابعة الإرشاد إلى مصدر القرآن وأنه كلام الله وحده

للمسلمين إلى مواضع أخطائهم في هذا الموقف الرهيب والمأزق العصيب. وكذلك اقرأ قوله سبحانه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة آية: 25 - 27]. وهي آيات تردع المؤمنين عن رذيلة الإعجاب والاغترار في يوم من أيام الله، وتلفت نظرهم إلى مقدار تدارك الله لهم في شدتهم، وإلى وجوب أن يتوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى ربهم. رابعها: كشف حال أعداء الله المنافقين، وهتك أستارهم، وسرائرهم للنبي صلّى الله عليه وسلم والمسلمين، كيما يأخذوا منهم حذرهم فيأمنوا شرهم، وحتى يتوب من شاء منهم، اقرأ إن شئت قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة آية: 8 - 20]. وهن ثلاث عشرة آية فضحت المنافقين كما فضحتهم سورة التوبة في كثير من الآيات، كما كشف القرآن أستارهم في كثير من المناسبات. الحكمة الرابعة الإرشاد إلى مصدر القرآن وأنه كلام الله وحده وأنه لا يمكن أن يكون كلام النبي صلّى الله عليه وسلم ولا كلام مخلوق سواه. وبيان ذلك أن القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره، فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك، ولا تخاذل كأنه حلقة مفرغة! أو كأنه سمط وحيد، وعقد فريد يأخذ بالأبصار: نظمت حروفه وكلماته، ونسقت جمله وآياته، وجاء آخره مساوقا لأوله، وبدا أوله مواتيا لآخره!! وهنا نتساءل: كيف اتسق للقرآن هذا التأليف المعجز، وكيف استقام له هذا التناسق المدهش؟ على حين أنه لم يتنزل جملة واحدة، بل تنزل آحادا مفرقة تفرّق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين عاما!!

الجواب: أننا نلمح هنا سرّا جديدا من أسرار الإعجاز، ونشهد سمة فذة من سمات الربوبية، ونقرأ دليلا ساطعا على مصدر القرآن، وأنه كلام الله الواحد الديان أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [سورة النساء آية 82]. وإلا فحدثني- بربك- كيف تستطيع أنت؟ أم كيف يستطيع الخلق جميعا أن يأتوا بكتاب محكم الاتصال والترابط، متين النسج والسرد، متآلف البدايات والنهايات مع خضوعه في التأليف لعوامل خارجة عن مقدور البشر، وهي وقائع الزمن وأحداثه التي يجيء كل جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعا لها، ومتحدثا عنها؟!. لا ريب أن هذا الانفصال الزماني وذاك الاختلاف الملحوظ بين هاتيك الدواعي، يستلزمان في مجرى العادة التفكك والانحلال، ولا يدعان مجالا للارتباط والاتصال بين نجوم هذا الكلام. أما القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه الناحية أيضا: نزل مفرقا منجما، ولكنه ثمّ مترابطا محكما وتفرقت نجومه تفرّق الأسباب، ولكن اجتمع نظمه اجتماع شمل الأحباب، ولم يتكامل نزوله إلا بعد عشرين عاما، ولكن تكامل انسجامه بداية وختاما!! أليس ذلك برهانا ساطعا على أنه كلام خالق القوى والقدر، ومالك الأسباب والمسببات، ومدبر الخلق والكائنات، وقيوم الأرض والسموات، ومالك الأسباب والمسببات، ومدبر الخلق والكائنات، وقيوم الأرض والسموات، العليم بما كان وما سيكون، الخبير بالزمان وما يحدث فيه من شئون؟؟ لاحظ فوق ما أسلفنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية أو آيات قال: «ضعوها في مكان كذا من سورة كذا» وهو بشر لا يدري (طبعا) ما ستجيء به الأيام، ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان، ولا يدرك ما سيحدث من الدواعي والأحداث فضلا عما سينزل من الله فيها، وهكذا يمضي العمر الطويل والرسول على هذا العهد، يأتيه الوحي بالقرآن نجما بعد نجم، وإذا القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتم، وينتظم ويتآخى، ويأتلف ويلتئم، ولا يؤخذ عليه أدنى تخاذل أو تفاوت، بل يعجز الخلق طرّا بما فيه من انسجام ووحدة وترابط: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود: آية 1]. وإنه ليستبين لك سر هذا الإعجاز، إذا ما علمت أن محاولة مثل هذا الاتساق والانسجام لن يمكن أن يأتي على هذا النمط الذي نزل به القرآن ولا على قريب من هذا النمط، لا في كلام الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولا في كلام غيره من البلغاء.

حقيقة الوحي وأنواعه وكيفياته

حقيقة الوحي وأنواعه وكيفياته أما الوحي فمعناه في لسان الشرع: أن يعلم الله تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم، ولكن بطريقة سرية خفية، غير معتادة للبشر، ويكون على أنواع شتى: - منه ما يكون مكالمة بين العبد وربه، كما كلم الله موسى تكليما. - ومنه ما يكون إلهاما يقذفه الله في قلب مصطفاه، على وجه من العلم الضروري لا يستطيع له دفعا ولا يجد فيه شكّا. - ومنه ما يكون مناما صادقا يجيء في تحققه ووقوعه كما يجيء فلق الصبح في تبلجه وسطوعه. - ومنه ما يكون بوساطة ملك كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثمّ أمين (وهو جبريل عليه السّلام). وذلك النوع هو أشهر الأنواع وأكثرها. ووحي القرآن كله من هذا القبيل، وهو المصطلح عليه بالوحي الجلي، قال الله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سورة الشعراء آية: 193 - 195]. ثم إن ملك الوحي يهبط هو الآخر على كيفيات شتى: فتارة يظهر للرسول في صورته الحقيقية الملكية، وتارة يظهر في صورة إنسان يراه الحاضرون ويستمعون إليه، وتارة يهبط على الرسول خفية فلا يرى، ولكن يظهر أثر التغير والانفعال على صاحب الرسالة صلّى الله عليه وسلم. والأدلة الشرعية على ما ذكرنا كثيرة في الكتاب والسنة منها قوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [سورة النجم آية: 3، 4]. ومنها الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة (صوت) الجرس، وهو أشده عليّ فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا. اه ملخصا من المناهل للزرقاني.

معرفة أول وآخر ما نزل من القرآن

معرفة أول وآخر ما نزل من القرآن - أول ما نزل اختلف في أول ما نزل من القرآن على أقوال: أحدها: وهو الصحيح الذي ذهب إليه أكثر الأئمة كما قال ابن حجر أنه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ لحديث بدء الوحي الذي رواه الشيخان. وأخرج الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدلائل وصححاه عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول سورة نزلت من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. القول الثاني: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. فقد روى الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قلت: أو اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. قال: أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري، نزلت فاستبطنت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي ثم نظرت إلى السماء فإذا هو «يعني جبريل» فأخذتني رجفة فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ» وأجاب القائلون بالقول الأول عن هذا الحديث بأن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار، وعبّر بعضهم عن هذا بقوله: أول ما نزل للنبوة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وأول ما نزل للرسالة يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، ويدل على ذلك قوله في حديث جابر: فإذا هو يعني جبريل، وذلك يدل على أنه رآه قبل هذه المرة. القول الثالث: سورة الفاتحة. ودليله حديث ضعيف أخرجه البيهقي في الدلائل كما أخرجه الواحدي. آخر ما نزل في آخر ما نزل اختلاف؛ فروى الشيخان عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [سورة النساء آية: 176]. وآخر سورة نزلت «براءة». وروى البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت آية الربا، وروى البيهقي عن عمر مثله والمراد بها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا [سورة البقرة آية: 278]. وأخرج النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: آخر شيء نزل من القرآن:

تنبيه:

وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [سورة البقرة آية: 281]. وأخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب قال آخر القرآن عهدا بالعرش: «آية الربا»، و «آية الدين». قلت: ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا، وآية وَاتَّقُوا يَوْماً، وآية الدّين؛ لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، ولأنها في قصة واحدة فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر وذلك صحيح، وقول البراء: آخر ما نزل: يَسْتَفْتُونَكَ أي في شأن الفرائض. وفي المستدرك عن أبيّ بن كعب قال: آخر آية نزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة [سورة التوبة آية: 128، 129]. وأخرج مسلم عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر آية: 1]. وأخرج الترمذي والحاكم عن عائشة قالت: آخر سورة نزلت «المائدة» فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ... الحديث. قال البيهقي: يجمع بين هذه الاختلافات إن صحت، بأن كل واحد أجاب بما عنده. وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وكلّ قاله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن، ويحتمل أن كلّا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو، ويحتمل- أيضا- أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول صلّى الله عليه وسلم مع آيات نزلت معها، فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب. تنبيه: من المشكل على ما تقدم قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [سورة المائدة آية: 3]. فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها، وقد صرح بذلك جماعة منهم السّدّي فقال: لم ينزل بعدها حلال ولا حرام مع أنّه ورد في آية الربا، والدّين، والكلالة أنها نزلت بعد ذلك. وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال: الأولى أن يتأوّل على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون لا يخالطهم المشركون ثم أيّده بما أخرجه من

طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا، فلما نزلت «براءة» نفي المشركون عن البيت وحج المسلمون، لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [سورة المائدة آية: 3]. اه من الإتقان للسيوطي باختصار وتصرف.

معرفة أسباب النزول

معرفة أسباب النزول في هذا النوع مسائل: [المسألة] الأولى: زعم زاعم أنه لا طائل تحت هذا الفن لجريانه مجرى التاريخ وأخطأ في ذلك، بل له فوائد: - منها: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. - ومنها: تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب. - ومنها: أن اللفظ قد يكون عامّا ويقوم الدليل على تخصيصه فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته فإن دخول صورة السبب قطعي وإخراجها بالاجتهاد ممنوع كما حكى الإجماع عليه القاضي أبو بكر في التقريب ولا التفات إلى من شذّ فجوّز ذلك. - ومنها: الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال. قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. وقال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. (وقد أشكل) على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا [سورة آل عمران آية: 188]. وقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون، حتى بيّن له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلّى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه» [أخرجه الشيخان]. وحكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معدي كرب أنهما كانا يقولان: الخمر مباحة، ويحتجان بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [سورة المائدة آية: 93]، ولو علما سبب نزولها لم يقولا ذلك وهو: أن ناسا قالوا لما حرمت الخمر: كيف بمن قتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس فنزلت؟!. [أخرجه أحمد والنسائي وغيرهما]. ومن ذلك قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ

المسألة الثانية: اختلف أهل الأصول: هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟

أَشْهُرٍ [سورة الطلاق آية: 4]. فقد أشكل معنى هذا الشرط على بعض الأئمة حتى قال الظاهرية: بأن الآيسة لا عدة عليها، إذا لم ترتب (أي تشك) وقد بيّن ذلك سبب النزول، وهو أنه لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد النساء قالوا: قد بقي عدد من عدد النساء لم يذكرن: الصغار والكبار فنزلت». أخرجه الحاكم بن أبي، فعلم بذلك أنّ الآية خطاب لمن لم يعلم حكمهن في العدة، وارتاب هل عليهن عدة أو لا؟ وهل عدتهن كاللاتي في سورة البقرة أو لا؟ فمعنى إِنِ ارْتَبْتُمْ: إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن. ومن ذلك قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [سورة البقرة آية: 115] فإنا لو تركنا ومدلول اللفظ، لا قتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرا ولا حضرا وهو خلاف الإجماع، فلما عرف سبب نزولها علم أنها في نافلة السفر أو فيمن صلى بالاجتهاد وبان له الخطأ على اختلاف الروايات في ذلك. (ومنها) دفع توهم الحصر، قال الشافعي- ما معناه- في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [سورة الأنعام آية: 145]: إن الكفّار لمّا حرّموا ما أحلّ الله، وأحلّوا ما حرم الله، وكانوا على المضادّة والمحادّة فجاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرّمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه، نازلا منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة فتقول: لا آكل اليوم إلا حلاوة، والغرض المضادّة لا النفي والإثبات على الحقيقة فكأنه تعالى قال: لا حرام إلا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، ولم يقصد حل ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل، قال إمام الحرمين: وهذا في غاية الحسن، ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية. المسألة الثانية: اختلف أهل الأصول: هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ والأصح عندنا الأول، وقد نزلت آيات في أسباب واتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها كنزول آية الظهار في سلمة بن صخر، وآية اللعان في شأن هلال بن أمية، وحدّ القذف في رماة عائشة ثم تعدّى إلى غيرهم، ومن لم يعتبر عموم اللفظ قال: خرجت هذه الآية ونحوها لدليل آخر كما قصرت آيات على أسبابها اتفاقا لدليل قام على ذلك. قال الزمخشري «في سورة الهمزة»: يجوز أن يكون السبب خاصّا، والوعيد عامّا ليتناول كل من باشر ذلك القبيح، وليكون ذلك جاريا مجرى التعريض. قلت: ومن الأدلة على اعتبار عموم اللفظ احتجاج الصحابة وغيرهم في وقائع

بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة. قال ابن جرير: حدثني محمد بن أبي معشر، أخبرنا أبو معشر نجيح، سمعت سعيدا المقبري يذكر محمد بن كعب القرظي، فقال سعيد: إن في بعض كتب الله: إن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر لبسوا لباس مسوح الضأن من اللين يجترون الدنيا بالدّين. فقال محمد بن كعب القرظي: هذا في كتاب الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [سورة البقرة آية: 204]، فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت، فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد. فإن قلت: فهذا ابن عباس لم يعتبر عموم قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [سورة آل عمران آية: 188] بل قصرها على ما أنزلت فيه من قصة أهل الكتاب، قلت: أجيب عن ذلك بأنه لا يخفى عليه أن اللفظ أعم من السبب لكنه بيّن أن المراد باللفظ خاص، ونظيره تفسير النبي صلّى الله عليه وسلم الظلم في قوله تعالى: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام آية: 82] بالشّرك من قوله سبحانه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان آية: 13]. مع فهم الصحابة العموم في كل ظلم. وقد ورد عن ابن عباس ما يدل على اعتبار العموم، فإنه قال به في آية السرقة مع أنها نزلت في امرأة سرقت. قال ابن أبي حاتم: حدثنا عليّ بن الحسين، نبأنا محمد بن أبي حماد، حدثنا أبو ثميلة ابن عبد المؤمن، عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [سورة المائدة آية: 38] أخاص أم عام؟ قال: بل عام. وقال ابن تيمية: قد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا، كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة سلمة ابن صخر، وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وإن قوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ [سورة المائدة آية: 49] نزلت في بني قريظة والنضير، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين، فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعيّن، وإنما غاية ما يقال: إنها تخص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ، والآية التي لها سبب معيّن إن كانت أمرا أو نهيا

تنبيه:

فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت خبرا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته. اه. تنبيه: قد علمت مما ذكر أن فرض المسألة في لفظ له عموم، أما آية نزلت في معيّن ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعا كقوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى [سورة الليل آية: 17، 18] فإنها نزلت في أبي بكر الصديق بالإجماع، وقد استدل بها الإمام فخر الدين الرازي مع قوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [سورة الحجرات آية: 13] على أنه أفضل الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ووهّم من ظن أن الآية عامة في كل من عمل عمله إجراء له على القاعدة، وهذا غلط فإن هذه الآية ليس فيها صيغة عموم إذ الألف واللام إنما تفيد العموم، إذا كانت موصولة أو معرّفة في جمع، زاد قوم أو «مفرد» بشرط أن لا يكون هناك عهد، واللام في الأتقى ليست موصولة؛ لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعا، والأتقى ليست جمعا بل هو مفرد والعهد موجود خصوصا مع ما تفيده صيغة أفعل من التمييز وقطع المشاركة، فبطل القول بالعموم وتعيّن القطع بالخصوص والقصر على من نزلت فيه رضي الله عنه. المسألة الثالثة: قال الواحدي: لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ، أو وقفوا على الأسباب وبحثوا عن علمها، وقد قال محمد بن سيرين: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: اتّق الله وقل سدادا ذهب الذين يعلمون فيما أنزل الله من القرآن. وقال غيره: معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا وربما لم يجزم بعضهم فقال: أحسب هذه الآية نزلت في كذا، كما أخرجه الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة (اسم موضع) فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير، ثم ارسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك. فتلون وجهه .. ». الحديث. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [سورة النساء آية: 65]. وقال الحاكم في علوم الحديث: إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن، أنها نزلت في كذا، فإنه حديث مسند، ومشى على هذا ابن الصلاح وغيره ومثلوه بما أخرجه مسلم عن جابر قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [سورة البقرة آية: 223].

تنبيه:

وقال ابن تيمية: قولهم: نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول: عنى بهذه الآية كذا. وقد تنازع العلماء في قول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند، فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله فيه، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند. اه. وقال الزركشي في البرهان: قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع. تنبيه: ما تقدم أنه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضا، لكنه مرسل، فقد يقبل إذا صح المسند إليه وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، أو اعتضد بمرسل آخر ونحو ذلك. المسألة الرابعة: [في أسباب نزول الآية] كثيرا ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسبابا متعددة، وطريق الاعتماد في ذلك أن ينظر إلى العبارة الواقعة. 1 - فإن عبّر أحدهم بقوله: نزلت في كذا، والآخر: نزلت في كذا وذكر أمرا آخر فقد تقدم أن هذا يراد به التفسير لا ذكر سبب النزول. فلا منافاة بين قوليهما إذا كان اللفظ يتناولهما. 2 - وإن عبّر واحد بقوله: نزلت في كذا وصرح الآخر بذكر سبب خلافه فهو المعتمد وذاك استنباط. مثاله: ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: أنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ في إتيان النساء في أدبارهن. وتقدم عن جابر ذكر سبب خلافه فالمعتمد حديث جابر؛ لأنه نقل، وقول ابن عمر استنباط منه، وقد وهّمه فيه ابن عباس، وذكر مثل حديث جابر، كما أخرجه أبو داود والحاكم. 3 - وإن ذكر واحد سببا وآخر سببا غيره، فإن كان إسناد أحدهما صحيحا دون الآخر فالصحيح هو المعتمد. مثاله: ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب. اشتكى النبي صلّى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فأنزل الله:

وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [سورة الضحى آية: 1 - 3]. وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة، عن حفص بن ميسرة، عن أمه، عن أمها، وكانت خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن جروا دخل بيت النبي صلّى الله عليه وسلم فدخل تحت السرير فمات فمكث النبي صلّى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي فقال: يا خولة ما حدث في بيت رسول الله؟ جبريل لا يأتيني فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم ترعد لحيته وكان إذا نزل عليه «الوحي» أخذته الرعدة فأنزل الله وَالضُّحى إلى قوله: فَتَرْضى. قال ابن حجر في شرح البخاري: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة؛ لكن كونها سبب نزول الآية غريب، وفي إسناده من لا يعرف فالمعتمد ما في الصحيح. ومن أمثلته أيضا ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها بضعة عشر شهرا، وكان يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل الله: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة آية: 144]. فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [سورة البقرة آية: 142] فأنزل الله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [سورة البقرة آية: 115]. وأخرج الحاكم وغيره، عن ابن عمر قال: نزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في التطوع. وأخرج الترمذي وضعفه من حديث عامر بن ربيعة قال: كنا سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزلت. وأخرج الدارقطني نحوه من حديث جابر بسند ضعيف أيضا. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: لما نزلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قالوا: إلى أين؟ فنزلت. مرسل. وأخرج عن قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه. فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة فنزلت. معضل غريب جدّا. فهذه خمسة أسباب مختلفة وأضعفها الأخير لإعضاله ثم ما قبله لإرساله، ثم ما قبله لضعف رواته والثاني صحيح لكنه قال: قد أنزلت في كذا ولم يصرح بالسبب والأول صحيح الإسناد وصرح فيه بذكر السبب فهو المعتمد.

ومن أمثلته أيضا ما أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال: خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد تعال فتمسح بآلهتنا وندخل معك في دينك وكان يحب إسلام قومه فرقّ لهم، فأنزل الله وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [سورة الإسراء آية: 73]. وأخرج ابن مردويه من طريق العوفي، عن ابن عباس أن ثقيفا قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: أجّلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا فإذا قبضنا الذي يهدى لها أحرزناه ثم أسلمنا فهمّ أن يؤجلهم فنزلت. هذا يقتضي نزولها بالمدينة وإسناده ضعيف، والأول يقتضي نزولها بمكة، وإسناده حسن وله شاهد عند أبي الشيخ عن سعيد بن جبير يرتقي به إلى درجة الصحيح فهو المعتمد. 4 - أن يستوي الإسنادان في الصحة فيرجح أحدهما بكون روايه حاضر القصة أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات. مثاله: ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم: لو سألتموه. فقالوا: حدثنا عن الروح فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه الوحي يوحي إليه حتى صعد الوحي ثم قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الإسراء آية: 85]. وأخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا: اسألوه عن الروح فسألوه فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية. فهذا يقتضي أنها نزلت بمكة والأول خلافه وقد رجح بأن ما رواه البخاري أصح من غيره وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة. 5 - أن يمكن نزولها عقيب السببين أو الأسباب المذكورة بأن لا تكون معلومة التباعد. مثاله: ما أخرجه البخاري من طريق عكرمة، عن ابن عباس، أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلّى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة أو حد في ظهرك» فقال يا رسول الله: إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فأنزل عليه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سورة النور آية: 6 - 9]. وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال: اسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعاب السائل، فأخبر عاصم عويمرا، فقال: والله لآتين

رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلأسألنه فأتاه فقال: «إنه قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن» الحديث. جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال بن أمية وصادف مجيء عويمر أيضا فنزلت في شأنهما معا وإلى هذا جنح النووي وسبقه الخطيب فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد. وأخرج البزار عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر: «لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به. قال: شرّا. قال: فأنت يا عمر. قال: كنت أقول: لعن الله الأعجز وإنه لخبيث. فنزلت». قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب. 6 - أن لا يمكن ذلك فيحمل على تعدد النزول وتكرره. مثاله: ما أخرجه الشيخان عن المسيب قال: لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية فقال: أي عمّ قل لا إله إلا الله أحاجّ لك بها عند الله فقال أبو جهل، وعبد الله: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال هو: على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك مالم أنه عنه فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ..... [سورة التوبة آية: 113]. وأخرج الترمذي وحسنه عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان، فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزلت. وأخرج الحاكم، وغيره عن ابن مسعود قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر، فجلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى، فقال: «إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، إني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي فأنزل عليّ ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ» فجمع بين هذه الأحاديث بتعدد النزول. ومن أمثلته أيضا ما أخرجه البيهقي والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد، وقد مثّل به، فقال: لأمثلن بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل والنبي صلّى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [سورة النحل آية: 126] إلخ السورة. وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار

تنبيه: (1)

أربعة وستون ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، فمثلوا بهم فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله وَإِنْ عاقَبْتُمْ الآية. فظاهره تأخير نزولها إلى الفتح، وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد. قال ابن الحصار: ويجمع أنها نزلت أولا بمكة قبل الهجرة مع السورة؛ لأنها مكية ثم ثانيا بأحد ثم ثالثا يوم الفتح تذكيرا من الله لعباده، وجعل ابن كثير من هذا القسم آية الروح. تنبيه: (1) قد يكون في إحدى القصتين «فتلا» فيهم الراوي فقال: فنزل. مثاله: ما أخرجه الترمذي، وصححه عن ابن عباس، قال: مر يهودي بالنبي صلّى الله عليه وسلم فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [سورة الزمر آية: 67]. والحديث في الصحيح بلفظ فتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو الصواب، فإن الآية مكية. ومن أمثلته أيضا: ما أخرجه البخاري عن أنس قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي. ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، ولم ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفا. قال: جبريل؟ قال: نعم. قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ [سورة البقرة آية: 97]. قال ابن حجر في شرح البخاري: ظاهر السياق أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ الآية ردّا على اليهود ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ، قال: وهذا هو المعتمد، فقد صح في سبب نزول الآية قصة غير قصة ابن سلام. تنبيه: (2) عكس ما تقدم أن يذكر سبب واحد في نزول الآيات المتفرقة ولا إشكال في ذلك فقد ينزل في الواقعة الواحدة آيات عديدة في سور شتى. مثاله: ما أخرجه الترمذي والحاكم عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ [سورة آل عمران آية: 195].

تنبيه: (3)

وأخرج الحاكم عنها- أيضا- قالت: قلت يا رسول الله: تذكر الرجال ولا تذكر النساء فأنزلت إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [سورة الأحزاب آية: 35]، وأنزلت أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [سورة آل عمران آية: 195]. وأخرج- أيضا- عنها أنها قالت: تغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [سورة النساء آية: 32]، وأنزل: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [سورة الأحزاب آية: 35]. ومن أمثلته- أيضا- ما أخرجه البخاري من حديث زيد بن ثابت، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أملى عليه: «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله» فجاء ابن أم مكتوم وقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [سورة النساء آية: 95]. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت- أيضا- قال: كنت أكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فإني لواضع القلم على أذني إذ أمر بالقتال فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى فقال: كيف لي يا رسول الله وأنا أعمى، فأنزلت لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ [سورة التوبة آية: 91]. ومن أمثلته: ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان، فطلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم فأنزل الله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا [سورة التوبة آية: 74]، وأخرجه الحاكم وأحمد بهذا اللفظ وآخره فأنزل الله يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة آية: 18]. تنبيه: (3) تأمل ما ذكرته لك في هذه المسألة واشدد به يديك، فإني حررته واستخرجته بفكري من استقراء صنيع الأئمة ومتفرقات كلامهم، ولم أسبق إليه. اه ملخصا من الإتقان للسيوطي.

ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة

ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة قال السيوطي في الإتقان: هو في الحقيقة نوع من أسباب النزول والأصل فيه موافقات عمر وقد أفردها بالتصنيف جماعة. أخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. قال ابن عمر: وما نزل بالناس أمر قط فقالوا وقال إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر. وأخرج ابن مردويه عن مجاهد قال: كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن. وأخرج البخاري وغيره عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة آية: 125]، وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلّى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت كذلك. وأخرج مسلم عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أسرى بدر، وفي مقام إبراهيم. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر: وافقت ربي أو وافقني ربي في أربع نزلت هذه الآية: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ... الآية. فلما نزلت قلت أنا: فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [سورة المؤمنون آية: 12 - 14]. وأخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن يهوديّا لقي عمر بن الخطاب فقال: إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا فقال عمر: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ [سورة البقرة آية: 98] قال: فنزلت على لسان عمر. وأخرج سنيد في تفسيره، عن سعيد بن جبير، أن سعيد بن معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة قال: سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [سورة النور آية: 16] فنزلت كذلك، وأخرج ابن أخي ميمي في فوائده عن سعيد بن المسيب قال: كان رجلان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم إذا سمعا شيئا من ذلك قالا: سبحانك هذا بهتان عظيم. زيد بن حارثة، وأبو أيوب فنزلت كذلك. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: لما أبطأ على النساء الخبر في أحد خرجن

يستخبرن، فإذا رجلان مقبلان على بعير، فقالت امرأة: ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: حي. قالت: فلا أبالي يتخذ الله من عباده الشهداء، فنزل القرآن على ما قالت وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ [سورة آل عمران آية: 140]. وقال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا الواقدي، حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه، قال: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فقطعت يده اليمنى، فأخذ اللواء بيده اليسرى، وهو يقول: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [سورة آل عمران آية: 144]. ثم قطعت يده اليسرى، فحني على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، وهو يقول: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ الآية ثم قتل، فسقط اللواء. قال محمد بن شرحبيل: وما نزلت هذه الآية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ يومئذ حتى نزلت بعد ذلك. «تذنيب» يقرب من هذا ما ورد في القرآن على لسان غير الصحابة كالنبي عليه الصلاة والسلام وجبريل والملائكة غير مصرح بإضافته إليهم ولا محكي بالقول كقوله: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [سورة الأنعام آية: 104] الآية. فإن هذا وارد على لسانه صلّى الله عليه وسلم لقوله آخرها: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. وقوله: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً [سورة مريم آية: 114] فإنه وارد أيضا على لسانه. وقوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [سورة مريم آية: 64]. وارد على لسان جبريل، وقوله: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [سورة الصافات آية: 164 - 166] وارد على لسان الملائكة، وكذا إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة آية: 5] وارد على ألسنة العباد. إلا أنه يمكن هنا تقدير القول: أي قولوا، وكذا الآيتان الأوليان يصح أن يقدر فيهما «قل» بخلاف الثالثة والرابعة. اه. من الإتقان.

ما تأخر حكمه عن نزوله وما تأخر نزوله عن حكمه

ما تأخر حكمه عن نزوله وما تأخر نزوله عن حكمه قال الزركشي في البرهان: قد يكون النزول سابقا على الحكم كقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [سورة الأعلى آية: 14، 15]، فقد روى البيهقي وغيره عن ابن عمر أنها نزلت في زكاة الفطر. وأخرج البزار نحوه مرفوعا. وقال بعضهم: لا أدري ما وجه هذا التأويل؛ لأن السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة ولا صوم. وأجاب البغوي؛ بأنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم، كما قال: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [سورة البلد آية: 1، 2] فالسورة مكية وقد ظهر أثر الحل يوم فتح مكة حتى قال عليه السّلام: أحلت لي ساعة من نهار وكذلك نزلت بمكة سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر آية: 45] قال عمر بن الخطاب: فقلت: «أيّ جمع؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فكانت ليوم بدر»، أخرجه الطبراني في الأوسط. وكذلك قوله: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [سورة ص آية: 11]. قال قتادة: «وعده الله وهو يومئذ بمكة أنه سيهزم جندا من المشركين فجاء تأويلها يوم بدر» [أخرجه ابن أبي حاتم]. ومثله أيضا قوله تعالى: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ [سورة سبأ آية: 49]. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله قُلْ جاءَ الْحَقُّ قال: السيف، والآية مكية متقدمة على فرض القتال، ويؤيد تفسير ابن مسعود ما أخرجه الشيخان من حديثه أيضا قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم مكة يوم فتح مكة وحول الكعبة ثلثمائة وستون نصبا فجعل يطعنها بعود كان في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. وما يبدئ الباطل وما يعيد. وقال ابن الحصار: قد ذكر الله الزكاة في السور المكيات كثيرا تصريحا وتعريضا وبأن الله سينجز وعده لرسوله، ويقيم دينه، ويظهره حتى يفرض الصلاة والزكاة وسائر الشرائع، ولم تؤخذ الزكاة إلا بالمدينة بلا خلاف، وأورد من ذلك قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [سورة الأنعام آية: 141]. وقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [سورة المزمل آية: 20]، ومن ذلك قوله فيها: وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ومن ذلك قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً

[سورة فصلت آية: 33]. فقد قالت عائشة، وابن عمر، وعكرمة، وجماعة: إنها نزلت في المؤذنين والآية مكية ولم يشرع الأذان إلا بالمدينة. ومن أمثلة ما تأخر نزوله عن حكمه: آية الوضوء. ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ونزل فثنى رأسه في حجري راقدا، وأقبل أبو بكر، فلكزني لكزة شديدة وقال: حبست الناس في قلادة، ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح، فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إلى قوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة آية: 6]، فالآية مدنية إجماعا وفرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلاة. قال ابن عبد البر: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صلّى الله عليه وسلم لم يصلّ منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند. قال: والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به؛ ليكون فرضه متلوّا بالتنزيل. وقال غيره: يحتمل أن يكون أول الآية نزل مقدما مع فرض الوضوء، ثم نزل بقيتها، وهو ذكر التيمم في هذه القصة. قلت: يرده الإجماع على أن الآية مدنية. ومن أمثلته أيضا: آية الجمعة فإنها مدنية والجمعة فرضت بمكة. وقول ابن الغرس: إن إقامة الجمعة لم تكن بمكة قط، يرده ما أخرجه ابن ماجه عن عبد الرحمن بن كعب ابن مالك، قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان، يستغفر لأبي أمامة، أسعد بن زرارة، فقلت: يا أبتاه أرأيت صلاتك على أسعد بن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لم هذا؟ قال: أي بني: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكة. ومن أمثلته أيضا قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ [سورة التوبة آية: 60]. فإنها نزلت سنة تسع، وقد فرضت الزكاة قبلها في أوائل الهجرة. قال ابن الحصار: فقد يكون مصرفها قبل ذلك معلوما ولم يكن فيه قرآن متلو، كما كان الوضوء معلوما قبل نزول الآية، ثم نزلت تلاوة القرآن تأكيدا به.

إعجاز القرآن الكريم

إعجاز القرآن الكريم قال السيوطي في الإتقان: أفرده بالتصنيف خلائق منهم الخطابي والرماني والزملكاني والإمام الرازي وابن سراقة، والقاضي أبو بكر الباقلاني، قال ابن العربي: ولم يصنف مثل كتابه (أي الباقلاني). اعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة. وهي إما حسية وإما عقلية، وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم، وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم وكمال أفهامهم، ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذوو البصائر، كما قال صلّى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» أخرجه البخاري. قيل إن معناه: أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة في خرقه العادة بأسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات فلا يمر عصر، من الأعصار، إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون مما يدل على صحة دعواه. وقيل: المعنى أن المعجزات الواضحة الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزات القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا. قال في فتح الباري: ويمكن نظم القولين في كلام واحد، فإن محصلهما لا ينافي بعضه بعضا، ولا خلاف بين العقلاء: أن كتاب الله تعالى معجز، لم يقدر أحد على معارضته بعد تحديهم بذلك. قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [سورة التوبة آية: 6]. فلولا أن سماعه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه ولا يكون حجة إلا وهو معجزة. وقال تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [سورة العنكبوت آية: 50، 51]. فأخبر أن الكتاب آيات من آياته كاف في الدلالة قائم مقام معجزات غيره، وآيات

من سواه من الأنبياء، ولما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلم إليهم وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء وتحداهم على أن يأتوا بمثله، وأمهلهم طول السنين، فلم يقدروا كما قال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [سورة الطور آية: 34]، ثم تحداهم بعشر سور منه في قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [سورة هود آية: 13، 14]. ثم تحداهم بسورة في قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... [سورة يونس آية: 38]، ثم كرر في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .... [سورة البقرة آية: 23]، فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء، نادى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن الكريم فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء آية: 88] فهذا، وهم الفصحاء اللّدّ وقد كانوا أحرص شيء على إطفاء نوره وإخفاء أمره، فلو كان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها قطعا للحجة، ولم ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه بشيء من ذلك ولا رامه، بل عدلوا إلى العناد تارة وإلى الاستهزاء أخرى، فتارة قالوا سحر، وتارة قالوا شعر، وتارة قالوا أساطير الأولين، كل ذلك من التحير والانقطاع، ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم وسبي ذراريهم وحرمهم، واستباحة أموالهم، وقد كانوا آنف شيء وأشده حمية، فلو علموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه؛ لأنه كان أهون عليهم. كيف وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه لئلا تأتي محمدا لتتعرض لما قاله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي نقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره. قال الجاحظ: بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا، وأحكم ما

أوجه الإعجاز

كانت لغة وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة، حملهم على حظهم بالسيف فنصب لهم الحرب ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعلامهم، وأعمامهم، وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه، إن كان كاذبا بسورة واحدة أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديا لهم بها، وتقريعا لعجزهم عنها تكشّف عن نقصهم ما كان مستورا، وظهر منه ما كان خفيّا، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتريات فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر، ولا رغب فيه ليتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم، واستحالة لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم، وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته؛ لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال. أوجه الإعجاز لما ثبت كون القرآن معجزة نبينا صلّى الله عليه وسلم، وجب الاهتمام بمعرفة أوجه الإعجاز وقد خاض الناس في ذلك كثيرا فبين محسن ومسيء. فزعم قوم أن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، وأن العرب كلفت في ذلك ما لا يطاق وبه وقع عجزها، وهو مردود لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصور التحدي به، والصواب ما قاله الجمهور أنه وقع بالدال على القديم وهو الألفاظ. ثم زعم النظام: أن إعجازه بالصرفة: أي أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم، وكان مقدورا لهم، لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات، وهذا قول فاسد بدليل: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ... [سورة الإسراء آية: 88]، فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره، هذا مع الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز، بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله؟!

وأيضا- فيلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمن التحدي، وخلو القرآن من الإعجاز، وفي ذلك خرق لإجماع الأمة أن معجزة الرسول صلّى الله عليه وسلم العظمى باقية ولا معجزة له باقية سوى القرآن الكريم. قال القاضي أبو بكر: ومما يبطل القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزا وإنما يكون بالمنع معجزا فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه، قال: وليس هذا بأعجب من قول فريق منهم: إن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به، ولا بأعجب من قول آخرين: إن العجز وقع منهم، وأما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله وكل هذا لا يعتد به. وقال قوم: وجه إعجازه ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة ولم يكن ذلك من شأن العرب. وقال آخرون: ما تضمنه من الإخبار عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكاية من شاهدها وحضرها. وقال آخرون: ما تضمنه من الإخبار عن الضمائر من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [سورة آل عمران آية: 122]، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ [سورة المجادلة آية: 8]. وقال القاضي أبو بكر: وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ومباين لأساليب خطاباتهم، قال: ولهذا لم يمكنهم معارضته، قال: ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشعر؛ لأنه ليس مما يخرق العادة بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب والتصنع به، كقول الشعر، ووصف الخطب، وصناعة الرسالة والحذق في البلاغة، وله طريق تسلك فأما شأو ونظم القرآن فليس له مثال يحتذى، ولا إمام يقتدى به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا، قال: ونحن نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر وفي بعضه أدق وأغمض. وقال الإمام فخر الدين: وجه الإعجاز الفصاحة، وغرابة الأسلوب، والسلامة من جميع العيوب. وقال ابن عطية: الصحيح الذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه، أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه، وذلك أن الله أحاط بكل شيء علما، وأحاط

بالكلام كله، فإذا ترتيب اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح، أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بذلك، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك، والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط ولهذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولا، ثم ينظر فيها فيغير فيها وهلم جرا، وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها، لم يوجد ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة. وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة موسى بالسحرة، وفي معجزة عيسى بالأطباء، فإن الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير الذي هو أبدع ما يكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره، فكان السحر قد انتهى في مدة موسى إلى غايته، وكذلك الطب في زمن عيسى والفصاحة في زمن محمد صلّى الله عليه وسلم. وقال حازم في منهاج البلغاء: وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا يوجد له فترة، ولا يقدر عليه أحد من البشر، وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود، ثم تعرض الفترات الإنسانية فينقطع طيب الكلام ورونقه، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه، بل توجد في تفاريق وأجزاء منه. وقال الخطابي: إن القرآن إنما صار معجزا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى، وتنزيهه في صفاته، ودعائه إلى طاعته، وبيان لطريق عبادته، من تحليل وتحريم وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل منها من مثلات الله بمن مضى وعائدا منهم منبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا عليه وأدل على وجوب ما أمر به ونهى عنه، ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم

وتتسق أمر يعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله، ثم صار المعاندون له يقولون مرة: إنه شعر لما رأوه منظوما، ومرة: إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعا في القلوب، وقرعا في النفوس يرهبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف، ولذلك قالوا: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وكانوا مرة بجهلهم يقولون: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور، التي أوجبها العناد والجهل والعجز. ثم قال: وقد قلت في إعجاز القرآن وجها، ذهب عنه الناس وهو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا قرع السمع خلص منه إلى القلب من اللذة والحلاوة ما لا مثيل له. قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [سورة الحشر آية: 21]. وقال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [سورة الزمر آية: 23]. وقال القاضي عياض في «الشفا»: اعلم أن القرآن منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه: الأول: حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب، الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن. الثاني: صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب؛ المخالف لأساليب كلام العرب، ومنها نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته، وانتهت إليه فواصل كلماته ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، قال: وكل واحد من هذين النوعين الإيجاز والبلاغة بذاتها والأسلوب الغريب بذاته نوع إعجاز على التحقيق، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما؛ إذ كل واحد خارج عن قدرتها، مباين لفصاحتها وكلامها، خلافا لمن زعم أن الإعجاز في مجموع البلاغة والأسلوب. الثالث: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن فوجد كما ورد. الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة، إلا الفذ في أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم

ذلك، فيورده صلّى الله عليه وسلم على وجهه ويأتي به على نصه، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، قال: فهذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها. ومن الوجوه في إعجازه غير ذلك: آي وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فعلوه ولا قدروا على ذلك كقوله لليهود: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [سورة البقرة آية: 94، 95] فما تمناه أحد منهم وهذا الوجه داخل في الوجه الثالث. ومنها: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته، وقد أسلم جماعة عند سماع آيات منه، كما وقع لجبير بن مطعم أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب «بالطور» قال: فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [سورة الطور آية: 35 - 37] فقال: كاد قلبي أن يطير، قال: وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي، وقد مات جماعة عند سماع آيات منه أفردوا بالتصنيف. ثم قال: ومن وجوه إعجازه كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع ما تكفل الله بحفظه. ومنها: أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة، وغيره من الكلام يعادى إذا أعيد ويمل مع الترديد، ولهذا وصف صلّى الله عليه وسلم القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد. ومنها: جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب ولا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة، قال: وهذا الوجه داخل في بلاغته فلا يجب أن يعد فنّا مفردا في إعجازه، قال: والأوجه التي قبله تعد في خواصه وفضائله لا إعجازه وحقيقة الإعجاز الوجوه الأربعة الأول فليعتمد عليها. اه.

آداب تلاوته وكيفيتها

آداب تلاوته وكيفيتها اعلم أنه ينبغي لمح موقع النعم على من علمه الله تعالى القرآن العظيم أو بعضه، بكونه أعظم المعجزات، لبقائه ببقاء دعوة الإسلام، ولكونه صلّى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فالحجة بالقرآن العظيم قائمة على كل عصر وزمان؛ لأنه كلام رب العالمين، وأشرف كتبه جل وعلا، فليعلم من عنده القرآن أن الله أنعم عليه نعمة عظيمة، وليستحضر من أفعاله أن يكون القرآن حجة له لا عليه؛ لأن القرآن مشتمل على طلب أمور، والكف عن أمور، وذكر أخبار قوم قامت عليهم الحجة فصاروا عبرة للمعتبرين حين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، وأهلكوا لما عصوا، وليحذر من علم حالهم أن يعصي، فيصير مآله مآلهم، فإذا استحضر صاحب القرآن علو شأنه بكونه طريقا لكتاب الله تعالى، وأن صدره مصحف له، امتنعت نفسه الموفقة عن الرذائل، وأقبلت على العمل الصالح الهائل. وأكبر معين على ذلك حسن ترتيله وتلاوته، قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [سورة المزمل آية: 4]. وقال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [سورة الإسراء آية: 106]. فحق على كل امرئ مسلم قرأ القرآن أن يرتله، وكمال ترتيله تفخيم ألفاظه والإبانة عن حروفه، والإفصاح لجميعه بالتدبر حتى ينتفع بكل ما يقرأ، وأن يسكت بين النّفس والنفس حتى يرجع إليه نفسه، وألا يدغم حرفا في حرف؛ لأن أقل ما في ذلك أن يسقط من حسناته بعضها، وينبغي للناس أن يرغبوا في تكثير حسناتهم؛ فهذا الذي وصفت أقل ما يجب من الترتيل. وقيل: أقل الترتيل أن يأتي بما يبين ما يقرؤه، وإن كان مستعجلا في قراءته، وأكمله أن يتوقف فيها، ما لم يخرجه إلى التمديد والتمطيط؛ فمن أراد أن يقرأ القرآن بكمال الترتيل فليقرأه على منازله، فإن كان يقرأ تهديدا لفظ به لفظ المتهدد، وإن كان يقرأ لفظ تعظيم لفظ به على التعظيم. وينبغي أن يشتغل قلبه في التفكر في معنى ما يلفظ بلسانه، فيعرف من كل آية معناها، ولا يجاوزها إلى غيرها حتى يعرف معناها، فإذا مر بآية رحمة وقف عندها وفرح بما وعده الله تعالى منها، واستبشر إلى ذلك، وسأل الله برحمته الجنة. وإن قرأ آية عذاب وقف عندها، وتأمل معناها؛ فإن كانت في الكافرين اعترف بالإيمان، فقال: آمنا بالله وحده، وعرف موضع التخويف، ثم سأل الله تعالى أن يعيذه من النار. وإن هو مر بآية فيها نداء للذين آمنوا فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وقف عندها-

حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن

وقد كان بعضهم يقول: لبيك ربي وسعديك- ويتأمل ما بعدها مما أمر به ونهى عنه. وذلك إذا قرأ في غير الصلاة. وتكره قراءة القرآن بلا تدبر، وعليه يحمل حديث عبد الله بن عمرو: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» [رواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح]. وقول ابن مسعود لمن أخبره أنه يقوم بالقرآن في ليلة: أهذّا (سرعة) كهذّ الشعر! وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلم في صفة الخوارج: «يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولا حناجرهم» ذمهم بإحكام ألفاظه، وترك التفهم لمعانيه. حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن ويجوز أخذ الأجرة على التعليم، ففي صحيح البخاري: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله». وقيل: إن تعين عليه لم يجز. واختاره الحليمي، وقال: استصغر الناس المعلمين لقصرهم زمانهم على معاشرة الصبيان، ثم النساء حتى أثر ذلك في عقولهم، ثم لابتغائهم عليه الأجعال، وطمعهم في أطعمة الصبيان، فأما نفس التعليم فإنه يوجب التشريف والتفضيل. وقال أبو الليث في كتاب «البستان»: التعليم على ثلاثة أوجه: أحدها: للحسبة ولا يأخذ به عوضا. والثاني: أن يعلّم بالأجرة، والثالث: أن يعلّم بغير شرط، فإذا أهدي إليه قبل. فالأول: مأجور عليه وهو عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. الثاني: مختلف فيه، قال أصحابنا المتقدمون: لا يجوز؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «بلّغوا عني ولو آية». وقال جماعة من المتأخرين: يجوز مثل عصام بن يوسف ونصر بن يحيى، وأبي نصر بن سلام- وغيرهم قالوا: والأفضل للمعلم أن يشارط الأجرة للحفظ وتعليم الكتابة، فإن شارط لتعليم القرآن أرجو أنه لا بأس به؛ لأن المسلمين قد توارثوا ذلك واحتاجوا إليه. وأما الثالث: فيجوز في قولهم جميعا: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان معلّما للخلق وكان يقبل الهدية، ولحديث اللديغ لما رقوه بالفاتحة وأخذوا منه جعلا (أجرا) وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «واضربوا لي معكم فيها بسهم».

ما يستحب عند القراءة

ما يستحب عند القراءة يستحب الاستياك وتطهير فمه للقراءة باستياكه (استعمال السواك)، وتطهير بدنه بالطيب المستحب تكريما لحال التلاوة، لابسا من الثياب ما يتجمل به بين الناس، لكونه بالتلاوة بين يدي المنعم المتفضل بهذا الإيناس، فإن التالي للكلام، بمنزلة المكالم لصاحب الكلام وهذا غاية التشريف من فضل الكريم العلام، ويستحب أن يكون جالسا مستقبل القبلة. سئل سعيد بن المسيب عن حديث وهو متكئ، فاستوى جالسا وقال: أكره أن أحدث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا متكئ، وكلام الله تعالى أولى. ويستحب أن يكون متوضئا، ويجوز للمحدث، قال إمام الحرمين وغيره: لا يقال إنها مكروهة فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ مع الحدث وعلى كل حال سوى الجنابة وفي معناها الحيض والنفاس، وللشافعي قول قديم في الحائض: تقرأ خوف النسيان. وقال أبو الليث: لا بأس أن يقرأ الجنب والحائض أقل من آية واحدة. قال: وإذا أرادت الحائض التعلم فينبغي لها أن تلقن نصف آية، ثم تسكت ولا تقرأ آية واحدة بدفعة واحدة. التعوذ وقراءة البسملة عند التلاوة يستحب التعوذ قبل القراءة، فإن قطعها قطع ترك، وأراد العود جدد، وإن قطعها لعذر عازما على العود كفاه التعوذ الأول ما لم يطل الفصل، ولا بد من قراءة البسملة أول كل سورة تحرزا من مذهب الشافعي؛ وإلا كان قارئا بعض السور لا جميعها، فإن قرأ من أثنائها استحب له البسملة أيضا، نص عليه الشافعي رحمه الله فيما نقله العبادي. قراءة القرآن في المصحف أفضل أم عن ظهر قلب؟ وهل القراءة في المصحف أفضل أم عن ظهر قلب، أم يختلف الحال؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها من المصحف أفضل؛ لأن النظر فيه عبادة، فيجتمع القرآن والنظر، وهذا قاله القاضي حسين والغزالي، قال: وعلة ذلك أنه يزيد النظر .. وتأمل المصحف وحمله، فيزيد في الأجر بسبب ذلك، وقد قيل: الختمة في المصحف بسبع، وذكر أن الأكثرين من الصحابة كانوا يقرءون في المصحف ويكرهون أن يخرج يوم ولم ينظروا في المصحف. ودخل بعض فقهاء مصر على الشافعي رحمه الله تعالى المسجد وبين يديه المصحف فقال: شغلكم الفقه عن القرآن؛ إني لأصلي العتمة، وأضع المصحف في يدي فما أطبقه حتى الصبح.

حكم خلط سورة بسورة

وقال عبد الله بن أحمد: كان أبي يقرأ في كل يوم سبعا من القرآن لا يتركه نظرا. وعن الأوزاعي كان يعجبهم النظر في المصحف بعد القراءة هنيهة. قال بعضهم: وينبغي لمن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم آيات يسيرة ولا يتركه مهجورا. والقول الثاني: أن القراءة عن ظهر قلب أفضل، واختاره أبو محمد بن عبد السلام. فقال في أماليه: قيل القراءة في المصحف أفضل، لأنه يجمع فعل الجارحتين، وهما اللسان والعين، والأجر على قدر المشقة، وهذا باطل؛ لأن المقصود من القراءة التدبر لقوله تعالى: لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [سورة ص آية: 29]، والعادة تشهد أن النظر في المصحف يخل بهذا المقصود فكان مرجوحا. والثالث: واختاره النووي في الأذكار: إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب أكثر مما يحصل له من المصحف فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن استويا فمن المصحف أفضل، قال: وهو مراد السلف. حكم خلط سورة بسورة عدّ الحليمي من الآداب ترك خلط سورة بسورة، وذكر الحديث الآتي: قال البيهقي: وأحسن ما يحتج به أن يقال: إن هذا التأليف لكتاب الله مأخوذ من جهة النبي صلّى الله عليه وسلم وأخذه عن جبريل، فالأولى بالقارئ أن يقرأه على التأليف المنقول المجتمع عليه؛ وقد قال ابن سيرين: تأليف الله خير من تأليفكم. ونقل القاضي أبو بكر الإجماع على عدم جواز قراءة آية من كل سورة. وقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر بأبي بكر وهو يقرأ: يخفض صوته، وبعمر يجهر بصوته، وذكر الحديث، وفيه فقال: «وقد سمعتك يا بلال وأنت تقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة». فقال: كلام طيب يجمعه الله بعضه إلى بعض؛ فقال: «كلكم قد أصاب». وفي رواية لأبي عبيد في «فضائل القرآن» قال بلال: «أخلط الطيب بالطيب»، فقال له: «اقرأ السورة على وجهها» أو قال: على نحوها- وهذه زيادة مليحة- وفي رواية: «إذا قرأت السورة فأنفذها». أي لا تخلط سورة بسورة. وروي عن خالد بن الوليد أنه أمّ الناس فقرأ من سور شتى، ثم التفت إلى الناس حين انصرف فقال: شغلني الجهاد عن تعلم القرآن. وروي المنع عن ابن سيرين ثم قال أبو عبيد: الأمر عندنا على الكراهة في قراءة هذه

حكم قراءة القرآن مع جماعة

الآيات المختلفة؛ كما أنكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على بلال، وكما اعتذر خالد عن فعله، ولكراهة ابن سيرين له. ثم قال: إن بعضهم روى حديث بلال وفيه: فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «كل ذلك حسن» وهو أثبت وأشبه بنقل العلماء .. اه. حكم قراءة القرآن مع جماعة قال الإمام النووي في «التبيان»: اعلم أن قراءة الجماعة مجتمعين مستحبة بالدلائل الظاهرة وأفعال السلف والخلف المتظاهرة، فقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، أنه قال: «ما من قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده» قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» [رواه مسلم وأبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم]. وعن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: «ما يجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده لما هدانا للإسلام، ومنّ علينا به فقال: أتاني جبريل عليه السّلام فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة» [رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح] والأحاديث في هذا كثيرة. وروى الدارمي بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «من استمع إلى آية من كتاب الله كانت له نورا». وروى ابن أبي داود: أن أبا الدرداء رضي الله عنه كان يدرس القرآن معه نفر يقرءون جميعا، وروى ابن أبي داود فعل الدراسة مجتمعين عن جماعات من أفاضل السلف والخلف وقضاة المتقدمين. وعن حسان بن عطية والأوزاعي أنهما قالا: أول من أحدث الدراسة في مسجد دمشق هشام بن إسماعيل في قدمته على عبد الملك. وأما ما روى ابن أبي داود عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب: أنه أنكر هذه الدراسة، وقال: ما رأيت ولا سمعت، وقد أدركت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يعني ما رأيت أحدا فعلها. وعن وهب قال: قلت لمالك: أرأيت القوم يجتمعون فيقرءون جميعا سورة واحدة

ختم القرآن

حتى يختموها؟ فأنكر ذلك وعابه، وقال: ليس هكذا تصنع الناس إنما كان يقرأ الرجل على الآخر يعرضه، فهذا الإنكار منهما مخالف لما كان عليه السلف والخلف، ولما يقتضيه الدليل، فهو متروك، والاعتماد على ما تقدم من استحبابها. ختم القرآن ويستحب ختم القرآن في كل أسبوع، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اقرأ القرآن في كل سبع ولا تزد» [رواه أبو داود]. وروى الطبراني بسند جيد: سئل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجزئ القرآن؟ قالوا: كان يجزئه ثلاثا وخمسا، وكره قوم قراءته في أقل من ثلاث، وحملوا عليه حديث: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» [رواه الأربعة وصححه الترمذي]. والمختار- وعليه أكثر المحققين- أن ذلك يختلف بحال الشخص في النشاط والضعف، والتدبر والغفلة؛ لأنه روي عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يختمه في ليلة واحدة. ويكره تأخير ختمه أكثر من أربعين [رواه أبو داود]. وقال أبو الليث في كتاب «البستان»: ينبغي أن يقرأ القرآن في السنة مرتين إن لم يقدر على الزيادة. وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: من قرأ القرآن في كل سنة مرتين فقد أدى للقرآن حقه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم عرضه على جبريل في السنة التي قبض فيها مرتين. وقال أبو الوليد الباجي: أمر النبي صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو أن يختم في سبع أو ثلاث يحتمل أنه الأفضل في الجملة، أو أنه الأفضل في حق ابن عمرو لما علم من ترتيله في قراءته، وعلم من ضعفه عن استدامته أكثر مما حدّ له، وأما من استطاع أكثر من ذلك فلا تمنع الزيادة عليه. وسئل مالك عن الرجل يختم القرآن في كل ليلة فقال: ما أحسن ذلك: إن القرآن إمام كل خير. وقال بشر بن السّري: إنما الآية مثل التمرة كلما مضغتها استخرجت حلاوتها، فحدث به أبو سليمان فقال: صدق؛ إنما يؤتى أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها. فالتأني مع التدبر والتذكر أفضل بلا شك، وكله إلى خير إن شاء الله.

التكبير بين السور ابتداء من سورة الضحى

التكبير بين السور ابتداء من سورة الضحى يستحب التكبير من أول سورة الضحى إلى أن يختم، وهي قراءة أهل مكة أخذها ابن كثير عن مجاهد، ومجاهد عن ابن عباس، وابن عباس عن أبي، وأبي عن النبي صلّى الله عليه وسلم، رواه ابن خزيمة والبيهقي في شعب الإيمان وقواه. ورواه من طريق موقوفا على أبيّ بسند معروف، وهو حديث غريب، وقد أنكره أبو حاتم الرازي على عادته في التشديد، واستأنس له الحليمي بأن القراءة تنقسم إلى أبعاض متفرقة، فكأنه كصيام الشهر؛ وقد أمر الناس إذا أكملوا العدة أن يكبروا الله على ما هداهم، فالقياس أن يكبر القارئ إذا أكمل عدة السور. وذكر غيره أن التكبير كان لاستشعار انقطاع الوحي، قال: وصفته في آخر هذه السور أنه كلما ختم سورة وقف وقفة، ثم قال: الله أكبر، ثم وقف وقفة، ثم ابتدأ السورة التي تليها إلى آخر القرآن، ثم كبّر كما كبّر من قبل، ثم أتبع التكبير الحمد والتصديق والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم والدعاء. وقال سليم الرازي في تفسيره: يكبر القارئ بقراءة ابن كثير إذا بلغ وَالضُّحى بين كل سورتين تكبيرة، إلى أن يختم القرآن، ولا يصل آخر السورة بالتكبير، بل يفصل بينهما بسكتة، وكأن المعنى في ذلك ما روي أن الوحي كان تأخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أياما، فقال ناس: إن محمدا قد ودّعه صاحبه وقلاه، فنزلت هذه السورة، فقال: الله أكبر، قال: ولا يكبر في قراءة الباقين؛ ومن حجتهم أن ذلك ذريعة إلى الزيادة في القرآن، بأن زيد عليه التكبير فيتوهم أنه من القرآن فيثبتونه فيه. ما يفعله القارئ عند ختم القرآن إذا ختم القرآن وقرأ المعوذتين قرأ الفاتحة وقرأ خمس آيات من البقرة إلى قوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ لأنها آية عند الكوفيين، وعند غيرهم بعض آية. وقد روى الترمذي: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الحالّ المرتحل» قيل المراد به: الحث على تكرار الختم ختمة بعد ختمة، وقيل: المراد به: أنه إذا ختم بآخر سورة بدأ بقراءة أول سورة منه وخمس آيات من سورة البقرة فيكون معنى «الحالّ المرتحل» أي الذي إذا ختم القرآن بدأ بقراءة أوله.

حكم من شرب شيئا كتب من القرآن

حكم من شرب شيئا كتب من القرآن منع ذلك بعضهم، وكرهه، وأجازه الأكثرون وهو الصواب. وممن صرح بالجواز من أصحاب الشافعي العماد النيهي تلميذه البغوي فيما رأيته بخط ابن الصلاح، قال: لا يجوز ابتلاع رقعة فيها آية من القرآن، فلو غسلها وشرب ماءها جاز. وجزم القاضي الحسين، والرافعي بجواز أكل الأطعمة التي كتب عليها شيء من القرآن. وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي في ذكر منصور بن عمار: أنه أوتي الحكمة، وقيل: إن سبب ذلك أنه وجد رقعة في الطريق مكتوبا عليها بسم الله الرحمن الرحيم فأخذها فلم يجد لها موضعا، فأكلها، فأري فيما يرى النائم كأنّ قائلا قد قال له: قد فتح الله عليك باحترامك لتلك الرقعة، فكان بعد ذلك يتكلم بالحكمة. اه من البرهان. أحكام تتعلق باحترام المصحف وتعظيمه ويستحب تطييب المصحف وجعله على كرسي، ويجوز تحليته بالفضة إكراما له على الصحيح. روى البيهقي بسنده إلى الوليد بن مسلم قال: سألت مالكا عن تفضيض المصاحف، فأخرج إلينا مصحفا فقال: حدثني أبي عن جدي أنهم جمعوا القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه، وأنهم فضّضوا المصاحف على هذا ونحوه، وأما بالذهب فالأصح أنه يباح للمرأة دون الرجل، وخص بعضهم الجواز بنفس المصحف دون علاقته (ما يعلق فيه المصحف) المنفصلة عنه، والأظهر التسوية. ويحرم توسد المصحف وغيره من كتب العلم؛ لأن فيه إذلالا وامتهانا، وكذلك مد الرجلين إلى شيء من القرآن أو كتب العلم، ويستحب تقبيل المصحف؛ لأن عكرمة ابن أبي جهل كان يقبله، وبالقياس على تقبيل الحجر الأسود. ولأنه هدية الله لعباده، فشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغير. وعن أحمد ثلاث روايات: الجواز، والاستحباب، والتوقف، وإن كان فيه رفعة وإكرام؛ لأنه لا يدخله قياس، ولهذا قال عمر في الحجر: لولا أني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. ويحرم السفر بالقرآن إلى أرض العدو للحديث فيه؛ خوف أن تناله أيديهم، وقيل: إذا كثر الغزاة وأمن استيلاؤهم عليه لم يمنع، لقوله: «مخافة أن تناله أيديهم». ويحرم

تجويد القرآن

كتابة القرآن بشيء نجس، وكذلك ذكر الله تعالى، وتكره كتابته في القطع الصغير. اه. ملخصا من الزركشي. تجويد القرآن من المهمات تجويد القرآن وقد أفرده جماعة كثيرون بالتصنيف منهم الداني وغيره، أخرج عن ابن مسعود أنه قال: جوّدوا القرآن. قال القراء: التجويد حلية القراءة، وهو إعطاء الحروف حقوقها، وترتيبها ورد الحرف إلى مخرجه وأصله وتلطيف النطق به على كمال هيئته من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف، وإلى ذلك أشار صلّى الله عليه وسلم بقوله: «من أحب أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» يعني ابن مسعود، وكان رضي الله عنه قد أعطي حظّا عظيما في تجويد القرآن، ولا شك أن الأمة كما أنهم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده، فهم متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراء المتصلة بالحضرة النبوية. وقد عدّ العلماء القراءة بغير تجويد لحنا، فقسموا اللحن إلى جليّ وخفيّ، فاللحن خلل يطرأ على الألفاظ فيخل بها، إلا أن الجلي يخل إخلالا ظاهرا يشترك في معرفته علماء القراءة وغيرهم وهو الخطأ في الإعراب، والخفي يخل إخلالا يختص بمعرفته علماء القراءة وأئمة الأداء الذين تلقوه من أفواه العلماء وضبطوه من ألفاظ أهل الأداء. وكل منها واجب على من قدر عليه؛ لأن بهما يكون الفهم الصحيح. قال ابن الجزري: ولا أعلم لبلوغ النهاية في التجويد مثل رياضة الألسن والتكرار على اللفظ المتلقى من فم المحسن. وقاعدته ترجع إلى كيفية الوقف والإمالة والإدغام، وأحكام الهمزة والترقيق والتفخيم ومخارج الحروف. اه. كيفية تحمل القرآن الكريم اعلم أن حفظ القرآن فرض كفاية على الأمة، صرح به الجرجاني في «الشافي»، والعبادي وغيرهما .. قال الجويني: والمعنيّ فيه أن لا ينقطع عدد التواتر فيه، فلا يتطرق إليه التبديل والتحريف، فإن قام بذلك قوم يبلغون هذا العدد سقط عن الباقين وإلا أثم الكل. وتعليمه- أيضا- فرض كفاية، وهو أفضل القرب، ففي الصحيح «خيركم من تعلم القرآن وعلّمه».

كيفيات القراءة

وأوجه التحمل السماع من لفظ الشيخ والقراءة عليه. أما القراءة على الشيخ فهي المستعملة سلفا وخلفا، وأما السماع من لفظ الشيخ فيحتمل أن يقال به هنا؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم إنما أخذوا القرآن من النبي صلّى الله عليه وسلم. لكن لم يأخذ به أحد من القراءة، والمنع فيه ظاهر؛ لأن المقصود هنا كيفية الأداء، وليس كل من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء كهيئته بخلاف الحديث، فإن المقصود فيه المعنى أو اللفظ لا بالهيئات المعتبرة في أداء القرآن، وأما الصحابة فكانت فصاحتهم وطباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء كما سمعوه من النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه نزل بلغتهم، ومما يدل للقراءة على الشيخ: عرض النبي صلّى الله عليه وسلم على جبريل في رمضان كل عام. ويحكى أن الشيخ شمس الدين الجزري لما قدم القاهرة وازدحمت عليه الخلق، لم يتسع وقته لقراءة الجميع فكان يقرأ عليهم الآية، ثم يعيدونها عليه دفعة واحدة فلم يكتف بقراءته. وتجوز القراءة على الشيخ ولو كان غيره يقرأ عليه في تلك الحالة بحيث لا يخفى عليه حالهم. وقد كان الشيخ علم الدين السخاوي يقرأ عليه اثنان وثلاثة في أماكن مختلفة ويرد على كل منهم، وكذا لو كان الشيخ مشتغلا بشغل آخر كنسخ ومطالعة، وأما القراءة من الحفظ فالظاهر أنها ليست بشرط بل تكفي ولو من المصحف. كيفيات القراءة كيفيات القراءة ثلاث: إحداها: التحقيق وهو إعطاء كل حرف حقه، من إشباع المد وتحقيق الهمزة، وإتمام الحركات واعتماد الإظهار والتشديدات، وبيان الحروف وتفكيكها، وإخراج بعضها من بعض بالسكت والترتيل والتؤدة، وملاحظة الجائز من الوقوف بلا قصر للممدود ولا اختلاس للحروف ولا إسكان محرّك ولا إدغامه. وهو يكون برياضة الألسن وتقويم الألفاظ، ويستحب الأخذ به على المتعلمين من غير أن يتجاوز فيه إلى حد الإفراط بتوليد الحروف من الحركات، وتكريم الراءات، وتحريك السواكن، وتطنين النونات بالمبالغة في الغنّات، كما قال حمزة لبعض من سمعه يبالغ في ذلك: أما علمت أن ما فوق البياض برص، وما فوق الجعودة قطط، وما فوق القراءة ليس بقراءة؟ وكذا يحترز من الفصل بين حروف الكلمة كمن يقف

الثانية: الحدر بفتح الحاء وسكون الدال المهملتين

على التاء من نَسْتَعِينُ وقفة لطيفة مدعيا أنه يرتل، وهذا النوع من القراءة مذهب حمزة وورش، وقد أخرج فيه الداني حديثا في كتاب التجويد مسلسلا إلى أبيّ بن كعب أنه قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم التحقيق وقال: إنه غريب مستقيم الإسناد. الثانية: الحدر بفتح الحاء وسكون الدال المهملتين ، وهو إدراج القراءة وسرعتها وتخفيفها بالقصر، والتسكين، والاختلاس، والبدل، والإدغام الكبير، وتخفيف الهمزة، ونحو ذلك مما- صحت به الرواية- مع مراعاة إقامة الإعراب وتقويم اللفظ وتمكين الحروف بدون بتر حروف المد واختلاس أكثر الحركات، وذهاب صوت الغنة والتفريط إلى غاية لا تصح بها القراءة ولا توصف بها التلاوة، وهذا النوع مذهب ابن كثير وأبي جعفر ومن قصر المنفصل كأبي عمرو ويعقوب. الثالثة: التدوير: وهو التوسط بين المقامين بين التحقيق والحدر ، وهو الذي ورد عن أكثر الأئمة ممن مد المنفصل ولم يبلغ فيه الإشباع وهو مذهب سائر القراء، وهو المختار عند أكثر أهل الأداء. تنبيه: سيأتي في النوع الذي يلي هذا استحباب الترتيل في القراءة، والفرق بينه وبين التحقيق فيما ذكره بعضهم: أن التحقيق يكون للرياضة والتعليم والتمرين، والترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط فكل تحقيق ترتيل وليس كل ترتيل تحقيقا. اه. المحكم والمتشابه في القرآن الكريم قال السيوطي في الإتقان: قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [سورة آل عمران آية: 7]. وقد حكى ابن حبيب النيسابوري في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن القرآن كله محكم لقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [سورة هود آية: 1]. الثاني: كله متشابه لقوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [سورة الزمر آية: 23]. الثالث: وهو الصحيح انقسامه إلى محكم ومتشابه للآية المصدر بها، والجواب عن الآيتين أن المراد بإحكامه إتقانه وعدم تطرق النقص والاختلاف إليه، وبتشابهه كونه يشبه بعضه بعضا في الحق والصدق والإعجاز. وقد اختلف في تعيين المحكم والمتشابه على أقوال: فقيل: المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في أوائل السور.

- وقيل: المحكم ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه. - وقيل: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما احتمل أوجها. - وقيل: المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات، واختصاص الصيام برمضان دون شعبان قاله الماوردي. - وقيل: المحكم ما استقل بنفسه، والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره. - وقيل المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال. أخرج ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المحكمات: ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات: منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به. وأخرج الفريابي عن مجاهد قال: المحكمات: ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: المحكمات: هي أوامره الزاجرة. وأخرج عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية فقال أبو فاختة: فواتح السور، وقال يحيى: الفرائض والأمر والنهي والحلال. وأخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: «الثلاث الآيات من آخر سورة الأنعام محكمات: قُلْ تَعالَوْا والآيتان بعدها» وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ قال: من ههنا قُلْ تَعالَوْا إلى ثلاث آيات، ومن ها هنا وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إلى ثلاث آيات بعدها. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: المحكمات ما لم ينسخ منه، والمتشابهات ما قد نسخ. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: المتشابهات فيما بلغنا الم، والمص، المر، والر، قال ابن أبي حاتم: وقد روي عن عكرمة وقتادة وغيرهما: أن المحكم الذي يعمل به، والمتشابه الذي يؤمن به ولا يعمل به. واختلف هل المتشابه مما يمكن الإطلاع على علمه، أو لا يعلمه إلا الله .. ؟ على قولين منشؤهما الاختلاف في قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هل هو معطوف، ويقولون حال أو مبتدأ خبره يقولون والواو للاستئناف؟ وعلى الأول طائفة يسيرة منهم مجاهد وهو رواية عن ابن عباس، فأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال: أنا ممن يعلم تأويله.

وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال: يعلمون تأويله ويقولون آمنا به، وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعلمون تأويله، لو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمه من متشابهه- واختار هذا القول النووي فقال: في شرح مسلم: إنه الأصح؛ لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته. وقال ابن الحاجب: إنه الظاهر. وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم- خصوصا أهل السنة- فذهبوا إلى الثاني، وهو أصح الروايات عن ابن عباس، قال ابن السمعاني: لم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة، واختاره العتبي. قال: وقد كان يعتقد مذهب أهل السنة لكنه سها في هذه المسألة قال: ولا غرو فإن لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة. قلت: ويدل لصحة مذهب الأكثرين ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره والحاكم في مستدركه عن ابن عباس، أنه كان يقرأ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ويقول: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ فهذا يدل على أن الواو للاستئناف؛ لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة فأقل درجتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذلك على من دونه، ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم مبتغي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب، وحكى الفراء أن في قراءة أبي بن كعب- أيضا- «ويقول الراسخون». وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق الأعمش، قال في قراءة ابن مسعود: «وإن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به». وأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ إلى قوله: أُولُوا الْأَلْبابِ قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذرهم». وأخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زجر وأمر، وحلال وحرام، ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا: أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال

وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب، ثم أخرجه من وجه آخر عن ابن عباس موقوفا بنحوه. وأخرج الدارمي في مسنده عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة «فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعدّ له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن صبيغ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى دمى رأسه» وفي رواية عنده «فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد ثم تركه حتى برأ فدعا به ليعود فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري: لا يجالسه أحد من المسلمين». وأخرج الدارمي عن عمر بن الخطاب قال: إنه سيأتيكم ناس يجادلونكم بمشتبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله، فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه إلا الله تعالى وأن الخوض فيه مذموم، وسيأتي قريبا زيادة على ذلك. قال الطيبي: المراد بالمحكم: ما اتضح معناه، والمتشابه بخلافه، لأن اللفظ الذي يقبل معنى إما أن يحتمل غيره أو لا، والثاني النص، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك الغير أرجح أو لا والأول هو الظاهر، والثاني إما أن يكون مساويه أو لا، والأول هو المجمل والثاني المؤول، فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه. ويؤيد هذا التقسيم أنه تعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه قالوا: فالواجب أن يفسر المحكم بما يقابله، ويعضد ذلك أسلوب الآية وهو الجمع مع التقسيم؛ لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وأراد أن يضيف إلى كل منهما ما شاء، فقال أولا: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ إلى أن قال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وكان يمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لإتيان لفظ الرسوخ؛ لأنه لا يحصل إلا بعد التثبت العام والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على طريق الإرشاد ورسخ القدم في العلم، أفصح صاحبه النطق بالقول الحق وكفى بدعاء الراسخين في العلم: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [سورة آل عمران آية: 8] .. إلخ شاهدا على أن الراسخين في العلم مقابل لقوله: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ وفيه إشارة إلى أن الوقف على قوله: إِلَّا اللَّهُ تام، وإلى أن علم المتشابه مختص بالله تعالى. وأن من حاول معرفته هو الذي أشار

المتشابه من آيات الصفات

إليه في الحديث بقوله صلّى الله عليه وسلم: «فاحذرهم». وقال بعضهم: العقل مبتلى باعتقاد حقية المتشابه، كابتلاء البدن بأداء العبادة كالحكيم إذا صنّف كتابا أجمل فيه أحيانا؛ ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره، وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد، فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والمتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها استسلاما واعترافا بقصورها، وفي ختم الآية بقوله تعالى: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ تعريض للزائغين ومدح للراسخين، يعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه، فليس من أولي العقول، ومن ثمّ قال الراسخون: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا إلى آخر الآية فخضعوا لباريهم لاستنزال العلم الّلدنّي، بعد أن استعاذوا به من الزيغ النفساني. المتشابه من آيات الصفات من المتشابه آيات الصفات نحو: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [سورة طه آية: 5] كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص آية: 88]، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [سورة الرحمن آية: 27]، وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [سورة طه آية: 39] يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح آية: 10]، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [سورة الزمر آية: 67]. وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها. أخرج أبو القاسم اللالكائي في السنة، من طريق قرة بن خالد عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى قالت: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به من الإيمان، والجحود به كفر. وأخرج- أيضا- عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل عن قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فقال: الإيمان غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق. وأخرج- أيضا- عن مالك أنه سئل عن الآية فقال: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. وأخرج البيهقي عنه أنه قال: هو كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف ... ؟! وكيف عنه مرفوع. وأخرج اللالكائي عن محمد بن الحسن قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى

معنى كون القرآن أنزل على سبعة أحرف

المغرب، على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه، وقال الترمذي في الكلام على حديث الرؤية: المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري، ومالك، وابن المبارك، وابن عيينة، ووكيع وغيرهم أنهم قالوا: نروي هذه الأحاديث كما جاءت ونؤمن بها، ولا يقال: كيف .. ؟ ولا نفسر ولا نتوهم .. ! وذهبت طائفة من أهل السنة إلى أننا نؤولها على ما يليق بجلاله تعالى وهذا مذهب الخلف. وكان إمام الحرمين يذهب إليه ثم رجع عنه، فقال في الرسالة النظامية: الذي نرتضيه دينا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة، فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها. وقال ابن الصلاح: «على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها .. اه. من الإتقان بتصرف». معنى كون القرآن أنزل على سبعة أحرف روى مسلم عن أبيّ بن كعب أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان عند أضاة (مسيل الماء إلى الغدير) بني غفار، فأتاه جبريل عليه السّلام فقال: «إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك» ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، فقال «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك» ثم جاءه الثالثة فقال: «إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف» فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا». وروى الترمذي عنه قال: لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم جبريل فقال: «يا جبريل: إني بعثت إلى أمة أمية منهم العجوز الشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابا قط فقال لي يا محمد: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف» قال: هذا حديث حسن صحيح، وثبت في الأمهات: البخاري ومسلم والموطأ وأبي داود، والنسائي، وغيرها من المصنفات والمسندات قصة عمر مع هشام بن حكيم، وسيأتي بكماله في آخر الباب مبينا إن شاء الله تعالى. وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا، ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستي، نذكر منها في هذا الكتاب خمسة أقوال: الأول: وهو الذي عليه أكثر أهل العلم كسفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب والطبري والطحاوي وغيرهم: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة

نحو: أقبل، وتعال، وهلم. قال الطحاوي: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة قال: جاء جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: اقرأ على حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف؛ فقال: اقرأ فكلّ شاف كاف، إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب بآية رحمة على نحو: هلم، وتعال، وأقبل، وأسرع، وعجّل. وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب: أنه كان يقرأ: لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا [سورة الحديد آية: 13]، للذين آمنوا أمهلونا، للذين آمنوا أخرونا، للذين آمنوا ارقبونا. وبهذا الإسناد عن أبيّ كان يقرأ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [سورة البقرة آية: 20]، مروا فيه، سعوا فيه. وفي البخاري ومسلم قال الزهري: إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس يختلف في حلال ولا حرام. قال الطحاوي: إنما كانت السعة للناس في الحروف؛ لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم؛ لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم، فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ، إذا كان المعنى متفقا، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها. قال ابن عبد البر: فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورات فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد. روى أبو داود عن أبي قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أبي إني أقرئت القرآن فقيل لي: على حرف أو حرفين فقال الملك الذي معي: قل على حرفين. فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة. فقال الملك الذي معي: قل على ثلاثة أحرف حتى بلغ سبعة أحرف، ثم قال: ليس منها إلا شاف كاف إن قلت: سميعا عليما، عزيزا حكيما، ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب». وأسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وذكر من كلام ابن مسعود نحوه، قال القاضي ابن الطيب: وإذا ثبتت هذه الرواية- يريد

حديث أبي- حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ، فلا يجوز للناس أن يبدلوا اسما لله تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالف. القول الثاني: قال قوم: هي سبع لغات في القرآن على لغات العرب، كلها يمنها ونزارها؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يجهل شيئا منها، وكان قد أوتي جوامع الكلم، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه ولكن هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن» قال الخطابي: على أن في القرآن ما قد قرئ بسبعة أوجه وهو قوله: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [سورة المائدة آية: 60] وقوله: أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [سورة يوسف آية: 12] وذكر وجوها، كأنه يذهب إلى أن بعضه أنزل على سبعة أحرف لا كله. وإلى هذا القول: بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف على سبع لغات، ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام واختاره ابن عطية. قال أبو عبيد: وبعض الأحياء أسعد بها وأكثر حظّا فيها من بعض، وذكر حديث ابن شهاب عن أنس، أن عثمان قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف: ما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فإنه نزل بلغتهم. ذكره البخاري، وذكر حديث ابن عباس قال: نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش وكعب خزاعة، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن الدار واحدة. قال أبو عبيد: يعني أن خزاعة جيران قريش فأخذوا بلغتهم. قال القاضي ابن الطيب: معنى قول عثمان: فإنه نزل بلسان قريش، (يريد معظمه وأكثره)، ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره منزّل بلغة قريش فقط، إذ فيه كلمات وحروف خلاف لغة قريش، وقد قال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [سورة الزخرف آية: 3] ولم يقل قريشيّا، وهذا يدل على أنه منزل بجميع لسان العرب، وليس لأحد أن يقول: إنه أراد قريشا من العرب دون غيرها، كما أنه ليس له أن يقول: أراد لغة عدنان دون قحطان، أو ربيعة دون مضر؛ لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولا واحدا. وقال ابن عبد البر: قول من قال: إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي في الأغلب والله أعلم، لأن غير لغة قريش موجود في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها، وقريش لا تهمز. وقال ابن عطية: معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي فيه عبارات سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز في اللفظ.

ألا ترى أن فَطَرَ معناه عند غير قريش: «ابتدأ» فجاءت في القرآن فلم تتجه لابن عباس حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ قال ابن عباس: ففهمت حينئذ موقع قوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [سورة فاطر آية: 1] وقال أيضا: ما كنت أدري معنى قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف آية: 89] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك: أي أحاكمك. وكذلك قال عمر بن الخطاب، وكان لا يفهم معنى قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [سورة النحل آية: 47] أي على تنقص لهم. وكذلك اتفق لقطبة بن مالك إذ سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [سورة ق آية: 10] ذكره مسلم في باب القراءة في صلاة الفجر إلى غير ذلك من الأمثلة. القول الثالث: أن هذه اللغات السبع إنما تكون في مضر، قاله قوم، واحتجوا بقول عثمان: نزل القرآن بلغة مضر، وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهزيل، ومنها لتميم، ومنها لضبة، ومنها لقيس، قالوا: فهذه قبائل مضر تستوعب بسبع لغات على هذه المراتب، وقد كان ابن مسعود يحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر، وأنكر آخرون أن تكون كلها في مضر، وقالوا: في مضر شواذ لا يجوز أن يقرأ القرآن بها، مثل كشكشة قيس وتمتمة تميم. فأما كشكشة قيس: فإنهم يجعلون كاف المؤنث شينا فيقولون في: جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [سورة مريم آية: 24] جعل ربّش تحتش سريّا. وأما تمتمة تميم: فيقولون في الناس: النات، وفي أكياس: أكيات، قالوا: وهذه لغات يرغب عن القرآن بها ولا يحفظ عن السلف فيها شيء. وقال آخرون: أما إبدال الهمزة عينا وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض فمشهور عن الفصحاء، وقد قرأ به الجلة واحتجوا بقراءة ابن مسعود (ليسجننه عتى حين) ذكرها أبو داود. وبقول ذي الرمة: فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولونك إلا عنّها غير طائل القول الرابع: ما حكاه صاحب الدلائل عن بعض العلماء، وحكى نحوه القاضي ابن الطيب قال: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا: منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، مثل هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [سورة هود آية: 78] وأطهر وَيَضِيقُ صَدْرِي [سورة الشعراء آية: 13] ويضيق.

القول في القراءات السبع

ومنها: ما لا تتغير صورته ويتغير معناه بالإعراب مثل: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [سورة سبأ آية: 19] وباعد. ومنها: ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف، مثل قوله: نُنْشِزُها [سورة البقرة آية: 259] وننشرها. ومنها: ما تتغير صورته ويبقى معناه مثل: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [سورة القارعة آية: 5] وكالصوف المنفوش. ومنها: ما تتغير صورته ومعناه مثل: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [سورة الواقعة آية: 29] وطلع منضود. ومنها: بالتقديم والتأخير كقوله: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [سورة ق آية: 19] وجاءت سكرة الحق بالموت. ومنها: بالزيادة والنقصان مثل قوله: تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [سورة ص آية: 23] أنثى. وقوله: (وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين)، وقوله: (فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم). القول الخامس: أن المراد بالأحرف السبعة معاني كتاب الله تعالى، وهي أمر ونهي، ووعد ووعيد، وقصص ومجادلة وأمثال، قال ابن عطية: وهذا ضعيف؛ لأن هذا لا يسمى أحرفا،- وأيضا- فالإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حلال ولا في تغيير شيء من المعاني. وذكر القاضي ابن الطيب في هذا المعنى حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: ولكن ليست هذه هي التي أجاز لهم القراءة بها، وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة، ومنه قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [سورة الحج آية: 11] فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق من تحليل وتحريم وغير ذلك، وقد قيل: إن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» القراءات السبع التي قرأ بها القراء السبعة؛ لأنها كلها صحت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا ليس بشيء لظهور بطلانه. القول في القراءات السبع قال كثير من علمائنا كالداوودي وابن أبي صفرة وغيرهما: هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف، ذكره ابن النحاس وغيره، وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء، وذلك أن كل واحد منهم اختار فيما روي وعلم وجهه من القراءات

فضل قراءة القرآن وحفظه وتعلمه وتعليمه

ما هو الأحسن عنده والأولى فالتزمه طريقة، ورواه وأقرأ به واشتهر عنه، وعرف به ونسب إليه، فقيل: حرف نافع وحرف ابن كثير ولم يمنع واحد منهم اختيار الآخر ولا أنكره بل سوّغه وجوّزه، وكل واحد من هؤلاء السبعة روي عنه اختياران أو أكثر وكلّ صحيح، وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة مما رووه ورأوه من القراءات وكتبوا في ذلك مصنفات، فاستمر الإجماع على الصواب، وحصل ما وعد الله به من حفظ الكتاب، وعلى هذا الأئمة المتقدمون، والفضلاء المحققون كالقاضي أبي بكر بن الطيب والطبري وغيرهما، قال ابن عطية: ومضت الأعصار والأمصار على قراءة السبعة وبها يصلّى؛ لأنها ثبتت بالإجماع؛ وأما شاذ القراءات فلا يصلى به؛ لأنه لم يجمع الناس عليه. اه. من القرطبي. فضل قراءة القرآن وحفظه وتعلمه وتعليمه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» [رواه البخاري ومسلم، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم]. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة (الطمأنينة)، وغشيتهم (عمتهم) الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» [رواه مسلم وأبو داود وغيرهما]. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه». [رواه الترمذي وقال: حديث غريب (ضعيف)]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه (يتردد في قراءته)، وهو عليه شاق له أجران». وفي رواية: والذي يقرؤه، وهو يشتد عليه له أجران» [رواه البخاري ومسلم واللفظ له، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه]. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أوصني؟ قال: عليك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله، قلت: يا رسول الله زدني. قال: عليك بتلاوة القرآن، فإنه نور لك في

الأرض، وذخر لك في السماء» [رواه ابن حبان في صحيحه في حديث طويل]. وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «القرآن شافع مشفع وماحل (خصم مجادل) مصدّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار» [رواه ابن حبان في صحيحه]. وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» [الحديث رواه مسلم]. وعن سهل بن معاذ عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن، وعمل به ألبس والداه تاجا يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا، فما ظنكم بالذي عمل بهذا» رواه أبو داود والحاكم، وكلاهما عن زيان عن سهل، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يجيء صاحب القرآن يوم القيامة، فيقول القرآن: يا رب حلّه، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده فيلبس حلّة الكرامة ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق، ويزداد بكل آية حسنة» [رواه الترمذي وحسنه وابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح الإسناد]. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق، ورتّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلت عند آخر آية تقرؤها» رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث صحيح. قال الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن، على قدر درج الجنة، فيقال للقارئ: ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن، فمن استوفى قراءة جميع القرآن، استولى على أقصى درج الجنة في الآخرة، ومن قرأ جزءا منه كان رقية في الدرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة». وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله هذا الكتاب، فقام به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أعطاه الله مالا فتصدق به آناء الليل وآناء النهار» [رواه البخاري ومسلم]. قال المملي: والمراد بالحسد هنا الغبطة، وهي تمني مثل ما للمحسود، لا تمني زوال تلك النعمة عنه، فإن ذلك الحسد المذموم. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن فقد استدرج

ترجمة القرآن وأحكامها

النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد (يغضب) مع من وجد، ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام الله» [رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد]. وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: رب إني منعته الطعام والشراب بالنهار فشفّعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفّعان» رواه أحمد وابن أبي الدنيا في كتاب الجوع، والطبراني في الكبير والحاكم واللفظ له، وقال: صحيح على شرط مسلم. وعن عبد الله، يعني ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فاقبلوا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله المتين والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوجّ فيقوّم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق (يبلى) من كثرة الرد، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته؛ كل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». رواه الحاكم من رواية صالح بن عمر عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عنه، وقال: تفرد به صالح بن عمر عنه، وهو صحيح. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر لأن تغدو فتتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل به خير من أن تصلي ألف ركعة» [رواه ابن ماجه بإسناد حسن]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله». وفي رواية: «يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» [رواه مسلم وابن ماجه، ورواه البزار من حديث أنس]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه رأى رؤيا: أنه يكتب ص فلما بلغ إلى سجدتها قال: رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا. قال: فقصصتها على النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يزل يسجد بها. [رواه أحمد ورواته رواة الصحيح]. ترجمة القرآن وأحكامها قال في مناهل العرفان للزرقاني: نوجه الأذهان في فاتحة هذا المبحث إلى أهميته وخطره من نواح ثلاث: أولاها: دقته وغموضه إلى حد جعل علماءنا يختلفون فيه قديما وحديثا.

الترجمة في اللغة:

ثانيتها: أن كثيرا من الناس قاموا في زعمهم بنقل القرآن إلى لغات كثيرة وترجمات متعددة. ثالثتها: وقوع أغلاط فاحشة في هذه التي سموها ترجمات، وكان وجودها معولا هداما لبناء مجد الإسلام، ومحاولة سيئة لزلزلة الوحدة الدينية واللغوية والاجتماعية لأمتنا الإسلامية (صانها الله). انظر ما كتبه العلامة أبو عبد الله الزنجاني في كتابه «تاريخ القرآن» إذ يقول: ربما كانت أول ترجمة إلى اللغة اللاتينية لغة العلم في أوربا، وذلك سنة 1143 م بقلم (كنت) الذي استعان في عمله ببطرس الطليطلي، وعالم ثان عربي، فيكون القرآن قد دخل أوربا عن طريق الأندلس، وكان الغرض من ترجمته عرضه على (دي كلوني) بقصد الرد عليه، ونجد فيما بعد أن القرآن ترجم ونشر باللاتينية عام (1509 م) ولكن لم يسمح للقراء أن يقتنوه ويتداولوه؛ لأن طبعته لم تكن مصحوبة بالردود. وفي عام (1594 م) أصدر (هنكلمان) ترجمته، وجاءت على الأثر عام (1598) طبعة (مراتشي) مصحوبة بالردود. أفلا ترى معنى أنه يجب علينا بإزاء ذلك أن ندلي برأي سديد في هذا الأمر الجلل؟ لنعلم ما يراد بنا وبقرآننا، ولننظر إلى أي طريق نحن مسوقون؟ عسى أن يدفعنا هذا التحري والتثبت إلى اتخاذ إجراء حازم، ننتصف فيه للحق من الباطل، ونؤدي به رسالتنا في نشر هداية الإسلام والقرآن على بصيرة ونور؟!. ولنبدأ الكلام ببيان معنى الترجمة لغة وعرفا، ثم بتقسيمها إلى حرفية وتفسيرية، ثم ببيان الفرق بين الترجمة والتفسير، فإن تحديد معاني الألفاظ وتحقيق المراد منها، مجهود مهم ومفيد، لا سيما ما كان من الأبحاث الخلافية كهذا البحث الذي نعانيه. الترجمة في اللغة: وضعت كلمة: «ترجمة» في اللغة العربية لتدل على أحد معان أربعة: أولها: تبليغ الكلام لمن لم يبلغه. ومنه قول الشاعر: إن الثمانين- وبلّغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان ثانيها: تفسير الكلام بلغته التي جاء بها ومنه قيل في ابن عباس: «إنه ترجمان القرآن». ثالثها: تفسير الكلام بلغة غير لغته. جاء في لسان العرب وفي القاموس: أن الترجمان هو المفسر للكلام. وقال شارح القاموس ما نصه: «وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر. قاله الجوهري» اه.

الترجمة في العرف:

وجاء في تفسير ابن كثير والبغوي: أن كلمة «ترجمة» تستعمل في لغة العرب بمعنى التبيين مطلقا سواء اتحدت اللغة أم اختلفت. رابعها: نقل الكلام من لغة إلى أخرى. قال في لسان العرب: «الترجمان: بالضم والفتح هو الذي يترجم الكلام أي ينقله من لغة إلى أخرى، والجمع تراجم» اه. ولكون هذه المعاني الأربعة فيها بيان، جاز على سبيل التوسع إطلاق الترجمة على كل ما فيه بيان مما عدا هذه الأربعة، فقيل: ترجم لهذا الباب بكذا، أي: عنون له، وترجم لفلان أي بيّن تاريخه. وترجم حياته أي: بيّن ما كان فيها. وترجمة هذا الباب كذا: أي بيان المقصود منه وهلم جرا. الترجمة في العرف: نريد بالعرف هنا عرف التخاطب العام، لا عرف طائفة خاصة ولا أمة معينة. جاء هذا العرف الذي تواضع عليه الناس جميعا فخص الترجمة بالمعنى الرابع اللغوي، وهو نقل الكلام من لغة إلى أخرى، ومعنى نقل الكلام من لغة إلى أخرى: التعبير عن معناه بكلام آخر من لغة أخرى، مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده كأنك نقلت الكلام نفسه من لغته الأولى إلى اللغة الثانية. تقسيم الترجمة [بالمعنى العرفي]: وتنقسم الترجمة بهذا المعنى العرفي إلى قسمين: حرفية وتفسيرية: فالترجمة الحرفية: هي التي تراعى فيها محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه، فهي تشبه وضع المرادف مكان مرادفه .. وبعض الناس يسمي هذه الترجمة ترجمة لفظية وبعضهم يسميها مساوية. والترجمة التفسيرية: هي التي لا تراعى فيها تلك المحاكاة، أي محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه، بل المهم فيها حسن تصوير المعاني والأغراض كاملة، ولهذا تسمى أيضا بالترجمة المعنوية، وسميت تفسيرية؛ لأن حسن تصوير المعاني والأغراض فيها جعلها تشبه التفسير، وما هي بتفسير كما يتبين لك بعد. فالمترجم ترجمة حرفية يقصد إلى كل كلمة في الأصل فيفهمها، ثم يستبدل بها كلمة تساويها في اللغة الأخرى مع وضعها موضعها وإحلالها محلها، وإن أدى ذلك إلى خفاء المعنى المراد من الأصل، بسبب اختلاف اللغتين في موقع استعمال الكلام في المعاني المرادة إلفا واستحسانا.

ما لا بد منه في الترجمة مطلقا:

أما المترجم ترجمة تفسيرية، فإنه يعمد إلى المعنى الذي يدل عليه تركيب الأصل فيفهمه، ثم يصبه في قالب يؤديه من اللغة الأخرى، موافقا لمراد صاحب الأصل، من غير أن يكلف نفسه عناء الوقوف عند كل مفرد ولا استبدال غيره به في موضعه. ما لا بد منه في الترجمة مطلقا: ولا بد لتحقيق معنى الترجمة مطلقا حرفية كانت أو تفسيرية، من أمور أربعة: أولها- معرفة المترجم لأوضاع اللغتين لغة الأصل ولغة الترجمة. ثانيها- معرفته لأساليبهما وخصائصهما. ثالثها- وفاء الترجمة بجميع معاني الأصل ومقاصده على وجه مطمئن. رابعها- أن تكون صيغة الترجمة مستقلة عن الأصل، بحيث يمكن أن يستغنى بها عنه، وأن تحل محله، كأنه لا أصل هناك ولا فرع، وسيأتي بيان ذلك في الفروق بين الترجمة والتفسير. ما لا بد منه في الترجمة الحرفية: ثم إن الترجمة الحرفية تتوقف بعد هذه الأربعة على أمرين آخرين: أحدهما: وجود مفردات في لغة الترجمة مساوية للمفردات التي تألف منها الأصل حتى يمكن أن يحل كل مفرد من الترجمة محل نظيره من الأصل. كما هو ملحوظ في معنى الترجمة الحرفية. ثانيهما: تشابه اللغتين في الضمائر المستترة والروابط التي تربط المفردات لتأليف التراكيب، سواء في هذا التشابه ذوات الروابط وأمكنتها، وإنما اشترطنا هذا التشابه؛ لأن محاكاة هذه الترجمة لأصلها في ترتيبه تقتضيه، ثم إن هذين الشرطين عسيران، وثانيهما أعسر من الأول، فهيهات أن تجد في لغة الترجمة مفردات مساوية لجميع مفردات الأصل. ثم هيهات هيهات أن تظفر بالتشابه بين اللغتين المنقول منها والمنقول إليها في الضمائر المستترة وفي دوال الروابط بين المفردات لتأليف المركبات. ومن أجل هذه العزة والندرة قال بعضهم: إن الترجمة الحرفية مستحيلة. وقال آخرون: إنها ممكنة في بعض الكلام دون بعض، ولقد علمت أنها بعد هذه الصعوبات يكتنفها الغموض وخفاء المعنى المقصود. أما الترجمة التفسيرية فميسورة فيما لا يعجز عنه البشر، وتكون المعاني المرادة من

فروق بين الترجمة والتفسير:

الأصل واضحة فيها غالبا، ولهذا اعتمدوا عليها في الترجمات الزمنية، وفضّلها المشتغلون بالترجمات على قسيمتها الترجمة الحرفية. فروق بين الترجمة والتفسير: ومهما تكن الترجمة حرفية أو تفسيرية فإنها غير التفسير مطلقا، سواء أكان تفسيرا بلغة الأصل، أم تفسيرا بغير لغة الأصل، ولكن كثيرا من الكاتبين اشتبه عليهم الأمر، فحسبوا أن الترجمة التفسيرية هي التفسير بغير لغة الأصل، أو هي ترجمة تفسير الأصل، ثم رتبوا على ذلك أن خلعوا حكمها على ترجمة الأصل نفسه، وكان لهذا اللبس والاشتباه مدخل في النزاع والخلاف، لهذا نرى أن نقف هنا وقفة طويلة. نرسم فيها فروقا أربعة- لا فرقا واحدا- بين هذين المشتبهين في نظرهم. (الفارق الأول): أن صيغة الترجمة صيغة استقلالية يراعى فيها الاستغناء بها عن أصلها وحلولها محله، وليس كذلك التفسير، فإنه قائم أبدا على الارتباط بأصله، بأن يؤتى مثلا بالمفرد أو المركب، ثم يشرح هذا المفرد أو المركب شرحا متصلا به اتصالا يشبه اتصال المبتدأ بخبره إن لم يكن إياه، ثم ينتقل إلى جزء آخر مفرد أو جملة، وهكذا من بداية التفسير إلى نهايته، بحيث لا يمكن تجريد التفسير، وقطع وشائج اتصاله بأصله مطلقا، ولو جرّد لتفكك الكلام وصار لغوا أو أشبه باللغو فلا يؤدي معنى سليما، فضلا عن أن يحل في جملته وتفصيله محل أصله. (الفارق الثاني): أن الترجمة لا يجوز فيها الاستطراد، أما التفسير فيجوز بل قد يجب فيه الاستطراد، وذلك لأن الترجمة مفروض فيها أنها صورة مطابقة لأصلها حاكية له، فمن الأمانة أن تساويه بدقة من غير زيادة ولا نقص، حتى لو كان في الأصل خطأ لوجب أن يكون الخطأ عينه في الترجمة، بخلاف التفسير فإن المفروض فيه أنه بيان لأصله وتوضيح له، وقد يقتضي هذا البيان والإيضاح أن يذهب المفسر مذاهب شتى في الاستطراد، توجيها لشرحه، أو تنويرا لمن يفسر لهم على مقدار حاجتهم إلى استطراده، ويظهر ذلك في شرح الألفاظ اللغوية خصوصا إذا أريد بها غير ما وضعت له، وفي المواضع التي يتوقف فهمها أو الاقتناع بها على ذكر مصطلحات أو سوق أدلة أو بيان حكمة. وهذا هو السر في أكثر تفاسير القرآن الكريم تشتمل على استطرادات متنوعة في علوم اللغة، وفي العقائد، وفي الفقه وأصوله، وفي أسباب النزول، وفي الناسخ والمنسوخ، وفي العلوم الكونية والاجتماعية وغير ذلك. ومن ألوان الاستطراد، تنبيهه على خطأ الأصل إذا أخطأ، كما نلاحظ ذلك في

شروح الكتب العلمية، ويستحيل أن تجد مثل هذا في الترجمة، وإلا كان خروجا عن واجب الأمانة والدقة فيها. (الفارق الثالث): أن الترجمة تتضمن- عرفا- دعوى الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده، وليس كذلك التفسير فإنه قائم على الإيضاح كما قلنا، سواء أكان هذا الإيضاح بطريق إجمالي أو تفصيلي، متناولا كافة المعاني والمقاصد، أو مقتصرا على بعضها دون بعض طوعا للظروف التي يخضع لها المفسّر ومن يفسر لهم، والدليل على هذا الفارق، هو حكم العرف العام الذي نتحدث الآن بلسانه، وإليك مثلا من أمثاله: رجل عثر في مخلفات أبيه على صحيفتين مخطوطتين بلغة أجنبية وهو غير عالم بهذا اللسان الأجنبي، فدفعهما إلى خبير باللغات يستفسره عنهما، فيجيبه الخبير قائلا: إن الصحيفة الأولى خطاب تافه من معوز أجنبي، يستجدي أباك فيه ويستعينه، أما الثانية فوثيقة بدين كبير لأليك على أجنبي. هنا مزّق الرجل خطاب الاستجداء ولم يحفل به، أما الوثيقة فاعتد بها وطلب من هذا المتمكن في اللغات أن يترجمها له ليقاضي المدين أمام المحكمة، لغتها لغة الترجمة. أليس معنى هذا أن التفسير لم يكفه؟ بدليل أنه طلب الترجمة من المترجم، علما بأنها هي التي تفي بكل ما تضمنته تلك الوثيقة، وبكل ما يقصد منها فلا تضعف له بها حجة، ولا يضيع عليه حق؟. (الفارق الرابع): أن الترجمة تتضمن- عرفا- دعوى الاطمئنان إلى أن جميع المعاني والمقاصد التي نقلها المترجم، هي مدلول كلام الأصل، وأنها مرادة لصاحب الأصل منه، وليس كذلك التفسير، بل المفسر تارة يدعي الاطمئنان، وذلك إذا توافرت لديه أدلته، وتارة لا يدعيه، وذلك عندما تعوزه تلك الأدلة. ثم هو طورا يصرح بالاحتمال ويذكر وجوها محتملة مرجحا بعضها على بعض، وطورا يسكت عن التصريح أو عن الترجيح، وقد يبلغ به الأمر أن يعلن عجزه عن فهم كلمة أو جملة ويقول: ربّ الكلام أعلم بمراده، على نحو ما نحفظه لكثير من المفسرين إذا عرضوا لمتشابهات القرآن ولفواتح السور المعروفة. ودليلنا على أنّ الترجمة تتضمن دعوى الاطمئنان إلى ما حوت من معان ومقاصد، وهو شهادة العرف العام- أيضا- بذلك، وجريان عمل الناس جميعا في الترجمات على هذا الاعتبار، فهم يحلونها محل أصولها إذا شاءوا، ويستغنون بها عن تلك الأصول، بل قد ينسون هذه الأصول جملة، ويغيب عنهم أن الترجمات ترجمات فيحذفون لفظ ترجمة من الاسم،

تنبيهان مفيدان:

ويطلقون عليها اسم الأصل نفسه، كأنما الترجمة أصل، أو كأنه لا أصل هناك ولا فرع. وإن كنت في ريب فاسأل الناس عما بين أيدينا من ترجمات عربية لطائفة من كتبهم التي يقدسونها، ويطلقون على بعضها اسم توراة، وعلى بعضها اسم إنجيل، وما هما بالتوراة ولا بالإنجيل، إنما هما ترجمتان عربيتان لأصلين عبريين باعترافهم. ولكنهم أسقطوا حسب العرف العام لفظ ترجمة من العنوانين الاثنين، وما ذاك إلا لما وقر في النفوس من أن الترجمة صورة مطابقة للأصل، مطمئنة إلى أنها تؤدي جميع مؤداه، لا فرق بينهما إلا في القشرة اللفظية. وقل مثل ذلك فيما نعرفه من ترجمات للقوانين والوثائق الدولية والشخصية ومن ترجمات للكتب العلمية والفنية والأدبية، وهي كثيرة غنية عن التنويه والتمثيل. يقال كل هذا في الترجمات، ولا يمكن أن يقال مثله في التفسير، فإننا ما سمعنا أن كلمة تفسير أسقطت من عنوان كتاب من كتبه. ويدل على هذا تلك الإطلاقات الشائعة: تفسير البيضاوي، تفسير النسفي، تفسير الجلالين، وما أشبهها من تفسيرات القرآن الكريم. تنبيهان مفيدان: أولهما: أنه لا فرق بين الترجمة الحرفية والتفسيرية من حيث الحقيقة ، فكلتاهما تعبير عن معنى كلام في لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده، وما الفرق بينهما إلا شكلي وهو أن يحل كل مفرد في الترجمة الحرفية محل مقابله من الأصل، بخلاف التفسيرية كما بينّا، فلا تظن بعد هذا أن كلمة ترجمة تنصرف إلى الحرفية أكثر مما تنصرف إلى التفسيرية كما يظن بعض الناس، بل التفسيرية أثبت قدما وأعرق وجودا وأقرب إلى الأذهان عند الإطلاق، لأنها هي الميسورة، وهي الواضحة، وهي التي يتداولها المترجمون والقراء جميعا، أما الحرفية فإنها تكاد تكون نظرية بحتة، وذلك من تعسّرها أو تعذّرها، ومن غموضها وخفائها أحيانا، ومن ندرة إقبال التراجم والقراء عليها كما سبق. ثانيهما: أن تفسير الأصل بلغته، يساوي تفسيره بغير لغته ، فيما عدا القشرة اللفظية، ألا ترى أنك إذا قرأت درس تفسير للخاصة كاشفا فيه عن معان معينة باللغة العربية، ثم قرأت هذا الدرس عينه للعامة كاشفا عن هذه المعاني نفسها ولكن بلغة المخاطبين العامية، فهل تشك في مساواة هذا التفسير لذاك في بيان المعاني المعينة التي فهمتها من الأصل؟ وهل تجد بينهما خلافا إلا في لغة التعبير وقشرة اللفظ؟. إذا لا حطنا ذلك أمنّا الاشتباه من هذه الناحية وأمكن أن نستغني في بحثنا هذا بذكر المساوي عن ذكر مساويه، ثقة بأن ما يقال في أحدهما يقال مثله في الآخر، فتنبه إلى ذلك دائما.

القرآن ومعانيه ومقاصده

القرآن ومعانيه ومقاصده الآن وقد انتهينا من الكلام على أول المتضايفين في لفظ (ترجمة القرآن)، نقف معك وقفة أخرى بجانب ثاني هذين المتضايفين في لفظ القرآن الكريم نفسه لتستبين المراد به هنا، ولتعرف أنواع معانيه ومقاصده تمهيدا للحكم الصحيح عليه بأنه تمكن ترجمته أو لا تمكن. معاني القرآن نوعان: وبما أن الترجمة ملحوظ فيها الإحاطة بمعاني الأصل كلها، نحيطك علما بأن القرآن الكريم، بل أي كلام بليغ، لا بد أن يحتوي ضربين من المعاني هما المعاني الأولية والمعاني الثانوية، أو المعاني الأصلية والمعاني التابعة، فالمعنى الأوّلي لأيّ كلام بليغ هو ما يستفاد من هذا الكلام ومن أي صيغة تؤديه سواه، ولو بلغة أخرى كمجرد إسناد محكوم به إلى محكوم عليه. وسمّي معنى أوّليّا؛ لأنه أول ما يفهم من اللفظ. وسمّي أصليّا؛ لأنه ثابت ثبات الأصول، لا يختلف باختلاف المتكلمين ولا المخاطبين ولا لغات التخاطب، بل هو مما يستوي فيه العربي والعجمي والحضري والبدوي والذكي والغبي. أما المعنى الثانوي فهو ما يستفاد من الكلام زائدا عن معناه الأوّلي، وسمّي ثانويّا؛ لأنه متأخر في فهمه عن ذلك. والكلام البليغ يتفاوت تفاوتا بعيد المدى، تبعا لدرجة توافر هذه الزوائد فيه كلّا أو بعضا، ولم تعرف الدنيا ولن تعرف كلاما بلغ الطرف الأعلى والنهاية العظمى في الإحاطة بكل الخواص البلاغية، سوى القرآن الكريم، الذي انقطعت دونه أعناق الفحول من البلغاء، وانبهرت في حلبته أنفاس الموهوبين من الفصحاء، حتى شهدوا على أنفسهم بالعجز حين شاهدوا روائع الإعجاز، ورأوا أن كلامهم وإن علا فهو من الخلق أما القرآن فهو من الخلّاق!

مقاصد القرآن الكريم

مقاصد القرآن الكريم بما أن الترجمة- عرفا- لابد أن تتناول مقاصد الأصل جميعا، فإنا نقفك على أن لله تعالى في إنزال كتابه العزيز ثلاثة مقاصد رئيسية: 1 - أن يكون هداية للثقلين. 2 - أن يقوم آية لتأييد النبي صلّى الله عليه وسلم. 3 - أن يتعبد الله خلقه بتلاوة هذا الطراز الأعلى من كلامه المقدس. [المقصد الأول] هداية القرآن: هداية القرآن تمتاز بأنها عامة، وتامة، وواضحة. أما عمومها: فلأنها تنتظم الإنس والجن في كل عصر ومصر، وفي كل زمان ومكان قال الله سبحانه: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [سورة الفرقان آية: 1]. وقال سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [سورة الأعراف آية: 158]. وأما تمام هذه الهداية: فلأنها احتوت أرقى وأوفى ما عرفت البشرية وعرف التاريخ من هدايات الله للناس، وانتظمت كل ما يحتاج إليه الخلق في العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات على اختلاف أنواعها، وجمعت بين مصالح البشر في العاجلة والآجلة، ونظمت علاقة الإنسان بربه، وبالكون الذي يعيش فيه، ووفّقت بطريقة حكيمة بين مطالب الروح والجسد. وأما وضوح هذه الهداية: فلعرضها- عرضا رائعا مؤثرا، توافرت فيه كل وسائل الإيضاح وعوامل الإقناع- أسلوب فذ معجز في بلاغته وبيانه، واستدلال بسيط عميق يستمد بساطته وعمقه من كتاب الكون الناطق، وأمثال خلابة تخرج أدق المعقولات في صورة أجلى المحسوسات، وحكم بالغات تبهر الألباب بمحاسن الإسلام، وجلال التشريع، وقصص حكيم مختار يقوي الإيمان واليقين، ويهذب النفوس والغرائز، ويصقل الأفكار والعواطف، ويدفع الإنسان دفعا إلى التضحية والنهضة، ويصور له مستقبل الأبرار والفجار تصويرا يجعله كأنه حاضر تراه الأبصار في رابعة النهار، والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن الكريم. والمهم أن نعلم في هذا المقام أن الهدايات القرآنية منها ما استفيد من معاني القرآن

الأصلية، ومنها ما استفيد من معانيه الثانوية. أما القسم الأول فواضح لا يحتاج إلى تمثيل، وهو موضع اتفاق بين الجميع، وأما القسم الثاني ففيه دقة جعلت بعض الباحثين يجادل فيه، وإنا نوضحه لك بأمثلة نستمدها من فاتحة الكتاب العزيز: - منها: استفادة أدب الابتداء بالبسملة في كل أمر ذي بال، أخذا من ابتداء الله كلامه بها، ومن افتتاحه كل سورة من سوره بها عدا سورة التوبة. - ومنها: أن الاستعانة في أي شيء لا تستمد إلا من اسم الله وحده، أخذا من إضافة الاسم إلى لفظ الجلالة موصوفا بالرحمن الرحيم، ومن القصر المفهوم من البسملة على تقدير عامل الجار والمجرور متأخرا، ومن تقدير هذا العامل عامّا لا خاصّا. - ومنها: استفادة الاستدلال على أن الحمد مستحق لله بأمور ثلاثة: تربيته تعالى للعوالم كلها، ورحمته الواسعة التي ظهرت آثارها وتأصّل اتصافه تعالى بها، وتصرفه وحده بالجزاء العادل يوم الجزاء، وذلك أخذا من جريان هذه الأوصاف على اسم الجلالة في مقام حمده بقوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. - ومنها: استفادة التوحيد بنوعيه: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية من القصر الماثل في قوله سبحانه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. ومنها: استفادة دليل هذا التوحيد من الآيات السابقة عليه ووقوعه هو في سياقها عقيبها كما تقع النتيجة عقب مقدماتها. - ومنها: استفادة أن الهداية إلى الصراط المستقيم هي المطمع الأسمى الذي يجب أن يرمي إليه الناس ويتنافس فيه المتنافسون، يدل على ذلك اختيارها والاقتصار على طلبها والدعاء بها، ثم انتهاء سورة الفاتحة بها كما تنتهي البدايات بمقاصدها. - ومنها: استفادة أن الهداية لا يرجى فيها إلا الله وحده؛ لأنها انتظمت مع آيات التوحيد قبلها في سمط (خيط) واحد. - ومنها: استفادة أدب من الآداب، هو أن يقدم الداعي ثناء الله على دعائه، استنتاجا من ترتيب هذه الآيات الكريمة، حيث تقدم فيها ما يتصل بحمد الله وتمجيده وتوحيده على ما يتصل بدعائه واستهدائه. هذه أمثلة اقتبسناها من سورة الفاتحة ونحن لا نظن أن أحدا يخاصم فيها. واعلم أن قرآنية القرآن وامتيازه، ترتبط بمعانيه الثانوية وما استفيد منها، أكثر مما

المقصد الثاني إعجاز القرآن:

ترتبط بمعانيه الأصلية وما استفيد منها، للاعتبارات الآنفة، ولأن المعاني الأصلية ضيقة الدائرة محدودة الأفق، أما المعاني الثانوية فبحر زاخر متلاطم الأمواج تتجلى فيها علوم الله وحكمته وعظمته الإلهية، وتظهر منها فيوضات الله وإلهاماته العلوية على من وهبهم هذه الفيوضات والإلهامات من عباده المصطفين، وورثة كلامه المقربين، وأهل الذوق والصفاء من العلماء العاملين، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. آمين. [المقصد الثاني] إعجاز القرآن: المقصد الثاني من نزول القرآن الكريم: أن يقوم في فم الدنيا آية شاهدة برسالة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، وأن يبقى على جبهة الدهر معجزة خالدة تنطق بالهدى ودين الحق، ظاهرا على الدين كله، ووجوه إعجاز القرآن الكريم كثيرة نفصلها في مبحثها إن شاء الله، بيد أننا ننبهك هنا إلى أن بلاغته العليا وجه بارز من هذه الوجوه، بل هي أبرز وجوهه وجودا، وأعظمها أفرادا؛ لأن كل مقدار ثلاث آيات قصار معجز ولو كان هذا المقدار من آية واحدة طويلة، فقد تحدى الله أئمة البيان أن يأتوا بسورة من مثله، وأقصر سورة هي سورة الكوثر، وآياتها ثلاث قصار، وإذا كان أئمة البيان في عصر ازدهاره والنباغة فيه قد عجزوا فسائر الخلق أشد عجزا، ولقد فرغنا من أن بلاغة القرآن منوطة بما اشتمل عليه من الخصوصيات، والاعتبارات الزائدة وأنت خبير بأنها سارية فيه سريان الماء في العود الأخضر أو سريان الروح في الجسم الحي، وإن نظم القرآن الكريم مصدر لهداياته كلها سواء منها ما كان طريقه هيكل النظم، وما كان طريقه تلك الخصوصيات الزائدة عليه، وهنا يطالعك العجب العجاب، حين تجد دليل صدق الهداية الإسلامية قد آخاها، واتحد مطلعهما في سماء القرآن فأداه وأداها. [المقصد الثالث] التعبد بتلاوة القرآن: المقصد الثالث من نزول القرآن: أن يتعبد الله خلقه بتلاوته، ويقربهم إليه، ويأجرهم على مجرد ترديد لفظه ولو من غير فهمه، فإذا ضموا إلى التلاوة فهما زادوا أجرا على أجر. قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [سورة فاطر آية: 29 - 30]. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف»

حكم ترجمة القرآن تفصيلا

[رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وروى الحاكم مثله مرفوعا وقال: صحيح الإسناد]. وجاء في حديث آخر عن أنس أنه قال: «أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن» وسنده ضعيف، غير أنه يتقوى بغيره ثم إن هذه خصيصة امتاز بها القرآن الكريم، أما غيره فلا أجر على مجرد تلاوته، بل لا بد من التفكر فيه وتدبره، حتى الصلاة التي هي عماد الدين ليس للمرء من ثوابها إلا بمقدار ما عقل منها. حكم ترجمة القرآن تفصيلا 1 - ترجمة القرآن بمعنى تبليغ ألفاظه: تطلق ترجمة القرآن إطلاقا مستندا إلى اللغة ويراد بها: تبليغ ألفاظه ونقلها إلى الغير، وحكمها حينئذ أنها جائزة شرعا، والمراد بالجواز هنا ما يقابل الحظر فيصدق بالوجوب وبالندب، وإن شئت دليلا فها هو صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن ويسمعه أولياءه وأعداءه. ويدعو إلى الله به في مولده ومهاجره، وفي سفره وحضره، والأمة من ورائه نهجت نهجه، فبلّغت ألفاظ القرآن، وتلقاها بعضهم عن بعض فردا عن فرد، وجماعة عن جماعة، وجيلا عن جيل حتى وصل إلينا متواترا، ثم ها هو القرآن نفسه يتوعد كاتميه ويقول: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة آية: 159، 160]. والنبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «بلّغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» [رواه البخاري والترمذي وأحمد]. ويقول صلّى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» [رواه الشيخان]. 2 - ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغته العربية: هذا هو الإطلاق الثاني المستند إلى اللغة- أيضا- كما مرّ، ويراد به تفسير القرآن بلغته العربية لا بلغة أخرى، وغني عن البيان أن حكمه الجواز بالمعنى الآنف، وإن كنت في شك فهاك القرآن نفسه يقول الله فيه لنبيه صلّى الله عليه وسلم: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل آية: 44]. ولقد قام الرسول صلّى الله عليه وسلم ببيانه العربي خير قيام، حتى اعتبرت السنة النبوية كلها شارحة له، ونقل منها في التفسير بالمأثور شيء كثير.

3 - ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية:

ولقد تأثر العلماء برسول الله صلّى الله عليه وسلم في ذلك منذ عهد الصحابة إلى اليوم، وها هي المكتبات العامة والخاصة زاخرة بالتفاسير العربية للقرآن الكريم على رغم ما اندثر منها، وعلى رغم ما يأتي به المستقبل من تفاسير يؤلفها من لا يقنعون بقديم، ويتلقاها عنهم من يجدون في أنفسهم حاجة إلى عرض جديد لعلوم القرآن والدين، مما يدل على أن القرآن بحر الله الخضم، وأن العلماء جميعا من قدامى ومحدثين لا يزالون وقوفا بساحله، يأخذون منه على قدر قرائحهم وفهومهم، والبحر بعد ذلك هو البحر في فيضانه وامتلائه، والقرآن هو القرآن في ثروته وغناه بعلومه وبأسراره: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [سورة الكهف آية: 109]. 3 - ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية: هذا هو الإطلاق الثالث المستند إلى اللغة- أيضا- ويراد به تفسير القرآن بلغة غير لغته، أي بلغة أعجمية لا عربية، ولا ريب عندنا في أن تفسير القرآن بلسان أعجمي لمن لا يحسن العربية، يجري في حكمه مجرى تفسيره بلسان عربي لمن يحسن العربية، فكلاهما عرض لما يفهمه المفسر من كتاب الله بلغة يفهمها مخاطبه، لا عرض لترجمة القرآن نفسه، وكلاهما حكاية لما يستطاع من المعاني والمقاصد، لا حكاية لجميع المقاصد، وتفسير القرآن الكريم يكفي في تحققه أن يكون بيانا لمراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية، ولو جاء على احتمال واحد؛ لأن التفسير في اللغة هو الإيضاح والبيان، وهما يتحققان ببيان المعنى ولو من وجه. ولأن التفسير في الاصطلاح: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله بقدر الطاقة البشرية، وهذا يتحقق أيضا بعرض معنى واحد من جملة معان يحتملها التنزيل، وإذا كان تفسير القرآن بيانا لمراد الله بقدر الطاقة البشرية، فهذا البيان يستوي فيه ما كان بلغة العرب، وما ليس بلغة العرب؛ لأن كلّا منهما مقدور للبشر، وكلّا منهما يحتاجه البشر، بيد أنه لا بد من أمرين: 1 - أن يستوفي هذا النوع شروط التفسير باعتبار أنه تفسير. 2 - أن يستوفي شروط الترجمة باعتبار أنه نقل لما يمكن من معاني اللفظ العربي بلغة غير عربية.

أمور مهمة:

أمور مهمة: ونسترعي نظرك إلى أمور مهمة: أولها: أن علماءنا حظروا كتابة القرآن بحروف غير عربية ، وعلى هذا يجب عند ترجمة القرآن بهذا المعنى إلى أية لغة أن تكتب الآيات القرآنية إذا كتبت بالحروف العربية كيلا يقع إخلال وتحريف في لفظه، فيتبعهما تغيير وفساد في معناه. سئلت لجنة الفتوى في الأزهر عن كتابة القرآن بالحروف اللاتينية، فأجابت: بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله بما نصه «لا شك أن الحروف اللاتينية المعروفة خالية من عدة حروف توافق العربية، فلا تؤدي جميع ما تؤديه الحروف العربية فلو كتب القرآن الكريم بها على طريقة النظم العربي- كما يفهم من الاستفتاء، لوقع الإخلال والتحريف في لفظه، ويتبعهما تغيير المعنى وفساده، وقد قضت نصوص الشريعة بأن يصان القرآن الكريم من كل ما يعرضه للتبديل والتحريف. وأجمع علماء المسلمين سلفا وخلفا على أن كل تصرف في القرآن يؤدي إلى تحريف في لفظه أو تغيير في معناه ممنوع منعا تامّا، ومحرم تحريما قاطعا، وقد التزم الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم إلى يومنا هذا كتابة القرآن بالحروف العربية». الأمر الثاني: أن تفاسير القرآن المتداولة بيننا تتناول المفرد من الأصل، وبجانبه شرحه ثم تتناول الجملة أو الآية وشرحها متصل بها كذلك غالبا. ومعنى هذا أن ألفاظ القرآن منبثة في ثنايا التفسير على وجه من الارتباط والإحكام، بحيث لو جردنا التفاسير من ألفاظ الأصل لعادت التفاسير لغوا من القول، وضربا من السخف، ونحن لا نريد هنا في تفسير القرآن بلغة أجنبية أن تذكر مفردات القرآن وجمله مكتوبة بتلك اللغة الأجنبية أو مترجمة بهذه اللغة، ثم تشفع بتفسيرها المذكور؛ فلقد قررنا أن كتابة القرآن بغير العربية ممنوعة وسنقرر أن ترجمته بالمعنى العرفي الحرفي مستحيلة. إنما نريد هنا نوعا من التفسير يجوز أن يصدر بطائفة من ألفاظ الأصل على ما هي عليه في عروبتها رسما ولفظا، إذا وضع لطائفة من المسلمين ثم يذكر عقيبها المعنى الذي فهمه المفسر غير مختلط بشيء من ألفاظ الأصل ولا ترجمته، بل يكون هذا المعنى كله من كلام المفسر، ويصاغ بطريقة تدل على أنه تفسير لا ترجمة كأن يقال: معنى الآية المرقومة برقم كذا من سورة كذا هو كذا وكذا. أو يقال في أول نوبة من نوبات التفسير: معنى هذه الجملة أو الآية كذا. ثم يبين في كلتا الطريقتين أن هذا المعنى مقطوع به أو أنه محتمل، ويستطرد بما يظن أن حاجة المخاطبين ماسة إليه من التعريف بالمصطلحات

الأمر الثالث: أن ترجمة القرآن بهذا المعنى مساوية لترجمة تفسيره العربي.

الإسلامية والأسرار والحكم التشريعية والتنبيه على الأخطاء التي وقعت فيها الترجمات المزعومة، ونحو ذلك مما يوقع في روع القارئ أن ما يقرؤه ليس ترجمة للأصل محيطة بجميع معانيه ومقاصده إنما هو تفسير فحسب، لم يحمل من معاني القرآن ومقاصده إلا قلّا من كثر وقطرة من بحر. أما القرآن نفسه فأعظم من هذا التفسير بكثير، كيف وهو النص المعجز في ألفاظه ومعانيه من كلام العليم الخبير؟! الأمر الثالث: أن ترجمة القرآن بهذا المعنى مساوية لترجمة تفسيره العربي. لأن الترجمة هنا لم تتناول في الحقيقة إلا رأي هذا المفسر وفهمه لمراد الله على قدر طاقته، خطأ كان فهمه أو صوابا، ولم تتناول كل مراد الله من كلامه قطعا فكأن هذا المفسر وضع أولا تفسيرا عربيّا ثم ترجم هذا التفسير الذي وضعه. وإن شئت فقل: إنه ترجم تفسيرا للقرآن قام هو به غير أنه لم يدوّنه، وأنت خبير بأن التفسير هو التفسير، سواء أدوّنه صاحبه أم لم يدونه. الأمر الرابع: ذهب بعضهم إلى تسمية هذا النوع وما يشبهه ترجمة تفسيرية للقرآن بالمعنى العرفي ونحن- مع علمنا بأن الخلاف في التسمية تافه- لا نستطيع أن نرى رأيهم لشهادة العرف التي أقمناها ثم اعتمدنا عليها في رسم الفوارق الأربعة بين أي ترجمة وأي تفسير. فترجمة القرآن- على فرض إمكانها- تصوير لكل ما أراد منزله من معانيه ومقاصده. وترجمة التفسير تصوير لكل ما أراد المفسر من معانيه ومقاصده. والقرآن لا يمكن أن يكون في معانيه المرادة لله خطأ أبدا، فإذا صحت ترجمته على فرض إمكانها، وجب ألا تحمل ولا تصور خطأ. أما التفسير فيمكن أن يكون في معانيه المرادة للمفسر خطأ أي خطأ، وعلى هذا فترجمة هذا التفسير ترجمة صحيحة لا بد أن تحمل هذا الخطأ وتصوره؛ وإلا لما صح أن تكون ترجمة له؛ لأن الترجمة صورة مطابقة للأصل، ومرآة حاكية له على ما هو عليه، من صواب أو خطأ، إيمان أو كفر، حق أو باطل. والقرآن مليء بالمعاني والأسرار الجلية والخفية إلى درجة تعجز المخلوق عن الإحاطة بها، فضلا عن قدرته على محاكاتها وتصويرها، بلغة عربية أو أعجمية. أما التفسير فمعانيه محدودة؛ لأن قدرة صاحبه محدودة، مهما حلّق في سماء البلاغة والعلم. وعلى هذا فعدسة أي مصور له، تستطيع التقاطه وتصويره بالترجمة إلى أية لغة. الأمر الخامس: يجب أن تسمى مثل هذه الترجمة، ترجمة تفسير القرآن ، أو تفسير القرآن بلغة كذا، ولا يجوز أن تسمى ترجمة القرآن بهذا الإطلاق اللغوي المحض، لما علمت من أن لفظ ترجمة القرآن مشترك بين معان أربعة، وأن المعنى الرابع هو المتبادر إلى الأذهان عند الإطلاق نظرا إلى أن العرف الأممي العام لا يعرف سواه. ولا يجوز أيضا أن تسمى

الأمر السادس: يحسن أن يدون التفسير العربي وتشفع به ترجمته هذه

ترجمة معاني القرآن؛ لأن الترجمة لا تضاف إلا إلى الألفاظ، ولأن هذه التسمية توهم أنها ترجمة للقرآن نفسه، خصوصا إذا لا حظنا أن كل ترجمة لا تنقل إلى المعاني دون الألفاظ. الأمر السادس: يحسن أن يدون التفسير العربي وتشفع به ترجمته هذه ، ليكون ذلك أنفى للريب وأهدى للحق، وأظهر في أنه ترجمة تفسير لا ترجمة قرآن، ومن عرف قدر القرآن لم يبخل عليه بهذا الاحتياط، لا سيما في هذا الزمن الذي تنمّر فيه أعداء الإسلام، وحاربونا فيه بأسلحة مسمومة من كل مكان. الأمر السابع: يجب أن يصدر هذا التفسير المترجم بمقدمة تنفي عنه في صراحة أنه ترجمة للقرآن نفسه ، وتبين أن ترجمة القرآن نفسه بالمعنى المتعارف عليه أمر دونه خرط القتاد؛ لأن طبيعة تأليف هذا الكتاب تأبى أن يكون له نظير يحاكيه، لا من لغته ولا من غير لغته، وذلك هو معنى إعجازه البلاغي، ومن أراد أن يتصور هذا اللون من ألوان إعجازه فلينتقل هو إلى هذا الكتاب ولغته؛ فيتذوقه بها وبأساليبها، ومن المحال أن ينتقل هذا الكتاب العزيز تاركا عرشه الذي بوأه الله إياه وهو عرش اللغة العربية. وماذا يبقى للملك من عزة وسلطان إذا هو تخلى عن عرشه وملكه؟ وهذا القرآن جعله الله ملك الكلام، وتوّجه بتاج الإعجاز، واختار لغته العربية مظهرا لهذا الإعجاز والاعتزاز: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت آية: 41، 42]. فوائد الترجمة بهذا المعنى لترجمة القرآن بهذا المعنى فوائد كنا في غنى عن بيانها بما أشرنا إليه من أنها كالتفسير العربي الذي اتفق الجميع على جوازه بشرطه. ولكن بعض الباحثين توقفوا في جواز هذه الترجمة كما توقفوا في جواز الترجمة بالمعنى الآتي مع بعد ما بينهما، ثم تذرعوا بأنه لا فائدة ترجى منها، وأثاروا شبهات حولها. لهذا نبسط القول ببيان فوائد هذه الترجمة ثم بدفع الشبهات عنها. أما فوائدها فنشرحها فيما يأتي: الفائدة الأولى: رفع النقاب عن جمال القرآن ومحاسنه لمن لم يستطع أن يراها بمنظار اللغة العربية من المسلمين الأعاجم، وتيسير فهمه عليهم بهذا النوع من الترجمة ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم. ويعظم تقديرهم للقرآن، ويشتد شوقهم إليه فيهتدوا بهديه، ويغترفوا من بحره، ويستمتعوا بما حواه من نبل في المقاصد، وقوة في الدلائل وسموّ في التعاليم، ووضوح وعمق في العقائد، وطهر ورشد في العبادات، ودفع قوي إلى مكارم الأخلاق، وردع زاجر عن الرذائل والآثام، وإصلاح معجز للفرد والمجموع،

الفائدة الثانية: دفع الشبهات التي لفقها أعداء الإسلام وألصقوها بالقرآن وتفسيره

واختيار موفق لأحسن القصص، وإخبار عن كثير من أنباء الغيب، وكشف عن معجزات كرّم الله بها رسوله وأمته، إلى غير ذلك مما من شأنه أن يسمو بالنفوس الإنسانية، ويملأ العالم حضارة صحيحة ومدنية. ولقد دلتنا التجارب على أن كثيرا من هؤلاء الذين أحسوا جلال القرآن عن طريق تفسيره فكروا في حفظه واستظهاره ودراسة لغته وعلومه، ليرتشفوا بأنفسهم من منهله الرّويّ ويشبعوا نهمتهم من غذائه الهني، مادام هذا التفسير وغيره لا يحمل كل معاني الأصل، وما دام ثواب الله يجري على كل من نظر في الأصل أو تلا نفس ألفاظ الأصل. الفائدة الثانية: دفع الشبهات التي لفقها أعداء الإسلام وألصقوها بالقرآن وتفسيره كذبا وافتراء، ثم ضلّلوا بها هؤلاء المسلمين الذين لا يحذقون اللسان العربي في شكل ترجمات مزعومة للقرآن، أو مؤلفات علمية وتاريخية للطلاب، أو دوائر معارف للقراء، أو دروس ومحاضرات للجمهور، أو صحف ومجلات للعامة والخاصة. الفائدة الثالثة: تنوير غير المسلمين من الأجانب بحقائق الإسلام وتعاليمه خصوصا في هذا العصر القائم على الدعايات، وبين نيران هذه الحروف التي أوقدها أهل الملل والنحل الأخرى، حتى ضل الحق أو كاد يضل في سواد الباطل، وخفت صوت الإسلام أو كاد يخفت بين ضجيج غيره من المذاهب المتطرفة والأديان المنحرفة. الفائدة الرابعة: إزالة الحواجز والموانع التي أقامها الخبثاء الماكرون للحيلولة بين الإسلام وعشاق الحق من الأمم الأجنبية. وهذه الحواجز والموانع ترتكز في الغالب على أكاذيب افتروها تارة على الإسلام، وتارة أخرى على نبي الإسلام. وكثيرا ما ينسبون هذه الأكاذيب إلى القرآن وتفاسيره، وإلى تاريخ الرسول صلّى الله عليه وسلم وسيرته، ثم يدسونها فيما يزعمونه ترجمات للقرآن، وفيما يقرأ الناس ويسمعون بالوسائل الأخرى. فإذا نحن ترجمنا تفسير القرآن أو فسّرنا القرآن بلغة أخرى مع العناية بشروط التفسير وشروط الترجمة، ومع العناية التامة بدفع الشبهات والأباطيل الرائجة فيهم عند كل مناسبة، تزلزلت بلا شك تلك القصور التي أقاموها من الخرافات والأباطيل وزالت العقبات من طريق طلاب الحق وعشاقه من كل قبيل. وهاك كلمة يؤيدنا بها الكاتب الإنجليزي (بيرناردشو) إذ يقول: «لقد طبع رجال الكنيسة في القرون الوسطى دين الإسلام بطابع أسود حالك، إما جهلا وإما تعصبا، إنهم كانوا في الحقيقة مسوقين بعامل بغض محمد ودينه، فعندهم أن محمدا كان عدوّا للمسيح. ولقد درست سيرة محمد الرجل العجيب، وفي رأيي أنه بعيد جدّا من أن

الفائدة الخامسة: براءة ذمتنا من واجب تبليغ القرآن بلفظه ومعناه

يكون عدوّا للمسيح. إنما ينبغي أن يدعي منقذ البشرية، إلخ ما قال بمجلة «ذي مسلم رفيوبلكنو» الهند في جزء مارس سنة 1933 م. الفائدة الخامسة: براءة ذمتنا من واجب تبليغ القرآن بلفظه ومعناه ، فإن هذه الترجمة جمعت بين النص الكريم بلفظه ورسمه العربيين، وبين معاني القرآن على ما فهمه المفسر وشرحه باللغة الأجنبية. قال السيوطي وابن بطال والحافظ ابن حجر وغيرهم من العلماء: إن الوحي يجب تبليغه ولكنه قسمان: قسم تبليغه بنظمه ومعناه وجوبا، وهو القرآن الكريم. وقسم يصح أن يبلغ بمعناه دون لفظه، وهو ما عدا القرآن. وبذلك يتم التبليغ. 4 - ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى: هذا هو الإطلاق الرابع المستند إلى اللغة. ثم هو الإطلاق الوحيد في عرف التخاطب الأممي العام. ويمكننا أن نعرّف ترجمة القرآن بهذا الإطلاق تعريفا مضغوطا على نمط تعريفهم فنقول: هي نقل القرآن من لغته العربية إلى لغة أخرى. ويمكننا أن نعرفها تعريفا مبسوطا فنقول: ترجمة القرآن هي التعبير عن معاني ألفاظه العربية ومقاصدها بألفاظ غير عربية، مع الوفاء بجميع هذه المعاني والمقاصد. ثم إن لوحظ في هذه الترجمة ترتيب ألفاظ القرآن، فتلك ترجمة القرآن الحرفية أو اللفظية أو المساوية، وإن لم يلاحظ فيها هذا الترتيب، فتلك ترجمة القرآن التفسيرية أو المعنوية. والناظر فيما سلف من الكلام على معنى الترجمة وتقسيمها والفروق بينها وبين التفسير يستغني هنا عن شرح التعريف والتمثيل للمعرف في قسميه، كما يستغني عن التدليل على أن هذا المعنى وحده هو المعنى الاصطلاحي الفريد في لسان التخاطب العام بين الأمم، ويعلم أن ترجمة القرآن بهذا المعنى خلاف تفسيره بلغته العربية. وخلاف تفسيره بغير لغته العربية، وخلاف ترجمة تفسيره العربي ترجمة حرفية أو تفسيرية، فارجع إلى هذا الذي أسلفناه إن شئت.

الحكم على هذه الترجمة بالاستحالة العادية:

الحكم على هذه الترجمة بالاستحالة العادية: أما حكم ترجمة القرآن بهذا المعنى فالاستحالة العادية والشرعية. أي عدم إمكان وقوعها عادة، وحرمة محاولتها شرعا. ولنا على استحالتها العادية طريقان في الاستدلال: الطريق الأول: أن ترجمة القرآن بهذا المعنى تستلزم المحال، وكل ما يستلزم المحال محال. والدليل على أنها تستلزم المحال أنه لا بد في تحققها من الوفاء بجميع معاني القرآن الأولية والثانوية وبجميع مقاصده الرئيسية الثلاثة وكلا هذين مستحيل. أما الأول فلأن المعاني الثانوية يدل عليها خصائصه العليا التي هي مناط بلاغته وإعجازه كما بينا من قبل، وما كان لبشر أن يحيط بها فضلا عن أن يحاكيها في كلام له، وإلا لما تحقق هذا الإعجاز. وأما الثاني: فلأن المقصد الأول من القرآن إن أمكن تحقيقه في الترجمة بالنسبة إلى كل ما يفهم من معاني القرآن الأصلية فهو لا يمكن تحقيقه بالنسبة إلى كل ما يفهم من معاني القرآن الثانوية التابعة، لأنها مدلولة لخصائصه العليا التي هي مناط إعجازه البلاغي كما سبق. وكذلك مقصد القرآن الثاني وهو كونه آية لا يمكن تحقيقه فيما سواه من كلام البشر عربيّا كان أو أعجميّا، وإلا لما صح أن يكون آية خارقة، ومعجزة غير ممكنة، حين تتناول هذا المقصد قدرة البشر. كيف والمفروض أن القرآن آية بل آيات، ومعجزة بل معجزات لا يقدر عليها إلا الله وحده جل وعلا؟. ويجري هذا المجرى مقصد القرآن الثالث، وهو كونه متعبدا بتلاوته، فإنه لا يمكن أن يتحقق في الترجمة؛ لأن ترجمة القرآن غير القرآن قطعا، والتعبد بالتلاوة إنما ورد في خصوص القرآن وألفاظه عينها بأساليبها وترتيباتها نفسها، دون أي ألفاظ أو أساليب أخرى، ولو كانت عربية مرادفة لألفاظ الأصل وأساليبه. الطريق الثاني: أن ترجمة القرآن بهذا المعنى مثل للقرآن، وكل مثل للقرآن مستحيل. أما إنها مثل له فلأنها جمعت معانيه كلها ومقاصده كلها لم تترك شيئا، والجامع لمعاني القرآن ومقاصده مثل له أي مثل. وأما أن كان كل مثل للقرآن مستحيل، فلأن القرآن تحدى العرب أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه فعجزوا عن المعارضة والمحاكاة، وهم يومئذ أئمة البلاغة والبيان وأحرص ما يكونون على الغلبة والفوز في هذا الميدان. وإذا كان هؤلاء قد عجزوا وانقطعوا، فغيرهم ممن هم دونهم بلاغة وبيانا أشد عجزا وانقطاعا وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ

حكم قراءة الترجمة والصلاة بها:

مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [سورة البقرة آية: 23، 24]. الآن وقد تقرر أن ترجمة القرآن بهذا المعنى العرفي من قبيل المستحيل العادي لا نتردد في أن نقرر أيضا أنها من قبيل المستحيل الشرعي، أي المحظور الذي حرمه الله. حكم قراءة الترجمة والصلاة بها: تكاد كلمة الفقهاء تتفق على منع قراءة ترجمة القرآن بأي لغة كانت فارسية أو غيرها وسواء كانت قراءة هذه الترجمة في صلاة أم في غير صلاة، لولا خلاف واضطراب في بعض نقول الحنفية. وإليك نبذا من أقوال الفقهاء على اختلاف مذاهبهم تتنور بها في ذلك. مذهب الشافعية: «قال في المجموع (ص 279 ج 3): مذهبنا- أي الشافعية- أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب، سواء أمكنته العربية أم عجز عنها، وسواء أكان في الصلاة أم في غيرها. فإن أتى بترجمته في صلاة بدلا عنها لم تصح صلاته، سواء أحسن القراءة أم لا». وبه قال جماهير العلماء، منهم مالك، وأحمد، وأبو داود. وجاء في الإتفاق للسيوطي: لا تجوز قراءة القرآن بالمعنى؛ لأن جبريل أداه باللفظ ولم يبح له إيحاءه بالمعنى. مذهب المالكية: جاء في حاشية الدسوقي على شرح الدردير للمالكية (ص 232، 236 ط): «لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية بل لا يجوز التكبير في الصلاة بغيرها ولا بمرادفه من العربية فإن عجز عن النطق بالفاتحة بالعربية وجب عليه أن يأتم بمن يحسنها فإن أمكنه الائتمام ولم يأتم بطلت صلاته. وإن لم يجد إماما سقطت عنه الفاتحة، وذكر الله تعالى وسبّحه بالعربية. وقالوا: على كل مكلف أن يتعلم الفاتحة بالعربية وأن يبذل وسعه في ذلك. ويجهد نفسه في تعلمها ومازاد عليها، إلا أن يحول الموت دون ذلك وهو بحال الاجتهاد فيعذر. مذهب الحنابلة: قال في المغني (ص 526 ط): «ولا تجزئه القراءة بغير العربية، ولا إبدال لفظ

مذهب الحنفية:

عربي سواء أحسن القراءة بالعربية أم لم يحسن. ثم قال: فإن لم يحسن القراءة بالعربية لزمه التعلم فإن لم يفعل مع القدرة عليه لم تصح صلاته». مذهب الحنفية: اختلفت نقول الحنفية في هذا المقام، واضطرب النقل بنوع خاص عن الإمام ونحن نختصر لك الطريق بإيراد كلمة فيها تلخيص للموضوع، وتوفيق بين النقول، اقتطفناها من مجلة الأزهر بقلم عالم كبير من علماء الأحناف؛ إذ جاء فيها باختصار وتصرف ما يلي: أجمع الأئمة على أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية خارج الصلاة، ويمنع فاعل ذلك أشد المنع؛ لأن قراءته بغيرها من قبيل التصرف في قراءة القرآن بما يخرجه عن إعجازه، بل بما يوجب الركاكة. وأما القراءة في الصلاة بغير العربية فتحرم إجماعا للمعنى المتقدم لكن لو فرض وقرأ المصلي بغير العربية، أتصح صلاته أم تفسد؟. ذكر الحنفية في كتبهم أن الإمام أبا حنيفة كان يقول: أولا: إذا قرأ المصلي بغير العربية مع قدرته عليها اكتفى بتلك القراءة، ثم رجع عن ذلك وقال: متى كان قادرا على العربية ففرض قراءة النظم العربي، ولو قرأ بغيرها فسدت صلاته لخلوها من القراءة مع قدرته عليها، والإتيان بما هو من جنس كلام الناس حيث لم يكن المقروء قرآنا. ورواية رجوع الإمام هذه تعزى إلى أقطاب في المذاهب منهم نوح بن مريم، وهو من أصحاب أبي حنيفة. ومنهم علي بن الجعد، وهو من أصحاب أبي يوسف، ومنهم أبو بكر الرازي، وهو شيخ علماء الحنفية في عصره بالقرن الرابع. ولا يخفى أن المجتهد إذا رجع عن قوله، لا يعد ذلك المرجوع عنه قولا له؛ لأنه لم يرجع عنه إلا بعد أن ظهر له أنه ليس بصواب، وحينئذ لا يكون في مذهب الحنفية قول بكفاية القراءة بغير العربية في الصلاة للقادر عليها، فلا يصح التمسك به، ولا النظر إليه. أما العاجز عن قراءة القرآن بالعربية فهو كالأمي في أنه لا قراءة عليه. ولكن إذا فرض أنه خالف وأدى القرآن بلغة أخرى، فإن كان ما يؤديه قصة أو أمرا أو نهيا فسدت صلاته؛ لأنه متكلم بكلام وليس ذكرا. وإن كان ما يؤديه ذكرا أو تنزيها لا تفسد صلاته لأن الذكر بأي لسان لا يفسد الصلاة لا لأن القراءة بترجمة القرآن جائزة، فقد مضى القول بأن القراءة بالترجمة محظورة شرعا على كل حال. اه مع التصرف والاختصار.

النسخ في القرآن الكريم

النسخ في القرآن الكريم أهمية هذا المبحث: لهذا المبحث أهمية خاصة، وذلك من وجوه خمسة: أولها: أنه طويل الذيل، كثير التفاريع، متشعب المسالك. ثانيها: أنه تناول مسائل دقيقة، كانت مثارا لخلاف الباحثين من الأصوليين، الأمر الذي يدعو إلى اليقظة والتدقيق، وإلى حسن الاختيار مع الإنصاف والتوفيق. ثالثها: أن أعداء الإسلام من ملاحدة ومبشرين ومستشرقين قد اتخذوا النسخ في الشريعة الإسلامية أسلحة مسمومة، طعنوا بها في صدر الدين الحنيف. ونالوا من قدسية القرآن الكريم. ولقد أحكموا شراك شبهاتهم واجتهدوا في ترويج مطاعنهم حتى سحروا عقول بعض المنتسبين إلى العلم والدين من المسلمين فجحدوا وقوع النسخ وهو واقع وأمعنوا في هذا الجحود الذي ركبوا له أخشن المراكب من تمحّلات ساقطة وتأويلات غير سائغة. رابعها: أن الإلمام بالناسخ والمنسوخ يكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامي، ويطلع الإنسان على حكمة الله في تربيته للخلق وسياسته للبشر، وابتلائه للناس مما يدل دلالة واضحة على أن نفس محمد النبي الأمي لا يمكن أن تكون المصدر لمثل هذا القرآن، ولا المنبع لمثل هذا التشريع. وإنما هو تنزيل من حكيم حميد. خامسها: أن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم في فهم الإسلام وفي الاهتداء إلى صحيح الأحكام، خصوصا إذا ما وجدت أدلة متعارضة لا يندفع التناقض بينها إلا بمعرفة سابقها من لاحقها، وناسخها من منسوخها. ولهذا كان سلفنا الصالح يعنون بهذه الناحية ويحذقونها، ويلفتون أنظار الناس إليها، ويحملونها عليها. حتى لقد جاء في الأثر أن ابن عباس رضي الله عنهما فسر الحكمة في قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [سورة البقرة آية: 269]، بمعرفة ناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه.

ما هو النسخ؟

ما هو النسخ؟ النسخ في اللغة: يطلق النسخ في لغة العرب على معنيين: أحدهما: إزالة الشيء وإعدامه. ومنه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [سورة الحج آية: 52]. ومنه قولهم: نسخت الشمس الظل، ونسخ الشيب الشباب، ومنه تناسخ القرون والأزمان. الآخر: نقل الشيء وتحويله مع بقائه في نفسه. وفيه يقول السجستاني من أئمة اللغة: «والنسخ أن تحول ما في الخلية من النحل والعسل إلى أخرى»، ومنه تناسخ المواريث بانتقالها من قوم إلى قوم، وتناسخ الأنفس بانتقالها من بدن إلى غيره، عند القائلين بذلك. ومنه نسخ الكتاب لما فيه من متشابهة النقل. وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية آية: 29]، والمراد به نقل الأعمال إلى الصحف، ومن الصحف إلى غيره. اه. وقد اختلف العلماء بعد ذلك في تعيين المعنى الذي وضع له لفظ النسخ: فقيل: إن لفظ النسخ وضع لكل من المعنيين وضعا أوليّا. وعلى هذا يكون مشتركا لفظيّا وهو الظاهر من تبادر كلا المعنيين بنسبة واحدة عند إطلاق لفظ النسخ. وقيل: إنه وضع للمعنى الأول وحده، فهو حقيقة فيه مجاز في الآخر. وقيل: عكس ذلك. وقيل: للقدر المشترك بينهما، ولكن هذه الآراء الأخيرة يعوزها الدليل ولا يخلو توجيهها من تكلف وتأويل. النسخ في الاصطلاح: لقد عرف النسخ في الاصطلاح بتعاريف كثيرة مختلفة. لا نرى من الحكمة استعراضها، ولا الموازنة بينها ونقدها ولكن نجتزئ بتعريف واحد نراه أقرب وأنسب وهو (رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي). ومعنى رفع الحكم الشرعي: قطع تعلقه بأفعال المكلّفين لا رفعه هو، فأنه أمر واقع والواقع لا يرتفع. والحكم الشرعي: هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين إما على سبيل الطلب

ما لا بد منه في النسخ

أو التخيير. وإما على سبيل كون الشيء سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا. والدليل الشرعي: هو وحي الله مطلقا متلوّا أو غير متلوّ، فيشمل الكتاب والسنة. أما القياس والإجماع ففي نسخهما والنسخ بهما كلام تراه في موضع آخر. ما لا بد منه في النسخ ولا بد من تحقق النسخ من أمور أربعة: أولها: أن يكون المنسوخ حكما شرعيّا. ثانيها: أن يكون دليل رفع الحكم دليلا شرعيّا. ثالثها: أن يكون هذا الدليل الرافع متراخيا عن دليل الحكم الأول غير متصل به كاتصال القيد بالمقيد والتأقيت بالمؤقت. رابعا: أن يكون بين ذينك الدليلين تعارض حقيقي. تلك أربعة لا بد منها لتحقق النسخ باتفاق جمهرة الباحثين. وثمة شروط اختلفوا في شرطيتها لا داعي لذكرها الآن. الفرق بين النسخ والبداء البداء: (بفتح الباء) يطلق في لغة العرب على معنيين متقاربين: أحدهما: الظهور بعد الخفاء، ومنه قول الله سبحانه: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [سورة الزمر آية: 47]، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا [سورة الجاثية آية: 33]، ومنه قولهم: بدا لنا سور المدينة. والآخر: نشأة رأي جديد لم يك موجودا. قال في القاموس: وبدا له في الأمر بدوّا، وبداء وبداءة أي: نشأ له فيه رأي. اه. ومنه قول الله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [سورة يوسف آية: 35]. ذانك معنيان متقاربان للبداء، وكلاهما مستحيل على الله تعالى، لما يلزمهما من سبق الجهل وحدوث العلم، والجهل والحدوث عليه محالان؛ لأن النظر الصحيح في هذا العالم، دلّنا على أن خالقه ومدبره متصف أزلا وأبدا بالعلم الواسع المطلق المحيط بكل ما كان وما سيكون وما هو كائن، كما هدانا هذا النظر الصحيح إلى أنه تعالى لا يمكن أن يكون حادثا ولا محلّا للحوادث، وإلا لكان ناقصا يعجز عن

أن يبدع هذا الكون ويدبره هذا التدبير المعجز! ذلك إجمال لدليل العقل. أما أدلة النقل فنصوص فياضة ناطقة بأنه تعالى أحاط بكل شيء علما، وأنه لا تخفى عليه خافية: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [سورة الحديد آية: 22]. وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام آية: 59]. اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [سورة الرعد آية: 8 - 10]، إلى غير ذلك من مئات الآيات والأحاديث. ولكن على رغم وجود هذه البراهين الساطعة من عقلية ونقلية، ضل أقوام سفهوا أنفسهم فأغمضوا عيونهم عن النظر في كتاب الكون الناطق، وصموا آذانهم عن سماع كلام الله وكلام نبيه الصادق، وزعموا أن النسخ ضرب من البداء أو مستلزم للبداء! وهكذا اشتبهوا أو شبهوا على الناس الأمر، وقالوا: لولا ظهور مصلحة الله، ونشوء رأي جديد له، ما نسخ أحكامه، وبدل تعاليمه، ونسوا أو تناسوا أن الله تعالى حين نسخ بعض أحكامه ببعض، ما ظهر له أمر كان خافيا عليه، وما نشأ له رأي جديد كان يفقده من قبل، إنما كان سبحانه يعلم الناسخ والمنسوخ أزلا من قبل أن يشرعهما لعباده، بل من قبل أن يخلق الخلق، ويبرأ السماء والأرض، إلا أنه- جلت حكمته- علم أن الحكم الأول المنسوخ منوط بحكمة، أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم، وعلم بجانب هذا أن الناسخ يجيء في هذا الميقات المعلوم منوطا بحكمة ومصلحة أخرى، ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس، وتتجدد بتجدد ظروفهم وأحوالهم. وأن الأحكام وحكمها، والعباد ومصالحهم، والنواسخ والمنسوخات، كانت كلها معلومة لله من قبل، ظاهرة لديه لم يخف شيء منها عليه، والجديد في النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما علم لعباده، لا ظهور ذلك له، على حد التعبير المعروف: (شئون يبديها ولا يبتديها)، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [سورة مريم آية: 64]. وخلاصة هذا التوجيه أن النسخ تبديل في المعلوم لا في العلم، وتغيير في المخلوق لا في الخالق، وكشف لنا وبيان عن بعض ما سبق به علم الله القديم المحيط بكل شيء، ولهذا ذهب كثير من علمائنا إلى تعريف النسخ بأنه: بيان انتهاء الحكم الشرعي الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي، ثم قالوا توجيها لهذا الاختيار: إن في هذا التعريف دفعا

الفرق بين النسخ والتخصيص

ظاهرا للبداء، وتقريرا لكون النسخ تبديلا في حقنا، وبيانا محضا في حق صاحب الشرع. الفرق بين النسخ والتخصيص قد عرفنا النسخ بأنه: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي، وقد عرّفوا التخصيص بأنه: قصر العام على بعض أفراده، وبالنظر في هذين التعريفين نلاحظ أن هناك تشابها قويّا بين المعرفين، فالنسخ فيه ما يشبه تخصيص الحكم ببعض الأزمان، والتخصيص فيه ما يشبه رفع الحكم عن بعض الأفراد، ومن هذا التشابه وقع بعض العلماء في الاشتباه فمنهم من أنكر وقوع النسخ في الشريعة، زاعما أن كل ما نسميه نحن نسخا فهو تخصيص، ومنهم من أدخل صورا من التخصيص في باب النسخ، فزاد بسبب ذلك في عداد المنسوخات من غير موجب. لهذا نقيم لك فروقا سبعة بين النسخ والتخصيص، تهديك في ظلمات هذا الاشتباه وتعصمك من أن تتورط فيما تورط فيه سواك: أولها: أن العام بعد تخصيصه مجاز، لأن مدلوله وقتئذ بعض أفراده، مع أن لفظه موضوع للكل، والقرينة هي المخصص، وكل ما كان كذلك فهو مجاز، أما النص المنسوخ فما زال كما كان مستعملا فيما وضع له، غايته أن الناسخ دلّ على أن إرادة الله تعلقت أزلا باستمرار هذا الحكم إلى وقت معين، وإن كان النص المنسوخ متناولا جميع الأزمان، ويظهر ذلك جليّا فيما إذا قال الشارع مثلا: افعلوا كذا أبدا، ثم نسخه بعد زمن قصير، فإنه لا يعقل أن يكون مدلوله ذلك الزمن القصير دون غيره، بل هو مازال كما كان مستعملا في جميع الأزمان نصّا؛ بدليل قوله: «أبدا» غير أن العمل بهذا النص الشامل لجميع الأزمان لفظا قد أبطله الناسخ؛ لأن استمرار العمل بالنص مشروط بعدم ورود ناسخ ينسخه، أيّا كان ذلك النص وأيّا كان ناسخه. فإن سأل سائل: ما حكمة تأبيد النص لفظا، بينما هو مؤقت في علم الله أزلا؟ أجبناه بأن حكمته ابتلاء الله لعباده: أيرضخون لحكمه مع تأبيده عليهم هذا التأبيد الظاهري أم لا؟ فإذا ماز الله الخبيث من الطيب، والمطمئن إلى حكمه من المتمرد عليه، جاء النسخ لحكمة أخرى من التخفيف ونحوه. ثانيها: أن حكم ما خرج بالتخصيص لم يكن مرادا من العامّ أصلا، بخلاف ما خرج بالنسخ، فإنه كان مرادا من المنسوخ لفظا. ثالثها: أن التخصيص لا يتأتى أن يأتي على الأمر لمأمور واحد، ولا على النهي لمنهي

النسخ بين مثبتيه ومنكريه

واحد، أما النسخ فيمكن أن يعرض لهذا كما يعرض لغيره، ومن ذلك نسخ بعض الأحكام الخاصة به صلّى الله عليه وسلم. رابعها: أن النسخ يبطل حجية المنسوخ إذا كان رافعا للحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام، ويبقى على شيء من حجيته إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض، أما التخصيص فلا يبطل حجية العام أبدا، بل العمل به قائم فيما بقي من أفراده بعد تخصيصه. خامسها: أن النسخ لا يكون إلا بالكتاب والسنة بخلاف التخصيص فإنه يكون بهما وبغيرهما كدليل الحس والعقل مثل قول الله سبحانه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [سورة المائدة آية: 38]، فأنه قد خصصه قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا قطع إلا في ربع دينار». ومثل قوله سبحانه: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [سورة الأحقاف آية: 25] فقد خصصه ما شهد به الحس من سلامة السماء والأرض وعدم تدمير الريح لهما. ومثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة آية: 109]، قد خصصه ما حكم به العقل من استحالة تعلق القدرة الإلهية بالواجب والمستحيل العقليين. سادسها: أن النسخ لا يكون إلا بدليل متراخ عن المنسوخ، أما التخصيص فيكون بالسابق واللاحق والمقارن، وقال قوم: لا يكون التخصيص إلا بمقارن، فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه، كما إذا قال الشارع «اقتلوا المشركين» وبعد وقت العمل به قال: «ولا تقتلوا أهل الذمة»، ووجهة نظر هؤلاء أن المقصود بالمخصص بيان المراد من العام، فلو تأخر وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وذلك لا يجوز، فلم يبق إلا اعتباره ناسخا سابعها: أن النسخ لا يقع في الأخبار بخلاف التخصيص فإنه يكون في الأخبار وفي غيرها. النسخ بين مثبتيه ومنكريه يذهب أهل الأديان مذاهب ثلاثة في النسخ: أولها: أنه جائز عقلا وواقع سمعا، وعليه إجماع المسلمين من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه، وعليه أيضا إجماع النصارى، ولكن من قبل هذا العصر الذي خرقوا فيه إجماعهم، وركبوا فيه رؤوسهم، وهو كذلك رأي العيسوية، وهم طائفة من طوائف اليهود الثلاث. ثانيها: أن النسخ ممتنع عقلا وسمعا وإليه جنح النصارى جميعا في هذا العصر، وتشيعوا له تشيعا ظهر في حملاتهم المتكررة على الإسلام، وفي طعنهم على هذا الدين القويم من

الأدلة على النسخ

هذا الطريق طريق النسخ، وبهذه الفرية أيضا يقول الشمعونية، وهم طائفة ثانية من اليهود. ثالثها: أن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا، وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من طوائف اليهود، ويعزى هذا الرأي لأبي مسلم الأصفهاني من المسلمين، ولكن على اضطراب في النقل عنه وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهرة المسلمين شبيها بالخلاف اللفظي إن لم يكنه. الأدلة على النسخ أولا: قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [سورة البقرة آية: 106]. ثانيا: قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [سورة الرعد آية: 39]. وقد أسلفنا الكلام على هاتين الآيتين، ونزيدك أن دلالتهما على وقوع النسخ ظاهر فيهما، لأنهما نزلتا ردّا على طعن الطاعنين على الإسلام ونبي الإسلام بوقوع النسخ في الشريعة المطهرة. ثالثا: قوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة النحل آية: 101]. ووجه الدلالة في هذه الآية أن التبديل يتألف من رفع لأصل وإثبات لبدل، وذلك هو النسخ؛ سواء أكان المرفوع تلاوة أو حكما. رابعا: قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [سورة النساء آية: 160]. ووجه الدلالة فيها أنها تفيد تحريم ما أحلّ من قبل وما ذلك إلا نسخ، وكلمة أُحِلَّتْ لَهُمْ يفهم منها أن الحكم الأول كان حكما شرعيّا لا براءة أصلية. خامسا: أن سلف الأمة أجمعوا على أنّ النسخ وقع في الشريعة الإسلامية كما وقع بها. سادسا: أن في القرآن آيات كثيرة نسخت أحكامها. وهذا دليل في طيه أدلة متعددة؛ لأن كل آية من هذه الآيات المنسوخة، تعتبر مع ناسخها دليلا كاملا على وقوع النسخ، إذ الوقوع يكفي في إثباته وجود فرد واحد. وسنتحدث فيما بعد إن شاء الله عن هذه الآيات المنسوخة وما نسخها.

حكمة الله في النسخ

حكمة الله في النسخ الآن وقد عرفنا النسخ، وفرقنا بينه وبين ما يلتبس به، وأيدناه بالأدلة، ويجدر بنا أن نبين حكمة الله تعالى فيه، لأن معرفة الحكمة تريح النفس وتزيل اللبس، وتعصم من الوسوسة والدسّ، خصوصا في مثل موضوعنا الذي كثر منكروه وتصيدوا لإنكاره الشبهات من هنا وهناك. ولأجل تفصيل القول في الحكمة نذكر أن النسخ وقع بالشريعة الإسلامية ووقع فيها. على معنى أن الله نسخ بالإسلام كل دين سبقه، ونسخ بعض أحكام هذا الدين ببعض. أما حكمته سبحانه في أنه نسخ به الأديان كلها، فترجع إلى أن تشريعه أكمل تشريع يفي بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها، وبعد أن بلغت أشدها واستوت، ذلك أن النوع الإنساني تقلّب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة، ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دورا غيره. حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه، وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه، جاء هذا الدين الحنيف، ختاما للأديان، ومتمما للشرائع، وجامعا لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية، ومرونة القواعد جمعا وفق بين مطالب الروح والجسد، وآخى بين العلم والدين، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد وأسر وجماعات، وأمم وشعوب وحيوان ونبات وجماد، مما جعله بحق دينا عامّا خالدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!. وأما حكمة الله في أنه نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض فترجع إلى سياسة الأمة وتعهّدها بما يرقيها ويمحصها، وبيان ذلك أن الأمة الإسلامية في بدايتها حين صدعها الرسول صلّى الله عليه وسلم بدعوته، كانت تعاني فترة انتقال شاقّ، بل كان أشق ما يكون عليها في ترك عقائدها وموروثاتها وعاداتها خصوصا مع ما هو معروف عن العرب الذين شوفهوا بالإسلام، من التحمس لما يعتقدون أنه من مفاخرهم وأمجادهم. من هنا جاءت الشريعة إلى الناس تمشي على مهل متألفة لهم، متلطفة في دعوتهم، متدرجة بهم إلى الكمال رويدا رويدا، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئا فشيئا، متمشية مع الإلف والمران والأحداث الجادة عليهم، لتسير بهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب حسب أصول التربية، حتى تم الأمر ونجح الإسلام نجاحا لم يعرف مثله في سرعته وامتزاج النفوس به، ونهضة البشرية بسببه! تلك الحكمة على هذا الوجه تتجلى فيما إذا كان الحكم الناسخ أصعب من

المنسوخ، كموقف الإسلام في سموه ونبله من مشكلة الخمر في عرب الجاهلية، وقد كانت مشكلة معقدة كل التعقيد، يحتسونها بصورة تكاد تكون إجماعية، ويأتونها لا على أنها عادة مجردة، بل على أنها أمارة القوة، ومظهر الفتوّة، وعنوان الشهامة! فقل لي بربك: هل كان معقولا أن ينجح الإسلام في فطامهم عنها لو لم يتألفهم ويتلطف بهم إلى درجة أن يمتن عليهم بها أول الأمر، كأنه يشاركهم في شعورهم. وإلى حد أنه أبى أن يحرمها عليهم في وقت استعدت فيه بعض الأفكار لتسمع كلمة تحريمه حين سألوه صلّى الله عليه وسلم: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [سورة البقرة آية: 219]. أما الحكمة في نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه، فهي التخفيف على الناس ترفيها عنهم وإظهارا لفضل الله عليهم ورحمته بهم، وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده، وتحبيب لهم فيه وفي دينه. وأما الحكمة في نسخ الحكم بمساويه في صعوبته أو سهولته، فالابتلاء والاختبار ليظهر المؤمن فيفوز، والمنافق فيهلك لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. يبقى الكلام في حكمة بقاء التلاوة مع نسخ الحكم، وفي حكمة نسخ التلاوة مع بقاء الحكم. أما حكمة بقاء التلاوة مع نسخ الحكم؛ فهي تسجيل تلك الظاهرة الحكيمة، ظاهرة سياسة الإسلام للناس، حتى يشهدوا أنه هو الدين الحق، وأن نبيه نبي الصدق، وأن الله هو العليم الحكيم، الرحمن الرحيم، يضاف إلى ذلك ما يكتسبونه من الثواب على هذه التلاوة، ومن الاستمتاع بما حوته تلك الآيات المنسوخة من بلاغة، ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية بها. وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، فحكمته تظهر في كل آية بما يناسبها، وأنه لتبدو لنا حكمة رائعة في مثال مشهور من هذا النوع. ذلك أنه صح في الرواية عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب أنهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» أي كان هذا النص آية تتلى، ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها معمولا به إلى اليوم، والسر في ذلك أنها كانت تتلى أولا لتقرير حكمها، ردعا لمن تحدثه نفسه أن يتلطخ بهذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات حتى إذا ما تقرر هذا الحكم في النفوس نسخ الله تلاوته لحكمة أخرى، هي الإشارة إلى شناعة هذه الفاحشة وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة، حيث سلكها مسلك ما لا يليق أن يذكر فضلا عن أن يفعل، وسار بها في طريق يشبه طريق المستحيل الذي لا يقع، كأنه قال:

شبه أبي مسلم في إنكار النسخ والرد عليها

نزّهوا الأسماع عن سماعها، والألسنة عن ذكرها فضلا عن الفرار منها، ومن التلوث برجسها. كتب الله لنا الحفظ والعصمة إنه ولي كل نعمة وتوفيق. شبه أبي مسلم في إنكار النسخ والرد عليها النقل عن أبي مسلم مضطرب، فمن قائل: إنه يمنع وقوع النسخ على الإطلاق، ومن قائل: إنه ينكر وقوعه في شريعة واحدة، ومن قائل: إنه يمكن وقوعه في القرآن خاصة، ورجّحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات، وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن، وأبعد الروايات عن الرجل هي الرواية الأولى؛ لأنه لا يعقل أن مسلما فضلا عن عالم كأبي مسلم ينكر وقوع النسخ جملة، اللهمّ إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط؛ فإنها تهون حينئذ، على معنى أن ما نسميه نحن نسخا، يسميه هو تخصيصا بالزمان مثلا، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين. قال التاج السبكي: إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذي نسميه نحن نسخا، ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه، ويسميه تخصيصا .. اه. احتج أبو مسلم بقوله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت آية: 42]. وشبهته في الاستدلال: أن هذه الآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا. والنسخ فيه إبطال لحكم سابق. وندفع مذهب أبي مسلم وشبهته بأمور أربعة: أولها: أنه لو كان معنى الباطل في الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته، لكان دليله قاصرا عن مدّعاه؛ لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ وهو نسخ الحكم دون التلاوة؛ فإنه وحده هو الذي يترتب عليه وجود متروك العمل في القرآن، أما نسخ التلاوة مع الحكم أو مع بقائه فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل. ثانيها: أن معنى الباطل في الآية ما خالف الحق، والنسخ حق، ومعنى الآية: أن عقائد القرآن موافقة للعقل، وأحكامه مسايرة للحكمة، وأخباره مطابقة للواقع، وألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل، ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأي حال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [سورة الحجر آية: 9]، وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [سورة الإسراء آية: 105]. ولعلك تدرك معي أن تفسير الآية بهذا المعنى يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه منها إلى نفيه وامتناعه؛ لأن النسخ- كما قررنا- تصرف إلهي حكيم تقتضيه الحكمة

طرق معرفة النسخ

وترتبط به المصلحة. ثالثها: أن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظي، لا يعدو حدود التسمية؛ فإنه يؤخذ عليه أنه أساء الأدب مع الله في تحمسه لرأي قائم على تحاشي لفظ اختاره- جلت حكمته- ودافع عن معناه بمثل قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها [سورة البقرة آية: 106]، وهل بعد اختيار الله اختيار؟ وهل بعد تعبير القرآن تعبير؟ سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة آية: 32]. رابعها: أن هناك فروقا بين النسخ والتخصيص، وقد فصلناها فيما سبق. طرق معرفة النسخ لا بد في تحقق النسخ- كما علمت- من ورود دليلين عن الشارع، وهما متعارضان تعارضا حقيقيّا، لا سبيل إلى تلافيه بإمكان الجمع بينهما على أي وجه من وجوه التأويل. وحينئذ فلا مناص من أن نعتبر أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، دفعا للتناقض في كلام الشارع الحكيم، ولكن أي الدليلين يتعين أن يكون ناسخا، وأيهما يتعين أن يكون منسوخا؟ هذا ما لا يجوز الحكم فيه بالهوى والشهوة، بل لا بد من دليل صحيح يقوم على أن أحدهما متأخر عن الآخر، فيكون السابق هو المنسوخ، واللاحق هو الناسخ. ولنا إلى هذا الدليل مسالك ثلاثة: أولها: أن يكون في أحد النصين ما يدل على تعين المتأخر منهما نحو قوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [سورة المجادلة آية: 13]. ونحو قوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة الأنفال آية: 66]. ونحو قوله صلّى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ولا تقولوا هجرا». ثانيها: أن ينعقد إجماع من الأمة في أي عصر من عصورها على تعيين المتقدم من النصين والمتأخر منهما. ثالثها: أن يرد من طريق صحيحة عن أحد من الصحابة ما يفيد تعيين أحد النصين المتعارضين للسبق على الآخر أو التراخي عنه، كأن يقول: نزلت هذه الآية بعد تلك الآية، أو نزلت هذه الآية قبل تلك الآية، أو يقول: نزلت هذه عام كذا، وكان معروفا سبق نزول الآية التي تعارضها، أو كان معروفا تأخرها عنها.

قانون التعارض:

أما قول الصحابي: هذا ناسخ وذاك منسوخ، فلا ينهض دليلا على النسخ، لجواز أن يكون الصحابي صادرا في ذلك عن اجتهاد أخطأ فيه فلم يصب فيه عين السابق ولا عين اللاحق خلافا لابن الحصّار، وكذلك لا يعتمد في معرفة الناسخ والمنسوخ على المسالك الآتية: 1 - اجتهاد المجتهد من غير سند؛ لأن اجتهاده ليس بحجة. 2 - قول المفسر: هذا ناسخ أو منسوخ من غير دليل؛ لأن كلامه ليس بدليل. 3 - ثبوت أحد النصين قبل الآخر في المصحف؛ لأن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول. 4 - أن يكون أحد الروايين من أحداث الصحابة دون الراوي للنص الآخر، فلا يحكم بتأخر حديث الصغير عن حديث الكبير؛ لجواز أن يكون الصغير قد روى المنسوخ عمن تقدمت صحبته، ولجواز أن يسمع الكبير الناسخ من الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد أن يسمع الصغير منه المنسوخ، إما إحالة على زمن مضى، وإمّا لتأخر تشريع الناسخ والمنسوخ كليهما. 5 - أن يكون أحد الراويين أسلم قبل الآخر، فلا يحكم بأن ما رواه سابق الإسلام منسوخ وما رواه المتأخر عنه ناسخ، لجواز أن يكون الواقع عكس ذلك. 6 - أن يكون أحد الراويين قد انقطعت صحبته لجواز أن يكون حديث من بقيت صحبته سابقا حديث من انقطعت صحبته. 7 - أن يكون أحد النصين موافقا للبراءة الأصلية دون الآخر، فربما يتوهم أن الموافق لها هو السابق، والمتأخر عنها هو اللاحق، مع أن ذلك غير لازم؛ لأنه لا مانع من تقدم ما خالف البراءة الأصلية على ما وافقها، مثال ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا وضوء مما مست النار» فإنه لا يلزم أن يكون سابقا على الخبر الوارد بإيجاب الوضوء مما مست النار، ولا يخلو وقوع هذا من حكمة عظيمة هي تخفيف الله عن عباده بعد أن ابتلاهم بالتشديد. قانون التعارض: وعلى ذكر التعارض في هذا الباب، نبين لك أن النصين المتعارضين إما أن يتفقا في أنهما قطعيان أو ظنيان، وإما أن يختلفا فيكون أحدهما قطعيّا والآخر ظنيّا. أما المختلفان فلا نسخ بينهما، لأن القطعي أقوى من الظني، فيؤخذ به، وما كان اليقين ليترك بالظن. وأما المتفقان: فإن علم تأخر أحدهما بطريق من تلك الطرق الثلاث المعتمدة؛ فهو الناسخ والآخر المنسوخ، وإن لم يدل عليه واحد منهما؛ وجب التوقف. وقيل: يتخير الناظر بين العمل بهما.

ما يتناوله النسخ

هذا كله إذا لم يمكن الجمع بين النصين بوجه من وجوه التخصيص والتأويل، وإلا وجب الجمع؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إعمال دليل وإهدار آخر، ولأن الأصل في الأحكام بقاؤها وعدم نسخها، فلا ينبغي أن يترك استصحاب هذا الأصل إلّا بدليل بيّن. ما يتناوله النسخ إن تعريف النسخ بأنه: رفع حكم شرعي بدليل شرعي، يفيد في وضوح أن النسخ لا يكون إلا في الأحكام، وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ، لكن في خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات، أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات ومدلولات الأخبار المحضة، فلا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء. أما العقائد: فلأنها حقائق صحيحة ثابتة لا تقبل التغيير والتبديل، فبدهيّ ألا يتعلق بها نسخ. وأما أمهات الأخلاق: فلأن حكمة الله في شرعها ومصلحة الناس في التخلق بها أمر ظاهر لا يتأثر بمرور الزمن، ولا يختلف باختلاف الأشخاص والأمم حتى يتناولها النسخ بالتبديل والتغيير. وأما أصول العبادات والمعاملات: فلوضوح حاجة الخلق إليهما باستمرار، لتزكية النفوس وتطهيرها، ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق والخلق على أساسهما، فلا يظهر وجه من وجوه الحكمة في رفعها بالنسخ. وأما مدلولات الأخبار المحضة: فلأن نسخها يؤدي إلى كذب الشارع في أحد خبريه الناسخ أو المنسوخ. وهو محال عقلا ونقلا. أما عقلا: فلأن الكذب نقص، والنقص عليه تعالى محال. وأما نقلا: فلمثل قوله سبحانه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [سورة النساء آية: 122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [سورة النساء آية: 87]. نعم إن نسخ لفظ الخبر دون مدلوله جائز بإجماع من قالوا بالنسخ ولذلك صورتان: إحداهما: أن تنزل الآية مخبرة عن شيء ثم تنسخ تلاوتها فقط. والأخرى: أن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شيء ثم ينهانا أن نتحدث به. وأما الخبر الذي ليس محضا: بأن كان في معنى الإنشاء، ودلّ على أمر أو نهي متصلين بأحكام فرعية عملية، فلا نزاع في جواز نسخه والنسخ به، لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ.

مثال الخبر بمعنى الأمر: قوله تعالى: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً [سورة يوسف آية: 47]، فإن معناه ازرعوا. ومثال الخبر بمعنى النهي: قوله سبحانه: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [سورة النور آية: 3]، فإن معناه لا تنكحوا مشركة ولا زانية (بفتح التاء) ولا تنكحوها (بضم التاء) لكن على بعض وجوه الاحتمالات دون بعض. والفرق بين أصول العبادات والمعاملات وبين فروعها، أن فروعها هي ما تعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد، أو هي كمياتها وكيفياتها. وأما أصولها: فهي ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف. واعلم أن ما قررناه هنا من قصر النسخ على ما كان من قبيل الأحكام الفرعية العملية دون سواها، هو الرأي السائد الذي ترتاح إليه النفس ويؤيده الدليل، وقد نازع في ذلك قوم لا وجه لهم، فلنضرب عن كلامهم صفحا: وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظّ من النّظر ويتصل بما ذكرنا: أن الأديان الإلهية لا تناسخ بينها فيما بيّناه من الأمور التي لا يتناولها النسخ، بل هي متحدة في العقائد وأمهات الأخلاق، وأصول العبادات والمعاملات، وفي صدق الأخبار المحضة فيها صدقا لا يقبل النسخ والنقد. وإن شئت أدلة فهاك ما يأتي من القرآن: 1 - شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [سورة الشورى آية: 13]. 2 - وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء آية: 25]. 3 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة آية: 183]. 4 - وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [سورة الحج آية: 27]. 5 - وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة آية: 27]. 6 - وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ

أنواع النسخ في القرآن

وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [سورة المائدة آية: 45]. 7 - كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ [سورة آل عمران آية: 93]. 8 - إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ [سورة القصص آية: 27]. 9 - فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [سورة النساء آية: 160]. 10 - وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان آية: 13] إلخ ما جاء في قصة لقمان. أنواع النسخ في القرآن النسخ الواقع في القرآن يتنوع إلى أنواع ثلاثة: نسخ التلاوة والحكم معا، ونسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دون الحكم. 1 - أما نسخ الحكم والتلاوة جميعا: فقد أجمع عليه القائلون بالنسخ من المسلمين، ويدل على وقوعه سمعا: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات. وتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو فيما يقرأ من القرآن. وهو حديث صحيح. وإذا كان موقوفا على عائشة رضي الله عنها فإن له الحكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال بالرأي. بل لا بد فيه من توقيف. وأنت خبير بأن جملة: «عشر رضعات معلومات يحرمن» ليس لها وجود حتى تتلى، وليس العمل بما تفيده من الحكم باقيا وإذا يثبت وقوع نسخ الحكم والتلاوة جميعا، وإذا ثبت وقوعه ثبت جوازه؛ لأن الوقوع أول دليل على الجواز، وبطل مذهب المانعين لجوازه شرعا كأبي مسلم وأضرابه. 2 - وأما نسخ الحكم دون التلاوة: فيدل على وقوعه آيات كثيرة، منها: آية تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [سورة المجادلة آية: 12]. منسوخة بقوله سبحانه: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [سورة المجادلة آية: 13]. على معنى أن حكم الآية الأولى منسوخ بحكم الآية الثانية، مع أن تلاوة كلتيهما باقية.

3 - وأما نسخ التلاوة دون الحكم:

ومنها: أن قوله سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [سورة البقرة آية: 184]، منسوخ بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [سورة البقرة آية: 185] على معنى أن حكم تلك منسوخ بحكم هذه، مع بقاء التلاوة في كلتيهما كما ترى. 3 - وأما نسخ التلاوة دون الحكم: فيدل على وقوعه ما صحت روايته عن عمر بن الخطاب وأبيّ بن كعب أنهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن: الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما البتة .. اه. وأنت تعلم أن هذه الآية لم يعد لها وجود بين دفتي المصحف ولا على ألسنة القراء، مع أن حكمها باق على إحكامه لم ينسخ. ويدل على وقوعه- أيضا-: ما صح عن أبيّ بن كعب أنه قال: (كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة أو أكثر) مع أن هذا القدر الكبير الذي نسخت تلاوته لا يخلو في الغالب من أحكام اعتقادية لا تقبل النسخ. ويدل على وقوعه- أيضا-: الآية الناسخة في الرضاع، وقد سبق ذكرها في النوع الأول. ويدل على وقوعه- أيضا-: ما صح عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرأون سورة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في طول سورة براءة، وأنها نسيت إلا آية منها، وهي: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب). وإذا ثبت وقوع هذين النوعين كما ترى، ثبت جوازهما؛ لأن الوقوع أعظم دليل على الجواز كما هو مقرر، وإذا بطل ما ذهب إليه المانعون له من ناحية الشرع، كأبي مسلم، ومن لف لفه. ويبطل كذلك ما ذهب إليه المانعون له من ناحية العقل، وهم فريق من المعتزلة. شذّ عن الجماعة فزعم أن هذين النوعين الأخيرين مستحيلان عقلا. ويمكنك أن تفحم هؤلاء الشذاذ من المعتزلة بدليل على الجواز العقلي الصرف لهذين النوعين فتقول: إن ما يتعلق بالنصوص القرآنية من التعلق بلفظها، وجواز الصلاة بها، وحرمتها على الجنب في قراءتها ومسها، شبيه- كل الشبه- بما يتعلق بها من دلالتها على الوجوب والحرمة ونحوهما، في أن كلّا من هذه المذكورات حكم شرعي يتعلق بالنص الكريم وقد تقتضي المصلحة نسخ الجميع، وقد تقتضي نسخ بعض هذه المذكورات دون بعض، وإذا يجوز أن تنسخ الآية تلاوة وحكما، ويجوز أن تنسخ تلاوة لا حكما، ويجوز أن تنسخ حكما لا تلاوة، وإذا ثبت هذا بطل ما ذهب إليه أولئك الشذاذ من الاستحالة العقلية للنوعين الأخيرين.

النسخ ببدل وبغير بدل

النسخ ببدل وبغير بدل الحكم الشرعي الذي ينسخه الله، إما أن يحلّ- سبحانه- محله حكما آخر أو لا. فإذا أحل محله حكما آخر فذلك هو النسخ ببدل، وإذا لم يحل محله حكما آخر؛ فذلك هو النسخ بغير بدل، وكلاهما جائز عقلا وواقع سمعا على رأي الجمهور. مثال النسخ ببدل: أن الله تعالى نهى المسلمين أول الأمر عن قتال الكفار، ورغبهم في العفو والصفح؛ بمثل قوله سبحانه: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة آية: 109]. ثم نسخ الله هذا النهي وأذن لهم بالجهاد فقال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [سورة الحج آية: 39 - 41]. ثم شدد الله وعزم عليهم في النفير للقتال، وتوعدهم إن لم ينفروا فقال: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة التوبة آية: 39، 40]. ومثال النسخ بلا بدل أن الله تعالى أمر بتقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول: فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [سورة المجادلة آية: 12]، ثم رفع هذا التكليف عن الناس من غير أن يكلفهم بشيء مكانه، بل تركهم في حلّ من ترك الحكم الأول دون أن يوجه إليهم حكما آخر. فقال: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [سورة المجادلة آية: 13].

شبهة ودفعها

شبهة ودفعها ذلك مذهب الجمهور من العلماء، لكن بعض المعتزلة والظاهرية يقولون: إن النسخ بغير بدل لا يجوز شرعا. وشبهتهم في هذا أن الله تعالى يقول: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [سورة البقرة آية: 106]. ووجه اشتباههم: أن الآية تفيد أنه لا بد أن يؤتى مكان الحكم المنسوخ بحكم آخر هو خير منه أو مثله، ولكنها شبهة مدفوعة بما ذكرنا من النصين السابقين في تقديم الصدقة بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلم. واحتجاجهم بآية: ما نَنْسَخْ على الوجه الذي ذكروه احتجاج باطل؛ لأن الله تعالى إذا نسخ حكم الآية بغير بدل، فهمنا بمقتضى حكمته ورعايته لمصلحة عباده أن عدم الحكم صار خيرا من ذلك الحكم المنسوخ في نفعه للناس، وصحّ حينئذ: إن الله نسخ حكم الآية السابقة، وأتى بخير منها في الدلالة على عدم الحكم الذي بات في وقت النسخ أنفع للناس وخيرا لهم من الحكم المنسوخ. ومعنى آية ما نَنْسَخْ لا يأبى هذا التأويل، بل يتناوله كما يتناول سواه، والنسخ فيها أعم من نسخ التلاوة والحكم مجتمعين ومنفردين ببدل وبغير بدل، والخيرية والمثلية فيهما أعم من الخيرية والمثلية في الثواب والنفع. نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل النسخ إلى بدل يتنوع ثلاثة أنواع: أولها: النسخ إلى بدل أخف على نفس المكلف من الحكم السابق؛ كنسخ تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم في ليل رمضان بإباصة ذلك؛ إذ قال سبحانه: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة آية: 187]. ثانيها: النسخ إلى بدل مساو للحكم الأول في خفته أو ثقله على نفس المكلف؛ كنسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة في قوله سبحانه: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة آية: 144].

النسخ في دورانه بين الكتاب والسنة

وهذان النوعان لا خلاف في جوازهما عقلا ووقوعهما سمعا عند القائلين بالنسخ كافة. ثالثها: النسخ إلى بدل أثقل من الحكم المنسوخ، وفي هذا النوع يدب الخلاف: فجمهور العلماء يذهبون إلى جوازه عقلا وسمعا كالنوعين السابقين ويستدلون على هذا بأمثلة كثيرة تثبت الوقوع السمعي، وهو أدل دليل على الجواز العقلي كما علمت. من تلك الأمثلة: أن الله تعالى نسخ إباحة الخمر بتحريمها، ومنها: أنه تعالى نسخ ما فرض من مسالمة الكفار المحاربين بما فرض من قتالهم: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [سورة البقرة آية: 216]. ومنها: أن حد الزنا كان في فجر الإسلام لا يعدو التعنيف والحبس في البيوت، ثم نسخ ذلك بالجلد والنفي في حق البكر، وبالرجم في حق الثيب. ومنها: أن الله تعالى فرض على المسلمين أولا صوم يوم عاشوراء، ثم نسخه بفرض شهر رمضان كله مع تخيير الصحيح المقيم بين صيامه والفدية، ثم نسخ سبحانه هذا التخيير بتعيين الصوم على هذا الصحيح المقيم إلزاما. النسخ في دورانه بين الكتاب والسنة النسخ في الشريعة الإسلامية قد يرد به القرآن، وقد ترد به السنة، والمنسوخ كذلك قد يرد به القرآن وقد ترد به السنة. فالأقسام أربعة: القسم الأول: نسخ القرآن بالقرآن: وقد أجمع القائلون بالنسخ من المسلمين على جوازه، ووقوعه. أما جوازه: فلأن آيات القرآن متساوية في العلم بها وفي وجوب العمل بمقتضاها. وأما وقوعه: فلما ذكرنا وما سنذكر من الآيات الناسخة والمنسوخة. وهذا القسم يتنوع إلى أنواع ثلاثة: نسخ التلاوة والحكم معا، ونسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دون الحكم، وقد أشبعنا الكلام عليها فيما سبق. القسم الثاني: نسخ القرآن بالسنة: وقد اختلف العلماء في هذا القسم بين مجوّز ومانع، ثم اختلف المجوزون بين قائل بالوقوع وقائل بعدمه، وإذا يجري البحث في مقامين اثنين: مقام الجواز، ومقام الوقوع.

1 - مقام الجواز:

1 - مقام الجواز: القائلون بالجواز هم: مالك، وأصحاب أبي حنيفة، وجمهور المتكلمين من الأشاعرة، والمعتزلة. وحجتهم أن نسخ القرآن بالسنة ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره. أما الأول فظاهر، وأما الثاني: فلأن السنة وحي من الله كما أن القرآن كذلك، لقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [سورة النجم آية: 3، 4]، ولا فارق بينهما إلا ألفاظ القرآن من ترتيب الله وإنشائه، وألفاظ السنة من ترتيب الرسول وإنشائه. والقرآن له خصائصه، وللسنة خصائصها، وهذه الفوارق لا أثر لها فيما نحن بسبيله، مادام الله هو الذي ينسخ وحيه بوحيه، وحيث لا أثر لها، فنسخ أحد هذين الوحيين بالآخر، لا مانع يمنعه عقلا، كما أنه لا مانع يمنعه شرعا- أيضا، فتعين جوازه عقلا وشرعا. هذه حجة المجيزين. أما المانعون- وهم: الشافعي، وأحمد في إحدى روايتين عنه، وأكثر أهل الظاهر؛ فيستدلون على المنع بأدلة قد ذكرها صاحب المناهل ورد عليها، ولم نذكرها ها هنا خوفا من الإطالة فيما لا أهمية كبيرة لذكرها. شبهتان ودفعهما 1 - لقائل أن يقول: إن من السنة ما يكون ثمرة لاجتهاده صلّى الله عليه وسلم، وهذا ليس وحيا أوحي إليه به، بدليل العتاب الذي وجهه القرآن إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم في لطف تارة، وفي عنف أخرى. فكيف يستقيم بعد هذا أن نقول: أن السنة وحي من الله؟. والجواب: أن مرادنا هنا بالسنة: ما كانت عن وحي جليّ أو خفيّ، أما السنة الاجتهادية؛ فليست مرادة هنا البته؛ لأن الاجتهاد لا يكون إلا عند عدم النص، فكيف يعارضه ويرفعه؟ وقد شرحنا أنواع السنة في كتابنا «المنهل الحديث في علوم الحديث» فارجع إليه إن شئت. 2 - ولقائل أن يقول: إن من السنة ما كان آحاديّا، وخبر الواحد مهما صح فإنه لا يفيد القطع، والقرآن قطعي المتن، فكيف ينسخ بالسنة التي لا تفيد القطع؟ ومتى استطاع الظن أن يرفع اليقين؟. والجواب: أن المراد بالسنة هنا: السنة المتواترة دون الآحادية. والسنة المتواترة قطعية الثبوت- أيضا- كالقرآن. فهما متكافئان من هذه الناحية، فلا مانع أن ينسخ أحدهما الآخر. أما خبر الواحد؛ فالحق عدم جواز نسخ القرآن به للمعنى المذكور، وهو أنه ظني والقرآن قطعي، والظني أضعف من القطعي فلا يقوى على رفعه.

2 - مقام الوقوع:

والقائلون بجواز نسخ القرآن بالسنة الآحادية، اعتمادا على أن القرآن ظني الدلالة، حجتهم باطلة؛ لأن القرآن إن لم يكن قطعي الدلالة فهو قطعي الثبوت، والسنة الآحادية ظنية الدلالة والثبوت معا، فهي أضعف منه فكيف ترفعه؟. 2 - مقام الوقوع: ما أسلفناه بين يديك كان في الجواز. أما الوقوع؛ فقد اختلف المجوزون فيه: منهم من أثبته، ومنهم من نفاه وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها وهاك وجهة كل من الفريقين لتعرف أن الحق مع النافين. استدل المثبتون على الوقوع بأدلة أربعة: الدليل الأول: أن آية الجلد وهي قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [سورة النور آية: 2] تشمل المحصنين وغيرهم من الزناة. ثم جاءت السنة فنسخت عمومها بالنسبة إلى المحصنين، وحكمت بأن جزاءهم الرجم. وقد ناقش النافون هذا الدليل بأمرين: أحدهما: أن الذي ذكروه تخصيص لا نسخ. والآخر: أن آية (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) هي المخرجة لصور التخصيص. وإن جاءت السنة موافقة لها وقد سبق الكلام على آية (الشيخ والشيخة) في عداد ما نسخت تلاوته وبقي حكمه، فلا تغفل عنه. الدليل الثاني: أن قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة آية: 180]، منسوخ بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث». وقد ناقشه النافون بأمرين: أولهما: أن الحديث المذكور خبر آحاد، وقد تقرر أن الحق عدم جواز نسخ القرآن بخبر الآحاد. ثانيهما: أن الحديث بتمامه يفيد أن الناسخ هو آيات المواريث، لا هذا الحديث، وإليك النص الكامل للحديث المذكور: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث». ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في صحيحه ونصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ: كانت الوصية كذلك حتى نسختها آية المواريث. الدليل الثالث: أن قوله سبحانه: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَ

القسم الثالث: نسخ السنة بالقرآن:

أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [سورة النساء آية: 15] منسوخة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «خذوا عني، خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». وقد ناقشه النافون. أولا: بأن الناسخ هنا هو آية الجلد، وآية الشيخ والشيخة، وإن جاء الحديث موافقا لهما. ثانيا: بأن ذلك تخصيص لا نسخ؛ لأن الحكم الأول جعل الله له غاية هو الموت، أو صدور تشريع جديد في شأن الزانيات، وقد حققنا أن رفع الحكم ببلوغ غايته المضروبة في دليله الأول ليس نسخا. الدليل الرابع: أن نهيه صلّى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور ناسخ لقوله سبحانه: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [سورة الأنعام آية: 145]. وقد ناقشه النافون: بأن الآية الكريمة لم تتعرض لإباحة ما عدا الذي ذكر فيها إنما هو مباح بالبراءة الأصلية، والحديث المذكور ما رفع إلا هذه البراءة الأصلية، ورفعها لا يسمّى نسخا كما سلف بيانه. من هذا العرض يخلص لنا أن نسخ القرآن بالسنة لا مانع يمنعه عقلا ولا شرعا، غاية الأمر أنه لم يقع؛ لعدم سلامة أدلة الوقوع كما رأيت. القسم الثالث: نسخ السنة بالقرآن: وفيه خلاف العلماء- أيضا- بين تجويز ومنع على نمط ما مرّ في القسم الثاني: بيد أن صوت المانعين هنا خافت، وحجتهم داحضة. أما المثبتون فيؤيدهم دليل الجواز كما يسعفهم برهان الوقوع، ولهذا نجد في صف الإثبات جماهير الفقهاء والمتكلمين، ولا نرى في صف النفي سوى الشافعي في أحد قوليه ومعه قلة من أصحابه، ومع ذلك فنقل هذا عن الشافعي فيه شيء من الاضطراب أو إرادة خلاف الظاهر. دليل الجواز: استدل المثبتون على الجواز هنا بمثل ما استدلوا به على القسم السالف، فقالوا: إن نسخ السنة بالقرآن ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره. أما الأول فظاهر، وأما الثاني: فلأن السنة وحي كما أن القرآن وحي، ولا مانع من نسخ وحي بوحي لمكان التكافؤ بينهما من هذه الناحية. واستدلوا على الوقوع بوقائع كثيرة، كل واقعة منها دليل على الجواز كما هي دليل على الوقوع، لما علمت من أن الوقوع يدل على الجواز وزيادة.

شبهة للمانعين ودفعها:

(من تلك الوقائع) أن استقبال بيت المقدس في الصلاة لم يعرف إلا من السنة وقد نسخه قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة آية: 144]. ومنها: أن الأكل والشرب والمباشرة كان محرما في ليل رمضان على من صام. ثم نسخ هذا التحريم بقوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة آية: 187]. ومنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أبرم مع أهل مكة عام الحديبية صلحا كان من شروطه: أن من جاء منهم مسلما رده عليهم، وقد وفّى بعهده في أبي جندل وجماعة من المكيين جاءوه مسلمين. ثم جاءته امرأة فهمّ أن يردها فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [سورة الممتحنة آية: 10]. شبهة للمانعين ودفعها: أورد المانعون على هذا الاستدلال المعتمد على تلك الوقائع شبهة قالوا في تصويرها: يجوز أن يكون النسخ فيما ذكرتم ثابتا بالسنة، ثم جاء القرآن موافقا لها، وبهذا يؤول الأمر إلى نسخ السنة بالسنة، ويجوز أن الحكم المنسوخ كان ثابتا أولا بقرآن، نسخت تلاوته ثم جاءت السنة موافقة له، وبهذا يؤول الأمر إلى نسخ القرآن بقرآن. وندفع هذه الشبهة بأنها قائمة على مجرد احتمالات واهية لا يؤيدها دليل، ولو فتحنا بابها وجعلنا لها اعتبارا، لما جاز لفقيه أن يحكم على نص بأنه ناسخ لآخر إلا إذا ثبت ذلك صريحا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولكن ذلك باطل بإجماع الأمة على خلافه، واتفاقها على أن الحكم إنما يسند إلى دليله الذي لا يعرف سواه بعد الاستقراء الممكن. القسم الرابع: نسخ السنة بالسنة: ويتنوع إلى أنواع أربعة: نسخ سنة متواترة بمتواترة، ونسخ سنة آحادية بآحادية، ونسخ سنة آحادية بسنة متواترة، ونسخ سنة متواترة بسنة آحادية. أما الثلاثة الأول فجائزة عقلا وشرعا. وأما الرابع وهو نسخ سنة متواترة بآحادية: فاتفق علماؤنا على جوازه عقلا، ثم اختلفوا في جوازه شرعا، فنفاه الجمهور، وأثبته أهل الظاهر. أدلة الجمهور: استدل الجمهور على مذهبهم بدليلين: أولهما: أن المتواتر قطعي الثبوت وخبر الواحد ظني، والقطعي لا يرتفع بالظني؛

ملاحظة:

لأنه أقوى منه والأقوى لا يرتفع بالأضعف. ثانيهما: أن عمر رضي الله عنه ردّ خبر فاطمة بنت قيس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى، مع أن زوجها طلقها وبتّ طلاقها، وقد أقر الصحابة عمر على رده هذا، فكان إجماعا، وما ذاك إلا لأنه خبر آحادي لا يفيد إلا الظن، فلا يقوى على معارضة ما هو أقوى منه، وهو كتاب الله إذ يقول: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ [سورة الطلاق آية: 6] وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم المتواترة في جعل السكن حقّا من حقوق المبتوتة. ملاحظة: روت كتب الأصول في هذا الموضع: خبر فاطمة بنت قيس بصيغة مدخولة فيها أن عمر قال حين بلغه الخبر: «لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، حفظت أم نسيت» وعزا بعضهم هذه الرواية المدخولة إلى الإمام مسلم في صحيحه. والحقيقة أن الرواية بهذه الصورة غير صحيحة، كما أن عزوها إلى مسلم غير صحيح. والرواية الصحيحة في مسلم وغيره ليس فيها كلمة «أصدقت أم كذبت» بل اقتصرت على كلمة «أحفظت أم نسيت»، ومثلك- حماك الله- يعلم أن الشك في حفظ فاطمة ونسيانها لا يقدح في عدالتها وصدقها، فإياك أن تخوض مع الخائضين من المستشرقين وأذنابهم فتطعن في الصحابة وتجرحهم في تثبتهم لمثل هذا الخبر المردود. اه.

التفسير والمفسرين وما يتعلق بهما

التفسير والمفسرين وما يتعلق بهما [معنى] التفسير: التفسير معناه في اللغة: الإيضاح والتبيين ومنه قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [سورة الفرقان: 33]. والتفسير في الاصطلاح: علم يبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية. التأويل: والتأويل مرادف للتفسير في أشهر معانيه اللغوية، قال صاحب القاموس: أوّل الكلام تأويلا وتأوّله: دبّره وقدّره وفسّره. ومنه قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [سورة آل عمران آية: 7]. أنواع التفسير: التفسير على نوعين بالإجمال: النوع الأول: تفسير جاف لا يتجاوز حل الألفاظ وإعراب الجمل، وبيان ما يحتويه نظم القرآن الكريم من نكات بلاغية وإشارات فنية، وهذا النوع أقرب إلى التطبيقات العربية منه إلى التفسير وبيان مراد الله من هداياته. النوع الثاني: تفسير يجاوز هذه الحدود، ويجعل هدفه الأعلى تجلية هدايات القرآن وتعاليم القرآن، وحكمة الله فيما شرع للناس في هذا القرآن على وجه يجتذب الأرواح، ويفتح القلوب، ويدفع النفوس إلى الاهتداء بهدى الله، وهذا هو الخليق باسم التفسير وفيه يساق الحديث إذا تكلمنا عن فضله والحاجة إليه. فضل التفسير والحاجة إليه: نهضة الأمم لا يمكن أن تكون صحيحة عن تجربة، ولا سهلة متيسرة، ولا رائعة مدهشة، إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن ونظمه الحكيمة، التي روعيت فيها جميع عناصر السعادة للنوع البشري بناء على ما أحاط به علم خالقه الحكيم، وبدهيّ أن العمل بهذه التعاليم لا يكون إلا بعد فهم القرآن وتدبره، والوقوف على ما حوى من نصح ورشد، والإلمام بمبادئه عن طريق تلك القوة الهائلة التي يحملها أسلوبه

البارع المعجز، وهذا لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان لما تدل عليه ألفاظ القرآن (وهو ما نسميه بعلم التفسير) خصوصا في هذه العصور الأخيرة التي فسدت فيها ملكة البيان العربي، وضاعت فيها خصائص العروبة حتى من سلائل العرب أنفسهم. فالتفسير هو مفتاح هذه الكنوز والذخائر التي احتواها هذا الكتاب المجيد النازل لإصلاح البشر وإنقاذ الناس، وإسعادهم في الدنيا والآخرة. وبدون التفسير لا يمكن الوصول إلى هذه الكنوز والذخائر، مهما بالغ الناس في ترديد ألفاظ القرآن وتوافروا على قراءته كل يوم. وهنا تلمح السر في تأخر مسلمة هذا الزمن على رغم وفرة المصاحف في أيديهم، ووجود ملايين الحفّاظ بين ظهرانيهم، وعلى رغم كثرة عددهم، واتساع بلادهم، في حين أن سلفنا الصالح نجحوا بهذا القرآن نجاحا مدهشا، كان ومازال موضع إعجاب المؤرخين، مع أن أسلافنا أولئك كانوا في قلة من العدد، وضيق من الأرض، وخشونة من العيش، ومع أن نسخ القرآن ومصاحفه لم تكن ميسورة لهم، ومع أن حفاظه لم يكونوا بهذه الكثرة الغامرة. إن السر في ذلك هو أنهم توفّروا على دراسة القرآن واستخراج كنوز هداياته، يستعينون على هذه الثقافة العليا بمواهبهم الفطرية، وملكاتهم السليمة العربية من ناحية، وبما يشرحه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويبينه لهم بأقواله وأعماله وأخلاقه وسائر أحواله كما قال- سبحانه-: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل آية: 44]. وعلى ذلك كان همهم الأول هو القرآن الكريم يحفظونه ويفهمونه، ثم يعملون بتعاليمه بدقة، ويهتدون بهديه في يقظة. بهذا وحده صفت أرواحهم وطهرت نفوسهم، وعظمت آثارهم؛ لأن الروح الإنساني هو أقوى شيء في هذا الوجود، فمتى صفا وتهذب، وحسن توجيهه وتأدب أتى بالعجب العجاب. وكذلك أتت الأمة العربية بالعجب العجاب، في الهداية والإرشاد، وإنقاذ العالم وإصلاح البشر، وكتب الله لهم النصر والتأييد والدولة والظفر، حتى على أقوى الدول المعادية لدعوة الحق والإصلاح في ذلك العهد؛ دولة الفرس في الشرق، ودولة الرومان في الغرب، تلك محوها من لوح الوجود بهدم طغيانها وإسلام شعبها، وهذه سلبوها ما كان في حوزتها من ممالك الشرق وشعوبه الكثيرة، ثم دانت لهم الدنيا فاستولوا على بعض بلاد أوربا وأقاموا فيها دولة عربية شامخة البنيان كانت بهجة الدنيا وزينة الحياة، ومنها شع النور على الشعوب

الأوربية، وكانت النواة الناجحة في نهضتهم الحديثة الحاضرة (تلك هى فردوس الأندلس المفقود)!! أما غالب مسلمة اليوم، فقد اكتفوا من القرآن بألفاظ يرددونها، وأنغام يلحنونها، في المآتم والمقابر والدور، وبمصاحف يحملونها أو يودعونها بركة في البيوت، ونسوا أن بركة القرآن العظمي إنما هى في تدبره وتفهمه، وفي الجلوس إليه، والاستفادة من هديه وآدابه، ثم في الوقوف عند أوامره ومراضيه، والبعد عن مساخطه ونواهيه، والله- تعالى- يقول: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [سورة ص: 29]، ويقول جل ذكره: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [سورة محمد: 24]، ويقول سبحانه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر آية: 17]. فما أشبه المسلمين اليوم بالعطشان يموت من الظمأ والماء بين يديه، وبالمريض يفتك به المرض ودواؤه أمام عينيه، فلا حول ولا قوة إلا بالله!! ألا إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، وهو أن يعودوا إلى كتاب الله يستلهمونه الرشد، ويستمنحونه الهدى، ويحكمونه في نفوسهم وفي كل ما يتصل بهم، كما كان آباؤنا الأولون يتلونه حق تلاوته بتدبر وتفكر، حتى ظهرت آثاره الباهرة عاجلة فيهم، فرفع نفوسهم وانتشلها من حضيض الوثنية، وأعلى هممهم وهذب أخلاقهم، وأرشدهم إلى الانتفاع بقوى الكون ومنافعه، وكان من وراء ذلك أن مهروا في العلوم والفنون والصناعات، كما مهروا في الأخلاق والآداب والإصلاح والإرشاد، ووصلوا إلى غاية بزّوا فيها كل أمم الدنيا، حتى قال بعض فلاسفة الغرب في كتابه (تطور الأمم) ما نصه: «إن ملكة الفنون لا تستحكم في أمة من الأمم إلا في ثلاثة أجيال: جيل التقليد، وجيل الخضرمة، وجيل الاستقلال، وشذّ العرب وحدهم فاستحكمت فيهم ملكة الفنون في جيل واحد». اه. قال السيوطي في بيان الحاجة إلى التفسير ما ملخصه: «القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب، فكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه». أما دقائق باطنه فلا تظهر لهم إلا بعد البحث والنظر وسؤالهم النبي صلّى الله عليه وسلم مثل قولهم: «وأيّنا لم يظلم نفسه .. ؟!» حينما نزل قوله- تعالى-: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام: 82]، ففسره النبي صلّى الله عليه وسلم بالشرك، واستدل بقوله- سبحانه-: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان آية: 13]. وكذلك حين قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذّب» سألته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن قوله تعالى: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [سورة الانشقاق آية: 8، 9]، فقال صلّى الله عليه وسلم: «ذلك العرض»، وكقصة عدي بن حاتم في

الخيط الأبيض والخيط الأسود، ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه، بل نحن أشد احتياجا إلى التفسير لقصورنا عن مدارك اللغة وأسرارها بغير تعلم» اه. مما تقدم يتبين أن فائدة التفسير هي التذكر والاعتبار، ومعرفة هداية الله في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، ليفوز الأفراد والمجاميع بخير العاجلة والآجلة. ويتبين أيضا- أن هذا العلم من أشرف العلوم الدينية والعربية، إن لم يكن أشرفها جميعا، وذلك لسمو موضوعه، وعظم فائدته. وسمّى «علم التفسير» لما فيه من الكشف والتبيين، واختص بهذا الاسم دون بقية العلوم مع أنها كلها مشتملة على الكشف والتبيين؛ لأنه لجلالة قدره، واحتياجه إلى زيادة الاستعداد، وقصده إلى تبيين مراد الله من كلامه، كان كأنه هو التفسير وحده دون ما عداه.

أقسام التفسير

أقسام التفسير ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن التفسير أربعة: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسره العرب بألسنتها، وتفسير تفسره العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله. اه. قال الزركشي في البرهان ما ملخصه: «هذا تقسيم صحيح». - فأما الذي تعرفه العرب بألسنتها: فهو ما يرجع إلى لسانهم من اللغة والإعراب. - وأما ما لا يعذر أحد بجهله: فهو ما تبادر إلى الأفهام معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام، ودلائل التوحيد، وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليّا يعلم أنه مراد الله تعالى، فهذا القسم لا يلتبس تأويله؛ إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [سورة محمد آية: 19]، أنه لا شريك له في الألوهية، وإن لم يعلم أن «لا» موضوعة في اللغة للنفي، و «إلا» موضوعة للإثبات، وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر. ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى «أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» ونحوه إيجاب المأمور به، وإن لم يعلم أن صيغة «افعل» للوجوب. - وأما ما لا يعلمه إلا الله تعالى: فهو ما يجري مجرى الغيوب، كالآيات التي تذكر فيها الساعة والروح، والحروف المقطعة، وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق، فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره، ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف، وبنص من القرآن أو الحديث أو إجماع الأمة على تأويله. - وأما ما يعلمه العلماء: فيرجع إلى اجتهادهم؛ فهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل، وذلك استنباط الأحكام، وبيان المجمل، وتخصيص العموم، وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه اعتمادا على الدلائل والشواهد دون مجرد الرأي. اه المقصود منه، لكنه لم يلتزم فيه ترتيب الأقسام على ما روي عن ابن عباس، ولا ضير في ذلك مادام أنه قد استوعب عدتها الأربعة كما رأيت. وقسم بعضهم التفسير باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام: «تفسير بالرواية» ويسمى التفسير بالمأثور، و «تفسير بالدراية» ويسمى التفسير بالرأي، و «تفسير بالإشارة» ويسمى التفسير الإشاري، وسنتحدث عن كل واحد منها إن شاء الله.

التفسير بالمأثور

التفسير بالمأثور هو ما جاء في القرآن، أو السنة، أو كلام الصحابة، بيانا لمراد الله- تعالى- من كتابه. 1 - مثال ما جاء في القرآن: قوله سبحانه: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة آية: 187]، فإن كلمة «من الفجر» بيان وشرح للمراد من كلمة الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ التي قبلها. وكذلك قوله- سبحانه-: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [سورة الأعراف آية: 23]، فإنها بيان للفظ كَلِماتٍ من قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة آية: 37]، على بعض وجوه التفاسير. وقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [سورة المائدة آية: 3]، فإنها بيان للفظ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» من قوله سبحانه: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة آية: 1]. وقوله- تعالى-: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة المائدة آية: 12]، فإنها بيان للعهدين في قوله- سبحانه-: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [سورة البقرة آية: 40]، الأول للأول، والثاني للثاني. وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ [سورة الطارق آية: 2، 3]، فإن كلمة النَّجْمُ الثَّاقِبُ بيان لكلمة الطَّارِقِ التي قبلها، وغير ذلك كثير يعلم بالتدبر في كتاب الله- تعالى. 2 - ومثال ما جاء في السنة شرحا للقرآن: أنه صلّى الله عليه وسلم فسر الظلم بالشرك في قوله سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [سورة الأنعام آية: 82]، وأيد تفسيره هذا بقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان آية: 13]، وفسر صلّى الله عليه وسلم الحساب اليسير بالعرض حين قال: «من نوقش الحساب عذّب» فقالت له السيدة عائشة: أو ليس قد قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [سورة الانشقاق آية: 7 - 9]، فقال صلّى الله عليه وسلم «ذلك العرض» بيانا للحساب اليسير، وكذلك فسر الرسول صلّى الله عليه وسلم القوة بالرمي في قوله- سبحانه-: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [سورة الأنفال آية: 60]، وفي صحيح كتب السنة من ذلك شيء كثير. وكلا هذين القسمين لا شك في قبوله، وأما الأول: فلأن الله تعالى أعلم بمراد نفسه من غيره، وأصدق الحديث كتاب الله تعالى. وأما الثاني: فلأن خير الهدي

المفسرون من الصحابة

هدى سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، ووظيفته البيان والشرح، مع أنّا نقطع بعصمته وتوفيقه قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل آية: 44]. 3 - بقي القسم الثالث وهو بيان القرآن بما صح وروده عن الصحابة رضوان الله عليهم: قال الحاكم في المستدرك: «إن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل له حكم المرفوع»، كذلك أطلق الحاكم، وقيّده بعضهم بما كان في بيان سبب النزول ونحوه مما لا مجال للرأي فيه، وإلا فهو من الموقوف. ووجهة نظر الحاكم ومن وافقه: أن الصحابة رضوان الله عليهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا وعاينوا من أسباب النزول ما يكشف لهم النقاب عن معاني الكتاب، ولهم من سلامة فطرتهم، وصفاء نفوسهم، وعلو كعبهم في الفصاحة والبيان، ما يمكنهم من الفهم الصحيح لكلام الله، وما يجعلهم يوقنون بمراده من تنزيله وهداه. أما ما ينقل عن التابعين ففيه خلاف العلماء: منهم من اعتبره من المأثور؛ لأنهم تلقوه من الصحابة غالبا، ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي. وفي تفسير ابن جرير الطبري كثير من النقول عن الصحابة والتابعين في بيان القرآن الكريم، بيد أن الحافظ ابن كثير يقول: إن أكثر التفسير المأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب، قال بعضهم: وجلّ ذلك في قصص الرسل مع أقوامهم، وما يتعلق بكتبهم ومعجزاتهم، وفي تاريخ غيرهم كأصحاب الكهف، ومدينة إرم ذات العماد، وسحر بابل، وعوج بن عنق، وفي أمور الغيب من أشراط الساعة وقيامتها، وما يكون فيها وبعدها، وجلّ ذلك خرافات ومفتريات، صدقهم فيها الرواة حتى بعض الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك قال الإمام أحمد: «ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم، والمغازي» وكان الواجب جمع الروايات المفيدة في كتب مستقلة، كبعض كتب الحديث وبيان قيمة أسانيدها، ثم يذكر في التفسير ما يصح منها بدون سند، كما يذكر الحديث في كتب الفقه لكن يعزى إلى مخرجه. اه ما أردنا نقله. المفسرون من الصحابة قال السيوطي في الإتقان: «اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة، الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير. أما الخلفاء الأربعة، فأكثر من روي عنه منهم، عليّ بن أبي طالب- كرم الله وجهه-

والرواية عن الثلاثة قليلة جدّا، وكأن السبب في ذلك تقدم وفاتهم اه. ومعنى هذا أن السبب في إقلال الثلاثة- أبي بكر، وعمر، وعثمان- من التفسير، أنهم كانوا في وسط أغلب أهله علماء بكتاب الله، واقفون على أسرار التنزيل، عارفون بمعانيه وأحكامه، مكتملة فيهم خصائص العروبة. أما الإمام عليّ رضي الله عنه: فقد عاش بعدهم حتى كثرت حاجة الناس في زمانه إلى من يفسّر لهم القرآن، وذلك لاتساع رقعة الإسلام، ودخول العجم في هذا الدين الجديد ممن كادت تذوب بهم خصائص العروبة، ونشأة جيل من أبناء الصحابة كان في حاجة إلى علم الصحابة، فلا جرم كان ما نقل عن عليّ أكثر مما نقل عن غيره، أضف إلى ذلك ما امتاز به الإمام من خصوبة الفكر، وغزارة العلم، وإشراق القلب: ثم أضف- أيضا- سبق اشتغال الثلاثة بمهام الخلافة وتصريف الحكم دونه. روى معمر عن وهب بن عبد الله بن أبي الطفيل قال: شهدت عليّا رضي الله عنه يخطب ويقول: سلوني، فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار؟ أفي سهل أم في جبل؟. وفي رواية عنه قال: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت؟ وأين نزلت؟ إن ربي وهب لي قلبا عقولا، ولسانا سؤولا .. اه. وقد كثرت الروايات- أيضا- عن ابن مسعود، وحسبك في معرفة خطره وجلالة قدره ما رواه أبو نعيم عن أبي البحتري قال: قالوا لعليّ: أخبرنا عن ابن مسعود؟ قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى بذلك علما. وأما ابن عباس: فهو ترجمان القرآن بشهادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعن مجاهد قال: قال ابن عباس، قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نعم ترجمان القرآن أنت»، وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وقد دعا له النبي صلّى الله عليه وسلم بقوله: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل». وروي أن رجلا أتى ابن عمر يسأله عن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما: أي من قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [سورة الأنبياء آية: 30]، فقال: اذهب إلى ابن عباس، ثم تعال أخبرني، فذهب فسأله فقال: كانت السموات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات، فرجع إلى ابن عمر فأخبره فقال: قد كنت أقول: ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن! فالآن، قد علمت أنه أوتي علما .. اه.

تفسير ابن عباس الرواية عنه واختلاف الرواة فيها

لكنه تجب الحيطة فيما عزي إلى ابن عباس من التفسير؛ فقد كثر عليه فيه الدسّ والوضع كما سيأتي. وكذلك أبيّ بن كعب بن قيس الأنصاري أحد كتّاب الوحي، فقد كان رضي الله عنه من المكثرين في التفسير، المبرزين فيه، كما اشتهر في القراءة وبرز فيها، روى له في التفسير أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب وإسناده صحيح. وأما الباقي من العشرة، وهم: زيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، فمع شهرتهم في التفسير كانوا أقل من الأربعة الذين قبلهم. وقد ورد عن جماعة من الصحابة غير هؤلاء العشرة شيء من التفسير، بيد أنه قليل، منهم أنس، وأبو هريرة، وابن عمر، وجابر، وعمرو بن العاص، وعائشة- أم المؤمنين- رضي الله عنهم أجمعين. تفسير ابن عباس الرواية عنه واختلاف الرواة فيها أكثر الصحابة تفسيرا ابن عباس ذلك لما عرفت من أنه ترجمان القرآن، ولتأخر الزمان به حتى اشتدت حاجة الناس إلى الأخذ عنه بعد اتساع الإسلام واتساع العمران، ولانقطاعه وتفرغه للنشر والدعوة والتعليم، دون أن تشغله خلافة أو تصرف في سياسة وتدبير لشئون الرعية، غير أن الرواية عنه مختلفة الدرجات. قال السيوطي في الإتقان: «ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة بروايات وطرق مختلفة، فمن جيّدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه». قال أحمد بن حنبل: «بمصر صحيفة في التفسير رواها عليّ بن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا» [أسنده أبو جعفر النحاس]. قال ابن حجر: وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن أبي صالح عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه كثيرا فيما يعلّق عن ابن عباس. وقال قوم: لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عباس التفسير، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير، ثم قال ابن حجر: بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة، فلا ضير في ذلك. اه. وأخرج منها ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وابن المنذر كثيرا، ولكن بوسائط

المفسرون من التابعين وطبقاتهم

بينهم وبين أبي صالح. وأوهى طرقه: طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وكذا طريق مقاتل بن سليمان. وطريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس منقطع، فإن الضحاك لم يلقه. وبالجملة فقد روى عن الشافعي أنه قال: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث. المفسرون من التابعين وطبقاتهم نستطيع أن نعتبر التابعين طبقات ثلاثة: طبقة أهل مكة، وطبقة أهل المدينة، وطبقة أهل العراق. طبقة أهل مكة: أما طبقة أهل مكة من التابعين: فقد كانوا أعلم الناس بالتفسير، نقل السيوطي عن ابن تيمية أنه قال: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاووس. أما مجاهد: فقد كان أوثق من روى عن ابن عباس، ولذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أقطاب العلم وأئمة الدين. قال النووي: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وقال الفضيل بن ميمون: سمعت مجاهدا يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، وعنه- أيضا- قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية منه أسأله عنها: فيم أنزلت؟ وكيف كانت؟. ولا تعارض بين هاتين الروايتين، فالإخبار بالقليل لا ينافي الإخبار بالكثير، ويحتمل أن عرضه القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة كان طلبا لضبطه وتجويده وحسن أدائه، وأما عرضه إياه ثلاث مرات؛ فكان طلبا لتفسيره ومعرفة أسراره، وحكمه وأحكامه، كما يدل عليه قوله: أقف عند كل آية منه أسأله عنها: فيم أنزلت؟ وكيف أنزلت؟. وأما عطاء وسعيد: فقد كان كل منهما ثقة ثبتا في الرواية عن ابن عباس. قال سيفان الثوري: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك. وقال قتادة: أعلم التابعين أربعة، كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، وكان

طبقة أهل المدينة:

سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير .. إلخ. وقال أبو حنيفة: ما لقيت أحدا أفضل من عطاء. وأما عكرمة مولى ابن عباس: فقد قال الشافعي فيه: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. اه. وقال عكرمة: كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل (القيد) ويعلمني القرآن. وكان يقول: لقد فسرت ما بين اللوحين (لعله يريد ما بين دفتي المصحف) وكل شيء أحدثكم في القرآن فهو عن ابن عباس. اه. وأما طاووس بن كيسان اليماني: فقد كان من رجال العلم والعمل، وأدرك من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم نحو الخمسين، ورد أنه حج بيت الله الحرام أربعين مرة، وكان مجاب الدعوة، قال فيه ابن عباس: إني لأظن طاووسا من أهل الجنة .. اه. طبقة أهل المدينة: منهم: زيد بن أسلم: وقد أخذ عنه ابنه عبد الرحمن، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة. ومنهم: أبو العالية: وهو من رواة أبيّ بن كعب، وقد روى عنه الربيع بن أنس. ومنهم: محمد بن كعب القرظي: الذي قال فيه ابن عون: ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي. طبقة أهل العراق: منهم: مسروق بن الأجدع: وكان ورعا زاهدا صحب ابن مسعود، قال ابن معين فيه: ثقة لا يسأل عنه، وكان القاضي شريح يستشيره في معضلات المسائل، روى عنه الشعبي، وأبو وائل وآخرون، لصدق روايته وأمانته. ومنهم: قتادة بن دعامة: وهو من رواة ابن مسعود، شهد له ابن سيرين بالضبط والحفظ، وقال فيه ابن المسيب: ما رأيت عراقيّا أحفظ من قتادة، غير أنه كان يخوض في القضاء والقدر، فتحرّج بعض الناس من الرواية عنه. وقد احتج به أرباب الكتب الصحيحة. ومنهم: أبو سعيد الحسن البصري: قال ابن سعد فيه: كان ثقة مأمونا وعالما جليلا، وفصيحا جميلا، وتقيّا نقيّا، حتى قيل: إنه سيد التابعين. ومنهم: عطاء بن أبي مسلم الخرساني: أصله من البصرة لكنه أقام بخراسان بعد أن دخلها، لذلك نسب إليها، كان من أجلاء العلماء، غير أنه كان مصابا بسوء الحفظ لذلك اختلفوا في توثيقه.

نقد المروي عن التابعين:

ومنهم مرة الهمذاني الكوفي: لكثرة عبادته قيل: مرة الطيب، ومرة الخير، أخذ عن أبيّ بن كعب، وعمر بن الخطاب وغيرهما من الصحابة، وروى عنه الشعبي وغيره. هؤلاء هم أعلام المفسرين من التابعين استمدوا آراءهم وعلومهم مما تلقوه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وعنهم أخذ تابعو التابعين وهكذا، حتى وصل إلينا دين الله وكتابه وعلومه ومعارفه سليمة كاملة عن طريق التلقي والتلقين، جيلا عن جيل، مصداقا لقوله- سبحانه-: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [سورة الحجر آية: 9]. ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». نقد المروي عن التابعين: يلاحظ على ما روي عن التابعين اعتبارات مهمة تثير الطعن فيه وتوجّه الطعن إليه. منها أنهم لم يشاهدوا عهد النبوة، ولم يتشرفوا بأنوار الرسول صلّى الله عليه وسلم، فيغلب على الظن أن ما يروى عنهم من تفسير القرآن إنما هو من قبيل الرأي لهم، فليس له قوة المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم. ومنها: أنه يندر فيه الإسناد الصحيح. ومنها: اشتماله على إسرائيليات وخرافات انسابت إليه تارة من زنادقة الفرس، وأخرى من بعض مسلمة أهل الكتاب، إما بحسن نية، وإما بسوء نية. ضعف الرواية بالمأثور علمنا أن الرواية بالمأثور، تتناول ما كان تفسيرا للقرآن بالقرآن، وما كان تفسيرا للقرآن بالسنة، وما كان تفسيرا للقرآن بالموقوف عن الصحابة أو التابعين على رأي. أما تفسير بعض القرآن ببعض، وتفسير القرآن بالسنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فلا خلاف في وجاهته وقبوله. وأما تفسير القرآن بما يعزى إلى الصحابة والتابعين؛ فإنه يتطرق إليه الضعف من وجوه: أولها: ما دسه أعداء الإسلام مثل: زنادقة اليهود والفرس، فقد أرادوا هدم هذا الدين المتين عن طريق الدس والوضع، حينما أعيتهم الحيل في النيل منه عن طريق الحرب والقوة، وعن طريق الدليل والحجة. ثانيها: ما لفّقه أصحاب المذاهب المتطرفة ترويجا لتطرفهم، كشيعة عليّ المتطرفين

الذين نسبوا إليه ما هو منه بريء، وكالمتزلفين الذين حطبوا في حبل العباسيين، فنسبوا إلى ابن عباس ما لم تصح نسبته إليه تملقا لهم واستدرارا لدنياهم. ثالثها: اختلاط الصحيح بغير الصحيح، ونقل كثير من الأقوال المعزوّة إلى الصحابة أو التابعين من غير إسناد ولا تحرّ، مما أدى إلى التباس الحق بالباطل، زد على ذلك أن من يرى رأيا صار يعتمده دون أن يذكر له سندا، ثم يجيء من بعده فينقله على اعتبار أن له أصلا، ولا يكلف نفسه البحث عن أصل الرواية، ولا من يرجع إليه هذا القول. رابعها: أن تلك الروايات مليئة بالإسرائيليات، ومنها كثير من الخرافات التي يقوم الدليل على بطلانها، ومنها ما يتعلق بأمور العقائد التي لا يجوز الأخذ فيها بالظن، ولا برواية الآحاد، بل لا بد من دليل قاطع فيها، كالروايات التي تتحدث عن أشراط الساعة، وأهوال القيامة وأحوال الآخرة حين تذكر على أنها اعتقاديات في الإسلام. خامسها: أن ما نقل نقلا صحيحا عن الكتب السابقة التي عند أهل الكتاب كالتوراة والإنجيل، أمرنا الرسول صلّى الله عليه وسلم أن نتوقف فيه، فلا نصدقهم لاحتمال أنه مما حرفوه في تلك الكتب، ولا نكذبهم لاحتمال أنه مما حفظوه منها فقد قال تعالى فيهم إنهم: أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ [سورة آل عمران آية: 23]. وكلمة الإنصاف في هذا الموضوع: أن التفسير بالمأثور نوعان: أحدهما: ما توافرت الأدلة على صحته وقبوله، وهذا لا يليق بأحد رده، ولا يجوز إهماله وإغفاله، ولا يجمل أن نعتبره من الصوارف عن هدى القرآن، بل هو على العكس عامل من أقوى العوامل على الاهتداء بالقرآن. ثانيهما: ما لم يصح لسبب من الأسباب الآنفة أو غيرها، وهذا يجب رده ولا يجوز قبوله ولا الاشتغال به، اللهم إلا لتمحيصه والتنبيه إلى ضلاله وخطئه حتى لا يغتر به أحد. ولا يزال كثير من أيقاظ المفسرين كابن كثير يتحرون الصحة فيما ينقلون، ويزيّفون ما هو باطل أو ضعيف ولا يحابون ولا يجبنون. ولعل الذين أطلقوا القول في رد المأثور إنما أرادوا المبالغة- كما علمت في توجيه كلمة الإمام أحمد بن حنبل- وعذرهم أن الصحيح منه قليل نادر، نزر يسير، حتى لقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث. أي مع كثرة ما روي عنه. وقد أشار ابن خلدون إلى أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم

البداوة والأمية، وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تتشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم؛ ويستفيدون منهم إلى أن قال: وهؤلاء مثل: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم وتلقّيت بالقبول، لما كان لهم من المكانة السامية، ولكن الراسخين في العلم قد تحروا الصحة، وزيفوا ما لم تتوافر أدلة صحته. اه. بتصرف. تنبيه: إياك أن تفهم من عبارة ابن خلدون أو ابن تيمية أو غيرهما ما يجعلك تخوض مع الخائضين في هؤلاء الأعلام الثلاثة: عبد الله بن سلام، ووهب بن منبه، وكعب الأحبار، فقد ضل بعض الأدباء والمؤرخين من كبار الكتاب في هذا العصر، حين زعموا ذلك، حتى لقد سلكوا عبد الله بن سلام الصحابي الجليل في سلك واحد مع عبد الله ابن سبأ اليهودي الخبيث، الذي تظاهر بالإسلام ثم كاد له شر الكيد، فتشيّع لعليّ، وزعم أن الله حل فيه، وطعن على عثمان، وأظهر الرفض عند حكم الحكمين بصفين، ودعا الناس إلى ضلاله الأثيم، حتى نفي مرارا، والحقيقة أن ثلاثتنا هؤلاء عدول ثقات. أما ابن سلام: فحسبك أنه صحابي من خيرة الصحابة، ومن المبشرين بالجنة، يروي الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنه عاشر عشرة في الجنة» وفيه أنزلت آية: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [سورة الأحقاف آية: 10]، وآية: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [سورة الرعد آية: 43]، على ما جاء في بعض الروايات. وأما وهب بن منبه: فقد كان تابعا ثقة واسع العلم، روى عن أبي هريرة كثيرا وله حديث في الصحيحين عن أخيه همام: وقد بلغ من تنسكه وصلاحه أنه لبث عشرين سنة يصلي الفجر بوضوء العشاء رضي الله عنه. وأما كعب: فقد كان تابعا جليلا، أسلم في خلافة أبي بكر، وناهيك أن الصحابة أخذوا عنه كما أخذ هو عن الصحابة، وروى عنه جماعة من التابعين مرسلا، وله شيء في صحيح البخاري وغيره. ولكن يجب أن نفرق في هذا المقام بين ما يصح أن يقال فيهم، وما يصح أن ينقل عنهم، فأما ما يصح أن يقال فيهم؛ فهو الثقة والتقدير على نحو ما ألمحنا، وأما الذي ينقل عنهم؛ فمنه الصحيح وغير الصحيح، لكن عدم صحة ما لم يصح لا يعلل باتهامهم وجرحهم، فقد علمت من هم؟! إنما يعلل بأحد أمرين: أولهما: رجال السند الذين ينقلون عنهم، فقد يكون بينهم متّهم في عدالته أو

تدوين التفسير بالمأثور وخصائص كتبه

ضبطه، ولهذا يجب النظر في سلسلة الرواة عنهم رجلا رجلا، ولدينا من كتب الجرح والتعديل ما يفي بهذه الغاية، ولا يكفي الاعتماد على ذكر السند في كتاب كبير كتفسير ابن جرير، فقد يذكر ابن جرير أو غيره أشياء غير صحيحة ويسوق أسانيدها ثم لا يبين المجروح من رجال السند ولا المعدّل فيهم. الأمر الثاني: أن يكون أولئك الثلاثة قد رووا ما رووه على أنه مما كان في الإسرائيليات، فتقبلها الآخذون على أنها من الإسلاميات، ولهذا يجب النظر في هذه المرويات، فإن كانت مما يقرره الإسلام قبلناها، وإن كانت مما يرده رددناها، وإن كانت مما سكت عنه سكتنا عنها عملا بقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» [رواه البخاري بهذا اللفظ]. ورواه أحمد والبزار من حديث جابر بلفظ: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تكذّبوا بحق أو تصدقوا بباطل، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حلّ له إلا اتباعي»، وسبب هذا الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلم علم أن عمر كتب شيئا من التوراة عن اليهود فغضب صلّى الله عليه وسلم وقاله. اه. تدوين التفسير بالمأثور وخصائص كتبه جاء قرن تابعي التابعين، وفيه ألّفت تفاسير كثيرة، جمعت من أقوال الصحابة والتابعين، كتفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، وآدم بن إياس، وإسحاق بن راهويه، وروح بن عبادة، وعبد ابن حميد، وأبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن أبي طلحة، والبخاري وآخرين. ومن بعدهم ألف ابن جرير الطبري كتابه المشهور وهو من أجلّ التفاسير، ثم ابن أبي حاتم، وابن ماجه، والحاكم، وابن مردويه، وابن حبان، وغيرهم. وليس في تفاسير هؤلاء إلا ما هو مسند إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم، ما عدا ابن جرير؛ فإنه تعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وذكر الإعراب والاستنباط. فكرة عن تفسير ابن جرير: ابن جرير هو: أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، ولد (سنة 224 هـ)، وتوفّي سنة 310 هـ)، كان فريد عصره، ووحيد دهره علما وعملا، وحفظا لكتاب الله وخبرة بمعانيه، وإحاطة بالآيات ناسخها ومنسوخها، وبطرق الرواية صحيحها وسقيمها، وبأحوال الصحابة والتابعين.

تفسير أبي الليث السمرقندي:

لذلك كان تفسيره من أجلّ التفاسير بالمأثور وأصحها وأجمعها بسبب ما أورده عن الصحابة والتابعين وعرض فيه لتوجيه الأقوال، ورجح بعضها على بعض، ورجح فيه كثيرا من الإعراب واستنباط الأحكام، وقد شهد العارفون بأنه لا نظير له في التفاسير. قال النووي في تهذيبه: كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله، وقال أبو حامد الإسفراييني شيخ الشافعية: لو رحل أحد إلى الصين ليحصّل تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا عليه. ومن مزاياه: أنه حرر الأسانيد وقرب البعيد، وجمع ما لم يجمعه غيره، غير أنه قد يسوق أخبارا بالأسانيد غير صحيحة ثم لا ينبه على عدم صحتها. وقلنا: إن عذره في ذلك هو ذكر السند في زمن توافر الناس فيه على معرفة حال السند من غير توقف على تنبيه منه، وهذا التفسير موجود إلى اليوم ومنتشر مطبوع، وهو عمدة لأكثر المفسرين. تفسير أبي الليث السمرقندي: هو تفسير بالمأثور، يذكر فيه كثيرا من أقوال الصحابة والتابعين غير أنه لا يذكر الأسانيد وهو مخطوط في مجلدين وموجود في مكتبة الأزهر. الدر المنثور في التفسير بالمأثور: هو للإمام جلال الدين السيوطي، قال في مقدمته: إنه لخصه من كتاب ترجمان القرآن، وهو التفسير المسند إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو مطبوع بمصر، وقد ذكر في كتابه الإتقان أنه شرع في تفسير جامع لما يحتاج إليه من التفاسير المنقولة والأقوال المعقولة، والاستنباط والإشارات والأعاريب واللغات، ونكت البلاغة، ومحاسن البديع، وسماه «مجمع البحرين ومطلع البدرين»، وذكر أنه جعل كتاب الإتقان مقدمة له، وذكر في خاتمة كتاب الإتقان نبذة صالحة من التفسير بالمأثور المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم من أول الفاتحة إلى أول سورة الناس. تفسير ابن كثير: ابن كثير: هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر، القرشي، الدمشقي الشافعي المولود سنة (705 هـ) المتوفي سنة (774 هـ)، وتفسيره هذا من أصح التفاسير بالمأثور إن لم يكن أصحها جميعا، نقل فيه عن النبي صلّى الله عليه وسلم وكبار الصحابة والتابعين، وقد أخرجته مطبعة المنار بمصر في تسعة أجزاء، ومعه بأسفل الصفحات تفسير البغوي الآتي ذكره، وبآخره كتاب «فضائل القرآن» الذي يعتبر متمما له.

تفسير البغوي:

تفسير البغوي: هو العلامة أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الفقيه الشافعي، كان إماما في التفسير والحديث، له التصانيف المفيدة، ومنها: معالم التنزيل، أتى فيه بالمأثور، ولكن مجردا عن الأسانيد. تفسير بقيّ بن مخلد: ذكر الإمام السيوطي في طبقات المفسرين أن بقي بن مخلد بن يزيد بن عبد الرحمن الأندلسي القرطبي، أحد الأعلام وصاحب التفسير والسند، أخذ عن يحيى بن يحيى الليثي ورحل إلى المشرق، ولقي الكبار بالحجاز ومصر وبغداد، وسمع من أحمد بن حنبل، وسمع بالكوفة أبا بكر بن أبي شيبة، وسمع بمصر يحيى بن بكير، وسمع بالحجاز أبا مصعب الزهري، وسمع بدمشق هشام بن عمار، وشيوخه مائتان وأربعة وثمانون رجلا، وكان إماما زاهدا صوّاما صادقا مجاب الدعوة، قليل المثل، بحرا في العلم، مجتهدا لا يقلد أحدا، عني بالأثر، وليس لأحد مثل سنده في الحديث ولا في التفسير. قال ابن حزم: أقطع أنه لم يؤلّف في الإسلام مثل تفسيره، لا تفسير ابن جرير ولا غيره، ولد سنة (204 هـ) وتفسيره الموصوف بما ترى يؤسفنا أنه لم يكتب له البقاء، ولم يظفر بما ظفر به تفسير ابن جرير من هذا الخلود. طرق المفسرين بعد العصر الأول: ثم إن كتب التفسير بالمأثور موسوعات كبيرة، لا نستطيع الإحاطة بها ولا بأسماء جميع مؤلفيها، ولا بطريقة كل مؤلف فيها، غير أنا نستطيع أن نجمل القول في طرق المفسرين بعد العصر الأول فنقول: بعد عصر الأولين الذين ألفوا في التفسير بالمأثور، والتزموا ذكر السند بجملته، جاء قوم صنفوا في التفسير، واختصروا الأسانيد، ولم ينسبوا الأقوال لقائليها، والتبس بذلك الصحيح وغيره، وصار الناظر في تلك الكتب يظنها كلها صحيحة، بينما هي مفعمة بالقصص وبالإسرائيليات على وجه لا تمييز فيه كأنها كلها حقائق، ومن هنا استهدفت رواياتهم للتجريح والطعن، ولولا ما يقوم به المحققون في كل عصر من إحقاق الحق ودحض الباطل؛ لا نطمست المعالم، واختلط الحابل بالنابل، ولكان ذلك مثار مطاعن توجه بلا حساب إلى الإسلام والمسلمين. فقد ذكروا في قصص الأنبياء، وفي بدء الخليقة، والزلازل، ويأجوج ومأجوج،

وبرودة الماء الذي في الآبار زمن الصيف، وحرارته في الشتاء، ذكروا في ذلك كله ما يندى له الجبين خجلا، وما لا يتفق والحقائق العلمية أبدا، ويا ليتهم نبهوا على وضعه! لو أنهم فعلوا لكان الأمر هينا، لكنهم لم يذكروا السند، كما ذكر الأولون ليستطيع المطلع عليه نقده بالرجوع إلى كتب الجرح والتعديل، ثم لم يكلفوا أنفسهم الحكم على السند بعد محاكمته إلى كتب التعديل والتجريح (وتلك ثالثة الأثافي). وقد عني بعض المفسرين بأن يسرد شتاب الأقوال، حتى إنه ذكر في تفسير قوله سبحانه: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ نحو عشرة أقوال، مع أن الوارد الصحيح تفسير المغضوب عليهم باليهود، وتفسير الضالين بالنصارى، لكن الولوع بكثرة النقول نأى بهم عن الاقتصار على التفسير المقبول. وكذلك نلاحظ أن كل بارع في فن يقتصر غالبا في تفسيره على الفن الذي برع فيه، فالمبرز في العلوم العقلية كالفخر الرازي، أغرم باستعراض أقوال الحكماء والفلاسفة وشبههم والرد عليها في تفسيره، والمبرز في الفقه كالقرطبي أولع بتقرير الأدلة للفروع الفقهية وأقوال الفقهاء فيها، والمبرز في النحو كالزجّاج والواحدي في البسيط وأبي حيان في البحر، يهتم أعظم الاهتمام بالإعراب ووجوهه، ونقل قواعد النحو وفروعها، وأصحاب المذاهب المتطرفة والنّحل الضالة يقصدون إلى تأويل الآيات على ما يروج مذاهبهم في التطرف والضلال. والأخباريون يعنيهم أن يستقصوا القصص والأخبار عمن سلف، صحيحة كانت أو باطلة. والإشاريون وأرباب التصوف تهمهم ناحية الترغيب والترهيب والزهد والقناعة والرضا، فيفسرون القرآن بما يوافق مشاربهم وأذواقهم، وعلى الإجمال نرى كل نابغة في فن، أو داعية إلى مذهب أو فكرة، يجتهد في تفسير الآيات بما يوافق فنه، ويلائم مشربه، ويناصر مذهبه، ولو كان بعيدا كل البعد عن المقصد الذي نزل من أجله القرآن. ولقد غالى بعضهم فجعل القرآن مشتملا على العلوم الكونية، كالطبيعة، والكيمياء، والحساب، والجبر، وما إلى ذلك، وشغل نفسه والناس معه بهذه الأمور التي لم ينزل القرآن من أجلها وإن جاءت صراحة أو إشارة في ثنايا البراهين القرآنية على القضايا الأساسية التي أنزل القرآن من أجلها، وقد مر ذكرها في أول الكتاب. والخلاصة هنا: أنه يجب على المفسر ملاحظة أن القرآن كتاب هداية وإعجاز، وأن يجعل هدفه الأعلى، ومقصده الأسمى، إظهار هدايات الله من كلامه، وبيان وجوه إعجازه في كتابه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ

التفسير المحمود والتفسير المذموم:

لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأنفال آية: 42]. التفسير المحمود والتفسير المذموم: تفسير الصحابة والتابعين، وتفسير الذين اعتمدوا على أقوال الصحابة والتابعين بالأسانيد الصحيحة، وتفسير أهل الرأي الموفق الذين جمعوا بين المأثور الصحيح مع حذف أسانيده وبين آرائهم العلمية المعتدلة، كل هذه الثلاثة من التفسير المحمود، ويغلب هذا النوع الثالث في عصرنا الحاضر؛ إذ تجمع التفاسير لدينا بين معان مأثورة، ومعان توسعوا في ذكرها عن طريق الرأي والاجتهاد المعتمد على العلم والاعتدال. وهناك نوع رابع، هو تفسير أهل الأهواء والبدع وحكمه أنه مذموم قالوا: وأشهر الغارقين في هذا الضلال: الرماني، والجبائي، والقاضي عبد الجبار، ثم اختلفوا في الزمخشري، فمنهم من عدّ تفسيره من هذا النوع لما فيه من مناحي الاعتزال، ومنهم من قال: إن فيه فوائد مهمة، يريد بذلك أن يلتمس له المعاذير وأن يغلب جانب الفوائد التي فيه على جانب الاعتزال الذي يحتويه، ولكن عدالة الأحكام تقضي بأن نسوي بين جميع التفاسير وأن نحاكمها إلى مبدأ واحد، فما وافق منها وجه الصواب، وكان بمنأى عن البدع والأهواء؛ فهو محمود، وما تورط منها في الخطأ وتخبط في الهوى والبدعة؛ فهو مذموم، لا فرق في ذلك بين الزمخشري وغير الزمخشري، ولا بين معتزلي وغير معتزلي. ميزان المدح والذم: ثم إن هناك ميزانا لما يحمد من التفسير وما يذم، وهو الفيصل الذي يجب أن نحكمه ونزن كل تفسير به، فما رجح في هذا الميزان قلبناه وحمدناه، وما طاش رفضناه وذممناه، والمدح والذم درجات بعضها فوق بعض، على حسب استيفاء التفسير لوجوه المدح والذم أو نقصها قليلا أو كثيرا، وسنضع هذا الميزان بين يديك تحت عنوان «منهج المفسرين بالرأي». غير أنا نسترعي نظرك هنا إلى كلمة أهل البدع والأهواء، ونريد أن تكون موفّقا في حكمك على أية طائفة أو أي شخص ببدعة أو هوى، وإلا خيف عليك أن تكون أنت صاحب البدعة والهوى في حكمك: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ [سورة ص آية: 26]. غلطة التعصب للرأي: واعلم أن هناك أفرادا- بل أقواما- تعصبوا لآرائهم ومذاهبهم، وزعموا أن من خالف هذه الآراء والمذاهب كان مبتدعا متبعا لهواه، ولو كان متأولا تأويلا سائغا يتسع

له الدليل والبرهان، كأن رأيهم ومذهبهم هو المقياس والميزان، أو كأنه الكتاب والسنة والإسلام، وهكذا استزلهم الشيطان وأعماهم الغرور. ولقد نجم عن هذه الغلطة الشنيعة أن تفرق كثير من المسلمين شيعا وأحزابا، وكانوا حربا على بعضهم وأعداء، وغاب عنهم أن الكتاب والسنة والإسلام أوسع من مذاهبهم وآرائهم، وأن مذاهبهم وآراءهم أضيق من الكتاب والسنة والإسلام، وأن في ميدان الحنيفية السمحة متسعا لحرية الأفكار، واختلاف الأنظار، مادام الجميع معتصما بحبل الله. ثم غاب عنهم أن الله تعالى يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [سورة آل عمران آية: 103]. ويقول جل ذكره: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [سورة الأنعام آية: 159]. ويقول تقدست أسماؤه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [سورة آل عمران آية: 105، 106]. لمثل هذا أربأ بنفسي وبك أن تتهم مسلما بالكفر أو البدعة والهوى لمجرد أنه خالفنا في رأي إسلامي نظري، فإن الترامي بالكفر والبدعة من أشنع الأمور. ولقد قرر علماؤنا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجها ثم احتملت الإيمان من وجه واحد، حملت على أحسن المحامل وهو الإيمان، وهذا موضوع مفروغ منه ومن التدليل عليه، لكن يفت في عضدنا غفلة كثير من إخواننا المسلمين عن هذا الأدب الإسلامي العظيم، الذي يحفظ الوحدة، ويحمي الأخوة، ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ووجهه الجميل من السماحة واليسر، واتساعه لجميع الاختلافات الفكرية والمنازع المذهبية، والمصالح البشرية، مادامت معتصمة بالكتاب والسنة على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد والتأويل الرشيد. ولقد حدث مثل هذا الاختلاف على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أصحابه، فما تنازعوا من أجله، بل أخذ كل برأيه وهو يحترم الآخر ورأيه، وأقرهم الرسول صلّى الله عليه وسلم على ذلك، ولم يعب أحدا منهم، على رغم أنه ترتب على بعض هذه الاختلافات أن ترك بعضهم الصلاة في وقتها اجتهادا منه، إذ قال الرسول صلّى الله عليه وسلم لفئة من أصحابه: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة» فسافروا وجدّوا، ولكن الغزالة تدلت للغروب وهم لا يزالون ضاربين في الأرض، ولمّا يصلّوا. هنالك اجتهدوا، فمنهم من وقف عند ظاهر النص

التفسير بالرأي وبيان ما يجوز منه وما لا يجوز

فترك العصر حتى خرج وقته مادام لم يصل إلى بني قريظة، ومنهم من تأول النص وحمله على الكناية في الإسراع فصلّى حين خاف فوات الوقت من قبل أن يصل إلى بني قريظة. نقول: إن مثل هذا الخلاف حدث على عهد صاحب الرسالة وأقره، تيسيرا على المسلمين وإعلاما بأن الإسلام دين الكافة، يسع جميع البشر في كل العصور والأحوال، وشهد المسلمون بعد ذلك عصرا سعيدا كان أئمة الدين فيه يختلفون فيما بينهم كثيرا، ولكنهم كانوا بجانب هذا يتكارمون ويتعاونون ويتراحمون كثيرا. وإن كنت في شك فاسأل التاريخ عن إكرام مالك للشافعي، واحترام الشافعي لأحمد بن حنبل، حتى ورد أنه كان يتبرك بغسالة قميصه، أي يتبرك الأستاذ الإمام بغسالة قميص تلميذه المخالف له في الرأي والاجتهاد! ثم سل التاريخ عن معاونة صاحب أبي حنيفة للشافعي، ودفعه إليه كتبه في كرم وحسن ضيافة وصدق محبة! ولا تنس إباء مالك على الخليفة العباسي أن يحمل الناس في بلاد الإسلام كلها على موطئه ومذهبه، ويعتذر إليه بأن الإسلام أوسع من موطئه ومذهبه، وأن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد ولكلّ وجهة. أرأيت هذا النبل والطهر؟ .. أجل .. أجل!! ولكنك يضيق بك الأسف حين ترى بجانبه فئات من المسلمين أيضا تراشقوا بالكفر، وتراموا بالشرك، وتقاذفوا بالتبدّع والهوى لمجرد تأويل يستسيغه النظر، ويتسع له صدر الاستدلال. ثم اتسع الخرق على الراقع في بعض الظروف حتى دارت معارك طاحنة بين صفوف كلها مسلمة، وأريقت دماء ذكية كلها إسلامية! ولا نزال نشهد من مثل هذا الصراع القائم على التنطع مشاهد ما كان أغنانا عنها، وما كان أحرانا بالحذر منها، خصوصا بعد ما سمعنا من الآيات، وبعد أن أقر الرسول صلّى الله عليه وسلم أمثال هذه الخلافيات وبعد أن قال في حديث واحد ثلاث مرات: «هلك المتنطعون» وهي كلمة صغيرة ولكنها كبيرة، تحذر وتنذر، وتمثل الهلاك جاثما بالتنطع بأشكاله وألوانه، في الأنفس والأعراض والأموال، وفي الجماعات والأفراد على سواء. التفسير بالرأي وبيان ما يجوز منه وما لا يجوز المراد بالرأي هنا الاجتهاد، فإن كان الاجتهاد موفقا؛ أي مستندا إلى ما يجب الاستناد إليه بعيدا عن الجهالة والضلالة، فالتفسير به محمود، وإلا فمذموم، والأمور التي يجب استناد الرأي إليها في التفسير نقلها السيوطي في الإتقان عن الزركشي فقال ما ملخصه:

للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة (يستمد منها تفسيره) أمهاتها أربعة: الأولى: النقل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع التحرز عن الضعيف والموضوع. الثانية: الأخذ بقول الصحابي، فقد قيل: إنه في حكم المرفوع مطلقا، وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه. الثالثة: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب. الرابعة: الأخذ بما يقتضيه الكلام وتدل عليه الأصول الشرعية، وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي صلّى الله عليه وسلم لابن عباس في قوله: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل». فمن فسر القرآن برأيه- أي باجتهاده- ملتزما الوقوف عند هذه الأصول معتمدا عليها فيما يرى من معاني كتاب الله؛ كان تفسيره سائغا جائزا خليقا بأن يسمى التفسير الجائز أو التفسير المحمود، ومن حاد عن هذه الأصول وفسرا القرآن غير معتمد عليها؛ كان تفسيره ساقطا مرذولا خليقا بأن يسمّى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم. فالتفسير بالرأي الجائز: يجب أن يلاحظ فيه الاعتماد على ما نقل عن الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مما ينير السبيل للمفسر برأيه، وأن يكون صاحبه عارفا بقوانين اللغة خبيرا بأساليبها، وأن يكون بصيرا بقانون الشريعة حتى ينزل كلام الله على المعروف من تشريعه. أما الأمور التي يجب البعد عنها في التفسير بالرأي فمن أهمها: التهجم على تبيين مراد الله من كلامه على جهالة بقوانين اللغة أو الشريعة. ومنها: حمل كلام الله على المذاهب الفاسدة. ومنها: الخوض فيما استأثر الله بعلمه، ومنها: القطع بأن مراد الله كذا من غير دليل، ومنها: السير مع الهوى والاستحسان. ويمكن تلخيص هذه الأمور الخمسة في كلمتين هما: الجهالة، والهوى. وينبغي أن يعلم أن في القرآن علوما ثلاثة: الأول: علم لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه، بل استأثر به وحده؛ كمعرفة حقيقة ذاته وصفاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو، وهذا النوع لا يجوز الكلام فيه لأحد إجماعا. الثاني: ما أطلع الله عليه نبيه صلّى الله عليه وسلم واختص به، وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له عليه الصلاة والسلام ولمن أذن له الرسول، قيل: ومنه أوائل السور. الثالث: العلوم التي علمها الله لنبيه مما أمر بتبليغه، وهذا النوع قسمان:

العلوم التي يحتاجها المفسر

قسم لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع، كالكلام في الناسخ والمنسوخ، والقراءات، وقصص الأمم الماضية، وأسباب النزول، وأخبار الحشر والنشر والمعاد. وقسم يعرف بطريق النظر والاستدلال، وهذا منه المختلف في جوازه، وهو ما يتعلق بالآيات المتشابهات، ومنه المتفق على جوازه، وهو ما يتعلق بآيات الأحكام والمواعظ والأمثال والحكم ونحوها لمن له أهلية الاجتهاد. العلوم التي يحتاجها المفسر وقد بيّن العلماء أنواع العلوم التي يجب توافرها في المفسر فقالوا: هي اللغة، والنحو والصرف، وعلوم البلاغة، وعلم أصول الفقه، وعلم التوحيد، ومعرفة أسباب النزول، والقصص، والناسخ والمنسوخ، والأحاديث المبينة للمجمل والمبهم، وعلم الموهبة، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، ولا يناله من في قلبه بدعة، أو كبر، أو حب دنيا، أو ميل إلى المعاصي، قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة الأعراف آية: 146]. وقال الإمام الشافعي: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي ملاحظة: هذه الشروط التي ذكرناها، وهذه العلوم كلها، إنما هي لتحقيق أعلى مراتب التفسير مع إضافة تلك الاعتبارات المهمة المسطورة في الكلمات القيمة الآتية أما المعاني العامة التي يستشعر منها المرء عظمة مولاه، والتي يفهمها الإنسان عند إطلاق اللفظ الكريم؛ فهي قدر يكاد يكون مشتركا بين عامة الناس وهو المأمور به للتدبر والتذكر؛ لأنه سبحانه سهّله ويسّره وذلك أدنى مراتب التفسير. أهم كتب التفسير بالرأي قد علم مما سبق أن التفسير بالرأي منه الممدوح الجائز، ومنه المذموم غير الجائز. وهاك بيانا بأشهر من ألّف في القسم الأول من أهل السنة ومؤلفاتهم: 1 - الإمامان الجليلان: جلال الدين محمد المحلي، وجلال الدين عبد الرحمن

تفسير الجلالين:

السيوطي، وهما صاحبا التفسير المعروف بتفسير «الجلالين». 2 - الإمام البيضاوي ناصر الدين بن سعيد صاحب التفسير المسمى «أنوار التنزيل وأسرار التأويل». 3 - الإمام فخر الدين الرازي محمد ابن العلامة ضياء الدين عمر المشهور بخطيب الرّيّ صاحب التفسير المسمى «مفاتيح الغيب». 4 - أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى الطحاوي صاحب التفسير المسمى «إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم». 5 - العلامة شهاب الدين الألوسي صاحب التفسير المسمى «روح المعاني». 6 - نظام الدين الحسن محمد النيسابوري صاحب التفسير المسمى: «غرائب القرآن ورغائب الفرقان». 7 - العلامة الشيخ محمد الشربيني الخطيب صاحب التفسير المسمى «السراج المنير في الإعانة على معرفة كلام ربنا الخبير». 8 - أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي صاحب التفسير المسمى «مدارك التنزيل وحقائق التأويل». 9 - علاء الدين عليّ بن محمد بن إبراهيم البغدادي صاحب التفسير المعروف «تفسير الخازن». تفسير الجلالين: أما تفسير الجلالين: فكتاب قيم، سهل المأخذ إلى حد ما، مختصر العبارة كثيرا، يكاد يكون أكثر التفاسير انتشارا ونفعا، وإن كان أصغرها أو من أصغرها شرحا وحجما، تداولته طبقات مختلفة من أهل العلم وغيرهم، وطبع طبعات كثيرة متنوعة، طبع مرة واحدة مجردا، وأخرى بحاشية المصحف، وثالثة مع حاشية الصاوي، ورابعة مع حاشية الجمل، وأوسع حواشيه حاشية الجمل، والعجيب أن كثيرا من فطاحل العلماء كانوا يختارونه لأعلى دراسة عرفت في التفسير كمادة أساسية يدورون حولها، ويستلهمون وحيها، حتى إن دروس التفسير الشهيرة للعلامة المرحوم الشيخ محمد عبده كانت مادته فيها تفسير الجلالين على ما سمعت.

تفسير البيضاوي:

تفسير البيضاوي: وأما تفسير البيضاوي: فهو كتاب جليل دقيق جمع بين التفسير والتأويل على قانون اللغة العربية، وقرر الأدلة على أصول أهل السنة، وقد التزم أن يختم كل سورة بما يروى في فضلها من الأحاديث، غير أنه لم يتحرّ فيها الصحيح، وأحسن حواشيه المتداولة حاشية الشهاب الخفاجي، وإن كان له حواش أخرى كثيرة، ومنها حاشية سعد أفندي، وحاشية الروشني، وحاشية الششتري وغيرها. تفسير الفخر الرازي: وسيأتي الكلام عليه تحت عنوان «تفاسير أهل الكلام». تفسير أبي السعود: تفسير رائع ممتاز يستهويك حسن تعبيره، ويروقك سلامة تفكيره، ويروعك ما أخذ نفسه به من تجلية بلاغة القرآن، والعناية بهذه الناحية المهمة في بيان إعجازه مع سلامة في الذوق، وتوفيق في التطبيق، ومحافظة على عقائد أهل السنة، وبعد عن الحشو والتطويل. تفسير النيسابوري: يمتاز بسهولة عباراته، وبتحقيق ما يحتاج إلى تحقيق، مع قصد وخلو من الحشو، وقد عنى بأمرين يلتزمهما: الكلام على القراءات والأوقف في أول كل مرحلة من مراحل التفسير، والكلام على التأويل الإشاري في آخر كل مرحلة من تلك المراحل، وهو مطبوع طبعة شهيرة على هامش تفسير ابن جرير، وهو مختصر لتفسير الفخر الرازي مع تهذيب كبير. تفسير الألوسي: وسيأتي الكلام عليه عند التفسير الإشاري. تفسير النسفي: كتاب جليل متداول مشهور، سهل ودقيق، قال فيه صاحب كشف الظنون: هو كتاب وسط في التأويلات، جامع لوجوه الإعراب والقراءات، متضمن لدقائق علم البديع والإشارات، ومرشح لأقاويل أهل السنة والجماعة، خال من أباطيل أهل البدع والضلالة، ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل. اه.

تفسير الخطيب:

تفسير الخطيب: كتاب عظيم يعنى بثلاثة أشياء: تقرير الأدلة وتوجيهها، والكلام على المناسبات بين السور والآيات، وسرد كثير من القصص والروايات. تفسير الخازن: تفسير مشهور، يعني بالمأثور، بيد أنه لا يذكر السند، وله ولوع بالتوسع في الروايات والقصص، ومن مزاياه أنه يتبع القصة ببيان ما فيها من باطل؛ حتى لا ينخدع بها غرّ، ولا يفتن بها جاهل. تفاسير الفرق المختلفة وذلك كالتفسير الإشاري وتفاسير أهل الكلام، وأشهر الكتب في ذلك. وقد منيت الأمة بأن تفترق أكثر من سبعين فرقة، وأن يلبسها الله شيعا ويذيق بعضها بأس بعض، وإن كانت لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وقد تناولت كل طائفة كتاب الله تفسره بما ارتضته لنفسها من اعتدال أو تطرف، فظهرت مجموعة التفاسير كالمرايا المجلوّة تنطبع فيها صور المفسرين لها على اختلاف مشاربهم، وتباين منازعهم، ولا غرو، فكل إناء بما فيه ينضح، وكل يغني على ليلاه. ومن هنا تجد تفاسير أهل السنة تظهر فيها عقيدة أهل السنة، وتفاسير المعتزلة تظهر فيها عقيدة الاعتزال، والشيعة تظهر في تفاسيرهم عقيدة التشيع، وهلم .. وهلم. وقد تكلمنا تحت العنوان السابق على نماذج من تفاسير أهل السنة، فلنتكلم هنا على نماذج من تفاسير الفرق المختلفة. تفاسير المعتزلة ونختار منها كتاب الكشاف للزمخشري: وصاحبه هو محمود بن عمر بن محمد ابن عمر النحوي اللغوي المعتزلي الملقب بجار الله، ولد سنة (467 هـ)، وتوفي سنة (538 هـ)، بعد أن برع في اللغة والأدب والنحو، ومعرفة أنساب العرب حتى فاق أقرانه، ثم تظاهر بالاعتزال ودعا إليه. وكتابه خير كتاب أو من خير الكتب التي يرجع إليها في التفسير من ناحية البلاغة،

تفاسير الباطنية

رغم نزعته الاعتزالية، وأغلب التفاسير من بعده أخذت منه واعتمدت عليه. ويمتاز الكشاف بأمور: منها: خلوه من الحشو والتطويل. ومنها: سلامته من القصص والإسرائيليات. ومنها: اعتماده في بيان المعاني على لغة العرب وأساليبهم. ومنها: عنايته بعلمي المعاني والبيان والنكات البلاغية، تحقيقا لوجوه الإعجاز. ومنها: سلوكه فيما يقصد إيضاحه طريق السؤال والجواب كثيرا، ويعنون السؤال بكلمة «إن قلت» بفتح التاء، ويعنون الجواب بكلمة «قلت» بضم التاء. وللكشاف حواش كثيرة منها: حاشية ابن كمال باشازاده، وحاشية علاء الدين المعروف بالبهلوان، وحاشية الشيخ حيدر، وحاشية الرهاوي. تفاسير الباطنية الباطنية قوم رفضوا الأخذ بظاهر القرآن وقالوا: للقرآن ظاهر وباطن، والمراد منه باطنه دون ظاهره، ويستدلون بقوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [سورة الحديد آية: 13]، وهم فرق متعددة على المثال الآتي: منهم القرامطة: نسبة إلى حمدان قرمط؛ وقرمط إحدى قرى واسط، وهو الذي تزعمهم فيما ذهبوا إليه. والإسماعيلية: نسبة إلى إسماعيل، أكبر أولاد جعفر الصادق؛ وذلك لأنهم كانوا يعتقدون الإمامة فيه، وقيل: إنهم سموا إسماعيلية؛ لانتسابهم إلى محمد بن إسماعيل. والسبعية: نسبة إلى عدد السبعة، وذلك لأنهم يعتقدون أن في كل سبعة إماما يقتدى به. ومذهب الباطنية على عمومه وباء انتقل إليهم بطريق العدوى من المجوس. ومن تأويلاتهم الفاسدة في القرآن أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [سورة النمل آية: 16]، أن الإمام عليّا ورث النبي في عمله. ويقولون: معنى الجنابة أنها مبادرة المستجيب بإفشاء السر قبل أن ينال رتبة الاستحقاق. ومعنى الغسل: تجديد العهد على من فعل ذلك. ومعنى الطهارة: التبري من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام.

تفاسير الشيعة

ومعنى التيمم: الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي الإمام. ومعنى الصيام: الإمساك عن كشف السر. ويقولون: إن «الكعبة» هي النبي صلّى الله عليه وسلم، و (الباب) عليّ و (الصفا) هو النبي صلّى الله عليه وسلم، و (المروة) عليّ، و (نار إبراهيم) هي غضب النمرود عليه، و (عصا موسى) هي حجته إلى غير ذلك من الخرافات التي لا يقبلها عقل ولا يؤيدها نقل. وهذه التأويلات الفاسدة من أشد وأنكى ما يصاب به الإسلام والمسلمون؛ لأنها تؤدي إلى نقض بناء الشريعة حجرا حجرا وإلى الخروج من ربقة الإسلام وحل عراه عروة عروة. تفاسير الشيعة الشيعة: طائفة كبيرة بالغت في حبها للإمام عليّ وتقديرها إياه، والمبالغة والإسراف في شأنه إلى حد أوقعهم في الرذائل. يقول علماء الأخلاق: الفضيلة وسط بين رذيلتين، ويقولون: إذا خرج الشيء عن حده عاد إلى ضده. ولذا أمر الإسلام بالاعتدال حتى في حب النبي صلّى الله عليه وسلم وتقديره. يقول الله تعالى لنبيه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة الأعراف آية: 188]. ويقول النبي صلّى الله عليه وسلم لأمته: «لا تطروني (تمدحوني) كما أطرت النصارى ابن مريم، ولكن قولوا عبد الله ورسوله». ولكن الشيعة بالغوا وأسرفوا في حب الإمام وتقديره، وهم فرق كثيرة. فمنهم من أغرق في نفس التشيع حتى كفر، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن سبأ اليهودي عدو الله الذي ما أظهر الإسلام إلا بقصد الكيد له والإفساد فيه، ولهذا كانت تلك الفرقة في موقف خصومة وحرب من المسلمين، حتى ورد أن الإمام عليّا نفسه شن الغارة عليهم وحاربهم وطاردهم. ومنهم قوم معتدلون لم يسقطوا في هاوية الكفر، وإن خالفوا أهل السنة والجماعة في تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان، وتقديمهم على الإمام عليّ في الخلافة- رضي الله عنهم أجمعين- ولهؤلاء مذاهب ودراسات وكتب وتفسيرات، وأدلة وتأويلات.

التفسير الإشاري:

ومن تفاسير الشيعة كتاب يسمّى «مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار» مؤلفه يدعى المولى عبد اللطيف الكازلاني من النجف، وهذا التفسير مشتمل على تأويلات تشبه تأويلات الباطنية السابقة، فالأرض يفسرها بالدين، وبالأئمة عليهم السلام، وبالشيعة، وبالقلوب التي هي محل العلم وقراره، وبأخبار الأمم الماضية ... إلخ، فيقول في قوله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [سورة النساء آية: 97] المراد دين الله وكتاب الله. ويقول في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [سورة الحج آية: 46]. المراد: أولم ينظروا في القرآن. فأنت ترى أنه قد حمل اللفظ الذي لا يجهله أحد على معان غريبة من غير دليل، وما حمله على ذلك إلا مركب الهوى، والتعصب الأعمى لمذهبه. وذلك لا شك ضلال لا يقل عن ضلال الباطنية والبهائية: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [سورة الزمر آية: 23]. التفسير الإشاري: وهو تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد أيضا. وقد اختلف العلماء في التفسير المذكور، فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، وإليك شيئا من أقوال العلماء لتعرف وجه الحق في ذلك. قال الزركشي في البرهان: كلام الصوفية في تفسير القرآن قيل: إنه ليس بتفسير، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة، كقول بعضهم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [سورة التوبة آية: 123] أن المراد: النفس، يريدون أن علة الأمر بقتال من يلينا هي القرب، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه. وقال ابن الصلاح في فتاويه: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق في التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر. قال ابن الصلاح: وأنا أقول: الظن بمن يوثق به منه إذا قال شيئا من ذلك أنه لم يذكره تفسيرا، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة؛ فإنه لو كان كذلك لكانوا قد سلكوا مسلك الباطنية؛ وإنما ذلك منهم تنظير لما ورد به القرآن. فإن النظير يذكر بالنظير، ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإبهام والالتباس. وقال النسفي في عقائده: النصوص على ظواهرها، والعدول عنها إلى معان يدعيها

أهم كتب التفسير الإشاري:

أهل الباطل إلحاد. اه. قال التفتازاني في شرحه: سمّيت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها، بل لها معان لا يعرفها إلا المعلم. وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية. قال: وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة؛ فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان. ومن هنا يعلم الفرق بين تفسير الصوفية المسمى بالتفسير الإشاري، وبين تفسير الباطنية الملاحدة؛ فالصوفية لا يمنعون إرادة الظاهر؛ بل يحضون عليه ويقولون: لا بد منه أولا؛ إذ من ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم الظاهر، كمن ادعى بلوغ سطح البيت قبل أن يجاوز الباب. أما الباطنية فإنهم يقولون: إن الظاهر غير مراد أصلا، وإنما المراد الباطن. وقصدهم نفي الشريعة. أهم كتب التفسير الإشاري: وأهم كتب التفسير الإشاري أربعة: تفسير النيسابوري، وتفسير الألوسي وتفسير التستري، وتفسير محيي الدين بن عربي. 1 - أما تفسير النيسابوري: فقد تقدم الكلام عليه، وبقي أن نذكر لك عنه أنه بعد أن يوفي الكلام على ظاهر معنى الآية أو الآيات يقول: قال أهل الإشارة. أو يقول: «التأويل» ثم يسوق المعنى الإشاري لتلك الآية أو الآيات تحت هذا العنوان. مثال ذلك: أنه قال بعد التفسير الظاهر لقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة آية: 67] قال ما نصه: التأويل: ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني، وهو الجهاد الأكبر. «موتوا قبل أن تموتوا». 2 - وأما تفسير الألوسي: فاسمه «روح المعاني». ومؤلفه العلامة المحقق شهاب الدين السيد محمد الألوسي البغدادي مفتي بغداد المتوفى سنة (1270 م) وهذا التفسير من أجلّ التفاسير وأوسعها وأجمعها. نظم فيه روايات السلف بجانب آراء الخلف المقبولة. وألف فيه بين ما يفهم بطريق العبارة. وما يفهم بطريق الإشارة، رحمه الله وتجاوز عنه. ومما قاله في التفسير الإشاري بعد أن فسر قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [سورة البقرة آية: 55] إلخ الآيات

نصيحة خالصة:

بعدها قال ما نصه: ومن مقام الإشارة في الآيات. وإذا قلتم: يا موسى القلب، لن نؤمن الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان. فأخذتكم صاعقة الموت الذي هو الفناء في التجلي الذاتي، وأنتم تراقبون أو تشاهدون. ثم بعثناكم بالحياة الحقيقة، والبقاء بعد الفناء، لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عزّ وجلّ، وظللنا عليكم غمام تجلي الصفات، لكونها حجبت شمس الذات إلخ ما قال. 3 - تفسير التستري: هو أبو محمد سهل بن عبد الله التستري المتوفى سنة (383 هـ) وتفسيره هذا لم يستوعب كل الآيات، وإن استوعب السور، وقد سلك فيه مسلك الصوفية مع موافقته لأهل الظاهر. وإليك نموذجا منه؛ إذ يقول في تفسير البسملة ما نصه: (الباء) بهاء الله عزّ وجلّ (السين) سناء الله عزّ وجل (الميم) مجد الله عزّ وجل (والله) هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها ... إلخ. نصيحة خالصة: بيد أن هذا التفسير كما ترى جاء كله على هذا النمط دون أن يتعرض لبيان المعاني الوضعية للنصوص القرآنية. وهنا الخطر كل الخطر؛ فإنه يخاف على مطالعه أن يفهم أن هذه المعاني الإشارية هي مراد الخالق إلى خلقه في الهداية إلى تعاليم الإسلام، والإرشاد إلى حقائق هذا الدين الذي ارتضاه لهم. ولعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر، فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة بل الإسلام كله ما هو إلا سوانح وواردات، على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات، وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح، فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة. ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم. والأدهى من ذلك: أنهم يتخيلون ويخيّلون إلى الناس أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية واتصلوا بالله اتصالا أسقط عنهم التكليف، وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب، ما داموا في زعمهم مع رب الأرباب، وهذا- لعمر الله- هو المصاب العظيم، الذي عمل له الباطنية وأضرابهم من أعداء الإسلام، كيما يهدموا التشريع من أصوله، ويأتوا بنيانه من قواعده: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ

وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [سورة التوبة آية: 32]. فواجب النصح لإخواننا المسلمين يقتضينا أن نحذّرهم الوقوع في هذه الشباك، ونشير عليهم أن ينفضوا أيديهم من أمثال تلك التفاسير الإشارية الملتوية، ولا يعولوا على أشباهها مما ورد في كلام القوم بالكتب الصوفية؛ لأنها كلها أذواق ومواجيد خارجة عن حدود الضبط والتقييد. وكثيرا ما يختلط فيها الخيال بالحقيقة والحق بالباطل، وإذ تجردت من ذلك فقلما يظهر منها مراد القائل، وإذا ظهر فقد يكون من الكفريات الفاحشة، التي نستبعد صدورها من العلماء والمتصوفة، بل من صادقي عامة المسلمين، والتي نرى أن الطعن فيها بالدس والوضع أقرب وأسلم من الطعن فيمن عزيت إليه بالكفر والفسق. إن أسوأ ما في هذه الكتب: أنها توهم الضعفاء في فهم الشريعة والجاهلين بها أن ما فيها هو الحقيقة التي وصلت إليها قلوب العابدين أو المفتونين، والحقيقة أن هذه العلوم طمس للحقيقة التي أنزلها الله تعالى وبينها وشرحها رسوله صلّى الله عليه وسلم، وما هذه الشطحات إلا نوع من الخبل يراد منه صرف الناس عن الحقائق الإلهية التي جاءت في الكتاب والسنة؛ فأحيت أمة، وأقامت للإسلام دولة، وأعزت شعوبا كانت مغمورة، وحررت إنسانية كانت مستعبدة لشياطين الإنس والجن، وشادت للإنسانية صروحا من العلوم والفنون؛ قامت على أصول ربانية، وأعمدة نورانية، تحت مظلة من السعادة والسيادة التي لم ير العالم مثيلا لها. اه. فالأحرى بالفطن العاقل، أن ينأى بنفسه عن هذه المزالق، وأن يفر بدينه من هذه الشبهات، وأمامه في الكتاب والسنة وشروحهما على قوانين الشريعة واللغة رياض وجنات أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة آية: 61]؟! قال صلّى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه». وقال صلّى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». وبالله تعالى توفيقي وتوفيقك. نسأل الله تعالى أن يخرجنا من ظلمات الأوهام، وأن يحققنا بحقائق الدين وتعاليم الإسلام آمين. اه «1».

_ (1) من المناهل بتصرف قليل.

علوم الحديث

علوم الحديث أهمية علوم الحديث إن المسلمين اشتدت عنايتهم- من عهد الصدر الأول- بحفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة، بما لم تعن به أمة قبلها، فحفظوا القرآن، ورووه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم متواترا آية آية، وكلمة كلمة، وحرفا حرفا، حفظا في الصدور، وإثباتا بالكتابة في المصاحف، حتى رووا أوجه نقطه بلهجات القبائل، ورووا طرق رسمه في المصحف، وألفوا في ذلك كتبا مطولة وافية، وحفظوا- أيضا- عن نبيهم كل أقواله، وأفعاله، وأحواله، وهو المبلّغ عن ربه، والمبيّن لشرعه، والمأمور بإقامة دينه، وكل أقواله وأفعاله وأحواله بيان للقرآن، وهو الرسول المعصوم، والأسوة الحسنة الذي قال الله تعالى في صفته: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [سورة النجم آية: 3، 4]. وقال له: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل آية: 44]. وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنهته قريش، فذكر ذلك للرسول صلّى الله عليه وسلم فقال: «اكتب، فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق». [رواه أحمد في المسند بإسناد صحيح. ورواه أيضا أبو داود، والحاكم وغيرهما]. وأمر صلّى الله عليه وسلم المسلمين في حجة الوداع بالتبليغ عنه أمرا عامّا، فقال: «وليبلّغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلّغ من هو أوعى له منه» [رواه البخاري وغيره]. وقال صلّى الله عليه وسلم: «فليبلّغ الشاهد الغائب، فربّ مبلّغ أوعى من سامع» [رواه البخاري وغيره]. ففهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن يحفظوا عن رسولهم كل شيء، وقد فعلوا، وأدّوا الأمانة على وجهها، ورووا الأحاديث عنه صلّى الله عليه وسلم، واجتهد علماء الحديث في رواية كل ما رواه عنه الرواة، وإن لم يكن صحيحا عندهم، ثم اجتهدوا في التوثق من صحة كل حديث، وكل حرف رواه الرواة، ونقدوا أحوالهم ورواياتهم، واحتاطوا أشد الاحتياط في النقل، فكانوا يحكمون بضعف الحديث لأقل شبهة في سيرة الناقل الشخصية، مما يؤثر في العدالة، أما إذا اشتبهوا في صدقه، أو علموا أنه كذب في شيء من كلامه؛ فقد رفضوا روايته، وسموا حديثه «موضوعا» أو «مكذوبا» وإن لم يعرف عنه الكذب في رواية الحديث، مع علمهم بأنه قد يصدق الكذوب. وكذلك توثقوا من حفظ كل راو، وقارنوا رواياته بعضها ببعض، وبروايات غيره،

المصنفون في هذا العلم

فإن وجدوا منه خطأ كثيرا وحفظا غير جيد: ضعفوا روايته، وإن كان لا مطعن عليه في شخصه ولا في صدقه، خشية أن تكون روايته مما خانه فيه الحفظ. وقد حرروا القواعد التي وضعوها لقبول الحديث، وهي قواعد هذا الفن، وحققوها بأقصى ما في الوسع الإنساني، احتياطا لدينهم. فكانت قواعدهم التي ساروا عليها أصح القواعد وأعلاها وأدقها. وقلدهم فيها العلماء في أكثر الفنون النقلية، فقلدهم علماء اللغة، وعلماء الأدب، وعلماء التاريخ، وغيرهم، فاجتهدوا في رواية كل نقل في علومهم بإسناده، كما تراه في كتب المتقدمين السابقين، وطبقوا قواعد هذا العلم عند إرادة التوثق من صحة النقل في أي شيء يرجع فيه إلى النقل. فهذا العلم في الحقيقة أساس لكل العلوم النقلية، وهو جدير بما وصفه به صديقي وأخي العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة من أنه (منطق المنقول وميزان تصحيح الأخبار) اه «1». المصنفون في هذا العلم قال ابن حجر العسقلاني: وأول من صنف في ذلك القاضي أبو محمد الرامهرمزي (الحسن بن عبد الرحمن الذي (عاش إلى قريب سنة 360 هـ) في كتابه «المحدث الفاضل»، لكنه لم يستوعب، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري المتوفى سنة (405 هـ) لكنه لم يهذب ولم يرتب. وتلاه أبو نعيم الأصبهاني صاحب «حلية الأولياء» المتوفى سنة (430 هـ). وجاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي: أحمد بن علي بن ثابت صاحب تاريخ بغداد وغيره، المتوفي سنة (463 هـ) فصنف في قوانين الرواية كتابا سماه «الكفاية» وفي آدابها كتابا سماه «الجامع لآداب الشيخ والسامع». وقلّ فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابا مفردا، فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه. ثم جاء بعدهم بعض من تأخر عن الخطيب، فأخذ من هذا العلم بنصيب، فجمع القاضي عياض بن موسى اليحصبي الأندلسي المتوفى سنة (544 هـ) كتابا سماه «الإلماع» إلى أن جاء الحافظ الفقيه تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الصلاح بن عبد الرحمن الشهرزوري نزيل دمشق المتوفى سنة (643 هـ)، فجمع لمّا تولى تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية كتابه المشهور «علوم الحديث» الشهير ب «مقدمة ابن الصلاح» فهذب فنونه

_ (1) باختصار من كلام الشيخ أحمد شاكر.

ألقاب المحدثين

وأملاه شيئا بعد شيء، فلهذا لم يحصل ترتيبه على الوضع المناسب، واعتنى بتصانيف الخطيب المفرقة، فجمع شتات مقاصدها، وضم إليها من غيرها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، فلهذا عكف الناس عليه، وساروا بسيره، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك ومقتصر، ومعارض له ومنتصر» اه كلام الحافظ باختصار. فقد ظهر لك بشهادة الحافظ ابن حجر أن كتاب ابن الصلاح رحمه الله جمع شتات الكتب وعيونها، من كتب الخطيب وغيرها ممن تقدمه وتأخر. ثم جاء الإمام ابن كثير الفقيه الحافظ المفسر فاختصرها في رسالة لطيفة سماها «الباعث الحثيث على معرفة علوم الحديث» بعبارة سهلة فصيحة، وجمل مفهومة مليحة، واستدرك على ابن الصلاح استدراكات مفيدة، يبدؤها بقوله «قلت» فسهّل على طالب الفن تناوله في رسالة وسط وخير الأمور أوساطها- لم يختصرها اختصارا مضغوطا مخلّا، ولا أطالها تطويلا منتشرا مشوشا، فكانت خطوة أولى ومرحلة ابتدائية، يدرسها الطالب، فيرتقي منها إلى دراسة أصلها وما بعده من كتب الأئمة، حتى ينتهي إلى التحقيق فيدلي بدلوه مع الدّلاء. اه كلام الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة باختصار. وقد ألّف الشيخ أحمد شاكر شرحا على الباعث الحثيث جمع فيه أهم ما قاله العلماء في كل قضية احتاجت إلى زيادة في البحث أو ترجيح لرأي على آخر، أو ذكر لأسباب الاختلاف، أو إطناب لا بد منه ليتسع فهم طالب العلم، وليكون على بصيرة كافية في دراسته لعلوم الحديث بحيث لا يحتاج إلى غير هذا الكتاب إلا إذا أراد توسعا ذا تخصص، أو كان ممن لا يكتفي من العلم إلا بالإحاطة بكل ما قيل فيه على قدر طاقته. فجزى الله الجميع خير الجزاء ورحمهم رحمة واسعة. ألقاب المحدثين قال أحمد شاكر: واعلم أنه قد أطلق المحدثون ألقابا على العلماء بالحديث. فأعلاها: «أمير المؤمنين في الحديث» وهذا لقب لم يظفر به إلا الأفذاذ النوادر، الذين هم أئمة هذا الشأن، والمرجع إليهم فيه، كشعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، والبخاري، والدارقطني، وفي المتأخرين ابن حجر العسقلاني، رضي الله عنهم جميعا. ثم يليه: «الحافظ» وقد بيّن الحافظ المزي الحد الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز أن يطلق عليه الحافظ فقال: أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم

وبلدانهم: أكثر من الذين لا يعرفهم، ليكونوا الحكم للغالب». فقال له التقي السبكي: هذا عزيز في هذا الزمان، أدركت أنت أحدا كذلك؟. فقال: ما رأينا مثل الشيخ الدمياطي، ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة، ولكن أين الثّريّا من الثّرى؟! فقال السبكي: كان يصل إلى هذا الحد؟ قال: ما هو إلا أنه كان يشارك مشاركة جيدة في هذا، أعني في الأسانيد، وكان في المتون أكثر، لأجل الفقه والأصول. وقال أبو الفتح بن سيد الناس: أمّا المحدّث في عصرنا، فهو من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع رواته، واطّلع على كثير من الرواة والروايات في عصره وتميز في ذلك، حتى عرف فيه خطه، واشتهر ضبطه، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيوخ شيوخه، طبقة بعد طبقة، بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله، فهذا هو الحافظ. وسأل شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل بن حجر العسقلاني شيخه الحافظ أبا الفضل العراقي فقال: ما يقول سيدي في الحد الذي إذا بلغه الطالب في هذا الزمن استحق أن يسمى حافظا؟ وهل يتسامح بنقص بعض الأوصاف التي ذكرها المزي وأبو الفتح في ذلك، لنقص زمانه، أم لا؟ فأجاب: الاجتهاد في تلك يختلف باختلاف غلبة الظن في وقت ببلوغ بعضهم للحفظ، وغلبته في وقت آخر، وباختلاف من يكون كثير المخالطة للذي يصفه بذلك. وكلام المزي فيه ضيق، بحيث لم يسم ممن رآه بهذا الوصف إلا الدمياطي. وأما كلام أبي الفتح فهو أسهل، بأن ينشط بعد معرفة شيوخه إلى شيوخ شيوخه وما فوق. ولا شك أن جماعة من الحفاظ المتقدمين كان شيوخهم التابعين أو أتباع التابعين وشيوخ شيوخهم الصحابة أو التابعين، فكان الأمر في ذلك الزمان أسهل، باعتبار تأخر الزمان، فإن اكتفى بكون الحافظ يعرف شيوخه وشيوخ شيوخه أو طبقة أخرى؛ فهو سهل لمن جعله فيه ذلك دون غيره من حفظ المتون والأسانيد، ومعرفة أنواع علوم الحديث كلها، ومعرفة الصحيح من السقيم، والمعمول به من غيره، واختلاف العلماء، واستنباط الأحكام، فهو أمر ممكن. بخلاف ما ذكر من جميع ما ذكر؛ فإنه يحتاج إلى فراغ وطول عمر مع انتفاء الموانع. وقد روي عن الزهري أنه قال: لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة. فإن صح كان المراد رتبة الكمال في الحفظ والإتقان، وإن وجد في زمانه من يوصف بالحفظ، وكم من حافظ وغيره أحفظ منه «1». وأدنى من «الحافظ» درجة يسمى «المحدّث». قال التاج السبكي في كتابه:

_ (1) نقل ذلك كله السيوطي في التدريب (ص 7، 8).

اصطلاحات في كتب الحديث

«معيد النعم» فيما نقله في التدريب: إنما المحدث: من عرف الأسانيد والعلل، وأسماء الرجال، والعالي والنازل، وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون، وسمع الكتب الستة، ومسند أحمد بن حنبل، وسنن البيهقي، ومعجم الطبراني، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية، وهذا أول درجاته، فإذا سمع ما ذكرناه وكتب الطباق، ودار على الشيوخ، وتكلم في العلل والوفيات والأسانيد؛ كان في أول درجات المحدثين، ثم يزيد الله من يشاء ما يشاء. ودون هذين من يسمى «المسند» - بكسر النون- وهو الذي يقتصر على سماع الأحاديث وإسماعها، من غير معرفة بعلومها أو إتقان لها، وهو الرواية فقط. اصطلاحات في كتب الحديث قال العلامة الشاه عبد العزيز المحدث الدهلوي في العجالة النافعة ما نصه بالعربية: «إن كتب الحديث لها طرق متنوعة كالجوامع والمسانيد والمعاجم وغيرها». وإليك تعريفا بكل منها: الجامع: فالقسم الأول: هو الجوامع، والجامع في اصطلاح المحدثين: ما يوجد فيه جميع أقسام الحديث: أي أحاديث العقائد، وأحاديث الأحكام، وأحاديث الرقاق، وأحاديث آداب الأكل والشرب، وأحاديث السفر، والقيام والقعود، والأحاديث المتعلقة بالتفسير التاريخ والسّير، وأحاديث الفتن، وأحاديث المناقب والمثالب. وقد صنّف أهل العلم بالحديث في كل فن من هذه الفنون الثمانية تصانيف مفردة. فالجامع: ما يوجد فيه أنموذج كل فن من هذه الفنون المذكورة، كالجامع الصحيح للبخاري، والجامع الصحيح للترمذي. وأما صحيح مسلم: فإنه وإن كانت فيه أحاديث تلك الفنون؛ لكن ليس فيه ما يتعلق بفن التفسير والقراءة، ولهذا لا يقال له الجامع كما يقال لأخويه. المسند: القسم الثاني من المصنفات في الحديث: المسانيد: والمسند في اصطلاحهم: ما ذكرت فيه أحاديث الصحابة إما حسب الترتيب الهجائي لأسمائهم، وإما حسب سوابقهم الإسلامية، وإما حسب شرف النسب، فإن روعي الترتيب الهجائي لأسمائهم؛ فالأحاديث المروية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه تقدّم، وكذا أحاديث أسامة

المعجم:

ابن زيد، وأنس بن مالك، ونحوهما على أحاديث الصحابة الآخرين، وإن جمع على السوابق الإسلامية؛ فتقدم العشرة المبشرين بالجنة، وتذكر أحاديث الخلفاء الراشدين على الترتيب، ثم أحاديث أهل بدر، وأهل الحديبية، ثم مسلمة الفتح، ثم أحاديث النسوة الصحابيات، وتقدم الأزواج المطهرات على كلهن، ولم تقع رواية الحديث عن البنات الطاهرات إلا القدر اليسير من سيدة النساء؛ لأنهن متن في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وماتت سيدة النساء «فاطمة» بعده بستة أشهر ولم تجد رضي الله عنها فرصة الرواية. المعجم: القسم الثالث منها: المعاجم، والمعجم في اصطلاح المحدثين، ما تذكر فيه الأحاديث على ترتيب الشيوخ سواء اعتبر تقدم وفاة الشيخ أم توافق حروف التهجي، أو الفضيلة، أو التقدم في العلم والتقوى، ولكن الغالب هو الترتيب على حروف الهجاء، ومن هذا القسم المعاجم الثلاثة للطبراني. الجزء والرسالة الأربعون: القسم الرابع منها: الأجزاء- والجزء في اصطلاحهم، تأليف الأحاديث المروية عن رجل واحد، سواء كان ذلك الرجل في طبقة الصحابة، أو من بعدهم، كجزء حديث أبي بكر، وجزء حديث مالك، وقس عليهما. وهذا القسم- أيضا- كثير جدّا. وقد يختارون من المطالب الثمانية المذكورة في صفة الجامع مطلبا جزئيّا ويصنّفون فيه مبسوطا، كما صنف أبو بكر بن أبي الدنيا في باب «النية وذم الدنيا» كتابين مبسوطين، والآجريّ في باب «رؤية الله». وعلى هذا القياس صنّفت كتب كثيرة في جزئيات تلك المطالب الثمانية، وللحافظ ابن حجر، والحافظ السيوطي يد طولى في تأليف الرسائل، وهي القسم الخامس. والقسم السادس: الأربعون حديثا: وهو أن يجمعها في باب واحد أو أبواب شتى بسند واحد أو أسانيد متعددة، وهو أيضا كثير جدّا كما يسمع ويروى. فالحاصل: أن أقسام التصانيف في علم الحديث ترجع إلى هذه الأنواع الستة المذكورة، ويقال للرسائل الكتب أيضا. اه ملخصا. المستخرجات: ومن أنواع كتب الحديث المستخرجات.

فائدة:

قال السيوطي في التدريب: وموضوع المستخرج كما قال العراقي أن يأتي المصنف إلى الكتاب كصحيح مسلم فيخرّج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب فيجتمع معه في شيخه أو من فوقه. قال شيخ الإسلام: وشرطه أن لا يصل إلى شيخ أبعد حتى يفقد سندا يوصله إلى الأقرب لعذر من علوّ أو زيادة مهمة، قال: ولذلك يقول أبو عوانة في مستخرجه على مسلم بعد أن يسوق طرق مسلم كلها: من هنا لمخرّجه. ثم يسوق أسانيد يجتمع فيها مع مسلم فيمن فوق ذلك وربما قال: من هنا لم يخرجاه. قال: ولا يظن أنه يعني البخاري ومسلما فإني استقريت صيغة في ذلك فوجدته إنما يعني مسلما وأبا الفضل أحمد بن سلمة؛ فإنه كان قرين مسلم وصنّف مثل مسلم، وربما أسقط المستخرج أحاديث لم يجد بها سندا يرتضيه، وربما ذكرها من طريق صاحب الكتاب. اه. والمستخرجات على الصحيحين أو على أحدهما كثيرة. فالمستخرج على صحيح البخاري للإسماعيلي، وللبرقاني، ولابن أحمد الغطريفي، ولأبي عبد الله بن أبي ذهل، ولأبي بكر بن مردويه. والمستخرج على صحيح مسلم لأبي عوانه الأسفراييني، ولأبي جعفر بن حمدان، ولأبي بكر محمد بن رجاء النيسابوري، ولأبي عمران موسى بن العباس الجويني، ولأبي نصر الطوسي، ولأبي سعيد بن أبي عثمان الحيري. وغيرهم. والمستخرج على كل منهما لأبي نعيم الأصبهاني، وأبي عبد الله بن الأحزم، وأبي ذر الهروي وأبي محمد الخلال، وأبي على المأسرخسي، وأبي مسعود سليمان بن إبراهيم الأصبهاني، وأبي بكر اليزدي، وأبي بكر بن عبدان الشيرازي. فائدة: اعلم أن هذه المستخرجات لم يلتزم فيها موافقة الصحيحين في الألفاظ؛ لأنهم إنما يروون بالألفاظ التي وقعت لهم عن شيوخهم، فحصل فيها تفاوت قليل في اللفظ وفي المعنى أقل، وكذا ما رواه البيهقي في السنن والمعرفة وغيرهما، والبغوي في شرح السنة وشبههما، قائلين رواه البخاري أو مسلم، ووقع في بعضه- أيضا- تفاوت في المعنى أو في الألفاظ، فمرادهم بقولهم ذلك: أنهما إنما رويا أصل الحديث دون اللفظ الذي أورده، وحينئذ لا يجوز لك أن تنقل من الكتب المذكورة من المستخرجات وغيرها حديثا وتقول فيه: هو كذا في الصحيحين إلا أن تقابله بهما، أو يقول المصنّف: أخرجاه بلفظه،

فوائد المستخرجات على الصحيحين:

بخلاف المختصرات من الصحيحين، فإنهم نقلوا فيها ألفاظهما من غير زيادة ولا تغيير. ثم اعلم أن المستخرج لا يختص بالصحيحين؛ فقد استخرج محمد بن عبد الملك ابن أيمن على سنن أبي داود، وأبو علي الطوسي على الترمذي، وأبو نعيم على التوحيد لابن خزيمة، وأملى الحافظ أبو الفضل العراقي على المستدرك مستخرجا لم يكمل. فوائد المستخرجات على الصحيحين: ثم اعلم أن للكتب المخرجة على الصحيحين فوائد: منها: علوّ الإسناد: لأن المصنف المستخرج لو روى حديثا مثلا من طريق البخاري لوقع أنزل من الطريق الذي رواه به المستخرج. ومنها: القوة بكثرة الطرق للترجيح عند المعارضة، ذكره ابن الصلاح في مقدمة شرح مسلم. ومنها: أن يكون مصنف الصحيح روى عمن اختلط ولم يبين هل سماع ذلك الحديث في هذه الرواية قبل الاختلاط أو بعده فيبينه المستخرج إما تصريحا، أو بأن يرويه عنه في الصحيح عن مدلّس بالعنعنة: فيرويه المستخرج بالتصريح بالسماع. ومنها: أن يروي عن مبهم: كحدّثنا فلان، أو رجل، أو فلان وغيره، أو غير واحد فيعيّنه المستخرج. ومنها: أن يروي عن مهمل: كمحمد من غير ذكر ما يميزه عن غيره من المحمدين، ويكون في مشايخ من رواه كذلك من يشاركه في الاسم فيميزه المستخرج. قال شيخ الإسلام: وكل علة أعلّ بها حديث في أحد الصحيحين جاءت رواية المستخرج سالمة منها فهي من فوائده وذلك كثير جدّا. المستدركات: ومن أنواعها: المستدركات: والمستدرك: كتاب جمع مؤلفه فيه أحاديث استوفت حسب نظره شروط الأحاديث التي ذكرها البخاري أو مسلم أو غيرهما في كتابه ولكنه لم يذكرها فيه وذلك كمستدرك الحاكم وغيره. كتب العلل: ومن أنواعها: كتب العلل: وهي الكتب التي يجمع فيها الأحاديث المعلولة مع بيان عللها، ومن صنّف في هذا النوع: الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، والإمام

اصطلاحات لفظية لعلماء الحديث

الحافظ أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي. قال الذهبي في التذكرة: وللساجي كتاب جليل في علل الحديث يدل على تبحره في هذا الفن. اه ملخصا من مقدمة «تحفة الأحوذي». اصطلاحات لفظية لعلماء الحديث التعريف بألفاظ يتداولها أهل الحديث: المسند: قال الحاكم: هو ما اتصل إسناده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال الخطيب: هو ما اتصل إلى منتهاه. وحكى ابن عبد البر: أنه المروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سواء كان متصلا أو منقطعا، فهذه أقوال ثلاثة. المتصل: ويقال له: «الموصول» أيضا، وهو ينفي الإرسال والانقطاع، ويشمل المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، والموقوف على الصحابي أو من دونه. المرفوع: هو ما أضيف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة، لا يقع مطلقه على غيره سواء كان متصلا أو منقطعا. الموقوف: هو ما أضيف إلى الصحابي قولا أو فعلا أو نحوه متصلا كان أو منقطعا، ويستعمل في غيره مقيدا فيقال: حديث كذا وقفه فلان على عطاء مثلا. المعضل: هو ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا، ومنه ما يرسله تابع التابعي. المقطوع: هو الموقوف على التابعي قولا له، أو فعلا متصلا كان أو منقطعا. المنقطع: هو ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه، فإن كان الساقط رجلين فأكثر سمّي- أيضا- «معضلا» بفتح الضاد المعجمة. المرسل: هو عند الفقهاء، وأصحاب الأصول، والخطيب الحافظ أبي بكر البغدادي، وجماعة من المحدّثين: ما انقطع إسناده على أي وجه كان انقطاعه فهو عندهم بمعنى المنقطع. وقال جماعات من المحدثين أو أكثرهم: لا يسمّى مرسلا إلا ما أخبر فيه التابعي عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي اختلف في العمل به؛ فمذهب المحدّثين أو جمهورهم وجماعة من الفقهاء أنه لا يحتج بالمرسل. ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وأكثر الفقهاء أنه يحتج به. ومذهب الشافعي أنه إذا انضم إلى المرسل ما يعضده احتج به، وذلك بأن يروى أيضا مسندا أو مرسلا من جهة أخرى، أو يعمل به بعض الصحابة أو أكثر العلماء. وأما مرسل الصحابي: وهو روايته ما لم يدركه أو يحضره كقول عائشة رضي الله عنها:

حكم ما يصدر عن الصحابي من الأقوال

أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة. فمذهب الشافعي والجماهير أنه يحتج به. وقال الأستاذ الإمام أبو إسحاق الأسفرائيني الشافعي: لا يحتج به إلا أن يقول: إنه لا يروى إلا عن صحابي والصواب الأول. حكم ما يصدر عن الصحابي من الأقوال إذا قال الصحابي: كنا نقول أو نفعل أو يقولون أو يفعلون كذا، أو كنا لا نرى أو لا يرون بأسا بكذا، اختلفوا فيه، فقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي: لا يكون مرفوعا بل هو موقوف، وسنذكر حكم الموقوف في فصل بعد هذا إن شاء الله تعالى. وقال الجمهور من المحدثين وأصحاب الفقه والأصول: إن لم يضفه إلى زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فليس بمرفوع بل هو موقوف، وإن أضافه فقال: كنا نفعل في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم أو في زمنه أو وهو فينا أو بين أظهرنا أو نحو ذلك، فهو مرفوع، وهذا هو المذهب الصحيح الظاهر؛ فإنه إذا فعل في زمنه صلّى الله عليه وسلم؛ فالظاهر اطلاعه عليه وتقريره إياه صلّى الله عليه وسلم وذلك مرفوع. وقال آخرون: إن كان ذلك الفعل مما لا يخفى غالبا كان مرفوعا وإلا كان موقوفا وبهذا قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي، والله أعلم. وأما إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، أو من السنة كذا؛ فكله مرفوع على المذهب الصحيح الذي قاله الجماهير من أصحاب الفنون وقيل: موقوف. وأما إذا قال التابعي: من السنة كذا؛ فالصحيح أنه موقوف. وقال بعض أصحابنا الشافعيين: إنه مرفوع مرسل. وأما إذا قيل عند ذكر الصحابي: يرفعه أو ينهيه أو يبلغ به أو رواية؛ فكله مرفوع متصل بلا خلاف. أما إذا قال التابعي: كانوا يفعلون، فلا يدل على فعل جميع الأمة بل على بعض الأمة، فلا حجة فيه إلا أن يصرح بنقله عن أهل الإجماع، فيكون نقلا للإجماع، وفي ثبوته بخبر الواحد خلاف. اه الشوكاني.

الحديث القدسي

الحديث القدسي معنى الحديث القدسي: الحديث القدسي: هو الذي يرويه النبي صلّى الله عليه وسلم، على أنه من كلام الله تعالى، فالرسول ناقل لهذا الكلام، راو له ولكن بلفظ من عنده هو، يتبدى ذلك صريحا فيما ينقل الرواة في آخر سند الحديث. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قال الله تعالى، أو قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزّ وجل. ويطلق بعض العلماء على الأحاديث القدسية اسم «الأحاديث الإلهية» و «الأحاديث الربانية». والقدسي: نسبة إلى القدس وهي نسبة تكريم وإجلال؛ لأنها نسبة إلى الطهارة والتنزيه، فالقدس والتقديس لغة: تنزيه الله تعالى، والتقديس: التطهير والتبريك، وتقدّس: تطهّر، ومنه: البيت المقدّس؛ لأنه يتقدس فيه من الذنوب، وفي القرآن الكريم على لسان الملائكة: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [سورة البقرة آية: 30]. قال الزجّاج: معنى وَنُقَدِّسُ لَكَ أي نطهّر أنفسنا لك، وكذلك نفعل بمن أطاعك، نقدسه: أي نطهره. ويقول ابن الأثير: ومنه الحديث: «لا قدّست أمّة لا يؤخذ لضعيفها من قويّها»، أي لا طهّرت. وأما عن روايتها: فقد لوحظ أن لروايتها صيغتين: إحداهما: أن يقول الراوي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزّ وجل. والثانية: أن يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قال الله تعالى، أو يقول الله تعالى: والمعنى واحد، إلا أنّ العبارة الأولى هي عبارة السلف، ومن أجل ذلك آثرها الإمام النووي رحمه الله. الفرق بين القرآن والحديث القدسي: إذا نظرنا إلى ماهية الحديث القدسي، وإلى خصائص القرآن وجدنا أن هنالك فروقا كثيرة بينهما. من هذه الفروق: 1 - أن القرآن الكريم موحى به، إلقاء على لسان الملك جبريل عليه السّلام بلفظه ومعناه. 2 - أن القرآن هو لفظ معجز وقف العرب- على بلاغتهم وفصاحتهم- لا يقوون على معارضته أو الإتيان ولو بسورة من مثله، وقفوا عاجزين عن المعارضة، بعد أن تحداهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو معجزة باقية على مرّ الأزمنة والعصور، ووجوه إعجازه

الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي:

كثيرة، والتحدي به قائم حتى يرث الله الأرض ومن عليها. 3 - إن القرآن الكريم لا ينسب إلا إلى الله تعالى، بخلاف الحديث القدسي، فقد يروى مضافا إلى الله تعالى، وتكون النسبة إليه حينئذ نسبة إنشاء، فيقال: قال الله تعالى، أو يقول الله تعالى، وقد يضاف إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم وتكون النسبة حينئذ نسبة إخبار؛ لأنه عليه السّلام هو المخبر به عن الله عزّ وجل فيقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزّ وجل. 4 - القرآن جميعه قطعي الثبوت، لأنه منقول بالتواتر، وهو محفوظ من التغيير والتبديل، مصداقا لقول الله عزّ وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [سورة الحجر آية: 9] وليس كذلك الحديث القدسي. 5 - القرآن لا يجوز مسّه للمحدث، كما لا تجوز قراءته للجنب، وهما جائزان مع الحديث القدسي. وقال بعضهم: هما جائزان- أيضا- مع القرآن، وليس في المنع حديث صحيح. 6 - القرآن متعبد بتلاوته، فهو المتعيّن للقراءة في الصلاة: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [سورة المزمل آية: 20] ومجرد قراءته عبادة، فللتالي عشر حسنات بكل حرف يتلوه من حروفه، كما جاء في الحديث الصحيح، وليس كذلك الحديث القدسي. 7 - جاحد القرآن يكفر لأنه متواتر قطعي الثبوت. هذا عن القرآن الكريم. أما الحديث القدسي: فلا يثبت له شيء من ذلك. فليس فيه إعجاز، والمعنى من عند الله، أما اللفظ: فهو من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم. والأحاديث القدسية ظنية الثبوت؛ لأن أكثرها أخبار آحاد، ويطرأ عليها ما يطرأ على بقية الأحاديث، فقد يكون الواحد منها مقبولا، وقد يكون مردودا، فمنها الصحيح، ومنها الحسن، ومنها الضعيف، ووصف الحديث بكونه قدسيّا لا يعني أن يكون ذلك عنوان صحة هذا الحديث وصلاحيته للقبول، وإنما يخضع كما تخضع الأحاديث النبوية لسلامة النقل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصحة السند؛ لأن ذلك في الغالب هو مناط الحكم على الحديث بالقبول أو الرد. الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي: 1 - يمكن القول: بأن ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم سواء أكان من الأمور التوقيفية التعليمية من الوحي أو من الأمور الاجتهادية- ولا يقره الوحي إلا على الصواب- فمردها جميعا بجملتها إلى الوحي، وليس معنى ذلك أن كل حديث بعينه موحى به، بل إن هذه

عدد الأحاديث القدسية:

الأحاديث لا تخرج بجملتها عنه- كما قلنا- فهو صلّى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. أما الحديث القدسي: فالمعنى من عند الله عزّ وجل يلقى إلى الرسول بكيفية من كيفيات الوحي- لا على التعيين- والألفاظ والصياغة من عند رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ومن هنا ترى أن المراد بنسبة الحديث القدسي إلى الله تعالى نسبة مضمونه لا نسبة ألفاظه، واستخدام هذه النسبة كثير في منابت العربية، ففي القرآن الكريم عديد من المواقف التي يحكي الله تعالى فيها بلسان عربي، مضمون خطاب كل رسول لقومه، وجواب قومه له، وغير ذلك، وينسب ذلك إليهم مع أنهم لم يكونوا يتكلمون العربية. 2 - لا يبدو في الأحاديث القدسية لون من ألوان الأحكام التكليفية، أو جواب على سؤال معين، أو معالجة لواقعة معينة، وإنما الملاحظ أنها تؤدي نوعا من التوجيه الرباني العظيم، مما يتعلق بصحة العقيدة بالله عزّ وجل وكمال قدرته وعظمته وسعة رحمته، وبسلامة السلوك وصحة العمل الذي ينسجم مع تلك العقيدة. بينما نجد الأمر في القرآن الكريم والأحاديث الأخرى أعم وأشمل، على ما نعلم من طابع الإجمال والعموم في القرآن على الأغلب، وطابع البيان والتفصيل فيما صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قول وفعل وتقرير. 3 - بينما نجد القرآن الكريم قد نقل بالتواتر، نجد أن الأحاديث القدسية أخبار آحادية، والأحاديث النبوية: فيها المتواتر اللفظي والمتواتر المعنوي، ولكن غالبيتها العظمى أخبار آحاد. عدد الأحاديث القدسية: ذكر المحقق أبو الفضل أحمد بن حجر الهيثمي المتوفى سنة (975 هـ) رحمه الله في شرحه للأربعين النووية: أن عدد الأحاديث القدسية يتجاوز المائة، وقد أوصلها بعضهم إلى أكثر من ذلك، كما نرى المحدّث المناوي المتوفى سنة (1031 هـ) الذي جمع مائتين واثنين وسبعين حديثا في كتابه الذي أسماه «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية». وقد ذكرها مرتبة على حروف المعجم ولكن بغير إسناد.

أقسام الخبر"الحديث"

أقسام الخبر «الحديث» الخبر بجميع أنواعه: سواء كان خبرا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو عن صحابي أو تابعي أو غيرهم، وسواء كان خبرا في أمور الدين أو أمور الدنيا ينقسم إلى متواتر، وآحاد. الحديث المتواتر القسم الأول: المتواتر، وهو في اللغة: عبارة عن مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما. مأخوذ من الوتر. وفي الاصطلاح: خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم. وقيل في تعريفه: هو خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه. وقيل: خبر جمع عن محسوس يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم. فقولهم: «من حيث كثرتهم» لإخراج خبر قوم يستحيل كذبهم بسبب أمر خارج عن الكثرة. كالعلم بخبرهم ضرورة أو نظرا. وقد اختلف في العلم الحاصل بالتواتر هل هو ضروري حاصل بغير نظر واستدلال أو نظري يحتاج إليهما؟ فذهب الجمهور إلى أنه ضروري بدهي. وقال الكعبي وأبو الحسن البصري: إنه نظري، قال الغزالي: إنه قسم ثالث ليس أوليّا ولا كسبيّا، وقال المرتضي، والآمد: بالوقف. والحق قول الجمهور؛ للقطع بأنا نجد نفوسنا جازمة بوجود البلاد الغائبة عنا ووجود الأشخاص الماضية قبلنا جزما خاليا عن التردد جاريا مجرى جزمنا بوجود المشاهدات. فالمنكر لحصول العلم الضروري بالتواتر كالمنكر لحصول العلم الضروري بالمشاهدات وذلك سفسطة لا يستحق صاحبها المكالمة. واحتج الجمهور- أيضا- بأن العلم الحاصل بالتواتر لو كان نظريّا لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر كالصبيان المراهقين وكثير من العامة، فلما حصل ذلك لهم علمنا أنه ليس بنظري، وكما يندفع بأدلة الجمهور قول من قال إنه نظري يندفع- أيضا- قول من قال: إنه قسم ثالث، وقول من قال بالوقف؛ لأن سبب وقفه ليس إلا تعارض الأدلة عليه، وقد اتضح بما ذكرنا أنه لا تعارض فلا وقف. واعلم أنه لم يخالف أحد من أهل الإسلام ولا من العقلاء في أن خبر التواتر يفيد العلم، وما روي من الخلاف في ذلك عن السمنية والبراهمة، فهو خلاف باطل لا يستحق قائله الجواب عليه.

متى يفيد المتواتر العلم الضروري

متى يفيد المتواتر العلم الضروري اعلم أن الخبر المتواتر لا يكون مفيدا للعمل الضروري إلا بشروط: منها ما يرجع إلى المخبرين، ومنها ما يرجع إلى السامعين، فالتي ترجع إلى المخبرين أربعة: الشرط الأول: أن يكونوا عالمين بما أخبروا به غير مجازفين، فلو كانوا ظانين لذلك فقط؛ لم يفد القطع، هكذا اعتبر هذا الشرط جماعة من أهل العلم منهم القاضي أبو بكر الباقلاني، وقيل إنه غير محتاج إليه لأنه إن أريد وجوب علم الكل به فباطل؛ لأنه لا يمتنع أن يكون بعض المخبرين به مقلدا فيه أو ظانّا له أو مجازفا، وإن أريد وجوب علم البعض فمسلّم ولكنه مأخوذ من شرط كونهم مستندين إلى الحس. الشرط الثاني: أن يعلموا ذلك عن ضرورة من مشاهدة أو سماع؛ لأن ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه. قال الأستاذ أبو منصور: فأما إذا تواترت أخبارهم عن شيء قد علموه واعتقدوه بالنظر والاستدلال أو عن شبهة، فإن ذلك لا يوجب علما ضروريّا؛ لأن المسلمين مع تواترهم يخبرون الدهرية بحدوث العالم وتوحيد الصانع، ويخبرون أهل الذمة بصحة نبوة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم فلا يقع لهم العلم الضروري بذلك؛ لأن العلم به من طريق الاستدلال دون الاضطرار. اه. ومن تمام هذا الشرط أن لا تكون المشاهدة والسماع على سبيل غلط الحس كما في أخبار النصارى بصلب المسيح عليه السّلام. وأيضا لا بد أن يكونوا على صفة يوثق معها بقولهم، فلو أخبروا متلاعبين أو مكرهين على ذلك؛ لم يوثق بخبرهم ولا يلتفت إليه. الشرط الثالث: أن يصل عددهم إلى حد يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب، ولا يقيد ذلك بعدد معين بل ضابطه حصول العلم الضروري به، فإذا حصل ذلك علمنا أنه متواتر وإلا فلا، وهذا قول الجمهور، وهناك أقوال كثيرة غير ذلك لا يعبأ بها. الشرط الرابع: وجود العدد المعتبر في كل الطبقات، فيروى ذلك العدد عن مثله إلى أن يتصل بالمخبر عنه. وقد اشترط عدالة النقلة لخبر المتواتر، فلا يصح أن يكونوا أو بعضهم غير عدول، وعلى هذا لا بد أن لا يكونوا كفارا ولا فسّاقا. ولا وجه لهذا الاشتراط؛ فإن حصول العلم الضروري بالخبر المتواتر لا يتوقف على ذلك، بل يحصل بخبر الكفار والفساق والصغار المميزين والأحرار والعبيد وذلك هو المعتبر.

شروط السامعين

وقد اشترط- أيضا- اختلاف أنساب أهل التواتر. واشترط- أيضا- اختلاف أديانهم. واشتراط- أيضا- اختلاف أوطانهم. واشترط- أيضا- كون المعصوم منهم- كما يقول الإمامية- ولا وجه لشيء من هذه الشروط. شروط السامعين وأما الشروط التي ترجع إلى السامعين فإنها ثلاثة: الأول: أن يكونوا عقلاء؛ إذ يستحيل حصول العلم لمن لا عقل له. والثاني: أن يكونوا عالمين بمدلول الخبر. والثالث: أن يكونوا خالين عن اعتقاد ما يخالف ذلك الخبر بشبهة تقليد أو نحوه. حديث الآحاد القسم الثاني: الآحاد: وهو خبر لا يفيد بنفسه العلم سواء كان لا يفيده أصلا، أو يفيده بالقرائن الخارجة عنه، فلا واسطة بين المتواتر والآحاد، وهذا قول الجمهور. وقال أحمد بن حنبل: إن خبر الواحد يفيد بنفسه العلم. وحكاه ابن حزم في كتاب «الأحكام» عن داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث المحاسبي قال: وبه نقول. وحكاه ابن خويز منداد عن مالك بن أنس واختاره وأطال في تقريره. ونقل الشيخ في التبصرة عن بعض أهل الحديث أن منها ما يوجب العلم؛ كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر وما أشبهه. وحكى صاحب المصادر عن أبي بكر القفال: أنه يوجب العلم الظاهري. وقيل في تعريفه: هو مالم ينته بنفسه إلى التواتر سواء كثر رواته أو قلوا، وهذا كالأول في نفي الواسطة بين التواتر والآحاد. وقد ذهب الجمهور إلى وجوب العمل بخبر الواحد وأنه وقع التعبد به. وقال القاشاني والرافضة وابن داود: لا يجب العمل به، وحكاه الماوردي عن الأصم وابن علية.

القول الفصل

قال ابن السمعاني: واختلفوا- يعني القائلين بعدم وجوب العمل بخبر الواحد- في المانع من القبول، فقيل: منع منه العقل وينسب إلى ابن علية والأصم. وقال القاشاني من أهل الظاهر، والشيعة: منع منه الشرع، فقالوا: إنه لا يفيد إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا. ويجاب عن هذا بأنه عام مخصص لما ثبت في الشريعة من العمل بأخبار الآحاد. ثم اختلف الجمهور في طريق إثباته، فالأكثر منهم قالوا: يجب بدليل السمع. وقال أحمد بن حنبل والقفال وابن شريح، وأبو الحسن البصري من المعتزلة، وأبو جعفر الطوسي من الإمامية، والصيرفي من الشافعية: إن الدليل العقلي دلّ على وجوب العمل به لا يحتاج الناس إلى معرفة بعض الأشياء من جهة الخبر الوارد. وأما دليل السمع فقد استدلوا من الكتاب: بمثل قوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [سورة الحجرات آية: 6]، وبمثل قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [سورة التوبة آية: 122]. ومن السنة: بمثل قصة أهل قباء لما أتاهم واحد فأخبرهم أن القبلة قد تحولت فتحولوا، وبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهم. وبمثل بعثه صلّى الله عليه وسلم لعماله واحدا بعد واحد. وكذلك بعثه بالفرد من الرسل يدعو الناس إلى الإسلام. ومن الإجماع: بإجماع الصحابة والتابعين على الاستدلال بخبر الواحد، وشاع ذلك وذاع ولم ينكره أحد ولو أنكره منكر لنقل إلينا وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم كالقول الصريح. قال ابن دقيق العيد: ومن تتبع أخبار النبي صلّى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وجمهور الأمة ما عدا هذا الفرقة اليسيرة؛ علم ذلك قطعا. اه. القول الفصل وعلى الجملة: فلم يأت من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به، ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم، وعمل التابعين وتابعيهم بأخبار الآحاد؛ وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له إلا مصنّف بسيط، وإذا وقع من بعضهم تردد في العمل به في بعض الأحوال، فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبرا واحدا من ريبة في الصحة، أو تهمة للراوي، أو وجود معارض راجح أو نحو ذلك.

أقسام الآحاد

أقسام الآحاد واعلم أن الآحاد تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: خبر الواحد وهو الذي تقدم ذكره، وهو المسمى بالغريب. والقسم الثاني: المستفيض، وهو ما رواه ثلاثة فصاعدا في كل طبقة. وقيل: ما زاد على الثلاثة. وقال أبو إسحاق الشيرازي: أقل ما تثبت به الاستفاضة اثنان. قال السبكي: والمختار عندنا أن المستفيض ما يعده الناس شائعا. والقسم الثالث: المشهور، وهو ما اشتهر ولو في القرن الثاني أو الثالث إلى حد ينقله ثقات لا يتوهم تواطؤهم على الكذب، ولا تعتبر الشهرة بعد القرنين، هكذا قال الحنفية فاعتبروا التواتر في بعض طبقاته وهي الطبقة التي روته في القرن الثاني أو الثالث فقط، فبينه وبين المستفيض عموم وخصوص من وجه لصدقهما على ما رواه الثلاثة فصاعدا، ولم يتواتر في القرن الأول ثم تواتر في أحد القرنين المذكورين، وانفراد المستفيض إذا لم ينته في أحدهما إلى التواتر، وانفراد المشهور فيما رواه اثنان في القرن الأول ثم تواتر في الثاني والثالث. وجعل الجصاص المشهور قسما من المتواتر ووافقه جماعة من أصحاب الحنفية، وأما جمهورهم فجعلوه قسيما للمتواتر لا قسما كما تقدم. واعلم أن الخلاف الذي ذكرناه في أول هذا البحث من إفادة خبر الآحاد الظن أو العلم مقيد بما إذا كان خبرا واحدا لم ينضم إليه ما يقويه، وأما إذا انضم إليه ما يقويه أو كان مشهورا أو مستفيضا فلا يجري فيه الخلاف المذكور. ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم؛ لأن الإجماع عليه قد صيّره من المعلوم صدقه. وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول فكانوا بين عامل به ومتأول له. ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم، فإن الأمة تلقت ما فيهما بالقبول ومن لم يعمل بالبعض من ذلك فقد أوله، والتأويل فرع القبول. قيل: ومن خبر الواحد المعلوم صدقه أن يخبر به في حضور جماعة هي نصاب التواتر ولم يقدحوا في روايته مع كونهم ممن يعرف علم الرواية ولا مانع يمنعهم من القدح في ذلك وفي هذا نظر. اه من إرشاد الفحول للشوكاني مع اختصار.

شروط العمل بخبر الواحد

شروط العمل بخبر الواحد العمل بخبر الواحد له شروط، منها ما هو في المخبر وهو الراوي، ومنها ما هو في المخبر عنه وهو مدلول الخبر، ومنها ما هو في الخبر نفسه وهو اللفظ الدال. أما الشروط الراجعة إلى الراوي فخمسة: الشرط الأول- التكليف: فلا تقبل رواية الصبي والمجنون، ونقل القاضي الإجماع على رد رواية الصبي، واعترض عليه العنبري، وقال: بل هما قولان للشافعي في إخباره عن القبلة كما حكاه القاضي حسين في تعليقه. قال: ولأصحابنا خلاف مشهور في قبول روايته في هلال رمضان وغيره. قال الفوراني: الأصح قبول روايته، والوجه في رد روايته أنه قد يعلم أنه غير آثم لارتفاع قلم التكليف عنه فيكذب. وقد أجمع الصحابة على عدم الرجوع إلى الصبيان مع أن فيهم من كان يطلع على أحوال النبوة وقد رجعوا إلى النساء وسألوهن من وراء حجاب. قال الغزالي في المنخول: محل الخلاف في المراهق المتثبت في كلامه، أما غيره فلا يقبل قطعا. وهذا الاشتراط إنما هو باعتبار وقت الأداء للرواية، أما لو تحملها صبيّا وأداها مكلّفا؛ فقد أجمع السلف على قبولها كما في رواية ابن عباس والحسنين، ومن كان مماثلا لهم كمحمود بن الربيع؛ فإنه روى حديث: أنه صلّى الله عليه وسلم مجّ في فيه مجة وهو ابن خمس سنين. واعتمد العلماء روايته. وقد كان من مع بعض الصحابة من التابعين، وتابعيهم، ومن بعدهم يحضرون الصبيان مجالس الروايات، ولم ينكر ذلك أحد. وهكذا لو تحمل وهو فاسق أو كافر ثم روى وهو عدل مسلم. ولا أعرف خلافا في عدم قبول رواية المجنون في حال جنونه، أما لو سمع في حال جنونه ثم أفاق؛ فلا يصح ذلك؛ لأنه وقت الجنون غير ضابط. وقد روى جماعة إجماع أهل المدينة على قبول رواية الصبيان بعضهم على بعض في الدماء لمسيس الحاجة إلى ذلك لكثرة وقوع الجنايات فيما بينهم إذا انفردوا ولم يحضرهم من تصح شهادته، وقيدوه بعدم تفرقهم بعد الجناية حتى يؤدوا الشهادة،

الشرط الثاني - الإسلام:

والأولى عدم القبول، وعمل أهل المدينة لا تقوم به حجة على ما سيأتي. على أنا نمنع ثبوت هذا الإجماع الفعلي عنهم. الشرط الثاني- الإسلام: فلا تقبل رواية الكافر من يهودي أو نصراني أو غيرهما إجماعا، قال الرازي في المحصول: أجمعت الأمة على أنه لا تقبل روايته سواء علم من دينه الاحتراز عن الكذب أو لم يعلم. قال: والمخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته أم لا؟ الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لا تقبل روايته، وإلا قبلناها وهو قول أبي الحسين البصري. وقال القاضي أبو بكر، والقاضي عبد الجبار: لا تقبل روايتهم. والحاصل: أنه إن علم من مذهب المبتدع جواز الكذب مطلقا لم تقبل روايته قطعا، وإن علم من مذهبه جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة مذهبه، أو الكذب فيما هو ترغيب في طاعة أو ترهيب عن معصية، فقال الجمهور ومنهم القاضيان أبو بكر وعبد الجبار، والغزالي والآمدي: لا يقبل قياسا على الفاسق بل هو أولى. وقال أبو الحسين البصري: يقبل، وهو رأي الجويني وأتباعه. والحق عدم القبول مطلقا في الأول، وعدم قبوله في ذلك الأمر الخاص في الثاني، ولا فرق في هذا بين المبتدع الذي يكفّر ببدعته، وبين المبتدع الذي لا يكفّر ببدعته. وأما إذا كان ذلك المبتدع لا يستجيز الكذب؛ فاختلفوا فيه على أقوال: القول الأول: رد روايته مطلقا؛ لأنه قد فسق ببدعته، فهو كالفاسق بفعل المعصية، وبه قال القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق الشيرازي. القول الثاني: أنها تقبل، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وابن أبي ليلى، والثوري، وأبي يوسف. القول الثالث: أنه إذا كان داعية إلى بدعته لم يقبل، وإلا قبل، وحكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص عن مالك وبه جزم سليم، قال القاضي عياض: وهذا يحتمل أنه إذا لم يدع يقبل ويحتمل أنه لا يقبل مطلقا. اه. والحق أنه لا يقبل فيما يدعو به إلى بدعته ويقويها لا في غير ذلك، قال الخطيب: وهو مذهب أحمد، ونسبه ابن الصلاح إلى الأكثرين، قال: وهو أعدل المذاهب وأولاها، وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غير الدعاة احتجاجا واستشهادا كعمران بن حطان، وداود بن الحصين وغيرهما، ونقل أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات الإجماع على ذلك.

الشرط الثالث - العدالة:

قال ابن دقيق العيد: جعل بعض المتأخرين من أهل الحديث هذا المذهب متفقا عليه وليس كما قال. وقال ابن القطان في كتاب «الوهم والإيهام»: الخلاف إنما هو في غير الداعية، أما الداعية: فهو ساقط عند الجميع. قال أبو الوليد الباجي: الخلاف في الداعية بمعنى أنه يظهر بدعته، بمعنى حمل الناس عليها فلم يختلف في ترك حديثه. الشرط الثالث- العدالة: قال الرازي في المحصول: هي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا، حتى يحصل ثقة النفس بصدقه، ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر وعن بعض الصغائر كالتطفيف بالحبة، وسرقة باقة من البقل، وعن المباحات القادحة في المروءة؛ كالأكل في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الأرذال، والإفراط في المزاح، والضابط فيه: أن كل من لا يؤمن من جراءته على الكذب يرد الرواية، وما لا فلا. اه. وأصل العدالة في اللغة: الاستقامة. يقال: طريق عدل: أي مستقيم، وتطلق على استقامة السيرة والدين. قال الزركشي في البحر: واعلم أن العدالة شرط بالاتفاق، ولكن اختلف في معناها، فعند الحنفية: عبارة عن الإسلام مع عدم الفسق. وعندنا: ملكة في النفس تمنع من اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة، والرذائل المباحة كالبول في الطريق، والمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة. قال ابن القشيري: والذي صح عن الشافعي أنه قال: في الناس من يمحص الطاعة فلا يمزجها بمعصية، وفي المسلمين من يمحص المعصية ولا يمزجها بالطاعة، فلا سبيل إلى رد الكل، ولا إلى قبول الكل، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة؛ قبلت شهادته وروايته، وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة؛ رددتها. قال ابن السمعاني: لا بد في العدل من أربع شرائط: 1 - المحافظة على فعل الطاعة واجتناب المعصية. 2 - أن لا يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو عرض. 3 - أن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويكسب الندم. 4 - أن لا يعتقد من المذاهب ما يرده أصول الشرع. والأولى أن يقال في تعريف العدالة: أنها التمسك بآداب الشرع، فمن تمسك بها فعلا وتركا فهو العدل المرضي، ومن أخلّ بشيء منها، فإن كان الإخلال بذلك الشيء يقدح في دين فاعله أو تاركه كفعل الحرام وترك الواجب؛ فليس بعدل، وأما اعتبار العادات

الصغائر والكبائر

الجارية بين الناس المختلفة باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال، فلا مدخل لذلك في هذا الأمر الديني الذي تنبني عليه قنطرتان عظيمتان وجسران كبيران وهما: الرواية، والشهادة. نعم من فعل ما يخالف ما يعده الناس مروءة عرفا لا شرعا فهو تارك للمروءة العرفية، ولا يستلزم ذلك ذهاب مروءته الشرعية. الصغائر والكبائر اختلف الناس: هل المعاصي منقسمة إلى صغائر وكبائر، أم هي قسم واحد؟ فذهب الجمهور إلى أنها صغائر وكبائر، ويدل على ذلك قوله سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة النساء آية: 31]، وقوله: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [سورة الحجرات آية: 7]. ويدل عليه ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم متواترا من تخصيص بعض الذنوب باسم الكبائر وبعضها بأكبر الكبائر. وذهب جماعة إلى أن المعاصي قسم واحد، ومنهم الأستاذ أبو إسحاق، والجويني، وابن فورك ومن تابعهم، قالوا: إن المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر كما يقال: الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا وكلها كبائر. قالوا: ومعنى قوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ إن تجتنبوا الكفر كفّرت عنكم سيئاتكم التي هي دون الكفر، والقول الأول راجح. وهاهنا مذهب ثالث ذهب إليه الحليمي، فقال: إن المعاصي تنقسم بحسب حد الكبائر إلى ثلاثة أقسام: صغيرة، وكبيرة، وفاحشة، فقتل النفس بغير حق كبيرة، فإن قتل ذا رحم له ففاحشة، فأما الخدشة والضربة مرة أو مرتين فصغيرة، وجعل سائر الذنوب هكذا. تعريف الكبائر ثم اختلفوا في الكبائر هل تعرف بالحد، أو لا تعرف إلا بالعدد؟ فقال الجمهور: إنها تعرف بالحد، ثم اختلفوا في ذلك، فقيل: إنها المعاصي الموجبة للحد. وقال بعضهم: هي ما يلحق صاحبها وعيد شديد. وقال آخرون: ما يشعر بقلة اكتراث مرتكبها بالدين. وقيل: ما كان فيه مفسدة. وقال الجويني: ما نص الكتاب على تحريمه أو أوجب في حقه حدّا. وقيل: ما ورد

الوعيد عليه مع الحد أو لفظ يفيد الكبر. وقال جماعة: إنها لا تعرف إلا بالعدد، ثم اختلفوا هل تنحصر في عدد معين أم لا؟ فقيل: هي سبع، وقيل: تسع، وقيل: عشر، وقيل: اثنتا عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: ست وثلاثون، وقيل: سبعون، وإلى السبعين أنهاها الحافظ الذهبي في جزء صنفه في ذلك، وقد جمع ابن حجر الهيثمي فيها مصنفا حافلا سماه «الزواجر في الكبائر» وذكر فيه نحو أربعمائة معصية، وبالجملة فلا دليل يدل على انحصارها في عدد معين. ومن المنصوص عليه منها: القتل، والزنا، واللواطة، وشرب الخمر، والسرقة، والغصب، والقذف، والنميمة، وشهادة الزور، واليمين الفاجرة، وقطيعة الرحم، والعقوق، والفرار من الزحف، وأخذ مال اليتيم، وخيانة الكيل والوزن، والكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتقديم الصلاة وتأخيرها، وضرب المسلم، وسب الصحابة، وكتمان الشهادة، والرشوة، والدياثة، ومنع الزكاة، واليأس من الرحمة، وأمن المكر، والظهار، وأكل لحم الخنزير والميتة، وفطر رمضان، والربا، والغلول، والسحر، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونسيان القرآن بعد تعلمه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع الزوجة من زوجها بلا سبب. وقد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به وإنما هي مقالة لبعض الصوفية، فإنه قال: لا صغيرة مع إصرار، وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثا، ولا يصح ذلك، بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة. وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه لا عدالة لفاسق، وقد حكى مسلم في صحيحه الإجماع على رد خبر الفاسق، فقال: إنه غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم، قال الجويني: والحنفية وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فلم يقولوا بقبول روايته، فإن قال به قائل فهو مسبوق بالإجماع. الشرط الرابع- الضبط: فلا بد أن يكون الراوي ضابطا لما يرويه، ليكون المروي له على ثقة منه في حفظه وقلة غلطه وسهوه، فإن كان كثير الغلط والسهو؛ ردّت روايته، إلا فيما علم أنه لم يغلط فيه ولا سها عنه، وإن كان قليل الغلط؛ قبل خبره، إلا فيما يعلم أنه غلط فيه، كذا قال ابن السمعاني وغيره. قال أبو بكر الصيرفي: من أخطأ في حديث فليس بدليل على الخطأ في غيره ولم يسقط لذلك حديثه ومن كثر بذلك خطؤه وغلطه لم يقبل خبره.

قال الترمذي في العلل: كل من كان متهما في الحديث بالكذب، أو كان مغفلا يخطئ الكثير، فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه. اه. والحاصل: أن الأحوال ثلاثة: إن غلب خطؤه وسهوه على حفظه؛ فمردود إلا فيما علم أنه لم يخطئ فيه، وإن غلب حفظه على خطئه وسهوه؛ فمقبول إلا فيما علم أنه أخطأ فيه، وإن استويا، فالخلاف. قال القاضي عبد الجبار: يقبل لأن جهة التصديق راجحة في خبره لعقله ودينه. وقال الشيخ أبو إسحاق: إنه يردّ. وقيل: إنه يقبل خبره إذا كان مفسرا، وهو أن يذكر من روى عنه ويعين وقت السماع منه وما أشبه ذلك، وإلا فلا يقبل. وبه قال القاضي حسين، وحكاه الجويني عن الشافعي في الشهادة، ففي الرواية أولى. وقد أطلق جماعة من المصنفين في علوم الحديث أن الراوي إن كان تام الضبط مع بقية الشروط المعتبرة فحديثه من قسم الصحيح، وإن خفّ ضبطه؛ فحديثه من قسم الحسن، وإن كثر غلطه؛ فحديثه من قسم الضعيف. وقال الكيا الطبري: ولا يشترط انتفاء الغفلة، ولا يوجب لحوق الغفلة له ردّ حديثه إلا ما يعلم أنه قد لحققه الغفلة فيه بعينه. وما ذكره صحيح إذا كان ممن تعتريه الغفلة في غير ما يرويه، كما وقع ذلك لجماعة من الحفاظ؛ فإنهم قد تلحقهم الغفلة في كثير من أمور الدنيا، فإذا رووا كانوا من أحذق الناس بالرواية وأنبههم فيما يتعلق بها. وليس من شرط الضبط أن يضبط اللفظ بعينه كما سيأتي. الشرط الخامس: أن لا يكون الراوي مدلسا، وسواء كان التدليس في المتن أو في الإسناد. أما التدليس في المتن: فهو أن يزيد في كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلام غيره، فيظن السامع أن الجميع من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وأما التدليس في الإسناد: فهو على أنواع: أحدها: أن يكون في إبدال الأسماء فيغيّر عن الراوي وعن أبيه اسميهما وهذا نوع من الكذب. وثانيها: أن يسميه بتسمية غير مشهورة، فيظن السامع أنه رجل آخر غير من قصده الراوي، وذلك مثل من يكون مشهورا باسمه فيذكره الراوي بكنيته أو العكس، إيهاما

شروط مدلول الخبر

للمروي له بأنه رجل آخر غير ذلك الرجل، فإن كان مقصد الراوي بذلك التغرير على السامع بأن المروي عنه غير ذلك الرجل، فلا يخلو إما أن يكون ذلك الرجل المروي عنه ضعيفا، وكان العدول إلى غير المشهور من اسمه أو كنيته ليظن السامع أنه رجل آخر غير ذلك الضعيف، فهذا التدليس قادح في عدالة الراوي، وإما أن يكون مقصد الراوي مجرد الإغراب على السامع مع كون المروي عنه عدلا، على كل حال فليس هذا النوع من التدليس بجرح كما قال ابن الصلاح وابن السمعاني. وقال أبو الفتح ابن برهان: هو جرح. وثالثها: أن يكون التدليس بإطراح اسم الراوي الأقرب وإضافة الرواية إلى من هو أبعد منه، مثل أن يترك شيخه ويروي الحديث عن شيخ شيخه. فإن كان المتروك ضعيفا؛ فذلك من الخيانة في الرواية ولا يفعله إلا من ليس بكامل العدالة. وإن كان المتروك ثقة وترك ذكره لغرض من الأغراض التي لا تنافي الأمانة والصدق ولا تتضمن التغرير على السامع، فلا يكون ذلك قادحا في عدالة الراوي، إذا جاء في الرواية بصيغة محتملة نحو أن يقول: قال فلان، أو روي عن فلان، أو نحو ذلك، أما لو قال: حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان، وهو لم يحدّث ولم يخبره بل الذي حدثه أو أخبره وهو من ترك ذكره؛ فذلك كذب يقدح في عدالته. والحاصل: أن من كان ثقة واشتهر بالتدليس فلا يقبل إلا إذا قال: حدثنا، أو أخبرنا، أو سمعت، لا إذا لم يقل كذلك لاحتمال أن يكون قد أسقط من تقوم الحجة بمثله. شروط مدلول الخبر وأما الشروط التي ترجع إلى المعنى الذي دلّ عليه الخبر؛ فالمتفق عليه منها ثلاثة: الأول: أن لا يستحيل وجوده في العقل، فإن أحاله العقل ردّ. الشرط الثاني: أن لا يكون مخالفا لنص مقطوع به على وجه لا يمكن الجمع بينهما بحال. الشرط الثالث: أن لا يكون مخالفا لإجماع الأمة عند من يقول بأنه حجة قطعية. وأما إذا خالف القياس القطعي فقال الجمهور: إنه مقدّم على القياس، وقيل: إن كانت مقدمات القياس قطعية قدّم القياس، وإن كانت ظنية؛ قدم الخبر، وإليه ذهب أبو بكر الأبهري. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: إنهما متساويان. وهناك آراء أخرى لا أهمية لذكرها. والحق تقديم الخبر الخارج من مخرج صحيح أو حسن على القياس مطلقا، إذا لم يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه، كحديث المصراة وحديث العرايا فإنهما مقدمان على القياس. وقد كان الصحابة والتابعون إذا جاءهم الخبر لم يلتفتوا إلى القياس ولا ينظرون فيه،

تنبيهات مهمة

وما روي عن بعضهم من تقديم القياس في بعض المواطن فبعضه غير صحيح، وبعضه محمول على أنه لم يثبت الخبر عند من قدم القياس بوجه من الوجوه، ومما يدل على تقديم الخبر على القياس حديث معاذ؛ فإنه قدم العمل بالكتاب والسنة على اجتهاده. تنبيهات مهمة 1 - اعلم أنه لا يضر الخبر عمل أكثر الأمة بخلافه، لأن قول الأكثر ليس بحجة. 2 - ولا يضره عمل أهل المدينة بخلافه خلافا لمالك وأتباعه؛ لأنهم بعض الأمة ولجواز أنه لم يبلغهم الخبر. 3 - ولا يضره عمل الراوي له بخلافه خلافا لجمهور الحنفية وبعض المالكية؛ لأنا متعبدون بما أبلغنا من الخبر ولم نتعبد بما فهمه الراوي، ولم يأت من قدم عمل الراوي على روايته بحجة تصلح للاستدلال بها. 4 - ولا يضره كونه مما تعم به البلوى خلافا للحنفية وأبي عبد الله البصري لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك. 5 - ولا يضره كونه في الحدود والكفارات، خلافا للكرخي من الحنفية وأبي عبد الله البصري في أحد قوليه، ولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدل في حكم شرعي، ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية واستدلالهم بحديث: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» باطل؛ فالخبر الموجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها. 6 - ولا يضره- أيضا- كونه زيادة على النص القرآني أو السنة القطعية خلافا للحنفية، فقد قالوا: إن خبر الواحد إذا ورد بالزيادة في حكم القرآن أو السنة القطعية كان نسخا لا يقبل، والحق القبول؛ لأنها زيادة غير منافية للمزيد فكانت مقبولة. ودعوى أنها ناسخة ممنوعة، وهكذا إذا ورد الخبر مخصصا للعام من كتاب أو سنة؛ فإنه مقبول، ويبنى العام على الخاص خلافا لبعض الحنفية، وهكذا إذا ورد مقيدا لمطلق الكتاب أو السنة القطعية. 7 - ولا يضره كون روايه انفرد بزيادة فيه على ما رواه غيره إذا كان عدلا فقد يحفظ الفرد ما لا يحفظه الجماعة، وبه قال الجمهور إذا كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد، أما إذا كانت منافية فالترجيح، ورواية الجماعة أرجح من رواية الواحد. وقيل: لا تقبل رواية الواحد إذا خالفت رواية الجماعة، وإن كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد إذا كان مجلس السماع واحدا، وكانت الجماعة بحيث لا يجوز عليهم

شروط لفظ الخبر

الغفلة عن مثل تلك الزيادة، وأما إذا تعدد مجلس السماع؛ فتقبل تلك الزيادة بالاتفاق. ومثل: انفراد العدل بالزيادة انفراده برفع الحديث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي وقفه الجماعة؛ لأنه يصدق عليه (زيادة الثقة). وكذا انفراده بإسناد الحديث الذي أرسلوه. وكذا انفراده بوصل الحديث الذي قطعوه؛ فإن ذلك مقبول منه؛ لأنه زيادة على ما قد رووه وتصحيح لما أعلّوه. شروط لفظ الخبر وأما الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر: فإنه علم أن للراوي في نقل ما يسمعه أحوالا أهمها أربعة: الأول: أن يرويه بلفظه فيؤدي الأمانة كما سمعها، ولكنه إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلم قاله جوابا عن سؤال سائل، فإن كان الجواب مستغنيا عن ذكر السؤال كقوله صلّى الله عليه وسلم في ماء البحر: «هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته» فالراوي مخير بين أن يذكر السؤال أو يتركه، وإن كان الجواب غير مستغن عن ذكر السؤال كما في سؤاله صلّى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص إذا جف؟ فقيل: نعم، فقال: «فلا إذا» فلا بد من ذكر السؤال. وهكذا لو كان الجواب يحتمل أمرين، فإذا نقل الراوي السؤال لم يحتمل إلا أمرا واحدا فلا بد من ذكر السؤال، وعلى كل حال فذكر السؤال مع ذكر الجواب وما ورد على سبب أولى من الإهمال. الحال الثاني: أن يرويه بغير لفظه بل بمعناه، وفيه مذاهب أهمها ما يأتي: الأول منها: أن ذلك جائز من عارف بمعاني الألفاظ لا إذا لم يكن عارفا، فإنه لا يجوز له الرواية بالمعنى، قال القاضي في التقريب: بالإجماع. المذهب الثاني: المنع من الرواية بالمعنى مطلقا، بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين العارف وغيره. وهكذا نقله القاضي عن كثير من السلف وأهل التحري في الحديث، وقال: إنه مذهب مالك، ونقله الجويني والقشيري عن معظم المحدّثين، وبعض الأصوليين، وحكي عن أبي بكر الرازي من الحنفية، وهو مذهب الظاهرية، نقله عنهم القاضي عبد الوهاب، ونقله ابن السمعاني عن عبد الله بن عمر، وجماعة من التابعين منهم ابن سيرين، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني، ولا يخفى ما في هذا المذهب من الحرج البالغ أو المخالفة لما كان عليه السلف والخلف من الرواة، كما تراه في كثير من الأحاديث التي يرويها جماعة فإن غالبها بألفاظ مختلفة مع الاتحاد في

إيضاح مهم

المعنى المقصود، بل قد ترى الواحد من الصحابة فمن بعدهم يأتي في بعض الحالات بلفظ في رواية، وفي أخرى بغير ذلك اللفظ مما يؤدي معناه، وهذا أمر لا شك فيه. المذهب الثالث: التفصيل بين الأوامر والنواهي وبين الأخبار، فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني. قال الماوردي والروياني: أما الأوامر والنواهي فيجوز روايتهما بالمعنى كقوله: «لا تبيعوا الذهب بالذهب» وروي أنه نهى عن بيع الذهب بالذهب، وقوله صلّى الله عليه وسلم- أيضا-: «اقتلوا الأسودين في الصلاة» وروي: أنه أمر بقتل الأسودين في الصلاة. قال: هذا جائز بلا خلاف لأن «افعل» أمر، «ولا تفعل» نهي، فيتخير الراوي بينهما، وإن كان اللفظ في المعنى محتملا مثل: «لا طلاق في إغلاق» وجب نقله بلفظه ولا يعبر عنه بغيره؛ لأن كلمة «إغلاق» تحتمل أكثر من معنى. الحال الثالث: أن يحذف الراوي بعض لفظ الخبر، فينبغي أن ينظر فإن كان المحذوف متعلقا بالمحذوف منه تعلقا لفظيّا أو معنويّا لم يجز بالاتفاق، حكاه الصفي الهندي وابن الأنباري، فالتعلق اللفظي كالتقييد بالاستثناء والشرط والغاية والصفة، والتعلق المعنوي كالخاص بالنسبة إلى العام، والمقيد بالنسبة إلى المطلق، والمبين بالنسبة إلى المجمل، والناسخ بالنسبة إلى المنسوخ. الحال الرابع: أن يزيد الراوي في روايته للخبر على ما سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلم، فإن كان ما زاده يتضمن بيان سبب الحديث أو تفسير معناه فلا بأس بذلك، لكن بشرط أن يبين ما زاده حتى يفهم السامع أنه من كلام الراوي. قال الماوردي والروياني: يجوز من الصحابي زيادة بيان السبب لكونه مشاهدا للحال، ولا يجوز من التابعي، وأما تفسير المعنى فيجوز منهما. ولا وجه للاقتصار على الصحابي والتابعي في تفسير معنى الحديث، فذلك جائز لكل من يعرف معناه معرفة صحيحة على مقتضى اللغة العربية بشرط الفصل بين الخبر المروي وبين التفسير الواقع منه بما يفهمه السامع. اه «باختصار وتصرف من إرشاد الفحول للشوكاني». إيضاح مهم إن ما ذكره الإمام الشوكاني فيما سبق، عبارة عن خلاصة وافية متعلقة بالأحاديث التي تستنبط الأدلة منها، سواء كانت أحاديث متواترة أو أحاديث آحاد «مستفيضة، أو مشهورة، أو عزيزة، أو غريبة»، وسواء كانت الأحاديث الاحادية صحيحة أو حسنة؛ لأن الأحكام الشرعية تؤخذ من الحديث الحسن، كما تؤخذ من الحديث الصحيح، وإليك تعريفا خاصا بكل منهما على طريقة المؤلفين في علوم الحديث.

الحديث الصحيح

الحديث الصحيح قال النووي في مقدمته لشرح مسلم: «الصحيح ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة»، وقد سبق شرح ذلك للشوكاني بما لا يحتاج إلى مزيد. وقال ابن كثير: حاصل حد الصحيح: أنه المتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلى منتهاه، من صحابي أو من دونه، ولا يكون شاذّا ولا مردودا، ولا معللا بعلة قادحة، وقد يكون مشهورا، أو عزيزا، أو غريبا. المشهور: والشهرة أمر نسبي، فقد يشتهر عند أهل الحديث أو يتواتر ما ليس عند غيرهم بالكلية. ثم قد يكون المشهور متواترا، أو مستفيضا، وهو ما زاد نقلته على ثلاثة. وعن القاضي الماوردي: أن المستفيض أقوى من المتواتر، وهذا اصطلاح منه. وقد يكون المشهور صحيحا، كحديث: «الأعمال بالنيات» وحسنا. وقد يشتهر بين الناس أحاديث لا أصل لها، أو هي موضوعة بالكلية، وهذا كثير جدّا، ومن نظر في كتاب الموضوعات لأبي الفرج ابن الجوزي عرف ذلك، وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال: أربعة أحاديث تدور بين الناس في الأسواق لا أصل لها: «من بشرني بخروج آذار بشرته بالجنة»، و «من آذى ذميّا فأنا خصمه يوم القيامة»، و «نحركم يوم صومكم»، و «للسائل حقّ وإن جاء على فرس»، والصواب أن الحديث الثاني والحديث الرابع رواهما أبو داود بإسنادين جيدين فهما قويان، وأما الحديثان الآخران فلا أصل لهما، ولذا قال العراقي: لا يصح هذا الكلام عن الإمام أحمد. اه من المقاصد الحسنة. الغريب والعزيز: أما الغرابة: فقد تكون في المتن، بأن يتفرد بروايته راو واحد، أو في بعضه، كما إذا زاد فيه واحد زيادة لم يقلها غيره، وقد تقدم الكلام في زيادة الثقة. وقد تكون الغرابة في الإسناد، كما إذا كان أصل الحديث محفوظا من وجه آخر أو وجوه، لكنه بهذا الإسناد غريب. فالغريب: ما تفرد به واحد، وقد يكون ثقة، وقد يكون ضعيفا، ولكل حكمه. فإن اشترك اثنان أو ثلاثة في روايته عن الشيخ سمي «عزيزا»، فإن رواه عنه جماعة سمي «مشهورا» كما تقدم، والله أعلم.

أقسام الصحيح من حيث القوة

أقسام الصحيح من حيث القوة قال ابن الصلاح في مقدمته: إذا انتهى الأمر في معرفة الصحيح إلى ما خرجه الأئمة في تصانيفهم الكفيلة ببيان ذلك، فالحاجة ماسة إلى التنبيه على أقسامه. فأولها: صحيح أخرجه البخاري ومسلم جميعا. والثاني: صحيح انفرد به البخاري: أي عن مسلم. الثالث: صحيح انفرد به مسلم: أي عن البخاري. الرابع: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. الخامس: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه. السادس: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه. السابع: صحيح عند غيرهما وليس على شرط واحد منهما. هذه أمهات أقسامه، وأعلاها الأول. وهو الذي يقول فيه أهل الحديث كثيرا «صحيح متفق عليه» يطلقون ذلك ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم، لا اتفاق الأمة عليه. لكن اتفاق الأمة عليه لازم من ذلك وحاصل معه؛ لاتفاقها على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول. وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته والعلم اليقيني النظري واقع به. خلافا لقول من نفى ذلك محتجّا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول؛ لأنه يجب عليهم العمل بالظن والظن قد يخطئ. وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويّا ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولا هو الصحيح؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ. والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حجة مقطوعا بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك. وهذه نكتة نفيسة نافعة. ومن فوائدها: القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره وهي معروفة عند أهل هذا الشأن. (ورجح بعض العلماء أن مراد الدارقطني أن الأحاديث التي انتقدها ليست في المستوى العالي الذي جاءت عليه أحاديث البخاري ومسلم. لا أنها أحاديث ضعيفة وهذا هو القول الراجح عند المحققين).

حكم المعلق في البخاري ومسلم

حكم المعلق في البخاري ومسلم ما أسنده البخاري ومسلم رحمهما الله في كتابيهما بالإسناد المتصل، فذلك الذي حكمناه بصحته بلا إشكال. وأما «المعلق» وهو الذي حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر، وأغلب ما وقع ذلك في كتاب البخاري وهو في كتاب مسلم قليل جدّا، ففي بعضه نظر. وينبغي أن نقول: ما كان من ذلك ونحوه بلفظ فيه جزم وحكم به على من علقه فقد حكم بصحته عنه، مثاله: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كذا وكذا، قال ابن عباس كذا، قال مجاهد كذا، قال عفان كذا، قال القعنبي كذا، روى أبو هريرة كذا وكذا، وما أشبه ذلك من العبارات، فكل ذلك حكم منه على من ذكره عنه بأنه قد قال ذلك ورواه، فلن يستجيز إطلاق ذلك إلا إذا صح عنده ذلك عنه، ثم إذا كان الذي علق الحديث عنه دون الصحابة فالحكم بصحته يتوقف على اتصال الإسناد بينه وبين الصحابي. وأما ما لم يكن في لفظه جزم وحكم. مثل: روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو روي عن فلان كذا وكذا، أو في الباب عن النبي صلّى الله عليه وسلم كذا وكذا، فهذا وما أشبهه من الألفاظ ليس في شيء منه بصحة ذلك عمن ذكره عنه؛ لأن مثل هذه العبارات تستعمل في الحديث الضعيف- أيضا، ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارا يؤنس به ويركن إليه. اه ابن الصلاح. الفرق بين: صحيح وصحيح الإسناد قولهم: هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد. دون قولهم: هذا حديث صحيح أو حديث حسن؛ لأنه قد قال: هذا حديث صحيح الإسناد. ولا يصح؛ لكونه شاذّا أو معللا، غير أن المصنّف المعتمد منهم إذا اقتصر على قوله: إنه صحيح الإسناد ولم يذكر له علة ولم يقدح فيه، فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح في نفسه؛ لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر. متى يصير الحسن صحيحا؟ إذا كان راوي الحديث متأخرا عن درجة أهل الحفظ والإتقان غير أنه من المشهورين بالصدق والسّتر، وروي مع ذلك حديثه من غير وجه فقد اجتمعت له القوة من الجهتين، وذلك يرقّي حديثه من درجة الحسن إلى درجة الصحيح.

متى يكون الضعيف قويا

مثاله: حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» فمحمد بن عمرو بن علقمة من المشهورين بالصدق والصيانة، لكنه لم يكن من أهل الإتقان حتى ضعفه بعضهم من جهة سوء حفظه ووثقه بعضهم لصدقه وجلالته، فحديثه من هذه الجهة حسن، فلما انضم إلى ذلك كونه روي من أوجه أخر زال بذلك ما كنا نخشاه عليه من جهة سوء حفظه وانجبر به ذلك النقص اليسير، فصح هذا الإسناد والتحق بدرجة الصحيح، والله أعلم. اه ابن الصلاح. متى يكون الضعيف قويّا لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحاديث محكوما بضعفها مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة مثل حديث: «الأذنان من الرأس» ونحوه فهلا جعلتم ذلك وأمثاله من نوع الحسن؛ لأن بعض ذلك عضد بعضا كما قلتم في نوع الحسن على ما سبق آنفا؟. وجواب ذلك: أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة. فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر؛ عرفنا أنه مما قد حفظه ولم يختلّ فيه ضبطه له. وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ؛ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر، ومن ذلك: ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب، أو كون الحديث شاذّا، وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة، والله أعلم. أول من جمع صحاح الحديث أول من اعتنى بجمع الصحيح: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وتلاه صاحبه وتلميذه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري. فهما أصح كتب الحديث، والبخاري أرجح؛ لأنه اشترط في إخراجه الحديث في كتابه هذا: أن يكون الراوي قد عاصر شيخه وثبت عنده سماعه منه، ولم يشترط مسلم الثاني، بل اكتفى بمجرد المعاصرة. ومن هنا ينفصل لك النزاع في ترجيح صحيح البخاري على صحيح مسلم، كما هو قول الجمهور، خلافا لأبي علي النيسابوري شيخ الحاكم، وطائفة من علماء المغرب.

عدد ما في الصحيحين من الحديث

ثم إن البخاري ومسلما لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث؛ فإنهما قد صححا أحاديث ليست في كتابيهما، كما ينقل الترمذي وغيره عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده، بل في السنن وغيرها. عدد ما في الصحيحين من الحديث قال ابن الصلاح: جميع ما في البخاري بالمكرر: سبعة آلاف حديث ومائتان وخمسة وسبعون حديثا. وبغير المكرر أربعة آلاف. وقال أحمد شاكر: الذي حرره الحافظ ابن حجر في مقدمته فتح الباري: أن عدة ما في البخاري من المتون الموصولة بلا تكرار (2602) ومن المتون المعلقة المرفوعة (159). فمجموع ذلك (2761). وأن عدة أحاديثه بالمكرر وبما فيه من التعليقات والمتابعات واختلاف الروايات (9082). وهذا غير ما فيه من الموقوف على الصحابة وأقوال التابعين. وجميع ما في صحيح مسلم بلا تكرار: نحو أربعة آلاف حديث. قال العراقي: وهو بالمكرر يزيد على عدة كتاب البخاري: لكثرة طرقه. قال: وقد رأيت عن أبي الفضل أحمد بن مسلمة أنه اثنا عشر ألف حديث. اه. الزيادات على الصحيحين قال في الباعث الحثيث: وقد خرّجت كتب كثيرة على الصحيحين يؤخذ منها زيادات مفيدة، وأسانيد جيدة، كصحيح أبي عوانة، وأبي بكر الإسماعيلي، والبرقاني وأبي نعيم الأصبهاني، وغيرهم، وكتب أخر التزم أصحابها صحتها، كابن خزيمة، وابن حبان البستي، وهما خير من المستدرك بكثير، وأنظف أسانيدا ومتونا. وكذلك يوجد في مسند الإمام أحمد من الأسانيد والمتون شيء كثير مما يوازي كثيرا من أحاديث مسلم، بل والبخاري أيضا، وليست عندهما ولا عند أحدهما، بل ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الأربعة، وهم: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال أحمد شاكر: هذا كلام جيد محقق فإن «المسند» للإمام أحمد بن حنبل، وهو عندنا أعظم دواوين السنة. وفيه أحاديث صحاح كثيرة لم تخرج في الكتب الستة، كما قال الحافظ ابن كثير. قال في الباعث: وكذلك يوجد في معجمي الطبراني الكبير والأوسط، ومسندي أبي يعلى

موطأ مالك

والبزار، وغير ذلك من المسانيد والمعاجم والفوائد والأجزاء: ما يتمكن المتبحر في هذا الشأن من الحكم بصحة كثير منه، بعد النظر في حال رجاله وسلامته من التعليل المفسد. اه. وقد جمع الحافظ الهيثمي (المتوفي سنة 807 هـ) زوائد ستة كتب. وهي: مسند أحمد، وأبي يعلى، والبزار، ومعاجم الطبراني الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير على الكتب الستة، أي ما رواه هؤلاء الأئمة الأربعة في كتبهم زائدا على ما في الكتب الستة المعروفة، وهي: الصحيحان والسنن الأربعة. فكان كتابا حافلا نافعا سماه «مجمع الزوائد»، طبع بمصر سنة (1352) في عشرة مجلدات كبار. وتكلم فيه على إسناد كل حديث، مع نسبته إلى من رواه منهم، والمتتبع له يجد أن الصحيح منها كثير يزيد على النصف، وأن أكثر الصحيح هو ما رواه الإمام أحمد في مسنده. ويجوز له الإقدام على ذلك، وإن لم ينص على صحته حافظ قبله، موافقة للشيخ أبي زكريا يحيى النووي، وخلافا للشيخ أبي عمرو بن الصلاح الذي ذهب إلى أنه قد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد، ومنع- بناء على هذا- من الجزم بصحة حديث لم نجده في أحد الصحيحين ولا منصوصا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة. وبنى على قوله هذا: أن ما صححه الحاكم من الأحاديث ولم نجد فيه لغيره من المعتمدين تصحيحا ولا تضعيفا: حكمنا بأنه حسن، إلا أن يظهر فيه علة توجب ضعفه، وقد رد العراقي وغيره قول ابن الصلاح هذا، وأجازوا لمن تمكن وقويت معرفته أن يحكم بالصحة أو بالضعف على الحديث، بعد الفحص عن إسناده وعلله وهو الصواب. والذي أراه أن ابن الصلاح ذهب إلى ما ذهب إليه بناء على القول بمنع الاجتهاد بعد الأئمة، فكما حظروا الاجتهاد في الفقه أراد ابن الصلاح أن يمنع الاجتهاد في الحديث. وهيهات فالقول بمنع الاجتهاد قول باطل، لا برهان عليه من كتاب ولا سنة ولا تجد له شبه دليل. اه. أحمد شاكر. موطأ مالك (تنبيه) قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: لا أعلم كتابا في هذا العلم أكثر صوابا من كتاب مالك، إنما قاله قبل البخاري ومسلم. وقد كانت كتب كثيرة مصنفة في ذلك الوقت في السنن، لابن جريج، وابن إسحاق- غير السيرة- ولأبي قرّة موسى بن طارق الزبيدي، ومصنف عبد الرزاق بن همام، وغير ذلك.

إطلاق اسم الصحيح على الترمذي والنسائي

وكان كتاب مالك وهو (الموطأ) أجلّها وأعظمها نفعا، وإن كان بعضها أكبر حجما منه وأكثر أحاديث. قال السيوطي في شرح الموطأ: الصواب إطلاق أن الموطأ صحيح، لا يستثنى منه شيء «1» وهذا غير صواب، والحق أن ما في (الموطأ) من الأحاديث الموصولة المرفوعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صحاح كلها، بل هي في الصحة كأحاديث الصحيحين، وأن ما فيه من المراسيل والبلاغات وغيرها يعتبر فيها ما يعتبر في أمثالها، مما تحويه الكتب الأخرى. وإنما لم يعدّ في الكتب الصحاح لكثرتها وكثرة الآراء الفقهية لمالك وغيره. ثم إن (الموطأ) رواه عن مالك كثير من الأئمة، والذي في أيدينا منه رواية يحيى الليثي، وهي المشهورة الآن. ورواية محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وهي مطبوعة في الهند. وقد طلب المنصور من الإمام مالك أن يجمع الناس على كتابه، فلم يجبه إلى ذلك. وذلك من تمام علمه واتصافه بالإنصاف، وقال: إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطّلع عليها. وقد اعتنى الناس بكتابة (الموطأ) وعلقوا عليه كتبا جمّة. ومن أجود ذلك كتابا (التمهيد)، و (الاستذكار) للشيخ أبي عمر ابن عبد البر النّمري القرطبي. اه من الباعث وشرحه. إطلاق اسم الصحيح على الترمذي والنسائي كان الحاكم أبو عبد الله، والخطيب البغدادي يسميان كتاب الترمذي: «الجامع الصحيح». وهذا تساهل منهما. فإن فيه أحاديث كثيرة منكرة. وقول الحافظ أبي علي ابن السكن، وكذا الخطيب البغدادي في كتاب «السنن» للنسائي: إنه صحيح، فيه نظر. وإن له شرطا في الرجال أشدّ من شرط مسلم غير مسلّم؛ فإن فيه رجالا مجهولين: إما عينا، وإما حالا، وفيهم المجروح، وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة، كما نبهنا عليه في «الأحكام الكبير». اه. ابن كثير. مسند الإمام أحمد وأما قول الحافظ أبي موسى محمد بن أبي بكر المديني عن مسند الإمام أحمد: إنه صحيح: فقول ضعيف، فإن فيه أحاديث ضعيفة، بل وموضوعة، كأحاديث فضائل مرو، وعسقلان، والبرث (الأرض اللينة) الأحمر عند حمص، وغير ذلك كما قد نبه

_ (1) شرح الموطأ للسيوطي ص: 8.

الكتب الخمسة

عليه طائفة من الحفاظ. وللشيخ ابن تيمية كلام حسن في ذلك ذكره في (التوسل والوسيلة) محصلة، إن كان المراد بالموضوع ما في سنده كذاب فليس في المسند من ذلك شيء، وإن كان المراد ما لم يقله النبي صلّى الله عليه وسلم، لغلط راويه وسوء حفظه. ففي المسند والسنن من ذلك كثير. الكتب الخمسة وقول الحافظ أبي طاهر السلفي في الأصول الخمسة يعني البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، إنه اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب: تساهل منه. وقد أنكره ابن الصلاح وغيره. قال ابن الصلاح: وهي مع ذلك أعلى رتبة من كتب المسانيد كمسند عبد بن حميد، والدارمي، وأحمد بن حنبل، وأبي يعلى والبزار، وأبي داود الطيالسي، والحسن بن سفيان، وإسحاق بن راهويه، وعبيد الله بن موسى وغيرهم. اه. ابن كثير. الحديث الحسن قال الإمام النووي في مقدمته على شرح صحيح مسلم: وأما الحسن فقد تقدم قول الخطابي رحمه الله: أنه ما عرف مخرجه واشتهر رجاله. وقال أبو عيسى الترمذي: الحسن: ما ليس في إسناده من يتهم وليس بشاذ وروي من غير وجه. وضبط الشيخ الإمام أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله الحسن فقال: هو قسمان: أحدهما: الذي لا يخلو إسناده من مستور لم تتحقق أهليته وليس كثير الخطأ فيما يرويه ولا ظهر منه تعمد الكذب ولا سبب آخر مفسّق، ويكون متن الحديث قد عرف بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر. القسم الثاني: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، ولم يبلغ درجة رجال الصحيح لقصوره عنهم في الحفظ والإتقان، إلا أنه مرتفع عن حال من يعد تفرده منكرا. قال: وعلى القسم الأول ينزل كلام الترمذي، وعلى الثاني كلام الخطابي فاقتصر كل واحد منهما على قسم رآه خفيّا، ولا بد في القسمين من سلامتهما من الشذوذ والعلة. ثم الحسن وإن كان دون الصحيح فهو كالصحيح في جواز الاحتجاج به.

الترمذي أصل في معرفة الحسن

وأما الضعيف: فهو ما لم يوجد فيه شروط الصحة ولا شروط الحسن. وأنواعه كثيرة منها: الموضوع، والمقلوب، والشاذ، والمعلل، والمضطرب وغير ذلك. ولهذه الأنواع حدود وأحكام وتفريعات معروفة عند أهل هذه الصنعة، وقد أتقنها مع ما يحتاج إليه طالب الحديث من الأدوات والمقدمات ويستعين به في جميع الحالات الإمام الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه «علوم الحديث». الترمذي أصل في معرفة الحسن قال ابن الصلاح في علوم الحديث: كتاب أبي عيسى الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نوه باسمه وأكثر من ذكره في جامعه، ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطبقة التي قبله كأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهما، ويختلف النسخ من كلام الترمذي في قوله: هذا حديث حسن، وهذا حديث حسن صحيح، ونحو ذلك؛ فينبغي أن تصحح أصلك بجماعة أصول، وتعتمد ما اتفقت عليه. أبو داود سننه من مظان الحسن قال: ومن مظانه سنن أبي داود، روينا عنه أنه قال: ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض. قال: وروي عنه أنه يذكر في كل باب أصح ما عرف فيه. (قلت): ويروى عنه أنه قال: وما سكتّ عنه فهو حسن. قال ابن الصلاح: فما وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا، وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد فهو حسن عند أبي داود. (قلت): الروايات عن أبي داود بكتابه «السنن» كثيرة جدّا ويوجد في بعضها من الكلام، بل والأحاديث ما ليس في الأخرى، ولأبي عبيد الآجرّي عنه أسئلة في الجرح والتعديل، والتصحيح والتعليل، كتاب مفيد. ومن ذلك أحاديث ورجال قد ذكرها في سننه. فقوله: «وما سكتّ عنه فهو حسن» ما سكت عنه في سننه فقط؟ أو مطلقا؟. هذا مما ينبغي التنبيه عليه، والتيقظ له. فائدة: وقال: الحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه الحكم بذلك على

مفهوم قول الترمذي: حسن صحيح

المتن؛ إذ قد يكون شاذّا أو معللا. اه من الباعث الحثيث. مفهوم قول الترمذي: حسن صحيح قول الترمذي في جامعه: هذا حديث حسن صحيح مشكل عند رجال الحديث، إذ كيف يتأتى الجمع في حديث واحد بين الصحة والحسن بعد أن عرفنا أن لكل منهما تعريفا خاصّا به؟ وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة كثيرة لم تسلم كلها من النقد، والإجابة التي ارتضاها الحافظ ابن حجر هي إجابة ابن دقيق العيد حيث قال: والذي أقول في جواب هذا السؤال: إنه لا يشترط في الحسن قيد القصور عن الصحيح، وإنما يجيئه القصور ويفهم ذلك فيه إذا اقتصر على قوله «حسن». فالقصور يأتيه من قيد الاقتصار لا من حيث حقيقته وذاته. وشرح ذلك وبيانه: أن ها هنا صفات للرواة تقتضي قبول الرواية، ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض، كالتيقظ، والحفظ، والإتقان مثلا؛ فوجود الدرجة الدنيا كالصدق، وعدم التهمة بالكذب، لا ينافيه وجود ما هو أعلى منه كالحفظ والإتقان. فإذا وجدت الدرجة العليا لم يناف ذلك وجود الدنيا كالحفظ مع الصدق، فيصح أن يقال في هذا إنه حسن باعتبار وجود الصفة الدنيا وهي الصدق مثلا، صحيح باعتبار الصفة العليا وهي الحفظ والإتقان، ويلزم على هذا أن يكون كل صحيح حسنا، ويؤيده ورود قولهم: هذا حديث حسن في الأحاديث الصحيحة، وهذا موجود في كلام المتقدمين. اه. حكم الحديث الموقوف قال النووي: إذا قال الصحابي قولا أو فعل فعلا فقد قدمنا أنه يسمى «موقوفا»، وهل يحتج به؟ فيه تفصيل واختلاف. قال أصحابنا: إن لم ينتشر فليس هو إجماعا، وهل هو حجة؟ فيه قولان للشافعي رحمه الله تعالى وهما مشهوران، أصحهما الجديد: أنه ليس بحجة، والثاني وهو القديم: أنه حجة. فإن قلنا حجة؛ قدّم على القياس، ولزم التابعيّ وغيره العمل به، ولم تجز مخالفته. وهل يخص به العموم؟ فيه وجهان. وإذا قلنا: ليس بحجة؛ فالقياس مقدم عليه، ويجوز للتابعي مخالفته.

المعنعن

فأما إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم على قولين، فإن قلنا بالجديد؛ لم يجز تقليد واحد من الفريقين بل يطلب الدليل، وإن قلنا بالقديم؛ فهما دليلان تعارضا فيرجح أحدهما على الآخر بالمرجحات المعتمدة. أما إذا قال التابعي قولا ولم ينتشر؛ فليس بحجة بلا خلاف، وإن انتشر وخولف؛ فليس بحجة بلا خلاف أيضا، وإن انتشر ولم يخالف؛ فظاهر كلام جماهير أصحابنا أن حكمه حكم قول الصحابي المنتشر من غير مخالفة، وحكى بعض أصحابنا فيه وجهين: أصحهما هذا، والثاني ليس بحجة. قال صاحب الشامل من أصحابنا: الصحيح أنه يكون إجماعا وهذا هو الأفقه، ولا فرق في هذا بين الصحابي والتابعي. المعنعن الإسناد المعنعن وهو فلان عن فلان. قال بعض العلماء: هو مرسل، والصحيح الذي عليه العمل، وقاله الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول: أنه متصل بشرط أن يكون المعنعن غير مدلس، وبشرط إمكان لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا، وفي اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ومعرفته بالرواية عنه خلاف. منهم من لم يشترط شيئا من ذلك، وهو مذهب مسلم، وادعى الإجماع عليه. ومنهم من شرط ثبوت اللقاء وحده وهو مذهب عليّ بن المديني والبخاري، وأبو بكر الصيرفي الشافعي، والمحققين، وهو الصحيح. ومنهم من شرط الصحبة وهو قول أبي المظفر السمعاني الفقيه الشافعي، ومنهم من شرط أن يكون معروفا بالرواية عنه، وبه قال أبو عمرو المقرئ. الحديث المؤنن وأما إذا قال: حدثنا الزهري، أن ابن المسيب قال كذا، أو حدث بكذا، أو فعل أو ذكر أو روى أو نحو ذلك؛ فإنه يسمى «المؤنن». وحكمه أنه عند الجماهير مثل المعنعن، محمول على السماع بالشرط المتقدم، وهذا هو الصحيح. اه. النووي.

الاعتبار والمتابعة والشاهد

الاعتبار والمتابعة والشاهد إذا روى حماد مثلا حديثا، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ينظر هل رواه ثقة غير حماد عن أيوب أو عن ابن سيرين غير أيوب أو عن أبي هريرة غير ابن سيرين، أو عن النبي صلّى الله عليه وسلم غير أبي هريرة؛ فأي ذلك وجد علم أن له أصلا يرجع إليه، فهذا النظر والتفتيش يسمّى اعتبارا. المتابعة المتابعة: مثل أن يروى الحديث عن أيوب غير حماد، أو عن ابن سيرين غير أيوب، أو عن أبي هريرة غير ابن سيرين، أو عن النبي صلّى الله عليه وسلم غير أبي هريرة؛ فكل واحد من هذه الأقسام يسمّى «متابعة» وأعلاها الأولى؛ وهي متابعة حماد في الرواية عن أيوب، ثم ما بعدها على الترتيب. الشاهد الشاهد هو: أن يروى حديث آخر بمعناه. وتسمّى المتابعة شاهدا، ولا يسمى الشاهد متابعة. وإذا قالوا في نحو هذا: تفرد به أبو هريرة، أو ابن سيرين، أو أيوب، أو حماد؛ كان مشعرا بانتفاء وجوه المتابعات كلها. واعلم أنه يدخل في المتابعات والاستشهاد رواية بعض الضعفاء، ولا يصلح لذلك كل ضعيف، وإنما يفعلون هذا لكون التابع لا اعتماد عليه، وإنما الاعتماد على من قبله. الشاذ والمنكر إذا انتفت المتابعات، وتمحض فردا فله أربعة أحوال: - حال يكون مخالفا لرواية من هو أحفظ منه، فهذا ضعيف، ويسمى شاذّا ومنكرا. - وحال لا يكون مخالفا ويكون هذا الراوي حافظا ضابطا متقنا، فيكون صحيحا. - وحال يكون قاصرا عن هذا الراوي، ولكنه قريب من درجته، فيكون حديثه حسنا.

القول في خلط الثقة

- وحال يكون بعيدا عن حاله فيكون شاذّا منكرا مردودا. فتحصل أن الفرد قسمان: مقبول ومردود، والمقبول ضربان: فرد لا يخالف، وراويه كامل الأهلية. وفرد هو قريب منه. والمردود- أيضا- ضربان: فرد مخالف للأحفظ، وفرد ليس في راويه من الحفظ والإتقان ما يجبر تفردا. القول في خلط الثقة إذا خلط الثقة لاختلال ضبطه بخرف أو هرم، أو لذهاب بصره أو نحو ذلك، قبل حديث من أخذ عنه قبل الاختلاط، ولا يقبل حديث من أخذ عنه بعد الاختلاط، أو شككنا في وقت أخذه. فمن الخالطين: عطاء بن السائب، وأبو إسحاق السبيعي، وسعيد الجريري، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، وربيعة أستاذ مالك، وصالح مولى التوأمة، وحصين بن عبد الوهاب الكوفي، وسفيان بن عيينة. قال يحيى القطان: أشهد أنه اختلط سنة سبع وتسعين، وتوفى سنة تسع وتسعين، وعبد الرزاق بن همام عمي في آخر عمره وكان يتلقن، وعارم اختلط آخرا، واعلم أن ما كان من هذا القبيل محتجّا به في الصحيحين فهو مما علم أنه أخذ قبل الاختلاط. بيان الناسخ والمنسوخ هذه أحرف مختصرة في بيان الناسخ والمنسوخ، وحكم الحديثين المختلفين ظاهرا. أما النسخ: فهو رفع الشارع حكما منه، متقدما بحكم منه متأخر. هذا هو المختار في حدّه، وقد قيل فيه غير ذلك، وقد أدخل فيه كثيرون أو الأكثرون من المصنفين في الحديث ما ليس منه، بل هو من قسم التخصيص أو ليس منسوخا ولا مخصصا بل مؤولا أو غير ذلك. بم يعرف النسخ؟ النسخ يعرف بأمور: منها: تصريح رسول الله صلّى الله عليه وسلم به: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها». ومنها: قول الصحابي: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار.

معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد روايته

ومنها: ما يعرف بالتاريخ. ومنها: ما يعرف بالإجماع، كقتل شارب الخمر في المرة الرابعة؛ فإنه منسوخ عرف نسخه بالإجماع. والإجماع لا ينسخ ولا ينسخ لكن يدل على وجود ناسخ. وأما إذا تعارض حديثان في الظاهر؛ فلا بد من الجمع بينهما أو ترجيح أحدهما، وإنما يقوم بذلك غالبا الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه، والأصوليون المتمكنون في ذلك، الغائصون على المعاني الدقيقة، الرائضون أنفسهم في ذلك، فمن كان بهذه الصفة؛ لم يشكل عليه شيء من ذلك، إلا النادر في بعض الأحيان. ثم المختلف قسمان: أحدهما: يمكن الجمع بينهما فيتعين، ويجب العمل بالحديثين جميعا، ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة، تعين المصير إليه، ولا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع؛ لأن في النسخ إخراج أحد الحديثين عن كونه مما يعمل به. ومثال الجمع: «لا عدوى» مع حديث: «لا يورد ممرض على مصحّ» وجه الجمع: أن الأمراض لا تتعدى بطبعها، ولكن جعل الله سبحانه وتعالى مخالطتها سببا للإعداء، فنفى في الحديث الأول ما يعتقده الجاهلية من العدوى بطبعها، وأرشد في الثاني إلى مجانبة ما يحصل عنده الضرر عادة بقضاء الله وقدره وفعله. القسم الثاني: أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمع بوجه، فإن علمنا أحدهما ناسخا قدمناه وإلا عملنا بالراجح منهما، كالترجيح بكثرة الرواة وصفاتهم وسائر وجوه الترجيح، وهي نحو خمسين وجها، جمعها الحافظ أبو بكر الحازمي في أول كتابه «الناسخ والمنسوخ». معرفة صفة من تقبل روايته ومن تردّ روايته أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ضابطا لما يرويه، وتفصيله أن يكون مسلما، بالغا، عاقلا، سالما من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظا غير مغفل، حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه، وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يغير المعاني، وقد سبق الكلام في شروط قبول رواية الراوي بما لا مزيد عليه، ولكن توجد أمور لا بد من الكلام فيها لتكتمل الصورة، وهي ما نبينه فيما يأتي:

بما تثبت عدالة الراوي وضبطه؟

بما تثبت عدالة الراوي وضبطه؟ عدالة الراوي تارة تثبت بتنصيص معدّلين على عدالته، وتارة تثبت بالاستفاضة، فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم، وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة؛ استغنى فيه بذلك عن بينة شاهدة بعدالته تنصيصا، وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه. وممن ذكر ذلك من أهل الحديث أبو بكر الخطيب الحافظ، ومثّل ذلك بمالك وشعبة، والسفيانين، والأوزاعي، والليث، وابن المبارك، ووكيع، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر، فلا يسأل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم، وإنما يسأل عن عدالة من خفي أمره على الطالبين. فائدة: التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور، لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها، فإن ذلك يحوج المعدّل إلى أن يقول: «لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا، فعل كذا وكذا» فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه، وذلك شاق جدّا. وأما الجرح: فإنه لا يقبل إلا مفسرا مبيّن السبب؛ لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحا وليس بجرح في نفس الأمر، فلا بد من بيان سببه لينظر فيه أهو جرح أم لا، وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله. وذكر الخطيب الحافظ أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده مثل: البخاري، ومسلم وغيرهما، ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، وكإسماعيل بن أبي أويس، وعاصم بن علي، وعمرو بن مرزوق، وغيرهم. واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم. وهكذا فعل أبو داود السجستاني، وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه، ومذاهب النقاد للرجال غامضة مختلفة. وعقد الخطيب بابا في بعض أخبار من استفسر في جرحه فذكر ما لا يصلح جارحا. منها: عن شعبة أنه قيل له: لم تركت حديث فلان؟ فقال: رأيته يركض على برذون، فتركت حديثه.

العدد الذي يثبت به الجرح والتعديل

العدد الذي يثبت به الجرح والتعديل اختلفوا في أنه هل يثبت الجرح والتعديل بقول واحد أو لا بد من اثنين؟ فمنهم من قال: لا يثبت ذلك إلا باثنين كما في الجرح والتعديل في الشهادات، ومنهم من قال- وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره-: أنه يثبت بواحد؛ لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله بخلاف الشهادات، والله أعلم. وإذا اجتمع في شخص جرح وتعديل؛ فالجرح مقدم؛ لأن المعدّل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدّل. فإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل: التعديل أولى. والصحيح الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى لما ذكرناه. رواية المجهول المجهول ههنا أقسام: أحدها: المجهول العدالة من حيث الظاهر والباطن جميعا وروايته غير مقبولة عند الجماهير على مانبهنا عليه أولا. الثاني: المجهول الذي جهلت عدالته الباطنة وهو عدل في الظاهر وهو المستور. فقد قال بعض أئمتنا: «المستور من يكون عدلا في الظاهر ولا تعرف عدالة باطنه». فهذا المجهول يحتج بروايته بعض من رد رواية الأول، وهو قول بعض الشافعيين، وبه قطع منهم الإمام سليم بن أيوب الرازي، قال: لأن أمر الأخبار مبني على حسن الظن بالراوي. قلت: ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم وتعذرت الخبرة الباطنة بهم، والله أعلم. الثالث: المجهول العين. وقد يقبل رواية المجهول العدالة من لا يقبل رواية المجهول العين. ومن روى عنه عدلان وعيّناه، فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة. ذكر أبو بكر الخطيب البغدادي في أجوبة مسائل سئل عنها: أن المجهول عند أصحاب الحديث: كل من لم تعرفه العلماء، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد مثل: عمرو ذي مر، وجبار الطائي، وسعيد بن ذي حدّان، لم يرو عنهم غير

حكم التائب من الكذب

أبي إسحاق السبيعي. ومثل: الهزهاز بن ميزن لا راوي عنه غير الشعبي. ومثل: جريّ ابن قليب لم يرو عنه إلا قتادة. قلت: قد روي عن الهزهار الثوري- أيضا-. قال الخطيب: «وأقل ما ترتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان من المشهورين بالعلم، إلا أنه لا يثبت لم حكم العدالة بروايتهما عنه». قلت: قد خرّج البخاري في صحيحه حديث جماعة ليس لهم غير راو واحد، منهم مرداس الأسلمي لم يرو عنه غير قيس بن حازم، وكذلك خرّج مسلم حديث قوم لا راوي لهم غير واحد، منهم: ربيعة بن كعب الأسلمي لم يرو عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن. وذلك منهما مصيرا إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولا مردودا برواية واحد عنه. والخلاف في ذلك متجه نحو اتجاه الخلاف المعروف في الاكتفاء بواحد في التعديل على ما قدمناه. والله أعلم. حكم التائب من الكذب التائب من الكذب في حديث الناس وغيره من أسباب الفسق تقبل روايته، إلا التائب من الكذب متعمدا في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه لا تقبل روايته أبدا، وإن حسنت توبته على ما ذكر من غير واحد من أهل العلم، منهم: أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري. وأطلق الإمام أبو بكر الصيرفي الشافعي فيما وجدت له في شرحه لرسالة الشافعي فقال: كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويّا بعد ذلك. وذكر أن ذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة. وذكر الإمام أبو مظفر السمعاني المروزي أن كل من كذب في خبر واحد، وجب إسقاط ما تقدم من حديثه، وهذا أيضا هو من حيث المعنى ما ذكره الصيرفي. اه من المقدمة بتصرف. حكم أخذ الأجرة على الحديث من أخذ على التحديث أجرا منع ذلك من قبول روايته عند قوم من أئمة الحديث. روينا عن إسحاق بن إبراهيم أنه سئل عن المحدث يحدث بالأجر؟ فقال: «لا يكتب عنه». وعن أحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي نحو ذلك. وترخص أبو نعيم الفضل

الحديث المعلل

ابن دكين وعليّ بن عبد العزيز المكي وآخرون، في أخذ العوض على التحديث، وذلك شبيه بأخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه، غير أن في هذا من حيث العرف خرما للمروءة، والظن يساء بفاعله؛ إلا أن يقترن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه. الحديث المعلل وهو فنّ خفي على كثير من علماء الحديث، حتى قال بعض حفّاظهم: معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل. وإنما يهتدي إلى هذا الفن الجهابذة النقاد منهم، يميزون بين صحيح الحديث وسقيمه، ومعوجّه ومستقيمه، كما يميز الصيرفي البصير بصنعته بين الجياد والزيوف والدنانير والفلوس. فكما لا يتمارى هذا، كذلك يقطع ذاك بما ذكرناه، ومنهم من يظن، ومنهم من يقف بحسب مراتب علومهم وحذقهم واطلاعهم على طرق الحديث وذوقهم حلاوة عبارة الرسول صلّى الله عليه وسلم التي لا يشبهها غيرها من ألفاظ الناس. فمن الأحاديث المروية: ما عليه أنوار النبوة، ومنها: ما وقع فيه تغيير لفظ أو زيادة باطلة أو مجازفة أو نحو ذلك، يدركها البصير من أهل هذه الصناعة. وقد يكون التعليل مستفادا من الإسناد، وبسط أمثلة ذلك يطول جدّا، وإنما يظهر بالعمل. ومن أحسن كتاب وضع في ذلك وأجلّه وأفحله (كتاب العلل) لعلي بن المديني شيخ البخاري. وسائر المحدثين بعده في هذا الشأن على الخصوص. وكذلك «كتاب العلل» لعبد الرحمن بن أبي حاتم وهو مرتب على أبواب الفقه، «وكتاب العلل» للخلّال. ويقع في مسند الحافظ أبي بكر البزار من التعاليل ما لا يوجد في غيره من المسانيد. وقد جمع أزمّة ما ذكرناه كله الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني في كتابه في ذلك، وهو من أجلّ الكتب، بل أجلّ ما رأيناه وضع في هذا الفن، لم يسبق إلى مثله، وقد أعجز من يريد أن يأتي بعده فرحمه الله وأكرم مثواه. اه من الباعث الحثيث. وقد قال أحمد شاكر معلقا: والحديث المعلول: هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن الظاهر سلامته منها. والطريق إلى معرفة العلل: جمع طرق الحديث، والنظر في اختلاف رواته، وفي ضبطهم وإتقانهم، فيقع في نفس العالم العارف بهذا الشأن أن الحديث معلول، ويغلب على ظنه، فيحكم بعدم صحته أو يتردد فيتوقف فيه. وربما تقصر عبارته عن إقامة الحجة على دعواه. قال عبد الرحمن بن مهدي: معرفة

علل الحديث إلهام، لو قلت للعالم بعلل الحديث: من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة، وكم من شخص لا يهتدي لذلك، وقيل له- أيضا-: إنك تقول للشيء: هذا صحيح، وهذا لم يثبت، فعمّن تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك، فقال: هذا جيد، وهذا بهرج، أكنت تسأل عن ذلك، أو تسلّم له الأمر؟! قال: بل أسلم له الأمر، قال: فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخبرة. وسئل أبو زرعة: «ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ فقال: الحجة أن تسألني عن حديث به علة فأذكر علته، ثم تقصد ابن وارة: يعني محمد بن مسلم بن وارة، وتسأله عنه فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم. فيعلله. ثم تميّز كلامنا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلافا فاعلم أن كلّا منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة، فاعلم حقيقة هذا العلم. ففعل الرجل ذلك، فاتفقت كلمتهم، فقال: أشهد أن هذا العلم إلهام». والعلة قد تكون بالإرسال في الموصول أو الوقف في المرفوع، أو بدخول حديث في حديث أو وهم واهم أو غير ذلك، مما يتبين للعارف بهذا الشأن من جمع الطرق ومقارنتها، ومن قرائن تنضم إلى ذلك. وأكثر ما تكون العلل في أسانيد الأحاديث فتقدح في الإسناد والمتن معا، إذا ظهر منها ضعف الحديث. وقد تقدح في الإسناد وحده، إذا كان الحديث مرويّا بإسناد آخر صحيح. مثل الحديث الذي رواه يعلى بن عبيد الطنافسي- أحد الثقات- عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار» ... الحديث، فهذا الإسناد متصل بنقل العدل عن العدل، وهو معلول، وإسناده غير صحيح، والمتن صحيح على كل حال؛ لأن يعلى بن عبيد غلط على سفيان في قوله: «عمرو بن دينار» وإنما صوابه «عبد الله بن دينار». هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان. كأبي نعيم الفضل بن دكين، ومحمد بن يوسف الفريابي، ومخلد بن يزيد وغيرهم، ورووه عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. وقد تقع العلة في متن الحديث، كالحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم: حدثنا الأوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه قال: صليت خلف النبي صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، ولا يذكرون «بسم الله الرحمن الرحيم» في أول قراءة ولا في آخرها. ثم رواه مسلم- أيضا- من رواية الوليد عن الأوزاعي. أخبرني إسحاق

الحديث المضطرب

ابن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنسا يذكر ذلك، قال ابن الصلاح في كتاب «علوم الحديث»: «فعلّل قوم رواية اللفظ المذكور- يعني التصريح بنفي قراءة البسملة- لمّا رأوا الأكثرين إنما قالوا فيه: فكانوا يستفتحون القراءة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ من غير تعرض لذكر البسملة، وهو الذي اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في الصحيح. ورأوا أن من رواه باللفظ المذكور رواه بالمعنى الذي وقع له، ففهم من قوله: «كانوا يستفتحون ب الْحَمْدُ لِلَّهِ: أنهم كانوا لا يبسملون، فرواه على ما فهم، وأخطأ؛ لأن معناه أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة، وليس فيه تعرض لذكر التسمية. وانضم إلى ذلك أمور: منها: أنه ثبت عن أنس أنه سئل عن الافتتاح بالتسمية، فذكر أنه لا يحفظ فيه شيئا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. والله أعلم». وقد أطال الحافظ العراقي في شرحه على ابن الصلاح الكلام على تعليل هذا الحديث، وكذلك السيوطي في التدريب. اه منه. الحديث المضطرب إذا جاء الحديث على أوجه مختلفة، في المتن أو في السند، من راو واحد، أو من أكثر، فإن رجّحت إحدى الروايتين أو الروايات بشيء من وجوه الترجيح- كحفظ راويها، أو ضبطه، أو كثرة صحبته لمن روى عنه- كانت الراجحة صحيحة، والمرجوحة شاذة أو منكرة. وإن تساوت الروايات وامتنع الترجيح: كان الحديث مضطربا، واضطرابه موجب لضعفه، إلا في حالة واحدة، وهي أن يقع الاختلاف في اسم راو أو اسم أبيه أو نسبته مثلا، ويكون الراوي ثقة؛ فإنه يحكم للحديث بالصحة، ولا يضر الاختلاف فيما ذكر، مع تسميتة مضطربا. وفي الصحيحين أحاديث كثيرة بهذه المثابة. وكذا جزم الزركشي بذلك في مختصره، فقال: «وقد يدخل القلب والشذوذ والاضطراب في قسم الصحيح والحسن» نقل ذلك السيوطي في التدريب. والاضطراب قد يكون في المتن فقط، وقد يكون في السند فقط، وقد يكون فيهما معا. مثال الاضطراب في الإسناد، على ما ذكر السيوطي في التدريب حديث أبي بكر: «أنه قال: يا رسول الله. أراك شبت؟ قال: «شيّبتني هود وأخواتها». قال الدارقطني: هذا حديث مضطرب؛ فإنه لم يرو إلا من طريق أبي إسحاق، وقد اختلف عليه فيه على نحو عشرة أوجه: فمنهم من رواه مرسلا، ومنهم من رواه موصولا،

المدرج

ومنهم من جعله من مسند أبي بكر، ومنهم من جعله من مسند سعد، ومنهم من جعله من مسند عائشة، ورواته ثقات، لا يمكن ترجيح بعضهم على بعض، والجمع متعذر. ومثله: حديث مجاهد عن الحكم بن سفيان عن النبي صلّى الله عليه وسلم في نضح الفرج بعد الوضوء، قد اختلف فيه على عشرة أقوال. ومثال الاضطراب في المتن: حديث التسمية في الصلاة السابق في «المعلّل»، قال السيوطي: فإن ابن عبد البر أعله بالاضطراب، كما تقدم، والمضطرب يجامع المعلل؛ لأنه قد تكون علته ذلك. وأمثلة المضطرب كثيرة. وقد ألف الحافظ ابن حجر كتابا فيه سماه «المقترب في بيان المضطرب». قال المتبولي في مقدمة شرحه على الجامع الصغير: أفاد وأجاد، وقد التقطه من كتاب العلل للدارقطني. اه أحمد شاكر. المدرج الحديث المدرج: ما كان فيه زيادة ليست منه. وهو إما مدرج في المتن، وإما مدرج في الإسناد. هكذا قسمه السيوطي وغيره. والإدراج في الحقيقة إنما يكون في المتن كما سيأتي. ويعرف المدرج بوروده منفصلا في رواية أخرى. أو بالنص على ذلك من الراوي أو من بعض الأئمة المطلعين، أو باستحالة كونه صلّى الله عليه وسلم يقول ذلك. ومدرج المتن: هو أن يدخل في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيء من كلام بعض الرواة. وقد يكون في أول الحديث، أو في وسطه، أو في آخره. وهو الأكثر. فيتوهم من يسمع الحديث أن هذا الكلام منه. مثال المدرج في أول الحديث: ما رواه الخطيب من رواية أبي قطن وشبابة عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار». فقوله: «أسبغوا الوضوء» مدرج من قول أبي هريرة، كما بيّن في رواية البخاري عن آدم عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم صلّى الله عليه وسلم قال: «ويل للأعقاب من النار» قال الخطيب: «وهم أبو قطن وشبابة في روايتهما له عن شعبة على ما سقناه، وقد رواه الجمّ الغفير عنه كرواية آدم» نقله في التدريب. ومثال المدرج في الوسط: ما رواه الدارقطني في السنن من طريق عبد الحميد بن جعفر عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة بنت صفوان قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:

«من مسّ ذكره، أو أنثييه، أو رفغيه، فليتوضأ» قال الدارقطني: كذا رواه عبد الحميد عن هشام، ووهم في ذكر الأنثيين والرفغين، وأدرجه كذلك في حديث بسرة، والمحفوظ أن ذلك قول عروة، وكذا رواه الثقات عن هشام، منهم: أيوب، وحماد ابن زيد وغيرهما، ثم رواه من طريق أيوب بلفظ: «من مس ذكره فليتوضأ» قال: وكان عروة يقول: إذا مس رفغيه أو أنثييه أو ذكره فليتوضأ. وكذا قال الخطيب. فعروة لما فهم من لفظ الخبر أن سبب نقض الوضوء مظنة الشهوة، جعل حكم ما قرب من الذكر كذلك. فقال ذلك، فظن بعض الرواة أنه من صلب الخبر، فنقله مدرجا فيه، وفهم الآخرون حقيقة الحال ففصلوا. قاله في التدريب. وقد يكون الإدراج في الوسط على سبيل التفسير من الراوي لكلمة من الغريب. مثل: حديث عائشة في بدء الوحي في البخاري وغيره: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء- وهو التعبد الليالي ذوات العدد- فهذ التفسير من قول الزهري أدرج في الحديث. وكذا حديث فضالة مرفوعا عند النسائي: «أنا زعيم- والزعيم الحميل- لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة» فقوله «والزعيم الحميل» مدرج من تفسير ابن وهب. ومثال في آخر الحديث: ما رواه أبو داود من طريق زهير بن معاوية عن الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة عن علقمة عن ابن مسعود: حديث التشهد، وفي آخره: «إذا قلت هذا، أو قضيت هذا، فقد قضيت صلاتك، وإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد». فهذه الجملة وصلها زهير بالحديث المرفوع، وهي مدرجة من كلام ابن مسعود، كما نص عليه الحاكم والبيهقي والخطيب. ونقل النووي في الخلاصة اتفاق الحفاظ على أنها مدرجة- ومن الدليل على إدراجها: أن حسينا الجعفي وابن عجلان وغيرهما رووا الحديث عن الحسن بن الحر بدون ذكرها، وكذلك كل من روى التشهد عن علقمة أو غيره عن ابن مسعود، وأن شبابة بن سوار، وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان- وهما ثقتان- رويا الحديث عن الحسن بن الحر، ورويا فيه هذه الجملة، وفصلاها منه وبينا أنها من كلام ابن مسعود. فهذا التفصيل والبيان- مع اتفاق سائر الرواة على حذفها من المرفوع-: يؤيدان أنها مدرجة وأن زهيرا وهم في روايته. مثال آخر: في الصحيح عن أبي هريرة مرفوعا: «للعبد المملوك أجران». والذي نفسي بيده لولا الجهاد والحج وبرّ أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك. فهذا مما يتبين فيه بداهة أن قوله: والذي نفسي بيده ... إلخ مدرج من قول أبي

حكم الإدراج

هريرة لاستحالة أن يقوله النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأن أمه ماتت وهو صغير، ولأنه يمتنع منه صلّى الله عليه وسلم أن يتمنى الرق وهو أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام. هذا مدرج المتن. وأمّا مدرج الإسناد: ومرجعه في الحقيقة إلى المتن: فهو ثلاثة أقسام؛ ولا نجد الحاجة ماسة إلى ذكرها، وفيما سبق كفاية ومن أراد المزيد فعليه بتعليق أحمد شاكر على الباعث الحثيث. حكم الإدراج الإدراج لتفسير شيء من معنى الحديث، فيه بعض التسامح، والأولى أن ينص الراوي على بيانه. وأما ما وقع من الراوي خطأ غير عمد، فلا حرج على المخطئ إلا إن كثر خطؤه، فيكون جرحا في ضبطه وإتقانه. وأما إن كان من الراوي عن عمد؛ فإنه حرام كله على اختلاف أنواعه باتفاق أهل الحديث والفقه والأصول وغيرهم، لما يتضمن من التلبيس والتدليس، ومن عزو القول إلى غير قائله. قال السمعاني: من تعمد الإدراج فهو ساقط العدالة وممن يحرّف الكلم عن مواضعه، وهو ملحق بالكذابين. الحديث الموضوع ويدل على وضعه شواهد كثيرة، منها: إقرار واضعه على نفسه، بقوله أو بدلالة حاله، ومن ذلك: ركاكة ألفاظه، وفساد معناه، أو مجازفة فاحشة، أو مخالفة لما ثبت في الكتاب والسنة الصحيحة. نقل السيوطي في التدريب، عن ابن الجوزي قال: ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث الحسن يباين المعقول، أو يخالف المنقول أو يناقض الأصول؛ فاعلم أنه موضوع. قال: ومعنى مناقضته للأصول: أن يكون خارجا عن دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة، فلا تجوز روايته لأحد من الناس، إلا على سبيل القدح فيه ليحذره من يغترّ به من الجهلة والعوام والرعاع. والواضعون أقسام كثيرة: منهم زنادقة.

ومنهم متعبدون يحسبون أنهم يحسنون صنعا، يضعون أحاديث فيها ترغيب وترهيب في فضائل الأعمال ليعمل بها، وهؤلاء طائفة من الكرّامية وغيرهم، وهم أشر من فعل هذا، لما يحصل بضررهم من الغرر على كثير ممن يعتقد صلاحهم فيظن صدقهم، وهم شر من كل كذاب في هذا الباب. وقد انتقد الأئمة كل شيء فعلوه من ذلك، وسطروه عليهم في كتبهم، عارا على واضعي ذلك في الدنيا، ونارا وشنارا في الآخرة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» وهذا متواتر عنه. قال بعض هؤلاء الجهلة: نحن ما كذبنا عليه، وإنما كذبنا له: وهذا من كمال جهلهم، وقلة عقلهم، وكثرة فجورهم وافترائهم؛ فإنه عليه السّلام لا يحتاج في كمال شريعته وفضلها إلى غيره. وقد صنف الشيخ أبو الفرج بن الجوزي كتابا حافلا في الموضوعات (في مجلدين) غير أنه أدخل فيه ما ليس منه، وخرّج عنه ما كان يلزمه ذكره، وقد أخذ غالبه من كتاب الأباطيل للجوزقاني. ولكن أخطأ في بعض أحاديث انتقدها عليه الحفّاظ. قال الحافظ ابن حجر: غالب ما في كتاب ابن الجوزي موضوع، والذي ينتقد عليه بالنسبة إلى ما لا ينتقد قليل جدّا، وفيه من الضرر أن يظن ما ليس بموضوع موضوعا عكس الضرر بمستدرك الحاكم، حيث يظن ما ليس بصحيح صحيحا، ويتعين الاعتناء بانتقاد الكتابين في تساهلهما؛ عدم الانتفاع بهما إلا لعالم بالفن؛ لأنه ما من مادة حديث إلا ويمكن أن يكون قد وقع فيها التساهل. وقد لخص الحافظ السيوطي كتاب ابن الجوزي، وتتبع كلام الحفاظ في تلك الأحاديث خصوصا كلام الحافظ ابن حجر في تصانيفه وأماليه، ثم أفرد الأحاديث المتعقبة في كتابين خاصين وهما (اللآلئ المصنوعة)، و (ذيل اللآلئ المصنوعة). وألّف ابن حجر كتاب (القول المسدّد في الذّبّ عن المسند) أي مسند الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله، ذكر فيه أربعة وعشرين حديثا من المسند، جاء بها ابن الجوزي في الموضوعات وحكم عليها بذلك؛ ورد عليه ابن حجر ودفع قوله. ثم ألّف السيوطي ذيلا عليه ذكر فيه أربعة عشر حديثا أخرى كذلك من المسند، ثم ألّف ذيلا لهذين الكتابين سمّاه: (القول الحسن في الذّبّ عن السنن) أورد فيه مائة وبضعة وعشرين حديثا- من السنن الأربعة- حكم ابن الجوزي بأنه موضوعة، ورد عليه حكمه. ومن غرائب تسرع الحافظ ابن الجوزي في الحكم بالوضع: أنه زعم وضع حديث في

خلاصة في حكم رواية الحديث الموضوع

صحيح مسلم، وهو حديث أبي هريرة مرفوعا: «إن طالت بك مدة أوشك أن ترى أقواما يغدون في سخط الله ويروحون في لعنته، في أيديهم مثل أذناب البقر» [رواه أحمد في المسند وهو في صحيح مسلم (ج 2 ص 355)]. قال ابن حجر في القول المسدد «1»: ولم أقف في كتاب الموضوعات لابن الجوزي على شيء حكم عليه بالوضع وهو في الصحيحين غير هذا الحديث، وإنها لغفلة شديدة منه!!. اه من الباعث وشرحه. خلاصة في حكم رواية الحديث الموضوع من علم أن حديثا من الأحاديث موضوع فلا يحل له أن يرويه منسوبا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلا مقرونا ببيان وضعه، وهذا الحظر عام في جميع المعاني، سواء الأحكام والقصص، والترغيب والترهيب وغيرها؛ لحديث سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين» [رواه مسلم في صحيحه، ورواه أحمد وابن ماجه عن سمرة]. وقوله «يرى» فيه روايتان: بضم الياء وبفتحها، أي بالبناء للمجهول والبناء للمعلوم. وقوله «الكذابين» فيه روايتان أيضا بكسر الباء وبفتحها، أي بلفظ الجمع وبلفظ المثنى. والمعنى على الروايتين في اللفظين صحيح. فسواء أعلم الشخص أن الحديث الذي يرويه مكذوب، بأن كان من أهل العلم بهذه الصناعة الشريفة أم لم يعلم، إن كان من غير أهلها، وأخبره العالم الثقة بها؛ فإنه يحرم عليه أن يحدّث بحديث مفترى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأما مع بيان حاله فلا بأس؛ لأن البيان يزيل من ذهن السامع أو القارئ ما يخشى من اعتقاد نسبته إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم. قرائن المروي: ومن القرائن في المروي: أن يكون ركيكا لا يعقل أن يصدر عن النبي صلّى الله عليه وسلم؛ فقد وضعت أحاديث طويلة يشهد لوضعها ركاكة لفظها ومعانيها. قال الحافظ ابن حجر: المدار في الرّكّة على ركّة المعنى. فحيثما وجدت دلّت على الوضع، وإن لم ينضم إليها ركة اللفظ، لأن هذا الدين كله محاسن، والركة ترجع إلى الرداءة، أما ركاكة اللفظ فلا تدل على ذلك، لاحتمال أن يكون رواه بالمعنى فغيّر

_ (1) القول المسدد ص: 31.

ألفاظه بغير فصيح. نعم. إن صرح بأنه من لفظ النبي صلّى الله عليه وسلم فهو كاذب. وقال الربيع بن خثيم: «إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره». وقال ابن الجوزي: «الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم، وينفر منه قلبه في الغالب». قال البلقيني: «وشاهد هذا: أن إنسانا لو خدم إنسانا سنين، وعرف ما يحب وما يكره، فادعى إنسان أنه كان يكره شيئا يعلم ذلك أنه يحبه، فبمجرد سماعه يبادر إلى تكذيبه». وقال الحافظ ابن حجر: «ومما يدخل في قرينة حال المروي ما نقل عن الخطيب عن أبي بكر بن الطيب: أن من جملة دلائل الوضع أن يكون مخالفا للعقل، بحيث لا يقبل التأويل. ويلتحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة، أو يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية، أو السنة المتواترة، أو الإجماع القطعي. أما المعارضة مع إمكان الجمع فلا. ومنها ما يصرح بتكذيب رواة الحديث المتواتر، أو يكون خبرا عن أمر جسيم تتوافر الدواعي على نقله بمحضر الجمع، ثم لا ينقله منهم إلا واحد. ومنها: الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير، أو الوعد العظيم على الفعل الحقير. وهذا كثير في حديث القصّاص، والأخير راجع إلى الرّكّة». قال السيوطي: «ومن القرائن: كون الراوي رافضيّا والحديث في فضائل أهل البيت. ومن المخالف للعقل ما رواه ابن الجوزي من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده مرفوعا: إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعا، وصلّت عند المقام ركعتين! فهذا من سخافات عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقد ثبت عنه من طريق أخرى نقلها في التهذيب عن الساجي عن الربيع عن الشافعي قال: «قيل لعبد الرحمن بن زيد: حدثك أبوك عن جدك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن سفينة نوح طافت بالبيت وصلّت خلف المقام ركعتين؟! قال: نعم!!» «1». وقد عرف عبد الرحمن بمثل هذه الغرائب حتى قال الشافعي فيما نقل في التهذيب: «ذكر رجل لمالك حديثا منقطعا فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح». وروى ابن الجوزي- أيضا- من طريق محمد بن شجاع الثلجي- بالثاء المثلثة والجيم- عن حبان- بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة- ابن هلال عن حماد بن سلمة عن أبي المهزوم عن أبي هريرة مرفوعا: «إن الله خلق الفرس فأجراها، فعرقت، فخلق نفسه منها»!! قال السيوطي في

_ (1) التهذيب (6/ 179).

أسباب الوضع

التدريب: «هذا لا يضعه مسلم، والمتهم به محمد بن شجاع. كان زائغا في دينه». أسباب الوضع قال أحمد شاكر تعليقا على الباعث: والأسباب التي دعت الكذابين الوضّاعين إلى الافتراء، ووضع الحديث كثيرة. فمنهم الزنادقة، الذين أرادوا أن يفسدوا على الناس دينهم، لما وقر في نفوسهم من الحقد على الإسلام وأهله، يظهرون بين الناس بمظهر المسلمين، وهم المنافقون حقّا. قال حماد بن زيد: «وضعت الزنادقة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث». مثل عبد الكريم بن أبي العوجاء. قتله محمد بن سليمان العباسي الأمير بالبصرة، على الزندقة بعد سنة (160 هـ)، في خلافة المهدي ولما أخذ لتضرب عنقه قال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أحرّم فيها الحلال، وأحلّل الحرام. وكيان بن سمعان النهدي، من بني تميم ظهر بالعراق بعد المائة، وادعى- لعنه الله- إلهية عليّ- كرم الله وجهه- وزعم مزاعم فاسدة. ثم قتله خالد بن عبد الله القسري، وأحرقه بالنار. وكمحمد بن سعيد بن حسان الأزدي الشامي المصلوب. قال أحمد بن حنبل: «قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة، حديثه حديث موضوع». وقال أحمد بن صالح المصري: زنديق ضربت عنقه، وضع أربعة آلاف حديث عند هؤلاء الحمقى فاحذروها. وقال الحاكم أبو أحمد: «كان يضع الحديث، صلب على الزندقة». وحكى عنه الحاكم أبو عبد الله: أنه روى عن حميد عن أنس مرفوعا: أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، إلا أن يشاء الله. وقال: «وضع هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة والدعوة إلى التنبي (ادعاء النبوة)». ومنهم أصحاب الأهواء والبدع والآراء التي لا دليل لها من الكتاب والسنة، وضعوا أحاديث نصرة لأهوائهم، كالخطابية، والرافضة (الشيعة) وغيرهم. قال عبد الله بن يزيد المقرئ: «إن رجلا من أهل البدع رجع عن بدعته، فجعل يقول: انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه: فإنا كنا إذا رأينا رأيا جعلنا له حديثا!». وقال حماد بن سلمة: «أخبرني شيخ من الرافضة أنهم كانوا يجتمعون على وضع

الأحاديث». وقال أبو العباس القرطبي صاحب كتاب «المفهم شرح صحيح مسلم»: «استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دلّ عليه القياس الجلي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم نسبة قوليه، فيقولون في ذلك: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كذا!! ولهذا ترى كتبهم مشحونه بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة تشبه فتاوى الفقهاء، ولأنهم لا يقيمون لها سندا». نقله السخاوي في شرح ألفية العراقي «1»، والمتبولي في مقدمة شرحه الجامع الصغير. ومنهم القصّاص: يضعون الأحاديث في قصصهم قصدا للتكسب والارتزاق، وتقربا للعامة بغرائب الروايات. ولهم في هذا غرائب وعجائب، وصفاقة وجه لا توصف. كما حكى أبو حاتم البستي: أنه دخل مسجدا، فقام بعد الصلاة شاب فقال: حدثنا أبو خليفة: حدثنا أبو الوليد عن شعبة عن قتادة عن أنس وذكر حديثا، قال أبو حاتم: فلما فرغ دعوته، قلت: رأيت أبا خليفة؟ قال: لا، قلت: كيف تروي عنه ولم تره؟ فقال: إن المناقشة معنا من قلة المروءة! أنا أحفظ هذا الإسناد، فكلما سمعت حديثا ضممته إلى هذا الإسناد!!. وأكثر هؤلاء القصاص جهال، تشبهوا بأهل العلم، واندسوا بينهم، فأفسدوا كثيرا من عقول العامة. ويشبههم بعض علماء السوء، الذين اشتروا الدنيا بالآخرة، وتقربوا إلى الملوك والأمراء والخلفاء، بالفتاوى الكاذبة، والأقوال المخترعة، التي نسبوها إلى الشريعة البريئة، واجترأوا على الكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إرضاء للأهواء الشخصية، ونصرا للأغراض السياسية، فاستحبوا العمى على الهدى، كما فعل غياث بن إبراهيم النخعي الكوفي الكذاب الخبيث، كما وصفه إمام أهل الجرح والتعديل، يحيى بن معين! فإنه دخل على أمير المؤمنين المهدي، وكان المهدي يحب الحمام، ويلعب به، فإذا قدامه حمام، فقيل له: حدّث أمير المؤمنين، قال: حدثنا فلان عن فلان أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح، فأمر له المهدي ببدرة (صرة فيها دنانير)، فلما قام قال: أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم! ثم قال المهدي: أنا حملته على ذلك، ثم أمر بذبح الحمام، ورفض ما كان فيه. وشر أصناف الوضاعين وأعظمهم ضررا: قوم ينسبون أنفسهم إلى الزهد والتصوف، لم يتحرجوا من وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، احتسابا للأجر

_ (1) شرح ألفية العراقي ص: 111.

لا يلزم من ضعف السند ضعف الحديث

عند الله، ورغبة في حض الناس على عمل الخير واجتناب المعاصي فيما زعموا، وهم بهذا العمل يفسدون ولا يصلحون. ولولا رجال صدقوا في الإخلاص لله، ونصبوا أنفسهم للدفاع عن دينهم، وتفرغوا للذّبّ عن سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأفنوا أعمارهم في التمييز بين الحديث الثابت والحديث المكذوب، وهم أئمة السنة وأعلام الهدى. لولا هؤلاء لاختلط الأمر على العلماء والدهماء، ولسقطت الثقة بالأحاديث: فقد رسموا قواعد النقد، ووضعوا علم الجرح والتعديل، فكان من عملهم علم مصطلح الحديث، وهو أدق الطرق التي ظهرت في العلم للتحقيق التاريخي، ومعرفة النقل الصحيح من الباطل، فجزاهم الله عن الأمة والدين أحسن الجزاء. ومن الأحاديث الموضوعة المعروفة: الحديث المروي عن أبيّ بن كعب مرفوعا في فضائل القرآن سورة سورة. وقد ذكره بعض المفسرين في تفاسيرهم، كالثعلبي والواحدي والزمخشري والبيضاوي وقد أخطأوا في ذلك خطأ شديدا. لا يلزم من ضعف السند ضعف الحديث فائدة: من وجد حديثا بإسناد ضعيف؛ فالأحوط أن يقول: إنه ضعيف بهذا الإسناد، ولا يحكم بضعف المتن- مطلقا من غير تقييد- بمجرد ضعف ذلك الإسناد، فقد يكون الحديث واردا بإسناد آخر صحيح، إلا أن يجد الحكم بضعف المتن منقولا عن إمام من الحفاظ المطلعين على الطرق، وإن نشط الباحث عن طريق الحديث وترجح عنده أن هذا المتن لم يرد من طريق أخرى صحيحة، غلب على ظنه ذلك- فإني لا أرى بأسا بأن يحكم بضعف الحديث مطلقا. وإنما ذهب ابن الصلاح إلى المنع تقليدا لهم في منع الاجتهاد. اه. أحمد شاكر. رواية الحديث الضعيف قال ابن الصلاح: ويجوز رواية ما عدا الموضوع في باب الترغيب والترهيب والقصص والمواعظ، ونحو ذلك. إلا في صفات الله عزّ وجل. وفي باب الحلال والحرام. قال: وممن يرخّص في رواية الضعيف- فيما ذكرناه- ابن مهدي، وأحمد بن حنبل رحمهما الله.

قال: وإذا عزوته إلى النبي صلّى الله عليه وسلم من غير إسناد فلا تقل: «قال صلّى الله عليه وسلم كذا»، وما أشبه ذلك من الألفاظ الجازمة، بل بصيغة التمريض، وكذا فيما يشكّ في صحته أيضا. بحيث لا يعلم حاله، أصحيح أم ضعيف، كأن يقول: «روي عنه كذا». أو «بلغنا كذا». وإذا تيقن ضعفه وجب عليه أن يبين أن الحديث ضعيف، لئلا يغتر به القارئ أو السامع، ولا يجوز للناقل أن يذكره بصيغة الجزم؛ لأنه يوهم غيره أن الحديث صحيح، خصوصا إذا كان الناقل من علماء الحديث، الذين يثق الناس بنقلهم، ويظنون أنهم لا ينسبون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا لم يجزموا بصحة نسبته إليه. وقد وقع في هذا الخطأ كثير من المؤلفين، رحمهم الله وتجاوز عنهم. وقد أجاز بعضهم رواية الضعيف من غير بيان ضعفه بشروط: أولا: أن يكون الحديث في القصص أو المواعظ أو فضائل الأعمال أو نحو ذلك، مما لا يتعلق بصفات الله تعالى، وما يجوز له ويستحيل عليه سبحانه، ولا بتفسير القرآن، ولا بالأحكام، كالحلال والحرام. ثانيا: أن يكون الضعف فيه غير شديد، فيخرج من انفراد، من الكذابين، والمتهمين بالكذب، والذين فحش غلطهم في الرواية. ثالثا: أن يندرج تحت أصل معمول به. رابعا: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط. قال أحمد شاكر: والذي أراه: أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب في كل حال؛ لأن ترك البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح. وأنه لا فرق بين الأحكام وبين فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة، بل لا حجة لأحد إلا بما صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، من حديث صحيح أو حسن. وأما ما قاله أحمد بن حنبل، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك: «إذا روينا في الحلال والحرام شدّدنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا»؛ فإنما يريدون به- فيما أرجّح، والله أعلم- أن التساهل إنما هو في الأخذ بالحديث الحسن الذي لم يصل إلى درجة الصحة، فإن الاصطلاح في التفرقة بين الصحيح والحسن لم يكن في عصرهم مستقرّا واضحا بل كأنّ أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة أو الضعف فقط. اه من الباعث وشرحه.

ألفاظ التعديل والجرح

ألفاظ التعديل والجرح الألفاظ المستعملة من أهل هذا الشأن في الجرح والتعديل، قد رتبها أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتابه في الجرح والتعديل، فأجاد وأحسن. ونحن نرتبها كذلك ونورد ما ذكره ونضيف إليه ما بلغنا في ذلك عن غيره إن شاء الله. أما ألفاظ التعديل فعلى مراتب: الأولى: قال ابن أبي حاتم: «إذا قيل للواحد إنه (ثقة أو متقن) فهو ممن يحتجّ بحديثه». قلت: وكذا إذا قيل: (ثبت أو حجة) وكذا إذا قيل في العدل: (إنه حافظ أو ضابط) والله أعلم. الثانية: قال ابن أبي حاتم: «إذا قيل: إنه صدق، أو محله الصدق، أو لا بأس به؛ فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه وهي المنزلة الثانية». قلت: هذا كما قال؛ لأن هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط فينظر في حديثه ويختبر حتى يعرف ضبطه. ومشهور عن عبد الرحمن بن مهدي القدوة في هذا الشأن أنه حدث فقال: «حدثنا أبو خلدة. فقيل له: أكان ثقة؟ فقال: كان صدوقا، وكان مأمونا، وكان خيرا- وفي رواية: وكان خيارا، الثقة شعبة وسفيان»، ثم إن ذلك مخالف لما ورد عن أبي خيثمة قال: قلت ليحيى بن معين: إنك تقول: «فلان ليس به بأس»، وفلان «ضعيف» قال: إذا قلت لك: «ليس به بأس» فهو ثقة، وإذا قلت لك: «هو ضعيف» فليس هو بثقة، لا تكتب حديثه. الثالثة: قال ابن أبي حاتم: «إذا قيل: شيخ: فهو بالمنزلة الثالثة، يكتب حديثه وينظر فيه، إلا أنه دون الثانية». الرابعة: قال: إذا قيل: «صالح الحديث» فإنه يكتب حديثه للاعتبار. قلت: وقد جاء عن أبي جعفر أحمد بن سنان قال: كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف وهو رجل صدوق فيقول: رجل صالح الحديث- والله أعلم. وأما ألفاظهم في الجرح فهي- أيضا- على مراتب: أولاها: قولهم «ليّن الحديث». قال ابن أبي حاتم: إذا أجابوا في الرجل «بليّن الحديث»؛ فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتبارا.

بيان أقسام طرق نقل الحديث وتحمله

قلت: وسأل حمزة بن يوسف السهمي أبا الحسن الدارقطني الإمام، فقال له: إذا قلت «فلان لين» أيش تريد به؟ قال: لا يكون ساقطا متروك الحديث، ولكن مجروحا بشيء لا يسقط العدالة. الثانية: قال ابن أبي حاتم: إذا قالوا: ليس بقوي؛ فهو بمنزلة الأول في كتب حديثه إلا أنه دونه. الثالثة: قال: إذا قالوا: «ضعيف الحديث»؛ فهو دون الثاني لا يطرح حديثه بل يعتبر به. الرابعة: قال: «إذا قالوا: «متروك الحديث»، أو «ذاهب الحديث»، أو «كذاب»؛ فهو ساقط الحديث لا يكتب حديثه وهي المنزلة الرابعة. قال الخطيب أبو بكر: أرفع العبارات في أحوال الرواة أن يقال: «حجة أو ثقة»، وأدونها أن يقال: «كذاب، ساقط الحديث» أخبرنا أبو بكر عبد المنعم الصاعدي الفراوي قراءة عليه بنيسابور، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الفارسي، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي الحافظ، أخبرنا الحسين بن الفضل، أخبرنا عبد الله ابن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان قال: سمعت أحمد بن صالح قال: لا يترك حديث رجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه. قد يقال: «فلان ضعيف»، فأما أن يقال: «فلان متروك» فلا، إلا أن يجمع الجميع على ترك حديثه. ومما لم يشرحه ابن أبي حاتم وغيره من الألفاظ المستعملة في هذا الباب قولهم: «فلان قد روى الناس عنه، فلان وسط، فلان مقارب الحديث، فلان مضطرب الحديث، فلان لا يحتج به، فلان مجهول، فلان لا شيء، فلان ليس بذاك» وربما قيل: «ليس بذاك القوي فلان. فلان فيه أو في حديثه ضعف». وهو في الجرح أقل من قولهم «فلان ضعيف الحديث»، فلان «ما أعلم به بأسا». وهو في التعديل دون قولهم: «لا بأس به»، وما من لفظة منها ومن أشباهها إلا ولها نظير شرحناه أو أصل أصّلناه يتنبه إن شاء الله به عليها. والله أعلم. اه. من المقدمة لابن الصلاح. بيان أقسام طرق نقل الحديث وتحمله طرق نقل الحديث يجمعها ثمانية أقسام: القسم الأول: السماع من لفظ الشيخ: وهو ينقسم إلى إملاء، وتحديث من غير إملاء، وسواء كان من حفظه أو من كتابه.

القسم الثاني من أقسام الأخذ والتحمل: القراءة على الشيخ:

وهذا القسم أرفع الأقسام عند الجماهير. وفيما نرويه عن القاضي عياض بن موسى السبتي أحد المتأخرين المطلعين قوله: لا خلاف أنه يجوز في هذا أن يقول السامع من شيخه: «حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعت فلانا يقول، وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان». وذكر الحافظ أبو بكر الخطيب أن أرفع العبارات في ذلك «سمعت» ثم «حدثنا، وحدثني» فإنه لا يكاد أحد يقول سمعت في أحاديث الإجازة والمكاتبة ولا في تدليس ما لم يسمعه. وكان بعض أهل العلم يقول فيما أجيز له: «حدثنا» وروي عن الحسن أنه كان يقول: «حدثنا أبو هريرة» ويتأول أنه حدث أهل المدينة، وكان الحسن إذ ذاك بها إلا أنه لم يسمع منه شيئا. قلت: ومنهم من أثبت له سماعا من أبي هريرة. اه ابن الصلاح. ثم يتلو ذلك قول: «أخبرنا» وهو كثير في الاستعمال، حتى إن جماعة من أهل العلم كانوا لا يكادون يخبرون عما سمعوه من لفظ حدثهم به إلا بقولهم «أخبرنا» منهم حماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، وهشام بن بشير، وعبيد الله بن موسى، وعبد الرزاق بن همام. وذكر الخطيب عن محمد بن رافع قال: كان عبد الرزاق يقول: «أخبرنا» حتى قدم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فقالا له: قل «حدثنا» فكل ما سمعت مع هؤلاء قال: «حدثنا» وما كان قبل ذلك قال: «أخبرنا». وعن محمد بن أبي الفوارس الحافظ قال: «هشيم، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق لا يقولون إلا «أخبرنا» فإذا رأيت «حدثنا» فهو من خطأ الكاتب». قلت: وكان هذا كله قبل أن يشيع تخصيص «أخبرنا» بما قرئ على الشيخ، ثم يتلو قول «أخبرنا» قول «أنبأنا»، و «نبأنا» وهو قليل في الاستعمال. القسم الثاني من أقسام الأخذ والتحمل: القراءة على الشيخ: وأكثر المحدّثين يسمونها «عرضا» من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه، كما يعرض القرآن على المقرئ وسواء كنت أنت القارئ، أو قرأ غيرك وأنت تسمع، أو قرأت من كتاب، أو من حفظك، أو كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه أو لا يحفظه لكن يمسك أصله هو أو ثقة غيره. ولا خلاف أنها رواية صحيحة إلا ما حكي عن بعض من لا يعتد بخلافه. واختلفوا في أنها مثل السماع من لفظ الشيخ في المرتبة أو دونه أو فوقه، فنقل عن أبي حنيفة وابن أبي ذئب وغيرهما ترجيح القراءة على الشيخ على السماع من لفظه،

القسم الثالث من أقسام طرق نقل الحديث وتحمله: الإجازة:

وروي ذلك عن مالك أيضا، وروي عن مالك وغيره أنهما سواء. وقد قيل: إن التسوية بينهما مذهب معظم علماء الحجاز والكوفة، ومذهب مالك وأصحابه، وأشياخه من علماء المدينة، ومذهب البخاري وغيرهم. والصحيح ترجيح السماع من لفظ الشيخ. والحكم بأن القراءة عليه مرتبة ثانية، وقد قيل: إن هذا مذهب جمهور أهل المشرق. وأما العبارة عنها عند الرواية بها فهي على مراتب، أجودها وأسلمها أن يقول: «قرأت على فلان، أو قرئ على فلان وأنا أسمع» فهذا سائغ من غير إشكال. ويتلو ذلك: ما يجوز من العبارات في السماع من لفظ الشيخ إذا أتى بها مقيدة بأن يقول: «حدثنا فلان قراءة عليه، أو أخبرنا قراءة عليه»، ونحو ذلك، وكذلك «أنشدنا قراءة عليه» في الشعر. وأما إطلاق «حدثنا وأخبرنا» في القراءة على الشيخ فقد اختلفوا فيه على مذاهب. القسم الثالث من أقسام طرق نقل الحديث وتحمله: الإجازة: وهي متنوعة أنواعا: أولها: أن يجيز لمعين في معين، مثل أن يقول: «أجزت لك الكتاب الفلاني، أو ما اشتملت عليه فهرستي هذه» فهذا أعلى أنواع الإجازة المجردة عن المناولة. وزعم بعضهم أنه لا خلاف في جوازها، ولا خالف فيها أهل الظاهر، وإنما خلافهم في غير هذا النوع. وزاد القاضي أبو الوليد الباجي المالكي فأطلق نفي الخلاف وقال: «لا خلاف في جواز الرواية بالإجازة من سلف هذه الأمة وخلفها» وادعى الإجماع من غير تفصيل، وحكي الخلاف في العمل بها. قلت: هذا باطل؛ فقد خالف في جواز الرواية بالإجازة جماعات من أهل الحديث والفقهاء والأصوليين، وذلك إحدى الروايتين عن الشافعي رضي الله عنه. روى عن صاحبه الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي لا يرى الإجازة في الحديث. قال الربيع: «أنا أخالف الشافعي في هذا». وقد قال بإبطالها جماعة من الشافعيين منهم القاضيان حسين بن محمد المروزي، وأبو الحسن الماوردي، وبه قطع الماوردي في كتابه «الحاوي» وعزاه إلى مذهب الشافعي وقالا جميعا: «لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة». وروى- أيضا- هذا الكلام عن شعبة وغيره. ثم إن الذي استقر عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم: القول بتجويز الإجازة وإباحة الرواية بها، وفي الاحتجاج لذلك غموض. ويتجه أن

نقول: إذا أجاز أن يروي عنه مروياته فقد أخبره بها جملة فهو كما لو أخبره تفصيلا. وإخباره بها غير متوقف على التصريح نطقا، كما في القراءة على الشيخ كما سبق، وإنما الغرض حصول الإفهام والفهم وذلك يحصل بالإجازة المفهمة. النوع الثاني من أنواع الإجازة: أن يجيز لمعين في غير معين مثل أن يقول: «أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي أو جميع مروياتي» وما أشبه ذلك، فالخلاف في هذا النوع أقوى وأكثر. والجمهور من العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم على تجويز الرواية بها أيضا، وعلى إيجاب العمل بما روي بها بشرطه. النوع الثالث من أنواع الإجازة: أن يجيز لغير معين بوصف العموم مثل أن يقول: «أجزت للمسلمين، أو أجزت لكل أحد، أو أجزت لمن أدرك زماني» وما أشبه ذلك فهذا نوع تكلم فيه المتأخرون ممن جوّز أصل الإجازة واختلفوا في جوازه، فإن كان ذلك مقيدا بوصف حاضر أو نحوه فهو إلى الجواز أقرب، وممن جوز ذلك كله أبو بكر الخطيب الحافظ. وروينا عن أبي عبد الله بن منده الحافظ أنه قال: «أجزت لمن قال لا إله إلا الله». وجوّز القاضي أبو الطيب الطبري- أحد الفقهاء المحققين فيما حكاه عنه الخطيب- الإجازة لجميع المسلمين من كان منهم موجودا عند الإجازة، وأجاز أبو محمد بن سعيد أحد الجلّة من شيوخ الأندلس لكل من دخل قرطبة من طلبة العلم، ووافقه على جواز ذلك جماعة منهم أبو عبد الله بن عتاب رضي الله عنهم. وأنبأني من سأل الحازمي أبا بكر عن الإجازة العامة هذه فكان من جوابه أن من أدركه من الحفاظ نحو أبي العلاء الحافظ وغيره كانوا يميلون إلى الجواز. قلت: ولم نر ولم نسمع عن أحد ممن يقتدى به أنه استعمل هذه الإجازة فروى بها ولا عن الشرذمة المستأخرة سوّغوها، والإجازة في أصلها ضعف وتزداد بهذا التوسع والاسترسال ضعفا كثيرا لا ينبغي احتماله. والله أعلم اه. ابن الصلاح. النوع الرابع من أنواع الإجازة: الإجازة للمجهول أو بالمجهول، ويتشبث بذيلها الإجازة المعلقة بالشرط وذلك مثل أن يقول: «أجزت لمحمد بن خالد الدمشقي»، وفي وقته ذلك جماعة مشتركون في هذا الاسم والنسب، ثم لا يعين المجاز له منهم، أو يقول: «أجزت لفلان أن يروي عني كتاب السنن» وهو يروي أكثر من كتاب من كتب السنن المعروفة بذلك، ثم لا يعيّن. فهذه إجازة فاسدة لا فائدة لها. النوع الخامس من أنواع الإجازة: الإجازة للمعدوم، ولنذكر معه الإجازة للطفل الصغير. هذا نوع خاض فيه قوم من المتأخرين واختلفوا في جوازه. ومثاله أن يقول: «أجزت لمن يولد لفلان» فإن عطف المعدوم في ذلك على الموجود بأن قال: «أجزت

القسم الرابع من أقسام طرق تحمل الحديث وتلقيه: المناولة:

لفلان ولمن يولد له، أو أجزت لك ولولدك ولعقبك ما تناسلوا» كان ذلك أقرب إلى الجواز من الأول. ولمثل ذلك أجاز أصحاب مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما أو من قال ذلك منهم في الوقف القسمين كليهما، وفعل هذا الثاني في الإجازة من المحدثين المتقدمين أبو بكر بن أبي داود السجستاني؛ فإنا روينا عنه أنه سئل الإجازة فقال: «قد أجزت لك ولأولادك ولحبل الحبلة» يعني الذين لم يولدوا بعد. النوع السادس من أنواع الإجازة: إجازة ما لم يسمعه المجيز ولم يتحمله أصلا بعد ليرويه المجاز إذا تحمله المجيز بعد ذلك، أخبرني من أخبر عن القاضي عياض بن موسى من فضلاء وقته بالمغرب، فقال: «هذا لم أر من تكلم عليه من المشايخ، ورأيت بعض المتأخرين والعصريين يسمعونه»، ثم حكى عن أبي الوليد يونس بن مغيث قاضي قرطبة أنه سئل الإجازة بجميع ما رواه إلى تاريخه وما يرويه بعد فامتنع من ذلك. فغضب السائل، فقال له بعض أصحابه: يا هذا يعطيك ما لم يأخذه؟ هذا محال. قال عياض: «وهذا هو الصحيح». القسم الرابع من أقسام طرق تحمل الحديث وتلقيه: المناولة: وهي على نوعين: أحدهما: المناولة المقرونة بالإجازة، وهي أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق. ولها صور: منها: أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعا مقابلا به ويقول: «هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه عنّي، أو أجزت لك روايته عني». ثم يملكه إياه. أو يقول: «خذه وانسخه وقابل به ثم ردّه إليّ» أو نحو هذا. ومنها: أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه فيعرضه عليه فيتأمله الشيخ وهو عارف متيقظ ثم يعيده إليه ويقول له: «وقفت على ما فيه وهو حديثي عن فلان، أو روايتي عن شيوخي فيه، فاروه عني. أو أجزت لك روايته عني» وهذا قد سماه غير واحد من أئمة الحديث «عرضا» وقد سبقت حكايتنا في القراءة على الشيخ أنها تسمى «عرضا» أيضا، فلنسمّ ذلك «عرض القراءة» وهذا «عرض المناولة». وهذه المناولة المقترنة بالإجازة حالّة محل السماع عند مالك وجماعة من أئمة أصحاب الحديث. وحكى الحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري في عرض المناولة المذكور عن كثير من المتقدمين أنه سماع. وهذا مطّرد في سائر ما يماثله من صور المناولة المقرونة بالإجازة.

القسم الخامس من أقسام طرق نقل الحديث وتلقيه: المكاتبة:

وقد قال الحاكم في هذا العرض: أما فقهاء الإسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام؛ فإنهم لم يروه سماعا، وبه قال الشافعي، والأوزاعي، والبويطي، والمزني، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وابن المبارك، ويحيى بن يحيى، وإسحاق ابن راهويه قال: وعليه عهدنا أئمتنا وإليه ذهبوا وإليه نذهب. والله أعلم. القسم الخامس من أقسام طرق نقل الحديث وتلقيه: المكاتبة: وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب وهو غائب شيئا من حديثه بخطه أو يكتب له ذلك وهو حاضر. ويلتحق بذلك ما إذا أمر غيره بأن يكتب له ذلك عنه إليه، وهذا القسم ينقسم أيضا إلى نوعين: أحدهما: أن تتجرد المكاتبة عن الإجازة. والثاني: أن تقترن بالإجازة؛ بأن يكتب إليه ويقول: «أجزت لك ما كتبته لك، أو ما كتبت به إليك، أو نحو ذلك من عبارات الإجازة». القسم السادس من أقسام الأخذ ووجوه النقل: إعلام الراوي للطالب: بأن هذا الحديث أو هذا الكتاب سماعه أو روايته من فلان، مقتصرا على ذلك من غير أن يقول: «اروه عني، أو أذنت لك في روايته» أو نحو ذلك، فهذا عند كثيرين طريق مجوز لرواية ذلك عنه ونقله. حكي ذلك عن ابن جريج وطوائف من المحدثين والفقهاء والأصوليين، والظاهريين، وبه قطع أبو نصر بن الصباغ من الشافعيين واختاره ونصره أبو العباس الوليد بن بكر الغمري المالكي في كتاب «الوجازة في تجويز الإجازة». القسم السابع من أقسام الأخذ والتحمل: الوصية بالكتب: بأن يوصي الراوي بكتاب يرويه عند موته أو سفره لشخص. فروي عن بعض السلف رضي الله تعالى عنهم أنه جوز بذلك رواية الموصى له لذلك عن الموصي الراوي. وهذا بعيد جدّا وهو إما زلة عالم، أو متأوّل على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة التي يأتي شرحها إن شاء الله تعالى. وقد احتج بعضهم لذلك فشبهه بقسم الإعلام وقسم المناولة، ولا يصح ذلك؛ فإن لقول من جوّز الرواية بمجرد الإعلام والمناولة مستندا ذكرناه لا يتقرر مثله. ولا قريب منه هاهنا. القسم الثامن: الوجادة: وهي مصدر ل «وجد يجد» مولّد غير مسموع من العرب. روينا عن المعافى بن

معرفة المصحف من أسانيد الأحاديث ومتونها

زكريا النهرواني العلامة في العلوم: أن المولّدين فرّعوا قولهم: «وجادة» فيما أخذ من العلم من صحيفة من غير سماع، ولا إجازة، ولا مناولة، من تفريق العرب بين مصادر «وجد» للتمييز بين المعاني المختلفة يعني قولهم: «وجد ضالته وجدانا، ومطلوبه وجودا» وفي الغضب «موجدة» وفي الغنى «وجدا» وفي الحب «وجدا». مثال الوجادة: أن يقف على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها بخطه ولم يلقه، أو لقيه ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده بخطه ولا له منه إجازة ولا نحوها، فله أن يقول: «وجدت بخطّ فلان، أو قرأت بخطّ فلان، أو في كتاب فلان بخطّه: أخبرنا فلان بن فلان» ويذكر شيخه ويسوق سائر الإسناد والمتن معا، أو يقول: «وجدت أو قرأت بخط فلان عن فلان» ويذكر الذي حدثه ومن فوقه، هذا الذي استمر عليه العمل قديما وحديثا، وهو من باب المنقطع والمرسل غير أنه أخذ شوبا من الاتصال بقوله: «وجدت بخط فلان» اه. ابن الصلاح باختصار وتصرف. معرفة المصحّف من أسانيد الأحاديث ومتونها هذا فن جليل إنما ينهض بأعبائه الحذّاق من الحفاظ. والدارقطني منهم، وله فيه تصنيف مفيد، وروينا عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال: «ومن يعرى (يخلو) من الخطأ والتصحيف؟!». فمثال التصحيف في الإسناد: حديث شعبة عن العوام بن مراجم عن أبي عثمان النهدي، عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها .. الحديث» صحف فيه يحيى بن معين فقال: «ابن مزاحم» بالزاي والحاء فردّ عليه، وإنما هو «ابن مراجم» بالراء المهملة والجيم. ومنه ما رويناه عن أحمد بن حنبل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن مالك بن عرفطة، عن عبد خير، عن عائشة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت» قال أحمد: «صحف شعبة فيه وإنما هو خالد بن علقمة» وقد رواه زائدة بن قدامة وغيره على ما قاله أحمد. وبلغنا عن الدارقطني أن ابن جرير الطبري قال فيمن روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم من بني سليم «ومنهم عتبة بن البذر» قاله بالباء والذال المعجمة، وروى له حديثا، وإنما هو «ابن الندر» بالنون والدال غير المعجمة. ومثال التصحيف في المتن: ما رواه ابن لهيعة عن كتاب موسى بن عقبة إليه بإسناده

عادة المحدثين

عن زيد بن ثابت «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم احتجم في المسجد»، وإنما هو بالراء «احتجر في المسجد» بخص أو حصير، حجرة يصلي فيها، فصحفه ابن لهيعة لكونه أخذه من كتاب بغير سماع. ذكر ذلك مسلم في كتاب التمييز له. وبلغنا عن الدارقطني في حديث أبي سفيان عن جابر قال: «رمي أبيّ يوم الأحزاب على أكحله، فكواه رسول الله صلّى الله عليه وسلم» أن غندرا قال فيه: «أبي» وإنما هو «أبيّ» وهو أبي بن كعب. وفي حديث أنس «ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرّة» قال فيه شعبة: «ذرة» بالضم والتخفيف ونسب فيه إلى التصحيف. وبلغنا عن أبي زرعة الرازي أن يحيى بن سلّام «هو المفسّر» حدث عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قال «مصر» واستعظم أبو زرعة هذا واستقبحه وذكر أنه في تفسير سعيد عن قتادة «مصيرهم». وبلغنا عن الدارقطني أن محمد بن المثنى أبا موسى العتري حدث بحديث النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يأتي أحدكم يوم القيامة ببقرة لها خوار» قال فيه: «أو شاة تنعر» بالنون، وإنما هو «تيعر» بالياء المثناة من تحت. وأنه قال لهم يوما: «نحن قوم لنا شرف، نحن من عنزة قد صلى النبي صلّى الله عليه وسلم إلينا» يريد ما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى إلى عنزة. توهم أنه صلى إلى قبيلتهم، وإنما العنزة ههنا حربة نصبت بين يديه فصلى إليها. اه. عادة المحدثين جرت عادة أهل الحديث بحذف قال ونحوه فيما بين رجال الإسناد في الخط. وينبغي للقارئ أن يلفظ بها، وإذا كان في الكتاب قرئ على فلان، أخبرك فلان، فليقل القارئ: قرئ على فلان قيل له: أخبرك فلان، وإذا كان فيه قرئ على فلان أخبرنا فلان فليقل: قرئ على فلان، قيل له: قلت: أخبرنا فلان. وإذا تكررت كلمة قال كقوله: حدثنا صالح قال: قال الشعبي: فإنهم يحذفون إحداهما في الخط فليلفظ بهما القارئ فلو ترك القارئ لفظ قال في هذا كله فقد أخطأ والسماع صحيح للعلم بالمقصود ويكون هذا من الحذف لدلالة الحال عليه. اه منه. رموز المحدثين جرت العادة بالاقتصار على الرمز في «حدثنا وأخبرنا» واستمر الاصطلاح عليه من

ليس للراوي أن يزيد أو ينقص في نسب غير شيخه أو صفته

قديم الأعصار إلى زماننا واشتهر ذلك بحيث لا يخفى فيكتبون من حدثنا (ثنا) وهي الثاء والنون والألف، وربما حذفوا الثاء، ويكتبون من أخبرنا (نا) ولا يحسن زيادة الباء قبل «نا»، وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد (ح) وهي حاء مهملة مفردة، والمختار أنها مأخوذة من التحول، لتحوله من إسناد إلى إسناد، وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها: (ح) ويستمر في قراءة ما بعدها. وقيل: إنها من حال بين الشيئين، إذا حجز لكونها حالت بين الإسنادين، وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشيء وليست من الرواية. وقيل: إنها رمز إلى قوله الحديث، وأن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها: الحديث. وقد كتب جماعة من الحفاظ موضعها «صح» فيشعر بأنها رمز «صح»، وحسنت هاهنا كتابة «صح» لئلا يتوهم أنه سقط متن الإسناد الأول. ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرا وهي كثيرة في صحيح مسلم، وقليلة في صحيح البخاري، فيتأكد احتياج صاحب هذا الكتاب إلى معرفتها وقد أرشدناه إلى ذلك ولله الحمد والنعمة والفضل والمنة. ليس للراوي أن يزيد أو ينقص في نسب غير شيخه أو صفته ليس للراوى أن يزيد في نسب غير شيخه ولا صفته على ما سمعه من شيخه، لئلا يكون كاذبا على شيخه، فإن أراد تعريفه وإيضاحه وزوال اللبس المتطرق إليه لمشابهة غيره؛ فطريقه أن يقول: قال حدثني فلان (يعني ابن فلان، أو الفلاني، أو هو ابن فلان، أو الفلاني، أو نحو ذلك) فهذا جائز حسن؛ قد استعمله الأئمة، وقد أكثر البخاري ومسلم منه في الصحيحين غاية الإكثار، حتى إن كثيرا من أسانيدهما يقع في الإسناد الواحد منها موضعان أو أكثر من هذا الضرب، كقوله في أول كتاب البخاري في باب «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» قال أبو معاوية: حدثنا داود (هو ابن أبي هند) عن عامر قال: سمعت عبد الله (هو ابن عمرو)، وكقوله في كتاب مسلم في باب «منع النساء من الخروج إلى المساجد» حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان (يعني ابن بلال) عن يحيى (وهو ابن سعيد) ونظائره كثيرة، وإنما يقصدون بهذا الإيضاح كما ذكرنا أولا؛ فإنه لو قال: حدثنا داود أو عبد الله، لم يعرف من هو لكثرة المشاركين في هذا الاسم، ولا يعرف ذلك في بعض المواطن إلا الخواص والعارفون بهذه الصنعة وبمراتب الرجال، فأوضحوه لغيرهم وخففوا عنهم مؤونة النظر والتفتيش، وهذا الفصل نفيس يعظم الانتفاع به، فإن من لا يعاني هذا الفن قد يتوهم أن قوله «يعني» وقوله «هو» زيادة لا حاجة إليها، وأن

ما يستحب لكاتب الحديث

الأولى حذفها وهذا جهل قبيح، والله أعلم. اه كلام النووى. ما يستحب لكاتب الحديث يستحب لكاتب الحديث إذا مر بذكر الله عزّ وجل أن يكتب «عزّ وجل» أو «تعالى» أو «سبحانه وتعالى» أو «تبارك وتعالى» أو «جل ذكره» أو «تبارك اسمه» أو «جلت عظمته» أو ما أشبه ذلك، وكذلك يكتب عند ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم بكمالها لا رامزا إليها ولا مقتصرا على أحدهما، وكذلك يقول في الصحابي رضي الله عنه فإن كان صحابيّا ابن صحابي قال: رضي الله عنهما وكذلك يترضى ويترحم على سائر العلماء والأخيار ويكتب كل هذا وإن لم يكن مكتوبا في الأصل الذي ينقل منه، فإن هذا ليس رواية وإنما هو دعاء، وينبغي للقارئ أن يقرأ كل ما ذكرناه وإن لم يكن مذكورا في الأصل الذي يقرأ منه ولا يسأم من تكرار ذلك، ومن أغفل هذا حرم خيرا عظيما وفوّت فضلا جسيما. اه منه. ذكر النبي بدل الرسول وعكسه إذا كان الراوى في سماعه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأراد أن يرويه ويقول عن النبي صلّى الله عليه وسلم أو عكسه، فالصحيح الذي قاله حماد بن سلمة وأحمد بن حنبل وأبو بكر الخطيب أنه جائز؛ لأنه لا يختلف به هنا معنى، وهو المختار خلافا لابن الصلاح. تعريف الصحابي والتابعي قال النووي: هذا فصل مما يتأكد الاعتناء به وتمس الحاجة إليه فبه يعرف المتصل من المرسل. فأما الصحابي: فكل مسلم رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولو لحظة، هذا هو الصحيح في حده، وهو مذهب أحمد بن حنبل، وأبي عبد الله البخاري في صحيحه، والمحدثين كافة. وذهب أكثر أصحاب الفقه والأصول إلى أنه من طالت صحبته له صلّى الله عليه وسلم. قال الإمام القاضي أبو الطيب الباقلاني: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصحابي مشتق من الصحبة، وهو جار على كل من صحب غيره قليلا كان أو كثيرا، يقال: صحبه شهرا ويوما وساعة، قال: وهذا يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي صلّى الله عليه وسلم ولو ساعة، هذا هو الأصل، قال: ومع هذا قد تقرر للأمة عرف في أنهم لا يستعملونه إلا فيمن كثرت صحبته واتصل لقاؤه، ولا يجزي ذلك على من لقى المرء ساعة ومشى معه خطوات وسمع منه حديثا، فوجب أن لا يجزي في الاستعمال إلا على من هذا حاله.

أمور تتعلق بالصحابة

هذا كلام القاضي المجمع على إمامته وجلالته، وفيه تقرير للمذهبين، ويستدل به على ترجيح مذهب المحدثين، فإن هذا الإمام قد نقل عن أهل اللغة أن الاسم يتناول صحبة ساعة، وأكثر أهل الحديث قد نقلوا الاستعمال في الشرع والعرف على وفق اللغة فوجب المصير إليه، والله أعلم. وأما التابعي: ويقال فيه التابع: فهو من لقى الصحابي، وقيل: من صحبه كالخلاف في الصحابي، والاكتفاء هنا بمجرد اللقاء أولى؛ نظرا إلى مقتضى اللفظين. وتعرف صحبة الصحابة تارة بالتواتر، وتارة بأخبار مستفيضة، وتارة بشهادة غيره من الصحابة له، وتارة بروايته عن النبي صلّى الله عليه وسلم سماعا، أو مشاهدة مع المعاصرة. فأما إذا قال المعاصر العدل: «أنا صحابيّ»: فقد قال ابن الحاجب في مختصره: احتمل الخلاف؛ يعني لأنه يخبر عن حكم شرعي، كما لو قال في الناسخ: «هذا ناسخ لهذا» لاحتمال خطئه في ذلك. أما لو قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كذا» أو «رأيته فعل كذا» أو «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم» ونحو هذا-: فهذا مقبول لا محالة، إذا صح السند إليه، وهو ممن عاصره عليه الصلاة والسلام. اه. أمور تتعلق بالصحابة 1 - عدالتهم جميعا: للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم على الإطلاق معدّلين بنصوص الكتاب والسنة، وإجماع من يعتدّ به في الإجماع من الأمة. قال الله تبارك وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران آية: 110]. قيل: اتفق المفسرون على أنه وارد في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة آية: 143]، وهذا خطاب مع الموجودين حينئذ. وقال سبحانه تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [سورة الفتح آية: 29]. وفي نصوص السنة الشاهدة بذلك كثرة، منها: حديث أبي سعيد المتفق على صحته أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم

2 - أكثرهم حديثا:

أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لا بس الفتن منهم، فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحسانا للظن بهم، ونظرا إلى ما تمهّد لهم من المآثر، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة، اه. ابن الصلاح. 2 - أكثرهم حديثا: أكثر الصحابة حديثا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبو هريرة. روي ذلك عن سعيد بن أبي الحسن، وأحمد بن حنبل، وذلك من الظاهر الذي لا يخفى على حديثيّ وهو أول صاحب حديث، بلغنا عن أبي بكر بن داود السّجستاني قال: «رأيت أبا هريرة في النوم وأنا بسجستان أصنف حديث أبي هريرة فقلت: إني لأحبك، فقال: أنا أول صاحب حديث كان في الدنيا». وعن أحمد بن حنبل أيضا رضي الله عنه قال: «ستة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أكثروا الرواية عنه وعمّروا: أبو هريرة، وابن عمر، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس، وأبو هريرة أكثرهم حديثا، وحمل عنه الثقات». ثم إن أكثر الصحابة فتيا تروى: ابن عباس، بلغنا عن أحمد بن حنبل قال: «ليس أحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم يروى عنه في الفتوى أكثر من ابن عباس». العبادلة منهم: وروينا عن أحمد بن حنبل- أيضا- أنه قيل له: «من العبادلة؟» فقال: «عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو». قيل له: «فابن مسعود؟» قال: «لا، ليس عبد الله بن مسعود من العبادلة». قال الحافظ أحمد البيهقي فيما رويناه عنه وقرأته بخطه: «وهذا لأن ابن مسعود تقدم موته، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اجتمعوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة، أو هذا فعلهم». قلت: ويلتحق بابن مسعود في ذلك سائر العبادلة المسلمين بعبد الله من الصحابة، وهم نحو مائتين وعشرين نفسا، والله أعلم، اه من مقدمة ابن الصلاح. 3 - أكثرهم أتباعا وأكثرهم علما: قال ابن الصلاح: روينا عن علي بن عبد الله المديني قال: «لم يكن من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أحد له أصحاب يقومون بقوله في الفقه إلا ثلاثة: عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت،

4 - عدد من روى الأحاديث منهم:

وابن عباس رضي الله عنهم. كان لكل رجل منهم أصحاب يقومون بقوله ويفتون الناس». وروينا عن مسروق قال: «وجدت علم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم انتهى إلى ستة: عمر، وأبيّ، وزيد، وأبي الدرداء، وعبد الله بن مسعود، ثم انتهى علم هؤلاء الستة إلى اثنين: علي، وعبد الله». وروينا نحوه عن مطرف عن الشعبي عن مسروق، لكن ذكر أبا موسى بدل أبي الدرداء. وروينا عن الشعبي قال: «كان العلم يؤخذ عن ستة من أصحاب رسول الله، وكان عمر، وعبد الله، وزيد، يشبه علم بعضهم بعضا، وكان يقتبس بعضهم من بعض، وكان علي، والأشعري. وأبيّ، يشبه علم بعضهم بعضا، وكان يقتبس بعضهم من بعض». وروينا عن الحافظ أحمد البيهقي أن الشافعي ذكر الصحابة في رسالته القديمة وأثنى عليهم بما هم أهله، ثم قال: «وهم فوقنا في كل علم، واجتهاد، وورع، وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا. 4 - عدد من روى الأحاديث منهم: قال ابن الصلاح: روينا عن أبي زرعة الرازي أنه سئل عن عدة من روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: ومن يضبط هذا؟ شهد مع النبي صلّى الله عليه وسلم حجة الوداع أربعون ألفا، وشهد معه تبوك سبعون ألفا. وروينا عن أبي زرعة أيضا أنه قيل له: «أليس يقال: حديث النبي صلّى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث؟» قال: «ومن قال ذا قلقل الله أنيابه! هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله! قبض رسول الله عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن روي عنه وسمع منه، وفي رواية: ممن رآه وسمع منه. فقيل له: يا أبا زرعة! هؤلاء أين كانوا وأين سمعوا منه؟ قال: «أهل المدينة، وأهل مكة، ومن بينهما، والأعراب، ومن شهد معه حجة الوداع كلّ رآه وسمع منه يعرفه». 5 - أفضلهم: أفضلهم على الإطلاق أبو بكر، ثم عمر، ثم إن جمهور السلف على تقديم عثمان على عليّ، وقدم أهل الكوفة من أهل السنة عليّا على عثمان، وبه قال منهم سفيان الثورى أولا ثم رجع إلى تقديم عثمان، روى ذلك عنه، وعنهم الخطابي. وممن نقل عنه من أهل الحديث تقديم عليّ على عثمان: محمد بن إسحاق بن خزيمة، وتقديم عثمان هو الذي استقرت عليه مذاهب أصحاب الحديث وأهل السنة. وأما أفضل أصنافهم صنفا: فقد قال أبو منصور البغدادي التميمي: أصحابنا

6 - أولهم إسلاما:

مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. قلت: وفي نصّ القرآن تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهم الذي صلوا إلى القبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة، وفي قول الشعبي: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وعن محمد بن كعب القرظى وعطاء بن يسار أنهما قالا: هم أهل بدر، روى ذلك عنهما ابن عبد البر فيما وجدناه عنه. والله أعلم. 6 - أولهم إسلاما: اختلف السلف في أولهم إسلاما، فقيل: أبو بكر الصديق، روي ذلك عن ابن عباس، وحسان بن ثابت، وإبراهيم النخعي، وغيرهم. وقيل: عليّ أول من أسلم، روى ذلك عن زيد بن أرقم، وأبي ذر، والمقداد، وغيرهم، وقال الحاكم أبو عبد الله: لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أن عليّ بن أبي طالب أولهم إسلاما، واستنكر هذا من الحاكم. وقيل: أول من أسلم زيد بن حارثة. وذكر معمر نحو ذلك عن الزهري. وقيل: أول من أسلم خديجة أم المؤمنين، روي ذلك من وجوه عن الزهري، وهو قول قتادة، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وجماعة. وروي أيضا عن ابن عباس، وادعى الثعلبي المفسر فيما رويناه أو بلغنا عنه اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو في أول من أسلم بعدها. والأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار: أبو بكر، ومن الصبيان أو الأحداث: عليّ، ومن النساء: خديجة، ومن الموالي: زيد بن حارثة، ومن العبيد: بلال. والله أعلم. 7 - آخرهم موتا: آخرهم على الإطلاق موتا: أبو الطفيل عامر بن واثلة، مات سنة مائة من الهجرة. وأما بالإضافة إلى النواحي: فآخر من مات منهم بالمدينة: جابر بن عبد الله، رواه أحمد بن حنبل عن قتادة، وقيل: سهل بن سعد، وقيل: السائب بن زيد. وآخر من مات منهم بمكة: عبد الله بن عمر، وقيل: جابر بن عبد الله، وذكر عليّ ابن المديني: أن أبا الطفيل بمكة مات، فهو إذا الآخر بها.

المنسوبون منهم إلى أمهاتهم

وآخر من مات منهم بالبصرة: أنس بن مالك، قال أبو عمر بن عبد البر: «ما أعلم أحدا مات بعده ممن رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا أبا الطفيل». وآخر من مات منهم بالكوفة: عبد الله بن أبي أوفى. وبالشام: عبد الله بن بسر، وقيل: بل أبو أمامة. وتبسط بعضهم فقال: آخر من مات من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمصر: عبد الله ابن الحارث بن جزء الزّبيدي. وبفلسطين: أبو أبي بن أم حرام. وبدمشق: واثلة بن الأسقع. وبحمص: عبد الله بن بسر. وباليمامة: الهرماس بن زياد. وبالجزيرة: العرس بن عميرة. وبأفريقية: رويفع بن ثابت. وبالبادية في الأعراب: سلمة بن الأكوع، رضي الله عنهم أجمعين. وفي بعض ما ذكرناه خلاف لم نذكره، وقوله في «رويفع» بأفريقية لا يصح؛ إنما مات في حاضرة برقة وقبره بها، ونزل سلمة إلى المدينة قبل موته بليال فمات بها، والله أعلم. اه. ابن الصلاح. المنسوبون منهم إلى أمهاتهم المنسوبون إلى أمهاتهم، كمعاذ ومعوّذ، ابني «عفراء» وهما اللذان أثبتا أبا جهل يوم بدر، وأمهما هذه عفراء بنت عبيد، وأبوهما الحارث بن رفاعة الأنصاري، ولهما شقيق آخر هو: «عوذ» ويقال: «عون»، وقيل: «عوف». فالله أعلم. بلال ابن «حمامة» المؤذن، أبو رباح. ابن «أم مكتوم» الأعمى المؤذن- أيضا، وقد كان يؤمّ أحيانا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غيبته، قيل: اسمه عبد الله بن زائدة، وقيل: عمرو بن قيس، وقيل غير ذلك. عبد الله ابن «اللّتبيّة»، وقيل: «الأتبية» صحابيّ. سهيل ابن «بيضاء» وأخواه منها: سهل، وصفوان، واسم بيضاء «دعد» واسم أبيهم وهب. شرحبيل ابن «حسنة» أحد أمراء الصحابة على الشام، هي أمه، وأبو عبد الله بن المطاع الكندي.

المخضرمون من التابعين

عبد الله ابن «بحينة» وهي أمه، وأبوه مالك بن القشب الأسدي. سعد ابن «حبتة» هي أمه، وأبوه بجير بن معاوية. ومن التابعين فمن بعدهم محمد ابن «الحنفيّة»، واسمها «خولة»، وأبوه أمير المؤمنين على بن أبي طالب. إسماعيل ابن «عليّة»، هي أمه، وأبوه إبراهيم، وهو أحد أئمة الحديث والفقه ومن كبار الصالحين (بدت منه هفوة ثم تاب منها- أحمد شاكر). ابن «هراسة» هو أبو إسحاق ابراهيم ابن هراسة، قال الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري: هي أمه، واسم أبيه «سلمة». ومن هؤلاء من قد ينسب إلى جدته، كيعلي ابن «منية»، قال الزبير بن بكار: هي أم أبيه «أميّة». وبشير ابن «الخصاصيّة»: «اسم أبيه» معبد، «والخصاصية أم جده الثالث». قال الشيخ أبو عمرو: ومن أحدث ذلك عهدا شيخنا أبو أحمد عبد الوهاب بن على البغدادي، يعرف بابن «سكينة» وهي أم أبيه. قال ابن كثير: وكذلك شيخنا العلامة «أبو العباس ابن تيمية»، هي أم أحد أجداده الأبعدين، وهو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني. اه. المخضرمون من التابعين سبق أن قلنا: إن التابعي هو من لقى الصحابي، وقيل: من صحبه، كالخلاف في الصحابى والاكتفاء هنا بمجرد اللقاء أولى، نظرا إلى مقتضى اللفظين. أما المخضرمون فقد قال ابن الصلاح: المخضرمون من التابعين هم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم، واحدهم مخضرم بفتح الراء، كأنه خضرم أي قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها، وذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفسا، منهم: أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي، وعبد خير بن يزيد الخيواني، وأبو عثمان النهدي، وعبد الرحمن بن مل، وأبو الحلال العتكي ربيعة بن زرارة، وممن لم يذكره مسلم منهم: أبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب، والأحنف بن قيس.

أكابر التابعين

أكابر التابعين من أكابر التابعين السبعة من أهل المدينة وهم: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وخارجة بن زيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار. روينا عن الحافظ أبي عبد الله أنه قال: «هؤلاء الفقهاء السبعة عند الأكثر من علماء الحجاز». وروينا عن ابن المبارك قال: «كان فقهاء أهل المدينة الذين يصدرون عن رأيهم سبعة»، فذكر هؤلاء السبعة إلا أنه لم يذكر أبا سلمة بن عبد الرحمن، وذكر بدله سالم بن عبد الله بن عمر. وروينا عن أبي الزناد تسميتهم في كتابه عنهم، فذكر هؤلاء إلا أنه ذكر أبا بكر بن عبد الرحمن بدل أبي سلمة وسالم. اه. أفضل التابعين ورد عن أحمد بن حنبل أنه قال: «أفضل التابعين سعيد بن المسيب. فقيل له: فعلقمة والأسود؟» فقال: «سعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود». وعنه أنه قال: لا أعلم في التابعين مثل أبي عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم. وعنه- أيضا- قال: أفضل التابعين قيس، وأبو عثمان، وعلقمة، ومسروق، هؤلاء كانوا فاضلين ومن علية التابعين. وأعجبني ما وجدته عن الشيخ أبي عبد الله بن خفيف الزاهد الشيرازي في كتاب له، قال: «اختلف الناس في أفضل التابعين، فأهل المدينة يقولون: سعيد بن المسيب؛ وأهل الكوفة يقولون: أويس القرني؛ وأهل البصرة يقولون: الحسن البصري». وبلغنا عن أحمد ابن حنبل قال: «ليس أحد أكثر فتوى من الحسن، وعطاء؛ يعني من التابعين». وقال أيضا: «كان عطاء مفتي مكة، والحسن مفتي البصرة، فهذان أكثر الناس عنهم رأيهم». وبلغنا عن أبي بكر بن أبي داود قال: «سيدتا التابعين من النساء: حفصة بنت سيرين، وعمرة بنت عبد الرحمن، وثالثتهما وليست كهما: أم الدرداء». اه. ابن الصلاح.

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والفضل والإنعام، والتوفيق والإلهام، هو الخالق البارئ المصور، له الأسماء الحسنى، يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا حول ولا قوة إلا به وهو العليّ العظيم. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، وحامل لواء الحمد يوم الدين وصاحب الشفاعة العظمى يوم العرض على رب العالمين. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد .. فقد تم بحمد الله تعالى كتاب «الحديث في علوم القرآن والحديث»، فإن كنت أصبت فيما قدمت؛ فذلك رجائي، وإن كنت أخطأت في شيء؛ فإني آمل أن يغفر لي القارئ المنصف، فلم يكتب لغير الأنبياء كمال بشرى، ولم يكن يوما أحد المؤلفين منزها عن الخطأ. نفع الله به قارئه، ووفقني وإياه لما يحب ويرضى. آمين. المؤلف حسن أيّوب

فهرست الكتاب الموضوع الصفحة المقدمة 5 علوم القرآن 7 تاريخ علوم القرآن 8 عهد التمهيد لتدوين علوم القرآن 9 عهد التدوين لعلوم القرآن 10 أول عهد لظهور هذا الاصطلاح 12 جمع القرآن وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها 13 ترتيب آيات القرآن وسوره 16 ملاحظة 18 ترتيب السور 18 معنى السورة 18 أقسام السور 19 المذاهب في ترتيب السور 19 احترام هذا الترتيب 23 المكي والمدني من القرآن الكريم 24 الاصطلاحات في معنى المكي والمدني 24 فائدة العلم بالمكي والمدني 25 الطريق الموصلة إلى معرفة المكي والمدني 25 الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني 26 عدد السور المكية والمدنية والمختلف فيها 27 إنزالات القرآن 28 كيفية أخذ جبريل للقرآن؟ وعمن أخذ؟ 30 ما الذي نزل به جبريل؟ 30 الفرق بين القرآن والسنة في الوحي 32

مدة نزول القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم 33 دليل تنجيم هذا النزول 34 الحكم والأسرار في تنجيم القرآن 34 حقيقة الوحي وأنواعه وكيفياته 40 معرفة أول وآخر ما نزل من القرآن 41 أول ما نزل 41 آخر ما نزل 41 تنبيه 42 معرفة أسباب النزول 44 تنبيه (1) 47 تنبيه (2) 48 تنبيه (3) 52 تنبيه (4) 52 تنبيه (5) 53 ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة 54 ما تأخر حكمه عن نزوله وما تأخر نزوله عن حكمه 56 إعجاز القرآن الكريم 58 أوجه الإعجاز 60 آداب تلاوته وكيفيتها 65 حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن 66 ما يستحب عند القراءة 67 التعوذ وقراءة البسملة عند التلاوة 67 قراءة القرآن في المصحف أفضل أم عن ظهر قلب؟ 67 حكم خلط سورة بسورة 68 حكم قراءة القرآن مع جماعة 69 ختم القرآن 70

التكبير بين السور ابتداء من سورة الضحى 71 ما يفعله القارئ عند ختم القرآن 71 حكم من شرب شيئا كتب من القرآن 72 أحكام تتعلق باحترام المصحف وتعظيمه 72 تجويد القرآن 73 كيفية تحمل القرآن الكريم 73 كيفيات القراءة 74 المحكم والمتشابه في القرآن الكريم 75 المتشابه من آيات الصفات 79 معنى كون القرآن أنزل على سبعة أحرف 80 القول في القراءات السبع 84 فضل قراءة القرآن وحفظه وتعليمه وتعلمه 85 ترجمة القرآن وأحكامها 87 الترجمة في اللغة 88 الترجمة في العرف 89 تقسيم الترجمة 89 ما لا بد منه في الترجمة مطلقا 90 ما لا بد منه في الترجمة الحرفية 90 فروق بين الترجمة والتفسير 91 تنبيهان مفيدان 93 القرآن ومعانيه ومقاصده 94 معاني القرآن نوعان 94 مقاصد القرآن الكريم 95 هداية القرآن 95 إعجاز القرآن 97 التعبد بتلاوة القرآن 97

حكم ترجمة القرآن تفصيلا 98 1 - ترجمة القرآن بمعنى تبليغ ألفاظه 98 2 - ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغته العربية 98 3 - ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية 99 أمور مهمة 100 فوائد الترجمة بهذا المعنى 102 4 - ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى 104 الحكم على هذه الترجمة بالاستحالة العادية 105 حكم قراءة الترجمة والصلاة بها 106 مذهب الشافعية 106 مذهب المالكية 106 مذهب الحنابلة 106 مذهب الحنفية 107 النسخ في القرآن الكريم 108 أهمية هذا المبحث 108 ما هو النسخ 109 النسخ في اللغة 109 النسخ في الاصطلاح 109 ما لابد منه في النسخ 110 الفرق بين النسخ والبداء 110 الفرق بين النسخ والتخصيص 112 النسخ بين مثبتيه ومنكريه 113 الأدلة على النسخ 114 حكمة الله في النسخ 115 شبه أبي مسلم في إنكار النسخ والرد عليها 117 طرق معرفة النسخ 118

قانون التعارض 119 ما يتناوله النسخ 120 أنواع النسخ في القرآن 122 النسخ ببدل وبغير بدل 124 شبهة ودفعها 125 نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل 125 النسخ في دورانه بين الكتاب والسنة 126 1 - مقام الجواز 127 شبهتان ودفعهما 127 2 - مقام الوقوع 128 دليل الجواز 129 شبهة للمانعين ودفعها 130 ملاحظة 131 التفسير والمفسرين وما يتعلق بهما 132 التفسير 132 التأويل 132 أنواع التفسير 132 فضل التفسير والحاجة إليه 132 أقسام التفسير 136 التفسير بالمأثور 137 المفسرون من الصحابة 138 تفسير ابن عباس 140 الرواية عنه واختلاف الرواة فيها 140 المفسرون من التابعين وطبقاتهم 141 طبقة أهل مكة 141 طبقة أهل المدينة 142

طبقة أهل العراق 142 نقد المروي عن التابعين 143 ضعف الرواية بالمأثور 143 تنبيه 145 تدوين التفسير بالمأثور وخصائص كتبه 146 فكرة عن تفسير ابن جرير 146 تفسير أبي الليث السمرقندي 147 الدر المنثور في التفسير بالمأثور 147 تفسير ابن كثير 147 تفسير البغوى 148 تفسير بقى بن مخلد 148 طرق المفسرين بعد العصر الأول 148 التفسير المحمود والتفسير المذموم 150 ميزان المدح والذم 150 غلطة التعصب للرأي 150 التفسير بالرأى وبيان ما يجوز منه وما لا يجوز 152 العلوم التى يحتاجها المفسر 154 ملاحظة 154 أهم كتب التفسير بالرأى 154 تفسير الجلالين 155 تفسير البيضاوي 156 تفسير الفخر الرازي 156 تفسير أبي السعود 156 تفسير النيسابوري 156 تفسير الألوسي 156 تفسير النسفي 156

تفسير الخطيب 157 تفسير الخازن 157 تفاسير الفرق المختلفة 157 تفاسير المعتزلة 157 تفاسير الباطنية 158 تفاسير الشيعة 158 التفسير الإشاري 159 أهم كتب التفسير الإشاري 160 نصيحة خالصة 162 علوم الحديث أهمية علوم الحديث 165 المصنفون في هذا العلم 166 ألقاب المحدثين 167 اصطلاحات في كتب الحديث 169 الجامع 169 المسند 169 المعجم 170 الجزء والرسالة والأربعون 170 المستخرجات 170 فائدة 171 فوائد المستخرجات على الصحيحين 171 المستدركات 172 كتب العلل 172 اصطلاحات لفظية لعلماء الحديث 173 المسند 173 المتصل 173

المرفوع 173 الموقوف 173 المعضل 173 المقطوع 173 المنقطع 173 المرسل 173 حكم ما يصدر عن الصحابي من الأقوال 174 الحديث القدسي 175 معنى الحديث القدسي 175 الفرق بين القرآن والحديث القدسي 175 الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي 176 أقسام الخبر (الحديث) 177 الحديث المتواتر 177 متى يفيد المتواتر العلم الضروري 179 شروط السامعين 180 حديث الآحاد 180 القول الفصل 181 أقسام الآحاد 182 شروط العمل بخبر الواحد 183 الصغائر والكبائر 186 تعريف الكبائر 186 شروط مدلول الخبر 189 تنبيهات مهمة 190 شروط لفظ الخبر 191 إيضاح مهم 192 الحديث الصحيح 193

المشهور 193 الغريب والعزيز 193 أقسام الصحيح من حيث القوة 194 حكم المعلق في البخاري ومسلم 195 الفرق بين صحيح وصحيح الإسناد 195 متى يصير الحسن صحيحا 195 متى يكون الضعيف قويّا 196 أول من جمع صحاح الحديث 196 عدد ما في الصحيحين من الحديث 197 الزيادات على الصحيحين 198 موطأ مالك 198 إطلاق اسم الصحيح على الترمذي والنسائي 199 مسند الإمام أحمد 199 الكتب الخمسة 200 الحديث الحسن 200 الترمذي أصل في معرفة الحسن 201 أبو داود سننه من مظان الحسن 201 مفهوم قول الترمذي: حسن صحيح 202 حكم الحديث الموقوف 202 المعنعن 203 الحديث المؤنن 203 الاعتبار والمتابعة والشاهد 204 المتابعة 204 الشاهد 204 الشاذ والمنكر 204 القول في خلط الثقة 205

بيان الناسخ والمنسوخ 205 بم يعرف النسخ؟ 205 معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد روايته 206 بم تثبت عدالة الراوي وضبطه 207 فائدة 207 العدد الذي يثبت به الجرح والتعديل 208 رواية المجهول 208 حكم التائب من الكذب 209 حكم أخذ الأجرة على التحديث 209 الحديث المعلل 210 الحديث المضطرب 212 المدرج 213 حكم الإدراج 215 الحديث الموضوع 215 خلاصة في حكم رواية الحديث الموضوع 217 قرائن المروي 217 أسباب الوضع 219 لا يلزم من ضعف السند ضعف الحديث 221 رواية الحديث الضعيف 221 ألفاظ التعديل والجرح 223 بيان أقسام طرق نقل الحديث وتحمله 224 معرفة المصحّف من أسانيد الأحاديث ومتونها 230 عادة المحدثين 231 رموز المحدثين 231 ليس للراوي أن يزيد أو ينقص في نسب شيخه أو صفته 232 ما يستحب لكاتب الحديث 233

ذكر النبي بدل الرسول وعكسه 233 تعريف الصحابي والتابعي 233 أمور تتعلق بالصحابة 234 عدالتهم جميعا 234 أكثرهم حديثا 235 العبادلة منهم 235 أكثرهم أتباعا وأكثرهم علما 235 عدد من روى الأحاديث منهم 236 أفضلهم 236 أولهم إسلاما 237 آخرهم موتا 237 المنسوبون منهم إلى أمهاتهم 238 المخضرمون من التابعين 239 أكابر التابعين 240 أفضل التابعين 240 الخاتمة 241 فهرست الكتاب 243

§1/1