الحديث الموضوعي - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 الحديث الموضوعي - إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال.

الدرس: 1 الحديث الموضوعي - إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (الحديث الموض وعي - إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال) تعريف الحديث الموضوعي، وبيان فوائده الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: تعريف الحديث الموضوعي، وإخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال. الحديث الموضوعي: هو مصطلح جديد، وهو عبارة عن جمع الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد في مكانٍ واحدٍ من مصادر الحديث، مع التعليق الخفيف لشرح الكلمات الغامضة، وبيان الفوائد الحديثية، وما يرشد إليه الحديث. أقول: وأغلب كتب الحديث مؤلفةٌ بطريقة الحديث الموضوعي، فأغلبها كتب، وأبواب لهذه الكتب، تدور حول موضوع واحد؛ فمثلًا صحيح البخاري يحتوي على كتاب بدء الوحي، وكتاب العلم، وكتاب الإيمان، وهكذا، وتحت كل كتاب أبواب في نفس الموضوع، وهكذا (صحيح مسلم) و (سنن أبي داود (و (سنن الترمذي) وغير ذلك من كتب الحديث، ويتميز (صحيح مسلم) بأنه يجمع كل طرق الحديث في مكان واحد، ثم إن هناك كتب مؤلفة بحسب مرويات كل راوٍ دون التعلق بموضوع الحديث، مثل: (مسند الإمام أحمد) و (المعاجم الثلاثة) للإمام الطبراني وغير ذلك. وهناك كتب ترتب الأحاديث ترتيبًا أبجديًّا، بحسب الحرف الأول، والثاني والثالث للكلمة الأولى من الحديث، مثل كتاب: (الجامع الصغير) للسيوطي و (الجامع الكبير) له أيضًا المعروف بـ (جمع الجوامع) وكتاب (كنوز الحقائق في أحاديث خير الخلائق) -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرءوف المناوي. و (الجامع الأزهر في أحاديث النبي الأنور -صلى الله عليه وسلم-) له أيضًا، وكتاب (المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة) للإمام السخاوي. و (تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور

على ألسنة الناس من الحديث) لابن الديبع الشيباني، و (كشف الخفاء ومزيل الإلباس فيما يدور من الحديث على ألسنة الناس) للعجلوني، وغير ذلك؛ فيقوم من يهتم بالحديث الموضوعي بجمع الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد من كل هذه المصادر المتنوعة حتى يخرج موضوعه كاملًا، وهذا كتاب عظيم يدور كله حول الحديث الموضوعي، ألا وهو كتاب (جامع الأصول في أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-) لابن الأثير؛ حيث جمع مؤلفه تحت كل باب ما يوجد من أحاديث في نفس الموضوع، في الكتب الخمسة. و (موطأ الإمام) مالك -رحمه الله تعالى. والمراد بالكتب الخمسة (الجامع الصحيح) للإمام البخاري و (صحيح الإمام مسلم) و (سنن الترمذي) و (سنن أبي داود) و (سنن النسائي) وهو كتاب حافل، وسفر عظيم يعتبر من أهم المراجع، والمصادر للحديث الموضوعي وجاء الإمام ابن حجر العسقلاني؛ فألف كتابًا يجمع الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد في مكان واحد أسماه (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية) والمراد بالمسانيد الثمانية: هي (مسند الطيالسي) و (مسند الحميدي) و (مسند ابن أبي عمر) و (مسند مسدد) و (مسند ابن منيع) و (مسند ابن أبي شيبة) و (مسند عبد بن حميد) و (مسند ابن أبي أسامة) وأضاف إليه (مسند أبي يعلى) روايته المطولة. و (مسند إسحاق بن راهويه) من نصفه الذي وقف عليه استخرج الأحاديث الزوائد في هذه المسانيد على باقي الكتب الستة. ويضاف للستة بعد النسائي، ابن ماجه، و (مسند الإمام أحمد) ورتبها حسب الموضوعات فهو من أجمل الكتب وأحسنها في الحديث الموضوعي، ولقد حقق كتاب (المطالب العالية) هذا الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، وكتب كلمة طيبة في المقدمة حول هذا الكتاب، ومحاولات العلماء الدائمة؛ لجمع أكبر عدد من

أحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ووضع كل مجموعة متماثلة في موضوع واحد؛ وذلك حيث يقول موضوع الكتاب، أي: (كتاب المطالب العالية) يقول تحت عنوان موضوع الكتاب: لم تنقطع محاولات تجميع السنة على صعيد واحد في مصنفات مستوعبة بعد أن انتهت عهود الرواية. والتدوين الأساسي في جوامع ومصنفات، وسنن، ومسانيد. ومن القديم في ذلك ما قصده الحميدي حين ألف كتابه (الجامع بين الصحيحين) وغيره كثير إلى أن صنف ابن الأثير كتابه الذي ذكرناه آنفًا (جامع الأصول) على آثار كتاب سابقه رزيل العبدري، وهو يمثل الحلقة الأولى في تجميع كتب السنة على صورة تجريد الأسانيد، ومقارنة الروايات، ولم يكن شيء أولى بالبدء به من أحاديث الكتب الستة التي هي (الصحيحان) أي (صحيح البخاري) و (صحيح مسلم) و (سنن أبي داود) و (سنن الترمذي) و (سنن النسائي) و (سنن ابن ماجه) لكن (جامع الأصول) سدس بـ (الموطأ) أي: جعل الكتاب السادس في الكتب الستة (الموطأ) بدلًا من ابن ماجه، ثم تلاه أي: تلى ابن الأثير الحافظ نور الدين الهيثمي بتصنيف كتابه (مجمع الزوائد) مبتغيًا من تأليفه إضافة حلقة أوسع أحاطت بستة كتب أخرى هي: (معاجم الطبراني) الثلاثة، و (مسند الإمام أحمد بن حنبل) و (مسند أبي يعلى) و (مسند البزار) وهي عدا (المعجم الصغير) للطبراني تمثل أهم الأسانيد، واتجهت الأنظار بعدئذ إلى توسيع حلقة المسانيد باستيعاب أكبر عدد ممكن منها. ولا ريب أن اختيار المسانيد للتجميع، والإحاطة كان أمرًا موفقًا؛ لأن المسند يراد به جمع أحاديث كل الصحابة بالنسبة إلى مؤلفه؛ فإذا قرنت المسانيد ببعضها حصلت الإحاطة المبتغاة فالحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- وضع كتابه لذلك

الغرض كما يعرف من مقدمته حيث يقول فرأيت جمع جميع ما وقفت عليه من ذلك في كتاب واحد ليسهل الكشف منه على أولي الرغبات ثم عدلت إلى جمع الأحاديث الزائدة على الكتب المشهورات في الكتب المستندات فموضوع كتابه أنه استعرض أحاديث ثمانية مسانيد كاملة هي (مسانيد الطيالسي) و (الحميدي) و (ابن أبي عمر) و (مسدد) و (ابن منيع) و (ابن أبي شيبة) و (عبد بن حميد) و (ابن أبي أسامة) وأضاف إليها -كما قلنا- سابقًا من (مسند أبي يعلى) بروايته المطولة. و (مسند إسحاق بن راهويه) من نصفه الذي وقف عليه فاستخرج الأحاديث الزوائد فيها على ما في الكتب الستة، و (مسند الإمام أحمد)، ثم رتب تلك الأحاديث على ترتيب الأبواب الفقهية خلافًا لترتيب المسانيد المستمد منها هذا الكتاب. ثم قال حبيب الرحمن الأعظمي تحت عنوان أهمية الكتاب قال: كتاب (المطالب) أغنى ما ألف من كتب السنة ثروة، وأغزرها فائدةً لاحتوائه على زوائد تلك المسانيد الثمانية تمامًا، وعلى كثيرٍ من زوائد مسندين آخرين؛ ولجمعه في مكانٍ واحد على الترتيب الفقهي ما كان مبددًا في ثمانية أمكنة، بل في عشرة من غير مراعاة لهذ الترتيب، ولاشتماله في كثيرٍ من المواضع على بيانِ درجة الحديث من الصحة، والضعف، والاتصال، والانقطاع. وتحدث بعد ذلك حبيب الرحمن الأعظمي في مقدمته أيضًا عن كتاب شبيه بكتاب (المطالب العالية) لابن أبي حجر العسقلاني، وهو للبوصيري تلميذ ابن حجر فقال تحت عنوان: كتابٌ شبيهٌ للمطالب لكتاب المطالب نظير له يماثله في الغرض، ويضارعه في المنهج هو كتاب الحافظ شهاب الدين البوصيري، أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم، المتوفى سنة 840 هـ وهو غير البوصيري

الشاعر صاحب البردة وقد سماه: (إتحاف السادة المهرة بزوائد المسانيد العشرة)، ألفه مشتملًا على الأسانيد ثم جرده وسماه (مختصر إتحاف المهرة بزوائد المسانيد العشرة) فرغ من الإتحاف في أواخر 823 هـ ثم أتم اختصاره في رجب 32 هـ. وجمع فيه زوائد الكتب نفسها التي التزمها ابن حجر؛ فهو مماثل لكتاب (المطالب) في الاستمداد رغم اختلاف العد في التسمية، وقد تساهل السخاوي في الضوء في اعتباره (مسند أحمد) زائدًا على شرطه ويلحظ في الإتحاف الإكثار من بيان درجة الأحاديث. أما ابن حجر فذلك فيه قليل بالنسبة لـ (لإتحاف) فالكتابان تقريبًا من مشكاة واحدة، وكتبا في عصر واحد؛ لأن البوصيري تتلمذ على ابن حجر كما اشترك في الأخذ عن الحافظ العراقي، ويظن أن البوصيري اطلع على المطالب، ونقل منه دون عزو، ومن هنا نعرف أن الحديث الموضوعي باعتباره جمع الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد في مكانٍ واحدٍ هدف قديم، حاوله كثير من العلماء؛ وذلك لأهمية هذا النوع من علم الحديث الشريف. أقول: والحديث الموضوعي أيضًا منه ما يدور حول حديثٍ واحد به عدة قضايا، أو عدة أمور؛ فيتناول الباحث القضايا التي جاءت في هذا الحديث الواحد، ويقوم بجمع الآيات القرآنية، والأحاديث المتعلقة بكل قضيةٍ على حدة؛ فمثلًا حديث سؤال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة، وعلاماتها فيه قضايا كثيرة يتناولها الباحث يتناول مثلًا قضية الإسلام، وقضية الإيمان، وقضية الإحسان وقضية الساعة، وقضية علامات الساعة، وقضية هل الملك يرى أو لا يرى وكيف يرى وهل يرى على حقيقته أم لا، ثم يتعرض للملائكة من ناحية خلقهم، ومهماتهم الوظيفية التي خلقهم الله -سبحانه وتعالى- من أجلها هذا النوع أيضًا يعتبر

لون من ألوان الحديث الموضوعي الذي نقوم بإعداد هذه المادة الدراسية له في هذا المنهج المقرر بإذن الله تعالى. فوائد الحديث الموضوعي: للحديث الموضوعي فوائد عظيمة؛ بحيث لا يستغني باحثٌ في علم الحديث عن معرفة هذا العلم من أهمها: أولًا: جمع الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد، وهذا يفيد من يكتب في موضوع ما فائدة كبيرة حيث يجد كل ما يحتاجه مجموعًا بعضه إلى بعض في مكان واحد فيتيسر عليه الأمر. ثانيًا: معرفة طرق الحديث ومعلوم أن طرق الحديث، كلما زادت أعطت فوائد كثيرة منها تقوية الحديث بتعدد الطرق. ثالثًا: وفي تعدد الطرق زيادات في السند، وفي المتن، وهذه الزيادات لها فوائد حديثية في السند، وفي المتن؛ إذ الزيادة من الثقة مقبولة فقد تعطي الزيادة أحكامًا فقهية نأخذ بها، ونلزم بها ما دامت جاءت من طريق الثقة. رابعًا: جمع الأحاديث كلها أو أغلبها في مكان واحد يسهل على الباحث أن يقف على الحديث الصحيح من غير الصحيح. خامسًا: سهولة البحث عن الحديث المعروف موضوعه وعنوانه، يعني عندما يعرف الموضوع الفقهي للحديث؛ يسهل الحصول عليه من هذه الكتب التي ألفت بطريق الحديث الموضوعي. سادسًا: إثارة قضايا حديثية في الحديث الواحد، ثم نتناولها قضية قضية بالأدلة الحديثية والآيات القرآنية.

إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال.

هذه بعض فوائد دراسة مادة الحديث الموضوعي، فهي مادة مهمة ولا يستغني عنها باحث له صلة بعلم الحديث الشريف. إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال نشرع الآن فيما يتعلق بإخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال؛ فنقوم بجمع الأحاديث المتعلقة بالإخلاص في موضعٍ واحد. أقول: أهم هذه الأحاديث، -وإن كانت كلها مهمة لا يستغنى عن واحد منها- الحديث الأول روى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بسنده عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)). ولأهمية هذا الحديث ومكانته نبدأ به، كما بدأ به الإمام البخاري في كتابه الصحيح أقول: تكلم العلماء كثيرًا عن مكانة هذا الحديث وتناولوه بالشرح والتفصيل، وبينوا أنه واحدٌ من أربعةِ أحاديث هي عمدة الدين، وأنها تكفي المسلم في حياته الدنيوية، وتنجيه يوم القيامة. وليس البخاري وحده هو الذي بدأ بهذا الحديث كتابه بل أكثر علماء الحديث وأئمته، وأصحاب الكتب الأصيلة المؤلفة في جمع السنة بدأوا كتبهم أيضًا بهذا الحديث، كما صنع البخاري. وهو حديث في غاية الأهمية إذ ترى الهجرة، وهي أفضل عمل قام به من أسلم بعد كلمة التوحيد ترد هذه الهجرة على من لم يُرِدْ بها وجه الله تعالى، ويقضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنها هجرة مذمومة، مردودة على صاحبها، وغير مقبولة عند الله

تعالى؛ لأن الحق -سبحانه وتعالى- لا يقبل من الأعمال إلا ما أُريد به وجهه؛ إذ جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رب العزة أنه قال: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملًا، وأشرك فيه معي غيري تركته وشريكه)) رواه الإمام مسلم في (صحيحه). إن الله -سبحانه وتعالى- لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه رواه مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)) وأخرجه أيضًا بلفظ: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأقوالكم)) وأخرجه أيضًا بلفظ: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)). علق عليه الشيخ شعيب الأرناءوط محقق (رياض الصالحين) بقوله: وهذا الحديث يدل على أن الإنسان محاسب، ومسئول عن نيتِهِ وعمله؛ فينبغي أن تكون نيتُهُ خالصةً لوجه الله تعالى، وعمله وفق ما جاء عن الله تعالى، وصح عن رسوله -صلى الله عليه وسلم. ومن هنا لكي يقبل الله تعالى العمل يشترط فيه أن يكون عملًا صالحًا ومفيدًا وطيبًا، ويكون وفق ما جاء به الشرع الكريم، وأن يؤدى بالكيفية التي شرعها الله ورسوله، وأن يراد به وجه الله تعالى؛ إذا سقط ركن أو شرط من هذه الأركان أو هذه الشروط؛ رد العمل ولا يقبله الله تعالى. وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزاة، أي: غزوة. فقال: ((إن بالمدينة لرجالًا ما سرْتُم مسيرًا، ولا قطعتم، واديًا إلا كانوا معكم حبسهم المرض)) وفي رواية: ((إلًّا شركوكم في الأجر)) رواه مسلم، برقم 1911 ورواه البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: رجعنا من غزوة تبوك

مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إن أقوامًا خلفنا بالمدينة؛ ما سلكنا شعبًا، ولا واديًا إلا وهم معنا حبسهم العذر)) رواه البخاري في المجلد الثامن في صفحة 96. الشِّعْبُ: الطريق في الجبل، والوادي الموضع الذي يسيل فيه الماء؛ فهذا الحديث يبين أهمية النية، ومكانة الإخلاص لله تعالى؛ إذ بينَ -صلى الله عليه وسلم- أن أناسًا ما شاركوا في الغزو، ولكن كتب لهم أجر الجهاد وكأنهم مع المجاهدين خطوةً بخطوةٍ في كل شعب، وفي كل وادي؛ وذلك لإخلاصهم لله تعالى؛ إذ لم يمنعهم، ويحبسهم عن الجهاد إلا العذر فهم صادقين في النية مع الله تعالى. وهذا ما جاء في قوله تعالى في سورة التوبة قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} (التوبة: 91، 92) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5) وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} وقال تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: 29، 30). وقال تعالى في أول سورة الزمر: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر: 1، 2، 3) وقال تعالى في سورة الزمر أيضًا: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *

قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الزمر: 11: 15) وقال تعالى في سورة الأنعام: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الأنعام: 160: 164). هذه الآيات الكريمات دعت إلى الإخلاص، والعمل لله وحده وبينت أن أي عمل لا يبتغى به وجه الله فهو غير خالص لله فيرد على صاحبه ولا يقبله الله تعالى؛ وبذلك التقت الآيات الكريمة مع الأحاديث الشريفة، إذ كلها من مشكاة الوحي الإلهي والنور السماوي الذي يجب أن يتخلق به الخلق، ويتحلى به المسلم والمؤمن حتى يكون عمله مقبولا عند الله تعالى وينفعه في دنياه وفي آخرته ومما يدل على أن الإخلاص في العمل، وابتغاء وجه الله تعالى هو الذي يجعل العمل مقبولًا، بل هو يصير العادة عبادة حتى في أمتع اللحظات عندما يجلس الرجل مع زوجته يداعبها، وتداعبه، ويطعمها بيده، وتطعمه، ويضع اللقمة في فمها إذا ابتغى بذلك وجه الله تعالى؛ كان ذلك العمل عبادة؛ وأجر عليه من الحق -سبحانه وتعالى. روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) بسندهما عن أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الزهري -رضي الله عنه- أحد العشرة المبشرين بالجنة -رضي الله عنهم- قال: ((جاءني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعودني عام حجة الوداع من وجعٍ اشتدَّ بي، فقلتُ: يا رسول الله، إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلا ابنةٌ لِي، أفأتصدق بثلثي مالي؟

قال: لا؟ قلت: فالشطر يا رسول الله؟ يعني: أتصدق بالنصف فقال: لا، قلت: فالثلث يا رسول الله؟ قال: الثلث، والثلث كثير، أو كبير؛ إنك إن تذر، ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس يعني يسألون الناس، وإنك لن تنفق نفقةٌ تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك، قلت: يا رسول الله، أُخَلَّف بعد أصحابي، قال: إنك لن تُخَلَّفَ فتعمل عملًا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، اللهم امضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردَّهُم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن مات بمكة)) الحديث متفق عليه. قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) عند تعليقه على هذا الحديث: وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها، وتركوها يحبونها لله تعالى ويكرهون الإقامة فيها؛ لأنهم هاجروا منها، وأنها طردتهم، وطردت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمن ثم خشي سعد بن أبي وقاص أن يموت بمكة فتوجَّعَ، وشكى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي: رثى لسعد بن خولة؛ لكونه مات بمكة، وكان لا يحب سعد بن خولة أن يموت بها. وفي الحديث دليل لجماهير العلماء على أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث، وقوله: يرثي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن مات بمكة هو من كلام الإمام الزهري، وهذا حديث آخر في الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام؛ إذ المسلم يقدم عليه مقدمًا نفسه فداء لدينه يقدم على أعداء الدين بنفسه يحارب ويقاتل؛ فإن لم يكن هذا القتال، وهذا الإقدام خالصًا لله تعالى رد على صاحبه فالرجل الذي يقاتل حمية، أي: أنفة وعزة وغيرة لقومه لا يقبل جهاده؛ لأنه ليس في سبيل الله،

والذي يقاتل رياء وسمعة ليقال له وعنه: إنه مقاتل، وبطل، وشجاع لا يقبل جهاده حتى ولو قتل؛ لأنه لم يقتل في سبيل الله. أما الذي يقاتل لإعلاء كلمة الله ورفعة شأن الإسلام والمسلمين هذا فقط هو الذي يكون جهاده ل، وقتاله في سبيل الله. روى البخاري ومسلم بسندهما في صحيحهما عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: ((سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي: ذلك في سبيل الله فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) متفق عليه. ولقد جاء في الحديث الصحيح أن النار أول ما تصعر يوم القيامة تصعر بثلاثة أصناف هم في الظاهر من أجمل الذين اتصفوا بأفضل أوصاف في هذا الدين الحنيف؛ إذ هم عالم، وجواد يعني كريم وشهيد، لكن العالم لم يبتغي بعلمه وجه الله، وإنما أراد أن يمدحه الناس، ويثنوا عليه وعلى علمه، وتم له ما أراد، والثاني كان يطعم الطعام حتى يقال عنه وله: إنه كريم معطاء؛ إنه يطعم الطعام، وقد تم له ما أراد، قال الناس عنه ذلك. وأما الثالث: فإنه يحارب ويقاتل، ويجول، ويصول في الميدان ابتغاء السمعة وطلب الجاه وليقال عنه وله: إنه بطل وشجاع، وقد تم له ما أراد فأخذ حظه ونصيبه وثوابه الذي عمل من أجله فهو لم يعمل لوجه الله وإنما عمل لغرض آخر ليقال عنه وله ما يريد. وقيل فيه ما أراد فماذا يطلب من الله تعالى قال -صلى الله عليه وسلم- ((أول ما تسعر النار يوم القيامة بثلاثة: بعالم، وجواد، وشهيد، يؤتى بالعالم؛ فيسأله ربه، ماذا عملت في ما تعلمت؟ فيقول: يا رب تعلمت العلم فيك، وبذلته فيك، فيقال له: كذبت، إنما تعلمت من أجل أن يقال لك: عالم، وقد

قيل؛ اذهبوا به إلى النار، ثم يؤتى بالجواد أي: الرجل الكريم الذي كان يطعم الطعام، لكنه كان يطعم لغير الله، فيقال له: وأنت ماذا عملت؟ فيقول: يا ربي أطعمت فيك الطعام، فيقال له: كذبت، إنما أطعمت الطعام من أجل أن يقال لك كريم، وقد قيل؛ اذهبوا به إلى النار ثم يؤتى بالشهيد الذي قتل في الميدان، على أرض الحرب، لكنه لم يرد بقتاله وجه الله، فيقال له: وأنت ماذا عملت؟ فيقول: يا رب، قاتلت فيك حتى قتلت، فيقال له: كذبت، وإنما قاتلت من أجل أن يقال لك: بطل وشجاع، وقد قيل؛ اذهبوا به إلى النار)). أقول هذا الحديث رواه الإمام مسلم بمعناه، ورواه الإمام الترمذي الإمام مسلم رواه في رقم 1905 والترمذي رواه في رقم 2383 والنسائي رواه في الجزء السادس ص23 وص24 أقول: هذا هو العدل الكامل؛ إذ أن ذلك الصنف، أو أولئك الأصناف عملت لغير الله؛ فلتأخذ أجرها ممن عملت له؛ إذ لا يصح، ولا يعقل ألا تعمل لأحد شيئًا، ثم تذهب فتطالبه على ما لم تعمل له، وإنما خذ أجرك ممن عملت له، كما جاء في بعض الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى عن الذين يعملون لغير الله أن الحق -سبحانه وتعالى- يقول لهم يوم القيامة: اذهب؛ فخذ أجرك ممن عملت له، هذا هو العدل الإلهي يوم القيامة. ومما يدل أيضًا على أن الإخلاص في النية لله تعالى: هو الأصل في كل شيء هو الأصل في قبول الأعمال، وعدم قبولها، إن العبد إذا هم بحسنة أي هم أن يعمل حسنة فلم توافه الظروف، ولم تساعده الأحوال على أن يقوم بهذه الحسنة فيعملها فإن الله -سبحانه وتعالى- تكرمًا منه وتعطفًا يكتب له أجر حسنة كاملة؛ مع أنه لم يعملها؛ كأنه عملها ما دامت نيته صادقة وخالصة لله تعالى، وإن وفق إلى عملها مع هذه النية الطيبة الخالصة كتبها الله تعالى له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف

إلى أضعاف كثيرة ما دامت هذه نيته، وأنه ابتغى بعمله هذا وجه الله تعالى وكان مخلصًا في نيته. ومن فضل الله تعالى على عباده أن من هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله تعالى له حسنة كاملة، وإن همَّ بسيئة فعملها كتبها الله تعالى له سيئة واحدة ما لم يتب، أو يستغفر، هذا عطاء الله، وهذا فضله، وهذه معاملته لعباده، يعاملهم بنياتهم، وهو -سبحانه وتعالى- أعلم بنياتهم، وبما تنطوي عليه نفوسهم وقلوبهم. روى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ومسلم -رحمه الله تعالى- بسندهما في (صحيحهما) عن أبي العباس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه -تبارك وتعالى- قال: ((إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها؛ كتبها الله تبارك وتعالى عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها؛ كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله تعالى سيئة واحدة)) الحديث متفق عليه. رواه البخاري في الجزء الحادي عشر ص 277 وص279 ومسلم حديث برقم 131 وحتى يعلم المسلم أن المدار عند الله تعالى عند النية أن المسلمين إذا التقيا بسيفيهما فقتل أحدهما الآخر؛ أدخل الله -سبحانه وتعالى- القاتل والمقتول النار؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّنَ أن المقتول كان حريصًا على قتل أخيه الصحابة لما أخبروا أولًا بأن الله -سبحانه وتعالى- يدخل القاتل والمقتول في النار استغربوا، فقال بعضهم: يا رسول الله، هذا هو القاتل، فما بال المقتول لِمَ يدخل النار؛ فبين -صلى الله عليه وسلم- أن السبب في ذلك أن المقتول كان حريصًا على قتل صاحبه.

فهذا المقتول نيته متوجهة لقتل من قتله، فلو أتيحت له الفرصة، وتمكن من قتل الآخر لقتله؛ من هنا أدخل الله تعالى القاتل والمقتول في النار روى البخاري ومسلم بسندهما في صحيحهما عن أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار، قلت: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه)) نقل ابن حجر في (الفتح) أن الخطابي قال: هذا الوعيد لمن قاتل على عداوة دنيوية، أو طلب ملكًا مثلًا، فأما من قاتل أهل البغي، أو دفع الصائل، يعني: المعتدي؛ فَقُتِلَ؛ فلا يدخل في هذا الوعيد، لأنه مأذون له في القتال. والحديث دليل على عقوبة من عزم على معصية بقلبه، ووطن نفسه عليها، فالمدار في الإسلام على نية المرء، والله -سبحانه وتعالى- يحاسب العباد، ويعطيهم، ويمنعهم، ويدخلهم جنته، أو ناره بحسب نيته التي لا يعلمها غيره -سبحانه وتعالى- وها هي الصلاة التي هي عمود الدين عندما يخرج الرجل من بيته لا يريد إلا الصلاة، ويكون مخلصًا في ذلك لله حتى يصل إلى المسجد؛ فيصلي ما شاء، ويجلس في انتظار الصلاة مخلصًا لله لا يحبسه في مجلسه أو في مسجده إلا الصلاة، أي: انتظارها ما دامت هذه نيته؛ فإن الملائكة تستغفر له، وتدعو له بالرحمة، والمغفرة ما دام في مصلاه الذي يصلي فيه؛ بشرط ألا يحدث، يعني: لا يبطل وضوءه، أو يؤذي أحدًا من خلق الله أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين

درجة)) البضع هو العدد من الثلاثة إلى العشرة بفتح الباء، وكسرها بُضع، وبَضع. أما البُضع بضم الباء فهو موطن العورة في المرأة، وفي الرجل .... الحديث: قال -صلى الله عليه وسلم-: ((صلاة الرجل في جماعته تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة)) وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه -أي: لا يدفعه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة- لم يخطُ خطوةً إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد؛ فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)) متفق عليه، واللفظ لمسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 2 تابع: إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال.

الدرس: 2 تابع: إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال.

تتمة الحديث عن إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (تابع: إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال) تتمة الحديث عن إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: تناولنا بعض الأحاديث المتعلقة بإخلاص النية لله تعالى، وقلنا: إن المدار كله في الإسلام قائم على إخلاص النية لله تعالى، وها نحن نكمل ما بدأناه: فإن النية عندما تكون خالصة لله تعالى تكون سببًا في نجاة العبد من المهالك؛ فالذي يعمل، ولا يقصد إلا وجه الله ينجيه الحق -سبحانه وتعالى- ويجعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، وها هم ثلاثة نفر انطلقوا فألجأهم الليل إلى مبيت في غار في جبل؛ فلما دخلوا الغار سقطت صخرة على باب الغار، أو على فم الغار فأغلقته، والصخرة كبيرة، وتيقن أولئك النفر أنهم هالكون، كيف يزحزحون الصخرة الكبيرة عن فم الغار وهم في داخل الغار؟ وفكروا في الأمر. وأخيرًا هداهم الله تعالى إلى أنهم لن ينجيهم مما هم فيه إلا اللجوء إلى الله وحده، والدعاء إليه، والتضرع بخالص الأعمال، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((انطلق ثلاثةُ نفرٍ ممن كان قبلكم حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرةٌ من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا والغبوق هو الشرب بالعشي يقول: فنأى بي طلب الشجر فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لها غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا فلبثت، والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون، أي يبكون من الجوع عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، يقول اللهم: إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك؛ ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج منه، وقال الآخر اللهم: إنه كانت لي ابنة عم كانت أحبَّ الناس إلي)).

وفي رواية: ((كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء فراودتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت يعني نزلت بها سنة من السنين، يعني: جدب وفقر في سنة من السنين؛ فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها)). وفي رواية: ((فلما قعدت منها قالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه؛ فانصرفتُ عنها، وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك؛ فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال: الثالث اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره يعني نميته حتى كثرت منه الأموال فجاء بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري فقلت كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: لا أستهزئ بك؛ فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا، اللهم: إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجنك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)) الحديث متفق عليه في البخاري في الجزء الرابع ص 340، و369 وفي الجزء الخامس ص12 وفي الجزء السادس في ص367 وفي الجزء العاشر في ص338 وفي صحيح مسلم الحديث برقم الحديث برقم 2473. قال الشيخ شعيب الأرناءوط معلقًا على هذا الحديث في هامش (رياض الصالحين) الذي حقق نصوصه، وخرج أحاديثه، وعلق عليه قال: وفي الحديث مشروعية الدعاء عند الكرب، أو عند الكرب، والتوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح، وفضل بر الوالدين، وخدمتهما، وإيثارهما على من سواهما من الولد

والزوجة، وفضل العفة، ومخالفة الهوى، وفضل السماحة في المعاملة، وأداء الأمانة، وإثبات كرامات الأولياء. ولنعد إلى أهم حديث في النية: والذي ابتدأ به الإمام البخاري كتابه الصحيح ألا وهو حديث: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه)) ولأهمية هذا الحديث سأتناوله بالشرح بالتفصيل. المعنى العام للحديث: في هذا الحديث يبين لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أن الله مطلع على النوايا، وخبايا النفوس لا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء وأنه -سبحانه وتعالى- لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، وكل امرئ له ما نواه، وإن أعظم حدث في تاريخ الإسلام ألا وهو الهجرة من مكة إلى المدينة، وترك الولد والوطن، والمال إذا لم يكن ذلك بدافع من ضمير المسلم حبًّا في نصرة دين الله، وهجرة إلى مكان يمكن فيه أن يعبد الله، وأن يجهر بدعوته، أي: أن الهجرة تكون خالصةً لله ولرسوله إذا لم تكن كذلك؛ فلا قيمة لها ((فمن كانت هجرته إلى دنيا)) أي: إلى الحصول على متاع رخيص من مُتَعِ الدنيا فهجرته إلى دنياه التي هاجر من أجلها، ومن كانت هجرته من أجل امرأة يريد أن يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، ولا شيء له في فضلِ الله ورضوانه. قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملًا وأشرك فيه معي غيري تركته، وشريكه)) فمن عمل عملًا، وأشرك فيه غير الله باء ذلك العمل

بالخسران، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)). توضيح الحديث: قلت في توضيحه النيات جمع نية، والنيَّة بكسر النون وتشديد الياء على المشهور، وفي بعض اللغات بتخفيفها أي: النَّيَة. وقال الخطابي: النية هي قصدك الشيء بقلبك، وتحري الطلب منك له، وقال التيمي: هي وجهة القلب. وقال الإمام البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالًا ومآلًا. مناسبة رواية جمع النية، يعني: قوله: ((بالنيات)) إن ذلك من مقابلة الجمع بالجمع، أي: كل عمل بنية. وقال الخوبي: كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع، كما تتنوع الأعمال فمن قصد بعمله وجه الله، أو تحصيل موعوده، أو الاتقاء لوعيده، كما قصد بعمله وجه الله، أو بتحصيل موعوده، أو الاتقاء لوعيده. مناسبة رواية إفراد النية: لأن هناك رواية تقول: ((إنما الأعمال بالنية)) وقع ذلك في معظم الروايات، ومناسبته أن محل النية القلب، وهو متحد؛ فناسب إفرادها بخلاف الأعمال؛ فإنها متعلقة بالظواهر وهي متعددة فناسب جمعها؛ ولأن النية ترجع إلى الإخلاص، وهو واحد لله الواحد الذي لا شريك له، وتركيب: ((إنما الأعمال بالنيات)) يفيد الحصر عند المحققين وجه إفادة الحصر قيل: إن وجه إفادة هذا التركيب للحصر؛ لأن الأعمال جمع محلى بالألف، واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر؛ لأن معناه كل عمل بنية؛ فلا عمل إلا بنية. وقيل: لأن إنما للحصر، إفادة إنما الحصر. قال ابن دقيق العيد: استدل على إفادة، إنما للحصر بأن ابن عباس -رضي الله عنهما- استدل على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة؛ بحديث: ((إنما الربا في النسيئة)) وعارضه

جماعة من الصحابة في الحكم، ولم يخالفوه في فهمه؛ فكان كالاتفاق منهم على أن "إنما" تفيد الحصر. هل النية شرط أم ركن لقبول الأعمال؟ الراجح: أن النية ركن في أول العبادة، ويشترط استصحابها إلى آخرها، بأن تعرى عن المنافي، ولا يرد على ذلك، نحو: صوم رمضان بنية قضاء، أو نذر حيث لم يقع عن ذلك مع نيته لعدم قابلية المحل، والضرورة في الحج حيث لم يقع حجه للمستأجر مع نيته، بل للناوي مع عدم نيته لنفسه؛ لأن نفس الحج وقع، ولو كان بغير المنوى له، والفرق بينه، وبين نية القضاء، أو النذر في رمضان حيث لا يصح مطلقًا أن التعيين ليس بشرط في الحج بل له أن يحرم مطلقًا، ثم يصرفه إلى ما شاء؛ ولذا لو أحرم بنفله، وعليه فرضه انصرف للغرض انصرف للفرض، ولا كذلك الصوم. وأما إزالة النجاسة: حيث لا يفتقر إلى نية؛ فلأنها من قبيل المتروك نعم يفتقر إليها من حيث الثواب كترك الزنا لا يثاب عليه إلا إذا قصد أنه تركه امتثالًا للشرع، وكذلك نحو القراءة، والأذان، والذكر لا يحتاج إلى نية لصراحتها إلا لغرض الإثابة وخرج ذلك. إما بدليل آخر لاستحالة دخوله في النية كالنية، ومعرفة الله تعالى؛ لأن النية لو توقفت على نية كان ذلك تسلسل، ودور وهما محالان، ومعرفة الله تعالى لو توقفت على نية؛ لكان عارفًا قبل المعرفة لينوي، وهذا أيضًا محال. محل النية: والنية محلها القلب؛ فلا يكفِي النطقُ بها مع غفلته، نعم هو مستحب ليساعد اللسان القلب. شرط النية: وشروطها إسلام الناوي وتمييزه أي أن يكون مميزًا وعمله بالمنوي والجزم شك لا يصح فإن شك في حدثه فتوضأ احتياطًا ثم بان تبين أنه محدث لم

يجزه الوضوء لأنه كان مترددًا في النية بلا ضرورة بخلاف ما إذا لم يظهر حدثه؛ فإنه يجزيه للضرورة، والقصد بها تمييز العبادة عن العادة، أو تمييز رتبة العبادة، ووقتها في وقت النية أول العبادات إلا في الصوم لعسر مراقبة الفجر امرئ بكسر الراء، وهي لغة القرآن الكريم معرب من وجهين؛ فإذا كان فيه ألف الوصل كان فيه ثلاث لغات، الأولى وهي لغة القرآن الكريم إعرابها على كل حال قال تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ} (النساء: 176)، وقال تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (الأنفال: 24) اللغة الثانية فتح الراء على كل حال امرأ يعني يقال امرءًا، الثالثة ضمها على كل حال أي ضم الراء؛ فإذا حذفت ألف الوصل قلت: هذا مرءٌ، وذاك مرءً ومررت بمرءٍ، وجمعه من غير لفظه، تقول: رجال أو قوم. ثم ننتقل إلى الهجرة. ومعناها: فالهجرة هي الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره. وفي الشرع ترك ما نهى الله عنه. وقد وقعت في الإسلام على وجهين الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتي الحبشة الأولى، والثانية، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة، الثاني الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان؛ وذلك بعد أن استقر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة؛ إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة؛ فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان لمن قدر عليه باقيه والهجرة الاصطلاحية، والتي أريد بها المهاجرون في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} (التوبة: 100) المهاجرون هنا تعريف الهجرة بالنسبة لهم، ولمن جاء بعدهم إلى يوم القيامة هي الانتقال من مكة

إلى المدينة قبل فتح مكة. أما بعد فتح مكة فتكون هجرة لغة فقط؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا هجرة بعد الفتح -أي: لا هجرة اصطلاحية- ولكن جهاد ونية)) كما في الحديث ((وإذا استنفرتم فانفروا)). وقد قسم بعض العلماء الهجرة إلى خمسة أقسام: الأولى: الهجرة إلى الحبشة. الثانية: الهجرة من مكة إلى المدينة. الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة. الخامسة: هجرة ما نهى الله عنه. وأضاف بعضهم ثلاثة أقسام أخرى: أولها: الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة؛ فإن الصحابة هاجروا إليها مرتين. الثانية: هجرة من كان مقيمًا ببلاد الكفر، ولا يقدر على إظهار الدين؛ فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى دار الإسلام، كما صرح بذلك بعض العلماء. الثالثة: الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن كما روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم، وهاجر إبراهيم -عليه السلام- ويبقى في الأرض شرارُ أهلها)) جاء ذلك في (فتح الباري) في الجزء الأول ص40 حكم الهجرة بعد فتح مكة، وتمكين الإسلام في الأرض. أقول: بعد ما تمكن الإسلام من النفوس، وأصبح له دولة بالمدينة المنورة، وفتح الله مكة، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)) وعلى ذلك من

هاجر بعد الفتح لا يكون كالمهاجرين السابقين على الفتح، ولا يأخذ حكم المهاجرين. أما الفرار من بلاد الظلم إلى بلاد العدل، والإيمان فباقيةُ إلى قيام الساعة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 97) وأما هجرة الذنوب والمعاصي فباقية أيضًا إلى قيام الساعة قال -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانِهِ ويدهِ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) دنيا بضم الدال. وحكى ابن قتيبة كسرها فقال: "دنيا" وهي فعلى، وفعلى من الدنو، وهو القرب سميت بذلك لسبقها للأخرى، وقيل: سميت بذلك لدنوهَا إلى الزوال. واختلف في حقيقتها، فقيل: الدنيا ما على الأرض من الضوء، والجو وقيل كل المخلوقات من الجواهر والأعراض، والأولى هو الأول، لكن يزاد فيه قبل قيام الساعة. يصيبها، أي: يحصلها؛ لأن تحصيلها كإصابة الغرض بالسهم، بجامع حصول المقصود في كلٍّ، أو امرأة بعد أن تكلم عن الدنيا نص على المرأة ليبين الاهتمام بشأنها؛ فالتنصيص عليها من الخاص بعد العام، ويكون للاهتمام بالشيء ونكتة الاهتمام بها زيادة التحذير؛ لأن الافتتان بالمرأة أشد فهجرته إلى ما هاجر إليه مقابل فهجرته إلى الله ورسوله؛ فأظهر في فهجرته إلى الله، ورسوله؛ لقصده الالتذاذ بذكر الله تعالى. وذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعظم شأنهما وشأن هذه الهجرة التي كانت لله ولرسوله وأضمر في الهجرة الثانية الهجرة من أجل الدنيا والمرأة أضمر فقال: ((فهجرته إلى ما هاجر)) إليه. أي: إلى ما هاجر إليه من الدنيا

والمرأة؛ لأن السياق يشعر بالحث على الإعراض عنهما، وأن ذلك قبيح، ولكن يكون قبيحًا إذا كان الأمر خالصًا للدنيا والمرأة، أو لأحدهما أما لو اقترنت الهجرة بالزواج فلا شيء فيها، ولكن درجتها أقل من الهجرة الخالصة. قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): من نوى بهجرته مفارقةَ دار الكفر وتزوج المرأة معًا لا تكون قبيحةً، ولا تكون هجرته غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة؛ فإنه يثاب على قصد الهجرة، لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله تعالى؛ لأنه من الأمر المباح الذي يثاب فاعله إذا قصد به القربى كالإعفاف. ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة: فيما رواه النسائي عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم؛ فكان صداق ما بينهما الإسلام أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة؛ فخطبها أبو طلحة، فقالت: إني قد أسلمت؛ فإن أسلمت تزوجتك فأسلم فتزوجته، وهو محمول على أنه رغب في الإسلام أولًا، ودخله من وجهه، وضم إلى ذلك إرادة التزويج، وهو مباح؛ فصار كمن نوى بصومِهِ العبادة والحمية، يعني: الصحة، أو بطوافه العبادة، وملازمة الغريم. واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب: أنه إن كان القصد الدنيوي، هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجر بقدره، أي: كان الأغلب القصد الديني، وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين، فلا أجر؛ أما إذا نوى العبادة، وخالطها بشيء مما يغاير الإخلاص؛ فقد نقَلَ أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف بأن الاعتبار بالابتداء؛ فإن كان ابتداؤه لله خالصًا لم يضره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب وغيره.

الإعراب، أي: إعراب الحديث: " سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول" أي: سمعت كلامه حال كونه يقول؛ فجملة يقول حال مبنية للمحذوف المقدر بكلام؛ لأن الذات لا تسمع. وقال الأخفش: إذا عُلِّقَت سمعت بغير مسموع، كسمعت زيدًا يقول: فهي متعدية إلى مفعولين الثاني، منهما جملة جملة، يقول: وليس التعدي إلى مفعولين خاصًّا بباب أعطيت، أو ظننت خلافًا لبعضهم، فقد ألحق بهما أفعال التعبير، وضرب مع المثل نحو قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} (النحل: 75). ورأى الحلمي لقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (يوسف: 36) وأتى بيقول المضارع في رواية من ذكرها بعد مقال الماضي، إما حكاية لحال وقوع السماع، أو لإحضار ذلك في ذهن السامعين؛ تحقيقًا وتأكيدًا له، وإلا فالأصل: أن يقال: قال، كما جاء في رواية أخرى ليطابق سمعت. بالنيات: الباء للمصاحبة أو السببية، ويظهر أثر ذلك في أن النية شرط، أو ركن، والراجح: أنها ركن في أول العبادة، ويشترط استصحابها إلى آخرها بأن تعرى عن المنافي. إلى دنيا يصيبها: إلى حرف جر، ودنيا مجرورة بإلى، وعلامة الجر الكسرة منع من ظهورها التعذر، ويصيب فعل مضارع مرفوع؛ لتجرده من الناصب والجازم، والهاء ضمير ضمير مفعول به يعود على دنيا يصيبها جملة في موضع جر صفة لدنيا؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه هذه الجملة جواب الشرط في قوله "فمن". سبب ورود هذا الحديث. وقد اشتهر أن سبب ورود هذا الحديث قصة مهاجر، أم قيس المروية في (المعجم الكبير) للطبراني بإسناد رجاله ثقات من رواية الأعمش، وغيره ولفظه عن أبي

وائل عن ابن مسعود، قال: كان فينا رجل خطب امرأةً يقال لها: أم قيس فأبت أن تتزوجه، حتى يهاجر؛ فهاجر فتزوجها، قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس. وذكر أبو الخطاب ابن دحية: أن اسم المرأة قيلة، وأما الرجل: فلم يذكره أحد ممن صنف في الصحابة وما قيل إن اسمه حاطب لم يثبت وهذا السبب. وإن كان خاص المورد لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. منزلة هذا الحديث بين الأحاديث: اعلم: أن هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام. قال أبو داود: يكفي الإنسان لدينِهِ أربعة أحاديث: 1 - ((الأعمال بالنية)). 2 - من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. 3 - ((ولا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه))، ((والحلال بين والحرام بين)) وذكره غيره غيرَ هذه الأحاديث؛ فبعضهم جعل حديث: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) من هذه الأحاديث، وبعضهم جعل حديث: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في يدِ الناس يحبك الناس)) واحدًا من هذه الأحاديث الأربعة. وقال الشافعي وأحمد: إن هذا الحديث يدخل فيه ثلث العلم. قال البيهقي موضحًا ذلك: إذ كسب العبد إما بقلبه، أو بلسانه أو ببقية جوارحه والنية هي عمل القلب فهي تقوم بالثلث وعن الشافعي أيضًا أنه يدخل فيه نصف العلم ووجهه بأن للدين ظاهرًا وباطنًا. والنية: متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر؛ وأيضًا فالنية عبودية بالقلب، والعمل عبودية بالجوارح.

وقال الشيخ محمد أنور الكشميري: واعلم أن الحديث تكلموا عليه قديمًا وحديثًا وهو من أساس الدين حتى روي عن الشافعي -رحمه الله تعالى- أنه يدخل فيه نصف العلم. وروي عن أحمد -رحمه الله تعالى- أنه ثلث الإسلام، أو ثلث العلم، وقيل: ربعه كما قيل: عمدةُ الخيرِ عندنا كلمات ... أربع قالهن خيرُ البرية اتق الشبهات وازهد ... ودع ما ليس يعنيكَ واعملن بنية ثم قال: ونسبهما علي القاري -رحمه الله تعالى- إلى الإمام الشافعي أي: هذه الأبيات -رحم الله الجميع- وهو سهو من الشيخ علي القاري، بل هما لشاعر آخر، كما علم ذلك من (شروح عقود الجمان) للسيوطي -رحمه الله تعالى. ما يؤخذ وما يستفاد من هذا الحديث: هذا الحديث فيه فوائد كثيرة منها: يجب أن يكون العمل خالصًا لله تعالى فالله -سبحانه وتعالى- أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملًا أشرك فيه غير الله تركه الله وشريكه قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} (البينة: 5) وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (الزمر: 11). الفائدة الثانية: النية ركن في الأعمال، فأي: عمل لا يبتدئ بالنية، وتصاحبه النية إلى نهايته، فهو عمل باطل ومردود على صاحبه. الفائدة الثالثة: أن الإنسان مجزي، ومحاسب على ما يقدمه، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَ} (الزلزلة: 7، 8)، وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء: 47).

كيف يخلص العبد نيته لله تعالى؟.

الفائدة الرابعة: حب الدنيا رأس كل خطيئة، وعلى المسلم أن يحذر منها قال تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (لقمان: 33). الفائدة الخامسة التحذير من فتنة النساء، وأنها فتنة شديد يجب البعد عنها والاحتراز منها ولهذا نبه عليها بعد الدنيا لشدة الافتتان بسببها. كيف يخلص العبد نيته لله تعالى؟ أما كيف يخلص العبد نيته لله تعالى؛ فإن ذلك الإخلاص يتحقق بأمور لابد أن يتخَلَّقَ بها العبد، وأن يلتزم بها الإنسان، هي أمور كثيرة أهمها: أولًا: مراقبة الله تعالى في السر والعلن، والشعور بأن الله مطلع على أعمال العبد كلها سرها وجهرها، كبيرها وصغيرها، ولابد أن يشعر العبد بأن الله مراقب له مراقبةً تتعلق بكل أفعاله وأقواله؛ إذا خلا في مكان وحده يشعر بأن الله وحده ومطلع عليه، عندما يصل الإنسان إلى هذه المراقبة، وهذا الشعور حينئذ يعمل لله وحده ولا يهمه سواه، قال تعالى عن هذه المراقبة منه لكل خلقه ليبين لعباده مدى علمه بكل أمورهم قال: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَال} (الرعد: 8: 11)، وقال تعالى في سورة طه: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلا * الرَّحْمَنُ عَلَى

الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (طه: 1: 7). وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة: 7)، وقال تعالى في سورة الأعلى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى * سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} (الأعلى: 1: 7). وها هو الحديث النبوي الشريف يعلن عن هذه المراقبة، ويطالب المسلم أن يراقب ربه في كل وقت، وفي كل مكان عن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالِقِ الناسَ بخلق حسن)) رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي. قال ذلك السيوطي في كتابه (الجامع الصغير) الجزء الأول ص8، وروى الطبراني وأبو نعيم في (الحلية) عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أفضل الإيمان أن تعلم أن الله شاهدك أو أن الله معك حيثما كنت)) رواه السيوطي في (الجامع الصغير) في الجزء الأول ص49 وقال عنه: ضعيف إلا أن له الشاهد السابق. وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((اتق الله حيثما كنت)) الحديث. وحديث سؤال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وعلاماتها. هذا الحديث يعرف بأنه أم السنة في إجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- لسيدنا جبريل عن سؤاله عن الإحسان أعلن -صلى الله عليه وسلم- عن هذه المراقبة المطلوبة، وهي الشعور بأن الله مع الإنسان، وأنه مطلع عليه وأنه يراه في أي مكان كأن العبد يرى الله تعالى، فإن لم يكن العبد يرى الحق؛ فإن الحقَّ يرى العبد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((لما سأله جبريل ما الإحسان يا محمد؟ قال له -عليه الصلاة والسلام-: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

ثانيًا: على العبد أن يعلم بعد أن يوقين يقينًا لا يعتريه أدنى شك بأن الله مطلع عليه، عليه أن يعلم أن لله ملائكة كرامًا يكتبون ما يفعل، وما يقول وأن هذا الذي يكتب عليه سيظهر سجلًا يوم القيامة، ويكلف العبد بأن يقرأه بنفسه، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الانفطار: 10: 12)، وفي سورة ق بين الحق -سبحانه وتعالى- أن العبد يكتب عليه كل شيء حتى القول كل ما يتلفظ به قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 16: 18). وبينت سورة الإسراء أن الإنسان تكتب عليه أعماله في كتاب سيقرؤه بنفسه قارئًا أو غير قارئ سيقرؤه يوم القيامة ليكون هو أول الشاهدين على نفسه بما فعله في الدنيا قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإسراء: 13، 14). ثالثًا: وبعد أن يعلم العبد بعلم الله بعمله، وتسجيله عليه عليه أن يوقن بأن الله تعالى سيحاسبه، وسيجازيه على عمله سيجازيه بالإحسان إحسانًا وبالإساءة سوءًا، وأنه بعد الحساب، إما الجنة، وإما النار، قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13، 14). وقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ

يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (المطففين: 1: 28). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((والذي نفسي بيده لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون، وإنها لجنة أبدًا، أو لنار أبدًا)) فإذا علم العبد أنه محاسب، وأنه مجازى على أعماله التي اطلع الله عليها، وسطرتها عليه الملائكة الكرام إذا أيقن من ذلك عمل لله وحده، وتخلص من الرياء والسمعة، وصار عمله خالصًا لله تعالى، خاصة عندما يتحلى بالصدق مع الله تعالى، وعدم الرياء. من هنا كان الأمر الرابع البعد كل البعد عن الرياء والسمعة، وأن يعمل العبد لله وحده، وأن يعتقد اعتقادًا جازمًا يقينيًّا لا شائبة فيه؛ بأن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، ويعلم بأن قليل الرياء شرك فيحذره، ويبتعد عنه، ولقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا من الرياء، وبيَّنَ -صلى الله عليه وسلم- أنه مبطلٌ للأعمال. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((قليل الرياء شرك)) هذه الأمور التي ذكرتها هي أهم ما يجعل العبد مخلصًا لله تعالى فإذا تحقق العبد، وتخلق بهذه الأمور أخلص لله قوله وعمله؛ فإذا علم العبد أن الله مطلع عليه، ومراقب له، وأن كل عمل يعمله، أو يقوله مسطر عليه، وأن ذلك المكتوب سيحضره الله له يوم القيامة، ويقرؤه بنفسه، ثم يجازيه على هذه الأعمال إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا؛ وأدت هذه الأمور إلى ترك الرياء الذي يبطل الأعمال، وأخلص العبد لله تعالى في كل أموره، وكان صادقًا مع الله تعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 3 تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته.

الدرس: 3 تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته.

تعريف الإيمان، وبيان أنه قول وعمل.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته) تعريف الإيمان، وبيان أنه قول وعمل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: وبعد، الإيمان وما يتعلق به من مباحث وأحكام -أقول وبالله التوفيق-: الإيمان هو التصديق، ولكن الإيمان الذي ينجي صاحبه، إنما هو الإيمان بالقلب، أي: التصديق بالقلب، ونقر العبد بلسانه؛ لأنه مؤمن وأن تعمل جوارحه وفق متطلبات الإيمان ولذلك كان التعريف الكامل للإيمان هو: الإيمان تصديق بالجنان، أي: بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان أي بالجوارح هذه هي الأركان الثلاثة التي تجعل الإيمان مقبولًا وصحيحًا، ينفع صاحبه عند الله تعالى. ومن هذا التعريف: نعلم أن الإيمان قولٌ وعمل وعقيدة، وأن الإيمان من غير عمل لا قيمة له، وأن العمل الذي لا يبنى على الإيمان عملٌ باطل وضائع وفاسد، ولا قيمة له عند الله تعالى. ولقد عقد الإمام البخاري في (صحيحه) في كتاب الإيمان بابًا بعنوان: باب من قال: إن الإيمان هو العمل، وتحت هذا العنوان أتى بحديث يدل على أن الإيمان هو العمل سئل -صلى الله عليه وسلم- في الحديث عن أفضل العمل فكان جوابه -صلى الله عليه وسلم-: ((الإيمان بالله ورسوله ثم الجهاد ثم الحج المبرور)) فجعل الإيمان نوع من العمل بل هو أفضل العمل روى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل أي العمل أفضل قال: ((إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور)). والدليل أيضًا على أن الإيمان هو العمل، وليس مجرد الاعتقاد حديث آخر رواه البخاري بسنده عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أي العمل أفضل؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: إيمان بالله وجهاد في سبيله، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعًا، أو

تصنع لأخرق قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تدع الناس من الشر؛ فإنها صدقة تتصدق بها على نفسك)). فالسؤال في الحديث من أبي ذر -رضي الله عنه- عن أفضل الأعمال فأجابه -صلى الله عليه وسلم- بأن الإيمان هو أفضل الأعمال، ثم يتبعه بعد ذلك الجهاد، ثم إلى آخر الحديث. جعل -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عملًا من الأعمال، بل هو أفضل الأعمال، ثم بعد ذلك الجهاد في سبيل الله تعالى، ثم بعد ذلك تظهر أثار الإيمان على المؤمن، فيعتق أغلى الرقاب ثمنًا وأنفسها، أي: أغلاها عنده ثم يعين ذا الحاجة، ويُعَلِّمُ من لم يحسن الصنعة كيف يصنع، ويرفع أذاه وشره عن الناس. ولقد جاءت أحاديث تبين أن الإيمان تصديق وقول وعمل، وإن كان في هذه الأحاديث بعض الضعف إلا أنها يستأنس بها؛ فإنها ثبتت في الأحاديث الصحيحة أوردناها، والتي هي من رواية إمام أهل الحديث -الإمام البخاري- ما يدل على أن الإيمان تصديق، وقول وعمل؛ فمن هذه الأحاديث روى ابن ماجه، والطبراني في (المعجم الكبير) عن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان)). وروى الشيرازي في (الألقاب) عن عائشة -رضي الله عنها-: ((الإيمان بالله الإقرار باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالأركان)) هذان الحديثان رواهما الإمام السيوطي في (الجامع الصغير) وأسندهما إلى ما ذكرت من مصادر للحديث. ومما يدل على أن الإيمان عقيدة وعمل وإقرار، ما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ((نهينا أن نسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء؛ فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله، ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله

أرسلك قال: صدق. قال الأعرابي: فمن خلق السماء؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: الله قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، اللهُ أرسلك؟ قال -صلى الله عليه وسلم- نعم. قال الأعرابي: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال -صلى الله عليه وسلم-: صدق، قال فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: نعم، قال الأعرابي: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، قال -صلى الله عليه وسلم-: صدق، قال: فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال الأعرابي: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: صدق، قال الأعرابي: فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: نعم، قال الأعرابي: وزعم رسولك أن علينا حج البيت الحرام من استطاع إليه سبيلًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: صدق. قال: ثم ولى -أي الأعرابي قال الأعرابي بعدما ولى واتجه في طريقه سائرًا-: والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لئن صدق ليدخلن الجنة)). في رواية من روايات الإمام مسلم: قال أنس: كنا نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، وساق هذا الحديث يشير أنس بذلك إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} (المائدة: 100، 101). وفي مسلم أيضًا بسنده عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- ((أن أعرابيًّا عرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في سفر؛ فأخذ بخطام ناقته، أو بزمامها ثم قال: يا رسول الله، أو يا محمد، أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار. قال: فكف النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم نظر في أصحابه، ثم قال: لقد وُفِّقَ ثم قال: كيف قلت؟ قال:

فأعاد الأعرابي السؤال؛ فقال -عليه الصلاة والسلام-: تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم، دع الناقة)). ومما ورد في ذلك أيضًا ما رواه الإمام مسلم أيضًا في صحيحه بسنده عن أبي أيوب -رضي الله عنه- قال: ((جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: دُلَّنِي على عمل أعمله يدنيني من الجنة، ويباعدني من النار، قال: تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك، فلما أدبر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن تمسك بما أمر به دخل الجنة)). وفي رواية ابن أبي شيبة: ((إن تمسك به دخل الجنة)) في رواية أخرى للإمام مسلم أيضًا بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: ((أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: والذي نفسي بيده؛ لا أزيد على هذا شيئًا أبدًا، ولا أنقص منه؛ فلما ولَّى؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)). وروى مسلم بسنده عن جابر -رضي الله عنه- قال: ((أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- النعمان بن نوفل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إذا صليت المكتوبة، وحرَّمْتُ الحرام، وأحللت الحلال، أأدخل الجنة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: نعم)) في رواية: ((ولم أزد على ذلك شيئًا)). وبسنده عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: ((أن رجلًا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيت يا رسول الله إذا صليت الصلوات المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئًا أأدخل الجنة؟ قال: نعم، قال: والله لا أزيد على ذلك شيئًا)).

ومن أظهر الأدلة على أن الإيمان عقيدة وعمل: حديث: "بني الإسلام على خمس" إذ الركن الأول عقيدة، وهو الشهادتان والأربعة الباقية عمل روى مسلم بسنده في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بني الإسلام على خمسة -وفي رواية: على خمس-: شهادة ألا إله لا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصوم رمضان)). وأيضًا حديث بعث معاذًا -رضي الله عنه- إلى اليمن: يدل على أن الإيمان قول وعقيدة، وعمل روى مسلم بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن معاذًا قال: ((بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب؛ فادعوهم إلى شهادة ألا إله إلا الله، وأني رسول الله؛ فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة؛ فإن هم أطاعوا لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم؛ فترد في فقرائهم؛ فإن هم أطاعوا لذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم، واتقي دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها، وبين الله حجاب)). وفي رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذًا إلى اليمن قال: ((يا معاذ إنك تقدم على قوم أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله -عز وجل- فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم؛ فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاةً تؤخذ من أغنيائهم؛ فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم، وتوقّ كرائم أموالهم)). فهذه الأحاديث بينت أن أول شيء هو عبادة الله وحده في رواية، في رواية ومعرفة الله، وفي رواية، "والشهادتان" وهذا كله عقيدة ثم انتقلت الروايات بعد ذلك تعلم عن مطالب هذه العقيدة، وهي الصلاة والزكاة، والصوم، والحج.

وفي حديث برواياته الشهادتان: "والصلاة والزكاة" وبينت الصلاة، وكذلك الزكاة على التوحيد، والإقرار للعبودية لله تعالى؛ فالإيمان عقيدة، وقول وعمل هذا ما تظاهرت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والذي يجب أن يعتقده كل مسلم؛ فالعقيدة وحدها لا تكفي؛ بل لابد من العمل والعمل وحده لا يكفي، بل لابد من العقيدة الصحيحة التي يبتنى عليها العمل، وأن يأتي العمل وفق الشرع، وأن يكون خالصًا لله -سبحانه وتعالى. إن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- حارب من أجل فريضة الزكاة، ولم يكتفِ من أحد بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأقسم أنه ليقاتلن كل من فرّق بين الصلاة والزكاة. وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في أول من اعترض على أبي بكر الصديق، كيف يقاتل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ فبيّن له أبو بكر أنه لا بد أن يطابق القولُ العمل، وأن العقيدة الصحيحة قول وعمل، وأن الإيمان عقيدة وعمل، والعمل هو حق لكلمة لا إله إلا الله. وكان سبب اعتراض عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في بادئ الأمر أنه فهم من قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله؛ فقد عصم مني ماله، ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)) فهم عمر أنه بمجرد ما يقول: لا إله إلا الله فقد عصم دمه. أما أبو بكر: فرتب العصمة لكل من يقولها، ويقوم بحقها؛ فأقسم أنهم لو منعوه عقالًا، أي: خطامًا يجر به بعير، أو عناقًا أي: جديًا صغيرًا -شاة صغيرة- كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها. وبيَّنَ لعمر -رضي الله عنه- وغيره أن الزكاة من حق لا إله إلا الله. روى مسلم بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب. قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأبي بكر: كيف تقاتلُ الناس، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:

لا إله إلا الله؛ فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله. فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسوله الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق)). ورواه بسنده أيضًا عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة -رضي الله عنه- أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله؛ عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)). وبلفظ آخر رواه مسلم أيضًا بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)). وفي رواية أخرى بسنده عن أبي صالح وأبي هريرة -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس)) بمثل حديث ابن المسيب السابق عن أبي هريرة وتحول السند إلى جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- فقال جابر: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوا: لا إله إلا الله؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وحسابهم على الله. ثم قرأ {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ})).؟ وبسنده عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)). وبسنده أيضًا عن أبي مالك عن أبيه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله)).

متعلقات الإيمان "الإيمان بالله وملائكته".

وبسنده عن أبي مالك عن أبيه أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من وحّد الله)) ثم ذكر الحديث بمثله. فمجموع هذه الروايات تبين: أن الإيمان عقيدة وعمل، وأن كلمة التوحيد لا بد أن تكون مقرونة بشهادة: أن محمد رسول الله، وأن هذه الكلمة لها حقوق، فإن على من يقولها أن يقيم الصلاة، وأن يؤتي الزكاة، وأن يصوم رمضان، وأن يحج البيت إن استطاع إليه سبيلا، هذا هو حق لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ أي أن العقيدة الصحيحة من حقها الأعمال الصالحة، وأول هذه الحقوق: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج ... وبقية شعائر الإسلام. متعلقات الإيمان "الإيمان بالله وملائكته" متعلقات الإيمان: الإيمان له متعلقات لا بد أن يقوم بها المؤمن جاءت هذه المتعلقات في آخر سورة البقرة، وفي حديث جبريل وسؤالاته للنبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المتعلقات ست، أربعة ذكرت في سورة البقرة واثنتان ذكرتا في حديث جبريل بسؤاله النبي -صلى الله عليه وسلم- ففي سورة البقرة أعلنت الآية قبل الأخيرة من سورة البقرة: أن من أركان الإيمان الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله: أربعة. والحديث صرّح باثنتين زائدتين هما: الإقرار بالبعث: أن يوقن المؤمن بأن هناك يوم آخر هو يوم البعث والحساب والنشور، ثم الإيمان، والإذعان بالقضاء والقدر، فهذه هي الأركان الستة، والمتعلقات الستة للإيمان. هذه المتعلقات هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله جاءت في الآية الكريمة، ويزاد على ذلك الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره والإيمان بالساعة وعلاماتها.

قال تعالى في سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة: 285). أما الحديث: فروى الإمام مسلم في (صحيحه) بسنده عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: ((بينما نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسند ركبتيه إلى ركبتي النبي -صلى الله عليه وسلم- ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخْبِرْنِي عن الإيمان؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها -يعني علاماتها- قال له -عليه الصلاة والسلام-: أن تلد الأمة ربتها، وفي رواية: "ربها" وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق، فلبثت مليًّا، ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينك)). وبسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا بارزًا للناس، فأتاه رجلًا فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وكتابه ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر، قال: يا رسول الله ما الإسلام: قال:

الإسلام أن تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها -أي: علاماتها- إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس؛ فذاك من أشراطها وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان؛ فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا -صلى الله عليه وسلم- قول الحق -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34) قال: ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ردوا عليّ الرجل؛ فأخذوا ليردوه، فلم يروا شيئًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا جبريل، جاء ليعلم الناس دينهم)). وبسنده أيضًا: غير أن فيه: ((إذا ولدت الأمة بعلها)) يعني السراري. وبسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((سلوني فهابوه -أو فهابوا أن يسألوه- فجاء رجل فجلس عند ركبتيه، فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان. قال: صدقت. قال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله. قال: صدقت. قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: أن تخشى الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: صدقت. قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. وسأحدثك عن أشراطها: إذا رأيت المرأة تلد ربها، فذاك من أشراطها، وإذا رأيت الحفاة الرعاة الصم البكم ملوك الأرض، فذاك من

أشراطها، وإذا رأيت رعاء البهم يتطاولون في البنيان، فذاك من أشراطها، في خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله، ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34) قال: ثم قام الرجل. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ردوه عليّ، فالتمس فلم يجدوه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا جبريل أراد أن تعلموا إن لم تسألوا)). ورواه البخاري أيضًا بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بارزًا يومًا للناس فأتاه رجلًا فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ثم أدبر فقال -صلى الله عليه وسلم- ردوه فلم يروا شيئًا فقال هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم)). هذه الروايات المتعددة في البخاري ومسلم لحديث سؤال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام والإيمان، والإحسان، والساعة وعلاماتها فيه متعلقات الإيمان وأولها الإيمان بالله وحده، وهذا يتعلق به الكثير مما يجب لله -سبحانه وتعالى- من صفات الجمال والجلال، والكمال، والإيمان أيضًا بالملائكة، وما يتعلق بهم من جانب العقيدة، ثم الإيمان بكل الكتب السماوية من توراة وإنجيل، وزبور وقرآن، ثم الإيمان

بجميع الرسل من غير تفرقة بينهم، والإيمان باليوم الآخر، وما فيه من حشر ونشر، وحساب وعقاب، وميزان وحوض، وصراط وجنة ونار، والإيمان أيضًا بالقضاء والقدر حلوه وشره، حلوه ومره كله من الله تعالى. وكل ما ذكر من متعلقات الإيمان له مباحث تتعلق به فمما يتعلق بالإيمان بالله أن نؤمن بأن لله واحد، وقادر ومقدم ومؤخر وأول وآخر وأنه يجب له كل كمال يليق بذاته وأن له الأسماء الحسنى والصفات العلا قال تعالى: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الإسراء: 110) وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) وقال -صلى الله عليه وسلم- ((إن لله تسعة وتسعين اسمًا من حفظها دخل الجنة)) وفي وراية ((من أحصاها دخل الجنة)) و ((إن الله وتر يحب الوتر)). وزاد الترمذي في روايته: ((هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحي المييت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعال البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور جل جلاله)). ومن متعلقات الإيمان بالله: أن الله -سبحانه وتعالى- له أسماء أخرى غير التي ذكرناها، مسجلة، ومنقولة من كتاب الإمام الترمذي نقلها الشيخ سيد سابق في كتابه

(العقائد الإسلامية) وللحق -سبحانه وتعالى- أسماء أخرى غير التي ذكرناها الأخرى، له أسماء لا يعلمها إلا هو، ويُعْلِمُ من يشاء من عباده ما شاء من أسمائه -سبحانه وتعالى- أخبرنا بذلك المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الذي قال فيه: ((اللهم إني أسالك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أنزلته في كتابه، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أسألك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، وجلاء همومنا)) إلى آخر الحديث. ثم بعد ذلك هناك متعلقات بالإيمان بالملائكة فمما يتعلق بالإيمان بالملائكة أن نؤمن بأنهم أجسام لطيفة نورانية تتشكل بالأشكال الحسنة وأنهم هم الملأ الأعلى وأنهم مطهرون من الشهوات الحيوانية وأنهم لا يأكلون ولا يشربون، وأنهم لا يصفون بالذكورة، ولا بالأنوثة، وأنهم لا يصفون أيضًا بالخنوثة، وأنهم عالم آخر قائم بنفسه ومستقل بذاته، وأنهم لا يتصفون بما يوصف به البشر من الحالات المادية، ونؤمن بأن لهم القدرة على أن يتمثلوا بالصور البشرية، وغيرها من الصور الحسية؛ فلقد كان جبريل -عليه السلام- يتمثل في صورة بشرية في صورة دحية الكلبي لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- وجاء لمريم البتولفي صورة بشر قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (مريم: 16، 17). ودخل جماعة منهم على سيدنا إبراهيم -عليه السلام-أي: جماعة من الملائكة - في صورة بشر؛ فقدم لهم الطعام؛ فلم يأكلوا منه شيئًا، فعلم بذلك أنهم ملائكة الرحمن. قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا

إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (هود: 69، 73). روى مسلم بسنده عن عائشة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم، ومسكنهم السماء، ويتنزلون منها بأمر الله)) روى البخاري بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل: ((ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا قال: فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: 64). ومن الأمور المتعلقة بالإيمان بالملائكة أيضًا أن نؤمن بأن الله خلقهم قبل الإنسان وقد أخبرهم الله تعالى بأنه سيخلق الإنسان أي آدم وأنه سيجعله خلفته فهم موجودون من قبل آدم -عليه السلام- قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30) ويتعلق بالإيمان بهم أيضًا أن نؤمن بأن الله تعالى جبلهم أي خلقهم مجبولون على الطاعة التامة له، والخضوع لله ولجبروته، والقيام بأوامره، وأنهم يتصرفون في شئون العالم بإرادة الله ومشيئته فهو سبحانه يدبر ملكه، وهم لا يقدرون على شيء من تلقاء أنفسهم. قال تعالى عن الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل: 50). وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} فوصفهم الحق بأنهم عباد مكرمون، وقالوا -أي قال الكفار- {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ

مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 26، 28) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. روى البخاري بسنده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله تعالى: كأنه صلصلة على صفوان، أي: على جبل صفوان؛ فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال: الحق وهو العلي الكبير)). ويتعلق بالإيمان بالملائكة أن نؤمن بأنهم متفاوتون في المقامات، وأن لكل منهم وظيفة خاصة به وكلها الله إليه، وهم متفاوتون في الخلق منهم من له من الأجنة مثنى، ومنهم من له ثلاث، ومنهم من له رباع، ومنهم من له ستمائة جناح، يزيد في الخلق ما يشاء إنه على كل شيء قدير. قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (فاطر:1). روى مسلم في (صحيحه) بسنده عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى جبريل -عليه السلام- له ستمائة جناح وكثرت الأجنحة دليل القدرة على السرعة في تنفيذ أوامر الله وتبليغ رسالاته قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} (الصافات: 164، 166) قال ابن كثير: وما من ملك إلا له موضع مخصوص في السماوات، ومقامات العبادات لا يتجاوزه، ولا يتعداه. قال ابن عساكر في ترجمته لمحمد بن خالد بسنده لعبد الرحمن بن العلاء بن سعد عن أبيه، وكان ممن بايع يوم الفتح: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لجلسائه: ((أطت السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد ثم قرأ: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}.

ثم إن لهم عملًا في عالم الأرواح، وعملًا في عالم الطبيعة، ولهم صلة خاصة بالإنسان فعملهم الروحي يتلخص في التسبيح، والخضوع التام لله تعالى. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (الأعراف: 206) وقال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ومن الملائكة من يحمل العرش -أي عرش الرحمن- وهم المعرفون بحملة العرش؛ قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (الحاقة: 17). وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. ومن أعمالهم التسليم على أهل الجنة قال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد: 22، 24). وكما أنهم يسلمون على أهل الجنة منهم من أوكل إليه تعذيب أهل النار قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6) وقال تعالى في صفة جهنم، وما عليها من الملائكة الموكلين بتعذيب أهلها {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} الآية (المدثر: 26، 31).

ومن الملائكة من اختصه الله تعالى بالوحي أي ينزل بالوحي على رسل الله -سبحانه وتعالى- وهو سيدنا جبريل -عليه السلام- قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} ويسمى بالروح الأمين قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}. ومن أسماء جبريل أيضًا روح القدس: قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 102) ويسمى أيضًا بالناموس كما قال ورقة بن نوفل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول عهده بالوحي؛ لقد جاءك الناموس الذي نزل الله على موسى، ويأتي جبريل أحيانًا في سورة البشر، وأحيانًا في مثل صلصلة الجرس. روى البخاري -رحمه الله تعالى- بسنده عن عائشة -رضي الله عنه-: أن الحارث بن هشام -رضي الله عنه- سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما أقول قالت عائشة -رضي الله عنه- ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقًا)). وفي الحديث الذي أخرجه ابن أبي الدنيا، والحاكم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها؛ فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب)) هذه بعض أعمال الملائكة الموكلة إليهم في عالم الأرواح من قبل الله تعالى. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 4 تابع: تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته.

الدرس: 4 تابع: تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته.

تتمة الحديث عن الإيمان بالملائكة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (تابع: تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته) تتمة الحديث عن الإيمان بالملائكة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: بقية الإيمان، وما يتعلق به من مباحث، وأثر الإيمان في حياة الأمة فقلنا: إن من متعلقات الإيمان الإيمان بالملائكة، وتحدثنا عن عملهم في عالم الأرواح وما يتعلق بذلك. وفي هذا الدرس نتحدث عن عملهم في الطبيعة ومع الإنسان. أقول -وبالله التوفيق-: إن الله تعالى جعل للملائكة عمل في الطبيعة ووكل إليهم مهام يتصرفون فيها بأمر ربهم؛ فلهم عمل في تدبير أمور الكون من إرسال الرياح والهواء من سوق السحب، وإنزال المطر، ومن إنبات النبات، ونحو ذلك من الأعمال الخافية على الأنظار التي لا تقع تحت الحواس، والملائكة تلازم الإنسان في حياته كلها، بل وبعد مماته. قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الانفطار: 10: 12)، وقال تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (الرعد: 8، 11) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء، وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم)). يقول الشيخ سيد سابق في كتابه (العقائد الإسلامية) لما تحدث عن أعمال الملائكة تحت عنوان: "عملهم في الطبيعة مع الإنسان" قال: وللملائكة عمل في تدبير

أمور الكون من إرسال الرياح، والهواء، ومن سوق السحب، وإنزال المطر، ومن إنبات النبات، ونحو ذلك من الأعمال الخافية على الأنظار التي لا تقع تحت الحواس، ثم قال: وهم يلازمون الإنسان في حياته كلها، وبعد مماته. عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن للشيطان لمة بابن آدم، وللمَلَكِ لَمَّة، فأما لمة الشيطان؛ فإيعاذ بالشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك؛ فإيعاذ بالخير، وتصديق بالحق، فمن وجد من ذلك شيئًا؛ فليعلم أنه من الله، وليحمد الله، ومن وجد الأخرى؛ فليتعوذ من الشيطان، ثم قرأ -صلى الله عليه وسلم-: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ})) (البقرة: 268). من أعمال الملائكة أيضًا: دعاء الملائكة للمؤمنين، والله -سبحانه وتعالى- لسعة مغفرته، ولحبه لعباده يلهم ملائكته أن يضرعوا إليه بالدعاء، ويسألوه برحمته التي وسعت كل شيء، وعلمه الذي وسع كل شيء أن يغفر للتائبين، ويدخلهم في عباده الصالحين، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (غافر: 7: 9) وروى مسلم: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان يدعوان يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكًا تلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط منفقًا خلفًا)). من أعمالهم أيضًا تأمينهم مع المصلين والملائكة تؤمن مع المصلين؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا

الضالين؛ فإن الملائكة يقولون: آمين وإن الإمام يقول: آمين؛ فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ غُفِرَ لَهُ ما تقدم من ذنبه)). أيضًا من أعمالهم: حضور صلاة الفجر والعصر من كل يوم: روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر)) يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الإسراء: 78). وروى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم، وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) ومن أعمالهم أيضًا: نزولهم عند قراءة القرآن فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: ((أن أسيد بن حضير بينما هو في ليلةٍ يقرأُ في مربدِهِ؛ إذ جالت فرسه فقرأ، ثم جالت مرة أخرى فقرأ، ثم جالت أيضًا، قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى -ويحيى هذا ابنه- فقمتُ إليها؛ فإذا مثل الظُلَّةِ فوق رأسي فيها أمثال السُّرُج، عرجت في الجو حتى ما أراها، فقال: فغدوتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مربدي؛ إذ جالت فرسي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اقرأ ابن حضير، قال: فقرأت، ثم جالت أيضًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اقرأ ابن حضير، قال: فقرأت، ثم جالت أيضًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اقرأ ابن حضير، قال: فانصرفت، وكان يحيى قريبًا منها خشيت أن تطأه، فرأيتُ مثل الظُلَّةِ فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: تلك الملائكة، كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم)) رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم.

من أعمال الملائكة أيضًا: حضورهم مجالس الذكر، وهم يلتمسون حلقات الذكر؛ لإمدادهم بالقوى الروحية عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر؛ فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تعالى تنادوا هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم، ما يقول عبادي؟ قال: يقولون يسبحونك، ويكبرونك ويحمدونك، ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا، قال: فيقول: مم يسألوني؟ قال: يقولون: يسألونك الجنة، قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا، والله يا رب ما رأوها، قال: فيقول: فكيف لو رأوها، قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: يتعوذون من النار، قال: فيقول: وهل رأوها، قال: يقولون: لا والله ما رأوها، قال: فيقول: فكيف لو رأوها، قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ منها فرارًا، وأشد منها مخافة، قال: فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لكم، قال: يقول: ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجةٍ، قال: هم القومُ لا يشقى بهم جليسهُم)) رواه البخاري، واللفظ له. ومن أعمال الملائكة أيضًا: صلاتهم على المؤمنين، وخاصة أهل العلم منهم: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (الأحزاب: 43) وعن أبي أمامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض؛ ليسلمون على معلم الناس الخير،)) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن.

من أعمالهم أيضًا: تبريكهم أهل العلم، وتواضعهم لهم، عن أبي الدرداء: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الملائكة لتضَعَ أجنحَتَهَا لطالب العلم؛ رضًا بما يصنع)). ومن أعمال الملائكة أيضًا حملهم البشريات روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((زار رجل أخًا له في قرية أخرى فأرصد الله له في مدرجته يعني: في طريقه ملكًا، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبُّهَا، يعني: ترجوها قال: لا غير أني أحببته في الله -عز وجل- قال: فإني رسول الله إليك بأن الله كما أحببته فيه)). من أعمالهم أيضًا: إعلانهم عمن يحبه الله، وعمن يبغضه الله -سبحانه وتعالى- يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((إن الله تعالى إذا أحب عبدًا دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانًا، فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانًا فابغضه فيبغضه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله أبغض فلانًا فأبغضوه، ثم يوضع له البغضاء في الأرض)). من أعمالهم أيضًا: كتابة الأعمال على العباد قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 16: 18)، وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ *يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الانفطار: 10: 12) وقال تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزخرف: 79، 80). ويسجلون هذه الأعمال عندهم في سجل لكل فرد، ثم تعرض يوم الحساب قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ

مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإسراء: 13، 14) وفي أثناء العرض يشهدون على ما عمل الإنسان من خير أو شر قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق: 20: 22). من أعمالهم أيضًا: تثبيت المؤمنين ومثبتون المؤمنون بما يلقونه بما يلقونه في قلوبهم من التأييد، وهم يثبتون المؤمنين بما يلقونه في قلوبهم من التأييد قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال: 12). وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (المجادلة: 22). وهم موكلون بقبض الأرواح أي من وظائفهم أنهم موكلون بقبض الأرواح: قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} (الأنعام: 61) وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11). من أعمالهم أنهم يحيون الطيبين تحيةً طيبةً عند قبض أرواحهم، قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} (النحل: 32) أيضًا يبشرون أهل الخير بالجنة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (فصلت: 30: 32).

أي: إن الذين آمنوا بالله إيمانًا حقًّا، واستقاموا على الطريق الذي رسمه الله لعباده إن الملائكة تتنزل عليهم عند الموت، وتقول لهم: لا تخافوا مما أمامكم من أهوال القبر، وعذاب الآخرة، ولا تحزنوا على ما تركتم، وراءكم من أموالٍ وأولادٍ، وأبشروا بالجنة التي وعدكم الله بها؛ فإنما يمتنهون الفسقة، ويضربون وجوههم، وأدبارهم. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: 97)، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} (الأنفال: 50). أيضًا مما يجب للملائكة من حق علينا أن نؤمن بهم بعد ما تحدثنا عن كل ما مر فإنه تحت هذا العنوان كتب الأستاذ سيد سابق في كتابه العظيم (العقائد الإسلامية) كتب تحت عنوان الإيمان بالملائكة، قال: وإذا كان هذا هو شأن الملائكة في عالم الروح، ودورهم الإيجابي في الكون والطبيعة وإذا كانت هذه هي صلتهم بالإنسان في هذا العالم، وفي العالم الذي يأتي بعده كان من الواجب الإيمان بوجودهم، ومحاولة الاتصال بهم عن طريق تزكية النفس، وتطهير القلب، وعبادة الله عبادة خاشعة، وفي الاتصال بالملائكة سمو للروح، وتحقيق للحكمة العليا التي خلق الله الإنسان من أجلها، وهي أداء أمانة الحياة، والقيام بالخلافة عن الله في الأرض؛ ولهذا كان الإيمان بالملائكة من البر. ومن دلائل الصدق والتقوى قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ} (البقرة: 177). إن الإيمان لا يكون له حقيقة إلا إذا آمن الإنسان بهذا العالم الروحي إيمانًا لا يتطرق إليه الشك، ولا تتسرب إليه الظنون، وهذا هو منهج الأنبياء والمؤمنين الذين انكشفت الحقائق أمامهم، وأمام أبصارهم؛ فأدركوا من الكون ما لا

من متعلقات الإيمان: الإيمان بالكتب السماوية، والإيمان بالرسل.

يدركه الغافلون قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (البقرة: 285). إن هذا العالم الغيبي لا يدرك بالحس، ولا بالعقل، بل إن الشياطين لا يمكنهم الوصول إليه: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} (الصافات: 8) وسبيل معرفة هذا العالم هو الوحي لأنه غيب من الغيوب {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإٍ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (ص: 65: 70). وكل ما يجب الاهتمام به أن نؤمن بهم، ونرعى حق صحبتهم، ونوثق صلتنا بهم، كما أرشد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم)). من متعلقات الإيمان: الإيمان بالكتب السماوية، والإيمان بالرسل ومن متعلقات الإيمان: الإيمان بالكتب السماوية، أي: على كل مؤمن أن يؤمن بأن لله تعالى كتبًا أنزلها على رسله وأمرهم أن يبلغوها لخلقه من هذه الكتب التوراة والإنجيل والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، والقرآن الكريم الذي أنزل على سيدنا محمد نؤمن إيمانًا يقينيًا بأنه مهيمن على هذه الكتب السابقة، ومصدق لها. قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة: 285). وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا

عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 44: 50). يقول الشيخ سيد سابق: إن لله سبحانه تعاليم ووصايا أوحاها إلى رسله وأنبيائه منها ما دون في كتب ومنها ما لا علم لنا به فلكل نبي رسالة بلغها قومه قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: 213) وقال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (آل عمران: 184). والكتب المدونة: هي التوراة التي نزلت على موسى، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (المائدة: 44).

وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} (الأنعام: 91). ومن الكتب المبينة أيضًا الإنجيل الذي نزل الله على عيسى قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (المائدة: 46) ومن الكتب المنزلة أيضًا الزبور الذي نزله الله على داود -عليه السلام- قال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (النساء: 163) ومنها صحف إبراهيم وموسى قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} (النجم: 36: 42). وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى *صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (الأعلى: 15: 19). عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: ((قلت: يا رسول الله 31:16ما كانت صحف ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالًا كلها، أيها الملك المصلى المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم؛ فإني لا أردها وإن كانت من كافر، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله، أن يكون له ساعات، فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعةٌ يتفكر فيها في صنع الله -عز وجل- وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل ألا يكون ظاعنًا، أي: مقرًّا- إلا لثلاث، تزود لمعاد أو لمعاش، أو لذة في غير مُحَرَّم، وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قَلَّ كلامه إلا فيما يعنيه، قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى -عليه السلام-؟ قال: كانت عبرًا كلها، عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو

يفرح، عجبت لمن هو أيقن بالنار ثم هو يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجبتُ لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها، ثم اطمأن إليها عجبت لمن أيقن بالحساب غدًا، ثم لا يعمل، قلت: يا رسول الله، أوصني قال أوصيك بتقوى الله؛ فإنها رأس الأمر كله، قلت: يا رسول الله زدني، قال: عليك بتلاوة القرآن، وذكر الله -عز وجل- فإنه نور لك في الأرض، وزخر لك في السماء، قلت: يا رسول الله، زدني، قال: إياك وكثرة الضحك؛ فإنه يميت القلب، ويذهب بنورِ الوجه، قلت: يا رسول الله زدني، قال: عليك بالجهاد؛ فإنه رهبانيةُ أمتي، قلت: يا رسول اللهِ زدني، قال: أحب المساكين وجالسهُم، قلت: يا رسول الله، زدني، قال: انظر إلى من هو تحتك، ولا تنظر إلى من هو فوقك؛ فإنه أجدر ألا تزدري نعمةَ الله عليك قلت: يا رسول الله، زدني، قال: قُل الحق، وإن كان مُرًّا، قال: قلت: يا رسول الله، زدني، قال ليردك عن الناس ما تعلمه من نفسك، ولا تجد عليهم فيما تأتي، وكفى بك عيبًا أن تعرف من الناس ما تجهله من نفسك، وتجد عليهم فيما تأتي، ثم ضرب بيده على صدره، فقال: يا أبا ذر لاعقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق)) الحديث رواه ابن حبان في صحيحه واللفظ له، ورواه الحاكم أيضًا في (مستدركه)، وقال: صحيح الإسناد. ثم القرآن الكريم: وهو آخر الكتب السماوية نزولًا قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} (آل عمران: 2: 4). مزايا القرآن: وللقرآن الكريم مزايا تميز بها عن الكتب السماوية التي تقدمته. من هذه المزايا: أنه تضمن خلاصة التعليم الإلهية التي تضمنتها التوراة، والإنجيل، وسائر ما أنزل الله من وصايا، وأنه مؤيدٌ للحق الذي جاء بها من عبادة الله

وحده، والإيمان برسله، والتصديق بالجزاء، ووجوب إقامة الحق، والتخلق بمكارم الأخلاق. قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48). أي: أن الله أنزل القرآن الكريم على النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- مقترنًا بالحق في كل ما جاء به، ومصدقًا لما تقدمه من الكتب الإلهية التي أنزلها الله على الأنبياء السابقين، ورقيبًا عليها يقر ما فيها من حق، ويبين ما دخل فيها من تحريف وتصحيف، ثم يأمر الله نبيه أن يحكم بين الناس مسلمين وكتابيين بما أنزل الله في القرآن، متجنبًا أهواءهم، وأنه سبحانه جعلَ لكل أمةٍ شريعة وطريقةً في الأحكام العملية تناسب استعدادها، أما أصول العقائد والعبادات والآداب والحلال والحرام وما لا يختلف باختلاف الزمان والمكان فإنها واحدة في الأديان كلها. قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (الشورى: 13). ثم نسخت الأحكام العملية السابقة بالشريعة الإسلامية والأحكام النهائية الخالدة الصالحة لكل زمانٍ ومكانٍ هي شريعة الإسلام، وأصبحت العقيدة واحدة والشريعة واحدة للناس جميعًا. 2 - الأمر الثاني: من خصوصيات القرآن الكريم: وما تميز به عن كل الكتب السابقة: أن تعاليم القرآن، هي كلمة الله الأخيرة لهداية البشر أراد الله لها أن تبقى على الدهر، وتخلد على الزمن فصانها من أن تمتد إليها يد التحريف، أو التصحيف، أو التغيير، أو التبديل، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41: 42).

وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) والغاية من ذلك: أن تبقى حجة الله على الناس قائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. أيضًا من مميزات القرآن الكريم: أن هذا القرآن الذي أراد الله له الخلود لا يتصور أن يأتي يوم يصل فيه العلم إلى حقيقة تتعارض مع حقائقه، فالقرآن كلام الله، والكون عمل الله، وكلام الله، وعمله لا يتناقضان أبدًا، بل يصدق أحدهما الآخر؛ ومن ثم فقد جاءت الحقائق العملية مصدقة لما سبق به الكتاب تحقيقًا لقوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53). أيضًا الله يريد لكلمته أن تذاع، وتصل إلى العقول والأسماع، وتتحول إلى واقع عملي، ولا يتم ذلك إلا إذا كانت ميسرة للذكر والحفظ والفهم؛ ولهذا جاء القرآن سهلًا، ليس فيه ما يشق على الناس فهمُهُ، أو يصعب عليهم العمل به. قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17). ومن تيسيره: أن حفظه الرجالُ والنساء، والصغار والكبار، والأغنياء والفقراء ويرددونه في البيوت، وفي المساجد، ولا تزال أصوات القراء تدوي به في كل ناحية، ولا نعلم أن كتابًا من الكتب غير القرآن نال من هذه الميزة بعدما اختص به القرآن الكريم، والقرآن بهذا لا يساميه، أو لا يقاربه كتاب آخر في تأثيره، وهدايته، ولا في موضوعه، وسمو أغراضه؛ ومن ثم كان خير الكتب وأفضلها على الإطلاق. أما التوراة فحرفت، إننا نؤمن بأن التوراة نزلت على موسى، وأن ذلك ركن من أركان الإيمان عندنا، وقد أخبر الله أن فيها هدى ونور، وأثنى عليها بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} (الأنبياء: 48) إلا أن

هذه التوراة التي نزلت على موسى -عليه السلام- غير موجودة بالمرة الآن، كما هو مسلم به عند الجميع. أما التوراة المتداولة الآن: فقد قام بكتابتها أكثر من كاتب، وفي أزمان مختلفة، وقد دخلها التحريف. يقول المرحوم الأستاذ الكبير محمد فريد وجدي: ومن أدلة التحريف الحسية أن التوراة المتداولة لدى النصارى تخالف التوراة المتداولة عند اليهود انتهى، وقد أثبت القرآن هذا التحريف، ونهى على اليهود التغيير والتبديل الذي أدخلوه على توراتهم قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 75). فهم تجرأوا على كتاب الله فحرفوه، ليخفوا ما فيه من الحق، ونسوا قدرًا مما ذكرهم الله به في التوراة؛ فالذي عندهم من التوراة الصحيحة هو بعضها فقط قال تعالى: {مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (النساء: 46) وهو دليل على صحة نقض القرآن للتوراة المتداولة، وأنها ليست كلها هي توراة موسى التي جعلها الله نورًا وهدى، ما جاء في التوارة من وصف الله بما لا يليق بجلاله وكماله؛ ففي سفر التكوين 3: 22 وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد سار كواحد منا عارفًا بالخير والشر، وفيه ستة ستة أيضًا فحزن الرب أنه عمل الإنسان، وتأسف في قلبه، فهل يعقل أن هذا من كلام الله؟ وهل يصح أن ينسب إليه الحزن والأسف على شيء عمله؟!. وكذلك ما جاء فيها مما يمس شرف الأنبياء، ويتنافى مع ما لهم من عصمة ومكانة رفيعة، وخلق متين، فقالوا عن إبراهيم -عليه السلام-: إنه كذاب وأن لوطًا زنا بابنته، وهارون دعا الإسرائيليين إلى عبادة العجل، وداود زنى بزوجة أوريا، وسليمان عبد الأصنام إرضاءً لزوجته، فهل ثمة دليل على التحريف أقوى من هذا؟ لقد

اضطر النقاد من مصلحي اليهود أنفسهم إلى الاعتراف بهذه الحقيقة، وأن التوراة قد حرفت، وقد أورد مذهبهم حاخام باريس وجوليان ويل في كتابه (اليهودية). تحريف الإنجيل والإنجيل الذي نزل الله على عيسى -عليه السلام- هو مثل التوراة التي نزلت على موسى -عليه السلام- كلاهما كلام الله، وفي الإنجيل أيضًا هدى ونور، إلا أن الإنجيل أيضًا قد لحقه ما لحق التوراة من التحريف والتبديل والتغيير قال تعالى: {وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (المائدة: 14، 15). ويكفي لصحة التدليل على التحريف في الأناجيل المتداولة بأيدي النصارى الآن أنها أربعة، اختيرت من نحو سبعين إنجيلًا، وهذه الأناجيلُ تناولت الكتابة عن سيرة سيدنا عيسى -عليه السلام- ومؤلفوها معروفون وأسماؤهم مكتوبة عليها، وقد قَرَّرَ نقادُ المسيحيين أنفسهم أن عقائد الأناجيل هي رأي بولس دون سائر الحواريين، ودون أقرب الأقربين إلى عيسى -عليه السلام- وقد وجد في مكتبة أميرٍ من الأمراء في باريس نسخة من إنجيل برنابا، وقد طبعتُهُ مطبعة المنار بعد ترجمته إلى العربية وهو يخالف الأناجيل الأربعة مخالفةً كبيرة. ثم قال الشيخ سيد سابق تحت عنوان: (معنى تصديق القرآن للكتب السابقة):وإذا كان التحريف في التوراة والإنجيل ثابتًا ثبوتًا حقيقيًّا لا ريب فيه بنص القرآن من جهة، وبالأدلة الحسية من جهة أخرى، فما معنى أن القرآن جاء مصدقًا لما تقدمه من الكتب الإلهية؟ أقول: معنى ذلك أن القرآن جاء مؤيدًا

للحق الذي ورد فيها، كما سبقت إليه الإشارة من عبادة الله وحده، والإيمان برسله والتصديق بالجزاء، ورعاية الحق والعدل، والتخلق بالأخلاق الصالحة، وهو في الوقت ذاته مهيمنًا عليها ومبينًا ما وقع فيها من أخطاء وأغلاط، وتحريف، وتصحيف، وتغيير، وتبديل. وإذا انتفت هذه الأخطاء التي أدخلها رجال الدين على الكتب السماوية وزورها على الناس باسم الله ظهر الحق، واستبان، والتقى القرآن مع التوراة والإنجيل، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (المائدة: 68) وإقامتها لا تتحقق إلا بعد تطهيرها من الزيف، والزيغ، والتحريف، والتصحيف، والتبديل. وتحت عنوان "الطريق إلى الحقيقة" قال: إن من يبتغي الحق، ويريد الوصول إلى التعاليم الإلهية الصحيحة لا يجد أمامه غير القرآن الكريم؛ فهو الكتاب الذي حُفِظَت أصولُه، وسلِمَت تعاليمه، وتلقته الأمة عن محمد -صلى الله عليه وسلم- عن جبريل -عليه السلام- عن الله -عز وجل- الأمر الذي لم يتوفر لكتاب مثله وأنه الجامع لأسمى المبادئ، وأقوم المناهج وخير النظم، وأنه الحافل بكل ما يحتاج إليه البشر من حيث العقائد والعبادات والآداب والمعاملات، والنظم، وإنه الكفيل بِخَلْقِ الفرد الكامل والأسرة الفاضلة، والمجتمع الصالح، والحكومة العادلة، والكيان القوي الذي يقيم الحق والعدل، ويرفع الظلم، ويدفع العدوان، وأنه الوسيلة الوحيدة لتحقيق الخلافة في الأرض، ووراثة الأرض. قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15: 16) هذا

فيما يتعلق بالإيمان بالله تعالى بأنه أنزل كتبًا على أنبيائه ورسله وآخر هذه الكتب هو القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه ولم يكل حفظه لأحد من خلقه قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. ومن متعلقات الإيمان الإيمان بالرسل، وهو أن نؤمن بأن الله تعالى: اختار رسلًا من خَلْقِهِ يبلغوا رسالاته إلى عباده، وأن آخرهم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء الرسل لكل أمة رسول ورسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- رسول للدنيا كلها وللخلق أجمعين. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107). وتجب العصمة لهؤلاء الرسل، ونؤمن بأن الله تعالى أيدهم بالمعجزات؛ دليلًا على صدقهم، وأن هؤلاء الرسل كلٌّ منهم له مقامٌ عند ربه، ومنهم خمسة يعرفون بأولي العزم من الرسل، وهم سيدنا نوح -عليه السلام- وسيدنا إبراهيم -عليه السلام- وسيدنا موسى -عليه السلام- وسيدنا عيسى -عليه السلام- ونبينا وسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء: 163: 165). أما أولو العزم: فجاء في آخر آية من سورة الأحقاف الإشارة إليهم قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (الأحقاف: 35). أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 5 أثر الإيمان في حياة الأمة.

الدرس: 5 أثر الإيمان في حياة الأمة.

من آثار الإيمان: ترابط المسلمين وتآخيهم، وصيانة الأعراض، والحياء.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (أثر الإيمان في حياة الأمة) من آثار الإيمان: ترابط المسلمين وتآخيهم، وصيانة الأعراض، والحياء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: أثر الإيمان في حياة الأمة: إن للإيمان أثر عظيم في حياة الأمة؛ إذ الإيمان هو المحرك الأساسي لحياة الأمة، وهو الطاقة التي تنتشر في كيانها، فالإيمان يدعو إلى كل خير وينهى عن كل شر؛ لأن من يؤمن بالله تعالى حقًّا يقوم بأوامر الله، وينتهي عن كل ما نهى الله تعالى عنه، أي: يلتزم بشرع الله الذي أنزله الله تعالى على رسوله في كتابه الكريم، وبما شرعه الحق أيضًا على لسان نبيه الكريم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم. فالإيمان عندما يحيا في النفوس تجد النفوس حيية طيبة كريمة تعمل الخير وتسعى إلى الخير لكل الناس فالمؤمن حيي كريم يحافظ على الناس وعلى أموال الناس وعلى أعراض الناس وعلى أنفس الناس، وهناك أحاديث من خلالها نعرف أثر الإيمان على حياة الأمة وهي أحاديث كثيرة من خلالها نعرف أوصاف المؤمن الحق في نفعه لأمته وللبشرية جمعاء من هذه الأحاديث ومن أوائلها حديث شعب الإيمان إذ هذا الحديث جعل للإيمان خصالًا يتخلق بها المؤمن سميت شعبًا، والشعبة هي الخصلة هذه الشعب، أي: الخصال كلها داعية للخير، وأخلاق نبيلة عالية فاضلة نابعة من هذه الشعب منها مثلًا الحياء، ومنها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها قول المسلم: لا إله إلا الله. روى البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان)) وفي رواية: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)).

من آثار الإيمان: أن المؤمن يقف بجوار أخيه المؤمن عند الشدائد ويكون معه في السراء والضراء إن أصابه خير هنأه، وإن أصابته مصيبة عزاه إن احتاج أعطاه؛ فالمؤمن للمؤمن كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- وروى البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود في (سننه) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه)). وعن فضالة بن عبيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)) رواه ابن ماجه بإسناد حسن. قال ذلك السيوطي في (الجامع الصغير) في الجزء الثاني ص 184: ومن آثار الإيمان في نفس المؤمن أنه هين لين، يألف إخوانه، ويألفوه، ويتودد إليهم، ويتقرب لهم يحبهم ويحبونه، يقدم لهم النفع والخير، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، ولا خير في من لا يقدم النفع إلى الناس، ولو بالكلمة الطيبة، والنصيحة المفيدة؛ فخير الناس أنفعهم للناس. روى الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المؤمن يألف ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف)). وروى الدارقطني في الأفراد والضياء في المختارة عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المؤمن يألف ويؤلف ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس)).

وعن سهل بن سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس)) قال السيوطي: حديث حسن. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمنون كرجل واحد، إذا اشتكى رأسه اشتكى كله وإن اشتكى عينه اشتكى كله)) رواه مسلم وأحمد عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- وقال -صلى الله عليه وسلم- ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه أحمد ومسلم. إن أثر الإيمان في حياة الأمة أثر عميق؛ فمن آثاره: أنه يحافظ على الأعراض فترى المؤمن يغار لعرضه، وعرض إخوانه؛ فلا يقبل الفاحشة على نفسه، ولا على أهله، ولا على إخوانه المؤمنين، والمجتمع الذي يغار أهله من أجل العرض مجتمع نقي طاهر بعيد عن الفواحش كل البعد وبعيد عن الخنا والزنا، وعن كل ما يخدش الحياء. روى الإمام مسلم بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المؤمن يغار، والله أشد غيرةً؛ إن المؤمن راض بقضاء الله وقدره، صابرٌ على ما يقع به من الله، يحمد الله تعالى على كل حال، إن كان في خير شكر، وإن كان في ضراء صبر، وأمره كله خير)). قال -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن بخير على كل حال، تنزع نفسه من بين جنبيه وهو يحمد الله)) رواه النسائي عن ابن عباس وروى البخاري بسنده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيرًا لله، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن)) وروى أبو نعيم في (الحلية) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

قال: ((المؤمن منفعة إن ماشيته نفعك، وإن شاورته نفعك وإن شاركته نفعك، وكل شيء من أمره منفعة)) رواه السيوطي في (الجامع الصغير) في الجزء الثاني ص185 وروى البيهقي بسنده عن مكحول مرسلًا، أي: حديث مرسل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المؤمنون هينونَ لينونَ، كالجمل الأنف إن قِيْدَ انقَادَ، وإذا أُنيخَ على صخرةٍ استَنَاخَ)). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم)) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والبخاري في الأدب المفرد، قال ذلك السيوطي في (الجامع الصغير) الجزء الثاني ص185. ولقد ذكرنا سابقًا أن من أثر الإيمان أن يشيع الحياء في المجتمع، وسنقف وقفة مع حديث الحياء. روى البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان وفي رواية الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)). إن الحياء خلق كريم يدعو إلى فعل الطيبات، والبعد عن المنكرات، خلق يبعث على فعل الفضائل، والتحلي عن الرذائل؛ ولهذا دعا -صلى الله عليه وسلم- إليه في أحاديث كثيرة غير هذا الحديث من هذه الأحاديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مر على رجل يعظ أخاه في الحياء فقال له -صلى الله عليه وسلم-: دعه؛ فإن الحياء لا يأتي إلا بخير)) وفي رواية: ((الحياء خير كله)). وجاء في الحديث أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن لكل دين خلقًا، وخلق الإسلامِ الحياء)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع

ما شئت وكان -صلى الله عليه وسلم- يوصف بأنه أشد حياء من العذارء في خدرها)) ودعا -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يتخلق المسلمون بالحياء الحقيقي. فقال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: ((استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنا نستحيي والحمد لله فقال -صلى الله عليه وسلم-: ليس ذلك وإنما الاستحياء من الله تعالى حق الحياء أن تحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى، وأن تذكر الموت والبلى، ومن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)). يقول الشيخ موسى شاهين لاشين في فقهه: هذا الحديث عندما شرحه في كتابه (المنهج الحديث): تكلف جماعة من العلماء حصر شعب الإيمان بطريق الاجتهاد ولم يتفقوا على نمط واحد وبعضهم قسمها إلى أعمال القلب معتقدات ونيات، وإلى أعمال اللسان، وإلى أعمال البدن وبعضهم أخذ يعدها سردًا دون تقسيم، وبعضهم ذهب إلى أن العدد أريد به التكثير دون التحديد من قبيل قول الله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (التوبة: 80) أي: مهما تستغفر لهم فالمراد التكثير وليس حقيقة العدد. وقال هؤلاء: إن ذكر البضع للترقي فيكون المعنى أن شعب الإيمان أعداد مبهمة وكثيرة، بل أكثر من الكثير. والحق: أن محاولة حصر شعب الإيمان محاولة غير سليمة من النقل فالبعض يمكن إدخاله في البعض، كما يمكن عده مستقلًّا، وكل من تكلف حصر الشعب لم يخل من الاعتراض، ولا يقدح عدم معرفةِ حصر الشعب على التفصيل في الإيمان؛ إذ أمرها يحتاج إلى توقيف، وكل ما بينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلى هذه الشعب وأدناها، كما ثبت في الصحيح: ((أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)). وفي بعض روايات الصحيح: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)) وبعضهم رجح علي رواية بضع وستين شعبة لأن العدد المتيقن في الروايتين هو البضع والستون

وهذا كله مبني على أن العدد مقصود محدد أما من يرى أن العدد هنا للتكثير غير مراد تحديده فلا إشكال في اختلاف الروايات فإن قيل رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير كي يحجم صاحبه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكيف يكون مثل هذا شعبة من الإيمان قلنا إن مثل هذا ليس بحياء شرعي، بل عجز ومهانة، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف من حيث إنه انقباض من خوف أن يذم فهو يشبه الحياء، وليس بحياء شرعي. فالحياء الشرعي خير كله، والحياء الشرعي لا يأتي إلا بخير فالتغير والانكسار الذي يعتري الإنسان من خوف ما يعاب عليه منه الشرعي الممدوح الموصوف بالسكينة والوقار، فالتغير، والانكسار الذي يعتري الإنسان من خوف ما يعاب عليه منه الشرعي الممدوح الموصوف بالسكينة والوقار، ومنه المذموم غير الشرعي، فإن كان الانقباض عن محرم فهو واجب، وإن كان عن مكروه فهو مندوب. أما الانقباض عن واجب أو مندوب فليس حياء شرعيًّا، ومنه انكسار النفس وانقباضها عن السؤال في العلم مع الحاجة إلى السؤال، والحياء الشرعي درجات أعلاها أن يستحي المتقلب في نعم الله أن يستعين بها على معصيته وفيه يقول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: ((استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنا نستحيي والحمد لله، فقال: ليس ذلك، وإنما الاستحياء من الله تعالى حق الحياء أن تحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى وأن تذكر الموت والبلى فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء. ويؤخذ من هذا الحديث تفاوت مراتب الإيمان وأن الأعمال مع انضمامها إلى التصديق داخلة في مسمى الإيمان ثم يحث الحديث على التخلق بخلق الحياء ولقد

كتب الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله تعالى- في كتابه خلق المسلم تحت عنوان الحياء كلامًا طيبًا، فقال: الحياء أمارة صادقة على طبيعة الإنسان، فهو يكشف عن قيمة إيمانه، ومقدار أدبه، وعندما ترى الرجل يتحرج من فعل ما لا ينبغي، أو ترى حمرة الخجل تصبغ وجهه إذا بدر منه ما لا يليق. فاعلم أنه حي الضمير، نقي المعدن، ذكي العنصر وإذا رأيت الشخص صفيقًا بليد الشعور لا يبالي ما يأخذ، أو يترك؛ فهو امرؤ لا خير فيه، وليس له من الحياء وازع يعصمه عن اقتراف الآثام، وارتكاب الدنايا، وقد وصى الإسلام أبناءه بالحياء، وجعل هذا الخلق السامي أبرز ما يتميز به الإسلام من فضائل. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء)) رواه مالك في (الموطأ) كانت الصرامة ملحوظة في تعاليم اليهودية على عهد موسى -عليه السلام- وكانت السماحة ملحوظة في تعاليم المسيحية على عهد عيسى -عليه السلام- وقد تميز الإسلام بالحياء والأديان كلها تأمر بالفضائل جملة وتحاسب عليها جملة وقد أراد النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل من حساسية المسلم بما في الفضيلة من خير، وبما في الرذيلة من شر أساسًا يدفعه إلى الاستمساك بالأولى، والاشمئزاز من الأخرى أساسًا يدفعه إلى الاستمساك بالأولى أي: بالفضائل والاشمئزاز من الأخرى، أي: الرذيلة حياء من ترك الخير، ومن فعل الشر بغض النظر عن الثواب والعقاب كما قال ابن القيم: هب البعث لم تأتنا رسله ... وجاحمة النار لم تضرمِ أليس من الواجب المستحق ... حياء العباد من المنعمِ وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أرق الناس طبعًا، وأنبلهم سيرة وأعمقهم شعورًا بالواجب، ونفورًا من الحرام، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه)) رواه مسلم.

إن الإيمان صلة كريمة بين العباد وربهم ومن حق هذه الصلة بل أثرها الأول تزكية النفس وتقويم الأخلاق وتهذيب الأعمال ولن يتم ذلك إلا إذا تأسست في النفس عاطفة حية تترفع بها أبدًا عن الخطايا، وتستشعر الغضاضة من سفاسف الأمور، أما الإلمام بالمحاقر دون تورع، والوقوفع في الصغائر دون اكتراث؛ فذلك دلالة فقدان النفس لحيائها ثم فقدانها لإيمانها. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الحياء والإيمان قرناء جميعًا؛ فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)) وعلة ذلك أن المرء حينما يفقد حياءه يتدرج من سيئ إلى أسوأ، ويهبط من رذيلة إلى أرذل ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل، وقد روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث يكشف عن مراحل هذا السقوط الذي يبتدئ بضياع الحياء، وينتهي بشر العواقب قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله -عز وجل- إذا أراد أن يهلك عبدًا نزع منه الحياء؛ فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتًا ممْقَتًا، فإذا لم تلقه إلا مقيتًا ممقتًا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنًا مخونًا، فإذا لم تلقه إلا خائنًا مخونًا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيمًا ملعنًا، فإذا لم تلقه إلا رجيمًا ملعنًا نزعت منه ربقة الإسلام)). وهذا ترتيب دقيق في وصفه لأمراض النفوس، وتتبعه لأطوارها، وكيف تسلم كل مرحلة خبيثة إلى أخرى أشد نكرًا إن الرجل إذا مزق الحجاب عن وجهه، ولم يتهيب على عمله حسابًا، ولم يخش في سلوكه لومةَ لائم مد يد الأذى للناس، وطغى على كل من يقع في سلطانه، ومثل هذا الشخص الشرس لن يجد قلبًا يعطف عليه، بل إنه يغرس الضغائن في القلوب وينميها، وأي حب لامرئ جريء على الله، وعلى الناس لا يرده عن الآثام حياء، فإذا سار الشخص بهذه المثابة لم يؤتمن على شيء قط؛ إذ كيف يؤتمن على أموال لا يخجل من أكلها، أو على أعراض لا يستحي من فضحها، أو على موعد لا يهمه أن يخلفه، أو على واجب لا يبالي أن

من آثار الإيمان: ترك أذى المسلمين، وهجرة الذنوب.

يفرط فيه، أو على بضاعة لا يتنزه عن الغش فيها، فإذا فقد الشخص حياءه، وفقد أمانته أصبح وحشًا كاسرًا ينطلق معربدًا وراء شهواته، ويدوس في سبيلها أزكى العواطف؛ فهو يغتال أموال الفقراء غير شاعر نحوهم برقة، وينظر إلى آلام المنكوبين، والمستضعفين فلا يهتز فؤاده بشفقة إن أثرته الجامحة، وضعت على عينيه غشاوة مظلمة، فهو لا يعرف إلا ما يغويه ويعريه بالمزيد، ويوم يبلغ امرؤ هذا الحضيض، فقد أفلت من قيود الدين وانخلع من ربقة الإسلام. وللحياء مواضع يستحب فيها فالحياء في الكلام يتطلب من المسلم أن يطهر فمه من الفحش، وأن ينزه لسانه عن العيب وأن يخجل من ذكر العورات فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحياء من الإيمان والإيمان من الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار. ومن الحياء في الكلام: أن يقتصد المسلم في تحدثه بالمجالس؛ فإن بعض الناس لا يستحيون من امتلاك ناصية الحديث في المحافل الجامعة فيملئون الأفئدة بالضجر من طول ما يتحدثون، وقد كره الإسلام هذا الصنف قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من تعلم صرف الكلام ليستبي به قلوب الرجال لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا)). من آثار الإيمان: ترك أذى المسلمين، وهجرة الذنوب ومن آثار الإيمان في الأمة أو في حياة الأمة أن المؤمن والمسلم سلم للمسلمين يسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يقع منه إلا ما يفيد من حوله، وما ينفع إخوانه، فيده عفيفة عن الإساءة لأحد، وكذلك لسانه عف طاهر فلا هو بالبذيء، ولا الشتام، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا المتفحش كما أنه يهجر، ويترك كل ما نهى الله عنه.

روى الإمام البخاري بسنده عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه)) يقول الشيخ الدكتور موسى شاهين لاشين في شرح هذا الحديث: يعتمد صرح الإسلام ومجتمعه الكامل على قاعدتين قاعدة إيجابية، وهي فعل الخير من إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وكل عمل بناء. والقاعدة السلبية -أي: قاعدة الترك، والكف هذه القاعدة الثانية هي المقدمة يعني قاعدة الكف والترك، وهي الأهم؛ لأن التخلية مقدمة على التحلية من هنا اهتم الشرع بتهذيب أبنائه، وإبعادهم عن المساوئ والرذائل، وإيذاء بعضهم بعضًا؛ فجعل المسلم الحق هو الذي يسلم الناس من لسانه ويده، وبقية جوارحه. المراد بالمسلم في الحديث المسلم والمسلمة فالتعبير بالمسلم للتغليب والنساء شقائق الرجال يسري عليهن حكمهم إلا ما خص بنص من الشرع الحكيم، من سلم المسلمون فيه جناس الاشتقاق وهو أن يرجع اللفظان في الاشتقاق إلى أصل واحد. والتعبير أيضًا بلفظ المسلمون من قبيل التغليب أيضًا والمسلمات من لسانه ويده أراد من اليد ما هو أعم من العضو المعروف فيراد بقية الأعضاء كما يراد اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق، فالمراد من سلم المسلمون من شره مطلقًا والمهاجر أي الهاجر فالمفاعلة ليست من الجانبين كلفظ المسافر وقيل إن من هجر شيئًا؛ فقد هجره ذلك الشيء وإن كان جامدًا وهي هجرة بالقوة وبغير إرادة. فقه الحديث: من علامة المسلم التي يستدل بها على حسن إسلامه سلامة المسلمين من شره وأذاه، بل إحسان المعاملة مطلوب مع غير المسلمين بل مع غير

الإنسان من الطير والحيوان، فذكر المسلمين في الحديث خرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدًا، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا، وإن كان فيهم من يجب الكف عنه، ولأن الأغلب أن سبب الإذاية المخالطة، وغالب ما يخالطهم المسلم عادة هم المسلمون؛ فنَبَّهَ على التحرز من إيذائهم التي قربت أسبابها، وخص اللسان، واليد بالذكر من بين سائر الجوارح؛ لأن اللسان هو المعبر عما في النفس واليد هي التي بها البطش والقطع والوصل، والأخذ، والمنع، والإعطاء، وقدم اللسان على اليد؛ لأن إيذاءه أكثر وقوعًا من إيذائها، وأسهل مباشرة، وأشد نكاية منها، ولهذا قال الشاعر: جراحاتُ السنانِ بها التئامُ ... ولا يلتامُ ما جرح اللسانُ ثم إيذاء اللسان يعم، ويلحق عددًا أكثر مما يلحقه إيذاء اليد، فقد يؤذي البعيد والقريب، والحاضر والغائب، والميت والحي، وأسرة، أو قبيلة، أو دولة بلفظ واحد بخلاف اليد؛ فذكر اللسان واليد مع غلبة مباشرتهما الأذى كالعنوان لكل ما يباشر الأذى من الأعضاء حتى القلب فإنه منهي عن الحسد والحقد والبغض والغيبة وإضمار الشر ونحو ذلك ولا يدخل في إيذاء المسلم إقامة الحدود؛ إذ هي إصلاح لا إيذاء وكل مأذون فيه شرعًا مهما آلم ليس من قبيل الإيذاء المحرم. ويؤخذ من هذا الحديث: الحث على ترك أذى المسلمين بكل ما يؤذي وجماع ذلك حسن الخلق وهو درجات أعلاها درجة الأبرار، وهم الذين لا يؤذون الذر ولا يضمرون الشر، وفي الحديث رد على المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما أن في الحديث الدعوة إلى العفو والصفح وترك المؤاخذة أولى من المطالبة والمعاقبة قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الشورى: 43).

ما كتبه الشيخ سيد سابق -رحمه الله- تحت عنوان "ثمار الإيمان".

والحديث يحث على هجر الفسق والعصيان، وفيه أيضًا: أن عدم الإيذاء علامة ظاهرة من علامات المسلم، وليس معنى ذلك أن من سلم المسلمون من لسانه ويده يكون كامل الإسلام، وإن قصر في الواجبات الأخرى؛ فظهور علامة قد تكون غير معبرة عن باطن حقيقي لا تثبت بها الحقيقة الكاملة، نعم من لم يسلم المسلمون من أذاه لا يكون مسلمًا كامل الإسلام، وإن كان مسلمًا في الجملة. ما كتبه الشيخ سيد سابق -رحمه الله- تحت عنوان "ثمار الإيمان" ولقد كتب الشيخ سيد سابق -رحمه الله تعالى- كلامًا طيبًا مفيدًا تحت عنوان "ثمار الإيمان" في كتابه القيم (العقائد الإسلامية) من ص74 إلى 78 يحسن بنا أن أقرأها عليكم، يقول تحت عنوان "ثمار الإيمان": وإذا عرف الإنسان ربه من طريق العقل والقلب؛ أثمرت له هذه المعرفة ثمارًا يانعة وتركت في نفسه آثارًا طيبة ووجهت سلوكه وجهة الخير والحق والسمو والجمال وهذه الثمار نجمل بعضها في ما يلي: 1 - تحرر النفس من سيطرة الغير؛ وذلك أن الإيمان يقتضي الإقرار بأن الله هو المحيي المميت الخافض الرافع الضار النافع، قال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) إن الذي عوق البشرية عن النهوض حال بينها وبين الرقي والخضوع للاستبداد سواء أكان هذا الاستبداد استبدادًا سياسيًّا للحكام، والرؤساء أم استبدادًا كهنوتيًّا لرجال الدين والكهنوت، وبتقرير الإسلام لهذه الحقيقة قضى على هذا الأسر، وأطلق حرية الإنسان من سيطرة هؤلاء المستبدين التي لازمته قرونًا طويلة.

2 - والإيمان يبعث في النفس احتقار الموت، والرغبة في الاستشهاد من أجل الحق إن الإيمان يوحي بأن واهب العمر هو الله وأنه لا ينقص بالإقدام ولا يزيد بالإحجام فكم من إنسان يموت، وهو على فراشه الوثير وكم من إنسان ينجو وهو يخوض غمرات المعارك والحروب، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (آل عمران: 145). وقال تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} (آل عمران: 154) وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (النساء: 78). الثمرة الثالثة من ثمار الإيمان يقول: والإيمان يقتضي الاعتقاد بأن الله هو الرزاق، وأن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (هود: 6) وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (العنكبوت: 60). وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (العنكبوت: 62)، وإذا سيطرت هذه العقيدة على النفس تخلص الإنسان من رذيلة البخل والحرص، والشره والطمع، واتصف بفضيلة الجود والبذل، والعطاء، والأنفة، والعفة، وكان إنسانًا مأمول الخير، مأمونَ الشر.

والطمأنينة أيضًا أثر من آثار الإيمان: طمأنينة القلب، وسكينة النفس قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28) وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (الفتح: 4). وإذا اطمأن القلب، وسكنت النفس شعر الإنسان ببرد الراحة وحلاوة اليقين، ودخل الأهوال بشجاعة، وثبت إزاء الخطوب مهما اشتدت، ورأى أن يد الله ممدودة إليه، وأنه القادر على فتح الأبواب المغلقة، فلا يتسرب إليه الجزع، ولا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلا قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 257). والإيمان يرفع من قوى الإنسان المعنوية ويربطه بمثل أعلى وهو الله مصدر الخير والبر والكمال وبهذا يسمو الإنسان عن الماديات ويرتفع عن الشهوات ويستكبر على لذائذ الدنيا ويرى أن الخير والسعادة في النزاهة والشرف وتحقيق القيم الصالحة ومن ثم يتجه المرء اتجاهًا تلقائيًا لخير نفسه ولخير أمته ولخير الناس جميعًا وهذا هو السر في اقتران العمل الصالح بجميع شعبه وفروعه بالإيمان إذ أنه الأصل الذي تصدر عنه وتتفرع منه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} (يونس: 9) وقال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الحج: 54) وقال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11). وإذا اهتدى القلب فأي شيء من الخير يفوته، والحياة الطيبة يعجل الله بها للمؤمنين في الدنيا قبل الآخرة وتتمثل هذه الحياة في ولاية الله للمؤمن وهدايته

له، ونصره على أعدائه وحفظه مما يبيت له وأخذه بيده كل ما عثر أو زلت به قدم؛ فضلًا عما يفيضه عليه من متاع مادي يكون عونًا له على قطع مرحلة الحياة في يسر، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97). وقال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (النحل: 30) وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (النور: 55) وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51) وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (الأعراف: 96) وقال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس: 98). وقد انتهى العالم إلى هذه الحقائق الإيمانية، ولا يتسع المجال لإثبات شهادات كبار العلماء، وتسجيل ما شاهدوه، ونكتفي هنا بتسجيل ما نشر بجريدة الجمهورية يوم السبت 29/ 11/ 1962 قالت الصحيفة تحت عنوان العلماء يلجئون إلى الدين لعلاج مرضى الأمراض العقلية، عزاء وسلوان لأولئك الذين تشبثوا بدينهم، ولم يتزعزع إيمانهم في أحلك لحظات المدنية وأنصعها -أقصد تلك اللحظات التي يتشدق فيها دعاة النظريات العتيدة، وفي مقدمتها نظرية النشوء والارتقاء لدارون، ويتشدقون فيها بأن الدين بدعة، وبأن الإنسان يقف وحده في هذا الكون كما زعم "جوليان هكسلي" جد الكاتب الفيلسوف البريطاني الكبير "الدوسي هكسلي".

إن علماء الأمراض العقلية لا يجدون اليوم سلاحًا أمضى، وأبعد فاعلية لعلاج مرضاهم من الدين والإيمان بالله، والتطلع إلى رحمة السماء والتشبث بالرعاية الإلهية، والالتجاء إلى قوة الخالق الهائلة، عندما يتضح عجز كل قوةٍ سواه، لقد بدأت التجربة في مستشفى بولاية نيويورك، وهو مستشفى خاص بمرتكبي الجرائم من المصابين بالأمراض العقلية، بدأت التجربة بإدخال الدين كوسيلة جديدة للعلاج بجانب الصدمات الكهربائية لخلايا المخ، والعقاقير المسكنة، والمهدئة للأعصاب؛ فكانت النتيجة رائعة. إن أولئك الذين تعذر شفاؤهم، بل فقدوا الأمل فيه انتقلوا من عالم المجانين إلى عالم العقلاء، أولئك الذين ارتكبوا أفظع الجرائم، وهم مسلوبو الإرادة، باتوا يسيطرون على إرادتهم، وتفكيرهم، وتصرفاتهم ويذرفون الدمع ندمًا، وكلهم أمل في رحمة السماء، ومغفرة الله، واستسلم العلماء، ورفعوا أيديهم إلى السماء يعترفون بضعهم، ويعلنون للدنيا. أن العلم يدعو إلى الإيمان، وليس أبدًا يدعو إلى الإلحاد. هذا وبالله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 6 علامات الساعة، وحكم الإيمان بها.

الدرس: 6 علامات الساعة، وحكم الإيمان بها.

علامات الساعة في حديث جبريل -عليه السلام.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (علامات الساعة، وحكم الإيمان بها) علامات الساعة في حديث جبريل -عليه السلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: ولنبدأ برواية حديث جبريل -عليه السلام- الذي جاءت فيه هذه العلامات، نتناول هذا الحديث بطرقه المتعددة كما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده وكما رواه غير مسلم أيضًا. روى الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- بسنده في صحيحه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: ((بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يومٍ إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب شديد بياض الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت قال: فأخبرني عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان قال: ثم انطلق فلبثت مليًّا ثم قال -صلى الله عليه وسلم- لي يا عمر أتدري من السائل قلت الله ورسوله أعلم قال -صلى الله عليه وسلم- فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)). ورواه مسلم أيضًا بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا بارزًا للناس، فأتاه رجلًا فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله

وملائكته وكتبه وكتابه ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر، قال: يا رسول الله ما الإسلام: قال: الإسلام أن تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإنك إلا تراه فإنه يراك، قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها - الأشراط يعن: علاماتها- إذا ولدت الأمة ربها؛ فذاك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس؛ فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البهم جمع بهيمة في البنيان؛ فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا -صلى الله عليه وسلم- قول الحق -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34). قال: الراوي وهو سيدنا أبو هريرة: ((ثم أدبر الرجل فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ردوا علي الرجل، فأخذوا ليردوه، فلم يروا شيئًا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم)). نتناول في درسنا هذا في مقدمته المراد بالساعة، والأسماء التي وردت لها في القرآن الكريم، وبيان أنها غيب، أي: أن ميعادها غيب لا يعلمه إلا الله، كما سنتعرض إلى أنها لا تقوم إلا على شرار الخلق، ونبين أن الدين الإسلامي باقٍ، وظاهر إلى قيام الساعة. أولًا المراد بالساعة يوم القيامة: وهو المعروف باليوم الآخر كما جاء في رواية من روايات هذا الحديث أعني حديث جبريل -عليه السلام- وجاء كثيرًا باسم اليوم الآخر في آيات القرآن الكريم.

وجاء في روايات هذا الحديث أيضًا أنه يوم البعث وذلك عندما قال -صلى الله عليه وسلم- لجبريل عند سؤاله عن الإيمان قال: له -عليه الصلاة والسلام- في الجواب، وأن تؤمن بالبعث بعد اليوم، والساعة غيب لا يعلمه إلا الله فلا يعلم متى الساعة نبي مرسل ولا ملك مقرب، قال -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث عندما تحدث عن علامات الساعة، وذلك في خمس لا يعلمهن إلا الله، ومن الخمس الساعة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- تلا قول الحق -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. وهذا جبريل في هذا الحديث وهو ملك مقرب بل هو الملك الموكل إليه الوحي إلى الرسل لا يعرف متى تكون الساعة ملك من المقربين، ويجيبه سيد الخلق وخاتم الرسل بأنه لا يعرف أيضًا متى تكون؛ فالساعة غيب لا يعلمه إلا الله، قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} (الأحزاب: 63). وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 187) وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} (الشورى: 17، 18). ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، أي: أن الإيمان يقبض، وينزع من الأرض فلا يكون في الأرض موحد يقول: الله الله؛ فتقوم الساعة على من بقي، وهم عندئذ شرار الخلق، إذ تقوم ريح لينة من قبل الحق -سبحانه وتعالى- يرسلها قبيل

قيام الساعة بلحظات، تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة فلا يبقى على وجه الأرض إلا شرار الخلق، عليهم تقوم الساعة قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)) قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)) رواه مسلم، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال: في الأرض الله الله)) رواه مسلم أيضًا والترمذي وأحمد بن حنبل عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- ذكر ذلك السيوطي في الجامع الصغير في الجزء الثاني صفحة 202 وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس في الدنيا لكع بن لكع))، رواه الترمذي، وأحمد، والضياء عن حذيفة. أما البشارة ببقاء الأمة الإسلامية، وأنها ظاهرة على الحق، وأنها باقية إلى قيام الساعة دليل هذه البشارة قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون))، رواه البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-، ذكر ذلك السيوطي في الجامع الصغير في الجزء الثاني صفحة 200 وقال -صلى الله عليه وسلم- لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة رواه الحاكم عن ابن عمر وقال: السيوطي حديث صحيح (الجامع الصغير) للسيوطي ج2 ص200. وروى ابن ماجة بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تزال طائفة من أمتي قوامةً على أمر الله لا يضرها من خالفها)) (الجامع الصغير) للسيوطي أيضًا الجزء الثاني صفحة 200 وخطب معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- على المنبر فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله -عز وجل- يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمةً على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) الحديث في (مختصر صحيح الإمام

البخاري) ص30 حديث رقم 64 في كتاب العلم في باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين. المراد بأمر الله الأولى القيام بشرع الله. والمراد بأمر الله الثانية: الساعة، أي: أن الأمة الإسلامية قائمة بأمر الله، أي: بشرعه عاملة بشرع الله -سبحانه وتعالى- إلى قيام الساعة. والمراد -كما قلت سابقًا- إلى قرب قيامها ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى يبعث ريحًا أو يرسل ريحًا طيبة لينة قبيل قيام الساعة فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة فلا يبقى في الأرض إلا شرار الخلق فعليهم تقوم الساعة وقيام الساعة يبدأ بالنفخ في الصور قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقة: 13: 18). وفي سورة الزمر ذكر الحق -سبحانه وتعالى- أن هناك نفختان نفخة أولى يصعق بها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء ربك ثم بعد زمن لا يعلمه إلا الله ينفخ للقيام للحساب والجزاء قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} (الزمر: 67: 70). وللساعة أسماء كثيرة جاءت في القرآن الكريم، وفي السنة المطهرة فمن أسمائها يوم القيامة أقسم على ذلك الحق -سبحانه وتعالى- أقسم بها باسمها فبين اسمها قال تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (القيامة: 1) ومن أسمائها أيضًا الواقعة قال

تعالى: {إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتْ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} (الواقعة: 1: 6). وتسمى الساعة أيضًا بيوم البعث يعني يوم القيامة يوم الحساب يسمى أيضًا بيوم البعث قال تعالى: {وَقال: الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (الروم: 56) ويدل أيضًا على أن اسم الساعة يوم القيامة قول الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} (الزمر: 60). ومن أسماء الساعة أيضًا الآخرة وجاء ذلك كثيرًا في القرآن الكريم قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الأعلى: 16، 17) وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) فكل هذه الآيات ذكرت أن اليوم الآخر هو اسم من أسماء الساعة أو اسم من أسماء يوم القيامة، وتسمى الساعة أيضًا بيوم الدين قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 1: 3). وتسمى أيضًا بيوم الحساب، قال تعالى: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَاب} (غافر: 27) كما أنها أيضًا تسمى بيوم الفتح قال

تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} (السجدة: 29) وتسمى -أي: الساعة- يسمى يومها بيوم التلاق قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (غافر: 14) وتسمى الساعة أيضًا بيوم الحساب قال تعالى: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَاب}. (غافر: 27) وتسمى أيضًا بيوم الفتح قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} (السجدة: 28، 29) ويسمى يوم القيامة أيضًا، أو وتسمى الساعة بيوم التلاق قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِي * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب} (غافر: 14: 17). وتسمى أيضًا يوم القيامة بيوم الآزفة قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر: 18، 19). وقال تعالى: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (النجم: 57، 58) من أسماء الساعة أيضًا يوم التغابن ويوم الجمع قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (التغابن: 9) ويسمى بيوم الخروج قال تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} (ق: 42) كما يسمى أيضًا بيوم الخلود قال تعالى: في سورة ق: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (ق: 34) كما يسمى أيضًا بيوم التناد قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (غافر: 23، 33).

ويسمى أيضًا بيوم الحسرة قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (مريم: 39) ويسمى بالطامة الكبرى قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} (النازعات: 34: 36) وتسمى الساعة يعني يوم القيامة أيضًا يسمى بالصاخة قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس: 33: 37). وتسمى بالحاقة قال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 1: 3) كما تسمى بالغاشية قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (الغاشية: 1) وتسمى أيضًا بالزلزلة قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقالهَا * وَقال: الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (الزلزلة: 1: 5). وكون اسمها الساعة ورد في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (القمر: 1) وفي آيات كثيرة من القرآن الكريم جاء اسمها الساعة قال تعالى {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} (فصلت: 47) وجاء اسمها الساعة في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يعرف بحديث جبريل الذي نحن بصدد الحديث فيه عندما رد -صلى الله عليه وسلم- على سؤال جبريل عندما سأله متى الساعة، وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- ((مفاتيح الغيب خمس ما يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((بعثت أنا والساعة كهاتين، وضم إصبعيه السبابة والوسطى)) رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، والترمذي عن أنس -رضي الله عنه. البعث وأدلته وشبهة منكريه والرد عليها: قلنا سابقًا: إن البعث هو الساعة، وهو من أسماء يوم القيامة وتحت عنوان البعث وأدلته وشبهة منكريه والرد عليها. يقول الشيخ سيد سابق -رحمه الله تعالى-:

تحت عنوان البعث، ويبدأ اليوم الآخر بالبعث، وهو إعادة الإنسان روحًا وجسدًا، كما كان في الدنيا، وهذه الإعادة تكون بعد العدم التام، ولا يستطيع الإنسان معرفة هذه النشأة الأخرى؛ لأنها تختلف تمام الاختلاف عن النشأة الأولى قال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} (الواقعة: 60: 62). أدلة البعث ولقد أورد القرآن الكريم أدلة كثيرة على البعث مستدلا بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة ومبينًا أن الله قادر على كل شيء وعالم بكل شيء فلا تعجزه إعادة الأجسام لنفوذ قدرته ولا يضيع منها شيء لسعة علمه قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قال: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس: 78، 79). والإنسان وتطوره في الخلق وتحوله من حال إلى حال والأرض وما تخرجه من نبات مظهر للعلم والقدرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (الحج: 5: 7). وإذا كان الله لم يعي بخلق السموات والأرض ولا يزال يخلق ويرزق ويحي ويميت فهل يستبعد بعد هذا المشهد المنظور أن يعيد الخلق مرة أخرى، قال تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق: 15).

إن إنكار البعث وإعادة الحياة مرة أخرى بعد هذه الدلائل البينة في الأنفس والآفاق لا معنى لها. شبهة منكري البعث: لقد استبعدت طوائف من الناس هذه الحقيقة زاعمين أنها مخالفة لما عهدوه من السنن المألوفة ومستبعدين ذلك مستعظمين أمره؛ لأن عقولهم لا تكاد تصدق إعادة الحياة إلى الأجسام بعد تفرقها وتحللها وبعد أن يتداخل بعضها في بعض؛ فإن الإنسان بعد أن يموت يتحول جسمه إلى تراب، ثم يتحول التراب إلى نباتٍ، فيتغذى إنسانٌ آخرُ بذلك النبات، ثم يموت، وهكذا- الإنسان تحول كغيره، وهكذا تتداخل الأجسام بعضها في بعض، فكيف يبعث الناس بعد هذا التداخل يجيب علماء العقائد عن هذه الشبهة بأن للإنسان أجزاء أصلية، وأجزاء عرضية، والأجزاء الأصلية تبقى كما هي، والعرضية هي التي تتحول وهذه الشبهة قديمة، ولا تزال تتردد في صدر الكثير. والقرآن ذكر هذه الشبهة وعالجها وأجاب عنها قال تعالى: {وَقالوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 24: 26). فهؤلاء الذين استنكروا البعث رد الله عليهم بأن استبعادهم لا معنى له لأنهم يجهلون عظمة الله، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وأنهم لا يبصرون في أنفسهم فهم أنفسهم أدل الدلائل وأقوى الحجج على نفي ما ينكرونه من البعث فالله أحياهم أولا وأماتهم ثانيًا، ولا تزال القدرة صالحة لإحيائهم مرة أخرى، وجمعهم مرةً أخرى يوم القيامة، ولا تزال القدرةُ صالحةً لإحيائهم مرة، وجمعهم مرة أخرى يوم القيامة، فأي استبعاد في هذا؟! قال

تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم: 27). اختلاف الناس عند البعث: والناس يختلفون عند البعث اختلافًا كبيرًا حسب أعمالهم فالذين صلحت أعمالهم فالذين صلحت عقائدهم وأعمالهم، وذكت نفوسهم يكونون أكمل أجسادًا وأرواحًا، والذين خبثت أعمالهم، وفسدت عقائدهم يكونون أنقص أجسادًا وأرواحًا، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنف مشاة وصنف ركبان وصنف على وجوههم قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما أنهم يتقون بوجوههم كل جدب وشكوك الجدب ما ارتفع من الأرض)) الحديث رواه الإمام الترمذي في سننه عن أبي هريرة. وفي حديث آخر يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((يحشر المتكبرون والمتجبرون يوم القيامة في صور الذر تتطؤهم الناس؛ لهوانهم على الله عز وجل)) وروى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: يبعث كل عبد على ما مات عليه -أي: إن من مات على خير- بعث على حال سارة ومن مات على شر بعث على حال شنيعة)) ومع كون البعث بالأجساد والأرواح إلا أن القوى الروحية تكون هي القادرة على التصرف في الأجساد فتستطيع قطع المسافات البعيدة في أقصر مدة والتخاطب والتخاطب بالكلام بين أهل الجنة والنار ويكون مثلهم في ذلك مثل الملائكة والجن في قدرتها على التشكل وظهورها في أجساد تأخذها من مادة الكون وقد ثبت ذلك ثبوتًا علميًّا.

علامات الساعة التي وردت في حديث جبريل -عليه السلام- ورد في حديث جبريل -عليه السلام- بعض علامات الساعة، وليس كل العلامات وحديث جبريل هذا يسميه علماء الحديث بأم السنة فكما تسمى سورة الفاتحة بأم القرآن، حديث جبريل يعرفه العلماء بأم السنة العلامات التي أخبر بها -صلى الله عليه وسلم- جبريل. والأمة في هذا الحديث هي: 1 - أن تلد الأمة ربها وفي رواية: "ربتها" والمراد سيدها. والعلماء قالوا في ذلك -أي: السراري- يعني تختلط الأمور، وتكثر الحروب، ويحدث الهرج والمرج فيشتري الرجل المرأة لتخدمه؛ فتكون أمه هي التي تخدمه، ويكون هو ربها، أو تكون ابنتها ربتها وهذا أيضًا يشير إلى العقوق وعدم بر الوالدين وهذا يكثر، وينتشر قرب الساعة. العلامة الثانية في هذا الحديث: أي: في حديث جبريل -عليه السلام-: أن يتطاول الحفاة العراة رعاء البهم في البنيان أي يتحول الناس من سكنى الصحراء والخيام إلى سكنى القصور، وأن يتفاخروا، ويتعالوا في البنيان سواء في جزيرة العرب أو في أي مكان في العالم؛ فعندما ورد هذا الحديث كان أغلب سكان العالم يعيشون في الصحراء، وفي الخيام ويرعون الأبقار والأغنام، وأوضح وأقرب دليل على ذلك الهنود الحمر الذين كانوا يسكنون أمريكا، وينتشرون في أفريقيا وغيرها. فليس المراد بسكان جزيرة العرب فقط، قال: ابن حجر في علامة أن يتطاول الحفاة العراة رعاء البهم أو البهم في البنيان قال: والمراد بهم أهل البادية كما صرح به في رواية سليمان التيمي وغيره قال: ما الحفاة العراة قال: العريب أو العريب، وهو بالعين المهملة على التصغير، وفي الطبراني عن طريق أبي حمزة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا: "من انقلاب الدين تفصح النبط، واتخاذهم

حكم الإيمان بعلامات الساعة.

القصور في الأمصار" قال: القرطبي: المقصود الإخبار عن تبدل الحال، بأن يستولي أهل البادية على الأمر، ويتملكوا البلاد بالقهر، فتكثر أموالهم، وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان، والتفاخر به. قال ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري) معقبًا على هذا القول: وقد شاهدنا ذلك في هذه الأيام. ومنه الحديث الآخر: ((لا تقوم الساعة إلا حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع)) ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا وُسِّدَ الأمرُ يعني أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة)) وكلاهما في الصحيح قال ذلك ابن حجر منذ زمن بعيد، فما بالكم بما نراه اليوم؟، فحديث جبريل -عليه السلام-أو ذكرت فيه- علامتان، الأولى: ((أن تلد الأمة ربها أو ربتها)) كما في رواية أخرى الثانية التطاول في البنيان، والتفاخر به خاصة من الحفاة العراة رعاء الشاء والبهم، أي: سكان البادية. حكم الإيمان بعلامات الساعة أقول إن حكم الإيمان بعلامات الساعة واجب ومنكر ومنكر هذه العلامات منكرٌ وجاحد لمعلوم من الدين بالضرورة وهو كافر؛ لأنه أنكر الحديث الشريف المتواتر، وأنكر كثيرًا من آيات القرآن الكريم التي صرحت بعلامات الساعة والتي سبق ذكرها. ثبت وجوب الإيمان بهذه العلامات كما قلت من حديث جبريل الذي معنا ونقوم بدراسته، وبالقرآن الكريم، فحديث جبريل في نص جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن الإيمان جزء من الدين؛ إذ لما قاله جبريل -عليه السلام-: ((ما علاماتها قال له -صلى الله عليه وسلم-: أن تلد الأمة ربها أو ربتها، ويتطاول الحفاة العراة رعاة البهم في البنيان)).

وفي القرآن الكريم إخبار عن أشراط الساعة، فيجب الإيمان بها، ومنكر ذلك تلك الأشراط يكون كافرًا؛ لأنه يكون أنكر آية، أو آيات من القرآن الكريم، قال تعالى: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَر} أي أن من علامات الساعة انشقاق القمر، وقد انشق بالفعل، ولكنهم قالوا: سحر مستمر قال تعالى: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} (القمر: 1: 3) وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (النازعات: 42، 43) أي: أنت من علاماتها يا محمد. وتوجد قراءة من القراءات السبعة المتواترة تقف على فيم، أي: يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم، ثم يكون الجواب أنت من ذكراها، أي أنت من علاماتها ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- كما سبق بعثت أنا والساعة كهاتين وضم إصبعيه السبابة والوسطى)). وها هو الحديث كما رواه البخاري نرويه مرة أخرى للتذكر. روى البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بارزًا يومًا للناس فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وأن تؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من الساعة، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاء الإبل البهم في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي -صلى الله عليه وسلم- {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ثم أدبر الرجل فقال -صلى الله عليه وسلم-: ردوه، فلم يروا شيئًا. فقال -صلى الله عليه وسلم- هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم)) رواه البخاري رقم 50 وفي مختصر صحيح البخاري في ص24 برقم 47.

الدرس: 7 علامات الساعة الصغرى - علامات الساعة الكبرى.

الدرس: 7 علامات الساعة الصغرى - علامات الساعة الكبرى.

من علامات الساعة الصغرى.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (علامات الساعة الصغرى - علامات الساعة الكبرى) من علامات الساعة الصغرى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: علامات الساعة الكبرى: إن للساعة علامات صغرى وعلامات كبرى وقبل الحديث عن العلامات الكبرى نتحدث باختصار عن العلامات الصغرى: إن علامات الساعة الصغرى كثيرة، وظهر منها الكثير والكثير. وفي حديث جبريل -عليه السلام- السابق ذكر فيه علامتان. العلامة الأولى: أن تلد الأمة ربها أو ربتها، العلامة الثانية: أن يتطاول الحفاة البهم رعاء الشاء في البنيان. والإمام العلامة ابن رجب الحنبلي تحدث عن هاتين العلامتين في كتابه القيم (جامع العلوم والحِكَم) عندما شرح حديث جبريل الذي يعرف بأم السنة. يقول ابن رجب -رحمه الله تعالى-: فقول جبريل -عليه السلام: ((أخبرني عن الساعة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)) يعني: أن علم الخلق كلهم في وقت الساعة سواء، وهذا إشارة إلى أن الله تعالى وحده استأثر بعلمها. ولهذا في حديث أبي هريرة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((في خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى، ثم تلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ})) (لقمان: 34) وقال الله -عز وجل-: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} (الأعراف: 187). وفي (صحيح البخاري) عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة})) الآية. وخرجه الإمام أحمد. ولفظه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أوتيت مفاتيح كل شيء إلا

الخمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ})) الآية. وخرج أيضًا بإسناده عن ابن مسعود قال: أوتي نبيكم -صلى الله عليه وسلم- مفاتيح كل شيء غير خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية. قوله: ((فأخبرني عن أماراتها)) يعني: عن علاماتها التي تدل على اقترابها وفي حديث أبي هريرة: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: سأحدثك عن أشراطها)) وهي علامات أيضًا، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- للساعة علامتين الأولى ((أن تلد الأمة ربتها)) والمراد بـ ((ربتها)) سيدتها ومالكتها. وفي حديث أبي هريرة ((ربها))، وهذا إشارة إلى فتح البلاد وكثرة جلب الرقيق حتى تكثر السراري، ويكثر أولادهن؛ فتكون الأمُّ رقيقةً لسيدها وأولاده منها بمنزلته؛ فإن ولد السيد بمنزلة السيد؛ فيصيرُ ولَدَ الأمَةِ بمنزلةِ رَبها وسيدها. وذكر الخطابي: أنه استدلَّ بِذَلِكَ من يقول: إن أم الولد إنما تعتق على ولدها من نصيبه من ميراث والده، وإنها تنتقل إلى أولادها بالميراث، فتعتق عليهم، وإنها قبل موت سيدها تُبَاع، قال: وفي هذا الاستدلال نظر، قلت: أي ابن حجر: قد استدل به بعضهم على عكس ذلك، وعلى أن أم الولد لا تباع، وأنها تعتق بموت سيدها بكل حال؛ لأنه جعل ولد الأمة ربها، فكأن ولدها هو الذي أعتقها فصار عتقها منسوبًا إليه؛ لأنه سبب عتقها فصار كأنه مولاها، وهذا كما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أنه قال في أم ولده مارية لما ولدت إبراهيم -عليه السلام- أعتقها ولدها))، وقد استدل بهذا الإمام أحمد؛ فإنه قال في رواية محمد بن الحكم عنه: "تلد الأمة ربتها، تكثر أمهات الأولاد"، يقول: إذا ولدت فقد عتقت لولدها، وقال: فيه حجة أن أمهات الأولاد لا يبعن. وقد فسر قوله: ((تلد الأمة ربتها)) بأنه يكثر جلب الرقيق حتى تجلب البنتُ فتعتق، ثم تجلب الأم فتشتريها البنت وتستخدمها جاهلة بأنها أمها وقد وقع هذا

في الإسلام. وقيل: معناه أن الإماء يلدن الملوك. وقال وكيع معناه: تلد العجم العرب، والعرب ملوك العجم، وأرباب لهم. والعلامة الثانية ((أن ترى الحفاة العراة العالة)) والمراد بالعالة الفقراء كقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} (الضحى: 8). وقوله: ((رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)) هكذا في حديث عمر، ووالمراد: أن أسفل الناس يصيرون رؤساءهم، وتكثر أموالهُم حتى يتباهُونَ بطولِ البنيانِ، وزخرفته وإتقانه، وفي حديث أبي هريرة ذكر ثلاث علامات، منها أن تكون الحفاة العراة رءوس الناس، ومنها: ((أن يتطاول رعاءُ البُهْمِ في البنيان)). وروى هذا الحديث عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة. فقال فيه: "وأن ترى الصم البكم العمي الحفاة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ملوك الناس". قال: فقام الرجل فانطلق، فقلنا: يا رسول الله من هؤلاء الذين نعت؟ قال: ((هم العريب)) وكذا روى هذه اللفظة الأخيرة علي بن زيد، عن يحيى بن معمر، عن ابن عمر. وأما الألفاظ الأول، فهي في الصحيح من حديث أبي هريرة بمعناها. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((الصم البكم العمي)) إشارة إلى جهلهم وعدم علمهم، وفهمهم. وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، ومتعددة، فخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث حذيفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع)) وفي (صحيح ابن حبان) عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تنقضي الدنيا حتى تكون عندَ لكعِ ابن لكع)). وخرج الطبراني من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تقومُ الساعةُ حتى يغلب على الدنيا لُكَعٌ ابن لُكَع)) وخرَّجَ الإمام أحمد، والطبراني من

حديث أنسٍ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بين يديْ الساعة سنون خدَّاعة، يُتَّهَمُ فيها الأمين، ويؤتمن فيها المتهم، وينطق فيها الرويبضة، قالوا: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: السفيه ينطقُ في أمرِ العامة)) وفي رواية: ((الفاسق يتكلم في أمر العامة)) وفي رواية للإمام أحمد: ((إن بين يدي الدجال سنين خداعة، يُصَدَّقُ فيها الكاذبُ، ويكَذَّبُ فِيهَا الصادق، ويخَوُّنُ فيها الأمينُ ويؤتمَنُ فيهَا الخائن)) وذكر باقي الحديث. ومضمون ما ذكر من أشراط الساعة في هذا الحديث يرجع إلى أن الأمور توسد إلى غير أهلها، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن سأله عن الساعة: ((إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهلِهِ؛ فانتظر الساعة)) فإنَّهُ إذا صار الحفاة العراة رعاء الشاء، وهم أهلُ الجهلِ، والجفاء رؤوس الناس، وأصحاب الثروة، والأموال حتى يتطاولوا في البنيان، فإنه يفسد بذلك نظامُ الدين والدنيا، فإنه إذا رأس الناس من كان فقيرًا عائلًا، فصار ملكًا على الناس سواء كان ملكه عامًّا أو خاصًّا في بعض الأشياء، فإنه لا يكاد يعطي الناس حقوقهم، بل يستأثر عليهم بما استولى عليه من المال. فقد قال بعض السلف: لأن تمد يدك إلى فم التنين فيقضمها خيرٌ لك من أن تمدها إلى يد غنيٍّ قد عَالَجَ الفقْرَ، وإذا كان مع هذا جاهلًا جافيًا فسد بذلك الدين؛ لأنه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس، ولا تعليمهم بل همته في جبايةِ المَالِ واكتنازه، ولا يبالي بما فسد من دين الناس، ولا بمن ضاع من أهل حاجاتهم. وفي حديث آخر: ((لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها))، وإذا صار ملوك الناس ورؤوسهم على هذه الحال انعكست سائر الأحوال فصدق الكاذب، وكذب الصادق، واؤتمن الخائن، وخون الأمين، وتكلم الجاهل، وسكتَ العَالِمُ، أو عدم بالكلية، كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:

((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل)) وأخبر أنه يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا. وقال الشعبي: لا تقومُ الساعة حتى يصير العلمُ جهلًا والجهل علمًا، وهذا كله من انقلاب الحقائق، في آخر الزمان وانعكاس الأمور، وفي صحيح الحاكم عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: ((إن من أشراط الساعة أن يوضع الأخيار، ويرفعَ الأشرار)) وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((يتطاولُونَ في البنيان)) دليل على ذمِّ التباهي والتفاخر؛ خصوصًا بالتطاول في البنيان، ولم يكن إطالةُ البناء معروفًا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بل كان بنيانهم قصيرًا بقدر الحاجة. وروى أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان)) خرجه البخاري، وخرج أبو داود من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج فرأى قبةً مشرفةً، فقال: ما هذه؟ قالوا: هذه لفلان رجل من الأنصار، فجاء صاحبُها، فسلم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعرض عنه، فعل ذلك مرارًا، فهدمها الرجل)) وخرجه الطبراني من وجه آخر عن أنس أيضًا وعنده. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((كل بناء، وأشار بيده هكذا على رأسه أكثر من هذا فهو وبال)). وقال حريث بن السائب عن الحسن: "كنت أدخل بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فأتناول سقفها بيدي". وروي عن عمر أنه كتب: "لا تطيلوا بناءكم؛ فإنه شر أيامكم" وقال يزيد بن أبي زياد: قال حذيفة لسلمان -يعني: سلمان الفارسي -رضي الله عنهم جميعًا- ألا نبني لك مسكنًا يا أبا عبد الله؟ قال: لم لتجعلني ملكًا؟ قال: لا، ولكن نبني لك بيتًا من قصب، ونسقفه بالبواري إذا

قمت كاد أن يصيب رأسك، وإذا نمت كاد أن يمس طرفيك، قال: كأنك كنت في نفسي. وعن عمار بن أبي عمار، قال: "إذا رفع الرجل بناءه فوق سبعة أذرع، نودي يا أفسق الفاسقين إلى أين" خرجه كله ابن أبي الدنيا. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده: بلغني عن ابن عائشة، حدثنا ابن أبي شميلة، قال: نزل المسلمون حول المسجد، يعني: بالبصرة في أخبية الشعر ففشا فيهم السَّرَق، يعني: السرقة، فكتبوا إلى عمر، فأذن لهم في اليراع، فبنوا بالقصب، ففشا فيهم الحريق، فكتبوا إلى عمر، فأذن لهم في المدر، يعني: يبنوا بالطين، ونهى أن يرفع الرجل سُمْكَهُ أكثرَ من سبعة أذرع. وقال: "إذا بنيتُم منه بيوتكم، فابنوا منه المسجد". قال ابن عائشة: وكان عتبة بن غزوان بنى مسجد البصرة بالقصب، قال: من صلى فيه وهو من قصب أفضل ممن صلى فيه وهو من لبن، ومن صلى فيه وهو من لبن خير ممن صلى فيه، وهو من آجر، يعني: من حجارة، وخرج ابن ماجه من حديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)). ومن حديث ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أراكم ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود بِيَعَهَا، وكما شرفت النصارى كنائسها)) أي: جعلتها عالية وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن -رضي الله عنه- قال: لما بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد قال: ((ابنوه عريشًا كعريش موسى)) قيل للحسن: وما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العريش" يعني: السقف. ولقد جاءت بعض العلامات الصغرى في حديثٍ آخر للإمام البخاري -رحمه الله تعالى- إذ روى حديثًا ذكر فيه: أن من علامات الساعة أن يُرفع العلم وأن ينتشر

رفع العلم، وثبوت الجهل، وشرب الخمر، وظهور الزنا، وقلة الرجال وكثرة النساء.

الجهل، وأن يُشْرَب الخمر، وأن يظهر الزنا -والعياذ بالله- وأن يقل الرجال، وأن تكثر النساء حتى يكون للرجل الواحد خمسون امرأة، وذلك بكثرة الحروب، والهرج، والقتل للرجال؛ وأيضًا بسبب كثرة ولادة الإناث عن ولادة الصبيان. وأما رفع العلم: فقد جاءت كيفيته في حديث آخر للبخاري بين فيه -صلى الله عليه وسلم- "أن الله يقبض العلم بقبض العلماء؛ فإذا مات العلماء تولى أمور الناس رؤساءُ جهالٌ يسئلون؛ فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون". فموت العلماء بكثرة، وعدم وجود من يخلفهم في رتبتهم علامة من علامات الساعة، وقد مر هذا الحديث سابقًا. رفع العلم، وثبوت الجهل، وشرب الخمر، وظهور الزنا، وقلة الرجال وكثرة النساء قال البخاري -رحمه الله- حدثنا عمران بن ميسرة، قال: حدثنا عبد الوارث، عن أبي التيَّاح، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من أشراط الساعة أن يُرْفَعَ العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا)). الرواية الأخرى لهذا الحديث: البخاري بسنده عن أنس قال: لأحدثنكم حديثًا لا يحدثكُم أحدٌ بعدي، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من أشراطِ الساعة أن يَقِلَّ العلمُ، ويظهر الجهلُ، ويظهر الزنا، وتكثر النساءُ، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)) تخريج الحديث: هذا الحديث أخرجه البُخاري في كتاب العلم، وفي كتاب المحاربين، وفي كتاب الفتن، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في المجلد الثالث ص98، 151، 176، وأخرجه الإمام الترمذي في كتاب الفتن، في باب: ما جاء في أشراط الساعة. الرواية الثانية: رواها البخاري في كتاب النكاح ورواها في كتاب المحاربين، ورواها في كتاب الأشربة،

ورواها الإمام مسلم في كتاب العلم في باب رفع العلم. ورواها الترمذي أيضًا في كتاب الفتن، في باب: ما جاء في أشراط الساعة. والمعنى العام لهذا الحديث: بين لنا -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من أشراط الساعة؛ فإن الساعة غيبٌ لا يعلمها إلا الله ولكن من علاماتها أن يرفع العلم، أي: يذهب العلماء ويقضون نحبهم؛ فإن العلم لا يقبض انتزاعًا، وإنما يكون بموت العلماء. وما دامَ ذهب العلماء إلى مصيرهم المحتوم، فلا بد أن ينتشر الجهل، وأن يثبت، ويصبح الجهلُ له أركان، ويسير الناسُ وراء الجهلة فيفتونهم بما يعرفون، وما لا يعرفون؛ فينتشر الضلال في الأرض، فتستباح الحرمات بفتاوى ضالة من الجهال الذين يثبت أمرهُم، ويمكن لهم في الأرض والصدارة، وإذا بشرب الخمر يكثر وينتشر ويفشو؛ فإن الخمر كانت موجودة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن المراد منها في آخر الزمان عندما تكون علامة من علامات الساعة كثرتها عن المعتاد، وتسمى بغير اسمها تمويهًا، وتضليلًا من الشيطان وحزبه. وأيضًا يظهر الزنا أي ينتشر ويكثر عما كان عليه في عهده -صلى الله عليه وسلم- ثم زادت الرواية الثانية علامة وأنقصت علامة؛ فلم تذكر انتشار الخمر وزادت، وأن يكثر النساء، ويَقِلَّ الرجالُ حتى يكون للرجل الواحد خمسينَ امرأة يتولى شئونهن. توضيح الحديث: في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من أشراط الساعة أن يرفع ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا)). ((أشراط الساعة)) أي علاماتها يرفع العلم أي: يرفع بموت حملته، وقبض نقلته لا بمحوه من الصدور يثبت الجهل عند مسلم يبث الجهل، وهو الظهور، والفشو والانتشار، يُشرب الخمر يكثر شرب الخمر، كما ورد مصرحًا به في طريق أخرى فحمل المطلق على المقيد؛ لأن سياق الحديث في الإخبار عن أشياء

لم تكن معهودة عند المقالة؛ فإذا ذكر -عليه الصلاة والسلام- شيئًا موجودًا في زمانه، وجعله علامة كان حمله على أن المراد أن يتصف ذلك بصفة زائدة على ما كان موجودًا كالكثرة، والفشو. ((وأن يظهر الزنا)) أي: يفشو الزنا بالقصر لغة أهل الحجاز يعني يقال الزنا في لغة، والزناء بالمد؛ ففي كلمة الزنا لغتين تأتي بالبدء الزناء، وتأتي بالقصر. فيقال: الزنا وهي لغة أهل الحجاز، وبها جاء القرآن الكريم والمد لغة نجد فوجود كل واحد من الأربعة علامة لوقوع الساعة. وقيل: مجموعها هو العلامة، وحينئذ يصح أن يراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ويُشرب الخمر)) أن شربه مطلقًا من الأشراط؛ لأن ذلك جزء علة لا علة مستقلة فقوله في الرواية الأخرى: ((ويكثر شرب الخمر)) لا يستلزم نفي كون مطلق الشرب من أشراطها أيضًا لكن مع غيره وهو الكثرة. وقوله في الرواية الثانية: ((لا يحدثكم أحد بعدي)) جاء في رواية أخرى ((لا يحدثكم غيري)) حمل على أنه قاله لأهل البصرة وقد كان هو آخر من مات بها من الصحابة اللي هو سيدنا أنس قوله: "يقل" الرجال من القلة، وفي الرواية الأولى ((يقل العلم)) وفي الرواية الأخرى ((يرفع العلم)) لا تنافي بينهما؛ لأن المراد بالقلة العدم، أو أن ذلك باعتبار زمانين، مبدأ الأشراط وانتهاؤها فما هنا باعتبار المبدأ، وما تقدم باعتبار الانتهاء. قوله: ((وتكثر النساء ويقل الرجال)) إشارة إلى كثرة القتل بسبب الفتن وقيل: إشارة إلى كثرة الفتوح؛ فتكثر السبايا، فيتخذ الرجل الواحد عدة موطوءات. وقيل: إشارة إلى أنه يكثر في آخر الزمان ولادة الإناث، ويقل ولادة الذكور، وبقلة الرجال مع كثرة الإناث يظهر الجهل والزنا، ويرفع العلم لأن النساء حبائل الشيطان. القيم هو من يقوم بأمر من تكفل به، والمراد به هنا من يقوم على النساء.

قال القرطبي: يُحتمل أن يُراد بالقيم من يقوم عليهن سواء كن موطوءات أم لا ويحتمل أن يكون ذلك في الزمان الذي لا يبقى فيه من يقول: الله الله، فيتزوج الواحد بغير حق؛ جهلًا بالحكم الشرعي، وعرف القيم يعني أضاف كلمة الـ للقيم؛ فصارت القيم بالتعريف عرفها إشعارًا بما هو معهود من كون الرجال قوامين على النساء، وهل المراد بقوله: ((خمسين امرأة)) حقيقة العدد، أو المجاز عن الكثرة يؤيد الثاني هو المجاز عن الكثرة يعني، ليس المراد العدد فالعدد غير مقصود، يؤيد ذلك ما في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- الذي يقول فيه: ((ويُرَى الرجلُ الواحدُ يتبعه أربعون امرأة)). وخصت هذه الأمور الخمسة بالذكر؛ لأن تحققها مشعر باختلال الضروريات الخمس الواجب رعايتها في جميع الأديان وهي رعاية النفس ورعاية الدين ورعاية المال ورعاية العرض ورعاية العقل؛ إذ بحفظها صلاح المعاش والمعاد هذه الأشياء الخمسة كما قلت الدين والعقل والنفس والنسب يعني العرض والمال، فرفع العلم مخل بحفظ الدين، وشرب الخمر مخل بالعقل وبالمال أيضًا، وقلة الرجال بسبب القتل في الفتن مخل بالنفس وظهور الزنا مخل بالعرض وبالنسب، وكذلك مخل بالمال هذا الحديث الذي كنا بصدده يؤخذ منه: 1 - أن الساعة لا يعلمها إلا الله تعالى. 2 - أن للساعة علامات كثيرة منها رفع العلم. أي: ذهابه بموت العلماء. ومنها: أن ينتشر الجهل وأن يسود الجهلة فيفتوا الناس بغير علم فيضلونهم. أن يكثر شرب الخمر، وينتشر أن يفشوا الزنا، وينتشر أيضًا. ومن الرواية الثانية نأخذ من علامات الساعة أيضًا كثرة النساء، وقلة الرجال. أهم ما يؤخذ من هذا الحديث: أن على الإنسان أن يجاهد نفسه وأن يستعد للساعة؛ فإنها تأتي بغتة وأخفيت حتى يجتهد الناس في العبادة ولقد سأل رجل

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحابي جليل قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال له -صلى الله عليه وسلم-: ((وماذا أعددت لها)) فالمراد أن يستعد الإنسان للساعة. أما قبض العلماء: فهو قبض للعلم، وهو من علامات الساعة، جاء ذلك أيضًا في حديث صحيح رواه الإمام البخاري بسندِهِ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: "سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا؛ اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا؛ فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))، هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في أكثر من موضع في صحيحه وأخرجه أيضًا الإمام مسلم في صحيحه وأخرجه أيضًا الإمام الترمذي وأخرجه الإمام ابن ماجه وأخرجه الإمام الدارمي في (سننه) وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل. الصحابي الجليل الذي روى هذا الحديث هو سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال أبو هريرة: ما أجد أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر حديثًا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب، أسلم قبل أبيه، وكان صوامًا قوامًا حتى نهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المواظبة في قيام الليل، وصيام النهار، وأمره بقراءة القرآن في كل ثلاث، وكان يقول في كبره يا ليتني كنت قبلت رخصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات في سنة 65 هجرية بالشام -رضي الله عنه وأرضاه. المعنى العام لهذا الحديث: هذا الحديث مبين لجزء من الحديث السابق؛ فقد بين لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق بعضًا من أشراط الساعة، أي من علاماتها التي تشير إلى قربها، وذكر أول شيء من تلك العلامات: أن يرفع العلم. أما كيف يرفع العلم فلم نعرفه في

الحديث السابق، فجاء هذا الحديث مبينًا وموضحًا لنا كيفية رفع العلم، فبين لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الله -سبحانه وتعالى- لا يقبض العلم، أي: يرفعه انتزاعًا ينزعه من صدور الرجال، أي: يمحوه من صدورهم، ولكن ارتفاع العلم وقبضه إنما يكون بقبض العلماء، أي: بموتهم فكلما مات عالم لم يظهر أو لم يخلفه في علمه عالم آخر، وهكذا حتى ينتهي العلماء وينتهي معهم علمهم ويقبر معهم، حتى إذا لم يبقِ الله تعالى عالمًا إذا بالناس يذهبون إلى الجهال فيولونهم أمور دينهم وتكون لهم الفتوى، فيفتون بما لا يعلمون، ويقلدونهم أعلى المناصب، وتكون لهم الكلمة، فإذا سئلوا أفتوا بغير علم. وقوله -صلى الله عليه وسلم- ((اتخذ الناس رؤساء جهالا)) يشير إلى أن الجهل أصبح سمة الناس، فالكل في جهل مطبق، وبجهلم يولون جهالا اعتقادًا منهم بأن لهم علم، وأنهم يصلحون للإفتاء ولأمور الدين في دينهم ودنياهم، وإذا بهؤلاء الجهال بجهلم أيضًا يسارعون فيقبلون ويفتون ويسئلون، ولجهلم لا يتحرجون ولا يتورعون عن الإفتاء، فإذا صار الأمر كذلك وفعل الجهال ذلك؛ فأفتوا بغير علم، وأفتوا برأيهم غير مستندين إلى كتاب أو سنة، وإنما هي آراؤهم الباطلة يحملون الناس عليها؛ وعندئذ يكون وعندئذ يكونون قد ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم. هذا الحديث فيه أمور تحتاج إلى توضيح: قول الراوي -رضي الله عنه-: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول"؛ "يقول" جملة حالية، أي: حال كونه. يقول عند الإمام أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة في حجة الوداع، فبينت رواية الإمام أحمد، ورواية الإمام الطبراني أن هذا الحديث قيل في حجة فبينت تاريخه، ومن هنا الزيادات في الحديث تأتي بالفوائد. قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء)) انتزاعًا بالنصب مفعول مطلق بقبض العلماء، أي: بموت

حملته، وعبر بالمظهر في قوله: بقبض العلم في موضع المضمر؛ لزيادة تعظيم العلم كقوله تعالى: {اللهُ الصَّمَدُ} (الإخلاص:2) بعد قوله: {اللهُ أَحَدٌ} ((حتى إذا لم يبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) لم يُبقِ بضم الياء من الإبقاء أي: لم يبقِ الله تعالى أحدًا من العلماء، عالمًا بالنصب على المفعولية، وفي رواية "يبقى" بفتح الياء، وعالِمٌ بالرفع على الفاعلية، أي: ولمسلم في روايته في حديثه "حتى إذا لم يترك عالمًا". "رؤساء" جمع رئيس، "جهالًا" منصوب صفة لرؤساء، "فأفتوا بغير علم"، وفي رواية: ((فيفتون برأيهم)) فضلوا من الضلال، أي: أنفسهم، وأضلوا من الإضلال، أي: أضلوا السائلين. شبهة وردها: إن قيل: الواقع بعد حتى هنا جملة شرطية؛ فكيف وقعت غاية، أجيب بأن الغاية في الحقيقة ما ينسبك من الجواب مرتبًا على فعل الشرط والتقدير، والتقدير، أي: ولكن يقبض العلم بقبض العلماء إلى أن يتخذ الناس رؤساء جهالًا وقت انقراض أهل العلم. يؤخذ من هذا الحديث: أن موت العلماء أمرٌ خطيرٌ يجب أن يتنبه له المسلمون خاصة إذا لم يتركوا وراءهم من يخلفهم في علمهم فإنه من علامات الساعة. الشيء الثاني: أن تولي الجهال أمور الناس شيء خطير ونذير باقتراب الساعة. الشيء الثالث: إنه من الخطأ أن تقبل فتاوى الجهلاء، فإنهم ضالين ومضلين. 4 - إذا لم يكن المرء محيطًا علمًا بالمسألة التي سئل فيها لا يقدم على الإفتاء فيها، فيفتي بغير علم، فيصير من الجهال الذين إذا سئلوا أفتوا بغير علم فيضلون ويضلون.

علامات الساعة الكبرى.

الأمر الخامس: الاهتمام بالعلم والتعلم حتى لا يسود الجهل فيتولى أمور المسلمين الجهلة الذين يضلونهم. الأمر السادس: جواز خلو الزمان عن مجتهد على رأي الجمهور، وهذا دليلهم خلافًا للحنابلة، فإنهم لم يجوزوا خلو الزمان عن مجتهد. علامات الساعة الكبرى وأما العلامات الكبرى فقد جاء في الأحاديث الصحيحة أنها عشر علامات: طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة، والدخان، والدجال، ونزول عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- وظهور يأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف تقع خسوف بالمشرق، وخسوف بالمغرب، وخسوف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن. وفي رواية: من قعر عدن تسوق الناسَ إلى أرضِ المحشر؛ وإذا ظهَرَتْ هذه الآيات لا يُقْبَلُ الإيمان من نفس لم تكن آمنت من قبل، أو كسبتْ في إيمانها خيرًا، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} (الأنعام: 158). وخروج الدابة دليله من القرآن الكريم قول الحق -سبحانه وتعالى-: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} (النمل: 82) وكون الدخان يأتي من السماء علامة من العلامات الكبرى. جاء أيضًا في القرآن الكريم قال تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمْ

الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} (الدخان: 10 - 16). ونزول سيدنا عيسى -عليه السلام- كعلامة من علامات الساعة جاء أيضًا ذكره في القرآن الكريم قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (الزخرف: 57: 61). في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أي: لعلم لقرب الساعة في قراءة من القراءات، "وإنه لَعَلَمٌ للساعة"، أي: علامة من علاماتها. أما ظهور يأجوج ومأجوج: فجاء في القرآن الكريم في سورة الكهف، وفي سورة الأنبياء قال تعالى في سورة الكهف في قصة ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} (الكهف: 93: 99). وفي سورة الأنبياء، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَمَا

تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} (الأنبياء: 96: 100). وتحدث -صلى الله عليه وسلم- عن يأجوج ومأجوج في الحديث الذي رواه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- بسندِهِ عن زينب بنت جحش: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استيقظ من نومِهِ، وهو يقول: لا إله إلا الله، ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترب، فُتِحَ اليومَ من دم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وعقد سفيان راوي الحديث بيده عشرةً. وفي رواية الزهري: ((وحلَّقَ بإصبعِهِ الإبهام والتي تليها)) وطلوع الشمس من المشرق، وظهور الدجال، والخسوف الذي يحدث ثلاث مرات، والنار التي تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى أرض المحشر، هذه العلامات جاءت كلها في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- روى الإمام مسلم بسندِهِ عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: طلع النبي -صلى الله عليه وسلم- علينا ونحن نتذاكر، الساعة، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة يا رسول الله قال -عليه الصلاة والسلام-: إنها لن تقوم -أو لن تكون- حتى ترون قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن)) وفي رواية: ((من قعر عدن تطرد الناس)) وفي رواية: ((تسوق الناس إلى محشرهم)) رواه مسلم في صحيحه. هذا وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 8 تابع: علامات الساعة الكبرى.

الدرس: 8 تابع: علامات الساعة الكبرى.

طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة، وظهور المهدي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (تابع: علامات الساعة الكبرى) طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة، وظهور المهدي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين: ترتيب علامات الساعة الكبرى خروجًا ووقتها: ذكرنا فيما سبق الكثير من العلامات الصغرى، وذكرنا العلامات الكبرى والتي هي عشر آيات، وهذه الآيات العشر لا تخرج مرة واحدة، وإنما تخرج تباعًا، وكأنها عِقد انفرط. فأول الآيات خروجًا أو ظهورًا طلوع الشمس من المغرب، أو الدابة التي تخرج فتُكلم الناس. وعلى كل حال فأيتهما خرجت كانت الثانية على إثرها، يعني: إذا طلعت الشمس مباشرة بعدها تكون الدابة، إذا خرجت الدابة، تكون الشمس معها مباشرة فهما مقترنتان. ثم يخرج بعد ذلك المهدي: وهو رجلٌ من آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يملأ الأرض عدلًا بعدما مُلئت جورًا وظلمًا، ولم يُذكر أنه من العشر؛ لكنه سيكون مع هذه الآيات، ثم بعده يظهر الدجال، وبعد الدجال ينزل سيدنا عيسى ابن مريم -عليه السلام- فيتعاون مع المهدي في قتل الدجال، ثم يعمل عيسى -عليه السلام- على إبطال النصرانية، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويعمل بالإسلام، ويحقق وعد الله تعالى في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (الفتح: 28). ثم يكون الدخان وظهور يأجوج ومأجوج، ثم بعد ذلك ثلاثة خسوف: "خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب"، وآخر الآيات نارٌ تخرج من اليمن، أو من قعر عدن تسوق الناس إلى أرض المحشر، وعلى ذلك يكون ترتيب الآيات يعني: علامات الساعة الكبرى كما يلي: أولًا: طلوع الشمس من المغرب. ثانيًا: خروج الدابة، وقد تكون الدابة أولًا ثم طلوع الشمس، وعلى كل فهي تهمة خرجت كانت الأخرى على إثرها مقارنة لها، قال -صلى الله عليه وسلم: ((إنّ أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضُحى)) في وقت

الضحى، وهي تهمة كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على إثرها قريبًا، رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه. ثالثًا: المهدي وهو رجل من آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يمكث في الأرض سبع سنين، يملأ الأرض عدلًا بعدما ملئت ظلمًا، واسمه محمد واسم أبيه عبد الله، جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. رابعًا: يظهر المسيح الدجال فيزعم النبوة أولًا، ثم بعد ذلك يزعم الألوهية، ويعيث في الأرض فسادًا. خامسًا: ينزل عيسى ابن مريم -عليه السلام- حكمًا عدلًا يدعو إلى الإسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويتعاون مع المهدي على قتل الدجال. سادسًا: ظهور يأجوج ومأجوج. سابعًا: الدخان. ثامنًا: خسوف بالمشرق. تاسعًا: خسوف بالمغرب. العاشر: خسوف بأرض العرب. بعد ذلك نار تسوق الناس إلى أرض المحشر. يقول الشيخ سيد سابق -رحمه الله تعالى- في كتابه (العقائد الإسلامية): " العلامات للساعة: هذه العلامات منها علامات صغرى وعلامات كبرى فأما العلامات الصغرى فنجملها فيما يلي: بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وختم النبوة والرسالة به، فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بُعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى)) رواه البخاري ومسلم والترمذي، والمراد بهذا التشبيه أنه -صلى الله عليه وسلم- ليس بينه وبين الساعة نبي آخر، فهي تليه، وتأتي بعده، وهذا عَلَم بقربها، ولا

يستلزم العلم بوقت مجيئها؛ فإن العلم بوقت المجيء لا يعلمه إلا الله تعالى، وأن يصبح الملوك والأمراء والرؤساء من أولاد السراري، لا من أولاد بنات البيوتات العريقة بحسن التربية، وعلوِّ الأخلاق، وكمال المروءة، كما يُصبح أهل البداوة، ورعاة الغنم من أصحاب الثروة، والترف، والقصور العالية، والترأس على الناس. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يومًا بارزًا للناس فأتاه جبريل وقال: ((يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل, ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها، فذاك من أشراطها، وإذا كانت الحفاة العراة رعاة الشاه رءوس الناس، فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رُعاة الغنم في البنيان، فذاك من أشراطها)) رواه ابن أبي شيبة. وفي حديث جبريل ((أنه سأل الرسول عن الساعة؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ قال: فأخبرني عن أمارتها. قال: أن تلد الأمة ربَّتها، وأن ترى الحُفاة العراة العالة، رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)) رواه البخاري ومسلم عن عمر. وفي حديث الإمام البخاري جملة من هذه العلامات عدَّتها إحدى عشرة علامة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تقوم الساعة حتى تقتَتِل فئتان عظيمتان؛ تكون بينهما مقتلة عظيمة دعوتهما واحدة، وحتى يُبعث دجَّالون كذابون قريبًا من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يُقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج -وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المال، فيفيض حتى يُهمّ رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه: لا إِرَب لي به - لا حاجة لي به- وحتى يتطاول

العلامات الكبرى.

الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا. ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يُليط حوضه)) يعني: يُعدل الحوض للأغنام وللجمال التي عنده- فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه، أو أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها)). العلامات الكبرى أما العلامات الكبرى فنُجملها فيما يلي: هذا كلام الشيخ السيد سابق -رحمه الله تعالى- طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة عند قرب الساعة. عند قرب الساعة يحدث تغيير في نظام الكون، وتظهر آيات غير مألوفة للبشر، وتطلع الشمس من المغرب على خلاف ما نعهده الآن من طلوعها من المشرق، وتخرج دابة من الأرض تُكلم الناس. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن أوّل الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبة))، وعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تقُوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا)).

ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (النمل: 82) ففي هذه الآية إخبار عن خروج دابة تُكلم الناس حينما يأتي أمر الله كمقدمة من مقدمات الساعة، وحينما لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا، ولا ينبغي أن يُبحث عما وراء ذلك من الغرائب التي قيلت في وصف هذه الدابة من أن طولها ستون ذراعًا بذراع آدم، وأن لها وجه إنسان، ورأس ثور، وعين خنزير، وأُذن فيل، وأنه لا يُدركها طالب ولا يُفوتها هارب، وأنها تحمل عصى موسى، وخاتم سليمان، فذلك لم يصح منه شيء. قال الإمام الرازي: "واعلم أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور؛ فإن صح الخبر فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قُبل، وإلا لم يُلتفت إليه. إن خروج الدابة غيب من الغيوب، فيجب علينا الوقوف عند ما أخبر به القرآن والسنة الصحيحة، ولم يأتِ فيها سوى أنها دابة ستخرج، وأنها ستكلم الناس، وأن ذلك من أمارات الساعة، وقد ذُكر في السورة نفسها أن موسى -عليه السلام- ألقى عصاه بأمر الله، فإذا هي تهتزّ كأنها جان، وأن سليمان عرف لغة الطير، وسمع كلام النملة وهي تدعو جماعتها لتدخل مساكنها؛ مخافة أن يُحطمها سليمان هو وجنوده، وهم لا يشعرون، وأن سليمان تبسَّم ضاحكًا من قولها، وفي السورة أيضًا أن الهدهد كلَّم سليمان بخبر سبأ وقال: {إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ * لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (النمل:23: 25)، والدابة التي ستخرج من الأرض، وتكلم الناس سيكون كلامها لهم من هذا القبيل.

المهدي: خلاصة القول في الإمام المهدي أنه سيظهر في آخر الزمان، وأن اسمه محمد بن عبد الله، أو أحمد بن عبد الله، روى حديثه أبو داود والترمذي، وأنه من أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ولد فاطمة الزهراء -رضي الله عنها وأرضاها- روى ذلك أبو داود والحاكم، وأنه يُشبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الخُلق، ولا يُشبهه في الخلق يعني: أخلاقه كأخلاق المصطفى -عليه السلام. أما الهيئة في الخلقة فلا يُشبهه فيها. روى ذلك أيضًا هذا الكلام أبو داود في سننه من كلام الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه، وأنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف أي: منحسر الشعر عن مقدم الرأس، وأن أنفه طويل ما حدب وسطه، ودقة أرنبته، وأنه يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، كما ملئت ظلمًا وجورًا، وأنه يقيم شريعة الإسلام، ويُحيي ما اندثر من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن الإسلام تعلو كلمته في عهده، يلقي بجرانه إلى الأرض يعني: يقر مرة ويستقر، ويُمَكّن له، ويكثر الرخاء في أيامه من وفرة العدل وكثرة ما يعطي من المال، فهو يحثو المال حثوًا لا يعدّه عدًّا، كما رواه الإمام مسلم، وأنه يمكث سبع سنين كما ذكر ذلك الإمام أبو داود، ويأتي بعده الدجال. ثم ينزل عيسى بن مريم -عليه السلام- فيتعاون عيسى مع المهدي على قتله، ثم يتوفى المهدي ويصلي عليه المسلمون. هذه هي خلاصة الروايات التي تحدَّثت عن المهدي، ورويت في شأنه، وهي في جملتها لا تخرج عن كونها أخبارًا عن ظهور رجل من المصلحين في آخر الزمان، يرفع لواء الحق ويُعلي كلمة الله، ويمكن للإسلام، ويكون طليعة للخير العام الذي يأتي بعده كما كان يوحنا قبل ولادة عيسى -عليه الصلاة والسلام. على إثر ذلك يخرج الدجال اليهودي كمظهر من مظاهر الفتنة الكبرى؛ ليقاوم هذه النهضة الإسلامية محاولًا فتنة الناس عن دينهم بما أعطي من علم، وبراعة،

وقوة، فيبطل الله أمره بما يحدثه من آيات أكبر من فتنته بإنزال عيسى -عليه السلام- ليكون قوة للحق الذي يمثله المهدي حينئذٍ، ويتعاون كل من عيسى والمهدي، ومن ورائهما كتائب الإسلام على قتله، وإحباط أمره؛ فإذا قُتل الدجال انهزم اليهود الذين يقاتلون معه، وعددهم سبعون ألفًا، روى ذلك ابن ماجه، ثم يكشف الله أمرهم فلا يتوارى منهم يهودي وراء شيء إلا أنطق الله هذا الشيء فقال: ((يا عبد الله، يا مسلم هذا يهودي؛ فتعال اقتله))، وبهذا يقضى على أكبر فتنة من الفتن التي تحدث في الأرض، ثم يأخذ عيسى في العمل على محو النصرانية التي ارتكبت كل الحماقات باسمه أي: باسم عيسى، ويعمل عيسى للتمكين لدين الحق، دين الإسلام. ثم قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيكون عيسى في أمتي حكمًا عدلًا، وإمامًا مقسطًا يدقُّ الصليب يعني: يكسر الصليب، ويذبح الخنزير يعني: يقتله، ويضع الجزية، ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة، ولا بعير، وتُرفع الشحناء، ويُرفع التباغض، وتنزع حَمَة كل ذي حُمَةٍ، يعني: السموم التي في الأفاعي تنزع منها؛ حتى يُدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتفرُّ الوليدة الأسد فلا يضرها، يعني: البنت الصغيرة تُهيج الأسد لا يضرها ذلك الأسد، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملؤ الأرض من السلم كما يملؤ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة، فلا يُعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتُسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كفاثور الفضة تُنبت نباتها بعهد آدم. وبهذا يتحقَّق وعد الله من إظهار الإسلام وإعلائه على الدين كله، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (الفتح: 28)، ثم يحدث بعد ذلك النقصان، ولا يزال الناس يبتعدون عن الدين شيئًا فشيئًا حتى يرتدُّون عن دينهم، فتقوم الساعة وهم على ما هم

خروج المسيح الدجال، وما يتبعه من علامات.

عليه من الردَّة، وليس بعد الكمال إلا الفناء والزوال قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24). خروج المسيح الدجال، وما يتبعه من علامات خروج المسيح الدجال: يُقال المسيح، ويقال المسيخ، المسيح لأنه يمسح الأرض، ولأنه ممسوح العين، كما يقال: المسيخ لأنه ممسوخ الخِلقة، فعينه طافئة كأنها عنبة، والدجال أي: الكذاب. خروج المسيح الدجال من علامات الساعة، ومن أماراتها الكبرى أنس يخرج هذا المسيح الدجال ويدَّعي الألوهية، ويُحاول أن يفتن الناس عن دينهم مما يُحدثه من خوارق للعادات، وبما يظهر على يديه من عجائب فيفتن به بعض الناس، ويثبِّت الله الذين آمنوا فلا يُخدعون بأضاليله، ثم ينجلي أمره، وينكشف، ويُفضح، ويُقضى على فتنته، ويُقتل بأيدي المسلمين وقائدهم حينئذٍ عيسى -عليه السلام. وقد حذَّرت الرسل أممهم من فتنته وغوايته، كما حذَّر منها -أي: من فتنته ومن غوايته- خاتم الرسل -صلى الله عليه وسلم- عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استنصت الناس يوم حجة الوداع)) معنى استنصت أي: طلب من أصحابه أن يطلبوا من بقية الصحابة أن يسمعوا قوله، وأن ينصتوا له- ((فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر الدجال فأطنب في ذكره -يعني: أطال- وقال: ما بعث الله من نبي إلا أنذر أمته، وإنه يخرج فيكم، فما خُفي عليكم من شأنه فلا يخفى عليكم، إن ربكم ليس بأعور؛ وإنه أعور العين اليُمنى كأن عينه طافئة)) رواه البخاري ومسلم.

قال الشيخ رشيد رضا -رحمه الله تعالى: "ويَدُلّ القدر المشترك منها على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كُشف له، ومثَّل له ظهور دجال في آخر الزمان يُظهر للناس خوارق كثيرة، وغرائب يفتتن بها خلقٌ كثير، وأنه من اليهود، وأن المسلمين يقاتلونه، ويقاتلون اليهود في هذه البلاد المقدسة، وينتصرون عليهم، وقد كشف له ذلك مجملًا غير مفصل، كما كشف له غير ذلك من الفتن، فذكره فتناقله الرواة بالمعنى، فأخطأ بعضهم، وتعمَّد الذين كانوا يبثُّون الإسرائيليات ويدسونها في الروايات، تعمدوا أن يدسُّوها أيضًا في المسيخ الدجال". ولا يبعد أن يكون طُلَّاب الملك من اليهود الصهيونيين بتدبير فتنة في هذا المعنى، يستعينون عليها بخوارق العلوم، والفنون العصرية، كالكهرباء والكيمياء، وغير ذلك، والله أعلم. ويؤيِّد هذا الرأي الذي قاله الشيخ رشيد رضا الأحاديث الآتية: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تقومنَّ الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله)) وهذا مجاز عن عدم إفادة الاختباء شيئًا. وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال)) رواه أبو داود، وهذا الفتح غير الفتح الأول، ففي رواية الترمذي ((فتح القسطنطينية مع قيام الساعة)). نزول عيسى -عليه السلام: يُستخلص من مجموع الأحاديث أن عيسى -عليه السلام- ينزل في آخر الزمان أثناء وجود الدجال، ويكون نزوله هذا علامة من علامات الساعة الكبرى فيحكم بالقسط، ويقضي بشريعة الإسلام، ويُحيي من شأنها ما تركه الناس،

ويقتل الدجال، ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يموت، ويُصلى عليه ويُدفن، ثم تهبّ ريحٌ تقبض أرواح المؤمنين جميعًا فلا يبقى بعد ذلك إلا شرار الناس، فلا يكون بعد الكمال إلا الفناء والزوال. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيه ا))، ثم قال أبو هريرة -رضي الله عنه: "اقرءوا إن شئتم {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (النساء: 159) أي: ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمننَّ بعيسى -عليه السلام- قبل موت عيسى حين ينزل إلى الأرض قبل قيام الساعة". وعن عروة بن مسعود الثقفي -رضي الله عنه- قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين)) قال: لا أدري أربعين يومًا أو أربعين شهرًا أو أربعين عامًا، يعني: الراوي الذي قال: لا أدري. ((فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قِبل الشام؛ فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته؛ حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه، فيبقى شرار الناس في خِفَّة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا ولا يُنكرون منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم -رزق كثير- حسن عيشهم، ثم يُنفخ في الصور فيُصعق الناس جميعًا، ثم يُنزل الله مطرًا كأنه الطلّ، فتنبت منه أجساد الناس، ثم يُنفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها

الناس هلمُّوا إلى ربكم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصافات: 24)، ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال: من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فذاك يوم يجعل الولدان شيبًا، وذلك يوم يُكشف عن ساق)). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من شرار الناس؟ من تُدركهم الساعة وهم أحياء)) رواه البخاري ومسلم. ولنقرأ بعض الأحاديث التي جاءت في هذه العلامات الكبرى، كما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده، والتي هي العلامات العشر التي قال عنها -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: ((لن تكون الساعة حتى تروا عشر آيات)) فذكر الإمام مسلم تفاصيل عن كل علامة بأحاديث لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رواها لنا صحابته الكرام -رضي الله عنهم جميعًا. يقول الإمام مسلم: باب ذكر الدجال وصفة ما معه، روى بسنده عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال: ((إن الله تعالى ليس بأعور، ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليُمنى، كأن عينه عنبة طافئة)). وبسنده أي: روى مسلم بسنده أيضًا عن قتادة قال: سمعتُ أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((ما من نبيٍّ إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، ومكتوب بين عينيه: ك ف ر)) يعني: كفر، أو كُفر، وبسنده عن أنس أيضًا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الدجال مكتوب بين عينيه: ك ف ر)) أي: كافر، وبسنده عن أنس أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينيه كافر، ثم تهجَّاها ك ف ر)) قال -عليه الصلاة والسلام: ((يقرؤه كل مسلم)) يعني: كل مسلم يُعتبر -سبحانه وتعالى- حتى وإن كان غير قارئ يقرأ ك ف ر أي: كافر ويعلم أنه الدجال.

وروى مسلم أيضًا بسنده عن شقيق عن حذيفة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((الدَّجال أعور العين اليُسرى، جُفال الشعر، معه جنة ونار؛ فناره جنة، وجنته نار))، وجفال الشعر يعني: كثير الشعر. وعن حذيفة أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((لأنا أعلم بما مع الدجال منه)) يعني: الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلم ما مع الدجال أكثر من علم الدجال بما معه، قال -صلى الله عليه وسلم: ((لأنا -واللام هنا موطَّأة للقسم أي: والله لأنا- أعلم بما مع الدجال منه -أي: من الدجال نفسه- معه نهران يجريان: أحدهما رأي العين ماؤه أبيض، والآخر رأي العين نار تأجَّج))، ((فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه نارًا، وليغمّض، ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه، فإنه ماء بارد، -النار ماء بارد- وإن الدجال ممسوح العين، عليها ظفرة غليظة -يعني: عليها جلدة كبيرة- مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب)) طبعًا الزمن بتتغير فيه الأمور، وأمور خارقة للعادة، يعني: الذي لا يعرف القراءة يقرأ في هذه الأيام. وبسنده أيضًا بسند الإمام مسلم عن ربعي بن خراش، عن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في الدجال: ((إن معه ماء ونارًا، فناره ماء بارد، وماؤه نار، فلا تهلكوا)) قال أبو مسعود: وأنا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وبسنده عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: "انطلقت إلى حذيفة بن اليمان فقال له عقبة بن عمرو: حدثني يا حذيفة ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدَّجال. قال حذيفة: قال -صلى الله عليه وسلم: ((إن الدجال يخرج، وإن معه ماء ونارًا، فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس نارًا فماء بارد عذب، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارًا؛ فإنه ماء عذب طيب)) فقال عقبة: وأنا قد سمعته، تصديقًا لحذيفة.

وروى مسلم أيضًا بسنده قال: اجتمع حذيفة وأبو مسعود الأنصاري فقال حذيفة راويًا لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((لأنا بما مع الدجال أعلم منه، إن معه نهرًا من ماء ونهرًا من نار، فأما الذي ترون أنه نار ماء، وأما الذي ترون أنه ماء نار، فمن أدرك ذلك منكم فأراد الماء فليشرب من الذي يراه أنه نار، فإنه سيجده ماء)) قال أبو مسعود: هكذا سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول. وبسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم عن الدجال حديثًا ما حدثه نبي قومه، إنه أعور، وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار، وإني أنذرتكم به كما أنذر به نوح قومه)). وبسنده عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع يعني: رفع من شأنه وقلل من شأنه في نفس الأمر، وقربه إليهم حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: ((ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله، ذكرت الدجال غداة فخفَّضت فيه ورفَّعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: غير الدجال أخوفني عليكم)) -أي: أخاف عليكم- ((إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط -يعني: شديد جعودة الشعر مباعد للجمودة المحبوبة- عينه طافئة كأنه يشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خَلة بين الشام والعراق، فعاث يمينًا وعاث شمالًا يا عباد الله فاثبتوا، قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟)) -يعني: يمكث كم- ((قال -عليه الصلاة والسلام: أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟، قال: لا، اقدروا له قدره. قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم

فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرًّا، وأسبغه دروعًا)). يعني: تعود المواشي مليئة باللبن- ((وأمد خواصر)) تسمن، ((ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم فيُصبحون ممحلين)) -يعني: أصابهم الجفاف والجدب لما تركوا دعوته، ما هي فتنة- ((ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة)) يعني: المكان الخرب ((فيقول للأرض الخربة: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلًا ممتلئًا شبابًا فيضربه بالسيف فيقطبه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيُقبل)) بعد ما يقطعه نصفين ((يقول له: قم فيقم، ويتهلل وجه الكذاب)) يضحك الدجال، ((فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين)) بين مهرودتين معناه: لابس مهرودتين أي: ثوبين مصبوغين بورس ثم بزعفران، وقيل هما شقتان والشقة نصف الملاءة، ((واضعًا كفَّيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعوا تُحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه)) يعني: سيدنا عيسى يطلب الدجال فيدرك الدجال ((حتى يقتله بباب لد فيقتله)) يعني: بيقتله عند باب لد بفلسطين. ((ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه))، جماعة ربنا عصمهم من المسيح، ((فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عبادًا لي، لا يدان لأحد بقتالهم)) هم يأجوج ومأجوج ((فحرز عبادي إلى الطور)) سيدنا عيسى يعزل المؤمنين إلى الطور، ((ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه

مرة ماء، ويُحسر نبي الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله -سبحانه وتعالى- على يأجوج ومأجوج النغف في رقابهم)) دود يأكلهم ((فيصبحون فرسى)) يعني: ميتين ((كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم)) ((فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله -سبحانه وتعالى- طيرًا كأعناق البخت -الجمال الكبيرة- فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرًا، لا يكُنُّ منه بيت مدر ولا وبر -يعني: مطر شديد- فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة)) كالزلفة يعني: مكان نظيف ((ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، ورُدِّي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة -يعني: الجماعة الكبيرة تصل أربعين رجلًا- من الرمانة الواحدة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل)) هو اللبن ((حتى إن اللقحة)) يعني: الحلبة الواحدة من الإبل ((لتكفي الفئام من الناس)) تكفي مجموعة من الناس، ((واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك؛ إذ بعث الله ريحًا طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر -يعني: الحمير- فعليهم تقوم الساعة)). وبسنده زاد بعد قوله: ((لقد كان بهذه مرة ماء، ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل خنر)) وهو الشجر الملتف الذي يستر من فيه، وهذا جبل فُسِّر بأنه في بيت المقدس ((فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشبابهم -يعني: حرابهم- إلى السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دمًا)) زيادة في فتنتهم، وفي رواية ابن حجر ((فإني قد أنزلت عبادًا لي لا يدي لأحد بقتالهم)).

وصفة الدجال روى فيها الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا حديثًا طويلًا عن الدجال فكان فيما حدثنا قال: ((يأتي وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس، أو من خير الناس فيقول له: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا، ثم أحييته أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، قال: فيقتله ثم يحييه، فيقول حين يحييه هذا الشاب: والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن، قال: فيريد الدجال أن يقتله فلا يُسلط عليه))، قال أبو إسحاق: يقال: إن هذا الرجل هو الخضر -عليه السلام. وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين، فتلقاه المسالح)) جمع سلاح يرقبون في المراكز كالخفراء، سُموا بذلك لحملهم السلاح ((فتلقاه المسالح مسالح الدجال، فيقولون له: أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج، قال: فيقولون له: أو ما تؤمن بربنا، فيقول: ما بربنا خفاء، فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدًا دونه، قال: فينطلقون به إلى الدجال، فإذا رآه المؤمن قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال: فيأمر الدجال به فيُشبَّح -يعني: يصلب- فيقول: خذوه وشجُّوه، فيوسع ظهره وبطنه ضربًا، قال: فيقول: أو ما تؤمن بي؟ قال: فيقول: أنت المسيح الكذاب. قال: فيُؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتى يُفرَّق بين رجليه، قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول له: قم فيستوي قائمًا. قال: ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، قال: ثم يقول: يا أيها الناس، إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس، قال: فيأخذه الدجال ليذبحه فيُجعل ما بين رقبتيه إلى ترقوته

نحاسًا، فلا يستطيع إليه سبيلًا، قال: فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما أُلقي في الجنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين)). قال بعض الصحابة: كنا نظن أن هذا الرجل الذي يُواجه الدجال بهذه المواجهة هو عمر بن الخطاب؛ لقوته في الحق، فكنا لا نرى أحدًا يستطيع أن يواجهه حتى مات عمر بن الخطاب، فعلمنا أنه واحد من الأمة غير عمر، والأمة فيها الخير إلى يوم القيامة. وبسنده عن المغيرة بن شعبة قال: ((ما سأل أحد النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الدجال أكثر مما سألت، قال: وما يُنصبك منه إنه لا يضرك قال: قلت يا رسول الله: إنهم يقولون: إن معه الطعام والأنهار، قال: هو أهون على الله من ذلك)). وعن المغيرة بن شعبة قال: "ما سأل أحد النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الدجال أكثر مما سألته، قال: وما سؤالك؟ قال: قلت: ((إنهم يقولون معه جبال من خبز ولحم، ونهر من ماء. قال: هو أهون على الله من ذلك)). هذا وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 9 الفتن وتحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوقوع فيها.

الدرس: 9 الفتن وتحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوقوع فيها.

الفتن: تعريفها، والمراد منها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (الفتن وتحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوقوع فيها) الفتن: تعريفها، والمراد منها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: يُراد بالفتن الاختبار والامتحان من الله -سبحانه وتعالى- لخلقه، ويُراد بالفتن أيضًا ما يقع في آخر الزمان من هرج ومرج وحروب وتطاحن بين الناس، وقد يُراد بالفتن أيضًا تحوُّل الناس عن الدين. كل هذه المعاني ذكرها الإمام ابن الأثير في كتابه العظيم (النهاية في غريب الحديث والأثر). قال ابن الأثير تحت مادة فتن: "في حديث قيلة "المسلم أخو المسلم يتعاونان على الفُتَّان"، ويروى على الفَتَّان بضم الفاء وفتحها، فالضم جمع فاتن، أي: يعاون أحدهما الآخر على الذين يُضلّون الناس عن الحق ويفتنونهم، وبالفتح الفتان هو الشيطان؛ لأنه يفتن الناس عن الدين، وفتان من أبنية المبالغة في الفتنة، ومنه الحديث: ((أفتَّان أنت يا معاذ))، وفي حديث الكسوف: ((وإنكم تُفتنون في القبور)) يريد مسألة منكر ونكير، من الفتنة الامتحان والاختبار، وقد كثرت استعاذته -صلى الله عليه وسلم- من فتنة القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات، وغير ذلك. ومنه الحديث: ((فبي تفتنون، وعني تُسألون)) أي: تمتحنون بي في قبوركم، ويُتعرف إيمانكم بنبوَّتي، ومنه حديث الحسن: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (البروج: 10) قال: فتنوهم بالنار أي: امتحنوهم وعذَّبوهم بالنار، ومنه الحديث ((المؤمن خُلِق مفتنًا)) أي: ممتحنًا، يمتحنه الله بالذنب ثم يتوب، ثم يعود، ثم يتوب، يقال: فتنته أفتنه فتنًا وفتونًا إذا امتحنته، ويقال فيها: افتتنته أيضًا، وهو قليل. وقد كَثُر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه، ثم كثُر استعمل بمعنى الإثم والكفر، والقتال، والإحراق، والإزالة، والصرف عن الشيء.

وفي حديث عمر -رضي الله عنه- أنه سمع رجلًا يتعوَّذ من الفتن فقال: أتسأل ربك ألا يرزقك أهلًا ولا مالًا، تأوَّل قول الله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (الأنفال: 28) ولم يرد فتن القتال والاختلاف. وإليك ما جاء بنصِّه في (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) لابن حجر العسقلاني حول كلمة الفتن، تحت عنوان كتاب الفتن، يقول ابن حجر: "بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الفتن في رواية كريمة، والأصيلي تأخير البسملة، والفتن جمع فتنة، قال الراغب: أصل الفتن إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته، ويُستعمل في إدخال الإنسان على العذاب كقوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} (الذاريات: 14)، وعلى ما يحصل عند العذاب كقوله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} (التوبة: 49)، وعلى الاختبار كقوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} (طه: 40)، وفيما يُدفع إليه الإنسان من شدَّة ورخاء، وفي الشدة أظهر وأكثر استعمالًا قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35)، ومنه قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} (الإسراء: 73) أي: يوقعونك ويصرفونك عن العمل بما أوحي إليك. وقال أيضًا: الفتنة تكون من الأفعال الصادرة من الله، والمصيبة، والقتل، والعذاب، والمعصية، وغيرها من المكروهات أيضًا تُسمى فتن، فإن كانت من الله فهي على وجه الامتحان، وإن كانت من الإنسان بغير أمر الله فهي مذمومة، فقد ذمَّ الله الإنسان بإيقاع الفتنة كقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة: 191)، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (البروج: 10)، وقوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} (الصافات: 162)، وقوله: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} (القلم: 6)، وكقوله: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} (المائدة: 49) ".

تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوقوع في الفتن.

وقال غيره: "أصل الفتنة الاختبار، ثم استعملت فيما أخرجته المحنة إلى المكروه، ثم أطلقت على كل مكروه، أو آيل إليه كالكفر، والإثم، والتحريق، والفضيحة، والفجور، وغير ذلك". تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوقوع في الفتن باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: 25) وما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُحذِّر من الفتن: روى البُخَاريُّ بسنده عن ابن أبي مليكة قال: قالت أسماء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أنا على حوضي أنتظر من يرد علي، فيؤخذ بناس من أمتي فأقول: أمتي. فيقال: لا تدري مشوا على القهقهري)). قال ابن أبي مليكة: "اللهم إنا نعوذ بك من أن نعود على أعقابنا، أو نُردّ على أعقابنا أو نفتن". وروى البخاري قال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعد يقول: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أنا فَرَطكم على الحوض من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدًا؛ ليَرِدُنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم))، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا، فقال: هكذا سمعت سهلًا؟ فقلت: نعم. قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه قال: ((إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما بدَّلوا بعدك، فأقول سُحقًا سُحقًا لمن بدل بعدي)).

باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: ((سَتَرَون بعدي أمورًا تُنكرونها)) وقال عبد الله بن زيد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((اصبروا حتى تلقوني على الحوض)): روى البخاري بسنده عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله أي: ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تُنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدُّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم)). وبسنده أيضًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية))، وبسنده عن أبي رجاء العطاردي قال: سمعتُ ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات ميتة جاهلية)). وبسنده -أي: بسند البُخاري- عن جنادة بن أبي أمية، قال: "دخلنا على عُبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وهو مريض قلنا: أصلحك الله حدّث بحديث ينفعك الله به، سمعته من النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((دعانا النبي -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعُسرنا ويُسرنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)) يعني: كفر صريح. وبسند البخاري أيضًا عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن أسيد بن حضير: ((أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله استعملت فلانًا ولم تستعملني، قال -عليه الصلاة والسلام: إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني))، ولقد جمع الإمام مسلم في صحيحه أحاديث الفتن، أو قُل: قدرًا كبيرًا منها تحت عنوان: كتاب الفتن وأشراط الساعة. جاء في هذه الأحاديث تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- من الفتن، وبيانه -صلى الله عليه وسلم- لما سيكون في آخر الزمان من الفتن التي تجعل الحليم حيران، وتجعل القابض على

دينه كالقابض على الجمر، وبيَّن -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأحاديث أن هذه الفتن ستكون كثيرة، تظهر وتتوالى، وتتابع كسقوط القطر أي: المطر، وبينت هذه الأحاديث أن هلاك أمة الإسلام على يد أبنائها، فإنه لا يُهلكها غيرها، وأن السيف إذا رُفع بين المسلمين لا يُوضع أي: لا توقف، بل يستمر الهرج والقتل بينهم. وبيَّن -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأحاديث أن هناك فتنة عظيمة قبل قيام الساعة تموج كموج البحر، وغير ذلك مما ذكره -صلى الله عليه وسلم- وسأورده الآن إن شاء الله تعالى، كما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده -رحمه الله تعالى، يقول الإمام مسلم -رحمه الله تعالى: كتاب الفتن وأشراط الساعة: باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، حدثنا عمرو الناقد حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة، عن زينب بنت جحش -رضي الله عنهما- ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استيقظ من نومه وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد سفيان بيده عشرة قلت: -يعني: زينب بنت جحش وأم حبيبة سألوا النبي -عليه الصلاة والسلام- يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)). وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وسعيد بن عمرو الأشعثي، وزهير بن حرب وابن أبي عمر قالوا: حدثنا سفيان عن الزهري بهذا الإسناد، وزادوا في الإسناد عن سفيان فقالوا: عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة، عن زينب بنت جحش -رضي الله عنها. وبسنده -أي: بسند الإمام مسلم- عن عروة بن الزبير: "أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته -أن أم حبيبة بنت أبي سفيان -زوجة النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبرتها يعني: أخبرت زينب بنت أبي سلمة، أن زينب بنت جحش زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: ((خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا فَزِعًا مُحمرًا وجهه يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب

من شرٍّ قد اقترب، فُتح اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلَّق بأصبعه الإبهام والتي تليها، قالت: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)). وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه. وعقد وهيب بيده تسعين)). باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت: من الفتن التي ستقع في آخر الزمان أن هناك جيشًا يؤم البيت يعني: يقصد بيت الله الحرام يريد أن يهدمه، فيُخسف بذلك الجيش، روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه قال: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، واللفظ لقتيبة: قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا جرير عن عبد العزيز بن رفيع، عن عبيد الله بن القبطية، قال: دخل الحارث بن أبي ربيعة، وعبد الله بن صفوان، وأنا معهما على أم سلمة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فسألاها عن الجيش الذي يُخسف به، وكان ذلك في أيام ابن الزبير فقالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((يعوذ عائذ بالبيت فيُبعث إليه بعث؛ فإذا كانوا ببيداء من الأرض خُسف بهم، فقلت: يا رسول الله فكيف بمن كان كارهًا، قال: يخسف به معهم، ولكنه يُبعث يوم القيامة على نيته))، وقال أبو جعفر: هي بيداء المدينة يعني: كلٌّ يُخسف به، والذي خرج مكرهًا في هذا الجيش الذي يُريد تدمير بيت الله الحرام، إذا كان مكرهًا يخسف به، ويُبعث يوم القيامة على نيته أي: ينجيه الله -سبحانه وتعالى- من العذاب؛ لأنه خرج مكرهًا، فكلٌّ يبعث على نيته. وبهذا الإسناد قال: لقيت أبا جعفر، فقلت: إنها إنما قالت: ببيداء من الأرض، وقال أبو جعفر: كلا والله إنها لبيداء المدينة، يعني: من طريق المدينة يقصدون

بيت الله الحرام ليهدموه. وبسند مسلم عن أمية بن صفوان سمع جده عبد الله بن صفوان يقول: أخبرتني حفصة أنها سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ليؤمَّن هذا البيت -يعني: ليقصدن هذا البيت- جيش يغزونه حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأوسطهم، ويُنادي أولهم آخرهم، ثم يُخسف بهم، فلا يبقى إلا الشريد الذي يُخبر عنهم))، فقال رجل: أشهد عليك أنك لم تكذب على حفصة، وأشهد على حفصة أنها لم تكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم. فالأحاديث يُصدق بعضها بعضًا، الأول عن أم حبيبة وعن زينب بنت جحش، والثاني عن أم سلمة، وآخر عن حفصة بنت عمر -رضي الله عنهنَّ جميعًا. وبسنده أيضًا عن يوسف بن ماهك قال: أخبرني عبد الله بن صفوان، عن أم المؤمنين، هنا لم يُسمِّ من هي؛ لأن كل نساء النبي -عليه الصلاة والسلام- يُسمَّون أو يُكنَّون بأمهات المؤمنين، فيقول عبد الله بن صفوان: عن أم المؤمنين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((سيعوذ بهذا البيت -يعني: الكعبة- قوم ليست لهم مَنَعة -يعني يحتمون ببيت الله الحرام، لا عندهم أحد يمنعهم، ولا عُدة ولا سلاح معهم- ولا عدد ولا عُدة، يُبعث إليهم جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسف بهم)). قال يوسف: هو يوسف بن ماهك الراوي عن عبد الله بن صفوان،: وأهل الشام -تقال: الشام والشأم بالهمزة، يعني: بالتسهيل- يومئذٍ يسيرون إلى مكة، فقال عبد الله بن صفوان: أما والله ما هو بهذا الجيش، قال زيد: وحدثني عبد الملك العامري، عن عبد الرحمن بن سابط، عن الحارث بن أبي ربيعة، عن أم المؤمنين بمثل حديث يوسف بن ماهك، غير أنه لم يذكر فيه الجيش الذي ذكره عبد الله بن صفوان. وقال الإمام مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا القاسم بن الفضل الحداني، عن محمد بن زياد، عن عبد الله بن الزبير أن عائشة -رضي الله عنها-

قالت: ((عَبِث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منامه)) قيل: معناه اضطرب بجسمه، وقيل: حرك أطرافه كمن يأخذ شيئًا أو يدفعه، ((فقلنا: يا رسول الله، صنعت شيئًا في منامك لم تكن تفعله، فقال: العجب إن ناسًا من أمتي يؤمُّون بالبيت برجل من قريش، قد لجأ بالبيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خُسف بهم، فقلنا: يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع الناس)) يعني: الطريق فيه الصالح، وفيه الطالح، وفيه من هو ذاهب يريد بيت الله الحرام، وفيهم من ليس يريد ذلك ((قال: نعم، فيهم المستبصر، والمجبور، وابن السبيل يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتَّى، يبعثهم الله على نيَّاتهم)) يعني: الذي لا يقصد هدم بيت الله لا يُؤاخذ على أنه خُسف به، يكفيه الخسف. ثم بعد ذلك ذكر الإمام مسلم بابًا في نزول الفتن، وأنها كثيرة كمواقع القطر -يعني: المطر- يروي مسلم بسنده عن عروة، عن أسامة -أي: أسامة بن زيد -رضي الله عنهما: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشرف على أُطم من آطام المدينة -يعني: حصن عال من حصون المدينة- ثم قال: هل ترون ما أرى، إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر"، مثل: المطر عندما ينزل. وروى مسلم قال: حدثني عمرو الناقد، والحسن الحلواني، وعبد بن حميد قال عبد: أخبرني، وقال الآخران: حدثنا يعقوب، وهو ابن إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، حدثني ابن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن: "أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرَّف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليَعُذْ به)) يعني: القاعد في هذه الفتن خير من القائم، خير من الواقف، والقائم خير من الذي يمشي بين الناس بالفتنة، والذي يمشي بالفتنة -يعني: ببطء- خير من الساعي الذي يسعى

بسرعة ليُشعل الفتنة بين الناس، هذه الفتنة من تعرض لها وقع فيها، ((من تشرَّف لها تستشرفه)) ثم يحذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويدعو المسلم إلى أن يبتعد عن هذه الفتن فيقول: ((ومن وجد فيها ملجأ فليَعُذْ به)). وروى مسلم أيضًا بسنده مثل هذا الحديث؛ إلا أن أبا بكر يزيد ((من الصلاة صلاة من فاتته؛ فكأنما وُتر أهله وماله)) صلاة العصر، جاءت في أحاديث أخرى. كأنما ضاع أهله وماله. وروى مسلم أيضًا بسنده عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((تكون فتنة النائم فيها خير من اليقظان)) يعني: والنائم هنا ليس المراد النوم وإنما الذي يكون بعيدًا عن هذه الفتن ولا يشارك فيها، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القائم ((فمن وجد ملجأ أو معاذًا فليستعذ)) يعني: الذي يجد ملجأ، أو شيء يعيذه من هذه الفتن فليلجأ إلى هذا المكان. وروى مسلم أيضًا بسنده قال: حدثني أبو كامل الجحدري فُضيل، وفضيل بن حسين، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عثمان الشحام قال: انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة، وهو في أرضه فدخلنا عليه فقلنا: هل سمعت أباك يُحدِّث في الفتن حديثًا؟ قال: نعم. سمعت أبا بكرة -هو أبوه- أبو بكرة نفيع بن الحارث، هذا ابنه الذي يروي هذا الحديث، قال: نعم. سمعت أبا بكرة يُحدِّث، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إنها ستكون فتن، ألا ثَمَّ تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه)) يعني: يروح الصحراء بعيد عن الفتن، ويعيش يرعى الإبل والأغنام، ويأكل منها، ((ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض)) يعني: ماذا يفعل؟ كالذين

يعيشون في الحضر قال -صلى الله عليه وسلم: ((يعمد إلى سيفه فيدقّ على حدِّه بحجر -يعني: معناه السلاح عنده يتخلص منه- ثم لينجُ إن استطاع النجاة يهرب، اللهم هل بلغت اللهم، هل بلغت اللهم هل بلغت، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أُكرهتُ حتى يُنطلق بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتنين، فضربني رجل بسيفه، أو يبوء أو يجيء سهم فيقتلني، قال -عليه الصلاة والسلام: يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار))، المعنى: أنت ما دمت مكرهًا فلا شيء على مكره. ثم بعد ذلك ذكر الإمام مسلم بابًا في التحذير من أن يقتتل المسلمان، وأنه يجب البُعد عن التشاحن والبغضاء؛ فقال: باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما: روى بسنده عن الأحنف بن قيس قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل -يقصد عليًّا- ينصره وينضم إلى حزبه، يقول: فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد يا أحنف؟ قال: قلت: أريد نصر ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني: عليًّا. قال: فقال لي: يا أحنف ارجع، ارجع يا أحنف لماذا؟ ارجع؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إذا تواجه المسلمان بسيفيهما -يعني: توجه أحدهما إلى الآخر وكل منهما رفع سيفه على أخيه- فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال عليه الصلاة والسلام: إنه قد أراد قتل صاحبه)) ما هو كان نيته يقتله، والناس تُحاسب على نيتها في هذه المواقف. وبسنده أيضًا عن الأحنف بن قيس، عن أبي بكرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) والتقى بمعنى تواجه، وروى مسلم أيضًا بسنده عن ربعي بن خراش، عن أبي بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ((إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح، فهما على جرف جهنم)) واقفين على شفة النار، إن رجعا ولم يقتل أحدهما الآخر، هنا تكون السماحة والعفو، أما لو قتل أحدهما صاحبه وقعا الاثنان في جهنم.

وبسنده -يعني: بسند مسلم- عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر أحاديث -يعني: أبو هريرة ذكر أحاديث- منها، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتنان، وتكون بينهما مقتلة عظيمة، ودعواهما واحدة)) الاثنين كل واحد يدعي أن الحق معه والهدف واحد للاثنين. وبسنده أيضًا عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج. قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل القتل)). ثم عقد الإمام مسلم بابًا بعنوان: باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض يعني: الأمة الإسلامية ضمن الله -سبحانه وتعالى- لها ألا تُهلك على يد أعدائها، وإنما يكون هلاكها على يد بعضها، يعني: يهلك بعضها بعضًا، روى الإمام مسلم بسنده عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض)) -زواها يعني: جمعها ووضعها كلها أمامي- ((فكشفت لي، فرأيت مشارقها ومغاربها)) طبعًا هذا لا يعجز الله -سبحانه وتعالى- يعني: الكرة الأرضية كُشفت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلها، ثم قال -عليه الصلاة والسلام: ((وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها)) معناه: أن الإسلام سيعمّ الكرة الأرضية، وقد عمها في كل بلاد العالم الآن يوجد مسلمون، ((وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض)) يعني: الذهب والفضة ((وإني سألت ربي لأمتي ألا يُهلكها بسنة عامة وألا يُسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم)). سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- ربنا -سبحانه وتعالى- ألا يجعل هلاك الأمة الإسلامية بسبب الجوع والقحط، كما أنه طلب من الحق -سبحانه وتعالى- وسأله ألا يجعل، أو ألا يسلط على أمة المسلمين عدوًّا يقضي عليهم قضاء كاملًا فيستبيح بيضتهم ((وإن ربي قال لي: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء، فإنه لا يُردّ، وإني أعطيت لأمتك ألا أُهلكهم بسنة عامة، وألَّا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم)) المراد بالبيضة يعني:

حوزة الإسلام، أو حرم الأرض الإسلامية، ((ولو اجتمع عليهم من أقطارها)) يعني: لو جاءت الأعداء من كل مكان من الأرض إن شاء الله لا تستبيح بيضة المسلمين يعني: كل ما يملكه المسلمون، أو قال: ((من بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يُهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا)) وهذا ما حدث. وبسنده -يعني: بسند الإمام مسلم- عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله تعالى زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض))، ثم ذكر نحو الحديث السابق، وبسنده أي: بسند مسلم؛ قال: قال الإمام مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن نمير، ثم تحوَّل السند قال: وحدثنا ابن نمير، واللفظ له، قال: حدثنا أبي، حدثنا عثمان بن حكيم، أخبرني عامر بن سعد، عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((أقبل ذات يوم من العالية)) العالية مكان بعيد عن المدينة، وكان سيدنا عمر له فيه أغراض، كان يسكن به كثيرًا، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلًا، ثم انصرف إلينا فقال -صلى الله عليه وسلم: ((سألت ربي ثلاثًا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي ألا يُهلك أمتي بالسنة)) يعني: بالفقر ((فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)). وقال مسلم أيضًا: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا عثمان بن حكيم الأنصاري، أخبرني عامر بن سعد، عن أبيه: "أنه أقبل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طائفة من أصحابه؛ فمر بمسجد بني معاوية بمثل حديث ابن نمير السابق". ثم عقد الإمام مسلم، بابًا آخر تحت عنوان باب إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يكون إلى قيام الساعة، قال الإمام مسلم: حدثني حرملة بن يحيى التجيبي، أخبرنا ابن وهب،

أخبرنا يونس عن ابن شهاب، قال حذيفة: "أن أبا إدريس الخولاني كان يقول: قال حذيفة بن اليمان: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة حذيفة كان يُعرف بأنه صاحب سرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يعرف حديث الفتن بالتفصيل، وهو الذي كان يعرف المنافقين واحدًا واحدًا بأسمائهم. يقول: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسرَّ إليَّ في ذلك شيئًا لم يُحدثه غيري، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: وهو يحدث مجلسًا أنا فيه عن الفتن -فأنا الذي أحفظه وأتذكره من بين أولئك الأصحاب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يَعُدّ الفتن: ((منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئًا)) يعني: فيه ثلاث فتن لا تترك شيئًا، ((ومنهن فتن كرياح الصيف، منها صغار ومنها كبار))، قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري. وروى مسلم بسنده عن شقيق، عن حذيفة قال: ((قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقامًا ما ترك شيئًا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدَّث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء؛ وإنه لا يكون منه الشيء قد نسيته فأُراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه)) يعني: فيه حاجات من الفتن التي ستظهر أنا نسيتها، لكن عندما تقع وأراها أتذكر ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كأن تنسى شبه إنسان يغيب عنك، فلما يقع أمامك تتذكره مرة أخرى، هذا ما أراد أن يقوله حذيفة -رضي الله عنه وأرضاه. وروى مسلم بسنده عن عبد الله بن يزيد عن حذيفة أنه قال: "أخبرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا قد سألته، إلا أني لم أسأله ما يُخرج أهل المدينة من المدينة في آخر الزمن، مع أن الدجال سيدخل كل قرية إلا المدينة، فإنه على كل نقب يعني: طريق من طرق المدينة ملك شاهر أي: رافعًا سيفه، لو قدم الدجال ناحية المدينة قتله ذلك الملك.

يقول حذيفة: أخبرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا قد سألته -يعني: كان يستفسر عن كل شيء إلا أني لم أسأله ما يُخرج أهل المدينة من المدينة، على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام. وبسنده حدثني أبو زيد يعني: عمرو بن أخطب قال: ((صلَّى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان، وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا)) يعني: الذي حفظ ذلك هو الذي صار أعلم القوم. ثم ذكر الإمام مسلم بابًا آخر تحت عنوان: باب: الفتنة التي تموج كموج البحر، روى الإمام مسلم بسنده عن حذيفة، ما أغلب أحاديث الفتن عن حذيفة لماذا؟ لأنه كما رأيتم هو الذي حفظ أحاديث الفتن، والذين كانوا معه ماتوا، فكان كل ما يتذكر شيء من الفتن يُحدث به، فروى مسلم بسنده تحت هذا العنوان: "الفتنة التي تموج كموج البحر"، روى بسنده عن شقيق عن حذيفة قال: "كنا عند عمر -يعني: سيدنا عمر بن الخطاب- فقال عمر: أيُّكم يحفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الفتنة كما قال: يعني: قال فقلت: أنا قال عمر: إنك لجريء، وكيف قال -صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((فتنة الرجل في أهله، وماله، ونفسه، وولده، وجاره يُكفّرها الصيام، والصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)) فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد الفتن التي تموج كموج البحر، قال: فقلت: ما لك ولها يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال عمر: أفيُكسر الباب أم يُفتح يا حذيفة؟ قال حذيفة: قلت: لا، بل يُكسر، قال: ذلك أحرى ألا يُغلق أبدًا؛ لأنه لو فتح ممكن يغلق، إنما كُسر لا يغلق بعد كسره، قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم مَن الباب؟ قال: نعم،

كما يعلم أن دون غدٍ الليلة، إني حدَّثته حديثًا ليس بالأغاليط -يعني: عمر كان هو الباب، ولما مات سيدنا عمر فُتحت الفتنة كما تعلمون- قال: فهبنا أن نسأل حذيفة مَن الباب؟ فقلنا لمسروق: سله، فسأله، فقال حذيفة: عمر"، يعني: هو الباب الذي كُسر، ولم تغلق الفتنة بعد ذلك. وروى الإمام مسلم نفس الحديث بسند آخر، وشقيق يقول فيه: سمعت حذيفة يقول. وروى مسلم أيضًا عن أبي وائل عن حذيفة قال: قال عمر: من يحدثنا عن الفتنة واقتص الحديث بنحو حديثهم السابق. وروى مسلم بسنده أيضًا، قال: حدثنا محمد بن المثنى، ومحمد بن حاتم، قال: حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا ابن عون عن محمد قال: قال جندب: جئت يوم الجرعة؛ فإذا رجل جالس فقلت: ليهرقنَّ اليوم هاهنا دماء، فقال: ذاك الرجل كلَّا والله، قلت: بلى والله، قال: كلا والله، قلت: بلى والله، قال: كلا والله إنه لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنيه، قلت: بئس الجليس لي أنت منذ اليوم، تسمعني أخالفك، وقد سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا تنهاني، ثم قلت: ما هذا الغضب، فأقبلت عليه وأسأله، فإذا الرجل حذيفة. أيضًا حديث آخر نختم بهذه الأحاديث في الفتن رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تقوم الساعة حتى يَحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه، فيُقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو)) هذه كلها أحاديث صحيحة في الكتاب الذي هو أصح الكتب بعد كتاب البخاري، وهو صحيح مسلم، فلا يسع المسلم إلا التصديق بما جاء وما ورد فيها، والإيمان بكل ما جاء فيها على لسان المصطفى -صلى الله عليه وسلم. فعلى المسلم أن يحذر الفتن وأن يتوقاها. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 10 كيف يتقي المسلم الفتن.

الدرس: 10 كيف يتقي المسلم الفتن.

المراد بالتقوى في كيفية اتقاء المسلم للفتن.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (كيف يتقي المسلم الفتن) المراد بالتقوى في كيفية اتقاء المسلم للفتن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: إن المراد بالتقوى هنا أي: باتقاء المسلم الفتن أن يتخذ المسلم لنفسه حاجزًا وحاجبًا وحائلًا يحول بينه وبين الوقوع في الفتن. فالتقوى: هي الحجاب الذي يحجب المسلم عن الوقوع فيما حرَّمه الله تعالى، والتقوى: هي الحاجز الذي يحجز المسلم عن الوقوع في النار، والتقوى: هي الساتر الذي يكون بين المسلم وبين العاصي، وبالتالي بينه وبين النار، والذي يتَّقي الله أخذ لنفسه وقاية من الوقوع في المعاصي وفيما يُغضب الله تعالى. ولقد ذكر ابن الأثير في كتابه (النهاية في غريب الحديث وعلومه) معنى التقوى، وكلُّ ما ذكره الإمام ابن الأثير يدور حول أن التقوى: هي أن يأخذ الإنسان لنفسه حاجزًا وساترًا من النار. يقول: وقيتُ الشيء أوقيه إذا صُنته وسترته من الأذى، وفي شرحه لكلمة "وقي" في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((فوقي أحدكم وجهه النار))، قال: هذا اللفظ خبر أُريد به الأمر أي: ليقي أحدكم وجهه النار بالطاعة والصدقة. وإليك ما جاء في (النهاية) لابن الأثير بنصِّه يقول: "وقى فيه فوقى أحدكم وجهه النار، وقيت الشيء أوقيه إذا صنته وسترته عن الأذى". وهذا اللفظ خبرٌ أريد به الأمر أي: ليقي أحدكم وجهه النار بالطاعة والصدقة، وفي حديث معاذ -رضي الله عنه: ((وتوقَ كرائم أموالهم)) أي: تجنبها لا تأخذها في الصدقة؛ لأنها تَكْرُم على أصحابها، وتعز، فخذ الوسط لا العالي ولا النازل. و"توق" و"اتق" بمعنًى واحد، وأصل أتقى: أوتق، فقُلبت الواو ياء للكسرة قبلها، ثم أُبدلت تاء وأدغمت، ومنه الحديث ((تيق)) و ((توق)) أي: استبقي

كيف يتقي المسلم الفتن؟.

نفسك ولا تعرضها للتلف، وتحرَّز من الآفات واتقها، وقد تكرَّر ذكر الاتقاء في الحديث، ومنه حديث علي -رضي الله عنه- وكرم الله وجهه قال: "كنا إذا احمرَّ البأس -يعني: اشتدَّ القتال- اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: جعلناه وقاية لنا من العدو، هذا يُثبت شجاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الميدان. ومنه الحديث ((من عصى الله لم تقه من الله واقية)) يعني: الذي يعصى الله ليس هناك أحد يُنجيه من عقاب الله، هذا ما ورد في معنى التقوى. كيف يتقي المسلم الفتن؟ أما كيف يتقي المسلم الفتن أقول: أنه إذا أراد المسلم أن ينجو من الفتن؛ فليخشَ الله تعالى وليستعدّ للقائه، ويوقن بأنه -سبحانه وتعالى- سيحاسبه، وأن هذا الإنسان سيحاسب على كل عمل يعمله، وكل ما تُقدّمه يداه؛ بل سيحاسب عن كل كلمة يقولها، وعليه أن يحفظ لسانه ويصونه، وأن يعلم أن للصمت فضلٌ عظيم إذا صمت عن الحرام، ولم يولج نفسه مواطن التهم، وعليه أن يتوكَّل على الله تعالى حق التوكل، فإنه إن توكل على الله اعتمد عليه، وعندما يتقي المسلم ربه يكن له من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا} (الطلاق: 2،3). ولقد ذكر الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في كتابه (رياض الصالحين) بابًا في المراقبة صدَّره بآيات كريمة تدعو إلى المراقبة، ثم بعد الآيات ذكر مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة تدعو إلى مراقبة الله تعالى، فمن الآيات الكريمة التي ذكرها في المراقبة قال: قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الشعراء: 217، 220)،

وقال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (الحديد: 4)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 5،6)، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 14)، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر: 19)، ثم قال: الإمام النووي بعد ذلك: "والآيات في ذلك كثيرة"، وبعد الآيات أورد الأحاديث التي جاءت في المراقبة، وبعد المراقبة تكلم عن التقوى وأتى بالآيات التي تدعو للتقوى، ثم بعد ذلك أورد الأحاديث التي جاءت في التقوى. فمن الآيات التي ذكرها في التقوى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102)، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (الأحزاب: 70)، وبعد ذكر الآيات أتى بالأحاديث التي وردت في تقوى الله تعالى، والتي تدعو المسلم إلى أن يتقي الله، وتقوى الله هي المخرج من الفتن، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (الطلاق: 2، 3). وبعدما فرغ الإمام النووي من باب التقوى ذكر باب اليقين والتوكل على الله تعالى، ثم بدأ بالآيات الداعية إلى اليقين والتوكل على الله تعالى، والتي منها قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (الأحزاب: 22)، وقال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران: 172 - 173 - 174)، ثم بعد الآيات أورد الأحاديث الداعية إلى اليقين والتوكل على الله تعالى.

وإليك ما جاء في (رياض الصالحين) المؤلف المشهور الإمام النووي: كنيته أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي، يقول تحت عنوان باب المراقبة: "قال الله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (الشعراء: 218 - 219) " وقد مرت الآيات فلنعرّج على الأحاديث. الأحاديث: الحديث الأول: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: ((بينما نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يومًا إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفَّيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا. قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تَلِد الأمة ربَّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. ثم انطلق فلبثت مليًّا. ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم؟ قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم)) رواه الإمام مسلم. الشاهد في هذا الحديث في قوله: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، هنا مراقبة الله -سبحانه وتعالى- هذه المراقبة هي أول شيء يقي الإنسان من الفتن التي تحدث، وينجيه الله -سبحانه وتعالى- منها.

الحديث الثاني: عن أبي ذر -رضي الله عنه- واسمه جندب بن جنادة، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ((اتق الله)) يعني: راقب الله في كل مكان. الحديث الثالث: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ((كنتُ خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا -يعني: ركب وراء رسول الله -عليه الصلاة والسلام- دابته- فقال - عليه الصلاة والسلام: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وفي رواية غير الترمذي ((احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشّدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)) مراقبة، ((احفظ الله)) أي: راقب الله. الحديث الرابع: في المراقبة، والتي هي سبب أصيل من أسباب النجاة من الفتن: عن أنس -رضي الله عنه- قال: "إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدُّها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات". يعني: من الأمور المهلكة رواه البخاري، وقال: الموبقات المهلكات. الحديث الخامس: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله تعالى يغار، وغِيرة الله تعالى أن يأتي المرء ما حرّم الله عليه)) حديث متفق عليه يعني:

رواه البخاري ومسلم، فهو في أعلى درجات الصحة من الأحاديث، والغيرة -بفتح الغين- وأصلها الأنفة. الحديث السادس: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص، وأقرع، وأعمى أراد الله أن يبتليهم -يعني: يختبرهم- فبعث إليهم ملكًا -أرسل ملك في صورة بشر- فأتى الأبرص فقال: أيُّ شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس.، فمسحه -يعني: مسحه بيده- الملك فذهب عنه قذره، وأعطي لونًا حسنًا. قال: فأيُّ المال أحب إليك؟ قال: الإبل، أو قال: البقر، أو قال: البقر -شك الراوي- فأعطي ناقة عُشراء، فقال: بارك الله لك فيها. فأتى الأقرع فقال أيُّ شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس. فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعرًا حسنًا. قال الملك لذلك الأقرع: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر فأعطي بقرة حاملًا. وقال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى فقال: أيُّ شيءٍ أحب إليك؟ قال: أن يردَّ الله إليَّ بصري فأبصر الناس، فمسحه فردَّ الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدة، فأنتج هذان ولد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، ثم إنه أتى الأبرص -يعني: جاء على صورة رجل أبرص، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الجبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا -يعني: أسألك بعيرًا- أتبلَّغ به في سفري فقال: الحقوق كثيرة. قال له الملك: كأني أعرفك، ألم تكن أبرصًا يقذرك الناس، فقيرًا فأعطاك الله؟ فقال: إنما ورثتُ هذا المال كابرًا عن كابر. فقال الملك: إن كنت كاذبًا فصيَّرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته وهيئته -في صورة أقرع وهيئة أقرع- فقال له مثل ما

قال لهذا، وردَّ عليه الأقرع مثل ما ردَّ الأبرص، فقال الملك: إن كنت كاذبًا فصيَّرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الجبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردَّ عليك بصرك شاة أتبلَّغ بها في سفري، فقال له: خذْ ما شئت، قد كنت أعمى فردَّ الله إليّ بصري، فخذ ما شئت ودعْ ما شئت، فوالله ما أجهلك اليوم بشيء أخذته لله -عز وجل. -لا أحبس عنك شيئًا- فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك)) حديث متفق عليه. بعض الألفاظ: "الناقة العشراء": بضم العين وفتح الشين وبالمد هي الحامل، قوله ((أنتج)) في رواية ((فنتج)) معناه: تولى نتاجها، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة، وقوله ((ولّد هذا)) بتشديد اللام أي: تولى ولادتها، وهو بمعنى: نتج في الناقة فالمولد والناتج والقابلة بمعنًى واحد، لكن هذا للحيوان وذاك لغيره، وقوله ((انقطعت بي الحبال)) هو بالحاء المهملة والباء الموحدة أي: الأسباب يبقى إذًا ليست الجبال، وإنما هي الحبال بالحاء أي: الأسباب، وقوله ((لا أجهدك)) معناه: لا أشقّ عليك في ردّ شيء تأخذه أو تطلبه من مالي، وفي رواية البخاري ((لا أحمدك)) بالحاء المهملة والميم، ومعناه: لا أحمدك بترك شيء تحتاج إليه، كما قالوا: ليس على طول الحياة ندم أي: على فوات طولها. الحديث السابع: عن أبي يعلى شداد بن أوس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. قال: الترمذي وغيره من العلماء معنى ((دان نفسه)) حاسبها. يحاسب نفسه باستمرار.

الحديث الثامن: في باب المراقبة التي تنجي من الفتن: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) يعني: في الفتن وغيرها اترك ما لا شأن لك به، هذا حديث حسن رواه الترمذي وغيره. الحديث التاسع: عن عمر -رضي الله عنه، وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يسأل الرجل فيما ضرب امرأته)) ثم جاء باب التقوى، والإمام النووي قدَّمه -كما قلت سابقًا- بآيات منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه} (آل عمران: 102)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (الأحزاب: 70)، وذكرنا الآيات من قبل، فإلى الأحاديث التي أوردها الإمام النووي في كتابه القيم (رياض الصالحين). ذكر عدَّة أحاديث: الحديث الأول في هذه الأحاديث: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((قيل: يا رسول الله، من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم. فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله؟ قال: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) الحديث متفق عليه، و ((فقهوا)) بضم القاف على المشهور، وحكي كسرها أي: فقهوا أي: علموا أحكام الشرع. الحديث الثاني: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) حديث رواه الإمام مسلم، حديث يدعوا إلى التقوى وأخذ الحيطة والحذر من الدنيا ومن النساء، فإن أول فتنة وقعت في بني إسرائيل كانت بسبب النساء. الحديث الثالث: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى))، فالتقوى سبب من أسباب النجاة

من الفتن، كدعاء النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)) حديث رواه مسلم أيضًا. الحديث الرابع: عن أبي طريف عدي بن حاتم الطائي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من حلف على يمين، ثم رأى أتقى لله منها؛ فليأتِ التقوى)) يعني: حلفت على يمين لكن وجدت الشيء الآخر فيه تقوى الله، فافعل الأمر الذي فيه تقوى الله، واحنث في يمينك، وكفّر عن يمينك. الحديث الخامس: عن أبي أمامة صُدي بن عجلان الباهلي -رضي الله عنه- قال: "سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب في حجة الوداع فقال: ((اتقوا الله وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم تدخلوا جنة ربكم)) رواه الترمذي في آخر كتاب الصلاة، وقال: حديث حسن صحيح. قال: ذلك -صلى الله عليه وسلم- في خطبته التي خطبها في حجة الوداع بمعنى: أن هذا أصل أصيل، وحديث غير منسوخ، إنه كان في أواخر أيام المصطفى -صلى الله عليه وسلم؛ إذ بعد حجة الوداع بثلاثة أشهر تقريبًا تُوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ثم جاء باب اليقين والتوكل على الله -سبحانه وتعالى، فإذا اجتمع للمسلم المراقبة والتقوى واليقين والتوكل على الله بهذه الأمور الأربعة ينجو المسلم من الفتن. في باب اليقين والتوكل على الله -سبحانه وتعالى أتى الإمام النووي بالآيات القرآنية التي فيها اليقين، حسن التوكل على الله -سبحانه وتعالى قال: تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (الأحزاب: 22)، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران: 173، 174)، وقال

تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوت} (الفرقان: 58)، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون} (إبراهيم: 11)، وقال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه} (آل عمران: 159)، والآيات في الأمر بالتوكل كثيرة معلومة وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} (الطلاق: 3)، أي: كافية، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (الأنفال: 2)، والآيات في فضل التوكل كثيرة معروفة. وأما الأحاديث فهي كثيرة أيضًا، وأورد الإمام النووي منها الكثير تحت هذا العنوان "باب اليقين والتوكل على الله -سبحانه وتعالى-". الحديث الأول: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((عُرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد؛ إذ رُفع لي سواد عظيم -يعني: خلق عظيم- فظننت أنهم أمتي -فرح- فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق -الأفق الملك كله- فنظرت، فإذا سواد عظيم، أعظم من الأول، فقال لي: انظر إلى الأفق الآخر،، فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض -صلى الله عليه وسلم- فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، جعلوا يتساءلون، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صاحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: الذين وُلدوا في الإسلام، فلم يُشركوا بالله شيئًا، وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما الذي تخوضون فيه فأخبروه؟ فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة ابن محصن -رضي الله عنه- فقال: ادعوا الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم،

فقال: أنتم منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادعوا الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة)) الحديث متفق عليه. الرُّهيط -بضم الراء- تصغير رهط، وهم دون عشرة أنفس، والأفق: الناحية والجانب، وعكاشة -بضم العين وتشديد الكاف- عكَّاشة، ويجوز تخفيفها فيقال: عكاشة، والتشديد أفصح. الحديث الثاني: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت -يعني: من أجلك أحارب وأخاصم- اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)) حديث متفق عليه. وهذا لفظ مسلم، واختصره البخاري. الحديث الثالث: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضًا قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ})) رواه البخاري، يريد ابن عباس أن يقول: ليكن سلاح المسلم التوكل على الله، وليكن شعاره دائمًا حسبي الله ونعم الوكيل، هذا ما قاله ابن عباس أو ما يريده، والله أعلم في هذا؛ إذ قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ})) رواه البخاري. وفي رواية له يعني: البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ((كان آخر قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حين ألقي في النار حسبي الله ونعم الوكيل، فالتوكل على الله ينجي من الفتن)).

الحديث الرابع: عن أبي هُريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يدخُل الجَنّة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)) حديث صحيح رواه الإمام مسلم، قيل: معناه متوكلون، وقيل قلوبهم رقيقة. الحديث الخامس: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قِبَل نجد -يعني: ناحية نجد- فلما قفل - رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قفل معهم، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاة فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرَّق الناس يستظلون بالشجر ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت سَمُرة -شجرة نوع من السمر- فعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال النبي -عليه السلام: إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، ثم قال: الأعرابي: من يمنعك مني يا محمد؟ قلت: الله، ثلاثة. الأعرابي يقولها ثلاثة مرات: من يمنعك مني؟ والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: الله. ولم يعاقبه وجلس)) الحديث متفق عليه. الحديث جاء بعد ذلك في روايات أخرى بالتفصيل، ((فوقع السيف من يد الرجل، فأخذه النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده وقال: من يمنعك مني يا رجل؟ فقال الرجل: يا محمد كُن خير آخذ، فإذا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يأسره ويقدّمه لأصحابه)). في رواية قال جابر: ((كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُعلَّق بالشجرة فاخترطه -يعني: أخذه نزله من الشجرة، فقال: تخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله)) قال -عليه الصلاة والسلام: أي: هنا التوكل على الله -سبحانه وتعالى- هو الذي ينجي من الفتن. في رواية أبي بكر لإسماعيل في صحيحه قال: ((من يمنعك مني؟ قال: الله. قال: فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السيف فقال للرجل: من يمنعك

مني؟ فقال: كُن خير آخذ. فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال الرجل: لا، ولكني أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلَّى -صلى الله عليه وسلم- سبيله، فأتى أصحابه، فقال: جئتكم من عند خير الناس -صلى الله عليه وسلم)). قوله: ((قفل)) أي: رجع، و ((العضاة)): الشجر الذي له شوك، و ((السمرة)) بفتح السين وضم الميم الشجرة من الطلح، وهي العظام من شجر العَضَاة، و ((اخترط السيف)) أي: سلّه، وهو في يده صلطن أي: مسلولًا، وهو بفتح الصاد وضمها، يجوز صَلطن وصُلطن. الحديث السادس: عن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لو أنّكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. معناه: تذهب أول النهار خماصًا، أي: ضامرة البطون من الجوع وترجع آخر النهار بطانًا أي: ممتلئة البطون. الحديث السابع: عن أبي عمارة البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((يا فلان، إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإنك إن متَّ من ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيرًا)) متفق عليه. وفي رواية في الصحيحين عن البراء، قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقِّك الأيمن، وقل))، وذكر نحوه، ثم قال: ((واجعلهنَّ آخر ما تقول)).

الحديث الثامن: عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمر بن كعب بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي -رضي الله عنه، وهو وأبوه وأمه صحابة -رضي الله عنهم- قال: ((نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رءوسنا فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهم)) حديث متفق عليه. الحديث التاسع: عن أم المؤمنين أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية حذيفة المخزومية -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا خرج من بيته قال: ((باسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضلّ أو أُضلَّ، أو أزلَّ أو أُزلَّ، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل عليَّ)) حديث صحيح، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهذا لفظ أبي داود. الحديث العاشر: عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((من قال -يعني إذا خرج من بيته- بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ يقال له: هُديت وكُفيت ووُقيت، وتنحَّى عنه الشيطان)). رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، وقال الترمذي: حديث حسن رواه أبو داود، فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان أخوان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، وكان أحدهما يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له -عليه الصلاة والسلام: ((لعلك تُرزق به)) " يمكن سبب رزقك هذا، رواه الترمذي بإسناد صحيح على شرط مسلم. ويحترف أي: يكتسب.

أقول: من هذه الآيات الكريمة التي جاءت في المراقبة والتقوى واليقين والتوكل على الله تعالى، وما جاء في ذلك من الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، من خلال هذه الآيات وهذه الأحاديث تكون نجاة المسلم من الفتن. فعندما يُراقب المسلم ربه، ويعلم أنه مطَّلع عليه وعلى سرّه وعلانيته يبتعد كلَّ البعد عن معاصي الله تعالى، وعندما يتَّقي المسلم ربه ويخشاه يكون قد أخذ لنفسه وقاية من غضب الله تعالى وعقابه ومن النار. ومن يتوكل على الله ويوقن بأن الله تعالى هو الرزاق وهو المحيي، وهو المميت عندما يزداد يقينه بالله يزداد توكله على الله، بهذا ينجو من الشدائد ومن الفتن، قال: تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (الطلاق: 2،3). هذا وبالله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 11 تابع: كيف يتقي المسلم الفتن.

الدرس: 11 تابع: كيف يتقي المسلم الفتن.

التورع عن الشبهات، وأكل الطيب من الحلال، والتحذير من أكل الحرام.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (تابع: كيف يتقي المسلم الفتن) التورع عن الشبهات، وأكل الطيب من الحلال، والتحذير من أكل الحرام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: فكل لحم نبت من حرام فالنار أولى به، ويتفرع عنه أيضًا، فضل الورع والزهد، ومن يترك شيئًا لله تعالى. يتفرع عنه أيضًا: ما يحتقره الإنسان من الكلام والصمت، وحفظ اللسان، يتفرَّع عنه أيضًا: العُزلة والتوكل على الله، ويتفرع عنه أيضًا: الخوف والرجاء، وساعة وساعة، وذكر الموت، وما جاء في الحزن، كما يتفرع من هذه العناصر الخشية من الله، وأن يقشعر جسد العبد من خشيته لله، وأيضًا البراءة من النفاق. من تخلق بهذه الأخلاق التي ذكرتها؛ نجا من الفتن، ولقد جاء تحت كل عنصر من هذه العناصر أحاديث أوردها الإمام الحافظ الهيثمي في كتابه (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد). وإليكم بعض هذه الأحاديث كما رواه الإمام الهيثمي تحت كل عنوان من العناوين السابقة. قال: باب: "في من نبت لحمه من الحرام": عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يدخل الجنة جسد غُذِّي بحرام)) رواه أبو يعلى، والبزار، والطبراني في (الأوسط)، ورجال أبي يعلى ثقات، وفي بعضهم خلاف. وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به)) رواه الطبراني في (الأوسط) لرواية أيوب بن سويد عن الثوري، وهي مستقيمة، وإبراهيم بن خلف الرملي لم أعرفه وبقيّة رجاله رجال الصحيح. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة لحم نبت من سُحت)) رواه الطبراني، وفيه حسين بن قيس وهو متروك، إلا أن الأحاديث السابقة في هذا الموضوع كافية في هذا الباب.

ثم قال: "باب التورّع عن الشبهات" عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((اجعلوا بينكم وبين الحرام سُترة من الحلال)) فذكر الحديث، رواه الطبراني في حديث طويل، ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني المقدم ابن داود، وقد وُثِّق على ضعف فيه. وعن عمار بن ياسر، أنّ رَسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما شبهات، من توقاهنَّ كنَّ وقاء لدينه، ومن وقع فيهنَّ يوشك أن يواقع الكبائر، كالمرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه لكل ملك حمى)) رواه أبو يعلى، وفيه موسى بن عبيدة، وهو متروك. وعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك شبهات، فمن أوقع بهنَّ فهو قمنَ -أي: خليق وجدير- أن يأثم، ومن اجتنبهنَّ فهو أوفر لدينه كمرتعٍ إلى جنب حمى، وحمى الله الحرام)) رواه الطبراني، وفيه سابق الجزري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. وعن وائلة بن الأسقع قال: ((تراءيتُ للنبي -صلى الله عليه وسلم- بمسجد الخيف، فقال لي أصحابه: يا وائلة -أي: تنحى عن وجه النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنما جاء يسأل قال: فدنوت فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لتفتنا بأمر نأخذ به عنك من بعدك، قال: لتُفتك نفسك، قال: قلت: وكيف لي بذلك، قال: دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أفتاك المفتون، قلت: وكيف لي بعلم ذلك؟ قال: تضع يدك على فؤادك، فإن القلب يسكن للحلال ولا يسكن للحرام، وإن المسلم الورع يدع الصغير؛ مخافة أن يقع في الكبير. قلت: بأبي أنت ما المصيبة؟ قال: الذي يعينه قومه على الظلم، قلت: ما الحريص؟ قال: الذي يطلب المكسبة من غير حلّها، قلت: فمن الوَرِع؟ قال: الذي يقف عند الشبهة. قلت: فمن المؤمن؟

قال: من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم. قلت: فمن المسلم؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. قلت: فأيُّ الجهاد أفضل. قال: كلمة حقٍّ عند إمام جائر)) رواه أبو يعلى والطبراني. وعن وائلة قال: ((قلت: يا نبي الله، نبئني. قال: إن شئت أنبأتك بما جئت تسأل عنه، وإن شئت فسل. قال: بل أنبئني يا رسول الله؛ فإنه أطيب لنفسي. قال: جئت تسأل عن اليقين والشك، قلت: هو ذاك، قال: فإن اليقين ما استقر في الصدر واطمأنَّ إليه القلب، وإن أفتاك المفتون، دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإذا شككت فدَعْ)) فذكر نحوه رواه الطبراني، وفيه إسماعيل بن عبد الله الكندي، وهو ضعيف. وعن وابصة بن معبد الأسدي قال: ((جئتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا لا أريد أن أدع من البر والإثم شيئًا إلا سألته عنه، فأتيته وهو في عصابة من المسلمين حوله، فجعلت أتخطَّاهم لأدنو منه، فانتهرني بعضهم، فقال: إليك يا وابصة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي: ابتعد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: إني أحبُّ أن أدنو منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: دَعُوا وابصة، ادن مني يا وابصة، فأدناني حيث كنت بين يديه، فقال: أتسألني، أم أخبرك، فقلت: لا، بل تخبرني، فقال: جئت تسأل عن البر والإثم، قلت: نعم. فجمع أنامله، فجعل ينكث بهنَّ في صدري، فقال: البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردَّد، وإن أفتاك المفتون وأفتوك)) رواه الطبراني، وأحمد باختصار عنه، ورجال أحد إسنادي الطبراني ثقات. وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: ((قال رجل ما الإثم يا رسول الله؟ قال: ما حاك في صدرك فدعه، قال: فما الإيمان؟ قال: من ساءته سيئته وسرَّته حسنته فهو

مؤمن)) رواه الطبراني وأحمد باختصار عنه، ورجال الطبراني رجال الصحيح. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك))، ثم ذكر بعد ذلك بابًا آخر، فقال عن رافع بن خُديج قال: دخلت يومًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندهم قِدر تفور لحمه، فعجبتني شحمة فأخذتها فأردتها، فاشتكيت عليها سنة، ثم إني ذكرته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((لو كان فيها نفس سبعة أناسي، ثم مسح بطني، فألقيتها خضراء، والذي بعثه بالحق ما اشتكيت حتى الساعة)) رواه الطبراني، وفيه أبو أمية الأنصاري، ولم أعرفه وبقية رجاله وُثِّقوا. ثم قال: "باب فيمن أكل طيبًا حلالًا": عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((والذي نفسي بيده إن مثل المؤمن كمثل النحلة أكلت طيبًا، ووضعت طيبًا، ووقعت فلم تكسر ولم تفسد)) رواه أحمد في حديث طويل تقدم، ورجاله رجال الصحيح غير أبي سبرة، وقد وثَّقه ابن حبان. وعن أبي رزين العقيلي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مثل المؤمن مثل النحلة لا تأكل إلا طيبًا، ولا تضع إلا طيبًا)) رواه الطبراني في (الأوسط)، وفيه حجاج بن نصير، وقد وُثِّق على ضعفه وبقية رجاله ثقات قلت: وقد تقدَّم حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لسعد بن أبي وقاص: ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة))، وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أربعٌ إذا كنَّ فيه فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفّة في طُعمة)) رواه أحمد والطبراني وإسنادهما حسن.

فضل الورع والزهد، وما جاء في الشهرة، وباب الصمت وحفظ اللسان.

فضل الورع والزهد، وما جاء في الشهرة، وباب الصمت وحفظ اللسان عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاث من كنَّ فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان: خلق يعيش به في الناس، وورعٌ يحجزه عن محارم الله، وحلم يردّ به جهل الجاهل)) رواه البزار، وفيه من لم أعرفه. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى ناجى موسى بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام وصايا كلها، فلما سمع موسى كلام الآدميين مَقَتهم، مما وقع في مسامعه من كلام الرب، وكان فيما ناجاه أن قال: يا موسى، لم يتصنَّع المتصنعون لي بمثل الزهد في الدنيا، ولم يتقرَّب المتقرِّبون بمثل الورع عمَّا حرمت عليهم، ولا تعبَّدني العابدون بمثل البكاء من خيفتي، فقال موسى: يا إله البرية كلها، ويا مالك يوم الدين، يا ذا الجلال والإكرام، فماذا أعددت لهم، وماذا جزيتهم؟ قال: يا موسى أما الزاهدون في الدنيا، فإنهم أبحتهم جنتي يتبوَّءون حيث يشاءون، وأما الورع عما حرمت عليهم، فإنه ليس من عبد يلقاني يوم القيامة إلا نقشته وفتشته عما كان في يديه إلا ما كان من الورعين، فإني استهيبهم وأُجلّهم، وأدخلهم الجنة بغير حساب، وأما البكائون من خيفتي؛ فلهم الرفيق الأعلى لا يُشَاركون فيه)). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما أعجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء من الدنيا أعجبه فيها إلا ورع"، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة، ارضَ بما قسم الله لك تكن غنيًّا، وكن ورعًا تكن أعبد الناس، وأحب للناس ما تُحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلمًا، وإيَّاك وكثرة الضحك، فإنه يُميت القلب، والقهقهة من الشيطان، والتبسم من الله -عز وجل)) رواه الترمذي وابن ماجه، خلا من قوله: ((والقهقهة)).

هذه الأمور التي ذكرت هي التي تجعل المسلم متقيًا للفتنة. ثم ذكر الهيثمي بابًا آخر فيمن ترك شيئًا لله تعالى أي: مخافة لله، وحبًّا في الله، ووقوفًا عند أوامر الله ونواهيه. عن أبي قتادة وأبي الدَّهماء قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقلنا: هل سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا؟ قال: نعم. قال: سمعته يقول: ((إنك لن تدعَ شيئًا لله -عز وجل- إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه))، وفي رواية: ((أخذ بيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل يُعلمني مما علمه الله -تبارك وتعالى- وقال: إنك لن تدع شيئًا اتقاء الله -عز وجل- إلا أعطاك الله خيرًا منه)) رواه أحمد بأسانيد صحيحة. وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال: رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من قَدِر على طمع من طمع الدنيا فأدَّاه ولو شاء لم يؤدّه؛ زوَجه الله -عز وجل- من الحور الحين حيث شاء)) رواه والطبراني. باب: ما جاء في الشهرة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((بحسب امرئ من الشرّ إن يُشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا إلا من عصم الله))، فالذين يحبُّون الشهرة يقعون في الرياء والسمعة. وعن ابن محيريز قال: صحبت فضالة بن عبيد صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: ((أوصني رحمك الله. فقال: احفظ عني ثلاث خصال ينفعك الله بهنَّ: إن استطعت أن تعرف ولا تُعرف فافعل، وإن استطعت أن تسمع ولا تتكلم فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يُجلس إليك فافعل)) رواه الطبراني، ورجاله ثقات. هذه الأمور الثلاثة فيها شهرة فبيَّن له أن يتعلَّم والناس لا يعرفون مكانه، ويسمع كثيرًا ويتكلَّم قليلًا، بل لا يتكلم إن استطاع، ويجلس ولا يُجلس إليه، يعني: الناس لا تقوم له ليُجلسوه.

ثم بعد ذلك ذكر بابًا "فيما يحتقره الإنسان من الكلام"؛ ليبين لنا في الأحاديث التي جاءت تحت هذا الباب أن النجاة من الفتن تكون أيضًا في حفظ اللسان، قال: عن شنير بن شكل، وعن زفر، وعن صلة بن زفر، وعن سليك بن مسحل قالوا: خرج علينا حذيفة ونحن نتحدث فقال: "إنكم لتتكلمون كلامًا إن كنا لنعدّه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النفاق" رواه أحمد ورجاله الثقات، إلا أن ليث بن أبي سليم مدلّس. وعن حذيفة قال: "إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيصير بها منافقًا، وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم في المجلس عشر مرات"، وفي رواية "أربع مرات". وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنّ الرجل ليتكلم بالكلمة يهوي بها في النار كذا وكذا خريفًا))، وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- يرفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الرجل ليتكلم الكلمة لا يريد بها بئسًا إلا ليُضحك بها القوم، وإنه لا يقع منها أبعد من السماء)). وعن أَمَة ابنة أبي الحكم الغفارية قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنّ الرّجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها قيد ذراع، فيتكلم بالكلمة، فيتباعد منها أبعد من صنعاء)) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وعن ابن مسعود قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة يُضحك بها جلساءه، ما ينقلب إلى أهله منها بشيء؛ ينزل بها أبعد من السماء إلى الأرض". ثم بعد ذلك جاء باب "الصمت وحفظ اللسان": قال الهيثمي: عن سماك، قال: "قلت لجابر بن سمرة: أكنت تُجالس النبي -صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. وكان كثير الصمت" رواه أحمد والطبراني في حديث طويل، ورجال أحمد رجال الصحيح غير شريك وهو ثقة.

وعن أنس أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من خزن لسانه ستر الله عورته، ومن كفَّ غضبه كفَّ الله عنه عذابه، ومن اعتذر إلى الله قَبِل الله منه عذره))، وعن تميم بن يزيد مولى بني زمعة عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فقال: ((يا أيها الناس، ثنتان من وقاه الله شَرّهما دخل الجنة، فقام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، ألا تخبرنا بهما؟ ثم قال: اثنتان من وقاه الله شرّهما دخل الجنة حتى إذا كانت الثالثة حبسه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ترى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يبشرنا فتمنعه، فقال: إني أخاف أن يتكَّل الناس. قال: ثنتان من وقاه الله شرهما دخل الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه)) يعني: الفرج واللسان. وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من حفظ ما بين فقميه وفرجه دخل الجنة)) فقم يعني: الفم أو الفكين، رواه أحمد وأبو يعلى وغيرهم. وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((ألا أُحدثك ثنتين من فعلهما دخل الجنة، قلنا: بلى يا رسول الله. قال: يحفظ الرجل ما بين فقميه وما بين رجليه. قال: فرجعت أنا وصاحبي، فقلنا: والله إن هذا لشديد، كيف يستطيع المرء أن يحفظ ما بين فقميه فلا يتكلم إلا بخير؟ قال: فأتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: يا رسول الله، إنك ذكرت خَصلتين شديدتين، ومن يستطع أن يملك لسانه يا رسول الله؟ قال: فستٌّ من فعلهنَّ دخل الجنة، قلنا: وما هن يا رسول الله؟ قال: من لا يشرك بالله شيئًا، ولا يزني، ولا يأتي ببهتان يفتريه، فأتمَّ الآية كلها، فكانت هذه أشدُّ من الأولى)) رواه الطبراني، ورجاله وثقوا. وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: "كنا نجلس عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن غلمان فلم أرَ رجلًا كان أطول صمتًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فكان إذا تكلم أصحابه

فأكثروا الكلام تبسَّم". وعن الحرث بن هُشيم أنه قال: لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: أخبرني بأمر أعتصم به. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((أملك هذا. وأشار إلى لسانه)). وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج ذات يوم، فسار على راحلته وأصحابه معه، لم يتقدّم منهم أحد بين يديه، فقال معاذ بن جبل: "يا رسول الله أسأل الله أن يجعل يومنا قبل يومك، أرأيتم كان شيء ولا يرينا الله ذلك أيُّ الأعمال نعملها بعدك، فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الجهاد في سبيل الله، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: نِعم الشيء الجهاد في سبيل الله، وعاد بالناس من أملك من ذلك؟ قال: الصيام والصدقة، قال: نعم الشيء الصيام والصدقة، وعاد بالناس أملك من ذلك؟ فذكر معاذ كل خير يعلمه))، كل ذلك يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((وعاد بالناس أملك من ذلك قال: يا رسول الله عاد بالناس أملك من ذلك، فأشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى فيه قال: الصمت إلا من خيرٍ، قال: وهل نؤاخذ بما تكلمت ألسنتنا؟ فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فخذ معاذ، ثم قال: ثكلتك أمك -وما شاء الله أن يقول- وهل يكبّ الناس على مناخرهم في جهنم إلا ما نطقت به ألسنتهم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت عن شرٍّ، قولوا خيرًا تغنموا، واسكتوا عن شر تسلموا)) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، غير عمرو بن مالك الجنبي، وهو ثقة. وعن أبي أمامة أنّ رَسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ويشهد أني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليسعه بيته، وليبكِ على خطيئته، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ويشهد أني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليقل خيرًا ليغنم، أو ليسكت عن شرٍّ فيسلم))، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((ليَسعك بيتك، وابك على ذكر خطيئتك، واملك عليك لسانك)) رواه

الطبراني في (الكبير) و (الأوسط)، وفيه المسعودي، وقد اختلط، لكنا نقول هذه الأحاديث وإن كان فيها بعض الضعف إلا أن بعضها يقوِّي بعضها، فموضوعها واحد وقد جاء الكثير منها بأسانيد جيدة صحيحة، وعن ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته، وبكى على خطيئته)) رواه الطبراني في (الأوسط) و (الصغير) وحسن إسناده. وعن إسماعيل بن أبي خالد، قال: "أوصى ابن مسعود أبا عبيدة ابنه بثلاث كلمات: أي بني أوصيك بتقوى الله، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح، إلا أن عبد الملك بن عمر، قال: حدثني إلى عبد الله: أن عبد الله أوصى ابنه، وعن أبي وائل بن عبد الله أنه ارتقى الصفا؛ فأخذ بلسانه فقال للسان: "قل خيرًا تغنم، واسكت عن شرٍّ تسلم من قبل أن تندم من قبل أن تندم، ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أكثر خطايا ابن آدم من لسانه)) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وعن أسود بن أصرم قال: ((قلت: يا رسول الله، أوصني. قال: تملك يدك. قلت: فماذا أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: تملك لسانك. قلت: فماذا أملك؟ قال: تملك لسانك. قلت: فماذا أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: لا تبسط يدك إلا إلى خير، ولا تقل بلسانك إلا معروفًا)) رواه الطبراني وإسناده حسن. وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: ((قلت: يا رسول الله، أكلُّ ما نتكلم به يُكتب علينا، فقال: ثكلتك أمك، وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم، إنك لن تزال سالمًا ما سكت، فإذا تكلمت كتب الله لك أو عليك)) يقول الهيثمي: "رواه الترمذي باختصار من قوله: ((إنك لا تزال)) إلى آخره، ورواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما ثقات.

وعن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أيمن امرئ وأشأمه ما بين لحيَيْه)) -يعني: ما بين الفكين- يعني: اللسان هو سبب اليمن وسبب الشؤم. وعن أبي اليسر أن رجلًا قال: ((يا رسول الله دُلَّني على عملٍ يُدخلني الجنة؟ قال: أمسك عليك هذا، وأشار إلى لسانه، فأعادها عليه، فقال: ثكلتك أمك، هل يكبُّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم)). رواه البزار، وقال: إسناده حسن، ومتنه غريب، ورواه الطبراني إلا أنه قال: قال معاذ: ((مُرني بعمل يُدخلني الجنة. قال: آمن بالله وقل خيرًا يُكتب لك، ولا تقل شرًّا يُكتب عليك، قال: وإنَّا لنُآخذ بما نتكلم به))، فذكر نحوه. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت))، وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يؤذِ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفه))، وعن أنس قال: ((لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر وقال: يا أبا ذر ألا أدلُّك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما)). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: ((سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: أن يسلم الناس من لسانك، قلت: في الصحيح منه الصلاة لميقاتها)). وعن الحرث بن هشام قال: ((قلت: يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به قال: أملك عليك هذا وأشار إلى لسانه)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لمن حوله من أمته ((اكفلوا -يعني: اضمنوا- لي بستِّ خصال، وأكفل

لكم الجنة -أضمن لكم الجنة- قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الصلاة، والزكاة، والأمانة، والفرج، والبطن، واللسان)). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تقبلوا لي ستًّا أتقبَّل لكم الجنة، إذا حدَّث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا اؤتمن فلا يخن، غُضُّوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم)). وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة: إذا حدَّث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يُخلف، وإذا اؤتمن فلا يخن، غضُّوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكُفُّوا أيديكم))، وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: ((جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أوصني، قال: عليك بتقوى الله، فإنها جماع كل خير، وعليك بالجهاد في سبيل الله فإنه رهبانية المسلمين، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه نور لك في الأرض، وذكرٌ لك في السماء، واخزن لسانك إلا من خير -يعني: احفظ لسانك إلا من خير- فإنك بذلك تغلب الشيطان))، ومن الأسباب التي يتقي بها المسلم الفتن التوكل على الله سبحانه وتعالى، وليس معنى التوكل هو أن الإنسان لا يأخذ بالأسباب، وإنما يأخذ بالأسباب ويترك النتائج إلى الله -سبحانه وتعالى. قال الهيثمي تحت باب التوكل: عن عمرو بن أمية الضمري "أنه قال: يا رسول الله أُرسل راحلتي وأتوكل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((بل قيّدها وتوكل)) رواه الطبراني من طُرق، ورجال أحدها رجال الصحيح، غير يعقوب بن عبد الله بن عمرو بن أمية، وهو ثقة. وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ((أُهديت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة طوائر، فأطعم خادمته طائرًا، فلما كان من الغد أتته به، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ألم أنهك أن ترفعي شيئًا لغدٍ، فإن الله يأتي برزق كل غدٍ)) رواه أحمد وإسناده حسن.

ومن الأسباب التي تجعل المسلم ينجو من الفتن العزلة عند الفتن، المسلم يعتزل الناس ويبتعد عن شرِّهم، ويخلو في بيته، فكما أمر بحفظ لسانه عليه أيضًا أن يبتعد عن الناس عندما تقع الفتن. عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((من انقطع إلى الله كفاه الله كل مئونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وَكَله الله إليها))، وعن أم ميسرة -رضي الله عنها- قالت قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أخبركم بخير الناس رجلًا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فأشار بيده نحو المشرق، فقال: رجل آخذٌ بعنان فرسه في سبيل الله، ينظر أن يُغير أو يُغار عليه، ألا أخبركم بخير الناس بعده رجلًا؟ قالوا: بلى، فأشار بيده نحو الحجاز فقال: رجلًا في غُنيمة -يعني: مجموعة غنم صغيرة- يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، يعلم ما حقُّ الله تعالى في ماله، قد اعتزل الناس)) رواه الطبراني، ورجاله ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس لكنه مقبول. وعن عدسه الطائي قال: "كنت بصراف -موضع- فنزل علينا عبد الله -يعني: عبد الله بن مسعود- فبعثني إليه أهلي بأشياء، وجاء غِلمة لنا كانوا في الإبل من مسيرة أربع ليالٍ بطير، فذهبت به إليه، فلما ذهبت به إليه سألني من أين جئتني بهذا الطائر؟ قال: قلت جاء غلمان لنا كانوا في الإبل من مسيرة أربع ليالٍ، فقال عبد الله: لوددت أني حيث صِيد لا أكلم أحدًا بشيء، ولا يكلمني أحد؛ حتى ألحق بالله -عز وجل". وعن عبد الله بن عمرو أنه مرَّ بمعاذ بن جبل وهو قائم على بابه يُشير بيده كأنه يدسّ نفسه، فقال له عبد الله بن عمرو: ما شأنك يا أبا عبد الرحمن؟ تحدَّث نفسك قال: ما لي، يريد عدوَّ الله أن يلفتني عمَّا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:

((تكابد دهرك في بيتك ألَّا تخرج إلى المجلس))، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من خرج في سبيل الله كان ضامنًا على الله، ومن عاد مريضًا كان ضامنًا على الله -عز وجل، ومن غدا إلى المسجد أو راح كان ضامنًا على الله -عز وجل، ومن دخل على إمام يعزّره -يعني: ينصحه يوصيه بالحق- كان ضامنًا على الله -عز وجل، ومن جلس في بيته لم يغتبْ أحدًا بسوء كان ضامنًا على الله عز وجل)) فيريد أن يُخرجني عدوُّ الله يريد لسانه أنه كان يدسّه في فمه أي: يضرب فمه أن يخرجني من بيتي إلى المجلس فيحدث نفسه ويتكلم، ويقصد بعدو الله الشيطان. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنه كان فيمن كان قبلكم من الأمم رجل يُقال له: مورّق، وكان متعبدًا، فبينما هو قائم في صلاته ذكر النساء واشتهاهنَّ، وانتشر حتى قطع صلاته، فغضب فأخذ قوسه فقطع وتره، فعقده بخصيته، وشدَّه لعقبه، ثم مدَّ رجليه فانتزعها، ثم أخذت تمريه ونعليه حتى أتى أرضًا لا أنيس بها، ولا وحش فاتخذ عريشًا، ثم قام يصلي فجعل كلما أصبحت تصدَّعت الأرض فخرج له خارجٌ منها معه إناء فيه طعام حتى شبع، ثم يدخل فيخرج بإناء فيه شراب فيشرب حتى يُروى، ثم يدخل وتلتئم الأرض، فإذا أمسى فُعل مثل ذلك. قال: ومر الناس قريبًا منه فأتاه رجلان من القوم فمرَّ به تحت جنح الليل، فسألاه عن قصدهما فسمت لهما بيده، قال: هذا قصدكما حيث يريدان، فسارا غير بعيد. قال أحدهما: ما يسكن هذا الرجل ها هنا بأرض لا أنيس بها، ولا وحش، لو رجعنا إليه حتى نعلم علمه، قال: فرجعا إليه، فقال له: يا عبد الله ما يُقيمك بهذا المكان، بأرض لا أنيس بها ولا وحش، قال: امضيا لشأنكما ودعاني، فأبيا وألحَّا عليه. قال: فإني مخبركما على أن من كَتَما منكما عني أكرمه الله في الدنيا والآخرة، ومن أظهر عليَّ منكما أهانه الله في الدنيا والآخرة. قالا: نعم. قال: فنزل، فلما

أصبحا خرج الخارج من الأرض مثل الذي كان يخرج من الطعام، ومثليه معه فأكلوا حتى شبعوا، ثم دخل فخرج إليهم بشراب في إناء مثل الذي كان يخرج به كل يوم، ومثليه معه -يعني: خرج برزقهم- فشربوا حتى رُوُوا، ثم دخل والتأمت الأرض قال: فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقال: ما يعجلنا، هذا طعام وشراب وقد علمنا سمتنا من الأرض، امكث إلى العشاء، فمكثا، فخرج إليه من الطعام والشراب مثل الذي خرج أول النهار، فقال أحدهما لصاحبه: امكث بنا حتى نُصبح، فمكثا فلما أصبح خرج إليهما مثل ذلك، ثم ركبا فانطلقا، فأما أحدهما فلزم باب الملك حتى كان من خاصته، ومن سُمَّاره. وأما الآخر فأقبل على تجارته وعمله، وكان ذلك الملك لا يكذب أحدٌ في زمانه من أهل مملكته كذبةً يُعرف بها إلا صلبه، فبينما هم ذات ليلة في السمر يُحدِّثونه بما رأوا من العجائب أنشأ ذلك الرجل يُحدّث فقال: ألا أحدثك أيها الملك بحديث ما سمعت أعجب منه قط، فحدَّث بحديث ذلك الرجل الذي رأى من أمره قال: الملك ما سمعت بكذب قط أعظم من هذا، والله لتأتينِّي على ما قلت ببينه أو لأصلبنك. قال: بيِّنتي فلان، قال: رضاء ائتوني به، فلما أتوه قال الملك: إن هذا يزعم أنكما مررتما برجل، ثم كان من أمره كذا وكذا، قال الرجل: أيها الملك أولست تعلم أن هذا كذب وهذا ما لا يكون، ولو أني حدثتك بهذا؛ لكان عليك من الحق أن تصلبني عليه، قال: صدقت وبررت فأدخل الرجل الذي كتم عليه في خاصته، ومن سُمَّاره، وأمر بالآخر فصُلب فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فأما الذي كتم عليه منهما فقد أكرمه الله في الدنيا والآخر، وأما الذي أظهر عليه منهما فقد أهانه الله في الدنيا وهو مهينه في الآخرة، ثم نظر بكر بن عبد الله بن أنس فقال: يا أبا المثنى سمعت جدَّك يُحدّث هذا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم))، رواه

الطبراني في (الأوسط) عن شيخه محمد بن شعيب، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات على ضعف في بعضهم يسير. وهناك أحاديث في الخوف والرجاء، وأحاديث تحت عنوان باب ساعة وساعة، وأحاديث في ذكر الموت، وأحاديث جاءت في الحزن، وأحاديث في خشية الله تعالى، وأحاديث في علامة البراءة من النفاق، هذه الأمور إذا نظر المسلم فيها، ونظر في هذه الأحاديث، وعمل بما تطلبه منه من مراقبة لله تعالى، ومن تقوى لله تعالى، ومن يقين وثقة في الله تعالى، وتوكل على الله حق التوكل، ثم نظر إلى طعامه وشرابه فلا يأكل ولا يشرب إلا ما أحل الله تعالى له، وتورع وابتعد عن الشبهات وأكل الحلال الطيب فقط، وزهد في الدنيا كما ينبغي، وترك المحرمات، وترك أكل الشهوات الباطلة لله تعالى، وخوفًا من الحق -سبحانه وتعالى- واعتزل، وعزل شرَّه عن الناس، وخاف من الله تعالى حق الخوف، إذا فعل المسلم ذلك؛ نجا من الفتن قال: تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (الطلاق: 2 - 3). هذا، وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 12 الآداب والأخلاق الإسلامية.

الدرس: 12 الآداب والأخلاق الإسلامية.

تعريف: الآداب، والأخلاق.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (الآداب والأخلاق الإسلامية) تعريف: الآداب، والأخلاق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين: المراد بالآداب: ما يتأدَّب به المسلم من السِّمات والأوصاف الحميدة، وما يتخلَّق به المسلم من الأخلاق الحسنة الرفيعة، يقول ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى: "والأدب استعمال ما يُحمد قولًا وفعلًا، وعبَّر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك، والرفق بمن دونك، وقيل: إنه مأخوذ من المَأدبة، وهي الدعوة إلى الطعام، سُمّي بذلك؛ لأنه يُدعى إليه"، فالأدب هو الأخذ بمجامع الأخلاق الكريمة، وإذا أريد به الطعام أي: المأدبة فهو أيضًا يدل على أن الأدب خلق كريم طيب، يُعدّ الطعام؛ ليكون مأدبة يأكل منه الجياع، ويلجأ إليه المحتاجون. ولقد جاء في (النهاية) لابن الأثير -رحمه الله تعالى: "أنه يُراد بالأدب المأدبة وهي الطعام الذي يصنعه الرجل يدعو إليه الناس، وكان العرب يتفاخرون بالمأدبة، ويدعون الناس جميعًا إليها لا يختارون أحدًا على أحد، ولذلك قال شاعرهم: لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر والقرآن الكريم عُرف بأنه مأدبة الله في الأرض، كما جاء في حديث ابن مسعود: ((القرآن مأدبة الله في الأرض)) يعني: مدعاته أي: دعا الناس إليه للانتفاع به والأخذ منه، شُبّه القرآن بصنيع صنعه الله تعالى للناس لهم فيه خير ومنفعة. يقول ابن الأثير في (النهاية) تحت مادة أدب يقول في حديث علي: "أما إخواننا بنو أمية فقادة أدبة، جمع آدب مثل كاتب وكتبة، وهو الذي يدعو إلى المأدبة وهي

الطعام الذي يصنعه الرجل يدعو إليه الناس، ومنه حديث ابن مسعود: ((القرآن مأدبة الله في الأرض)) يعني: مدعاته للناس للخير والنفع. تعريف الأخلاق: الأخلاق جمع خلق، وهو يُستعمل عند أهل اللغة في معانٍ كثيرة منها: الطبع، وهو الصفة الراسخة التي جُبل عليها الإنسان دون إرادة منه. 2 - العادة: وهي الصفة الراسخة المكتسبة بالإرادة عن طريق المران والتدريب. 3 - السجية: وتشمل المطبوع والمكتسب الذي أصبح عادة. وقال ابن الأثير: الخُلق -بضم اللام وسكونها- الدين والطبع والسجية، وإليك ما جاء في (النهاية) في شرح معنى الخلق يقول: في مادة خلق يقول: في أسماء الله تعالى الخالق، وهو الذي أوجد الأشياء جميعها بعد أن لم تكن موجودة، وأصل الخلق التقدير، فهو باعتبار تقدير ما منه وجودها، وباعتبار الإيجاد على وفق التقدير خالق، وفي حديث الخوارج ((هم شرُّ الخلق والخليقة)) الخلق هو الناس، والخليقة البهائم، وقيل: هما بمعنًى واحد، ويريد بهما جميع الخلائق. وفيه ((ليس في الميزان أثقل من حسن الخلق)) يُراد به الدين والطبع والسجية، وحقيقته: أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه، وأوصافها، ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة، وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب مما يتعلقان بأوصاف الصور الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكررت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع، كقوله -صلى الله عليه وسلم: ((أكثرُ ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق))، وقوله -صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا))، وقوله

-صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليُدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم))، وقوله -صلى الله عليه وسلم: ((بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق))، وأحاديث من هذا النوع كثيرة، وكذلك جاء في ذم سوء الخلق أحاديث كثيرة، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها: ((كان خلقه القرآن)) -صلى الله عليه وسلم- أي: كان متمسكًا بآدابه وأوامره ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن والألطاف، وفي حديث عمر -رضي الله عنه: ((من تخلَّق للناس بما يعلم أنه ليس من نفسه شانه الله تعالى)) أي: تكلَّف أن يُظهر من خلقه خلاف ما ينطوي عليه مثل: تصنع، وتجمل إذا أظهر الصنيع والجميل (النهاية) لابن الأثير. والأخلاق -كما سبق- منها ما هو محمود وهو ما يدعو إليه الإسلام، ومنها ما هو مذموم، وهو ما حذَّر منه الإسلام، وحسن الخلق وصف جميل تخلَّق به سيد الرسل -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، وفي تعريف الأخلاق قال الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني في كتابه المشهور: ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) قال تحت عنوان تعريف الأخلاق: "يقتضينا البحث أولًا أن نميز الأخلاق عن غيرها من الصفات الإنسانية، وأن نميز أنواع السلوك التي هي آثار خلقية عن أنواع السلوك التي ليست آثارًا خلقية حتى نعرف موضوع البحث الذي نحن في صدده، فلا يختلط علينا ما ليس من قبيل الأخلاق بما هو منها، وما ليس سلوكًا أخلاقيًّا بما هو سلوك أخلاقي، ولدى المتأمل وإمعان النظر يتبيَّن لنا أن الخُلق صفة مستقرة في النفس، فطرية، أو مكتسبة، ذات آثار في السلوك محمودة أو مذمومة، فالخلق منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، والإسلام يدعو إلى محمود الأخلاق، وينهي عن مذمومها. نستطيع أن نقيس مستوى الخلق النفسي عن طريق قياس آثاره في سلوك الإنسان، الصفة الخلقية المستقرة في النفس إذا كانت حميدة كانت آثارها حميدة،

وإذا كانت ذميمة كانت آثارها ذميمة، وعلى قدر قيمة الخلق في النفس تكون بحسب العادة آثاره في السلوك، إلا أن توجد أسباب معوّقة أو صوارف صادَّة عن ظهور آثار الخلق في السلوك. وليست كل الصفات المستقرة في النفس من قبيل الأخلاق، بل منها غرائز ودوافع لا صلة لها بالخلق، ولكن الذي يفصل الأخلاق ويميزها عن جنس هذه الصفات كون آثارها في السلوك قابلة للحمد أو للذم، فبذلك يتميَّز الخلق عن الغريزة ذات المطالب المكافئة لحاجات الإنسان الفطرية. إن الغريزة المعتدلة ذات آثار في السلوك إلا أن هذه الآثار ليست مما يُحمد الإنسان أو يُذم عليه، فالأكل عند الجوع بدافع الغريزة ليس مما يُحمد أو يُذمّ في باب السلوك الأخلاقي، لكن الشَّره الزائد عن حاجة الغريزة العضوية أمر مذموم؛ لأنه أثر وخلق في النفس مذموم هو الطبع المفرط، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود هو القناعة، والحذر من وقوع مكروه أثر من آثار غريزة حب البقاء، وليس محلًّا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر بخلق في النفس مذموم هو الجبن. أما الإقدام الذي لا يصل إلى حدّ التهور فهو أثر لخلق في النفس محمود هو الشجاعة، وهكذا سائر الغرائز والدوافع النفسية التي لا تدخل في باب الأخلاق؛ إنما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم، والعبادات الإسلامية كلها تدعو إلى مكارم الأخلاق؛ فالصلاة تدعو إلى حسن الخلق، وتدعو صاحبها إلى البعد والانتهاء عن الفحشاء والمنكر، ومن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؛ فلا صلاة له قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} (الكهف: 27)،

{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45). وكذلك الصوم يدعو إلى تقوى الله ومكارم الأخلاق، وعفة اللسان، يقول -صلى الله عليه وسلم: ((الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يفسق، ولا يرفث، ولا يصخب، وإن سابّه أحد أو شاتمه، فليقل: إني امرؤ صائم، إني امرؤ صائم))، ويقول -صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)). والزكاة تدعو إلى مكارم الأخلاق؛ فالمسلم يخرج زكاته ولا يمنّ على الفقير والمسكين؛ فتبطل زكاته، وتضيع صدقته قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 263: 265). والحج يدعو إلى مكارم الأخلاق كسائر عبادات الإسلام، فالحج لا رفث فيه، ولا فسوق، ولا جدال، فالذي يُقبل حجة والذي تظهر عليه أخلاق الحجيج قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 197)، وقال -صلى الله عليه وسلم: ((من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه)) رواه أحمد، والبخاري، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة.

وهكذا كل عبادات الإسلام سُمُوٌّ ورقي بالأخلاق، فالمسلم الحق الذي يقوم بما فرض الله عليه من عبادات تظهر عليه وعلى سلوكياته أخلاق كريمة فاضلة، دعت إليها هذه العبادات، وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله تعالى- في كتابه (خلق المسلم) يقول تحت عنوان أركان الإسلام ومبادئ الأخلاق، جاء ذلك في مقدمة الكتاب يقول: "لقد حدَّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغاية الأولى من بعثته، والمنهاج المبين في دعوته بقوله -صلى الله عليه وسلم: ((إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق))، هذا الحديث رواه الإمام مالك بن أنس في (الموطأ) وغيره". فكأن الرسالة التي خطَّت مجراها في تاريخ الحياة، وبذل صاحبها جهدًا كبيرًا في مدِّ شعاعها وجمع الناس حولها، لا تنشد أكثر من تدعيم فضائلهم، وإنارة آفاق الكمال أمام أعينهم؛ حتى يسعوا إليها على بصيرة، والعبادات التي شُرعت في الإسلام، واعتبرت أركانًا في الإيمان به ليست طقوسًا مبهمة من النوع الذي يربط الإنسان بالغيوب المجهولة، ويكلّفه بأداء أعمال غامضة، وحركات لا معنى لها، كلا، فالفرائض التي ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه، هي تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظلَّ مستمسكًا بهذه الأخلاق مهما تغيرت أمامه الظروف، إنها أشبه بالتمارين الرياضية التي يُقبل الإنسان عليها بشغف ملتمسًا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة، والقرآن الكريم والسنة المطهرة يكشفان بوضوح عن هذه الحقائق. فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها فقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت: 45) فالإبعاد عن الرذائل، والتطهير من سوء القول وسوء العمل هو حقيقة الصلاة، وقد جاء في حديث يرويه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربِّه، رواه الإمام البزار، قال فيه -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه

عن ربه: ((إنما أتقبَّل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي -يعني: لم يتكبر على خلقي- ولم يبت مصرًّا على معصيتي، وقطع النهار في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المصاب)). والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي أولًا غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات، وقد نصَّ القرآن الكريم على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: 103) فتنظيف النفس من أدران النقص، والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى. ومن أجل ذلك وسَّع النبي -صلى الله عليه وسلم- في دلالة كلمة الصدقة التي ينبغي أن يبذلها المسلم فقال: ((تبسُّمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة)) يعني: الرجل الأعمى لما تهديه تكون أنت مبصرًا له هذه صدقة. وهذه التعاليم في البيئة الصحراوية التي عاشت دهورًا على التخاصم والنزق تشير إلى الأهداف التي رسمها الإسلام. وكذلك شرَع الإسلام الصوم، فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة، بل اعتبره خُطوة إلى حرمان النفس دائمًا من شهواتها المحذورة، ونزواتها المنكورة، وإقرارًا لهذا المعنى قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))، وقال -عليه الصلاة والسلام: ((ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك

أحد أو جهل عليك؛ فقل: إني صائم)) رواه ابن خزيمة، والقرآن الكريم يُذكّر المسلم ثمرة الصيام بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183). وقد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة الذي كُلِّف به المستطيع، واعتبر من فرائض الإسلام على بعض أتباعه، يحسب الإنسان هذا السفر رحلة مجردة من المعاني الخلقية، ومثلًا لما قد تحتويه الأديان أحيانًا من تعبُّدات غيبية، وهذا خطأ؛ إذ يقول الله تعالى في الحديث عن هذه الشعيرة: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 197). هذا العرض المجمل لبعض العبادات التي اشتُهر بها الإسلام عُرفت على أنها أركانه الأصيلة، نستبين منه متانة الأواصر التي تربط الدين بالخلق، إنها عبادات متباينة في جوهرها ومظهرها، ولكنها تلتقي عند الغاية التي رسمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) فالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام، هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهر الذي يصون الحياة، ويُعلي شأنها، ولهذه السجايا الكريمة التي ترتبط بها، أو تنشأ عنها أعطيت منزلة كبيرة في دين الله، فإذا لم يستفد المرء منها ما يُزكي قلبه، وينقي لبَّه، ويهذب بالله ومن الناس صلته؛ فقد هوى قال الله -عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} (طه:74: 76).

دعوة الإسلام إلى الأخلاق الكريمة الفاضلة.

دعوة الإسلام إلى الأخلاق الكريمة الفاضلة لقد بيَّنَّا فيما سبق أن الأخلاق تُطلق على ما يتخلَّق به الإنسان، وأن منها المحمود ومنها المذموم، والإسلام دعا إلى الأخلاق الكريمة المحمودة، وحذَّر من الأخلاق المذمومة، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما سبق ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)). وكان -صلى الله عليه وسلم- أجمل الناس خلقًا وخلقًا قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، وقال تعالى واصفًا رسوله بالرحمة وحسن الخلق قال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159)، وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، وحول دعوة الإسلام للأخلاق النبيلة الفاضلة، وأنه جاء بتعاليم سامية تدعو إلى السمو في الأخلاق والتعامل مع الناس من منطلق إيماني، وأخلاق إسلامية فاضلة. يقول شيخنا الغزالي -رحمه الله تعالى- في كتابه (خلق المسلم): يقول تحت عنوان نحو عالم أفضل: "ظهر من هذه التعاليم -يقصد تعاليم الإسلام التي تحدث عنها- أن الإسلام جاء لينتقل بالبشر خُطوات فسيحات إلى حياة مشرقة بالفضائل والآداب، وأنه اعتبر المراحل المؤدّية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته، كما أنه عدَّ الإخلال بهذه الوسائل خروجًا عليه وابتعادًا عنه، فليست الأخلاق من مواد الترف التي يمكن الاستغناء عنها، بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين، ويحترم ذويها". وقد أحصى الإسلام بعدئذٍ الفضائل كلها، وحثَّ أتباعه على التمسك بها واحدة واحدة، ولو جمعنا أقوال صاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم- في التحلِّي بالأخلاق الزكية؛ لخرجنا بسفْر لا يُعرف مثله لعظيم من أئمة الإصلاح".

وقبل أن نذكر تفاصيل هذه الفضائل، وما ورد في كلٍّ منها على حدة، نُثبت طرفًا من دعوته الحارة إلى محامد الأخلاق، ومحاسن الشيم عن أسامة بن شريك قال: ((كنا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنما على رءوسنا الطير ما يتكلم منا متكلم؛ إذ جاء أناس فقالوا: من أحبّ عباد الله إلى الله تعالى؟ قال -عليه الصلاة والسلام: أحسنهم خلقًا))، وفي رواية: ((ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: خلق حسن))، وقال -عليه الصلاة والسلام: ((إن الفُحش والتفَحُش ليسا من الإسلام في شيء، وإن أحسن الناس إسلامًا أحسنهم خلقًا)). وسُئل -صلى الله عليه وسلم: ((أيُّ المؤمنين أكمل إيمانًا؟ قال: أحسنهم خلقًا)) رواه الطبراني، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ألا أخبركم بأحبكم إليَّ، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة، فأعادها مرتين أو ثلاثًا، قالوا: نعم يا رسول الله. قال: أحسنكم خلقًا)) رواه الإمام أحمد، وقال -عليه الصلاة والسلام: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، إن الله يكره الفاحش البذيء، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة)) أخرجه أحمد. هذا التصريح لو صدر عن فيلسوف يشتغل بشئون الإصلاح الخلقي فحسب، لما كان مستغربًا منه، إنما وجه العجب أن يصدر عن مؤسس دين كبير، والأديان عادة ترتكز في حقيقتها الأولى على التعبّد المحض، ونبي الإسلام -عليه الصلاة والسلام- دعا إلى عبادات شتَّى، وأقام دولة ارتكزت على جهاد طويل ضد أعداء كثيرين، فإذا كان مع سعة دينه وتشعُّب نواحي العمل أمام أتباعه يخبرهم بأن أرجح ما في موازينهم يوم الحساب الخلق الحسن، فإن دلالة ذلك على منزلة الخلق في الإسلام لا تخفى.

والحق أن الدين إن كان خلقًا حسنًا بين إنسان وإنسان فهو في طبيعته السماوية صلة حسنة بين الإنسان وربه، وكلا الأمرين يرجع إلى حقيقة واحدة، إن هناك أديانًا تُبشر بأن اعتناق عقيدة ما يمحو الذنوب، وأن أداء طاعة معينة يمسح الخطايا، لكن الإسلام لا يقول هذا، إلا أن تكون العقيدة المعتنقة محورًا لعمل الخير، وأداء الواجب، وأن تكون الطاعة المقترحة غُسلًا من السوء، وإعدادًا للكمال المنشود أي: أنه لا يمحق السيئات إلا الحسنات التي يطَّلع بها الإنسان ويرقى إلى مستوى أفضل، وقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على توكيد هذه المبادئ العادلة حتى تتبينها أمته جيدًا، فلا تهون لديها قيمة الخلق، وترتفع قيمة الطقوس. عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليبلُغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة، وأشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم)) رواه الطبراني. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم))، وفي رواية ((إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجات قائم الليل وصائم النهار)) رواه أبو داود في سننه، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن المسلم المسدَّد -يعني: الموفق- ليُدرك درجة الصُّوَّام القُوَّام بآيات الله بحسن خلقه، وكرم طبيعته)). وبيَّن -صلى الله عليه وسلم- أن كرم المؤمن دينه، مكانته هي الدين، وأن المروءة في العقل، وأنّ الحسب إنما هو في حسن الخلق، فقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عنه أبو هريرة قال -عليه الصلاة والسلام: ((كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه)) رواه الحاكم. وروى أبو ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليمًا، ولسانه صادقًا، ونفسه مطمئنة، وخلقته مستقيمة)) رواه ابن حبان،

وحسن الخلق لا يُؤسَّس في المجتمع بالتعاليم المرسلة، أو الأوامر والنواهي المجردة؛ إذ لا يكفي في طبع النفس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره: افعل كذا أو لا تفعل كذا، فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة، ويتطلب تعهدًا مستمرًّا، ولن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة، فالرجل السيِّئ لا يترك في نفوس من حوله أثرًا طيبًا، وإنما يُتوقع الأثر الطيب ممن تمتدّ العيون إلى شخصه فيروعها أدبه، ويسبيها نبله، وتقتبس بالإعجاب المحض من خلاله، وتمشي بالمحبة الخالصة في آثاره، بل لا بد ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل؛ ليكون في متبوعه قدر أكبر، وقسط أجل. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه مثلًا أعلى في الخلق الذي يدعو إليه، فهو يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامي بسيرته العاطرة قبل أن يغرسه بما يقوله من حِكَم وعظات، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: ((إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا))، وكان يقول: ((خياركم أحاسنكم أخلاقًا))، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: ((خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله ما قال لي: أفٌّ قط، ولا قال لشيء: لما فعلت كذا، وهلَّا فعلت كذا)) رواه البخاري. وعنه -يعني: عن أنس -رضي الله عنه: ((إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت، وكان إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم يُرَ مقدمًا ركبتيه بين يد جليس له)) الحديث رواه الترمذي، يعني: أنه -عليه الصلاة والسلام- يتحفَّظ مع جلسائه فلا يتكبر عليهم. وفي يسره وسهولته -صلى الله عليه وسلم- تُخبر عائشة -رضي الله عنها- عن هذا اليسر فتقول: ((ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان

أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء قط، إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم، وما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى)) أخرجه مسلم. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: ((كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي -يعني: كساء غليظ خشن- فأدركه فأعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضحك، وأمر له بعطاء)) رواه البخاري. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه))، وفي رواية ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه))، وعن جرير -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله -عز وجل- ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق)) الحمق ((وإذا أحب الله عبدًا أعطاه الرفق))، وعن جرير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله -عز وجل- ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق)) أي: الحمق ((وإذا أحبَّ الله عبدًا أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يُحرمون الرفق إلا حُرموا الخير كله))، وسئلت عائشة -رضي الله عنها- ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل في بيته. قالت: ((كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة)) معناه: أنه كان يساعدهم في عمل البيت. وعن عبد الله بن الحارث قال: "ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ فطيم -يعني: صغير- يُسمى أبا عمير، لديه عصفور مريض اسمه النغير، فكان

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُلاطف الطفل الصغير، ويقول له: ((يا أبا عمير ما فعل النغير)) الحديث رواه البخاري. والمعروف في شمائل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه كان سمحًا لا يبخل بشيء أبدًا، شجاعًا لا ينكص عن حق أبدًا، عدلًا لا يجور في حكم أبدًا، صدوقًا أمينًا في أطوار حياته كلها، وقد أمر الله المسلمين أن يقتدوا به في طيب شمائله، وعريك خلاله فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21). قال القاضي عياض: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا قد سبقهم إليه، واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عُريٌ، والسيف في عنقه، وهو يقول: ((لن تُراعوا))، وقال علي -رضي الله عنه: ((إنا كنا إذا حمى البأس واحمرت الحدق، نتقي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما يكون أحد أقرب إلى عدوٍّ منه)). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "ما سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: لا". وقد قالت له خديجة: "إنك تحمل الكلَّ، وتُكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق " وحُمل إليه سبعون ألف درهم، فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسّمها، فما ردَّ سائلًا حتى فرغ منها. "وجاء رجل فسأله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: ((ما عندي شيء، ولكن ابتع عليَّ)) ((فإذا جاءنا شيء قضيناه))، فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه يا رسول الله، فكره النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالًا، فتبسم -صلى الله عليه وسلم- وعُرف البشر في وجهه وقال: ((بهذا أمرت)).

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤلف أصحابه ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر النار ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم يتفقد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردُّه إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواء. وكان دائم البشر، سهل الطبع، لين الجانب، ليس بفظٍّ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحَّاش، ولا عتَّاب، ولا مدَّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه قاصده. وعن عائشة -رضي الله عنها: "ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: لبيك"، وقال جرير بن عبد الله -رضي الله عنه: "ما حجبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم، وكان يُمازح أصحابه، ويخالطهم، ويجاريهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر، والعبد، والأمة، والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عُذر المعتذر". قال أنس: "ما التقم أحد أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني: ناجاه، فينحي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه" أي: هو الذي يبتعد، وما أخذ أحد بيده فيرسل -عليه الصلاة والسلام- يده حتى يرسلها الآخر، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم يُر قط مادًّا رجليه بين أصحابه، فيضيّق بهما على أحد يُكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه ليجلس عليه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى، ويكني أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم؛ تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام".

وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أُتي بهدية قال: اذهبوا بها إلى بيت فلانة، إنها كانت تحب خديجة" هذا من الوفاء، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما غِرت على امرأة ما غرت على خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها -عليه الصلاة والسلام- وإن كان ليذبح الشاة، فيهديها إلى خلائلها -يعني: إلى أصدقائها- واستأذنت عليه أختها، فارتاح إليها، ودخلت عليه امرأة فهشَّ لها، وأحسن السؤال عنها، ولما خرجت قال: ((إنها كانت تأتينا في أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)). وكان -صلى الله عليه وسلم- يصل رحمه من غير أن يؤثرهم على من أفضل منهم، وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: ((لما جاء وفد النجاشي قام النبي -صلى الله عليه وسلم- يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك يا رسول الله. فقال -عليه الصلاة والسلام: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم)). وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: ((خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متوكئًا على عصى، فقمنا له فقال: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يُعظّم بعضهم بعضًا، وقال: إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، وكان يركب الحمار، ويُردف خلفه من يركب معه، ويعود المساكين، ويُجالس الفقراء، ويجلس بين أصحابه مختلطًا بهم حيثما انتهى به المجلس جلس))، "وحج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رحل رثٍّ عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم فقال: ((اللهم حجة لا رياء فيها ولا سُمعة، ولما فتحت عليه مكة ودخلها بجيوش المسلمين طأطأ رأسه على راحلته حتى كاد أن يمسَّ قادمته؛ تواضعًا لله تعالى)). وكان كثير السكوت لا يتكلم في غير حاجة يُعرض عمن تكلم بغير جميل، وكان ضحكه تبسمًا، وكلامه فصلًا لا فضول فيه ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم؛ توقيرًا واقتداء به، مجلسه مجلس حلم، وخير، وأمانة، لا تُرفع فيه

الأصوات، ولا تُخدش فيه الحرم، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير، وإذا مشى مشى مجتمعًا يُعرف في مشيته أنه غير ضاجر ولا كسلان. وقال ابن أبي هالة: كان سكوته على أربع على الحلم والحذر، والتقدير والتفكر. وقالت عائشة -رضي الله عنها: ((كان يُحدث حديثًا لو عدَّه العادُّ أحصاه))، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحب الطيب والرائحة الحسنة، ويستعملها كثيرًا، وقد سيقت إليه الدنيا بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها فأعرض عن زهرتها، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله، ها هي الأخلاق الحميدة الفاضلة الكريمة، التي دعا إليها الإسلام في القرآن الكريم، وعلى لسان النبي المصطفى الكريم، سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 13 الحياء من الإيمان.

الدرس: 13 الحياء من الإيمان.

نماذج من الآداب والأخلاق الإسلامية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (الحياء من الإيمان) نماذج من الآداب والأخلاق الإسلامية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: إن الأخلاق في الإسلام لها منزلة رفيعة عالية، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، والأدب الحسن الرفيع، والخلق الكريم هو أفضل ما يُربّي الوالد ولده عليه، وأحلى، وأحسن، وأجمل ما يُعطي الوالد ولده الأدب الحسن قال -صلى الله عليه وسلم: ((ما نحل -أي: ما أعطى- والد ولده أفضل من أدب حسن)). والآداب الإسلامية كثيرة جمعت منها كُتب السنة الكثير والكثير، وسنذكر بعضها من (مختصر صحيح الإمام البخاري) و (صحيح الإمام مسلم) -رحمهما الله تعالى. ففي كتاب الأدب للإمام البخاري نماذج عديدة من الأخلاق الحميدة التي دعا إليها الإسلام على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها: أحق الناس بالصحبة، وعدم السب، والشتم، وعدم التسبّب في شتم الوالدين، والدعوة إلى صلة الرحم، والرحمة بعباد الله، إلى آخر هذه الموضوعات الموجودة بكتاب (الأدب) للإمام البخاري. واخترنا من (صحيح الإمام مسلم) الأحاديث المتعلقة بالاستئذان وآداب الاستئذان، ولنبدأ بما جاء في (صحيح الإمام البخاري في المختصر) تحت عنوان كتاب الأدب جاءت عدة أبواب في الآداب والأخلاق الإسلامية. الباب الأول: من أحق الناس بحسن الصحبة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم مَن؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم مَن؟ قال: ثم أبوك)).

الباث الثاني: لا يَسُبّ الرجل والديه: عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال سول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إن من أكبر الكبائر أن يَلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبّ الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه))، الحديث الأول ((قال: أمك. قال: ثم مَن؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك.)) كررت الأم أو الوصية بالأم للتأكيد على أن الاهتمام بالأم يكون أكثر؛ لأنها في حاجة إلى العطف والشفقة أكثر من الأب، وتحملت من المتاعب ما لا يتحمّله الأب، ومع ذلك ليس معنى هذا أن الإنسان يَعطِف على أمه بقدر ما يعطف على أبيه ثلاث مرات، وإنما هو مجرد التأكيد على العطف على الأم؛ لأنه جاء في حديث آخر من غير تكرار، عندما سأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال له -عليه الصلاة والسلام: أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك)) يعني: الأقرب فالأقرب. الباب الثالث في كتاب الأدب من (مختصر صحيح الإمام البخاري) تحت عنوان: باب إثم القاطع أي: قاطع الرحم: عن جُبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا يدخل الجنة قاطع))، الباب الذي بعد ذلك في فضل صلة الرحم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الرحم شجنة من الرحمن، فقال الله: من وصلكِ وصلته، ومن قطعكِ قطعته)). الباب الذي بعد ذلك في إثم من لم يأمن جاره بوائقه: يعني: الشرور والأذى، على الجار أن يأمن شر جاره، فالإحسان إلى الجار من الأخلاق والآداب التي دعا إليها الإسلام، عن أبي شريح -رضي الله عنه- قال: ((إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: والله لا يؤمن. قيل: ومَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)) أي: شروره وأذاه، ثم بين -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك أن من علامة الإيمان ألا يؤذي المؤمن جاره، فقال -عليه الصلاة والسلام- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفه،

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) يعني: يسكت، ثم بيَّن -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك أن كل إنسان مطالب بأن يعمل المعروف، وأن المعروف صدقة يتصدق بها على نفسه. عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: كل معروف صدقة، ودعا -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفق والسماحة واللين في كل الأمور، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يُحب الرفق في الأمر كله))، ودعا بعد ذلك -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين إلى أن يتعاونوا، وأن يتكاتفوا، وأن يتحدوا، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشُدُّ بعضه بعضًا، ثم شبَّك بين أصابعه وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسًا إذ جاءه رجل يسأل، أو طالب حاجة أقبل علينا بوجهه فقال: اشفعوا فلتؤجرُوا، وليقض الله على لسان نبيه ما شاء)) يعني: الإنسان يسعى في طلب الخير للناس، وليس عليه أن يُدرك تحقيق المصالح، وأجره على الله -سبحانه وتعالى. ثم جاء حديث بعد ذلك بيَّن بعضًا من الأخلاق الكريمة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان هاشًّا باشًّا في وجوه الناس، ليس فاحشًا ولا متفحشًا، ولا سبابًا ولا صخابًا في الأسواق، تحت باب: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا: روى البخاري بسنده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ((لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- سبابًا، ولا فحاشًا، ولا لعانًا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة -يعني: عندما يعتب عليه لأمر أخطأ فيه- كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما له تَرِب جبينه)) وهي كلمة تقولها العرب من باب الحث على الفعل، أو ترك الفعل، ولا يراد بها حقيقة الدعاء. أما حُسن الخلق والسخاء وما يُكره من البخل فقد حذَّر منه النبي -صلى الله عليه وسلم، دعا إلى حسن الخلق والسخاء، وحذَّر من البُخل، عن جابر -رضي الله عنه- قال: ((ما سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيء قط -يعني: أبدًا- فقال: لا.)) يعني: كان يعطي ولا يقول -صلى الله عليه وسلم: لا.

وعن أنس -رضي الله عنه- قال: ((خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين فما قال لي أفّ، ولا لِمَ صنعت، ولا أَلَا صنعت)). والباب الذي بعد ذلك عنوانه: ما يُنهى عنه من السباب واللعن، عن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدَّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) يعني: من قال لإنسان يا فاسق، أو يا كافر، والذي قيل له هذا الكلام، ورمي بالفسق أو بالكفر لم يكن أهلًا للفسق ولا للكفر؛ عاد الكلام إلى القائل. وعن ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- وكان من أصحاب الشجرة أي: شجرة الرضوان يوم البيعة التي نزل فيها قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح: 18) ثابت هذا راوي هذا الحديث كان من أصحاب الشجرة، قال: ((إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من حلف على ملة غير الإسلام فهو كما قال، وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك، ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا؛ عُذب به يوم القيامة، ومن لعن مؤمنًا فهو كقتله، ومن قذف مؤمنًا بكُفر فهو كقتله)). الباب الذي بعد ذلك: تحذير من النميمة: بيَّن فيه -صلى الله عليه وسلم- أن النمام لا يدخل الجنة، والنمام هو الذي ينقل الحديث بين الناس على وجه الإفساد، أما من ينقل الحديث؛ ليصلح بين الناس فليس بنمَّام، ويسمى النمام بالقتَّات تشبيهًا لمن يجمع القتَّ، عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا يدخل الجنة قتات)) والقتات: هو النمام. وهناك تمادح يدور بين الناس يكرهه الإسلام، وهو أن يمدح الرجل رجلًا بما ليس فيه، أو يمدحه بصفات وإن كانت فيه ستُغريه وتجعله يتكبر على خلق الله، أما إذا

أُمنت الفتنة فلا مانع من التمادح إذا دَعَا إلى خير أكثر، تحت باب ما يُكره من التمادح. روى البخاري بسنده عن أبي بكرة -رضي الله عنه- أنّ رجلًا ذُكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأثنى عليه رجل خيرًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((ويحك)) وهي كلمة تقال للزجر ((ويحك قطعت عنق صاحبك)) أي: تسببت في فتنته يقوله مرارًا، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: ((إن كان أحدكم مادحًا لا محالة)) يعني: مصر على أن يمدح الناس ((فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يُرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحدًا))، ثم بعد ذلك جاء حديث ينهي المسلم عن التحاسد والتدابر، والحسد هو تمني زوال نعمة الغير، والتدابر هو التنافر، فجاء الحديث بعد ذلك؛ ليُحذّر المسلمين من البغضاء، ومن الحسد، ومن التدابر، ودعاهم إلى أن يكونوا إخوانًا في الله متحابين، وبيَّن أنه لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، ونهى عن التجس، ونهى عن التناجش، وهو الخداع في البيع والشراء، عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إيَّاكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)). ثم بيَّن الحديث الذي بعد ذلك أن هناك ظن يجوز، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((ما أظن فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا))، وفي رواية ((يعرفان ديننا الذي نحن عليه))، ثم بعد ذلك دعت الأحاديث إلى ستر المؤمن على نفسه إذا ابتُلي بالمعاصي، فليداري نفسه ولا يتحدث بها، وأمره إلى الله -سبحانه وتعالى. أما

المجاهرون بالمعاصي، والذين يفعلون الذنوب والخطايا لا يراهم أحد، ثم بعد ذلك يتحدَّثون عنها، ويظهرونها للناس، ويُفشونها، أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم مجاهرون، والله -سبحانه وتعالى- يغفر لكل مذنب ومذنبة إلا المجاهرين؛ لأنهم تجرءوا على حُرمة الله وعلى ستر الله. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجانة -أي: المجاهرة- أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يُصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)) رواه البخاري برقم 6069. والباب الذي بعد ذلك باب الهجرة، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث))، عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يَحِلُّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ يلتقيان، فيُعرض هذا، ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)). الباب الذي بعد ذلك: دعوة إلى الصدق: فإن الصدق خلق كريم دعا إليه الرسول الكريم، ودعا إليه القرآن الكريم في كثير من آيات الذكر الحكيم تحت باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) جاء ذلك الحديث عن عبد الله أي: ابن مسعود -رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا))، ثم هناك الصبر على الأذى أو الصبر في الأذى، فعلى المسلم إذا ابتُلي أن يصبر ويعلم أن أجر الصابرين كبير، ويكفي أن الحق -سبحانه وتعالى- قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10).

تحت باب الصبر في الأذى: عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس أحد، أو ليس شيء أصبر على أذًى سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدًا، وإنه ليُعافيهم ويرزقهم))، الحق -سبحانه وتعالى- يدَّعي بعضُ الناس أن له ولدًا، ومع ذلك يرزقهم ويعافيهم من البلاء والأمراض، هل هناك صبر بعد ذلك. ثم جاء باب: الحذر من الغضب: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) يعني: ليس الشديد هو الذي يصرع الناس ويغلبهم، وإنما الشديد في الحق، الشديد حقًّا هو الذي يملك نفسه عند الغضب، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضًا أن رجلًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: ((أوصني. قال: لا تغضب. فردَّد مرارًا. قال: لا تغضب)). ثم بعد ذلك جاء باب الحياء: والحياء خلق كريم لا يأتي إلا بخير، قال ذلك المصطفى -صلى الله عليه وسلم. فتحت عنوان باب الحياء روى البخاري بسنده عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)). الباب الذي بعد ذلك: باب إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت: عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) يعني: هذا خلق كريم دعت إليه كل الشرائع السماوية أي: الحياء. وبعد أن انتهينا مما جاء في (مختصر صحيح الإمام البخاري) في كتاب الأدب من الأخلاق الكريمة الفاضلة، والآداب الحسنة التي دعا إليها الإسلام، نذكر ما جاء في كتاب الآداب في (صحيح مسلم) في باب الاستئذان، وما يتعلق به من آداب، فتحت عنوان باب الاستئذان روى الإمام مسلم بسنده، عن بُسر بن سعيد، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: "كنت جالسًا بالمدينة في مجلس الأنصار،

فأتانا أبو موسى فَزِعًا أو مذعورًا، قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر -أي: ابن الخطاب وكان أميرًا للمؤمنين يومها- أرسل إليَّ أن آتيه فأتيت بابه فسلمت ثلاثًا، فلم يردّ عليَّ، فرجعت، فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيتك فسلمت على بابك ثلاثًا فلم يردُّوا علي فرجعت، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يُؤذن له، فليرجع)) فقال عمر: أقم عليه البينة، وإلا أوجعتك، أي: أقم البينة على أنك سمعت هذا الحديث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال أُبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد قلت: أنا أصغر القوم، قال فاذهب به: فذهب أبو سعيد إلى سيدنا عمر، وشهد أنه سمع ذلك الحديث أيضًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم". والحديث الذي بعد ذلك هو نفس الحديث، وزاد ابن أبي عمر في حديثه قال: أبو سعيد "فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت". وبسنده أيضًا أن بسر بن سعيد سمع أبا سعيد الخدري يقول: "كنا في مجلس عند أُبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مغضبًا حتى وقف فقال: أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الاستئذان ثلاث؛ فإن أُذن لك وإلا فارجع)) قال أُبي: وما ذاك؟ قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات، فلم يؤذن لي، فرجعت، ثم جئته اليوم فدخلت عليه؛ فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثًا ثم انصرفت، قال: قد سمعناك ونحن حينئذٍ على شغل، فلوما استأذنت حتى يُؤذن لك، قال: استأذنت كما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: فوالله لأوجعنَّ ظهرك وبطنك، أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا، فقال أُبي: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنًّا أي: أصغرنا، قم يا أبا سعيد، فقمت حتى أتيت عمر فقلت: قد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا".

أدب الاستئذان في الدخول على البيوت يكون ثلاثًا، وهنا شيء آخر في هذا الحديث حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لا يزيد فيه أحد. نفس الحديث برواية أخرى رواه مسلم بسنده، عن أبي سعيد أن أبا موسى أتى باب عمر فاستأذن فقال: "عمر واحدة، ثم استأذن الثانية، فقال عمر: ثنتان، ثم استأذن الثالثة؛ فقال عمر: ثلاث، ثم انصرف، فأتبعه فردَّه فقال: "إن كان هذا حفظته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فها أي: قل، وإلا فلأجعلنك عظة"، قال أبو سعيد: فأتانا -يعني: أبو موسى- فقال: ألم تعلموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الاستئذان ثلاث)) قال: فجعلوا يضحكون، قال: فقلت: أتاكم أخوكم المسلم قد أُفزع تضحكون، انطلق فأنا شريكك في هذه العقوبة، فأتاه فقال: هذا أبو سعيد". وروى مُسلم أيضًا بسنده عن أبي سعيد -رضي الله عنه- وعن أبي ندرة قالا الاثنان؛ أبو سعيد وأبو ندرة: "هذا الحديث بنفس المعنى"، وروى مسلم بسنده عن عبيد بن عميرة، أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثًا، فكأنه وجده مشغولًا فرجع، فقال عمر: ألم تسمع صوت عبد الله بن قيس، وهو أبو موسى الأشعري اسمه عبد الله بن قيس، ائذنوا له، فدُعي له، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنا كنا نُؤمر بهذا -والصحابي إذا قال كنا نؤمر يكون ذلك حديثًا؛ لأنه لا يأمر الصحابي إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عمر: لتُقيمنَّ على هذا بينة، أو لأفعلنَّ -تهديد- فخرج، فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا فقام أبو سعيد فقال: كنا نؤمر بهذا، فقال عمر: خفي عليّ هذا من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألهاني عنه الصفق بالأسواق، يعني: سيدنا عمر حزن على ما فاته من الأحاديث بسبب التجارة التي كان يعمل بها.

وروى مسلم بسنده عن أبي بُردة، عن أبي موسى الأشعري -وأبو بردة ابن سيدنا أبو موسى الأشعري يعني: يروي هذا الحديث عن أبيه- قال: "جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام عليكم، هذا عبد الله بن قيس فلم يأذن له، فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى السلام عليكم، هذا الأشعري، ثم انصرف، فقال -أي: عمر بن الخطاب: ردُّوا عليَّ، ردُّوا عليَّ، فجاء فقال: يا أبا موسى، ما ردَّك كنا في شغل، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الاستئذان ثلاث، فإن أُذن لك وإلا فارجع)) قال عمر: لتأيتني على هذا ببينة، وإلا فعلت وفعلت، فذهب أبو موسى، قال عمر: إن وجد بينة يعني: إن وجد أبو موسى بينة تجدوه عند المنبر عشية، يعني: في صلاة المغرب والعشاء تجدوه، وإن لم يجد بينة فلن تجدوه، فلمَّا أن جاء بالعشي وجدوه، قال أبا موسى: ما تقول أقد وجدت؟ قال: نعم. أُبي بن كعب، قال: عدل، قال: يا أبا الطفيل، ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك يا ابن الخطاب، فلا تكوننَّ عذابًا على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبت". انظر إلى عظمة الصحابة أُبي بن كعب يشهد مع أبي موسى، ويطلب من عمر بن الخطاب أن يكون رفيقًا رحيمًا بالصحابة، وألا يكون عذابًا على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فعمر استبعد أن يكون عذابًا على أمة المصطفى، وقال: "سبحان الله إني سمعت شيئًا، فأحببت أن أتثبت منه". وروى الإمام مسلم بسنده أيضًا هذا الحديث غير أنه قال: "فقال: يا أبا المنذر -وهو أُبي بن كعب- أأنت سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، فلا تكن يا ابن الخطاب عذابًا على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر من قول عمر سبحان والله، وما بعده".

ثم جاء باب آخر في كراهة قول المستأذن أنا، إذا قيل من هذا: أي: الذين يذهبون إلى البيوت ويستأذنون عليها، الذين يكونون في الداخل يقولون: من بالباب، أو من بالخارج؟ فيقول أنا، المفروض والمطلوب أن يقول: أنا فلان حتى يعرفه من بالداخل، وهذا ما حدث مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما جاء زائر، وطرق الباب فقال -صلى الله عليه وسلم: من؟ فقال: أنا فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كالكاره لذلك الأمر، ويقول: ((ومن أنا؟)). روى مسلم في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: ((أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فدعوت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قلت: أنا. قال: فخرج وهو يقول: أنا أنا)) أي: كأنه كره هذا -صلى الله عليه وسلم. وبسنده أيضًا عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: ((استأذنت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من هذا؟ فقلت: أنا. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: أنا أنا))، ثم جاء بعد ذلك التصريح بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكره هذا الأمر، فروى مسلم بسنده هذا الحديث بهذا الإسناد، وفي حديثهم ((كأنه كره ذلك)). ثم جاء باب بعد ذلك يُحرم النظر في بيت الغير، روى مسلم بسنده عن ابن شهاب، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن رجلًا اطلع في جحر في باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني: كوّة، فتحة من الباب، ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدرًا يعني: مشطًا يحكُّ به رأسه، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو أعلم أنك تنظرني لطعنتُ به في عينك، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: إنما جُعل الإذن من أجل البصر)). وبسنده أن رجلًا اطلع من جحر في باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِدرًا يُرجِّل به رأسه فقال له رسول -صلى الله عليه وسلم: ((لو أعلم أنك تنظر طعنت به في عينك، إنما جعل الله الإذن من أجل البصر))، وروى مسلم أيضًا بسنده عن أنس بن

الحياء من الإيمان.

مالك -رضي الله عنه- ((أن رجلًا اطَّلع من بعض حُجر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام إليه بمشقص أو مشاقص، فكأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَخْتِلْهُ ليطعنه))، هذه الرواية من رواية سيدنا أنس بن مالك. وقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي بعد ذلك: ((من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم؛ فقد حلَّ لهم أن يفقئوا عينه))، وبسنده أي: روى مسلم بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو أن رجلًا اطلع عليك بغير إذن، فقذفته بحصاة ففقأت عينه؛ ما كان عليك من جُناح)) يعني: لا إثم عليك في ذلك، ولكن قد تكون هناك نظرة مفاجئة على المسلم أن يصرف نظره، ولا شيء عليه بعد ذلك. روى مسلم بسنده عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: ((سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نظر الفُجاءة، فأمرني أن أصرف بصري)) يعني: أمرني بصرف البصر. الحياء من الإيمان نموذج هام من نماذج الأخلاق الإيمانية في جميع الرسالات السماوية، دعا إليه كل الرسل، ونادت به كل الأنبياء. وعندما تحدثنا في عن ثمار الإيمان ذكرنا أن الحياء ثمرة من ثمار الإيمان، ولا بأس أن نتحدث عن الحياء هنا بالتفصيل؛ حيث إنه خلق هام من الأخلاق الإسلامية التي نادت بها كل الرسل، ودعت إليها كل الشرائع السماوية، فأقول -وبالله التوفيق-: الأخلاق الكريمة الفاضلة واحدة في كل الشرائع، ونادت بها كل الرسالات، ودعا إليها جميع الرسل قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13)، وفي ذلك أيضًا يقول الحق -سبحانه وتعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9).

والحياء خلق من الأخلاق النبيلة الفاضلة التي نادت بها كل الرسالات، وجاء الإسلام فأكَّد عليها؛ بل إن الحياء كان من أبرز الأخلاق التي تخلَّق بها الرسل جميعًا، لا سيما سيِّد الخلق وأشرف الرسل، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- والذي عُرف عنه بأنه كان أشدَّ حياء من العذراء في خُدرها -صلى الله عليه وسلم. والحياءُ عَرّفه علماء اللغة بأنه تغيير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يُعاب به، أو يُذمّ عليه، وعند علماء الشرع الحياء خُلق يبعث على اجتناب القبائح، والتخلي عن الرذائل، ويمنع صاحبه من التقصير في حق ذي الحق، وعلى ذلك فالذي يتخلَّق بخلق الحياء تراه يبتعد كل البعد عن المعايب، ولا يبدر منه القبيح، وإنما يستحي من نفسه من الناس ومن الله تعالى، ولهذا كان الحياء خصلة من خصال الإيمان العظيمة، وشعبة من شعبه الكريمة. روى البخاري بسنده عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الإيمانُ بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان))، ((الإيمان بضع وستون شعبة، وأعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) في رواية أخرى، فهذا الحديث الشريف جعل الحياء واحدًا من شعب الإيمان، بل جعله من أهمها؛ إذ نبَّه عليه دون باقي الشعب في الرواية الأولى، وذلك لأهميته ولمكانته، وفي الرواية الثانية ذكره مقرونًا بكلمة التوحيد، وإزالة الأذى عن طريق المسلمين، فقال فيها: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق))، ثم قال: ((والحياء شعبة من الإيمان)). وما كان هذا الاقتران إلا لتلك المكانة العالية لخلق الحياء، ولقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الحياء خير كله))، وأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الحياء لا يأتي إلا بخير))، وفي رواية للبخاري ومسلم عن عبد بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول

الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((دعه فإن الحياء من الإيمان))، في رواية ((دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير))، وفي رواية ثالثة ((دعه فإن الحياء خير كله)). وإن من المشاهد والمجرب أن الحياء يمنع صاحبه المتخلق به من ارتكاب القبائح، والمنكرات، ويجعله بعيدًا كل البعد عن كل ما يُعيب الإنسان، وحين ينعدم الحياء؛ فإنه يهون على الإنسان أن يفعل المنكرات، ويستهين بالقبائح، ويفعل ما يشاء؛ لأن الذي لا حياء له يكون مستهترًا بالناس، غير مبالٍ بهم، ولا يهتم بما يقال فيه، أو عليه، أو عنه، فهو إنسان متبلّد المشاعر ميت الأحاسيس، وكأنه بهيمة تأكل ما تشاء وترتع أينما شاءت، وتفعل ما تشاء، بل ترى عديم خلق الحياء يُفاخر بالمعاصي، ويتباهي بالمجون، وبفعل القبائح، يُسبل الله عليه ستره، فيكشف ستر الله عليه، وينادي: يا فلان يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، غير مبالٍ بالناس، ولا بمشاعر الناس، وهذا العمل وهذا المجون والمجاهرة بالإثم والمعاصي؛ إنما سببه فقدان الحياء من الله تعالى ومن الناس، وهذا العمل لا يغفره الله تعالى؛ لأن الله تعالى وكما أخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- بأنه تعالى يغفر لكل المذنبين إلا المجاهرين بمعاصيهم، لفقدهم الحياء يسترهم الله فيفضحون أنفسهم، ويفضحون الناس. ومن هنا قال -صلى الله عليه وسلم: ((إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت))، وبيَّن -صلى الله عليه وسلم- أن هذا الكلام ميراث من مواريث النبوة الأولى، وأنه من كلام الأنبياء السابقين، ومما أوحى الله به إليهم؛ إذ يقول -صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت))، إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قضى بأن الإيمان والحياء قُرناء، فإذا غاب أحدهما غاب الآخر، وإذا سُلب أحدهما سُلب الآخر، روى الإمام البيهقي

بسنده في (شعب الإيمان) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الحياء والإيمان قُرناء جميعًا، فإذا رُفع أحدهما رفع الآخر))، وفي رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ((فإذا سُلب أحدهما تبعه الآخر)). فالحياءُ خُلقٌ نبيل دعا إليه الإسلام ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما دعت إليه كل الشرائع وكل الرسل، لقد جاءت أحاديث كثيرة عن سيد الخلق سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- تُبيّن قيمة هذا الخلق الكريم، خلق الحياء. روى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)) وما كان الأمر كذلك إلا لأن الحياء يمنع صاحبه من الوقوع في الفواحش، ويُبعده عن الرذائل، وكل ما يخدش الحياء، أما الجفاء فإنه يهوِّن على الإنسان أن يكون فاحشًا وبذيئًا، وصخابًا، وشتامًا، وعيابًا، والله -سبحانه وتعالى- يبغض الفُحشَ والتفاحش، ويبغض الفاحش البذيء، والحياء خُلق من أخلاق الإيمان الحسنة، بل هو من أوائل هذه الخلق. وأثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة إنما هو الخلق الحسن، روى الإمام الترمذي بسنده عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) يقول الشيخ عبد الرحمن حسن في كتابه (الأخلاق الإسلامية): "إن الحياء يحجز المرء عن الفواحش، ويجعله يتستَّر بها إذا هو كَبَا في شيء من أوحالها، ويجعله بعيدًا عن فحش القول والبذاءة، والحياء يدفع المرء إلى التحلي بكل جميل محبوب، والتخلي عن كل قبيح مكروه، والجمال من الكمال، والقبح من النقصان، وجمال الخصال، والأفعال أسمى من جمال الرسوم والأشكال، بكل ذلك حثَّ الإسلام على التحلِّي بخلق الحياء، والبعد عن كل وقاحة ومجانة، وفحش وبذاء".

أقول: من أجل ذلك جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحياء خلق الإسلام؛ لأنه أساس لكل الفضائل ورادعًا وزاجرًا عن كل الرذائل، روى ابن ماجة في سننه، والبيهقي في (شعب الإيمان) عن أنس وابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن لكل دين خلقًا، وخلق الإسلام الحياء))، ورواه أيضًا مالك مرسلًا عن زيد بن طلحة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ولقد سبق أن ذكرت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أشدَّ حياء من العذارء في خدرها، وأنه وُصف في الكتب السابقة بأنه ليس بفاحش ولا بذيء، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يدفع السيئة بالحسنة، ويعفو، ويصفح، وهل هذا كله إلا من الحياء، لقد وصل من حيائه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يغتسل مع نسائه في إناء واحد، ومن إناء واحد، ولا يرى من امرأته شيئًا، ونساؤه -صلى الله عليه وسلم- لحيائهنَّ لا يرين منه شيئًا، قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها: ((كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد، فما رأيت منه -صلوات الله وسلامه عليه- ولا رأى مني)) تريد العورة. وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: ((كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشدّ حياء من العذارء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه)) يظهر على وجهه الشيء الذي يكرهه، هذا هو الحياء، ولقد بين -صلى الله عليه وسلم- أن الحياء صفة من صفات الله -عز وجل؛ فخليق بكل مسلم أن يتخلق بهذا الخلق الذي هو من أخلاق الله تعالى، فلقد بيَّن -صلى الله عليه وسلم- أن الله كريم جواد، يعطي الليل والنهار، إذا رفع العبد يديه إليه سائلًا شيئًا من عطاياه يستحي الحق -سبحانه وتعالى- أن يردَّ يده خائبة، بل يعطيه الحق -سبحانه وتعالى- من فضله. روى الترمذي، وأبو داود، والبيهقي في الدعوات الكبير، عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم حييٌّ كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردَّهما صفرًا)) أي: خاويتين أي: خاليتين، إن هذا الخلق الجميل، ألا

وهو خلق الحياء الذي هو من صفات ذي الجلال -سبحانه وتعالى- والذي يجعل الحق يغفر الذنوب لكبار السن، الذين شابوا في الإسلام؛ إذ جاء في بعض الأحاديث: ((أن الله تعالى يستحيي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام))، وهو نفس المعنى الذي ورد في (الحلية) لأبي نعيم الأصفهاني، عن علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله يحب أبناء السبعين، ويستحيي من أبناء الثمانين)) قال السيوطي: هذا حديث حسن. إن هذا الحياء، وهذا الخلق النبيل جعل الإمام عليًّا كرم الله وجهه لا يسجد لصنم، ولا يرى عورة قط، حتى عورة نفسه، والحياء أيضًا هو الخلق النبيل الذي جعل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الخليفة الثالث الراشد لا يمس، ولا يقترب من ذكره، أي: من فرجه بيده اليمنى؛ حياء من الله تعالى، إذ اليمين علامة كل خير، والله تعالى يحب التيامن في كل شيء. يقول عثمان بن عفان -رضي الله عنه: "والله ما مَسَسْت ذكري بيميني منذ أسلمت، ولكن علينا جميعًا أن نفهم بأن الحياء الحق لا يمنع من قول الحق، ولا فعل الحق، ولا تعلم الخير، ولا قول الخير، فإن الحياء إذا منع من قول الحق، أو فعل الحق، أو قول الخير، أو تعلم الخير لا يكون حياء محمودًا، وإنما يكون خجلًا وكسوفًا ممقوتًا، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (البقرة: 26)، وقال تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} (الأحزاب: 53). هذا وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 14 الوفاء بالعهد، وحفظ السر.

الدرس: 14 الوفاء بالعهد، وحفظ السر.

الوفاء بالعهد

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (الوفاء بالعهد، وحفظ السر) الوفاء بالعهد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: إن الوفاء هو الأداء بالكمال والتمام، والعهد والذمة واليمين والوعد والتعاقد؛ فالإسلام يطلب من كل مسلم أن يؤدي ما عاهد عليه، وأن يقوم بما تعاهد به فيوفيه، ويؤديه كاملًا غير منقوص؛ فلا يخون العهد ولا يغدر، وإنما يقوم بالوفاء بالعهد وفاء كاملًا يقول ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث): وفى فيه "إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم خيرها"، أي: تمت العدة بكم سبعين، يقال: وفى الشيء ووفى إذا تم وكمل ومنه الحديث: ((فمررت بقوم تقرض شفاههم، كلما قرضت وفت))، أي: تمت وطالت، ومنه الحديث: ((أوفى الله ذمتك)) أي: أتمها ووفت ذمتك أي تمت، واستوفيت حقي أخذته تامًّا ومنه الحديث: ((ألست تنتجها وافية أعينها وآذانها)). وفي حديث زيد بن أرقم: "وفت أذنك، وصدَّقَ اللهُ حديثك"، كأنه جعل أذنه في السماع كالضامنة، بتصديق ما حكت، فلما نزل القرآن في تحقيق ذلك الخبر صارت الأذن كلها وافيةً بضمانها خارجة من التهمة فيما أدته إلى اللسان، وفي رواية: "أوفى الله بأذنه" أي: أظهر صدقه في إخباره عما سمعت أذنُهُ، يقال: وفى بالشيء، وأوفى، ووفَّى بمعنىً واحد. وتحت مادة عَهِدَ في باب العين مع الهاء: يقول ابن الأثير أيضًا في كتابه (النهاية) في حديث الدعاء: ((وأنا على عهدك ووعدِكَ ما استطعْتُ)) أي: أنا مقيم على ما عاهدتك عليه من الإيمان بك، والإقرار بوحدانيتك، لا أزول عنه، واستثنى بقوله: ((ما استطعت)) موضع القدر السابق في أمره، أي: إن كان قد جرى

القضاء أن أنقض العهد يومًا ما؛ فإني أخلد عند ذلك إلى التنصل والاعتذار؛ لعدم الاستطاعة في دفع ما قضيتَهُ علي. وقيل: معناه إني متمسك بما عهدته إلي من أمرك ونهيك، ونيل العذر في الوفاء به قدر الوسع والطاقة، وإن كنتُ لا أقدر أن أبلغَ كنْهَ الواجب فيه، وفيه: ((ولا يقتل مؤمنٌ بكافر، ولا ذو عهدٍ في عهدِهِ)) أي: ولا ذو ذمة في ذمته، ((ولا مشرك أعطي أمانًا فدخل دار الإسلام، فلا يقتل حتى يعود إلى مأمنه)). ولهذا الحديث تأويلان بمقتضى مذهب الشافعي وأبي حنيفة، أما الشافعي فقال: لا يقتل المسلم بالكافر مطلقًا، معاهدًا كان الكافر، أو كان غير معاهد، حربيًّا كان أو ذميًّا، مشركًا كان أو كتابيًّا؛ فأجرى اللفظَ على ظاهره، ولم يضمر له شيئًا؛ فكأنه نهى عن قتل المسلم بالكافر، وعن قتل المعاهد. وفائدة ذكره بعد قوله: ((لا يقتل مسلم بكافر)) لئلا يتوهم متوهم أنه قد نفي عنه القَوَدُ بقتله الكافر، فيظن أن المعاهد لو قتله كان حكمه كذلك قال: ((ولا ذو عهد في عهده)) ويكون الكلام معطوفًا على ما قبله منتظمًا في سلكه من غير تقدير شيء محذوف. وأما أبو حنيفة: فإنه خصص الكافر في الحديث بالحربي دون الذمي، وهو بخلاف الإطلاق؛ لأن من مذهبه: أن المسلم يقتل بالذمي، فاحتاج أن يضمر في الكلام شيئًا مقدرًا، ويجعل فيه تقديمًا وتأخيرًا؛ فيكون التقدير: لا يقتل مسلمٌ ولا ذُو عهدِ في عهدِهِ بكافر، أي: لا يقتل مسلم، ولا كافر معاهد بكافر؛ فإن الكافر قد يكون معاهدًا وغير معاهد، وفيه: ((من قتل معاهدًا -أو معاهدًا- لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا)) يجوز أن يكون بكسر الهاء، وفتحها على الفاعل والمفعول، وهو في الحديث بالفتح أشهر وأكثر، والمعاهد من كان بينك وبينه

عهد، وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب مدةً ما. ومنه الحديث: ((لا يحِلّ لَكُم كَذَا وكذا، ولا لقطة معاهد)) أي: لا يجوز أن يتملك لقطتُهُ الموجودةُ من ماله؛ لأنه معصومُ المال، يجري حكمه مجرى حكم الذمي. وقد تكرر ذكر العهد في الحديث، ويكون بمعنى اليمين والأمان، والذمة، والحفاظ، ورعاية الحرمة، والوصية، ولا تخرج الأحاديث الواردة فيه عن أحد هذه المعاني، ومنه: ((حسن العهد من الإيمان)) يريد الحفاظ، ورعاية الحرمة. والوفاءُ بالعهد خُلُقٌ جميل من الأخلاق التي نادى بها الإسلام، ودعا إليها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه الكثيرة فما أكثر ما تحدث -صلى الله عليه وسلم- عن الأخلاق الكريمة الفاضلة، ولقد بَيَّنَ -صلى الله عليه وسلم-: ((أنه ليس هناك شيء في الميزان يوم القيامة أثقل من حسن الخلق)). وقبل أن نتكلم عن الوفاء بالعهد نذكر ما كتبه الأستاذ حسن عبد الرحمن حسن حنبكه الميداني في كتابه (الأخلاق الإسلامية وأسسها) قال تحت عنوان: "تمجيد الإسلام للخلق الحسن، وحثه عليه": ولما كانت ثمرات الخلق القويم للسلوك الديني، وللسلوك الشخصي عظيمة جدًّا، وكان لدى المقارنة أجل الثمرات التي تحققها المبالغة في أداءِ كثيرٍ من العبادات الخاصة المحضة، ولما كانت سلامة النفس من المساوئ الخلقية أهم من سلامة السلوك الظاهر من طائفة من المعاصي، والذنوب الظاهرة، وكان ما يتحقق بحسن الخلق من رضوان الله تعالى أكثر مما يتحقق بالاستكثار من نوافل العبادات المحضة كالصلاة، والصيام، والأذكار اللسانية، لما كان كل ذلك؛ وجدنا النصوص الإسلامية توجِّهُ الاهتمام العظيم والعناية الكبرى لقيمة حسن الخلق في الإسلام، وتذكر الخلق الحسن بتمجيد كبير فمنها النصوص التالية:

أولًا: روى الترمذي بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهُم خلقًا وخيارُكُم خياركُم لنسائهم)) وفي حديث عمرو بن عبسة: أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أيُّ الإيمان أفضل؟ قال: حسن الخلق)) رواه أحمد. فربط الرسول -صلى الله عليه وسلم- الارتقاء في مراتبِ الكمالِ الإيماني بالارتقاء في درجات حُسْنِ الخُلُق؛ وذلك لأن السلوك الأخلاقي النابع من المنابع الأساسية للخلق النفسي في الإنسان موصول هو والإيمان وظواهره، وآثاره في السلوك ببواعثَ نفسيةٍ واحدةٍ؛ فصدق العبادة لله تعالى أخلاقي كريم؛ لأنه وفاء بحق الله على عبيده، وحسن المعاملة مع الناس وفاء بحقوق الناس المادية والأدبية، فهي بهذا الاعتبار من الأعمال الأخلاقية الكريمة، فإذا تعمقنا أكثرَ من ذلك؛ فكشفنا أن الإيمان إذعان للحق، واعتراف به؛ رأينا أن الإيمان أيضًا هو عمل أخلاقي كريم بخلاف الكفر بالحق فهو دناءة خلقية. فإذا ضممنا هذه المفاهيم إلى المفهوم الإسلامي العام الذي يوضح لنا أن كل أنواع السلوك الإنساني الفاضل فروع من فروع الإسلام والإسلام التطبيقي آثار للإيمان وثمرات عملية له إذا جمعنا كل هذه المفاهيم وجدنا أن أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأحسن الناس خلقًا لا بد أن يكون أصدقهم حديثًا، لا بد أن يكون أصدقهم إيمانًا، وأخلصهم نية، وأكثرهم التزامًا بما يجب على العباد نحو ربهم من عبادة، وحسن توجه له وصلة به، وأكثرهم التزامًا بحقوق الناس المادية والأدبية. ومن المستبعد جدًّا أن يكون الإنسان ذا خلق كريم مع الناس محبًّا للحق معطاءً متواضعًا صبورًا عليهم رحيمًا بهم، ودودًا لهم، متسامح النفس معهم، ثم لا

يكون ذا خلقٍ كريمٍ مع ربِّهِ؛ فلا يؤمن بحق ربوبيته، وألوهيته ولا يذعن له بذلك، ولا يؤدي واجب العبادة له كما أنه ليس من المعقول أن يكون ذا خلق كريم مع الناس وهو يأكل حقوقهم ويعتدي عليهم، ويتجاوز حدود الواجب الأدبي الذي توصي به الآداب الاجتماعية الإسلامية؛ فهذا مناف لما توحيه فضائل الأخلاق لو كان حقًّا ذا خلق كريم. فالأسس الأخلاقية، والأسس الإيمانية ذات أصول نفسية واحدة، وإن كانت بعض التطبيقات العملية التي يطالب بها الإسلام المستند إلى الإيمان قد لا تستدعيها الأسس الأخلاقية وحدها، منفصلة عن الإيمان فلا يظهر بذلك ارتباطها بها، فهي أحكام شرعية يقتضي الإيمانُ العملَ بها؛ نظرًا إلى أنها أوامر ربانية، والأوامر الربانية توجب الأسس الأخلاقية طاعتها، بوصف كونها طاعةً لمن تجب طاعته، لا يوصف كون المطلوب بِهَا ظاهرة لأساسٍ خلقي؛ فحينما يأمرنا الله تعالى بعبادَةٍ خاصة على وجه مخصوص كصلاة ركعات معينة محددة بصفات خاصة، وشروط خاصة، فليس من اللازم أن تكون هذه الصلاة بصفاتها الخاصة ظاهرة من ظواهر السلوك الأخلاقي وذات صلة مبشرة بالأسس الأخلاقية العامة إذ لله تعالى أن يختار لعبادته أي عمل من الأعمال، وعلى أي شكلٍ من الأشكال، سواء أكان ذلك مما يتصل بالأسس الأخلاقية العامة، أو لا يتصل بها. ومع ذلك نقول: إنّ الفضيلة الخلقية توجب القيام بهذه الطاعة من جهة أن الله تعالى أمر بها؛ إذ الفضيلة الخلقية توجب طاعة الله؛ لأنه الخالق المنعم المالك ونظير هذا نقول في طاعة الوالدين وبرهما، وفي طاعة أولي الأمر من المسلمين المؤمنين وهكذا.

أما قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: ((وخياركم خياركم لنسائهم)) فيكشف الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه أدقَّ الموازين والكواشف التي تكشف عن حقيقة خَلْقِ الإنسان، فأحسن الناس خلقًا في المعاملة، ومعاشرة النساء هم أحسنهم خلقًا؛ فهم بسبب ذلك خيارهم؛ لأن خير الناس هم أحسنهم خلقًا. ومن المعروف: أن الإنسان قادر على أن يتصنع التظاهر بمكارم الأخلاق وفضائل السلوك إلى فترة معينة، ومع بعض الناس، أما أن يتصنع ذلك في كل الأوقات، ومع كل الناس؛ فذلك من غير الممكن ما لم يكن فعلًا ذا خلق كريم. والمحَكُّ الذي يمتحن فيه الإنسان امتحانًا صحيحًا ودقيقًا لمعرفة حقيقة خلقه الثابت هو المجتمع، الذي تكون عليه سلطة ما وله معه معاشرة دائمة ومعاملة مادية وأدبية؛ فإرادة التصنع تضعف حينما يشعر الإنسان بأن له سلطة ونفوذ، ثم تشتد ضعفًا حينما تطول معاشرته لمن له عليه سلطة، ثم تتلاشى هذه الإرادة حينما تتدخل المعاملة المادية والأدبية؛ فإذا ظل الإنسان محافظًا على كماله الخلقي في مجتمع له عليه سلطة، وله معه معاشرة دائمة، ومعاملة مادية وأدبية؛ فذلك هو من خيار الناس أخلاقًا. وأبرز أمثلة هذا المجتمع الذي تتوافر فيه هذه الشروط هو مجتمع أسرة الإنسان، وما له من سلطان فيه على نسائه، وهن الضعيفات بالنسبة إليه يضاف إلى ذلك أن النساء قد تبدو منهن تصرفات، أو مطالب تخرج الحليم عن حلمه، والرصين عن رصانته والسمح عن سماحته، والصدوق عن التزام الصدق، فإذا ثبت الإنسان على خلقه الفاضل، رغم وطأة محرجاتهن التي يتبعن فيها أهواءهن؛ فإنه من خيار الناس خلقًا، وكم يظهر الإنسان أنه حسن الخلق، فإذا سافرت معه، أو عاملته بالدرهم والدينار انكشف عن صاحبه خلق سيء.

ثانيًا: وروى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي الدرداء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما من شيءٍ أثقلُ في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخُلُق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) أي: يبغض الذي يفعل الفحشاء، ويقول الفحش، ويتكلم ببذيء الكلام، وهو رديئه، وقبيحه الذي يتحدث عن العورات والرذائل، وما ينبغي من الأشياء والأعمال التي يجب سترها. وفي هذا الحديث يقرر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن أثقل الفضائل في ميزان المؤمن يوم القيامة الخلق الحسن، وقد يشكل هذا على بعض الناس فيقول: إن الإيمان بالله، وحسن الصلة به أفضل الأعمال، وكذلك توحيد الله، والإخلاصُ له في العبادة، وإذا كانت هذه أفضل الأعمال فهي أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة؛ فكيف يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخُلُق)). ولكن هذا الإشكال لا يلبث أن ينحَلَّ إذا عَرَفْنَا أن الإيمان وعبادة الله بما توجِبُهُ الأسسُ الأخلاقية, ومن أولى الواجبات التي تفرضها مكارم الأخلاق، وأن الكفر بالله ورفض عبادته وطاعته من أقبح رذائل الأخلاق -كما سبق بيانه في شرح الحديث السابق- لأنه إنكار للحق من عدة وجوه؛ فهو إنكار لربوبية الله مع أن كون الله رب كل شيء، وخالق كل شيء حقيقة تفرض نفسها على كل منصف محب للحق، وهو جحود لألوهية الله، واستكبار عن عبادتِهِ، وهو تمردٌ على حقِّ اللهِ تجَاهَ عبادِهِ في أن يعبدوه، ويطيعُوهُ مع أنه المنعم عليهم بالنعم الكثيرة التي لا يحصونها. وظاهر: أن جحود النعمة وعدم القيام بواجب الشكر عليها من أقبح رذائل الأخلاق؛ فالإيمان الذي هو أثقل الفضائل عند الله تعالى، ومظهر من مظاهر

الكمال الخلقي في الإنسان، وإذا تتبعنا الأعمال وجدنا العبادات أيضًا من مظاهرِ الكمالِ الخلقي في الإنسان، وعندئذٍ يتضح لنا بجلاء أن أثقل شيءٍ في ميزان المؤمن يوم القيامة حسن خلقه؛ لأنه صدقُ إيمانِهِ، وسلامة يقينه، وإخلاص نيته كل ذلك من ثمرات فضائله الخلقية؛ لأن صدقَ إيمانِهِ، وسلامة يقينه، وإخلاص نيته كل ذلك من ثمرات فضائله الخلقية، ولما كان الفحش والبذاءة من مظاهر الرذائل الخلقية النفسية؛ كان الفاحش البذيء من الذين يبغضهم الله -عز وجل. ثالثًا: وروى الترمذي بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((سُئِلَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يُدْخِلُ الناسَ الجنة فقال -صلى الله عليه وسلم-: تقوى الله وحسن الخلق)). ((وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: الفم والفرج)) فتقوى الله، وحسن الخلق من أحب الأعمال إلى الله تعالى فهما أكثر ما يدخل الناس الجنة. وفي كون الفم والفرج أكثر ما يدخل الناس النار إشارةً إلى عناصر متصلة بسوء الخلق؛ إذ جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مقابل التقوى، وحسن الخلق، والمراد من الفَمِ والفرج ما يعمل الإنسان بهما من أعمال محرمَةٍ؛ فالفم يصدر عنه الكفرُ بالله، والكذب، وشهادة الزور والغيبة، والنميمة والطعن، والتعيير والتنقيص، واللمز، والتنابز بالألقاب، والدعوة إلى الباطل، ونشر الباطل، والحكمُ بغير الحق، وغير ذلك من أمورٍ كثيرةٍ تنافي التقوى، وتنافي مكارم الأخلاق، والفرج يصدر عنه أعمال محرمة أخرى تنافي التقوى، وتنافي مكارم الأخلاق. رابع حديث في هذا الأمر: وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو، بن العاص -رضي الله عنهما- قال: ((لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا)).

وروى الترمذي بإسنادٍ حسن عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن من أحبكم إليَّ، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنِكُم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون أي: المدعون للفقه قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيقهون؟ قال: المتكبرون)) الثرثارون: هم الذين يكثرون الكلام، ويتكلفونه، المتشدقون: هم الذين يتكلمون بملء أفواههم، ويتصنعون القولَ تصنعًا مع التعاظم بِهِ، والتعَالِي به على النَّاسِ. الحديث الخامس وروى أبو داود عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن المؤمن ليدركُ بُحُسْنِ خُلُقِهِ درجةَ الصائمِ القائم)) ويظهر: أن السبب في هذا أن من يلتزم التقيد بالأخلاق الحسنة؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى لا بد أن يتَعَرّض في حياتِهِ الاجتماعية إلى ما يستدعي منه أخلاقًا حسنة في معظم أوقاته، وهذا يجعله في حالةِ عبادةٍ دائمة يغالب فيها نفسه بالصبر، وتحمل مشقة مخالفة الهوى؛ لذلك فهو يدرك بحسن خلقِهِ درجةَ الصائم الذي لا يفطر، ودرجة القائم الذي لا يفتر -أي: لا يتعب- يضاف إلى هذا أن حسن الخلق عبادةٌ ذات آثار اجتماعية تنفع خَلْقَ الله، وتوحد كلمتهم، تبعد عنهم عوامل الفرقة والخلاف. أما الصيام والقيام: فهما عبادتان قد لا تنتج عنهما بشكل مباشر آثار اجتماعية تنفع عباد الله، وقد يكون أمرهما قاصرًا على فاعلهما، وصلة خاصة يتوجه بها الإنسان إلى ربه، ولا يخفى أن عبادة الله تعالى ذات أثرين، أعلى من عبادةٍ ذات أثرٍ واحد، على أن حسن الخلق لا يغني عن فروض العبادات، وكذلك كلُّ الفرائضِ الإسلامية لا يغني بعضُهَا عن بعض فالصلاة المفروضة لا تغْنِي عن

الصيام المفروض، وأداءُ الصلاة والصيام المفروضين لا يغنيَانِ عن أداء الزكاة، ولا عن أداءِ فريضةِ الحج، وكل هذه الفروض لا تغني عن فريضة الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. الحديث السادس، وروى أبو داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربض الجنة، لمن ترك المِرَاءَ، وإن كان محقًّا وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنةِ لمن حَسُنَ خُلُقُهُ))، زعيم، أي: كفيل ربض الجنة. ربض المكانة نواحيه، وما حوله من خارجه، كحريم المسجد وكالأبنية التي تكون حول المدن، وهي الأمكنة التي تربض فيها الأنعام فمن ترك المراء، أي: الجدال في أمور الدنيا ولِحَظِّ النفس؛ بنى الله له بيتًا في ربض الجنة، أي: استحق دخول الجنة بهذا العمل الذي يخالف فيه هوى نفسه. ومن ترك الكذب في كل الأحوال، ومنها حالات المزاح؛ بنى الله له بيتًا في وسط الجنة؛ لأن من يحفظ لسانه من كل الكذب ابتغاء مرضاة الله، وذو مرتبة عالية في الأخلاق الحميدة، وفي تقوى الله، وأعمال البر؛ إذ ترك الكذب، والتزام الصدق مجمع لجملة كبيرة من الفضائل الخلقية، والمصالح الاجتماعية العلمية والعملية، أما جماع الفضائل كلها فهو حسن الخلق بوجهٍ عامٍّ. الحديث السابع: وروى مسلم بسنده عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: ((سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البر والإثم، فقال: البرُّ حُسْنُ الخُلُق، والإثم ما حَاكَ في نفسك، وكرهت أن يطَّلِعَ عليه الناس)) البر: هو جماع أفعال الخير. وقد عرفه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه حسن الخلق؛ فهذا يدلُّ على أن حسن الخلق يشتمل على جماع أفعال الخير، والاتساع فيما يقرب إلى الله تعالى ويرضيه سبحانه.

أما كون الإثم ما حاك في نفس الإنسان وكره أن يطلع عليه الناس ففيه إشارة للضمير الأخلاقي، الذي فطر الله الناس عليه، وهذا الضمير يحس بالفضيلة الخلقية كما يحس بالألم؛ وحينما يحس بالإثم يلامس نفسه شعور خاص به، وحينما يحدث هذا الشعور في النفس يقدر الإنسان أن ما أحس به من شأنه أن يحس به كل إنسان آخر إذا اطلع عليه؛ لأن الناس يشتركون معه في القدرة على الإحساس بالإثم؛ لذلك فهو يكره أن يطَّلِعَ عليه الناس؛ لئلا يخسر مكانته في نفوسهم حينما يعلمون أنه امرؤ آثم، وهذا المقياس النبوي مقياسٌ صحيحٌ دقيق عند ذوي القلوب المؤمنة التي لم تفسد موازينها الفطرية بارتكابِ القبائح الآثام. الحديث الثامن، وروى البخاري ومسلم بإسنادهما عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) الألد هو شديد الخصومة، الخصم هو كثير الخصومة المولع بها حتى تصير الخصومة عادة له. وظاهره: أن الخصم الألد سيء الخلق من درجة شديدة القبح، وقد أبان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه أبغض الرجال إلى الله تعالى. الحديث التاسع: وروى الترمذي بإسناد حسن عن أبي ذر وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن)) ففي هذا الحديث إرشاد إلى قواعد السلوك الكبرى التي من التزمها؛ فقد أخذ سبيله لارتقاء مراتب المجد والكمال الإنساني. وهذه القواعد ترشد إلى المنهج الخلقي العام الشامل لجانبي علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بالناس. أما ما يدعو إليه الواجب الخلقي بالنسبة إلى علاقة الإنسان بربه؛ فهو تقوى الله في أي مكان ظاهر أو خفي يكون فيه الإنسان وذلك لأن الواجب الأخلاقي

يفرض على الإنسان طاعة من خلقه فسواه فعدله فأنعم عليه بالنعم التي لا يستطيع إحصاءها، ويفرض عليه أيضًا حمده وشكره، وعبادته؛ فكل هذه الواجبات يجمعها تقوى الله في السر والعلن وهذا ما دلت عليه القاعدة الأولى: ((اتق الله حيثما كنت)) وحينما يتق الإنسان ربه في كل أحواله الظاهرة والباطنة؛ فلا بد أن يكون مخلصًا لله في تقواه، وفي هذا تكمن الروح الأخلاقية السامية البعيدة عن النفاق والرياء والسمعة، وطلب الثناء من الناس، أو اجتلاب المصالح النفسية، أو المادية منهم هذه هي القاعدة الأولى. وأما القاعدة الثانية: وهي قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ففيها إرشاد إلى منهج الإصلاح والتقويم، وتدارك النهوض بالنفس بعد سقوطها بارتكاب السيئة، وهذا المنهج ترسمه هذه القاعدة أضبط رسم، فمن سقط بارتكابه السيئة في حالةٍ من حالاتِ الضعفِ الإنساني؛ فعليه أن يتبع هذه السيئة حسنةً مستمدة من منابع الضمير الأخلاقي؛ فإن للحسنات قوةَ سبقٍ عجيبة بفضل الله تعالى، إذ تمر على السيئات التي قد انطلقت قبلها فتردها، وتمحو أثرها عند الله تعالى، وتعود نفس المؤمن بالله إلى براءتها، ونقائها الخلقي بعد أن أصابها ما أصابها من أدناس السيئات. وهذه القاعدة مستمدة من قول الله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود: 114). وأما القاعدة الثالثة: وهي القول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَن)) فهي تحدد المنهج العام الذي يجب على الإنسان أن يسلكه في علاقاته بالناس، وعنوان هذا المنهج أن يخالق الناس بخلق حسن، أي: يعاملهم في كل علاقاته معهم بالخلق الحسن.

عاشرًا: ولما كان حسن الخلق يحتل هذه القيمة العظيمة في الإسلام كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، روى البخاري ومسلم عن أنس قال: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خُلُقًا)) واختار الله للثناء على رسوله -صلى الله عليه وسلم- من دون سائر صفاته العظيمة ما يتحلى به من خلق حسن عظيم؛ إذ خاطبه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4). وصح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((بعثت لأتمم حسن الخلق)) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة، ورواه الإمام مالك في (الموطأ) وعن جابر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال)) رواه في (شرح السنة). وجميع الأخلاق الكريمة الفاضلة واحدة في كل الشرائع السماوية تنزلت بها كل الكتب، ودعت إليها كل الرسالات، وجاء الإسلام فأكد على هذه الأخلاق الفاضلة في القرآن الكريم، ونادى بها سيد الخلق أجمعين نبينا وسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الأخلاق الفاضلة النبيلة: الوفاء بالعهد، وعدم خيانة من يُعَاهِد، أو من يُعَاهَدُ، والبعد كل البعد عن الغدر بالعهود؛ ففي القرآن الكريم أخذ الحق -سبحانه وتعالى- العهد على آدم وذريته أن يعبدوه وحده وألا يشركوا به شيئًا، وطالبهم وسيطالبهم بهذا العهد فمن وفى بهذا العهد فله الفوز والفلاح ومن لم يوف به فله الويل والثبور، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 172: 174).

قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس: 60: 62). بينت هذه الآيات من سورة الأعراف وسورة يس أن الله -سبحانه وتعالى- أخذ على خلقه عهدًا بالإقرار له بالوحدانية والعبودية فلم يوفوا بذلك العهد فكان حسابه على الله تعالى فكان حسابه تعالى لهؤلاء الذين لم يوفوا بعهدهم مع الله كانت جهنم هي مصير الناقضين لهذا العهد ففي سورة يس قال تعالى بعد التذكير بهذا العهد وأنهم ضلوا عنه ولم يوفوا به قال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ *اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يس: 63: 65). ثم يأتي بعد ذلك المطالبة بالوفاء بالعهد عند كل الرسل، وفي كل الشرائع فهذا أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- مدحه ربه في وفائه بالعهد وكان الوفاء بالعهد من أبرز صفاته وخلاله التي تحلى بها قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (النجم: 36، 37). ويُطالب الحقُّ -سبحانه وتعالى- بنو إسرائيل أن يوفوا بعهدهم مع الله فيقول تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة: 40) ولقد نعى الحق -سبحانه وتعالى- على بني إسرائيل نقضهم للعهود، وأنهم قوم لا أمان لهم، ولا عهد لهم يتعهد منهم فريق فينبذ العهد الآخر فريق آخر، وهذا دأبهم وديدنهم، قال عنهم الحق -سبحانه وتعالى-: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (البقرة: 100).

أما شريعة الإسلام فأكدت على الوفاء بالعهد أشد تأكيد ونادت به في كل العهود والعقود فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (النحل: 91). ومدح الحقُّ -سبحانه وتعالى- الذين يوفون بالعهد، ولا ينقضون المواثيق وجعل اللعنة، وسوء الدار على الذين ينقضون العهود، ولا يراعونها، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد: 19: 25). إنّ الوفاء بالعهد خلق كريم نبيل نادت به كل الشرائع وجاء على كل الرسل وبه تنزلت كل الكتب وهو من الصفات التي وصف بها الحق -سبحانه وتعالى- نفسه فما أجمل أن يتصف بها كل مسلم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 111). فالوفاء بالعهد خلق نبيل دعت إليه كل الشرائع وجاء على لسان كل الرسل وجاء الإسلام، فأكد عليه ونادى به، قال تعالى في سورة الإسراء {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (الإسراء: 34)

حفظ السر.

ولقد جاء من الأحاديث النبوية الكثير والكثير في الدعوة إلى الوفاء بالعهد، وأن ذلك الخلق الجميل من أخلاق الشرائع كلها من هذه الأحاديث قال -صلى الله عليه وسلم-: ((اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنة، اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)) رواه أحمد، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه وأرضاه. حفظ السر إن حفظ السر نوع من الوفاء بالعهد؛ فمن عهد لك بشيء أو أسر لك شيئًا فقد أودعك سره، وسار بينك وبينه عهد يجب أن تحفظه، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (الإسراء: 34) ولقد ذكر الإمام النووي بابًا في حفظ السر في كتابه القيم (رياض الصالحين) وأتبعه بباب في الوفاء بالعهد يحسن بنا أن نذكر هنا ما ذكره -رحمه الله تعالى- قال النووي: باب حفظ السر، قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}. (الإسراء: 34) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من أشر الناس منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها)) رواه مسلم في صحيحه. وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أن عمر -رضي الله عنه- حين تأيمت بنته حفصة، يعني: سارت أرملة، قال: لقيتُ عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فعرضت عليه حفصة فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني، فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، فلقيت أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر؛ فَصَمَتَ أبو بكر -رضي الله عنه- فلم يرجع إلي شيئًا فقلت عليه أوجد مني على عثمان، يعني: كره منهما هذا الأمر فلبثت

ليالي، ثم خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة، فلم أرجع إليك شيئًا فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو تركها النبي -صلى الله عليه وسلم- لقبلتها" رواه البخاري. ومعنى تأيمت، أي: سارت بلا زوج، وكان زوجها توفي -رضي الله عنه- وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((كنا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عنده فأقبلت فاطمة -رضي الله عنها- تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا فلم رآها رحب بها وقال: مرحبًا بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارها فبكت بكاء شديدًا فلم رأى جزعها سارها الثانية فضحكت فقلت لها خصك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بين نسائه بالسرار -يعني: بالأسرار- ثم أنت تبكين، فلم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألتها ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: ما كنت أفشي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرًّا، فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني، ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما الآن فنعم -لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- توفي، وأصبح الأمر لا يكون سرًّا- أما حين سارني في المرة الأولى؛ فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين وأنه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب؛ فاتقي الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك فبكيت بكائي الذي رأيت، ولما رأى جزعي سارني الثانية وقال: يا فاطمة، أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة؟ فضحكت ضحكي الذي رأيت)). متفق عليه وهذا لفظ مسلم. وعن ثابت عن أنس -رضي الله عنه- قال: ((أتى علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ فقلت: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجة قالت: ما حاجته قلت: إنها سر -

نعم الغلمان، ونعم التربية تربية غلمان الصحابة هذا غلام يقول لأمه: إنها سر- قالت: لا تخبرن بسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدًا قال أنس: والله لو حدثت به أحدًا لحدثتك به يا ثابت)) رواه مسلم، وروى البخاري بعضه مختصرًا. ثم قال النووي باب الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد: قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (النحل: 91) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2، 3). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((آية المنافق ثلاث إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا اؤتمن خان، زاد مسلم: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر)). هذا وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 15 الأمانة.

الدرس: 15 الأمانة.

الأمانة: تعريفها، والنصوص التي وردت فيها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (الأمانة) الأمانة: تعريفها، والنصوص التي وردت فيها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: الأمانة تعريفها والنصوص التي وردت في الأمانة: عرف العلماء الأمانة بأنها إيثار الحق ورده إلى أهله، والأمانة ضد الخيانة، وتكلم في التعريف ل لأمانة الشيخ الميداني تكلم بكلام طيب وذكر كثيرًا من النصوص في الأمانة؛ فقال: تعريف الأمانة؛ الأمانة: أحد الفروع الخلقية لحب الحق وإيثاره، وهي ضد الخيانة، والأمانة في جانبها النفسي خلق ثابت في النفس يعف به الإنسان عما ليس له بحق وإن تهيأت له ظروف العدوان عليه دون أن يكون عرضة للإدانة عند الناس، ويؤدي به ما عليه، أو لديه من حق لغيره وإن استطاع أن يهضمه دون أن يكون عرضة للإدانة عند الناس. فمن تهيأ له أن يهضم دينًا عليه دون أن يكون لدى الدائن ما يثبت به حقه فعف عن ذلك ولم يفعل وأدى ما عليه من حق كامل غير منقوص فهو أمين حقًّا، ومن تهيأت له فرصة اختلاس أموال غيره دون أن يشعر به أحد من الناس ودون أن يكون عرضة لاكتشاف لصوصيته؛ فعف عن ذلك ولم يفعل فإنما ذلك أثر من آثار الأمانة في نفسه، ومن كان يؤدي الودائع التي عنده لأصحابه مع أن أصحابها لا يملكون وثائق بها عليه فهو أيضًا إنما يفعل ذلك بدافع خلق الأمانة التي يتحلى به. ولا تقتصر الأمانة على العفة عن الأموال، بل العفة عن كل ما ليس للإنسان به حق هي أيضًا داخلة في حدود الأمانة أو أثر من آثارها؛ فالعفة عن العدوان على الأعراض من الأمانة، والعفة عن العدوان على الحقوق العلمية من الأمانة، والعفة عن الغش وتطفيف الكيل والميزان من الأمانة، والعفة عن الغلول وهي الأخذ من الغنيمة قبل توزيعها من الأمانة، وتبليغ الرسائل الكتابية أو اللفظية إلى

أصحابها من الأمانة، وتأدية حق النصيحة لكل مسلم من الأمانة، وتأدية حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمانة، وتأدية العبد حق ربه عليه من الأمانة كالعبادات المفروضة والطاعة الواجبة. وكف العبد نفسه عما حرم الله عليه من الأمانة؛ لأن العبد المكلف مستأمن على ما وضع الله بين يديه وما وضع تحت سلطته من أشياء؛ سواء أكانت داخلة في حدود ذاته أو خارجة عنها؛ فالحق في كل ذلك هو لله وقد استأمن الله عباده عليها فأذن لهم بأشياء وحرم عليهم أشياء؛ فمن تجاوز حدود الإذن الإلهي فاعتدى على ما ليس به حق فقد خان الأمانة؛ فالطاعة لله من الأمانة والمعصية لله من الخيانة. ومن الأمانة إعطاء كل ذي حق حقه؛ فالعدل من الأمانة والجور والظلم من الخيانة، ومن الأمانة الاهتمام بأن يحفظ المستأمنون ما تحت أيديهم من حقوق لغيرهم حتى يؤدوها إلى أصحابها وهي على حالتها حينما استؤمنوا عليها ما لم يكن مرور الزمن يغير منها بصفة طبيعية معلومة. وهكذا تتعدد مجالات خلق الأمانة وتتسع دوائرها، ولما كانت الأمانة مرتبطة بمبدأ الحق كان من يحب الحق ويؤثره يجد نفسه مدفوعًا لأن يكون أمينًا على حقوق الآخرين وإن تحركت مطامعه أو شهواته للاستيلاء عليه ا. والأمانة مصدر كالأمان، والأمان من الأمن وهو ضد الخوف، وحين تنعدم مسببات الخوف يحصل الأمان في النفوس، ولما كان الأمين إنسانًا مأمون الجانب لا يُخشى عدوانه على حقوق غيره كانت ساحته ساحة أمان ليس فيها أي مثير للخوف على المال، أو على العرض أو على الحياة، ولذلك سميت الخصلة التي يتحلى بها الأمين على حقوق الآخرين أمانة، ولما كانت هذه الخصلة داخلة في

ميدان الأخلاق كانت إحدى الفروع الأخلاقية ولما كان أساسها الحق كانت إحدى الفروع الخلقية لحب الحق وإيثاره. وقد ظهر لنا من تعريف الأمانة أنها تشتمل على ثلاثة عناصر: الأول: عفة الأمين عما ليس له به حق. الثاني: تأدية الأمين ما يجب عليه من حق لغيره. الثالث: اهتمام الأمين بحفظ ما استؤمن عليه من حقوق غيره، وعدم التفريط بها، والتهاون بشأنها. موقف الإسلام من خلق الأمانة: لقد فرض الإسلام على المسلمين الأخذ بخلق الأمانة، وحرم عليهم أن يسكلوا مسلك الخيانة؛ فمن كان أمينًا كان مطيعًا لربه في إسلامه، ومن كان خائنًا كان عاصيًا لربه في إسلامه، وربما وصل إلى حالة كان فيها مجروح الإسلام والإيمان. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)) - بوائقه أي غوائله وخياناته. وروى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)). وروى البيهقي في (شعب الإيمان) بإسناد حسن عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قلّما خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)).

فربط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأحاديث الأمانة وكون الإنسان مأمون الجانب بالإيمان، وجعل عدم الأمانة مؤثرة في صحة الإيمان، وجعل الرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، الخيانة من علامات النفاق؛ فمن ذلك ما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان؛ وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)). وما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)). فالأمانة من صفات المؤمنين، وهي من صفات محبي الحق، الأمانة من أبرز أخلاق الرسل؛ من الملاحظ في أسس العقيدة أن الأمانة من أبرز أخلاق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لأنها شرط أساسي لاصطفائهم بالرسالة؛ فلولا أن يكونوا أمناء لما استأمنهم الله تعالى على رسالاته لخلقه؛ ففي شأن هود - عليه السلام - يقول الله تعالى في سورة " الأعراف ": {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (الأعراف: 65 - 68). فعرض هود لقومه من صفاته أنه أمين، وهذه الصفة من صفاته لا بد أن تكون معروفة لديهم قبل أن يبعثه الله رسول ً ا، ومن شأن الأمين أن يكون موثوقًا به في نقل الأخبار وتبليغ الرسالات.

ويقص الله علينا قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب - عليهم السلام - في سورة " الشعراء " ويخبرنا بأن كل رسول من هؤلاء قد قال لقومه: إني لكم رسول أمين. ورسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد كان في قومه قبل الرسالة وبعدها مشهورًا بينهم بأنه الأمين؛ فكان خلق الأمانة من الأخلاق الظاهرة البارزة فيه - صلوات الله عليه - حتى كان الناس يختارونه لحفظ ودائعهم عنده، ولما هاجر - صلوات الله عليه - وكل علي بن أبي طالب لرد الودائع إلى أصحابها. فالأمانة من الأخلاق الكريمة الفاضلة التي نادت بها كل الشرائع السماوية، تنزلت بها الكتب، ودعا إليها كل الرسل، وجاء الإسلام فأكد عليها في القرآن الكريم وعلى لسان سيد الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء: 58). وسبب نزول هذه الآية: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يدخل الكعبة يومًا قبل الهجرة فمنعه القائم عليها عثمان بن طلحة وكان مشركًا يومها، فقال له -صلى الله عليه وسلم- تذكر يا عثمان بن طلحة عندما تكون المفاتيح بيدي يومًا ما، وبعد ذلك هاجر -صلى الله عليه وسلم- وتكونت دولة الإسلام وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاتحًا مكة وتم الفتح العظيم، وانكسر الشرك وأهله، واندحرت دولة الكفر، وسلمت مكة إلى المسلمين، وأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب إلى عثمان بن طلحة ليأتي بمفاتيح الكعبة، وذهب إليه علي وأخذ منه المفاتيح رغمًا عنه، وألقاها في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعثمان ينظر ويتذكر ما قاله -صلى الله عليه وسلم- سابقًا؛ تذكر يا عثمان يوم أن تكون المفاتيح بيدي يومًا ما، وفي هذه الحال نزلت الآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، فنادى -صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن طلحة قائل ً ا: ((يا عثمان بن طلحة خذ المفاتيح خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة لا ينزعها منكم إلا ظالم)).

إن الإسلام مجد الأمانة ومدحها، ومدح المتصفين بها، وجعلها من أبرز صفات عباد الله المؤمنين الذين قضى بفلاحهم وفوزهم؛ قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المؤمنون: 1 - 9) جعلهم الحق - سبحانه وتعالى - ورثة جنة النعيم، بل ورثة الفردوس الأعلى؛ إذ قال عقب ذلك مباشرة {أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون: 10 - 11). وأيضًا تكررت الآية في سورة " المعارج " في وصف عباد الله المكرمين في جنة الرضوان قال تعالى في سورة " المعارج ": {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} (المعارج: 32 - 35). وفي الأحاديث النبوية الكثير عن الأمانة والوصية بها عن أنس -رضي الله عنه- قال: ما خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)). إنّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كان من أبرز صفاته أنه عرف قبل أن يكون نبي ًّ ابالصّادق الأمين، وذلك ثابت في كتب السنة والسيرة الصحيحة؛ إذ نطقوا جميعًا بلسان واحد عندما كادت أن تنشب بينهم الحرب من أجل من يحظى بشرف وضع الحجر الأسود مكانه، عندما جددوا بناء الكعبة، فحكموا أول قادم عليهم، فنظروا فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قادم من بعيد؛ قادم من باب بني شيبة، ف قالوا جميعًا: هذا الأمين رضيناه حكمًا، وهذا ما نعاه عليهم الشاعر المسلم أحمد

شوقي؛ إذ لما جاءته الرسالة اتهموه زورًا وبهتانًا بالكذب والسحر وغير ذلك مع أنهم مقرون له من قبل بالصدق والأمانة في صغره، فقال شوقي: يا جاهلين على الهادي ودعوته ... أتجهلون مكان الصادق العلم لقبتموه الأمين في صغر ... وما الأمين على القوم بمتهم إن أهل مكة مع كفرهم وعنادهم وعدوانهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما وجدوا رجل ً اأمينًا مثله يضعون عنده أماناتهم وكل شيء ثمين يريدون أن يحتفظوا به، وما وجدوا بيتًا أمينًا مثل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهد بذلك التاريخ ودون ذلك في الكتب إن علي ًّ ا -رضي الله عنه- تأخر عن الهجرة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرد إلى أهل مكة أماناتهم وودائعهم التي كانوا يضعونها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يجدوا مثله ليحفظ لهم أماناتهم. إن الأمانة خلق نبيل نادى به سيد الخلق، وأمر به الإله الحق - سبحانه وتعالى - في كل الشرائع، وها هي آيات القرآن الكريم تبين أن السابقين مطالبون بالأمانة وبالحفاظ عليها، ومدح من أداها منهم وذم من خانها، فبين الحق - سبحانه وتعالى - أن أهل الكتاب في الأمانة أصناف وألوان منهم من يحافظ عليها ويرعاها ويؤديها مهما عظمت دون مطمع فيها، ومنهم من يطمع فيها ولا يردها مهما قلت أو صغرت وحقرت قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 75، 76). ومما يدل دلالة واضحة على أن الأمانة خلق نبيل نادت به كل الشرائع السماوية أن يوسف - عليه السلام - أعلن عن أمانته وحفظه، وبين أن حفظه للأمانة هي أهم مؤهل من مؤهلاته التي بسببها يستحق أن يكون على خزائن الأرض، ولذلك لما أراد

الملك أن يستخلص يوسف لنفسه ويوله أمرًا مهمًا في دولته، بعدما ثبتت براءته وأمانته على بيته وافق يوسف وأعلن عن أمانته وحفظه، وأن هذا مؤهل له لأن يتولى خزائن الأرض؛ قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 54 - 56). ولذلك لم يعط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر -رضي الله عنه- الصحابي الجليل الذي قال عنه: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء -أي: السماء- أصدق لهجة من أبي ذر)) لم يوله الإمارة خوفًا عليه من هذه الأمانة؛ لأنه ضعيف ربما قصر في جانب من جوانبها؛ روى مسلم في (صحيحه) بسنده عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: ((يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)). ومن الأدلة الواضحة أيضًا على أن الأمانة خلق نبيل جاءت في كل الشرائع؛ ما جاء في قصة بنتي شعيب عندما لاحظتا هذه الأمانة على موسى - عليه السلام - وذلك قبل أن يتنبأ موسى؛ فالأمانة معروفة من قبل أن يكون موسى نبي ًّ اومدحته بها ابنة شعيب بأنه قوي أمين، وذلك عندما سقى لهما ثم تولى إلى الظل راجيًا عطاء ربه قائل ً ا: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير، وظهرت أمانته عندما جاءته إحداهما تمشي على استحياء تطلب منه أن يذهب لمقابلة أبيها، فرأت في الطريق عفته وأمانته؛ إذ لم يقبل أن يمشي إلا أمامها حتى لا يرى منها شيئًا، فقالت لأبيها: إن خير من استأجرت القوي الأمين.

ومن أمانته أيضًا أنه بعد ما تزوج بابنة شعيب وف َّ ى بالعمل عشر سنين أدى الأمانة وزيادة من عنده، سئل ابن عباس: "هل عمل موسى عند شعيب في مهر ابنة شعيب ثماني حجج أو عشر حجج - أي سنين -؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: عمل عشر سنين؛ عمل بالزيادة؛ لأن أنبياء الله يؤدون الحق وزيادة، وهل يقبل أنبياء الله غير ذلك، وأخذ ذلك ابن عباس من حديث لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال فيه: ((يرحم الله موسى - عليه السلام - لقد آجر نفسه عشر سنين من أجل عفة فرجه وشبع بطنه)). وإليك هذه القصة كما حكاها القرآن الكريم في سورة " القصص " قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} (القصص: 20 - 29).

هذه هي الأمانة، وهذه مكانتها في كل الشرائع السماوية والتي أكد عليها الإسلام ونادى بها رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم. أما المراد بالأمانة؛ فكل ما يؤتمن عليه الإنسان من مال أو عرض أو أسرار، وكذلك من الأمانة كل ما تحت يده من مسئولية من أهل وولد، ودينه الذي أودعه الله إياه وهداه إليه أمانة عنده، ونفسه التي بين جنبيه أمانة عنده؛ فهو لا يتصرف فيها وفق مراده وهواه، بل عليه أن يحافظ عليها، فلا يملك الإنسان أن يميت نفسه أو أن يقتل نفسه فحياته ملك لله وهب الحق له النفس والحياة ويستردهما منه - سبحانه وتعالى - متى شاء وكيف شاء. إن الذين يظنون أن الأمانة خاصة بحفظ الأموال، ثم ردها إلى أصحابها قاصرون في نظرتهم، وتفسيرهم هذا تفسير خاطئ يأباه الإسلام، ولا يقبله بحال من الأحوال؛ إنّ علماء الإسلام الأفذاذ فهموا ذلك من قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72) فقالوا: إن المراد بالأمانة في الآية الكريمة التكاليف الشرعية بكل تفاصيلها من عقيدة وعمل. وها هي أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاهدة بأن ذلك الفهم فهم صحيح إذ نرى النبي -صلى الله عليه وسلم- يبين لنا أن كل إنسان عنده أمانة، وسيسأل عنها يوم القيامة؛ سواء كان أمير قوم أم كان إنسانًا عادي ًّ امغمورًا يعيش في هذه الحياة، فأمير القوم شعبه وبلده أمانة في عنقه يسأله الله تعالى عن كل فرد منهم يوم القيامة؛ فهم أمانة عنده، وهو أمين على بلده لا يحق له أن يفرط في حبة رمل أو ذرة من ترابها، والرجل في بيته أولاده وزوجته، وكل من يقوم بإعالته أمانة، وسيسأل عنها يوم القيامة، وكذلك الولد في مال أبيه، والزوجة في بيت زوجها، والخادم في مال سيده قال -صلى الله عليه وسلم-

((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع ومسئول عن رعيته، والابن في مال أبيه راع ومسئول عن رعيته؛ ألا كلكم راع ومسئول عن رعيته)). إن القتل في سبيل الله يُكفر كل الذنوب والخطايا إلا الأمانة؛ فالشهيد الذي قاتل حتى قتل لو كان عنده أمانة فخانها لا تغفر له تلك الخيانة، بل يكب في النار، وتتمثل الأمانة في جهنم، ويكلفه الله أن يأتي بها، وبعد معاناة في النار يجدها في قعر جهنم فيأخذها على منكبيه ويريد أن يخرج بها، ولما يصل إلى أعلى النار تسقط منه فيهوي ليأتي بها، وهكذا يظل يتردد في نار جهنم. روى الإمام أحمد في (مسنده) بسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، قال: "يؤتى بالعبد يوم القيامة؛ وإن قتل في سبيل الله فيقال له: أد أمانتك، فيقول: أي رب كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها، فيهوي في إثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج ذلت عن منكبيه - يعني: وقعت - إلى قعر جهنم، فهو يهوي في إثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة؛ وأشياء عددها، وأشد ذلك الودائع)). قال راوي الحديث عن ابن مسعود: فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؛ قال كذا، قال البراء: صدق؛ أما سمعت الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء: 58) إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل خيانة

المجالات التي تراعى فيها الأمانة.

الأمانة علامة من علامات النفاق إذ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)). ومن هنا دعانا الحق - سبحانه وتعالى - إلى الوفاء بالأمانة، وعدم خيانتها، وقرنها بخيانة الله والرسول قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 27، 28). المجالات التي تراعى فيها الأمانة أقول: إن الأمانة تدخل في كل شيء في حياة الإنسان، وما يتعلق به من أمور دينه ودنياه؛ فالدين أي عقيدة المسلم النقية الخالصة أمانة، والتكاليف الشرعية أمانة، وتدخل الأمانة في الأموال والأنفس والأعراض والأجساد وغير ذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)). يقول الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني في كتابه (الأخلاق الإسلامية) تحت عنوان المجالات التي تدخل فيها الأمانة: والمجالات التي تدخل فيها الأمانة والخيانة كثيرة؛ منها المجالات التالية: أ- الأموال: فمن الأمانة العفة عما ليس للإنسان به حق من المال، وتأدية ما عليه من حق لذويه، وتأدية ما تحت يده منه لأصحاب الحق فيه، وتدخل في البيوع والديون والمواريث والودائع والرهون والعواري والوصايا وأنواع الولايات الكبرى والصغرى وغير ذلك. ب- الأعراض: أي: تدخل الأمانة في الأعراض؛ فمن الأمانة في الأعراض؛ العفة عما ليس للإنسان به حق منها، وكف النفس واللسان عن نيل شيء منها بسوء كالقذف والغيبة.

ج- وتدخل الأمانة في الأجسام والأرواح: فمن الأمانة في الأجسام والأرواح كف النفس واليد عن التعرض لها بسوء من قتل أو جرح أو ضر أو أذى. د- وتدخل الأمانة في المعارف والعلوم: من الأمانة في المعارف والعلوم تأديتها دون تحريف أو تغيير، ونسبة الأقوال إلى أصحابها، وعدم انتحال الإنسان ما لغيره منها. هـ- وتدخل الأمانة في الولاية: فمن الأمانة في الولاية تأدية الحقوق إلى أهلها، وإسناد الأعمال إلى مستحقيها الأكفياء لها، وحفظ أموال الناس وأجسامهم وأرواحهم وعقولهم، وصيانتها مما يؤذيها أو يضر بها، وحفظ الدين الذي ارتضاه الله لعباده من أن يناله أحد بسوء، وحفظ أسرار الدولة وكل ما ينبغي كتمانه أن يتسرب إلى الأعداء؛ إلى غير ذلك من الأمور. وتدخل الأمانة في الشهادة: وتكون الأمانة في الشهادة ب تحملها بحسب ما هي عليه في الواقع، وبأدائها دون تحريف أو تغيير أو زيادة أو نقصان. وتدخل الأمانة في القضاء: وتكون الأمانة في القضاء بإصدار الأحكام وفق أحكام العدل التي استؤمن القاضي عليها وفوض الأمر فيها إليه. وتدخل الأمانة في الكتابة: وتكون الأمانة في الكتابة بأن تكون على وفق ما يمليه ممليها، وعلى وفق الأصل الذي تنسخ منه؛ فلا يكون فيها تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان، وإذا كانت من إنشاء كاتبها فالأمانة فيها أن تكون مضامينها خالية من الكذب والتلاعب بالحقائق إلى غير ذلك. وتدخل الأمانة في الأسرار التي يستأمن الإنسان على حفظها وعدم إفشائها: وتكون الأمانة فيها بكتمانها. وتدخل الأمانة في الرسائل: وتكون الأمانة فيها بتبليغها إلى أهلها تامة غير منقوصة ولا مزيد عليها، وعلى وفق رغبة محملها؛ سواء أكانت رسالة لفظية أو كتابية أو عملية.

وتدخل الأمانة في السمع والبصر وسائر الحواس: وتكون الأمانة فيها بكفها عن العدوان على أصحاب الحقوق، وبحفظها عن معصية الله فيها، وبتوجيهها للقيام بما يجب فيها من أعمال؛ فاستراق السمع خيانة، واستراق النظر إلى ما لا يحل النظر إليه خيانة، واستراق اللمس المحرم خيانة؛ وهكذا. وأختم هذا الدرس بما جاء في (رياض الصالحين) للإمام النووي في باب: الأمر بأداء الأمانة، يقول النووي - رحمه الله تعالى - في كتابه (رياض الصالحين) باب: الأمر بأداء الأمانة: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء: 58) وقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) حديث متفق عليه؛ أي رواه البخاري ومسلم، وفي رواية: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)). الحديث الثاني: وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- كان يعرف حذيفة ب أنه صاحب سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيء - ثم أخذ حصاة فدحرجه على رجله - فيصبح الناسُ يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان

رجلاً أمينًا - يعني يضرب المثل لندرته برجل أمين في بلد - حتى يقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلمًا ليردنه علي دينه، ولئن كان نصراني ًّ اأو يهودي ًّ اليردنه علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا)) متفق عليه؛ أي رواه البخاري ومسلم. قوله: ((جذر)) بفتح الجيم وإسكان الذال المعجمة وهو أصل الشيء. و ((الوكت)) بالتاء المثناة من فوق الأثر اليسير. و ((المجل)) بفتح الميم وإسكان الجيم وهو تنفط في اليد ونحوها من أثر عمل وغيره. قوله: ((منتبرًا)) مرتفعًا. قوله: ((ساعيه)) أي الوالي عليه. وعن حذيفة وأبي هريرة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يجمع الله - تبارك وتعالى - الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة - أي: تقرب إليهم - فيأتون آدم - صلوات الله عليه وسلامه - ف يقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، قال: فيأتون إبراهيم، فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك إنما كنت خليل ً امن وراء وراء، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليمًا، فيأتون موسى؛ فيقول: لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى: لست بصاحب ذلك، فيأتون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالا، فيمر أولكم كالبرق)) قلت: بأبي

وأمي؛ أي شيء كمر البرق. قال: ((ألم تروا كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرجال تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل لا يستطيع السير إلا زحفًا، وفي حافة الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكودس في النار، والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفًا)). رواه مسلم. قوله: ((وراء وراء)) هو بالفتح فيهما وقيل بالضم بلا تنوين، ومعناه لست بتلك الدرجة الرفيعة، وهي كلمة تذكر على سبيل التواضع. وعن أبي خ ُ بيب بضم الخاء المعجمة عبد الله بن الزبير بن العوام - رضي الله عنهما - قال: لما وقف الزبير يوم الجمل - يعني يوم وقعة الجمل - دعاني فقمت إلى جنبه، فقال: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لأراني إلا سأقتل اليوم مظلومًا، وإن من أكبر همي لديني - الديون التي كانت عليه لأنه كان يتاجر ويتداين رغم أن أمواله كثيرة إلا أن التجارة فيها أمور متداخلة، وفيها ديون كثيرة - فيقول الزبير: وإن من أكبر همي لديني، أفترى ديننا يبقي من مالنا شيئًا - يعني أنه مال كبير فلا يبقي من ماله شيئ ً ا. ثم قال: يا بني بع ما لنا واقض ديني، وأوصى بالثلث وثلثه لبنيه - يعني لبني عبد الله بن الزبير ثلث الثلث - قال: فإن فضل من مالنا بعد قضاء الدين شيء؛ فثلث هـ لبنيك، قال هشام وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزبير خبيب وعباد وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات، قال عبد الله: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني، إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه بمولاي قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله، قال: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه، فيقضيه الله تعالى ".

قال: فقتل الزبير ولم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أراضينا منها الغابة - مكان يعرف بالغابة أرض شهيرة من عوالي المدينة - وإحدى عشرة دارًا بالمدينة، ودار ين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر؛ هذه تركة سيدنا الزبير، قال: وإنما كان دينه الذي كان عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكن هو سلف إني أخشى عليه الضيعة - يعني الضياع والهلاك - وما ولي إمارة قط ولا جباية ولا خراجًا ولا شيئًا إلا أن يكون في غزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو مع أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم جميعًا. قال عبد الله - أي ابنه -: فحسبت ما كان عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف - يعني بلغتنا الآن 2 مليون و200 ألف دينار - فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير، فقال: يا بن أخي، كم على أخي من الدين؟ - يعني: على أبيك ال ذي هو الزبير الذي وصى أن تدفع عنه دينه - فكتمته لأنه كثير، وقلت: مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع هذه، فقال عبد الله: أرأيتك إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي، لكن أباه وصاه إن عجزت عن سداد الدين فاستعن بمولاي - أي: بالله سبحانه تعالى. قال: وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقال: من كان له على الزبير شيء فليوافنا بالغابة، يأتي ليأخذ حقه، فأتاه عبد الله بن جعفر وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال ل عبد الله: إن شئتم تركتها لكم قال عبد الله: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم. فقال عبد الله: لا، قال: فاقطعوا لي قطعة، قال عبد الله: لك من ها هنا إلى ها هنا، فباع عبد الله منها فقضى عنه دينه، وأوفاه وبقي منها أربعة أسهم ونصف،

فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن زمعة؛ فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم بمائة ألف، قال: كم بقي منها؟ قال: أربعة أسهم ونصف، فقال المنذر بن الزبير: قد أخذت منها سهمًا بمائة ألف، قال عمرو بن عثمان: قد أخذت منها سهمًا بمائة ألف، وقال ابن زمعة: قد أخذت منها سهمًا بمائة ألف، ف قال معاوية: كم بقي منها؟ قال: سهم ونصف سهم، قال: قد أخذت بخمسين ومائة ألف، قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف. فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دين الزبير، قال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراث ن ا، البركة نزلت وسدد الدين وطالبوا بقسمة الميراث، قال: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين؛ ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، فجعل كل سنة ينادي في الموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم، ودفع الثلث، وكان للزبير أربع نسوة فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف ". روى الحديث الإمام البخاري في (صحيحه). هذا وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 16 تابع: الأمانة - العدل.

الدرس: 16 تابع: الأمانة - العدل.

تتمة الحديث عن الأمانة

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (تابع: الأمانة - العدل) تتمة الحديث عن الأمانة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: بقية الحديث عن الأمانة. إن الأمانة خلق نبيل نادت به كل الشرائع السماوية، والأمانة لها معنى واسع يتسع لكل أضرب الحياة، يقول الشيخ الغزالي في كتابه (خلق المسلم) تحت عنوان؛ الأمانة: الإسلام يرقب من معتنقه أن يكون ذا ضمير يقظ، تصان به حقوق الله وحقوق الناس، وتحرس به الأعمال من دواعي التفريط والإهمال، ومن ثم أوجب الإسلام على المسلم أن يكون أمينًا، والأمانة في نظر الشارع واسعة الدلالة، وهي ترمز إلى معان شتى مناطها جميعًا شعور المرء بتبعته في كل أمر يوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنه مسئول عنه أمام ربه على النحو الذي فصله الحديث الكريم؛ ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته))، رواه البخاري. قال ابن عمر راوي الحديث: سمعت هؤلاء من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحسبه قال: ((الرجل في مال أبيه راع وهو مسئول عن رعيته)) والعوام يقصرون الأمانة في أضيق معانيها وآخرها ترتيبًا؛ وهو حفظ الودائع، مع أن حقيقتها في دين الله أضخم وأثقل إنها الفريضة التي يتواصى بها المسلمون يتواصون برعايتها ويستعينون بالله على حفظها؛ حتى إنه عندما يكون أحدهم على أهبة سفر يقول له أخوه: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك. وعن أنس قال: ما خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له))، ولما كانت السعادة القصوى أن يوقي الإنسان شقاء العيش

في الدنيا وسوء المنقلب في الآخرة؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع في استعاذته بين الحالين معًا؛ إذ قال: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئست البطانة)) الحديث رواه أبو داود، فالجوع ضياع الدنيا، والخيانة ضياع الدين. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته الأولى قبل البعثة يلقب بين قومه بالأمين، وكذلك شوهدت مخايل الأمانة على موسى حين سقى لابنتي الرجل الصالح ورفق بهما واحترم أنوثتهما، وكان معهما عفيفًا شريفًا، في نهاية القصة قالت ابنة شعيب {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} (القصص: 26)، وقد حدث هذا قبل أن ينبأ موسى وأن يرسل إلى فرعون، ولا غرو فرسل الله يختارون من أشرف الناس طباعًا وأذكاهم معادن، والنفس التي تظل معتصمة بالفضائل على شدة الفقر ووحشة الغربة هي لرجل قوي أمين، والمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد تتطلب خلقًا لا يتغير باختلاف الأيام بين نعم ة وبؤس، وذلك جوهر الأمانة. من معاني الأمانة؛ وضع كل شيء في المكان الجدير به واللائق له؛ فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها، واعتبار الولايات والأعمال العامة أمانات مسئولة ثابت من وجوه كثيرة؛ فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: ((يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنما أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) رواه مسلم. إن الكفاية العلمية أو العملية ليست لازمة لصلاح النفس؛ قد يكون الرجل رضي السريرة حسن الإيمان، ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ما يجعله منتجًا في وظيفة معينة؛ ألا ترى إلى يوسف الصديق إنه لم يرشح نفسه لإدارة

شئون المال بنبوته وتقواه فحسب، بل بحفظه وعمله أيضًا {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55). وأبو ذر لما طلب الولاية لم يره الرسول -صلى الله عليه وسلم- جلدًا لها؛ فحذره منها، والأمانة تقضي بأن نصطفي للأعمال أحسن الناس قيامًا بها، فإذا ملنا عنه إلى غيره لهوى أو رشوة أو قرابة فقد ارتكبنا بتنحية القادر وتولية العاجز خيانة فادحة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من استعمل رجل على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)) الحديث رواه الحاكم. وعن يزيد بن أبي سفيان -رضي الله عنه- قال: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام: يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعد ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدل ً احتى يدخله جهنم)) الحديث رواه الحاكم أيضًا. والأمة التي لا أمانة فيها هي الأمة التي تعبث فيها الشفاعات بالمصالح المقررة، وتطيش بأقدار الرجال لأكفاء لتهملهم وتقدم من دونهم، وقد أرشدت السنة إلى أن هذا من مظاهر الفساد الذي سوف يقع آخر الزمان؛ جاء رجل يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متى تقوم الساعة؟ فقال له - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)) فقال الرجل: وكيف إضاعتها؟ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا وسد - يعني أسند - الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) رواه البخاري. ومن معاني الأمانة؛ أن يحرص المرء على أداء واجبه كامل ً افي العمل الذي يناط به، وأن يستنفد جهده في إبلاغه تمام الإحسان، أجل إنها لأمانة يمجدها الإسلام؛ أن يخلص الرجل لشغله، وأن يعنى بإجادته، وأن يسهر على حقوق

الناس التي وضعت بين يديه؛ فإن استهانة الفرد بما كلف به وإن كان تافهًا تستتبع شيوع التفريط في حياة الجماعة كلها، ثم استشراء الفساد في كيان الأمة وتداعيه برمته. وخيانة هذه الواجبات تتفاوت إثمًا ونكرًا، وأشدها شناعة ما أصاب الدين وجمهور المسلمين وتعرضت البلاد لأذاه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به فيقال: هذه غدرة فلان)) رواه البخاري، وفي رواية ((لكل غادر لواء عند استه يرفع له بقدر غدرته، ولا غادر أعظم من أمير عامة)) الحديث رواه مسلم؛ أي ليس أعظم خيانة ولا أسوأ عاقبة من رجل تولى أمور الناس فنام عنها حتى أضاعها. ومن الأمانة ألا يستغل الرجل منصبه الذي عين فيه لجر منفعة إلى شخصه وقرابته؛ فإن التشبع من المال العام جريمة، والمعروف أن الحكومات أو الشركات تمنح مستخدميها أجورًا معينة، ف محاولة التزيد عليها بالطرق الملتوية هي اكتساب للسحت، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا؛ فما أخذ بعد ذلك فهو غلول))؛ أي سرقة وحرام؛ لأنه اختلاس من مال الجماعة الذي ينفق في حقوق الضعفاء والفقراء ويرصد للمصالح الكبرى، قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (آل عمران: 161). أما الذي يلتزم حدود الله في وظيفته ويأنف من خيانة الواجب الذي طوقه فهو عند الله من المجاهدين بنصرة دينه وإعلاء كلمته، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث رواه أبو داود في (سننه) يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)).

وقد شدد الإسلام في ضرورة التعفف عن استغلال النفوذ، وشدد في رفض المكاسب المشوبة عن عدي بن عميرة قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فو ق - يعني إبرة - فكتمنا مخيطًا فما فوق كان غلول ً ايأتي به يوم القيامة)) فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه ف قال: يا رسول الله اقبل عني عملك، قال: ((وما لك؟)) قال: سمعتك تقول كذا وكذا، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((وأنا أقوله الآن؛ من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ وما نهى عنه انتهى)). وحدث أن استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل ً امن الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم بها قال ابن اللتبية: هذا لكم وهذا أهدي إلي، قال راوي الحديث: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد؛ فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتيني فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا، والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة فل أعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر))، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه يقول: ((اللهم هل بلغت)) الحديث رواه مسلم في (صحيحه). ومن معاني الأمانة؛ أن تنظر إلى حواسك التي أنعم الله بها عليك، وإلى المواهب التي خصك بها، وإلى ما حببت، وإلى ما أعطيت من أموال وأولاد؛ فتدرك أنها ودائع الله الغالية عندك، فيجب أن تسخرها في قرباته، وأن تستخدمها في مرضاته؛ فإن امتحنت بنقص شيء منها فلا يستخفنك الجزع متوهمًا أن ملكك المحض قد سلب منك؛ ف الله أولى بك وأولى بما فاء عليك، وله أخذ وله ما

أعطى، وإن امتحنت ببقائها فما ينبغي أن تجبن بها عن جهاد، أو تفتن بها عن طاعة، أو تستقوي بها على معصية، قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 27، 28). ومن معاني الأمانة؛ أن تحفظ حقوق المجالس التي تشارك فيها؛ فلا تدع لسانك يفشي أسرارها ويسرد أخبارها؛ فكم من حبال تقطعت، وكم من مصالح تعطلت لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس وذكرهم ما يدور فيه من كلام منسوب إلى قائله أو غير منسوب؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا حدث رجل رجل ً ابحديث ثم التفت فهو أمانة)). وحرمات المجالس تصان ما دام الذي يجري فيها مضبوطًا بقوانين الأدب وشرائع الدين وإلا فليس لها حرمة، وعلى كل مسلم شهد مجلسًا يمكر فيه المجرمون بغيرهم ليلحقوا بهم الأذى أن يسارع إلى الحيلولة دون الفساد جهد طاقته؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((المجلس بالأمانة إلى ثلاثة مجالس؛ مجلس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق)). وللعلاقات الزوجية في نظر الإسلام قداسة؛ فما يضمه البيت من شئون العشرة بين الرجل وامرأته يجب أن يطوى في أستار مسبلة؛ فلا يطلع عليه أحد مهما قرب، والسفهاء من العامة يثرثرون بما يقع بينهم وبين أهلهم من أمور، وهذه وقاحة حرمها الله تعالى؛ فعن أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها - أنها كانت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والرجال والنساء قعود عنده فقال: ((لعل رجل ً ايقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها))؛ فأذم القوم - أي سكتوا وجلين خائفين - تقول أسماء: فقلت: أي والله يا رسول الله إنهم ليفعلون وإنهن ليفعلن، قال: ((لا تفعلوا؛ فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون)).

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضًا: ((إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة؛ الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)). والودائع التي تدفع إلينا لنحفظها حينًا ثم نردها إلى ذويها حين يطلبونها هي من الأمانات التي نسئل عنها أمام الله يوم القيامة، وقد استخلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند هجرته ابن عمه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ليسلم المشركين الودائع التي استحفظها -صلى الله عليه وسلم- مع أن هؤلاء المشركين كانوا بعض الأمة التي استفزته من الأرض واضطرته إلى ترك وطنه في سبيل عقيدته، لكن الشريف لا ي ت ضع مع الصغار، قال ميمون بن مهران: ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر؛ الأمانة، والعهد، وصلة الرحم. واعتبار الوديعة غنيمة باردة هو ضرب من السرقة الفاجرة، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله فيقال: أد أمانتك، فيقول: أي رب كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج ذلت - أي سقطت - عن منكبيه؛ فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة؛ وأشياء عددها، وأشد ذلك الودائع. قال راوي الحديث: فأتيت البراء بن عازب -رضي الله عنه- فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال كذا، قال البراء: صدق؛ أما سمعت الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} الحديث رواه مسلم. والأمانة التي تدعو إلى رعاية الحقوق وتعصم عن الدنايا لا تكون بهذه المثابة إلا إذا استقرت في وجدان المرء ورست في أعماقه وهيمنت على الداني والقاصي من

مشاعره؛ وذلك معنى حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن؛ فعلموا من القرآن وعلموا من السنة)) الحديث رواه مسلم. والعلم بالشريعة لا يغني عن العمل بها، والأمانة ضمير حي إلى جانب الفهم الصحيح للقرآن والسنة، فإذا مات الضمير انتزعت الأمانة فما يغني عن المرء ترديد للآيات ولا دراسة للسنن، وأدعياء الإسلام يزعمون للناس وقد يزعمون لأنفسهم أنهم أمناء، ولكن هيهات أن تستقر الأمانة في قلب تنكر للحق، ومن ثم يستطرد حذيفة في وصفه لتسرب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها اليقين فيروي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم حدثنا عن رفع الأمانة، فقال: ((ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت - والأثر المغاير كالنقطة على الصحيفة - ثم ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل - كالبثور التي تظهر في اليد مثل ً امن استخدام الأدوات الخشنة - ثم قال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجل ً اأمينًا، وحتى يقال للرجل: ما أجلده ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)). والحديث يصور انتزاع الأمانة من القلوب الخائنة تصويرًا محرج ًا؛ فهي كذكريات الخير في النفوس الشريرة تمر بها وليست منها، وقد تترك من مرها أثرًا لاذعًا بيد أنها لا تحيي ضميرًا مات، وأصبح صاحبه يزن الناس على أساس أثرته وشهوته غير مكترث بكفر أو إيمان. إن الأمانة فضيلة ضخمة لا يستطيع حملها الرجال المهازيل، وقد ضرب الله المثل لضخامتها فأبان أنها تثقل كاهل الوجود؛ فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بها، أو

العدل، ونماذج من عدل النبي -صلى الله عليه وسلم.

يفرط في حقها؛ قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72) والظلم والجهل آفتان عرضتا للفطرة الأولى وعني الإنسان بجهادهما فلن يخلص له إيمان إلا إذا نقاه من الظلم؛ قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} (الأنعام: 82) ولن تخلص له تقوى إلا إذا نقاها من الجهالة؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28) ولذلك بعد أن تقرأ الآية التي حملت الإنسان الأمانة تجد أن الذين غلبهم الظلم والجهل خانوا ونافقوا وأشركوا فحق عليهم العقاب، ولم تكتب السلامة إلا لأهل الإيمان والأمانة؛ قال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 73). العدل، ونماذج من عدل النبي -صلى الله عليه وسلم العدل هو إيثار الحق، وإعطاء كل ذي حق حقه دون زيادة أو نقصان، وهو المساواة في كل أمر يشترك فيه الناس، والعدل مطلوب في كل شيء؛ فعلى المسلم أن يعدل مع نفسه، ومع أهله، ومع ربه، ومع بدنه، ومع جيرانه، وأن يعطي كل ذي حق حقه، وهذا ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لسلمان الفارسي -رضي الله عنه-: ((إن لربك عليك حق ًّ ا، وإن لزوجك عليك حق ًّ ا، وإن لبدنك عليك حق ًّ ا، وإن لزورك - أي زوارك - عليك حق ًّ ا؛ فأعط كل ذي حق حقه)). والعدل خلق نبيل نادت به كل الرسل، وجاءت به كل الشرائع السماوية؛ فمثل ً االعدل في الكيل والميزان حث عليه الإسلام في القرآن الكريم، وعلى لسان النبي الكريم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وجاء في القرآن الكريم ذكره على لسان كثير من النبيين؛

فهو من الأخلاق الكريمة الفاضلة؛ أي أن العدل في ال ميزان ومراعاة حق الله تعالى في الوزن والمكيال وعدم التطفيف؛ أي الزيادة أو النقصان في الميزان، الزيادة عندما يزن لنفسه، والنقصان عندما يزيد لغيره هذا لون من ألوان الظلم نهت عنه كل الشرائع، وجاء الإسلام فأكد على ذلك النهي؛ فمن أوائل سور القرآن نزول ً افي مكة سورة " الرحمن " وفيها أكد الحق - سبحانه وتعالى - على ذلك الأمر، ونادى على خلقه بأن يزنوا بالقسط والعدل ولا يخسروا الميزان، وأن الله تعالى وضع ميزانًا لخلقه حتى لا يظلم بعضهم بعضًا، ولا يأكلون أموالهم بينهم بالباطل؛ قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن: 7 - 9). ومن السور المكية أيضًا سورة " الأنعام " وقد جاء فيها التأكيد على أن يكون الكيل أو المكيال وكذلك الوزن بالقسط؛ أي بالعدل؛ قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: 152). والناظر في كتاب الله تعالى سيجد لأهمية هذا الأمر أن الحق - سبحانه وتعالى - أنزل سورة من سور القرآن الكريم تحمل عنوان عدم القسط في الوزن والكيل تسمى سورة " المطففين " وبينت آيات السورة الكريمة شناعة هذا الأمر، وأن فاعله له الويل والثبور؛ قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين: 1 - 6). والتطفيف للكيل أن يكون للتاجر صاعان؛ صاع ي ُ عطي به وصاع يأخذ به؛ فالذي ي ُ عطي به ناقص والذي يأخذ به فيه زيادة.

ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى القسط في الميزان؛ أي العدل، وإذا وزن المسلم للناس عليه أن يرجح الميزان، ولا يحيف على الناس في المكيال؛ روى الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم وابن حبان بإسناد صحيح عن سويد بن قيس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((زن وأرجح)). وروى الطبراني بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين - أي بالفقر -)) ففي هذه الحديث أعلن الصادق -صلى الله عليه وسلم- أن التطفيف في الكيل والميزان عقابه وخيم وعذابه أليم، وأن عقابه في الدنيا يقع قبل الآخرة؛ فهو سبب من أسباب القحط ومنع الرزق وضياع البركة من الأرض. والشرائع السابقة كما ذكرنا سابقًا دعت إلى ما دعا إليه الإسلام من القسط والعدل في الوزن وعدم التطفيف في الكيل، وهذا نبي الله شعيب - عليه السلام - ينادي على قومه بألا يخسروا الميزان؛ يأتي ذلك في القرآن الكريم في أكثر من موضع قال تعالى في سورة " الأعراف ": {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 85). وفي سورة " الشعراء " يقول الحق - سبحانه وتعالى - على لسان شعيب - عليه السلام - {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (الشعراء: 181 - 183). وفي سورة " هود " قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ

بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (هود: 84 - 86). وسيدنا يوسف - عليه السلام - كان من أوفى الناس في الكيل والميزان، وأعلن عن ذلك بنفسه ليبين قيمة هذا الخلق النبيل؛ فقال لإخوته وهم لا يعرفونه: إني أوف ي الكيل وأنا خير المنزلين؛ قال تعالى في ذلك في سورة يوسف - عليه السلام -: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} (يوسف: 58، 59). فخلق العدل في الكيل والميزان والقسط وعدم التطفيف خلق نبيل وعدل كامل دعت إليه كل الشرائع السماوية، وجاء الإسلام فأكد عليه، ودعا إليه القرآن الكريم وسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم. أما عدل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحدث عنه ولا حرج؛ فلقد كان -صلى الله عليه وسلم- أعدل الناس، وكيف لا وهو الذي دعا إلى العدل وقضى بأنه خلق الصالحين، وبين -صلى الله عليه وسلم- أن الإمام العادل واحد من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، بل جعله أولهم، ويعلن -صلى الله عليه وسلم- أن فاطمة ابنته لو سرقت لقطع يدها؛ فأي عدل بعد هذا؛ جاء في الحديث الصحيح أن المخزومية لما سرقت أرسلوا أسامة بن زيد حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن حبه؛ ليشفع فيها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟! إنما أهلك من كان قبلكم؛ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)). والآيات في العدل كثيرة؛ قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (الشورى: 17)، وقال تعالى {فَلِذَلِكَ فَادْعُ

وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا} (الشورى: 15). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((سبعة يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال؛ فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن؛ وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في أهليهم وما ولوا)). وكما دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى العدل حذر من الظلم وبين أن عاقبته وخيمة، وإليك ما جاء في (رياض الصالحين) في تحريم الظلم والأمر برد المظالم إلى أصحابها: عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) رواه مسلم في (صحيحه). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء))؛ أي الشاة التي ليس لها قرون يقاد لها من التي لها قرون. رواه مسلم وغيره. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا نتحدث عن حجة الوداع والنبي -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع حتى حمد الله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره - يعني أطال قال كلامًا كثيرًا - وقال: ((ما بعث الله من نبي إلا أنذره أمته؛ أنذره نوح والنبيون من بعده، وإ نه يخرج فيكم فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم إن ربكم ليس بأعور وإنه أعور عين اليمنى

كأن عينه عنبة طافئة، ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد، ويلكم - أو ويحكم - انظروا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) رواه البخاري ومسلم. وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين)) حديث متفق عليه. وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ)) {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) والحديث متفق عليه. وعن معاذ -رضي الله عنه- قال بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة؛ فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم؛ فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) حديث متفق عليه؛ أي أخرجه البخاري ومسلم. وعن أبي حميد عبد الرحمن بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل ً امن الأزد وهو ابن اللتبية، وقد مرت قصته قريبًا، نعيش مع الحديث الذي بعده. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له

عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)). وعن ابن عمرو -رضي الله عنه- قال: كان على ثقل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل يقال له: كركره فمات، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هو في النار)) فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها. وعن أبي بكرة نفيع بن الحارث -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السم اوات والأرض، السنة اثن اعشر شهرًا منها أربعة حرم ثلاث متواليات؛ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، أي شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس ذا الحجة؟)) قلنا: بلى، قال: ((فأي بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس البلدة؟)) قلنا: بلى - أي البلدة الحرام - قال: ((فأي يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلى، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم؛ ألا فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب؛ فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه)) ثم قال: ((ألا هل بلغت؟)) قلنا: نعم، قال: ((اللهم اشهد))، حديث متفق عليه.

وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه - يعني حلف على مال مسلم - فأخذه ظلمًا فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)) فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((وإن قضيبًا من أراك))؛ يعني ولو عود مثل السواك، حديث صحيح رواه الإمام مسلم. وعن عدي بن عميرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوقه كان غلولًا يأتي به يوم القيامة))، فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه فقال: يا رسول الله اقبل عني عملك، قال: ((وما لك؟)) قال: سمعتك تقول كذا وكذا، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((وأنا أقوله الآن؛ من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهى)) رواه مسلم وقد مر قريبًا. وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((كلا إني رأيته في النار في بردة - أي عباءة - غلها)) - أي أخذها قبل أن تقسم الغنائم؛ سرقة. وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطايا؟، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر)) ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كيف قلت؟)) قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطايا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّيْن فإن جبريل قال لي ذلك)) رواه مسلم.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة؛ ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال، هذا وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)). وعن أم سلمة - رضي الله عنها - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض - يعني أبلغ - فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار)). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرام)). وعن خولة بنت عامر الأنصارية وهي امرأة حمزة -رضي الله عنه وعنها - قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير الحق فلهم النار يوم القيامة)) رواه البخاري. هذا ما جاء في العدل وتحريم الظلم. هذا وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 17 الدعوة إلى الصدق، والتحذير من الكذب.

الدرس: 17 الدعوة إلى الصدق، والتحذير من الكذب.

تعريف الصدق، والدعوة إليه

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (الدعوة إلى الصدق، والتحذير من الكذب) تعريف الصدق، والدعوة إليه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: الصدق هو مطابقة الخبر للواقع، ولقد دعا الإسلام إلى الصدق وحبب فيه ورغب في آيات تتلى في القرآن الكريم، وفي أحاديث قالها النبي الكريم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم. فمن الآيات التي دعت إلى الصدق وحثت عليه قول الحق - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) وقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 35). أما الأحاديث في الصدق فهي كثيرة؛ منها قال -صلى الله عليه وسلم-: ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا؛ وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)) رواه البخاري وغيره. وإن الصدق دعت إليه كل الرسالات ونادى به جميع الرسل؛ فهو خلق الأنبياء والصالحين، ومما تمدح به السيدة مريم أم سيدنا عيسى - عليه السلام - أنها صديقة قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَانظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة: 75) فالأخلاق الكريمة واحدة في كل الشرائع،

ومن هذه الأخلاق ما نحن بصدده الآن؛ وهو الصدق، فالصدق خلق نبيل فاضل دعت إليه كل الشرائع السماوية في كتبها وعلى ألسنة رسلها، ثم جاء الإسلام فأكد على هذا الخلق النبيل في كتابه الكريم، وعلى لسان سيد الأولين والآخرين رسول الإسلام والسلام سيدنا محمد - عليه الصلاة وأفضل السلام. الصدق مع الله، والصدق مع رسول الله، والصدق مع النفس، والصدق مع الناس؛ إن الصدق بكل أشكاله وألوانه دعا إليها الإسلام ورسول الإسلام، روى الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - بسنده عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر ... )) ومر الحديث قريبًا. إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا إلى الصدق وعدم اتباع الظن والأوهام، بل يجب أن يكون المسلم صادقًا مع نفسه يسعى إلى اليقين ويعيش حياته باليقين ومع اليقين لقد قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى؛ قضى بأن الظن أكذب الحديث وحذر المسلمين منه؛ لأن عاقبته وخيمة قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا)). من أبرز صفات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل مبعثه أنه عرف بالصادق الأمين؛ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صادقًا في حديثه، صادقًا في تجارته، صادقًا في كل أحواله؛ وهذا الصدق هو الذي جعل هرقل يجزم بأنه نبي الله حق ًّ ا، وأنه النبي المنتنظر، وأنه سيملك موضع قدميه، وأن الخير كل الخير في اتباعه؛ إذ قال لأبي سفيان: هل يكذب محمد في حديثه معكم؟ قال أبو سفيان: لا، قال هرقل: ما كان ليذر؛ أي ليترك الكذب على الناس ثم يكذب على الله.

ولما جاءته الرسالة -صلى الله عليه وسلم- جمع أهل مكة وقال: ((لهم لو أخبرتكم أن خيلًا من وراء هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟)) قالوا: نعم ما جربنا عليك كذبًا قط. ولقد وصفه الله تعالى بالصدق في دعوته قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} (التكوير: 24، 25) وقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} (الزمر: 33). ومدح الحق - سبحانه وتعالى - أهل الصدق فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} الآية، وقد مرت قريبًا، ودعا الحق سبحانه المؤمنين بأن يكونوا مع الصادق ي ن فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وقد مرت أيضًا. والشرائع كلها نادت بالصدق ودعت إليه، ومدح الحق سبحانه أهل الصدق منهم، وفي مقدمتهم الأنبياء والرسل؛ فها هو خليل الرحمن نبي الله إبراهيم - عليه السلام - يصفه ربه بالصدق مادحًا إياه بهذا الوصف الجميل؛ فيقول تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} (مريم: 41). ونفس الوصف يصف به الله - سبحانه وتعالى - نبيه إدريس - عليه السلام - فيقول الحق - سبحانه وتعالى -: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} (مريم: 56). وهذا نبي الله يوسف - عليه السلام - يعرف بالصديق ويكون ذلك الوصف من أبرز الأوصاف التي عرف بها، بل به كان ينادى، فها هو رسول الملك في سورة " يوسف " يخاطبه قائل ً ا: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 46).

ونبي الله عيسى - عليه السلام - صديق ومصدق لما بين يديه من (التوراة) و (الإنجيل)، ومبشر برسول يأتي من بعده هو نبينا -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6). ومريم - عليها السلام - أم سيدنا عيسى وصفها الحق كما قلت سابقًا بأنها صديقة. فالصدق في القول والعمل خلق نبيل جاءت به كل الشرائع، واتصف به جميع الرسل، وأكد عليه الإسلام ورسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم. وإليكم ما جاء من أحاديث في فضل الصدق في (رياض الصالحين) للإمام النووي حيث ذكر أحاديث هامة في الصدق وفضله: الحديث الأول: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة ... )) الحديث. الحديث الثاني: عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - قال: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)) رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح. قوله: ((يريبك)) هو بفتح الياء وضمها ي ُ ريبك وي َ ريبك ومعناه اترك ما تشك في حله، واعدل إلى ما لا شك فيه. الحديث الثالث: عن أبي سفيان صخر بن حرب -رضي الله عنه- في حديثه الطويل من قصة هرقل؛ قال هرقل: فماذا يأمركم - يعني النبي -؟ قال أبو سفيان: قلت يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، وتركوا ما يقوله آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.

الحديث الرابع: عن أبي ثابت، وقيل: أبي سعيد، وقيل: أبي الوليد بدري؛ يعني من أهل بدر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)). انظر إلى الصدق في النية عندما يصدق الإنسان النية مع الله - سبحانه وتعالى - يكتب الله له - سبحانه وتعالى - بحسب نيته فهذا الذي تمنى أن يموت شهيدًا في سبيل الله تكتب له الشهادة وإن مات على فراشه، وذلك في قوله - عليه الصلاة والسلام - ((من شهد الله تعالى الشهادة بصدق)) المهم أن يكون صادقًا في طلبه ونيته ((بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)). الحديث الخامس: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((غزا نبي من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبني بها، ولا أحد بنى بيوتًا لم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنمًا أو خلفات -يعني إبل وأبقار- وهو ينتظر أولادها؛ فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبًا من ذلك؛ فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه فجمع الغنائم، فجاءت -يعني النار- لتأكلها فلم تطعمها -وكان هذا شأن الأمم السابقة الغنائم أحلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللأمة الإسلامية فقط، أما من كان قبلنا فكانوا إذا غنموا يضعون الغنيمة في مكان فتأتي النار فتأكلها كلها إن كانوا صادقين، ومعنى أن النار تأكلها أنها قبلت، فلما لم تأكلها النار- قال ذلك النبي لمن معه من المحاربين: إن فيكم غلولًا -يعني فيه هناك من سرق من الغنيمة- فليبايعني من كل قبيلة رجل فلزقت يد رجل بيده فقال: فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعها فجاءت النار فأكلتها، فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا، ثم أحل الله لنا الغنائم لما رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا)) حديث متفق عليه.

تعريف الكذب، والتحذير منه.

((الخ َ ل ِ فات)) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام جمع خلفة؛ وهي الناقة الحامل. الحديث السادس: عن أبي خالد حكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) هذا الحديث يجعل البركة في التجارة أساسها الصدق وإخلاص النية بين الشريكين، وأن يصدقوا مع الناس الذين يبايعونهم ويتبايعون معهم. تعريف الكذب، والتحذير منه الكذب هو مخالفة الخبر للواقع، أو عدم مطابقة الحال للواقع؛ فيشمل القول والعمل، ولقد جاءت آيات كريمة تذم الكذب وتحذر منه وتبين شؤمه وعاقبته الوخيمة الأليمة؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ} (النحل: 105) فهذه الآية جعلت الكذب علامة للذين لا يؤمنون بالله - سبحانه وتعالى - وحكمت بأنهم كاذبون. وقال تعالى يصف أهل الكتاب بأنهم صنفان؛ صنف أمين فحمد الحق أمانته ي ُ عطي أمانته التي ائتمنته عليها ولو كانت قنطارًا من الذهب، وهناك صنف لا ي ُ عطيك ما أمنته عليه حتى وإن كان دينارًا إلا ما دمت عليه قائمًا تلح وحريص على أن تأتي بمالك من عنده، إذا لم تفعل ذلك لا يأتيك مالك ويأكل هذه الأمانة؛ قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 75). يكذبون على الله - سبحانه وتعالى.

وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (النحل: 38، 39) فالكافر كاذب؛ لأنه أنكر حقيقة وجود الله - سبحانه وتعالى. وقال تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 16 - 18) هذه الآية بينت أن الكذب يكون في القول ويكون في العمل أيضًا. والأحاديث في التحذير من الكذب وبيان قبحه وخبثه كثيرة؛ منها: ما رواه الإمام أحمد بسنده في (مسنده) عن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إياكم والكذب)) ومعنى كلمة ((إياكم))؛ أي أحذركم أحذركم الكذب لماذا يا رسول الله؟ بين -صلى الله عليه وسلم- العلة؛ فقال: ((فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)) لأن الفجور هو الخروج عن الطاعة، ثم بين - عليه الصلاة والسلام - أن الرجل الذي يكذب ويتعود الكذب يكتب كذابًا عند الله - سبحانه وتعالى - فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله -عز وجل- كذابًا)). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما كان خلق أبغض إلى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكذب ة فما يزال في نفسه عليه حتى يعلم أن قد أحدث منها توبة؛ يعني إذا علم النبي -صلى الله عليه وسلم- على رجل كذبًا نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- تتغير على ذلك الرجل حتى يتوب ذلك الرجل عن الكذب ويعود إلى الصدق.

وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين))؛ يعني عندما يحدث الناس بحديث ويعلم أن هذا الحديث كذب فهو من الكذابين. وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يطبع المؤمن على الخلال -يعني الصفات- يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)). وعن عائشة - رضي الله عنها - أن امرأة جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إن لي زوجًا ولي ضرة، وإني أتشبع من زوجي أقول: أعطاني كذا وكساني كذا وهو كذب؛ يعني لكي تغار ضرتها تقول: زوجي أعطاني وكساني حتى تغار، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتلك المرأة التي تقول لضرتها هذا الذي لم يفعله الزوج لتكيد لها وتغيره؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((المتشبع بما لم يعطى كلابس ثوبي زور)) يعني هذا زور وبهتان. وعن نواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كبرت خيانة تحدث أخاك حديثًا هو لك مصدقًا وأنت به كاذب)) يعني هو يصدقك ويسلم لك عقله وقلبه وأنت تكذب عليه؛ هذه أكبر خيانة تكون عند الإنسان يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((كبرت خيانة تحدث أخاك حديثًا هو لك مصدق وأنت به كاذب)). وعن أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه يعد ذلك كذبًا، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن الكذب يكتب كذبًا حتى تكتب الكذيبة كذيبة)) يعني كل شيء يكتب حتى ولو كان كذيبة صغيرة. هذه الأحاديث رواها الإمام أحمد في (مسنده) بسنده وجاء في (الفتح الرباني) ترتيب (مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني) للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي في الجزء التاسع عشر ص263 إلى ص265 تحت باب: ما جاء في

الترهيب من الكذب في كتاب: آفات اللسان؛ الكثير والكثير من هذه الأحاديث، ولقد كتب الشيخ الغزالي - رحمه الله تعالى - كلامًا طيبًا في الصدق والدعوة إليه. كما كتب في الكذب والتحذير منه في كتابه العظيم النفع (خلق المسلم) كتب يقول: الصدق إن الله خلق السماوات والأرض بالحق، وطلب إلى الناس أن يبنوا حياتهم على الحق؛ فلا يقولوا إلا حق ًّ اولا يعملوا إلا حق ًّ ا، وحيرة البشر وشقوتهم ترجع إلى ذهول هم عن هذا الأصل الواضح، وإلى تسلط أكاذيب وأوهام على أنفسهم وأفكارهم أبعدتهم عن الصراط المستقيم، وشردت بهم عن الحقائق التي لا بد من التزامها؛ ومن هنا كان الاستمساك بالصدق في كل شأن، وتحريه في كل قضية، والمصير إليه في كل حكم؛ دعاية ركينة في خلق المسلم، وصبغة ثابتة في سلوكه، وكذلك كان بناء المجتمع في الإسلام قائمًا على محاربة الظنون ونبذ الإشاعات واطراح الريب والشك؛ فإن الحقائق الراسخة وحدها هي التي يجب أن تظهر وتغلب، وأن تعتمد في إقرار العلاقات المختلفة؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) وقال: ((دع ما يريبك إلا ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة)). وقد نعى القرآن على أقوام جريهم وراء الظنون التي ملأت عقولهم بالخرافات وأفسدت حاضرهم ومستقبلهم بالأكاذيب؛ فقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} (النجم: من الآية: 23) وقال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28). والإسلام لاحترامه الشديد للحق طرد الكاذبين وشدد عليهم بالنكير؛ عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: ما كان خلق أبغض إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكذب، ما اطلع على أحد من ذلك فيخرج من قلبه حتى يعلم أنه قد أحدث توبة، وفي

رواية عنها: ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذب فلا يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث فيها توبة. ولا غرو فلقد كان السلف الصالح يتلاقون على الفضائل ويتعارفون بها؛ فإذا أساء أحد السيرة وحاول أن ينفرد بمسلك خاطئ بدأ بعمله هذا كالأجرب بين الأصحاء؛ فلا يطيب له مقام بينهم حتى يبرأ من علته، وكانت المعالم الأولى للجماعة المسلمة صدق الحديث ودقة الأداء وضبط الكلام، أما الكذب والإخلاف والتدليس والافتراء فهي أمارات النفاق، وانقطاع الصلة بالدين، أو هي اتصال بالدين على أسلوب المدلسين والمفترين، على أسلوب الكذابين في مخالفة الواقع، والكذب رذيلة محضة تنبئ عن تغلغل الفساد في نفس صاحبها، وعن سلوك ينشئ الشر إنشاءً، ويندفع إلى الإثم من غير ضرورة مزعجة أو طبيعة قاهرة. هناك رذائل يلتاس بها الإنسان تشبه الأمراض التي تعرض للبدن، ولا يصح منها إلا بعد علاج طويل؛ كالخوف الذي يتلعثم به الهيابون، أو الحرص الذي تنقبض به الأيدي؛ إن بعض الناس إذا جند للجهاد المفروض تقدم إليه وجلده مقشعر، وإن بعضهم إذا استخرجت منه الزكاة الواجبة أخذ يعدها وأصابعه ترعش، وهذه الطباع التي تتأثر بالجبن أو بالبخل غير الطبائع التي تقبل على الموت في نزق، وتبعثر المال بغير حساب. وقد تكون هناك أعذار لمن يشعرون بوساوس الحرص أو الخوف عندما يقفون في ميادين التضحية والفداء، ولكنه لا عذر البتة لمن يتخذون الكذب خلقًا ويعيشون به على خديعة الناس؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)) وسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: ((نعم))

قيل له: أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: ((نعم)) قيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: ((لا)). وهذه ال إ جابات تشير إلى ما أسلفنا بيانه من نوازع الضعف والنقص التي تخامر بعض الناس ثم يتغلبون عليهاعندما يواجهون بالفريضة المحكمة أو الضريبة الحاسمة، وهي لا تعني أبدًا تسويغ البخل أو تهوين الجبن كيف؛ ومنع الزكاة وترك الجهاد بابان إلى الكفر، وكلما اتسع نطاق الضرر إذ كذبة يشيعها أفاق جريء كان الوزر عند الله أعظم؛ فالصحفي الذي ينشر على الألوف خبرًا باطل ً ا، والسياسي الذي ي ُ عطي الناس صورًا مقلوبة عن المسائل الكبرى، وذو الغرض الذي يتعمد سوق التهم إلى الكبراء من الرجال والنساء؛ أولئك يرتكبون جرائم أشق على أصحابها وأسوأ عاقبة؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((رأيت الليلة رجلين أتياني قالا لي: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يقول الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة)) رواه البخاري. ومن هذا القبيل كذب الحكام على الشعوب فإن كذبة المنبر بلقاء مشهورة، وفي الحديث: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة؛ الشيخ الزاني، والإمام الكذاب، والعائل المزهو -أي الفقير المتكبر-)). والكذب على دين الله من أقبح المنكرات، وأول ذلك نسبة شيء إلى الله أو إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- لم يقله، وهذا الضرب من الافتراء فاحش في حقيقته وخيم في نتيجته؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد؛ فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)). ويدخل في نطاق هذا الافتراء والتكذيب سائر ما ابتدعه الجهال وأقحموه على دين الله من محدثات لا أصل لها عدها العوام دينًا وما هي بدين، ولكنها لهو

ولعب، وقد نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مصادر هذه البدع المنكر ة، وحذر من الانقياد إلى تيارها، ومسك المسلمين - أي دعا المسلمين - إلى الاستمساك بآيات كتابهم وبسنة سلفهم؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((يكون في آخر أمتي أناس دجالون كذابون يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم؛ فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم)). والإسلام يوصي بأن تغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال حتى يشبوا عليها وقد ألفوها في أقوالهم وأحوالهم كلها؛ فعن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يومي يومًا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا، فقالت: تعال أعطك، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أردت أن تعطيه؟)) قالت: أردت أن أعطيه تمرة، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أما إ نك لو لم تعطه شيئًا كتبت عليك كذبة)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة)). فانظر كيف يعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأمهات والآباء أن ينشئوا أولادهم تنشئة يقدسون فيها الصدق ويتنزهون عن الكذب، ولو أنه تجاوز عن هذه الأمور وحسبها من التوافه الهينة لخشي أن يكبر الأطفال وهم يعتبرون الكذب ذنبًا صغيرًا وهو عند الله عظيم. وقد بشت الصرامة في تحري الحق ورعاية الصدق حتى تناولت الشئون المنزلية الصغيرة، عن أسماء بنت يزيد قالت: يا رسول الله قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه يعد ذلك كذبًا، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن الكذب يكتب كذبًا حتى تكتب الكذيبة كذيبة)) وقد مر الحديث قريبًا. وقد أحصى الشارع مزالق الكذب وأوضح سوء عقباها حتى لا يبقى لأحد منفذ إلى الشرود عن الحقيقة، أو الاستهانة بتقريرها؛ فالمرء قد يستسهل الكذب حين

يمزح حاسبًا أن مجال اللهو لا حظر فيه على إخبار أو اختلاق، ولكن الإسلام الذي أباح الترويح عن القلوب لم يرض وسيلة لذلك إلا في حدود الصدق المحض؛ فإن في الحلال مندوحة عن الحرام، وفي الحق غناء عن الباطل؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب، ويل له، ويل له)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أنا زعيم -أي ضامن- أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا)) رواه البيهقي. وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح والمراء، وإن كان صادقًا)) الحديث رواه الإمام أحمد. والمشاهد أن الناس يطلقون العنان لأخيلتهم في تلفيق الأضاحيك، ولا يحسون حرجًا في إدارة أحاديث مفتراة على ألسنة خصومهم أو أصدقائهم؛ ليتندروا بها أو يسخروا منهم، وقد حرم الدين هذا المسلك تحريمًا تام ًّ ا؛ إذ الحق أن اللهو بالكذب كثيرًا ما ينتهي إلى أحزان وعد اوات، وتمد الناس مدرجة إلى كذب، والمسلم يجب أن يحاذر عندما يثني على غيره؛ فلا يذكر إلا ما يعلم من خير، ولا يجنح إلى المبالغة في تضخيم المحامد وطي المثالب، ومهما كان الممدوح جديرًا بالثناء فإن المبالغة في إطرائه ضرب من الكذب المحرم، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمادحيه: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)) يعني لا تبالغوا في مدحي، ((فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)). وهناك فريق من الناس يتخذ المدائح الفارغة بضاعة يتملك بها الأكابر، ويصوغ من الشعر القصائد المطولة، ومن النثر الخطب فيكيل الثناء جزافًا، ويهرف بما لا ي ُ عرف، وربما وصف بالعدالة الحكام الجائرين، ووصف بالشجاعة الأغبياء الخوارين؛ ابتغاء عرض من الدنيا عند هؤلاء وأولئك.

هذا الصنف من الأذناب الكاذبة أوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمطاردتهم حتى يرجعوا عن تجويرهم بوجوه عفرها الخزي والحرمان؛ عن أبي هريرة قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نحثو افي وجوه المداحين التراب. رواه الترمذي، وقد ذكر شراح الحديث أن المداحين المعنيين هنا هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة يستأكلون بها الممدوح؛ فأما من مدح على الأمر الحسن والفعل المحمود ترغيبًا في أمثاله وتحريضًا للناس على الاقتداء به فليس بمداح، وليس مدحه ممقوت. والحدود التي يقف عندها المسلم، ويخرج بها من تبعة الملق والمبالغة وينفع بها ممدوحه فلا يذله إلا العجب والكبرياء قد بينها النبي الحكيم فعن أبي بكرة قال: أثنى رجل على رجل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له - عليه الصلاة والسلام -: ((ويحك قطعت عنق صاحبك)) قالها ثلاثًا، ثم قال - عليه الصلاة والسلام -: ((من كان مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانًا والله حسيبه، ولا يزكي على الله أحد، أحسب فلانًا كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه)). والتاجر قد يكذب في بيان سلعته وعرض ثمنها، والتجارات عندنا تقوم على الطمع البالغ، البائع يريد الغلو والشاري يريد البخس، والأثرة هي التي تسود حركات التبادل في الأسواق والمحال، وقد كره الإسلام هذه المعاملة الجشعة، وما يشوبها من لغو ومراء؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحًا ما ويمحق بركة بيعهما)) وفي رواية: ((محقت بركة بيعهما)) اليمين الفاجرة في حديث آخر ((اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب)). ومن المشترين رجال يقبلون على الباعة وهم قليلو الخبرة سريعو التصديق لما يقال لهم، فمن الإيمان ألا تستغل س ذ اجتهم في كسب مضاعف أو تغطية عيب، قال

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثًا هو لك مصدق وأنت له كاذب)) وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يحل لامرئ مسلم يبيع سلعته يعلم أن بها داء إلا أخبر به)) رواه البخاري، وعن ابن أبي أوفى -رضي الله عنه- أن رجل ً اأقام سلعة في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم ي ُ عطى؛ ليوقع فيها رجل ً امن المسلمين فنزل قول الحق - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: 77). والحيف في الشهادة من أشنع الكذب، فالمسلم لا يبالي إذا قام بشهادة أن يقرر الحق ولو على أدنى الناس منه وأحبهم إليه، لا تميل به قرابة ولا عصبية ولا تزيغه رغبة أو رهبة، وتزكية المرشحين لمجالس الشورى أو المناصب العامة نوع من الشهادة؛ فمن انتخب المغموط في كفايته وأمانته فقد كذب وزور ولم يقم بالقسط، والله - تبارك وتعالى - يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 135). وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وكان متكئًا فجلس وقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور)) فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. رواه البخاري. إن التزوير كذب كثيف الظلمات؛ إنه لا يكتم الحق فحسب؛ بل يمحقه ليثبت مكانه الباطل، وخطره على الأفراد في القضايا الخاصة وخطره على الأمم في

القضايا العامة شديد مبيد؛ ومن ثم خوف الرسول -صلى الله عليه وسلم- منه على هذا النحو الصارخ. وعلى أرباب الحرف والصناعات أن يجعلوا من كلمتهم قانونًا مرعي الجانب يقفون عنده ويستمسكون به؛ فإنه لمن المؤسف حق ًّ اأن تكون الوعود المخلفة والحدود المائعة عادة مأثورة عن كثير من المسلمين مع أن دينهم جعل الوعود الكاذبة أمارة النفاق، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقدس الكلمة التي يقول، ويحترم الكلمة التي يسمعها، وكان ذلك شارة الرجولة الكاملة فيه - أي علامة الرجولة الكاملة - فيه حتى قبل أن يرسل إلى الناس. عن عبد الله بن أبي الحمساء، قال: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببيع قبل أن يبعث فبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: ((يا فتى لقد شققت علي أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك))، سبحان الله يقف -صلى الله عليه وسلم- منتظرًا لرجل قال له: سآتيك هنا في هذا المكان فيقف -صلى الله عليه وسلم- في المكان ثلاثة أيام ينتظر ذلك الرجل ليعود إليه كان يحضر في الموعد المضروب بينهما. وحدث أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعد جابر بن عبد الله بعطاء من مال البحرين ثم عاجلته الوفاة قبل الوفاء - يعني توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يأتي المال من البحرين - فلما جاء مال البحرين إلى خليفته -رضي الله عنه- أبي بكر الصديق أطلق مناديًا في الناس؛ ألا من كان له على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدة - يعني وعد أو دين - فليأتنا؛ انظر كيف توزن الكلمة ويوجب تنفيذها حتى لا تذهب هباءً مع اللغو الضائع، على أن الوعود الك اذب ة ليس فقط كلامًا يذهب سدى، ولكنها خرق بالمصالح، وإضرار بالناس، وإهدار للأوقات، وليس صدق الوعد خلة تافهة؛ إنها محمدة ذكرها الله - عز وجل - في

مناقب النبوة قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (مريم: 54، 55). وسرد الصفات الفاضلة على هذا الترتيب يدلك على ما لصدق الوعد من مكانة، ولقد كان إسماعيل - عليه السلام - أصدق الناس وعدًا حين قال لأبيه: ستجدني إن شاء الله من الصابرين، لما قال له أبوه: إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى. وقد يندفع الإنسان إلى الكذب حين يعتذر عن خطأ وقع منه ويحاول التملص من عواقبه، وهذا غباء وهوان، وهو فرار من الشر إلى مثله أو أشد، والواجب أن يعترف الإنسان بغلطه؛ فلعل صدق هـ في ذكر الواقع وألمه لما بدر منه يمسحان هفوته ويغفران ذلته، ومهما هجس في النفس من مخاوف إذا قيل الحق فالأجدر بالمسلم أن يتشجع وأن يتحرج من لوثات الكذب؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تحروا الصدق وإن رأيتم أن الهلكة فيه فإن فيه النجاة)) وقال: ((إذا كذب العبد تباعد الملك عنه ميلًا من نتن ما جاء به)) رواه الترمذي. والصدق في الأقوال يتأدى بصاحبه إلى الصدق في الأعمال والصلاح في الأحوال؛ فإن حرص الإنسان على التزام الحق فيما ينبث به يجعل ضياء الحق يسطع على قلبه وعلى فكره فيما ينبس به؛ ولذلك يقول الحق - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 70، 71). والعمل الصادق هو العمل الذي لا ريبة فيه؛ لأنه وليد اليقين، ولا هوى معه؛ لأنه قرين الإخلاص، ولا عوج عليه؛ لأنه نبع من الحق، ونجاح الأمم في أداء رسالتها يعود إلى جملة ما يقدمه بنوها من أعمال صادقة؛ فإن كانت ثروتها من

صدق العمل كبيرة سبقت سبقًا بعيدًا، وإلا سقطت في عرض الطريق، فإن التهريج والخبط والادعاء والهزل لا تغني فتيل ً اعن أحد؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر)) الحديث. إن الفجور الذي هدى إليه إدمان الكذب هو المرحلة الأخيرة لضياع النفس وضياع الإيمان، روى مالك عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه سوداء حتى يسود قلبه؛ فيكتب عند الله من الكذابين))، ويحيق به قول الحق في كتابه {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ} (النحل: 105). وأما البر الذي هدى إليه الصدق فهو قمة الخير الذي لا يرقى إليها إلا أولو العزم من الرجال، وحسبك فيه هذه الآية الجامعة؛ وهي قول الحق - سبحانه وتعالى -: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177). هذا وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 18 أدب الحديث في الإسلام، ولين الكلام واختيار الألفاظ.

الدرس: 18 أدب الحديث في الإسلام، ولين الكلام واختيار الألفاظ.

أدب الحديث في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (أدب الحديث في الإسلام، ولين الكلام واختيار الألفاظ) أدب الحديث في الإسلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: للحديث في الإسلام آداب ينبغي أن تراعى؛ فعلى المسلم أن يحفظ لسانه وأن يخزنه؛ فلا ينطق إلا بالصدق والحق، وليكن لسان المسلم عفيفًا نظيفاً طيبًا؛ يبتعد عن الغيبة، وعن النميمة، ولا يكون المسلم ثرثارًا كثير الكلام كثير اللغو كثير الرفث؛ فعليه أن يبعد لسانه عن إيذاء الناس، وذلك هو المسلم الكامل في الإسلام _ قال صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) وأخذ -صلى الله عليه وسلم- بلسانه وقال لمعاذ بن جبل: ((يا معاذ أمسك عليك هذا)) فقال معاذ -رضي الله عنه- وهل نحن مؤاخذون بما نتكلم يا رسول الله؟، قال - صلى الله عليه وسلم: ((ثكلتك أمك يا معاذ؛ وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟)). وجاء في القرآن الكريم أن كل ما يتلفظ به الإنسان يكتب عليه ويسطر وسيحاسب عليه يوم القيامة؛ قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18). ولقد جاءت أحاديث تحذر من كثرة الكلام، وتبين فضيلة الصمت والسكوت إلا في الخير؛ من هذه الأحاديث ما رواه البخاري بسنده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) يعني أو ليسكت. ووردت أحاديث في الترهيب من الغيبة؛ منها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه يومًا: ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الغيبة ذكرك أخاك بما يكرهه)) قالوا: يا رسول الله إن كان فيه ما نقول، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن كان

فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) والبهتان أشد الكذب. وبين القرآن الكريم أن المغتاب مثله كمثل من يأكل لحم أخيه ميت ً ا؛ قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (الحجرات: 12). وجاءت أحاديث كثيرة ترهب من الكذب؛ ف إ ن أكبر أدبًا من آداب الحديث الصدق في القول وعدم الكذب في الحديث، وأفظع أنواع الكذب؛ الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن أدب الحديث ترك المزاح إلا في حق، وترك الجدال والمراء، وعدم تشقيق الكلام والتخلل فيه تخلل البقر، وا دعاء البلاغة والفصاحة، وا زدراء الناس. وجاء في كتاب (الفتح الرباني) ترتيب (مسند الإمام أحمد) الذي رتبه الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي جاء فيه كثير من الأحاديث تحت عنوان: كتاب "آفات اللسان" في الجزء 19 ص257 إلى 271 قال: باب: ما جاء في الترهيب من كثرة الكلام وما جاء في الصمت؛ عن تميم بن يزيد مولى بني زمعة عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم ثم قال: ((أيها الناس ثنتان من وقاه الله شرهما دخل الجنة)) قال: فقام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله لا تخبرنا ما هما، ثم قال: ((اثنان من وقاه الله شرهما دخل الجنة)) حتى إذا كانت الثالثة أجلسه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا للرجل: ترى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد يبشرنا فتمنعه، فقال: إني أخاف أن يتكل الناس، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ثنتان ما وقاه الله شرهما دخل الجنة؛ ما بين لحييه وما بين رجليه)) أي من وقي شر لسانه؛ فلا يكذب ولا يخادع ولا يكون نماماً ولا مغتاباً، وأن يقيه الله - سبحانه وتعالى - ما

بين رجليه؛ أي فرجه، من وقاه الله شر هذين المكانين؛ شر ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة. وعن أبي الصبهاء قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- لا أعلمه إلا رفعه؛ أي رفع ذلك الحديث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن أعضائه تكفر اللسان - أي تتذلل للسان - وتتواضع له تقول: اتق الله فينا؛ فإنك إ ن استقمت استقمنا، وإ ن اعوججت اعوججنا)). وعن علي بن حسين عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -: ((من حسن إسلام المرء تركه ما يعنيه)) يعني لا يتدخل الإنسان فيما لا شأن له به وما ليس له فيه معرفة. وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر اعتصم به، وفي لفظ آخر: مرني في الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحد بعدك، قال: ((قل: ربي الله)) وفي لفظ: ((قل: آمنت بالله ثم استقم)) قال: قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ في لفظ آخر: ما أكبر ما تخاف علي؟ أي أي شيئاً تخاف علي منه بشدة؟ وفي لفظ آخر فأي شيء أتقي؟ قال: فأخذ بلسان نفس هـ ثم قال: ((هذا)) يعني انتبه إلى هذا. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - ((أن رجل ً اقال: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده)). وعن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أعرابي ًّ ابخصال من أنواع البر فيها؛ ((وأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؛ فإن لم تطق ذلك -يعني لا تستطع أن تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر أوجدت ذلك أمرًا كبيرًا عليك- فكف لسانك إلا من الخير)) يعني أي أحجز لسانك عن إيذاء الناس.

وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: ((ألا أخبرك برأس الأمر وعاموده وذروه سنامه)) قال: فقلت: بلى يا رسول الله، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((رأس الأمر وعاموده وذروه سنامة الجهاد)) قال: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)) فقلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال: ((كف عليك هذا)) فقلت: يا رسول الله وإن المؤاخذون بما نتكلم؟ فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ -وهي كلمة تقال للتنبيه وللتنكيل- ثكلتك أمك يا معاذ 11:59 وهل يكب الناس على وجوههم في النار -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم)). وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((والذي نفسي بيده لا يسلم عبدًا حتى يسلم قلبه ولسانه)). وعن سهل بن سعد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من توكل لي -معنى من توكل أي تكفل لي بحفظ- ما بين لحييه وما بين رجليه توكلت له بالجنة)) أي تكفلت وضمنت له الجنة. وعن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، قال: خرج أبو الغادية وحبيب بن الحارث وأم أبي العالية مهاجرين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلموا، فقالت الأم - أي أم أبي العالية - أوصني يا رسول الله قال: ((أياكي وما يسوء الأذن)) معناه اأحبسي لسانك عن ما يؤذي الناس وامنعي لسانك أن يسمعوا بأذانهم الأذى منك. وعن سليمان بن سحيم عن أمه ابن ة أبي الحكم الغفاري قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها قيد ذراع فيتكلم بالكلمة فيتباعد منها أبعد من صنعاء)) كلمة من غضب الله عليه تطرده عن باب الجنة مئات الأميال.

وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ ما بين فقميه - والمراد فكيه وفرجه - دخل الجنة)). وعن أبي معاوية قال: حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي، عن أبيه، عن جده علقمة، عن بلال بن الحرث المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله -عز وجل- ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله -عز وجل- له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله -عز وجل- ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله -عز وجل- بها عليه سخطه إلى يوم القيامة)) قال: فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحرث؛ يعني يريد أن يتكلم فتذكر هذا الحديث فيسكت. ثم جاء باب الصمت؛ فقال: باب: ما جاء في الصمت؛ عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من صمت نجا)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو لي سك ت)) والرواية التي سقناها سابقًا ((أو ليصمت)) والمعنى واحد فجعل -صلى الله عليه وسلم- هذا الحديث علامة من علامات الإيمان، وذكر من بين هذه العلامات علامة الصمت والسكوت عن إيذاء الناس، وهذا هو أدب الحديث في الإسلام. وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثله وفيه: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) فجاء بروايتين: ((أو ليسكت)) ((أو ليصمت)). باب: ما جاء في الترهيب من الغيبة والبهت؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((هل تدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذكرك

أخاك بما ليس فيه)) قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول له؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)). وعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي رواية: نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أسمع العواتق؛ يعني اسمع البنات الأبكار اللاتي يحتجبن عن الأعين والأنظار في الخدور؛ أي في الخيام، نادى بأعلى صوته حتى سمع الحاضرون، ومن كانوا في الخيام، فماذا قال - عليه الصلاة والسلام -؟ قال: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)) هنا نادى -صلى الله عليه وسلم- المسلمين أن يخزنوا ألسنتهم، وأن لا يحاولوا أن يتتبعوا أخطاء بعضهم أو عورات بعضهم أو عيوب بعضهم؛ فإنهم إن فعلوا ذلك تتبع الله عوراتهم، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو كان في قعر بيته، أو ولو كان في بيته كما في هذا الحديث. وعن أبي حذيفة -رضي الله عنه- أن عائشة - رضي الله عنها - حكت امرأة - أي وصفت امرأة - عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرت قصرها، قالت: يا رسول الله إنها قصيرة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((قد اغتبتيها يا عائشة)) ومن طريق ثانٍ عن أبي حذيفة أيضًا عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: حكيت للنبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا فقال: ((ما يسرني أن حكيتي رجلًا وأن لي كذا وكذا)) قالت: فقلت: يا رسول الله أن صفية امرأة، وقال بيدي يعني الراوي كأنه يعني قصيرة يا رسول الله أن صفية امرأة وأشارت بيدها، فقال - أي النبي - صلى الله عليه وسلم-: ((لقد مزحتي)) وفي لفظة: ((لقد تكلمتي بكلمة لو مزج بها ماء البحر لمزجت)). وعن عبيد مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن امرأتين صامتا وأن رجل ً اقال: يا رسول الله إن ها هنا امرأتين قد صامتا وأنهما قد كادتا أن تموتا من العطش، فأعرض عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو سكت ثم عاد، قال الراوي وأوراه قال بالهاجرة؛ يعني في

وقت الظهيرة الشديد الحر قال الرجل: يا نبي الله أنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا، قال: ((أدعوهما)) قال: فجاءتا قال: ((فجيء بقدح أو عس)) يعني إناء فقال لإحداهما: ((قيئي)) فقاءت قيحًا أو دمًا وصديدًا ولحمًا حتى قاءت نصف القدح، ثم قال للأخرى: ((قيئي)) فقاءت من قيح ودمًا وصديدًا ولحمًا ع ب ي ط - أي كثير - وغيره حتى ملئت القدح ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن هاتين -يعني المرأتين- صامتا عن ما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله -عز وجل- عليهما؛ جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس)). وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فارتفع ريح جيفة منتنة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين)) انظر إلى أهل الغيبة؛ فأين أدب اللسان تظهر منهم رائحة خبيثة يشعر بها الصحابة، ويخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أن ريحهم ريح خبيثة. عن أسماء بنت يزيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من ذب عن لحم أخيه في الغيبة كان حقًّا عليه أن يعتقه من النار)) يعني إذا رأيت رجلًا يغتابه الناس فادفع عنه، وقل للذين يغتابونه: لا تغتابوه إ نه غير ذلك، إذا فعلت ذلك أعتقك الله من النار. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)) وردغة الخبال وادٍ في جهنم. ثم جاء باب آخر في الترهيب من النميمة؛ عن حذيفة قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل الجنة قتات)) والقتات هو النمام فهنا يجب أن نراعي أدب الحديث فنبتعد عن النميمة. عن عبد الله أي ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا أنبئكم ما العضة؟)) قال: ((هي النميمة القالة بين الناس)) وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الرجل يصدق حتى يكتب صديقا، ويكذب حتى يكتب كذابا)).

وعن أسماء بنت يزيد الأنصارية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا أخبركم بخياركم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى)) ثم قال: ((ألا أخبركم بشراركم؟ المشائون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون البراء العنت)) انظر خيار الناس هنا من إذا رأيتهم ذكروك الله تعالى وذكرت الله بهم، أما شرار الخلق فهم الذين يمشون بين الناس بالنميمة، والذين يفسدون بين الأحبة، والذين يبتغون العنت في البر آء. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: ((أنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول - وقال وكيع: من بوله - وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) ولذلك عذاب القبر أغلبه من النميمة ومن البول؛ ففي هذا الحديث مر النبي - عليه الصلاة والسلام - على قبرين فوجد من بداخلهما يعذبان فقال: يعذبان في أمر ما هو بكبير في نظركم ولكنه كبير عند الله تعالى هاذان العملان؛ أن أحدهما لا يستبرأ لا يستنزه من البول؛ إذًا فصلاته باطلة؛ لأن وضوءه بعد ذلك باطل وما بني على باطل كان باطلاً، والآخر كان يمشي بين الناس بالنميمة؛ أي يفسد بينهم بما ينم من الحديث. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: ((لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)) انظر إلى عظمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلب من أصحابه ألا يشوه بعضهم بعض ً اأمامه فإنه يحبهم جميع ً ا، ولا يحب أن يتغير قلبه على أحد منهم فيقول لأصحابه: ((لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا؛ فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر)). قال: وأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مال فقسمه قال: فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة فتثبت - يعني تثبت

من هذا الكلام - وقف مكانه حتى سمعت ما قال، ثم أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله أنك قلت لنا: ((لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا)) وأني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا، قال: ف احمر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشق عليه - أي ذلك الكلام - ثم قال: ((دعنا منك - يعني الكلام الذي قلته يا ابن مسعود هذا نتركه- فقد أوذي موسى أكثر من ذلك ثم صبر)). وعنه - يعني عن ابن مسعود - من طريق ثان قال: تكلم رجل من الأنصار كلمة فيها موجدة ع لى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ يعني فيها أمر خطير ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمر لم يقبله ابن مسعود، ولا يليق أن يقال على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ابن مسعود: فلم تقرني نفسي؛ لم أقبل هذا الكلام فلم تقرني نفسي أن أخبرت بها النبي -صلى الله عليه وسلم- فلوددت أني افتديت منها بكل أهل ومال فقال: ((قد آذوا موسى -عليه الصلاة والسلام- أكثر من ذلك فصبر)) ثم أخبر -عليه الصلاة والسلام- ((أن نبيًّا كذبه قومه وشجوه -يعني فتحوا رأسه- حين جاءهم بأمر الله فقال: وهو يمسح الدم عن وجهه اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)). ثم جاء بعد ذلك باب: الترهيب من الكذب، وقد قلت سابقًا: إن من أدب الحديث البعد عن الغيبة، والنميمة، والتحلي بالصدق، والتحذير من الكذب؛ فهذا الباب جاء في التحذير من الكذب؛ عن عبد الله أي ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما ي زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله - عز وجل - كذاب ً ا)). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما كان خلق أبغض إلى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكذب، ول قد كان الرجل يكذب عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكذبة فما ي زال في نفسه -صلى الله عليه وسلم- عليه حتى يعلم أن قد أحدث منها توبة - يعني تاب عن هذا الكذب.

وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من حدثني ب حديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)) وفي رواية ((فهو أحد الكذابين)). وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)). عن عائشة - رضي الله عنها - أن امرأة جاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله أن لي زوجًا وله ضرة وأني أتشبع من زوجي أقول أعطاني كذا وكساني كذا وهو كذب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المتشبع بما لم يعطى كلابس ثوبي زور)). وعن نواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كبرت خيانة تحدث أخاك حديثًا ولك مصدق وأنت به كاذب)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أكذب الناس -أو من أكذب الناس- الصواغون والصباغون)). وعنه أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أكذب الناس الصناع)). ثم بعد ذلك جاء باب يبين أن الكذب يباح في مواضع؛ فقال: فصل فيما يباح من الكذب؛ عن أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها - أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب يقول: ((يا أيها الذين آمنوا ما يحملكم على أن تتابعوا في الكذب كما يتتابع الفراش في النار، كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال؛ رجل كذب على امرأته ليرضيها، أو رجل كذب في خديعة حرب، أو رجل كذب بين امر أين مسلمين ليصلح بينهما)). وعن عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا)) وقالت لم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في

ثلاث؛ في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. باب: ما جاء في الترهيب من الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتغليظ في ذلك؛ عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كذب علي فهو في النار)). وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: ما يمنعني أن أحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا أكون أوعى أصحابه عنه، ولكن أشهد لسمعته يقول: ((من قال علي ما لم أقل فليتبوء مقعده من النار)). وقال حسين أوعى صحابته عنه. وعنه من طريق ثان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((من تعمد علي كذبًا فليتبوء بيتًا في النار)). وعن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ((لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار)). وعن علي أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من حدث عني حديثًا يرى أنه كذب فهو أكذب الكاذبين)). وعن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قلت للزبير: ما لي لا أسمع ك تحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما أسمع ابن مسعود وفلان وفلانه، قال - أي الزبير -: أما أني لم أفارقه منذ أسلمت - أي لم أفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت - ولكني سمعت منه كلمة هي التي تمنعني؛ ((من كذب علي متعمدًا فليتبوء مقعده من النار)). عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الذي يكذب علي يبنى له بيت في النار)).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من تقول علي ما لم أقل فليتبوء مقعده من النار)). وعن شعبة قال: أخبرني قتادة وحماد بن أبي سليمان وسليمان التيمي سمعوا أنس بن مالك يقول: إ ن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كذب علي متعمدًا فليتبوء مقعده من النار)). وعن مسلم مولى خالد بن عرفطة أن خالد بن عرفطة قال للمختار هذا رجل كذاب، ولقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من كذب علي متعمدًا فليتبوء مقعده من النار)). وعن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من كذب علي كذبة متعمدًا فليتبوء مضجعًا من النار أو بيتًا من جهنم)). ثم بعد ذلك جاء باب: المزاح والترهيب من الكذب فيه - أي في المزاح - فلا يمزح المسلم إلا بحق وصدق، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان هاش ًّ اباش ًّ افي وجوه الناس ويمزح، ولكن لا يقول إلا حق ًّ ا؛ فالمزاح الممنوع هو المزاح المتضمن للكذب؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب من المزاحة، ويترك المراء وإن كان صادقًا)). وعنه؛ أي عن أبي هريرة أيضًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من قال لصبي تعال هاك -يعني خذ ما معي- ثم لم يعطه فهي كذبه)). عن عبد الله بن ربيعة أنه قال: آتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتنا وأنا صبي قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعالى أعطك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وما أردت أن تعطيه؟)) قالت: أعطيه تمراً قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أما إنك ِ لو لم تفعلي كتبت عليك ِ كذبة)).

وعن معاوية بن حيدة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ويل للذي يحدث القوم ثم يكذب ليضحكهم، ويل له، وويل له)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها جلسائه يهوي بها في أبعد من الثريا)). وعنه من طريق ثان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار)). وعنه من طريق ثالث يرفعها؛ أي يرفع هذا الكلام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((إن العبد ليتكلم بالكلمة يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)). وعن أبي سعيد الخدري يرفعه قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يريد بها بأسًا إلا ليضحك بها القوم فإنه ليقع منها أبعد من السماء)). وعن عبد الله بن زمعة قال: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم وعظهم في ضحكهم من ال ض رطة فقال: ((علام يضحك أحدكم على ما يفعل؟)). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إني لا أقول إلا حقًّا)) قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله، فقال: ((إني لا أقول إلا حقًّا)). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستحمله؛ أي طلب من النبي أن يحمله أن يعطيه جملًا ليحمل عليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له: ((إنا حاملوك على ولد ناقة)) قال الرجل: يا رسول لله ما أصنع بولد ناقة؟ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وهل تلد الإبل إلا النوق)) معناه سأعطيك جملًا كبيرًا، ولكنه من باب المداعبة قال: سأحملك على ولد الناقة، فظن الرجل أنه سيعطى ناقة صغيرة أو جملًا صغير، فقال: وما أفعل به يا رسول الله فعلمه ووضح له الأمر -صلى الله عليه وسلم- فقال: له وهل من إبلا أو وهل من جملا إلا وهو ولد ناقة. وعن أم سلمة - رضي الله عنها - أن أبا بكر خرج تاجرًا إلى بصرى ومعه نعيمان وصويبت بن حرملة وكلاهما بدري، وكان صويبت على الزاد، فجاء نعيمان فقال: أطعمني، فقال: لا حتى يأتي أبو بكر، وكان نعيمان رجلًا مضحاكًا مزاحًا

فقال: لأغيظنك؛ فجاء إلى أناس جلبوا ظهرًا؛ يعني جابوا ظهرًا محملًا، فقال: ابتاعوا مني غلامًا عربي ًّ افارهًا وهو ذو لسان، ولعله يقول: أنا حر، فإن كنت م تاركيه لذلك فدعوني لا تفسدوا علي غلامي، فقالوا: بل نبتاعه منك بعشر قلائص، والقلائص يعني جمال نوق، فأقبل بها يسوقها وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال للقوم: دونكم هو هذا خذوه، فجاءوا القوم فقالوا: قد اشتريناك، قال صويبت: هو كاذب أنا رجل حر، فقالوا: قد أخبرنا خبرك وطرحوا الحبل في رقبته فذهبوا به، فجاء أبو بكر فأ ُ خبر، فذهب هو وأصحاب له فردوا القلائص وأخذوه، فضحك منها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حولًا؛ سنة كاملة يضحكون من الذي حدث، أو من هذه القصة. عن عبد الحميد بن صيفي، عن أبيه، عن جده قال: إ ن صهيبًا قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين يديه تمر وخبز، فقال: ((ادن ُ فك ُ ل ْ))، فأخذ يأكل من التمر، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أن بعينك رمدًا)) فقال: يا رسول الله إنما أكل من الناحية الأخرى فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءت الرواية وضحت هذا؛ كانت عينه اليمنى هي التي بها الرمد وداعبه النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال: ((إن بعينك رمدًا لا تأكل تمراً)) فقال الرجل: آكل من الناحية الأخرى؛ يعني آكل من ناحية العين السليمة، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذكائه ودعابته. باب: من جاء في الترهيب من الجدال والمراء، وهذا لون من أدب الحديث؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جدال في القرآن كفر)). وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)) ثم تلا هذه الآية {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 58). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يؤمن العب د الإيمان كله حتى يترك الكذب من المزاح، ويترك المراء وإن كان صادقًا))

لين الكلام واختيار الألفاظ.

لين الكلام واختيار الألفاظ أما لين الكلام واختيار الألفاظ؛ فذلك أدبًا عظيم من آداب الحديث، بل من أهمها، ولقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدعو إلى لين الكلام واختيار الألفاظ وعدم التنابز بالألفاظ، كما جاءت أحاديث شريفة تدعو إلى لين الكلام. فمن الآيات الكريمة الجامعة لهذا الأمر ما جاء في سورة " الحجرات " قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (الحجرات: 11، 12)، وقال تعالى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159). ومن الأحاديث الشريفة في ذلك؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألينوا الكلام، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلون الجنة بسلام)). وإليكم ما كتبه فضيلة الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله تعالى - في هذا الموضوع في كتاب (خلق المسلم) قال: تحت عنوان؛ أدب الحديث: نعمة البيان من أجل النعم التي أسبغها الله تعالى على الإنسان، وكرمه بها على سائر الخلق: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن: 1 - 4) وعلى قدر جلال النعمة يعظم حقها ويستوجب شكرها ويستنكر كنودها؛ أي جحودها.

وقد بين الإسلام كيف يستفيد الناس من هذه النعمة المسداة، وكيف يجعلون كلامهم الذي يتردد سحابة النهار على ألسنتهم طريقًا إلى الخير المنشود؛ فإن أكثر الناس لا ينقطع لهم كلام، ولا تهدأ لهم ألسنة؛ فإذا ذهبت تحصي ما قالوا وجدت جله اللغو الضائع أو الهذر الضار، وما لهذا ركب الله الألسنة في الأفواه، ولا بهذا تقدر الموهبة المستفادة؛ قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 144). ينبغي أن يسا ئ ل المرء نفسه قبل أن يتحدث إلى الآخرين؛ هل هناك ما يستدعي الكلام؟ فإن وجد داعيًا إليه تكلم، وإلا فالصمت أولى به، وإعراضه عن الكلام حيث لا ضرورة له عبادة جزيلة الأجر، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. رواه الطبراني. وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - خمس لهم أحسن من الدرهم الموقفة - يعني الجيدة - لا تتكلم فيما يعنيك؛ فإنه فضل - يعني زيادة لا داعي لها - ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعًا؛ فإنه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعيب، ولا تماري حليمًا ولا سفيهًا؛ فإن الحليم يقليك - يعني يبتعد عنك - وأن السفيه يؤذيك، وا ذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به، وا عفي مما تحب أن يعفيك منه، وا عمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان مأخوذة بالإجرام. والمسلم لا يستطيع هذا إلا إذا ملك لسانه، وسيطر على زمامه بقوة فكبحه حيث يجب الصمت، وضبطه حين يريد المقال؛ أما الذين تقودهم ألسنتهم فإنما تقودهم إلى مصارعهم. هذا بعض ما جاء في أدب الحديث وفي لين الكلام. وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 19 الدعوة إلى التواضع، والتحذير من الكبر.

الدرس: 19 الدعوة إلى التواضع، والتحذير من الكبر.

الدعوة إلى التواضع

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (الدعوة إلى التواضع، والتحذير من الكبر) الدعوة إلى التواضع الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: إن الإسلام دعا إلى التواضع وحبب فيه، وجاء في التواضع آيات قرآنية كريمة دعت إليه ورغبت فيه، لقد دعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن ينخفض جناحه للمؤمنين، وهي دعوة لكل مسلم ومسلمة، قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215). ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى التواضع في أحاديث كثيرة، وبين -صلى الله عليه وسلم- أن المسلم لا يزيده التواضع إلا عزًّا، وأن المتواضع قريب إلى الله قريب إلى الناس، وذكر -صلى الله عليه وسلم- أن الله تعالى أوحى إليه أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد عن أحد، وبين -صلى الله عليه وسلم- أن المسلم يتواضع لأخيه المسلم فلا يحقره ولا يستصغره؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره؛ كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه)). ولقد ذكرت سابقًا أن القرآن الكريم نزلت به آيات كريمة دعت إلى التواضع للناس؛ من هذه الآيات الآية التي ذكرتها آنفًا وهي قول الحق -سبحانه وتعالى-: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة: 54) فبينت هذه الآية الكريمة أن الله تعالى يحب أناس من المؤمنين ويحبونه؛ قدم محبته لهم على محبتهم إياه، وبين أن أهم وصف لهم أنهم متواضعون لله؛ فهم أذلة على المؤمنين؛ أي متواضعون للمؤمنين، وأعزة وأشداء على الكفار.

وهذا ما ورد أيضًا في قوله تعالى في سورة "الفتح": {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} {(الفتح: 29) فهم كما ترى أشداء على الكفار رحماء بينهم، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13). فالناس من أب واحد هو آدم -عليه السلام- وأم واحد هي حواء زوجة آدم؛ إذًا يجب التواضع لكل خلق الله؛ إذ كلهم لآدم، وآدم من تراب قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32)، وقال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} (الأعراف: 48، 49). ولقد ذكر الإمام النووي في كتابه (رياض الصالحين) أحاديث جاءت في التواضع، نذكرها كما رواها، قال -رحمه الله- باب: التواضع وخفض الجناح للمؤمنين، ثم قدم للأحاديث بآيات قرآنية نزلت في التواضع ذكرتها فيما سبق، وإليكم الأحاديث كما ذكرها في هذا الكتاب: يقول الإمام النووي عن عياض بن حمار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)) رواه مسلم في (صحيحه). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) رواه مسلم.

وعن أنس -رضي الله عنه- أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله. حديث متفق عليه؛ أي كان -صلى الله عليه وسلم- من تواضعه الجم يسلم حتى على الصبيان في الطرقات. وعن أنس أيضًا -رضي الله عنه- قال: إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة -يريد المرأة- لتأخذ بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت. رواه البخاري؛ أن يمشي مع الأمة التي تريد أن يمشي معها ليقضي لها حاجتها. وعن الأسود بن يزيد -رضي الله عنه- قال: سئلت عائشة -رضي الله عنها- ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع في بيته قالت: كان يكون في مهنة أهله -يعني خدمت أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري. وعن أبي رفاعة تميم بن أسيد -رضي الله عنه- قال: انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، فأقبل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك خطبته حتى انتهى إلي فأوتي بكرسي فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها. هذا هو تواضعه -صلى الله عليه وسلم- يقطع الخطبة ليجلس بجوار رجل يعلمه أمور دينه، ثم بعد ذلك يعود لإكمال خطبته -صلى الله عليه وسلم- حديث صحيح رواه الإمام مسلم في (صحيحه). وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أكل طعامًا لعق أصابعه الثلاث، قال: وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى)) يذهب الأذى عنها ينفضها من الأذى والتراب، ثم بعد ذلك يأكلها، هذا من باب التواضع يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((إذا سقطت لقمة أحدكم -يعني وقعت منه على الأرض- فليمط -أي فليزل عنها الأذى- وليأكلها ولا يدعها للشيطان)) وأمر أن نسلت القصعة يعني نأكل من القصعة حتى آخرها؛ قال: ((فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)) رواه

مسلم، قد تكون البركة في الطعام في آخر لقمة يأكلها الإنسان أو في اللقمة التي سقطت منه، أو في آخر ملعقة في آخر الصحفة فكان -صلى الله عليه وسلم- يأمر أصحابه بأن يسلتوا القصعة أن يأكلوا ما فيها حتى آخرها. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم)) قال أصحابه: وأنت، فقال: ((نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)) رواه البخاري، نعم رعيت الغنم على قراريط؛ يعني على أجر معلوم لأهل مكة، ورعي الغنم يعلم الصبر ويعلم التواضع، فما من نبي من أنبياء الله كما جاء في هذا الحديث إلا ورعى الغنم، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- رعاها على قراريط لأهل مكة. وعن أبي هريرة أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت)) والكراع والذراع هو شيء بسيط من اللحم، فذراع الشاة معروف، والكراع هو اللحم الذي يكون فوق ظلف الشاة يسمى بالكراع، وهو شيء قليل، ولكن لتواضعه -صلى الله عليه وسلم- الذي يريد أن يعلمه للدنيا كلها يقول: ((لو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت)) يعني يجيب الدعوة ولو كانت يسيرة، ويقبل الهدية ولو كانت يسيرة. وعن أنس -رضي الله عنه- قال كانت ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العضباء؛ وهذا اسم ناقته -عليه الصلاة والسلام- لا تُسبق؛ إذا مشت مع النوق تسبق كل الجمال، أو يقول أنس: أو لا تكاد تسبق، فجاء إعرابي على قعود له فسبقها فشق ذلك على المسلمين؛ يعني حزن المسلمون كيف تسبق ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه -صلى الله عليه وسلم- فيهم فطمأنهم فقال: ((حق على الله إلا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)) هذا هو التواضع الذي علمه -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه. وعن التواضع كتب الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في كتابه (الأخلاق الإسلامية وأسسها) كتب تحت عنوان؛ فضل التواضع ابتغاء مرضاة الله، وإذ

حرمت النصوص الإسلامية الاستكبار بغير حق، وأبانت أن الكبر من قبائح أخلاق الإنسان حثت على التواضع؛ ابتغاء مرضاة الله ورغبت فيه، وأبانت أن من تواضع لله كافأه الله على تواضعه برفعه قال -عليه الصلاة والسلام-: ((وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) وهذا من سنن الله في عباده. كما أن من استكبر وتعالى على خلق الله أذله الله، ومن الملاحظ أن الناس يحبون المتواضع ويألفونه، ويكرهون المستكبر ويأنفون عنه ولا يألفونه، والسر في ذلك أن المتواضع ينزل نفسه إلى مستوى جلسائه فيعيش معهم بوداعة وانطلاق، ويعيش معهم ويعيشون معه بمثل ذلك فيتم بينه وبينهم الألفة والوئام، وذلك يولد المحبة بخلاف المستكبر فإنه يرفع نفسه فوق مستوى جلسائه فيعيش وحده في جو نفسي متعاظم، ويحيط نفسه بسياج شائك لا وداعة فيه ولا انطلاق، وحين يرى جلساؤه ومعاشروه ذلك منه يبتعدون عنه بنفوسهم فلا يألفونه، ويرونه يضع نفسه فوقهم فيكرهونه، فكلتا الثمرتين من النتائج الطبيعية لكلا العملين، يضاف إلى ذلك أن المتواضع لا يثير في الناس دافع المنافسة فيكون مألوفًا محبوبًا بخلاف المستكبر فهو يثير في الآخرين دافع المنافسة بقوة فيكون مكروهًا غير مألوف للنفوس، لا سيما إذا كان هو في نظرهم دون المكانة التي يرفع نفسه إليها. ولما كان التواضع من الأخلاق التي تملك القلب بالمحبة أمر الله رسوله بأن يخفض جناحه للمؤمنين مع أنه -صلى الله عليه وسلم- رفيع المكانة في نفسه، عظيم المنزلة عند الله تعالى، فقال الله تعالى له في سورة "الحجر" {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر: 88)، فكان -صلوات الله وسلامه عليه- يخفض جناحه للمؤمنين؛ فلا يتعاظم عليهم، ولا يستكبر، ويجلس بينهم كواحد منهم حتى يدخل عليه وهو في أصحابه من لا يعرفه فيقول: أيكم محمد؟ وربما كانت توقفه الأمة، وتأخذ بيده

ليقضي حاجة لها؛ روى البخاري عن أنس قال: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت، ولقد مر ذلك الحديث قريبا. وكان من تواضعه -صلى الله عليه وسلم- تحيته إلى الصغار بالسلام والمسح على رءوسهم ووجوههم؛ روى البخاري ومسلم عن أنس أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله، وروى مسلم عن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الأولى -أي صلاة الظهر- ثم خرج إلى أهله وخرجت معه فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحدًا واحدًا قال: وأما أنا فمسح خدي، قال: فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنه أخرجه من جونة عطار، ومعنى من جؤنه عطار أو جونة عطار؛ أي من السلة التي يضع فيها العطار عطره. ولما كان للتواضع من أثر اجتماعي كبير أوحى الله تعالى إلى رسوله بأن يأمر المسلمين بأن يتواضعوا، وقد سبق الحديث الذي رويته لكم؛ وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إن الله أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)). ومن تواضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسماحة نفسه -صلوات الله عليه- أنه كان يشارك أهله في البيت في مهنة البيت وفي عمل البيت، وإذا جاء وقت الصلاة ترك ما في يده وذهب إلى المسجد، وخرج إلى الصلاة كأنه لا يعرف أحد ولا يعرفه أحد؛ روى البخاري عن الأسود بن يزيد -رضي الله عنه- قال سألت عائشة -رضي الله عنها- ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع في بيته قالت: كان يكون في مهنة أهله -يعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، تقول في رواية: هرع إلى الصلاة كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه، ومعنى في مهنة الله؛ تعني في خدمة أهله.

التحذير من الكبر.

ومن تواضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه ما كان يستكبر عن طعام يُدعى إليه مهما قل أو مهما قلت قيمته؛ يجيب الداعي إذا دعاه ولو كانت الدعوة يسيرة، ويقبل الهدية ولو كانت يسيرة. التحذير من الكبر لقد حرم الله تعالى الكبر وحذر منه، وبين الحق -سبحانه وتعالى- أنه وحده له العظمة والكبرياء، فلا يحق لمخلوق أن ينازعه في عظمته وكبريائه، والتكبر على الناس وازدراؤهم والاستعلاء عليهم وغمط حقوقهم -أي إنكار ما لهم من حقوق- وأكل أموالهم بالباطل؛ كل ذلك حرمه الإسلام، وبينت آيات القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أن إبليس -عليه اللعنة- أول معصية عصاها لله تعالى كانت هي الكبر أو بسبب الكبر حيث تكبر عن السجود لأمر الله تعالى عندما أمر بالسجود لآدم -عليه السلام- وتعالى الشيطان بجنسه وافتخر بعنصره الناري، وقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (الأعراف: 12) ومرة أخرى قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} (الإسراء: 61)، فكان جزاؤه اللعنة والطرد من رحمة الله تعالى. ولقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أن المتكبر لا ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة ولا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم، وإليكم ما ذكره النووي في كتاب (رياض الصالحين) تحت عنوان؛ تحريم الكبر والإعجاب، قال: قال الله تعالى: {لْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83) وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} (الإسراء: 37)، وقال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان: 18)، ومعنى تصعر خدك للناس؛ أي تميله وتعرض به عن الناس

تكبرًا عليهم، والمرح التبختر، وقال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص: 76)، إلى قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} (القصص: 81) كان سبب ذلك الخسف هو تكبر قارون على الناس الذين كانوا معه. الأحاديث: عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذره من كبر)) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: ((إن الله جميل يحب الجمال؛ الكبر بطر الحق وغمط الناس)) رواه مسلم، المعنى: أن الجمال والتزين ليس تكبرًا فإن الله جميل يحب الجمال، إنما الكبر هو احتقار الناس وغمطهم وأكل حقوقهم. وعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أن رجلًا أكل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشماله فقال له -عليه الصلاة والسلام-: ((كُلْ بيمينك)) قال الرجل: لا أستطيع، فقال له -عليه الصلاة والسلام-: ((لا استطعت)) هذا الرجل منعه الكبر من أن يأكل بيده، فقال له -عليه الصلاة والسلام- عندما قال: لا أستطيع تكبرًا، قال له -عليه الصلاة والسلام-: ((لا استطعت)) دعا عليه، قال سلمة بن الأكوع: فما رفعها إلى فيه؛ يعني ما استطاع فعلًا أن يرفعها إلى فمه مرة أخرى؛ لأنه قال: لا أستطيع تكبرًا على أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وعن حارثة بن وهب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)) حديث متفق عليه؛ أي رواه البخاري ومسلم؛ فأهل النار هو كل عتل جواظ متكبر ومختال على الناس.

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((احتجت الجنة والنار -يعني فيه محاورة بين الجنة والنار كل منهما يحكي ما سيكون فيه- فقالت النار: فيَّ الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: فيَّ ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى الله بينهما؛ إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما علي ملؤها)) هذا الحديث يبين أن أهل الجنة من الضعفاء والمتواضعون والمساكين، أما أهل النار فهم الجبارون المتكبرون على خلق الله. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا)) أي تكبرًا وتعاليا، الذي يجر إزاره في الأرض؛ الذي يسبله ويجره في الأرض تكبرًا على عباد الله الناس لا يجدون ما يسترون به عوراتهم وهو يجر ثيابه في الأرض جرًّا، هذا لا ينظر الله يوم القيامة إليه، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا)) حديث متفق عليه. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم؛ شيخ زان -يعني رجل كبير ويزني- وملك كذاب، وعائل مستكبر)) فقير ويستكبر على عباد الله، فالعائل هو الفقير؛ هذا العائل يستكبر على خلق الله هذا العائل المستكبر لا ينظر الله -سبحانه وتعالى- إليه يوم القيامة هو والملك الكذاب -أي زعيم القوم عندما يكذب على قومه- لأنه ليس في حاجة إلى الكذب، وكذلك الشيخ الزاني؛ لأنه في غنى عن ذلك، هؤلاء لا ينظر الله تعالى إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يكلمهم، ولهم عذاب أليم. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((العز إزاري، والكبرياء ردائي؛ فمن ينازعني عذبته)) رواه مسلم، الحديث برواية أخرى؛ ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ فمن نازعني فيهما أدخلته النار ولا أبالي)).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته إذا خسف الله به؛ فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) حديث متفق عليه، ومرجل رأسه؛ أي ممشطه، يتجلجل بالجيمين؛ أي يغوص وينزل إلى يوم القيامة. وعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. ومعنى يذهب بنفسه؛ أي يرتفع ويتكبر على خلق الله تعالى، يظل يظن في نفسه أنه أفضل من الناس، وأنه أعز من الناس حتى يكتب في الجبارين، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يكتبنا في المتواضعين. ولقد كتب الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة كلامًا طيبًا في كتابه (الأخلاق الإسلامية وأسسها) إليكم بعض ما كتبه تحت عنوان؛ "تحذير الإسلام من الكبر والغرور بالنفس" يقول: تبين لنا أن الكبر من أقبح الانحرافات الأخلاقية وأسوءها، وأنه قد يدفع بصاحبه إلى جحود خالقه والاستكبار على طاعته كما فعل إبليس -لعنه الله- ولذلك شدد الإسلام في تحريم الكبر وحذر منه، وشدد اللائمة على المستكبرين وأوعدهم بالعقاب الشديد، كما رغب بالتواضع وحث عليه، ومجد المتواضعين وأثنى عليهم، ووعدهم بالثواب الجزيل، وفيما يلي طائفة من النصوص الإسلامية في هذا المجال: روى الترمذي بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون)) قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون؛ فما المتفيقهون؟ قال:

((المتكبرون)) والمتشدقون هم الذين يتكلمون بملء أفواههم، ويتصنعون القول تصنع مع التعاظم به، والتعالي على الناس فيرجع إلى دافع الكبر. ومن هذا الحديث نلاحظ أن أبغض المؤمنين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبعدهم منه مجلسًا يوم القيامة هم المتكبرون. وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول الله تعالى: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ فمن نازعني واحد منهما قذفته في النار)) فالعقوبة الأخروية المقررة لمن ينازع الله -تبارك وتعالى- في صفتيه الكبرياء والعظمة أن يقذف في النار، وثبت في حديث مسلم وقد رويناه سابقًا ((وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)). والمتواضعون أيها الإخوة هينون لينون، فالمتواضع لله هين لين لذلك جاء وصف المؤمنين ووصف المؤمن؛ روى الترمذي مرسلًا عن مكحول قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استنخ)) هين لين ليس فيه كبر ولا استعلاء، وإنما هو الجمل الذي يسهل انقياده وإن أنيخ استناخ. وروى الترمذي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال)) إذلالًا لهم يأتون كالذر لا قيمة لهم، والذل عليهم يأتيهم من كل مكان، ويساقون سوقًا إلى سجن في جهنم أعد لهم تعلوهم النار، نار فوق نار فوق نار، ويسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال. وروى الترمذي، عن سلمة بن الأكوع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الرجل يذهب بنفسه -أي تعالى بنفسه- ويظن في نفسه أنه جنس آخر حتى

يكتب في الجبارين فيصيبه ما يصيب الجبارين)) أي لا يزال يذهب بنفسه مستكبرًا منتفخًا متعاليًا على خلق الله متعاظمًا بنفسه حتى يرى أنه فوق الناس في خصائصه الفكرية، أو في خصائصه الجسدية، أو في أعراقه وأمجاده، أو في أتباعه وأولاده، أو في أمواله وأجناده، أو في مكانته في قومه، ويظل يتعالى بنفسه حتى يطغى ويكون جبارًا من الجبارين وعندئذ يقسمه الله -سبحانه وتعالى. إن هذا الحديث يصور حالة تدرج المستكبر في سلم الاستكبار والانتفاخ حتى يكون جبارًا من الجبارين، وأنه في أول حاله قد لا يكون كذلك، وهذا ما يشاهد في بعض الناس حينما يملكون بعض القوى المادية التي تمكنهم من بسط سلطانهم في الأرض أنهم يبدءون بداية صغرى، ثم يترقون في درجات الكبر درجة بعد درجة حتى يبلغوا الدرجة القصوى، والسبب في ذلك تزايد عامل الغرور بالنفس حينما تساعدهم الظروف على التسلط، وينفخ في رءوسهم المتملقون والمنافقون والمداحون. وروى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)) العتل هو الجافي شديد الخصومة بالباطل، والجواظ هو الجموع المنوع، أو هو المختال المتكبر، أو هو الفاجر. وروى مسلم بسنده في (صحيحه) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب إليم؛ شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)) وقد مضى الحديث سابقًا، ونذكر تعليق الشيخ عبد الرحمن حبنكة عليه فنقول: قال: أي فقير مستكبر لماذا؟ قال: وذلك لأن الفقير من شأنه أن يخفض الجناح، ولا يستكبر مع فقره إلا من ازداد لديه خلق الكبر زيادة جعلته منطمس البصيرة عن إدراك واقعه الذي

يقتضي منه ألا يكون مستكبرا، فهو مع فقره يستكبر على الناس فدل الكبر هنا على أنه شيء تأصل فيه، وأنه بالغ في ذلك الوصف حتى نسي نفسه ونسي أنه فقير محتاج. وأبان الله -تبارك وتعالى- أنه لا يؤمن بآيات الله عند تذكيره بها إلا الذين يخضعون لربهم، ويسبحون بحمده، وهم لا يستكبرون؛ فلا يمنعهم كبر في صدورهم عن الخضوع لله والتسبيح بحمده، فالمتكبر هو الذي يأنف أن يسجد لله، ويتكبر على أن يحمد الله، هذا المتكبر لا يأمن بآيات الله إذا ذكر بها؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: 15، 16) صدق الله العظيم، فدل بهذا على أن عامل الكبر أخطر العوامل الصارفة عن الإيمان بالله وبآياته. وأثنى الله تعالى على الملائكة بأنهم لا يستكبرون عن عبادة ربهم؛ فقال -تبارك وتعالى- في سورة "الأعراف": {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (الأعراف: 206)، وقال تعالى في سورة "النحل": {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل: 49، 50) فأظهر وصف هنا في هذه الآيات للملائكة أنهم وصفوا بأنهم غير متكبرين، لا يستكبرون عن عبادة الله، ولا عن الخضوع والسجود لله، فهم متواضعون وهكذا يجب أن يكون شأن المسلم. وروى مسلم في (صحيحه) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبه من خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)) فدلت هذه الأقوال النبوية على أن

المستكبرين أبعد الناس عن الجنة، وأن الكبر والكفر قرينان؛ إذ لا يدخل النار من في قلبه مثقال حبة من خردل إيمان، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولكن ليس المراد من الكبر ما يشمل رغبة الإنسان بأن يكون مظهره أنيقًا ولباسه حسن، بل المراد منه كما فسره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بطر الحق وغمط الناس، وقد سبق تفسير هذا التعريف النبوي؛ ففرق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين الكبر وبين المظاهر الجميلة التي قد يدفع إليها الكبر وقد يدفع إليه حب الجمال والرغبة في الأناقة، وعندئذ لا تكون من قبل الكبر ولا دالة عليه. والكبر الذي يحرم المستكبر من دخول الجنة؛ هو الكبر عن الإيمان بالله، وبما جاء من عنده -سبحانه وتعالى- وبكل ما أمر بالإيمان به، وكذلك الكبر عن طاعة الله، وكل أمر من أوامر الله، أما كبر الناس على الناس دون أن يؤثر ذلك على قضيتي الإيمان والطاعة لله فهو من المعاصي الكبرى ومن الكبائر؛ إلا أنه لا يخرج صاحبه من دائرة الإيمان والإسلام إلى دائرة الكفر والحرمان من دخول الجنة؛ فهو مسلم عاص، وأمره إلى الله -سبحانه وتعالى. وسبق أن ذكرنا أن الإمام مسلم روى عن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((احتجت الجنة والنار)) احتجت الجنة بأنه لا يدخلها إلا الضعفاء والمساكين واحتجت النار بأنه يدخلها الجبارون والمتكبرون، فبين الله سبحانه وتعالى أن الجنة رحمته يدخل فيها من يحب من عباده، وأن النار عذابه يعذب بها من يشاء من عباده، فدلت النصوص على أن الكبر داء يجر إلى أوخم العواقب، والكبر له أثر سيئ على سلوك صاحبه فيتولد عن داء الكبر أنواع قبيحة من السلوك الداخلي والخارجي، فالمستكبر قد يجحد الحق الذي لغيره ولا يعترف له به؛ لأنه لا يريد أن يخضع لغيره، أو لا يريد أن يفوق عليه أو يساويه أحد في الامتياز، وحين لا

يملك تغيير الواقع فما عليه إلا أن يسطره بغمطه وجحوده وتنقيصه وبالتعالي عليه في تصرفات وأعمال من شأنها أشعار الآخرين بأنه ذو امتياز أسمى مما لغيره. وقد يصل المستكبر إلى مستوى بالغ في الإجرام؛ إذ يعمل على قتل ما لذي غيره من خصائص تمتاز على ما لديه منها، أو قتل غيره وصرفه عن الوجود نهائيًّا حتى لا يكون له منافس، ومتى تمادت الأنفس في استكبارها وغرورها أصابها مس من الطغيان، وكان كبرها أشبه ما يكون بالطوفان، وطوفان الكبر قد يصل في أقصى مده إلى جحود الله، والاستكبار عن عبادته وطاعته، وتحدي قوته وقدرته وجلاله وقهره لعباده، ويقف في أدنى مده عند حدود احتقار الناس والازدراء بهم واستصغارهم، والاستهانة بما عندهم، والتعالي عليهم، والغرور بالنفس ينفخ في صدور المستكبرين حتى يروا أنفسهم عظماء كبراء وهم في واقع حالهم صغار جدًّا، إن شعورهم حول أنفسهم شعور هوائي صنعته الأوهام لا يصاحبه نماء حقيقي فيما تملكه ذات المستكبر من خصائص وقوى معنوية أو مادية وربما يغشي الكبر عن البصائر فيعميها عن رؤية الحق حقًّا والباطل باطلًا، ومن أجل ذلك تتمادى في طغيانها وما يزال الغرور بالنفس ينتفخ وينتفخ وتنتفخ النفس به حتى تنفجر وتتمزق، أو تصطدم بما يهشمها ويحطمها ويمزقها، وهذا من السنن الربانية الدائمة التي نرى شواهدها في الواقع الإنساني سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلًا. ومن آثار الكبر في السلوك الظاهر الهزء والسخرية بالآخرين، واحتقار الناس وإزدرائهم، وحركات الغمز والهمز واللمز والتعبير والتنقيص، وقد يكون من آثاره أيضًا الغيبة وفضح العيوب وكشف نقائص، الناس ومن آثاره أيضًا التبختر والخيلاء والمرح في المشية، وتصعير الخد، والإعراض عن حديث المتحدث، والنظر بشذر إلى الناس، وجر الثوب من الخيلاء، والتطاول في الجسم، والتقعر

في الكلام والتشدق فيه، والإجابة بحركات الوجه أو اليدين أو غيرهما من الجسم كرفع الحاجبين وغمز العين وشد الحنك ومط الشفاة وإشارة اليد وإدارة الظهر والالتفات بالعنق ورفع الرأس أو خفضه، ومن آثاره أيضًا الترفع عن مجالسة ضعفاء القوم وفقرائهم ومساكينهم، والترفع عن محادثتهم ومؤاكلتهم ومشاربتهم، ومنه التعصب للرأي والعناد على الباطل رغم وضوح الحق؛ وهكذا إلى أمور كثيرة جدًّا. وقد عالج الإسلام آثار الكبر في السلوك، ووجه إلى الآداب الإسلامية والفضائل السلوكية في هذا المجال؛ فما ترك النفوس تشرد أو تضيع، ولكن وجهها إلى التوجيه الصواب، ونورد فيما يلي طائفة من هذه المعالجة: أولًا: الاستكبار عن الإيمان بالله وعبادته: وقد أولى القرآن الكريم هذه الظاهرة من ظواهر الكبر عناية عظيمة، ووجه لها اهتمامًا كبير، وبين أن الذين استكبروا واستنكفوا عن عبادة الله هم خاطئون ومخطئون، وبين أن المسيح -عليه السلام- كان عبدًا لله ولن يستنكف عن ذلك، وكذلك الملائكة المقربون عباد الله ولا يستنكفون -أي لا يستكبرون- عن عبادته؛ قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} (النساء: 172، 173)، وقول الله تعالى في سورة "الأعراف" {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الأعراف: 36)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ

السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (الأعراف: 40، 41). فأبان الله في هذه النصوص ما لداء الكبر من تأثير قد يبلغ بصاحبه إلى مستوى التكذيب بآيات الله وهي حق، والاستكبار عن اتباع ما جاء فيها من أوامر ونواهٍ، والاستنكاف عن عبادة الله تعالى. ثانيًا: تصغير الخد للناس والمرح ومشية الخيلاء: ولقد عرض القرآن الكريم النهي عن هذه الظاهرة من ظواهر الكبر في السلوك ضمن وصايا لقمان لابنه، وقد ذكرها الله مؤيدًا لها ومشيدًا بحكمة لقمان؛ ففي سياق ذكر وصايا لقمان لابنه يقول الحق تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمُ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان: 17، 18). هذا وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 20 بر الوالدين، وصلة الرحم.

الدرس: 20 بر الوالدين، وصلة الرحم.

بر الوالدين

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (بر الوالدين، وصلة الرحم) بر الوالدين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: إن معنى بر الوالدين هو الإحسان إليهما وطاعتهما في غير معصية الله تعالى، والتودد إليهما والرأفة بهما خاصة عند كبر سنهما، ويخاطبهما الإنسان باللين، وأن يعاملهما بالشفقة والرحمة، وأن يحسن الألفاظ التي يتعامل بها معهما؛ فلا يقول لهما كلمة نابية ولا لفظًا مؤذيًا حتى كلمة " أف " لا يقولهما لهما عند تضجر من أمر، أو عندما يشق عليه أمر في لحظة ما حتى في أحرج اللحظات لا يقل لهما " أف " ولو كان هناك كلمة أقل في الإيذاء من كلمة " أف " لذكرها الله تعالى ونهى عنها؛ قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 23، 24) وجاء الأمر بالإحسان إليهما في هذه الآية بعد الأمر بعبادة الله وحده. وكذلك ما نزل في سورة " النساء " قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (النساء: 36). كما جاء الأمر بالإحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين في سورة " العنكبوت " قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8). وفي سورة " لقمان " وسورة " الأحقاف " كانت الوصية بالبر بالوالدين والإحسان إليهما وبيان مدى التعب والمشقة والوهن التي تحملته الأم في حملها ووضعها

ورضاعتها له، وسهرها على راحته، ومرضها لمرضه، وفرحها لفرحه وصحته؛ قال تعالى في سورة " لقمان " {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 14، 15). وفي سورة " الأحقاف " قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} (الأحقاف: 15). ولقد جاءت أحاديث كثيرة على لسان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كلها تدعو إلى البر والإحسان إلى الوالدين؛ ذكر الإمام النووي في كتابه (رياض الصالحين) جملة من هذه الأحاديث، فإليكم هذه الأحاديث التي جاءت تحت باب: بر الوالدين وصلة الأرحام. قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 36) وذكر الآيات التي وردت في القرآن الكريم في بر الوالدين وصلة الأرحام في مقدمة الأحاديث، ثم بدأ يروي الأحاديث، فقال: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((الصلاة على وقتها)) وفي رواية: ((الصلاة لوقتها)) قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) قلت: ثم أي؟ قال:

((الجهاد في سبيل الله)) حديث متفق عليه؛ أي رواه البخاري ومسلم، ذكر هنا بر الوالدين بعد الصلاة التي هي عمود الدين، والتي من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، يذكر بعد الصلاة مباشرة البر بالوالدين ليبين أهمية ذلك العمل في الإسلام. الحديث الثاني: وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يجزي - أي لا يكافئ ولا يقوم بحق الوالد - ولدٌ والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)) هذا هو فقط الذي يكون قد قام بحق بر الوالدين. وعنه أيضًا؛ أي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) حديث متفق عليه. وعن أبي هريرة أيضًا -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟، قالت: بلى، قال: فذالك لك)) ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اقرءوا إن شئتم)) {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد: 22، 23). وفي رواية للبخاري ((فقال الله تعالى: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته)). وعن أبي هريرة أيضًا -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أبوك))

حديث متفق عليه، وفي رواية أن ذلك الرجل قال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: ((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك أدناك)) يعني الأقرب الأقرب بعد الأب، والصحابة بمعنى الصحبة، وقوله: ((ثم أباك)) هكذا هو منصوب بفعل محذوف؛ أي ثم بر أباك، وفي رواية: ((ثم أبوك)) وهذا واضح؛ أي يكون معطوفًا على أمك. الحديث الذي بعد ذلك: وعنه؛ أي عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة)) ومعنى رغم أنفه؛ أي خاب وخسر وضاعت منه فرصة ما حصلها الذي يدرك والديه أو أحدهما عند كبرهما ولم يدخل الجنة بسبب برهما، فهذه فرصة قد ضاعت من يده، كما جاء في (مسند الإمام أحمد بن حنبل) - رحمه الله تعالى - كثيرًا من الأحاديث في هذا الموضوع؛ ألا وهو البر بالوالدين رواها الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - بسنده في (مسنده) الذي رتبه الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا في كتابه (الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني) جاءت أحاديث البر بالوالدين في الجزء التاسع عشر ص35 من هذا (الفتح). قال - رحمه الله تعالى -: باب ما جاء في بر الوالدين وحقوقهما والترغيب في ذلك: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أحب أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)) وقد مر قريبًا.

وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوصاه بعشر كلمات منها؛ ((ولا تعقن والديك إن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك)) يعني لو أمرك الأب بأن تخرج من أهلك بأن تطلق امرأتك، وأن تخرج من مالك وتتركه فعليك ألا تعصهما في ذلك، وقد حدث فعل ً اأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أمر ابنه عبد الله أن يطلق زوجته فطلقها تحت رغبة عمر أو تلبية لرغبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: جئت لأبايعك - زاد في رواية أخرى على الهجرة أي جئت لأبايعك على الهجرة - وتركت أبوي يبكيان، قال: ((فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)) وأبى -صلى الله عليه وسلم- أن يبايعه، أمره بالرجوع إلى أبويه الذين تركهما يبكيان قال له: ((ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما)) وأبى - عليه الصلاة والسلام - أن يبايعه على الهجرة. وعنه أيضًا؛ أي عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت هذه الشجرة إذ أقبل رجل من هذا الشعب؛ يعني من وادي من هذا الوادي فسلم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: يا رسول الله إني قد أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله تعالى والدار الآخرة، قال: ((هل من أبويك أحد حي؟)) قال: نعم يا رسول الله كلاهما قال: ((فارجع أبرر أبويك)) قال: فولى راجعًا من حيث جاء، وعنه من طريق ثان عن عبد الله بن عمرو من طريق ثان أن رجل ً اجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستئذنه في الجهاد، فقال: ((أحي والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ف فيهما فجاهد)). عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: هاجر رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من اليمن فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أجرت الشرك ولكنه الجهاد هل باليمن أبواك؟)) قال: نعم قال - عليه الصلاة والسلام-: ((أذنا لك)) يعني أذنا لك في الهجرة وفي الجهاد قال: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ارجع إلى أبويك فاستئذنهما فإن فعلا وإلا فبرهما)).

وعن معاوية بن جاهمة قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك، فقال: ((هل لك من أم؟)) قال: نعم، فقال: ((الزمها؛ فإن الجنة عند رجلها)) ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) قال: قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين)) قال: قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم الجهاد في سبيل الله)) قال: فحدثني بهن ولو استزدته لزادني؛ أي لو طلبت منه زيادة من هذه الأوامر لزادني - صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عند الكبر لم يدخل الجنة)) وقد مر سابقًا وفي لفظ: ((فلم يدخلاه الجنة)). وعن أبي بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك فأبعده الله وأسحقه)). وعن المقدام بن معد يكرب الكندي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله -عز وجل- يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بآبائكم، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب)). وعن خداش بن سلام عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أوصي امرأ بأمه، أوصي امرأ بأمه، أوصي امرأ بأمه، أوصي امرأ بأبيه، أوصي امرأ بأبيه، أوصي امرأ بمولاه الذي يليه وإن كانت عليه فيه أذاة تؤذيه)). وعن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، من أبر؟ قال: ((أمك)) قلت: ثم من؟ قال: ((ثم أمك)) قال: قلت: يا رسول الله ثم من؟ قال: ((أمك)) قال: قلت: ثم من؟ قال: ((ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب)).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوه إلا قوله: ((ثم الأقرب فالأقرب)). وعن أبي أسيد الساعدي -رضي الله عنه- صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان بدري ًّ ا - أي ممن حضر غزوة بدر - وكان مولاهم قال أبو أسيد: بينما أنا جالس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله هل بقي علي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به؟ انظر إلى حرص الصحابة الكرام يسألون عن بر الوالدين بعد موتهما بعد ما يموت الأب أو تموت الأم أو يموت كلاهما هل هناك بر لهما بعد ذلك يقوم به ذلك الصحابي، ويعلم الأمة أن تقوم به بعد موتهما؟ قال له - عليه الصلاة والسلام -: ((نعم خصال أربعة)) يعني أربعة أشياء تكون من البر بهما بعد موتهما ((الصلاة عليهما)) والمراد بالصلاة هنا الدعاء والاستغفار لهما - وفي رواية أخرى ((الصلاة لهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما)). حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب قال: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يحدث أن رجل ً اأمرته أمه أو أبوه أو كلاهما، قال شعبة: يقول ذلك أن يطلق امرأته فجعل عليه مائة محرر؛ معناه أن يعتق مائة عبد إن طلق زوجته، فأتى أبا الدرداء فإذا هو يصلي الضحى يطيلها فصلى ما بين الظهر والعصر فسأل فقال أبو الدرداء: أوف بنذر وبر والديك إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الوالد أوسط باب الجنة؛ فحافظ على الوالد أو اترك)) أنت حر الوالد أوسط باب الجنة إن كنت تريد الجنة فحافظ على الوالد , ومن طريق ثان عن أبي عبد الرحمن السلمي أيضًا قال: أتى رجل أبا الدرداء -رضي الله عنه- فقال: إن امرأتي بنت عمي وإني أحبها، وإن والدتي تأمرني أن أطلقها، فقال: لا آمرك أن تطلقها،

ولا آمرك أن تعص والدتك، ولكن أحدثك حديثًا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الوالدة أوسط أبواب الجنة؛ فإن شئت فأمسك وإن شئت فدع)). وعنه أيضًا من طريق ثالث قال: كان فينا رجل لم تزل به أمه أن يتزوج حتى تزوج؛ يعني أمه تعرض عليه الزواج كثيرًا حتى تزوج، ثم أمرته أن يفارقها، فرحل إلى أبي الدرداء بالشام فقال: إن أمي لم تزل بي حتى تزوجت ثم أمرتني أن أفارق، قال: ما أنا بالذي آمرك أن تفارق، وما أنا بالذي آمرك أن تمسك؛ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة فأضع ذلك الباب أو احفظه)) قال: فرجع وقد فارقها. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كانت تحتي امرأة أحبها، وكان عمر - أي ابن الخطاب - يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني أبوه عمر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن عند عبد الله بن عمر امرأة كرهتها له فأمرته أن يطلقها فأبى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا عبد الله طلق امرأتك)) فطلقتها. وفي رواية عنه؛ أي عن ابن عمر أيضًا فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أطع أباك)). وعن عياض بن مرثد أو مرثد بن عياض عن رجل منهم أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: ((هل من والديك من أحد حي؟)) قال له مرات قال: لا، قال: ((فاسق الماء)) قال: كيف أسقيه؟ قال: ((أكفهم آلتهم إذا حضروه، واحمله إليهم إذا غابوا عنه)). عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: قدمت أمي، وفي لفظ أتتني أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستفتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: أمي قدمت وهي راغبة - يعني راغبة عن الإسلام - أفأصلها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم صلي أمك)).

وعنها من طريق ثان قالت: قدمت علي أمي في مدة قريش، وفي لفظ في عهد قريش ومدتهم التي كانت بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدمت أمي مشركة وهي راغبة - يعني محتاجة ترغب في عطائ ي- فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي مشركة راغبة أفأصلها؟ قال: ((صلي أمك)). وعن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن أعرابي ًّ امر عليه وهم في طريق الحج، فقال له ابن عمر: ألست فلان بن فلان؟ قال: بلى، قال: فانطلق إلى حمار كان يستريح عليه إذا مل راحلته وعمامة كان يشد بها رأسه فدفعها - أي أعطاها إلى ذلك الأعرابي - فلما انطلق - أي مشى الأعرابي - قال له بعضنا: انطلقت يا بن عمر إلى حمارك التي كنت تستريح عليه وعمامتك التي كنت تشد بها رأسك فأعطيتهما هذا الأعرابي، وإنما كان يرضى بدرهم، قال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن أبر البر صلة المرء أهل ود أبيه بعد أن يولى)) يعني بعد أن يموت الأب أن تصل الذين كان يصلهم الأب. هذا هو أبر البر. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: أتى أعرابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أبي يريد أن ي ج تا ح مالي؛ يعني إن أبي يريد أن يأخذ مالي كله، فقال: إن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال له - عليه الصلاة والسلام -: ((أنت ومالك لوالدك)) وفي رواية: ((أنت ومالك لأبيك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أموال أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئًا)). وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم)). وبر الوالدين له ثمار طيبة حسنة في الدنيا والآخرة؛ فالبر بالوالدين يكون سببًا في إجابة الدعوة كما ورد في الحديث الصحيح في قصة الثلاثة؛ أما قصة

الثلاثة الذين كانوا في الغار فمشهورة محفوظة عند الجميع، فإليكم قصة أويس القرني: روى مسلم، عن أسير بن عمرو أو هو أسير بن جابر، قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن، قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم، قال: لك والدة، قال: نعم، قال عمر سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)) فاستغفر لي يا أويس، فاستغفر أويس لعمر، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها، قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي؛ يعني أكون واحد عادي من الناس. فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم؛ أي من أشراف اليمن فوافق عمر، فسأله عمر عن أويس، فقال: تركته رث البيت قليل المتاع؛ يعني زاهد في الدنيا وراض ٍ بما أعطاه الله، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)) فأتى الرجل أويسًا، فقال: استغفر لي، قال أويس للرجل: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح فاستغفر لي، لقيت عمر، قال: نعم فاستغفر له، فاستغفر له ففطن له الناس؛ يعني الناس عرفوا قدر أويس فانطلق على وجهه خرج من بيته وهاجر المكان والبلدة التي يعيش فيها.

صلة الرحم.

كلمة ((أمداد أهل اليمن)) هم متطوعة الجهاد الذين كانوا يأتون مددًا لجيوش الفتح الإسلامي من مختلف الجها ت، وكان اليمنيون عنصرًا مهم ًّ ايمد بالأعداد الكثيرة من المقاتلين، ((لو أقسم على الله لأبره)) أي لو حلف يمينًا قال فيه: والله ليفعلن الله هذا الأمر لأبر الله قسمه، ففعل الله ما حلف عليه أويس، " أكون في غبراء الناس أحب إلي " أي أكون في عامتهم وفقرائهم ومن لا ينظر إليه منهم أحب إلي، وهذا من تواضعه وأخلاصه العظيم - رضي الله عنه - " رث البيت " الرث هو الخ َ ل ِ ق البالي من كل شيء؛ تقول: ثوب رث، ورجل رث الهيئة ومتاع رث، والجمع رثاث، " فانطلق على وجهه " أي ذهب ثم لم يعرف مكانه إخفاء لنفسه وبعدًا عن التظاهر؛ مخافة أن يدخل إلى قلبه الرياء. وأويس تابعي لم ير الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر عنه وعن صفته قبل أن يأتي، ثم جاء مع أمداد أهل اليمن كما أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهي إحدى معجزات المصطفى - عليه الصلاة والسلام. الأمر الثاني: أويس خير التابعين، ولما كان أويس هذا عظيم الإيمان عظيم الإخلاص لله كثير التقوى والبر والإحسان كان خير التابعين، وقد شهد له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك كما جاء في رواية عند مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن خير التابعين رجل يقال له: أويس، وله والدة، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم)). صلة الرحم لقد أمر الإسلام بصلة الرحم، وبين -صلى الله عليه وسلم- أن صلة الرحم سعادة في الدنيا، ونجاح وفلاح في الآخرة؛ روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) بإسنادهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك))

وقد مر الحديث قريبًا، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اقرءوا إن شئتم)) {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد: 22، 23). ولقد مدح الحق -سبحانه وتعالى- الذين يصلون الأرحام، وبين أنهم أهل الجنة، وأنهم أولو الألباب - أي العقول - كما ذم الذين يقطعون الأرحام، وبين أن لهم اللعنة، ولهم سوء الدار؛ قال تعالى في سورة " الرعد " {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار} (الرعد: 19 - 25). وإليك ما جاء في (رياض الصالحين) من الأحاديث النبوية الشريفة التي تدعو إلى صلة الأرحام وعدم قطيعتها؛ يقول النووي: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجل ً اقال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال - عليه الصلاة والسلام - ((لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) رواه مسلم. و ((تسفهم)) بضم التاء وكسر السين المهملة وتشديد الفاء تسفهم، و ((المل)) بفتح الميم وتشديد اللام هو الرماد الحار؛ أي كأنما أي كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم بما يلحق أكل الرماد الحار من الألم، ولا

شيء على هذا المحسن إليهم، لكن ينالهم إثم عظيم لتقصيرهم في حقه، وإدخالهم الأذى عليه، والله أعلم. وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه)) أي أحب أن يوسع له في رزقه، وأن يؤخر له في عمره؛ فليصل رحمه، فصلة الرحم تزيد في العمر، وتكون بركة في الرزق، والزيادة في العمر قد تكون حقيقة بأن يعلق الله -سبحانه وتعالى- زيادة العمر على بره وعلى صلته لرحمه، أو أن المراد بزيادة العمر البركة في العمر؛ فإنه من البركة في العمر أن الإنسان قد تراه يعيش قليل ً اولكن يترك آثارًا طيبة عظيمة، وذكرًا يطول بعده مئات السنين. يقول الإمام النووي: ومعنى ((ينسأ له في أثره)) أي يؤخر له في أجله وعمره. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مال ً امن نخل، وكان أحب أمواله إليه " بيرحاء " وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) قام أبو طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن الله - تبارك وتعالى - يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب مالي إلي " ببرحاء " وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برها وزخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بخ - وهي كلمة تقال عند السرور - بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. متفق عليه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: أقبل رجل إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، قال: ((فهل لك من والديك أحد حي؟)) قال: نعم بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله تعالى))

قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) وفي رواية لهما؛ أي للبخاري ومسلم، جاء رجل فاستأذنه في الجهاد، فقال: ((أحي والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)). وعنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)). وعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها - أنها أعتقت وليدة - يعني جارية - كانت عندها ولم تستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: ((أوفعلت؟)) قالت: نعم، قال: ((أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)) لأن ذلك يكون فيه عتق وصلة رحم. وعن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه وعنها - قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن)) قالت: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود فقلت له: إنك رجل خفيف ذات اليد؛ يعني فقير لكنها لغة مهذبة من المرأة لزوجها، تقول: فقلت له: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمرنا بالصدقة فأته فاسأله فإن كان ذلك يجزئ عني؛ يعني أعطيك مالي صدقة، وإلا صرفتها إلى غيركم، فقال عبد الله: بل ائتيه أنت، فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجتي حاجتها؛ يعني عندها مال وزوجها فقير، ولما سمعت الأمر بالصدقة تريد أن تعطي زوجها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ألقيت عليه المهابة؛ يعني يهابونه عند السؤال فخرج علينا بلال -رضي الله عنه- فقلنا له: ائت

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن، انظر إلى عظمة الصحابيات ليسترن على أزواجهن يقلن لسيدنا بلال: ولا تخبره من بالباب، ولا تخبره من نحن، فدخل بلال على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأله فقال له: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((من هما؟)) قال بلال: امرأة من الأنصار وزينب، هنا أجاب بلال على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يعص أمره، وفي الوقت نفسه كتم سر المرأتين، فقال: امرأة من الأنصار وزينب، وكم من امرأة اسمها زينب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أي الزيانب هي؟)) قال: امرأة عبد الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لهما أجران؛ أجر القرابة وأجر الصدقة)) حديث متفق عليه. وعن أبي سفيان صخر بن حرب -رضي الله عنه- في حديثه الطويل في قصة هرقل؛ أن هرقل قال لأبي سفيان: فماذا يأمركم به؛ يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: قلت: يقول: ((اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم)) ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط - وهي مصر -)) وفي رواية: ((ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط؛ فاستوصوا بأهلها خيرًا؛ فإن لهم ذمة ورحمًا))، وفي رواية: ((فإذا افتتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذمة ورحمًا)) أو قال: ((لهم ذمة وصهرًا))، رواه مسلم. قال العلماء: الرحم التي لهم كون هاجر أم إسماعيل منهم، والصهر كون مارية أم إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية؛ وهي قول الحق - سبحانه وتعالى -: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قريشًا فاجتمعوا فعم

وخص، وقال: ((يا بني عبد شمس، يا بني كعب بن لؤي؛ أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها)). قوله: ((ببلالها)) هو بفتح باء الثانية وكسرها؛ يعني يجوز ببلالها وببلالها، والبلال الماء، ومعنى الحديث سأصلها، شبه قطيعتها بالحرارة تطفأ بالماء، وهذه تبرده بالصلة. وعن أبي عبد الله عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جهارًا غير سر يقول: ((إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أبلها ببلالها)). وعن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري -رضي الله عنه- أن رجل ً اقال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)). وعن سلمان بن عامر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمرة؛ فإنه بركة، فإن لم يجد تمرًا فالماء؛ فإنه طهور)) وقال: ((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان؛ صدقة وصلة)). هذا وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 21 حق المسلم على المسلم، وجزاء من قام بهذه الحقوق.

الدرس: 21 حق المسلم على المسلم، وجزاء من قام بهذه الحقوق.

حق المسلم على المسلم

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (حق المسلم على المسلم، وجزاء من قام بهذه الحقوق) حق المسلم على المسلم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: إن للمسلم على المسلم حقوقًا جاء بها الإسلام في القرآن الكريم، وعلى لسان النبي الأمين سيدنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين - وهي حقوق كثيرة تنبئ عن الأخلاق الإسلامية الحميدة التي يجب أن يتخلق بها كل مسلم، ويتحلى بها المسلمون جميعًا، فلو قام كل مسلم بما وجب عليه من حقوق تجاه إخوانه المسلمين؛ لساد في المجتمع الحب والتعاون، ولانتشر ت السعادة والطمأنينة والسكينة في قلوب المسلمين. لقد ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أن من حق المسلم على المسلم أنه إذا مرض المسلم عاده أخوه المسلم، وبين -صلى الله عليه وسلم- جزاء من يقوم بهذا العمل؛ أي عيادة المريض؛ إذ يكون في خراف الجنة؛ أي بساتينها حتى يعود، وإذا مات مسلم كان من حقه على إخوانه المسلمين أن يشيعوه إلى قبره، وأن يصلوا عليه، وبين -صلى الله عليه وسلم- جزاء من يفعل ذلك بأنه ل هـ قيراطان في الجنة، والقيراط مثل جبل أحد. ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يسلم عليه إذا لقيه، وله بذلك أجر عظيم عند الله تعالى، وعلى من يسلم عليه أن يرد السلام بزيادة أو بمثله على الأقل؛ قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (النساء: 86)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، (النور: 27). ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يجيبه إذا دعاه لعرس أو وليمة؛ بشرط ألا يكون هناك إثم ولا معصية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت))، فإجابة الدعوة حق من حقوق المسلم

على أخيه المسلم مراعاة لخاطره، والوقوف بجواره في السراء والضراء، ولجبر خاطره. كما أن من حق المسلم على المسلم أن يبره إذا أقسم عليه بشرط ألا يكون في إبراره لقسمه معصية، أما إذا كان إبراره في قسمه يؤدي إلى معصيه فلا يبره، وعلى المقسم أن يكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من حلف على يمين فوجد غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه، وليأتي الذي هو خير)). ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يشمته إذا عطس بشرط أن يحمد الله؛ ومعنى يشمته؛ أي يدعو له بالرحمة فيقول له: يرحمكم الله مرة ومرتين، وفي الثالثة يقول له: يرحمك الله بك مرض أو زكام، وعلى العاطس أن يرد على من دعا له وشمته، فيقول: يغفر الله لي ولك، أو يهدينا ويهديكم الله ويصلح بالكم، فإذا لم يحمد الله الذي عطس فلا حق له في التشميت، والتشميت أي الدعاء بالرحمة مأخوذ من شوامت الدابة؛ أي قوائمها فهو دعاء له بالتثبيت؛ لأن العطاس نذير مرض وبرد، ويقال له: التسميت بالسين بدل ً امن الشين، وهو دعاء بأن يجعل الله تعالى سمته حسنًا؛ أي هيئته حسنة، وأن يعافيه من الأمراض. ومن حق المسلم على المسلم أن ينصحه إذا طلب منه النصيحة، والنصيحة مطلوبة لكل مسلم، ومن كل مسلم قادر على إسدائها وتقديمها للناس، وليس هناك كبير على النصيحة، فالنصيحة تكون للحاكم وللمحكوم، وتكون للصغير وللكبير، وتكون لدين الله وللقرآن ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم. جاءت كل هذه الحقوق في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((حق المسلم على المسلم خمس؛ أن يعوده إذا مرض، ويشيعه إذا مات، ويسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، وأن يبره إذا أقسم)) وفي رواية: ((حق المسلم على المسلم ست)) جاء فيها

((وأن يشمته إذا عطس، وأن ينصحه إذا استنصحه)) والنصيحة جعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدين كله؛ ليبين مكانتها؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة)) قال الراوي قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)) أي ليس هناك كبير على النصيحة، والنصيحة لله؛ أي تكون النصيحة خالصة لله -سبحانه وتعالى- ولصالح دين الله، والنصيحة لرسول الله؛ أي تكون خالصة لصالح شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والنصيحة لكتاب الله؛ أي تكون الدعوة لحفظ كتاب الله، والعمل لكتاب الله. وعن جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- قال: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم. حديث متفق عليه. ولقد جاءت آيات كريمة في النصح؛ فقال تعالى إخبارًا عن نوح - عليه السلام -: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} (الأعراف: 62) وعن هود - عليه السلام -: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (الأعراف: 68) فتقديم النصيحة وإسداء النصح خلق فاضل كريم دعت إليه كل الشرائع السماوية، وتنزلت به الكتب السماوية، وتردد كثيرًا على ألسنة الرسل. والنصيحة هي الكلمة الجامعة الوحيدة للدلالة على الخير، والتحذير من الشر والوقوع فيه، تكررت على لسان سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل النصيحة للناس هي الدين كله، وتكون النصيحة لله؛ أي لدينه -سبحانه وتعالى- وتكون خالصة له - سبحانه عز وجل - وتكون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ أي لصالح دينه وشخصه ورفعة شريعته وإعلاء سنته والدعوة إلى العمل بالسنة وحفظها، وتكون لكتاب الله بحفظه وتعليمه وتعلمه وفهمه ودراسته والعمل به والسير على تشريعاته، وتكون لأئمة المسلمين من أمراء وعلماء؛ فلا كبير على النصيحة، وتكون لعامة الأمة في دعوتها إلى الرشد والرشاد وترك الغي والضلال والظلم والفساد والدعوة إلى العمل بشرع الله تعالى.

ولمكانة النصيحة العالية يوصي بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحابي الجليل جرير بن عبد الله البجلي بعدما يأتي جرير ويبايع على الإسلام ويناديه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد المبايعة أو ليضيف لبيعته بندًا مهم ًّ افي بيعته فيناديه: ((يا جرير)) فيعود جرير، فيقول له - عليه الصلاة والسلام -: ((والنصح لكل مسلم، والنصح لكل مسلم، والنصح لكل مسلم)) أي ضم إلى مبايعتك النصح لكل مسلم. روى الإمام مسلم في (صحيحه) بسنده عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم، في رواية: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على النصح لكل مسلم، وفي رواية ثالثة: بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة، فلقنني فيما استطعت والنصح لكل مسلم. إن النصح خلق نبيل جاءت به كل الشرائع، وتردد على ألسنة كل الرسل فها هو نبي الله نوح - عليه السلام - يعلن عن نصحه لقومه؛ قال تعالى في سورة " الأعراف " في إرسال نوح - عليه السلام - إلى قومه وعدم إيمانهم به واتهامهم إياه بالضلال كذبًا وبهتانًا؛ قال يحكي عن نوح: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 61، 62). ونبي الله صالح يعلن بأنه نصح قومه وأسدى لهم النصيحة، ولكنهم لا يحبون الناصحين؛ قال تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (الأعراف: 79). وشعيب - عليه السلام - بلغ قومه ونصحهم، ولكنهم عتوا واستكبروا؛ قال تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} (الأعراف: 93).

وجاء في قصة هود - عليه السلام - أيضًا أنه أعلن على قومه أنه قام بالنصيحة لهم وكان أمينًا معهم؛ قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (الأعراف: 67، 68). وها هو رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ينصح موسى - عليه السلام - بالخروج من المدينة؛ لأن الملأ - أي علية القوم - يأتمرون به ليقتلوه؛ فنصحه بالخروج من المدينة، وأخبره بأنه لهم من الناصحين، وعمل موسى بنصيحته فنجاه الله -سبحانه وتعالى- قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ} (القصص: 20). وإخوة يوسف - عليه السلام - قالوا لأبيهم: إنا من الناصحين ليوسف فأعطاه لهم، وكان ما كان منهم مع يوسف - عليه السلام - قال تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (يوسف: 11، 12). فالنصيحة خلق كريم دعت إليه كل الشرائع، وجاء على لسان كل الرسل، وأكد عليه القرآن الكريم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه الشريفة، بل جعله من حقوق المسلم على أخيه المسلم؛ قال -صلى الله عليه وسلم- كما رويت الحديث سابقًا قال: ((حق المسلم على المسلم خمس؛ أن يعوده إذا مرض، وأن يشيعه إذا مات، وأن يسلم عليه إذا لقيه، وأن يشمته إذا عطس، وأن يجيبه إذا دعاه)) وفي رواية صحيحة حق المسلم على المسلم ست زاد فيها؛ ((وأن ينصحه إذا استنصحه)). وإليكم ما كتبه الأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة في كتابه القيم (الأخلاق الإسلامية وأسسها) في بيان حقوق المسلمين بعضهم على بعض في الجزء الثاني ص214 قال: تحت عنوان؛ في حقوق المسلمين بعضهم على بعض، والحث على دعم أواصر الجماعة:

أ- يقول: مما ورد في المسلم على المسلم: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((حق المسلم على المسلم خمس ... )) الحديث وقد مر، يقول: وروى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبع ونهانا عن سبع؛ أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام. في هذه الأحاديث ثمانية آداب اجتماعية وظواهر خلقية أمرنا بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبان أنها من حق المسلم على أخيه المسلم: الأول - أي الحق الأول -: إفشاء السلام: وهو يشمل البدء بالسلام، ورد السلام، والبدء بالسلام سنة ورده واجب. الحق الثاني: عيادة المريض: مواساة له، وتسلية لنفسه، وإشعارًا له بأن إخوانه المسلمين مهتمون به وبأمره، ويسألون عنه، ويتفقدون أحواله. الحق الثالث: اتباع الجنائز: فإذا مات المسلم فمن حقه على إخوانه المسلمين أن يصلوا عليه، ويدعو له ويشيعوه؛ تكريمًا له ومواساة لأهله، ومشاركة وجدانية لهم، وعظة بالموت. الحق الرابع: إجابة الدعوة: فإذا دعا المسلم أخاه المسلم إلى دعوة طعام أو غيره؛ فمن حقه عليه أن يجيب دعوته إلا أن يكون عنده عذر شرعي يعتذر به. الحق الخامس: تشميت العاطس: وذلك بأن يدعو المسلم لأخيه المسلم بأن يرحمه الله إذا سمع عطاسه وسمعه يحمد الله، يقول له: يرحمك الله، ويرد عليه العاطس يقول كما جاء في السنة: يهدينا ويهديكم الله.

سادسًا: النصيحة: فإذا استنصح المسلم أخاه المسلم في استشارة فمن حقه عليه أن ينصح له، وكذلك إذا رآه في حالة تستدعي نصيحته فمن حقه عليه أن ينصح له. الحق السابع: إبرار المقسم: فمن حلف على أخيه في أمر يستطيع فعله ولا معصية لله فيه؛ فمن حقه عليه أن يبر قسمه بفعل ما حلف عليه فيه. الحق الثامن: نصر المظلوم: فمن وجد أخاه المسلم مظلومًا؛ ف من حقه عليه أن ينصره بما يستطيع من قول أو شفاعة أو عمل. وهذه الحقوق الأخلاقية الاجتماعية من شأن تأديتها أن تؤكد وتوثق الروابط الاجتماعية بين المسلمين، وتمكن المودات في قلوبهم، وهي من ظواهر التواد والتراحم والتعاطف، ومن ظواهر معنى الجسدية الواحدة بين المسلمين. أما إفشاء السلام فهو أدب من آداب الإسلام الاجتماعية، وقد أمر الإسلام المسلمين بها؛ فالمسلم مطالب بأن على من عرف من المسلمين ومن لم يعرف، ومكلف أن يرد التحية بمثلها أو بأحسن منها، ولا يستهين بهذا الأدب ويعرض عن تطبيقه إلا مصاب في أخلاقه بمرض الكبر والعجب بالنفس، أو بالأنانية المفرطة التي يبخل معها بعطاء التحية، وعطاء التحية أهون عطاء يبذله الإنسان من لسانه ووجهه، وهذا الأدب الإسلامي الاجتماعي يمثل أول خيط من خيوط الترابط الاجتماعي، وتكراره يعقد الصلا ت وينسج المودات. وأما عيادة المريض؛ فهي من الآداب الاجتماعية الإسلامية / وهي حق من حقوق المسلم على أخيه؛ لأن المريض بحاجة ماسة إلى من يواسيه ويسليه، ويتفقد أحواله، ويساعده إذا احتاج إلى مساعدة، ويدعو له بدعوة صالحة عسى أن تكون رقية نافعة يشفيه الله بها.

وهذا الأدب يرتبط بخلق العطاء عند المسلم، وهو يعبر تعبيرًا صادقًا عن مبلغ التآخي بين المسلمين، ويوثق روابط الصلة بينهم، ويزيد من وشائج المحبة وأواصر المودات؛ لا سيما إذا لاحظنا أن حالة المريض فيها من الانكسار النفسي ما يجعله رقيق الحاشية فياض العواطف مهيأ نفسي ًّ اللتأثير عليه وامتلاك مشاعر المحبة في قلبه، والمحبة متى وجدت في طرف سرت غالبًا إلى الطرف الآخر بقوة نفاذها وقوة عدواها. وأما اتباع الجنائز؛ فهو صلة من المسلم لأخيه المسلم موصولة من حياته إلى ما بعد مماته، واتباع الجنائز يلحقها الصلاة على الميت والشفاعة له عند الله تعالى، وهذا أيضًا صلة عظيمة له بخير ما ينفعه بعد موته؛ وهي الدعوة الصالحة، وتعبير صادق مخلص لا رياء فيه ولا سمعة عن الأخوة الإيمانية التي عقدها الله بين المؤمنين تضاف إلى ذلك ما في اتباع الجنائز من مواساة لأهل الميت وذويه المصابين بفقده، وهم بحاجة ماسة إلى من يواسيهم ويعزيهم ويصبرهم على مصابهم ويشاركهم مشاركة وجدانية كريمة، وقد كان الأصل في اتباع الجنائز أن يساهم الم شيعون في حملها إلى مثواها من الأرض، وفي حفر قبرها، وفي مواراتها ودفنها؛ وكل هذه أعمال تشارك فيها الجماعة وتساهم بها خدمة إنسانية وتواصل ً ابين المسلمين. ومن شأن هذه الأمور التي يشتمل عليها هذا الأدب من آداب الإسلام الموصول بالأسس الأخلاقية التي دعا إليها أن تمكن صلات الأخوة والمودة والتعاطف والتراحم بين المسلمين، وتبرز معاني وحدتهم الإسلامية الكبرى. وأما إجابة الدعوة؛ فهي حق للمسلم على أخيه المسلم أيضًا، إن دعوة المسلم لأخيه المسلم صلة اجتماعية تعبر عن مودة وأخوة وهذه الصلة تستدعي أن تقابل بالاستجابة لا بالرفض، والمستجيب يعقد من طرفه حبل الصلة الذي مده إليه

أخوه وقدم من قبله دليل ً امادي ًّ اعلى أخوته ومودته، كما قدم إليه أخوه من قبل الدليل على ذلك بدعوته له، وحينما يكون المدعو معذورًا ويصعب عليه تلبية الدعوة فعليه أن يقدم لأخيه عذره، وأن يستسمحه، ولا يجوز له أن يجفو أخاه، وأن يستهين به، فرب جفوة بغير عذر كسرت قلبًا وأحزنت نفسًا، وربما أفسدت ما بين القلوب فحل التنافر محل التآلف وحل الخصام محل الوئام؛ لا سيما إذا كان الجفاء ناشئًا عن استهانة أو كبر أو استعلاء شخصي أو طبقي وعندئذ يكون أشد قبحًا وذم ًّ ا، وأكثر إفسادًا للمودات، وتقطيعًا لأواصر الأخوة الإيمانية الإسلامية. وأما تشميت العاطس؛ فهو أدب من الآداب الإسلامية، وسبق أن قلت إن تشميت العاطس هو الدعاء له بخير، قال ابن سيده: شمت العاطس وسمت عليه؛ دعا له ألا يكون في حال يشمت به فيها، وتابع ابن منظور في (اللسان) فقال: والسين لغة عن يعقوب، وكل داع لأحد بخير فهو مشمت له ومسمت بالشين والسين، والشين أعلى وأفشى في كلامهم، ونقل عن (التهذيب): كل دعاء بخير فهو تشميت، وحكى عن ثعلب أنه قال: الأصل فيها السين من السمت وهو القصد والهدي، يقول الشيخ الميداني: وأما تشميت العاطس فهو أدب من الآداب الإسلامية الاجتماعية، وهو ينم عن ذوق رفيع في مجالس المسلمين؛ إذ يتصيد المسلم أدنى مناسبة ليدعو لأخيه المسلم بدعوة كريمة، وليوجه له كلمة حلوة يجذب بها من قلبه خيطًا من خيوط العواطف الإنسانية التي تنسج بها وشائج المودة والمحبة وتوثق بها روابط الإخاء. والعطاس ظاهرة طبيعية تتكرر من الإنسان دون أن يملك دفعها، وقد يكون عنوان نشاط قادم بانتفاضة عصبية، قد يكون ظاهرة لحالة زكام وبرد مرضي أتى على الإنسان، وعلى أية حال فمن الخير إذا هو حمد الله على ما جرى له أو

حمد الله أن سلمه أن تكون مكاف أته على حمده لربه توجيه من سمعه أن يدعو الله له، وأعظم دعوة شاملة لجوانب الخير كلها الدعوة له بأن يرحمه الله تعالى، وحين يتلقى العاطس الدعاء له من إخوانه يشعر في ذات نفسه بأن شركاءه في المجلس قد اهتموا بشأنه عند هذه العارضة اليسيرة التي عرضت له فدعو اله بالرحمة، فكيف يكون اهتمامهم به إذا هو نابه شيء كبير وأمر غير يسير، وعندئذ يرد لمن دعا له جميل ً ابجميل فيدعو له بأن يهديه الله ويصلح باله، أما الدعوة بالهدية فهي مكافئة كريمة للدعوة بالرحمة؛ لأن من هداه الله فقد هيأ له أعظم أسباب الرحمة، وأما الدعوة بإصلاح البال فهي زيادة بارعة تشير إلى أن سبب البدء بالدعوة ب الرحمة انشغال بال الأخ على أخيه؛ إذ سمعه عطس وحمد الله تعالى؛ فكأنه يقول له: ولا أقلق الله بالك على نفسك أو أخ أو قريب أو حبيب، أفتجد أرق تهذيبًا من مجتمع فيه هذه العواطف الكريمة المتبادلة التي تنتهز لها أدنى المناسبات. لكن العاطس إذا لم يحمد الله تعالى لم يكن من حقه على جلسائه أن يشمتوه؛ لأنه لم يراع ما ينبغي له من أدب مع الله في حالته هذه فسقط حقه بأن يدعو له جلسا ؤ هـ بالرحمة. وأما نصيحة المسلم لأخيه المسلم؛ فهي ظاهرة خلقية كريمة تعبر عن صدق الأخوة بين المسلمين، وتعبر عن أمانة الرجل وصدقه فيما يخبر به أخاه مما يعلم من وجوه الخير والبر؛ لا سيما إذا استشاره واستنصحه، ومن شأن هذا الخلق الكريم أن يعقد المودات بين الناس، أو يزيد في توثيقها بشرط أن تكون نصيحة صادقة ليس الغرض منها الفضيحة أو الشتيمة أو التعيير والتنقيص إلا عند بعض النفوس المستكبرة العاتية على أنها سترضى بعد حين متى شعرت بصدق الناصح وإخلاصه في النصيحة، والذي يداهن وينافق ويكتم النصيحة قد يظفر بصداقة مؤقتة إلا أنه ينكشف بعد حين، وتعرف مداهنته، ويظهر أنه لم يكن أخًا وفي ًّ اولا صديقًا صادق ًا، وإنما كان مداهنًا منافقًا فيخسر حينئذ ما كان من قبل حريصًا عليه.

وأما إبرار المقسم؛ فقد جرى من عادة الناس أن يحلف الأخ قسمًا على أخيه أن يفعل أمرًا أو يترك أمرًا اعتمادًا على أواصر الأخوة بينهما، وعلى تبادل المودة فيقول له: والله لتفعلن الأمر الفلاني أو لتتركن الأمر الفلاني، وهنا يعلمنا الإسلام أن من حق الأخ على أخيه أن يبر له قسمه؛ فيفعل ما أقسم عليه أن يفعله، ويترك ما أقسم عليه أن يتركه بشرط ألا يكون في الأمر معصية أو مخالفة لله تعالى أو مضرة أو منقصة؛ فإن كان فيه شيء من ذلك فلا إبرار؛ لأن الإنسان لو أقسم على نفسه أن يفعل شيئًا ثم رأى غير ما حلف عليه خيرًا منه فهو مأمور شرعًا بأن يكفر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير، ومن شأن إبرار المقسم أن يوثق الصلات، وأن يعقد المودات، وهذا الأدب يرجع عند التحليل إلى مظهر من مظاهر خلق العطاء من النفس، كما يرجع إلى خلق الحياء وتلبية ما يقتضيه الدافع الجماعي والأخوة الإيمانية. وأما نصرة المظلوم؛ فهي ظاهرة خلقية ترجع إلى خلق حب العطاء من النفس، وإلى ما يقتضيه الدافع الاجتماعي والأخوة الإيمانية، وشرح هذه الظاهرة يكفيه قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: ((انصر أخاك ظالمًا أومظلومًا)) ومعنى نصره ظالمًا أن نمنعه عن الظلم، ومن شأن نصرة المظلوم أن تعقد المودات وتوثق الصلات بين المسلمين، وأن تخدم قضية العدل بين الناس، وتصرف عنهم عوامل التفرقة والخلاف والعداوة والبغضاء ولو أغضبت الظالمين. ب- في ستر المسلم لأخيه: المسلم روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة))، من حق المسلم على أخيه المسلم أن يستره ولا يفضحه، والله تعالى يكافئه من جنس عمله فيستره يوم القيامة، وجاء في

حديث آخر ((إن الله يستره في الدنيا والآخرة)) وستر المسلم لأخيه المسلم يعتبر من مكارم الأخلاق، فإذا اطلع المسلم على خطيئة أو معصية أو نقيصة وقع بها أخوه المسلم بينه وبين ربه ولم يجاهر بها أمام الناس، بل تستر بها وتوارى واستحي افيها فما هو الغرض من فضيحته ونشر خطيئته بين الناس؛ إذا كانت من الأمور التي لا تتعلق بها حقوق شخصية للآخرين، أو حقوق عامة ترتبط بها مصالح المسلمين الكبرى أنه لا مصلحة في ذلك، بل الغرض تعييره وتنقيصه وإنزال مكانته بين الناس. أما النصيحة فإنها تتحقق بتوجيهها له في السر لا في العلن، أو بالموعظة العامة التي لا توجه لأشخاص بأعيانهم كما كان يفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ كان يقول حينما يخبر بأن بعض الناس قد فعل منكرًا من المنكرات يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ما بال أقوام فعلوا كذا وكذا)) أو ((يفعلون كذا وكذا)) ويوجه موعظته لهم بصفة عامة دون تحديد لأشخاص. وإرادة الفضيحة هي من قبيل إشاعة الفاحشة وفعل السوء في المسلمين، وهي تعبر عن رذيلة خلقية في الإنسان؛ من ذا الذي يريد لأخيه المسلم الإهانة ونزول المكانة إلا من كان في نفسه عقدة من رذائل الأخلاق، وقد يريد أن يحط من مكانة أخيه بين الناس؛ ليرتفع هو على أنقاضها، وقد يكون غرضه أن يجد لنفسه مبررًا في قبائح هو يرتكبها وهو مشهور بها عند الناس فيكشف عورات إخوانه؛ ليخفف من نقد الناس له؛ إذ يعلمون أن ذوي المكانة المستورين هم مثله في ارتكاب القبائح والسيئات، وهم شركاؤه في الإثم، وكل ذلك من فساد خلقه وسوء سريرته، وهو بعمله هذا يساعد على تهوين ارتكاب الآثام والقبائح ويشجع عليها شعر بذلك أم لم يشعر، مع أن المفروض بصاحب الأخلاق

الكريمة أن يعمل على دعم38:42 أن يعمل على دعم الفضائل ونشرها، ومحاربة القبائح والرذائل ودفنها ما استطاع إلى ذلك سبيل ً ا، لا أن يكون داعيًا من دعاتها، أو أحد المساهمين في نشرها وإشاعتها. وقد أنذر الله تعالى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة؛ ف قال تعالى في سورة " النور " الآية 19 قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النور: 19)، وقد جاءت هذه الآية في سياق حديث الإفك ففي إشاعة السوء عن المؤمنين إيذاء لهم وإضرار بهم، وتهوين من أمر فعل السوء، وتشجيع على ارتكابه؛ ولا سيما إذا كان من أشيع أنه قد فعله من أهل الستر والصيانة بين الناس. ج- في صيانة المرافق العامة مما يؤذي الجماعة: وهذا أيضًا من حقوق المسلمين ببعضهم على بعض، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل فليمسك أو ليقبض على نصالها بكفه)) والنبل أداة من أدوات الحرب، ((فليمسك أو يقبض على نصلها بكفه أن يصيب أحد من المسلمين منها بشيء)). في هذا الحديث توجيه لحق من الحقوق الاجتماعية، أنه يمنع المار في المجامع العامة كالمساجد والأسواق من أن يتعرض المسلمون إلى أذى من قبله بسبب شيء يحمله كالنبال التي لها نصال؛ فإن عليه أن يقبض على نصالها، ويأخذ الاحتياطات التامة؛ خشية أن يصيب بها أحد من الناس فيؤذيه.

فمن حق الجماعة على الفرد الذي يريد أن ينتفع بمرفق من المرافق العامة ألا يستعمل المرفق بشيء يؤذي أحد له حق في استعماله؛ إذ المرافق العامة حق مشترك بين جميع الأفراد، والحقوق المشتركة ذات حدود؛ ومن حدودها ألا ينتفع الفرد منها انتفاعًا يؤذي فيه أحد ًا من الشركاء الذين لهم حق الانتفاع بها، أو يعرض حقه للضياع، ومن حدودها ألا يستأثر لنفسه بأكثر من حصته في الحق المشترك؛ فليس من حق إنسان أن يمر في طريق عام مكتظ بالناس ويحمل معه في الوقت نفسه قضبانًا طويلة من الحديد أو أعمدة خشبية كبيرة أو صناديق عريضة فيضرب بما يحمل من على يمينه تارة ومن على شماله تارة أخرى ثم من أمامه ثم من وراءه، وليس من حقه أن يحمل كيسًا من فحمًا أو شقة من لحم ويمر بما يحمل في معترك الناس فيصبغ ثياب الناس البيضاء بفحمه أو يلوثها بدهن شحمه ودم لحمه ويؤذيهم بهذا، وليس من حقه أن يدخن لفافته بين الناس وينفخ دخانها في وجوههم وأنوفهم، أو ينثر رمادها عليهم، أو يقذف عقبها قذفًا عشوائي ًّ اربما تقع به على شيء تحرقه من متاع الناس أو ممتلكاتهم، ويزعم أنه ينتفع بحقه في مرفق عام متجاوزًا بذلك حدود حقه. وكم من الناس الذين يمرون في الطرقات ويستخدمون المرافق العامة لا يعرفون حدود حقوقهم، أو يعرفونها ولا يراعونها؛ فيؤذون الناس أذى كثيرًا وكبيرًا، فكم من ضربة أو لكمة أو غمزة أو دفعة أو لذعة بنار يصاب بها الناس بعضهم من بعض في الطرقات والمرافق العامة، أو تنزل عليهم بما يقذفه المسيئون قذفًا عشوائي ًّ ادون أن يجدوا وخزًا في صدورهم من سوء أعمالهم، ويفعل المسيئون ما يفعلون من ذلك دون أن يبالوا النتائج كأن الطرقات العامة لهم وحدهم، وكأن المرافق العامة إنما جعلت من أجلهم خاصة ف هم يفعلون بها ما يشاءون،

ويستأثرون منها بما يشتهون، وهذا من انعدام شعور الفرد بحقوق الجماعة، ومن إفراطه في الأنانية، واستهانته بما يؤذي الناس، ورغبته بتجاوز حدود حقه، والاستيلاء على حقوق غيره. وكل ذلك يمثل جانبًا من جوانب الانهيار الخلقي الذي يقاومه الإسلام مقاومة شديدة، ولا يرضاه الله من المسلم بحال من الأحوال؛ إن المسلم المتخلق بأخلاق الإسلام يعرف مقدار حقوقه وحدودها فلا يتجاوزها، ويعرف حقوق الآخرين فلا يعتدي عليها، وينظر إليها باحترام بالغ فلا يؤذي إنسانًا في حق من حقوقه الخاصة أو العامة، بالتزام هذه الأخلاق الإسلامية الاجتماعية تبرز في المجتمع الإسلامي ظواهر حضارية راقية، أما الاستهانة بها فإنها تسم المجتمع بسمات التخلف الحضاري الشائن، وتجعله في معزل عن المنهج الرباني الذي اصطفاه الله لعباده، ورسم في الإسلام معالمه وحد حدوده. د- من حقوق الإسلام في المرافق العامة: روى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها؛ فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق - يعني دفع الأذى عن طريق المسلمين - ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة أو النخامة تكون في المسجد لا تدفن)) يوجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأمة إلى الخير كله، وإلى إماطة الأذى عن الطريق، ودفع الضر عن المسلمين. ولقد ورد في إماطة الأذى عن الطريق أحاديث شريفة صحيحة؛ منها ما رواه مسلم بسنده في (صحيحه) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة في شجرة - أي بسبب شجرة - قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين)) وفي رواية لمسلم أيضًا: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر

جزاء من قام بهذه الحقوق.

طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين؛ لا يؤذيهم فأدخل الجنة))، وفي رواية للبخاري ومسلم: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك عن الطريق فأخره)) وفي رواية: ((فنحاه فشكر الله له فغفر له)). وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كل سُلَامَى من الناس عليه صدقة)) وهي المفاصل التي في جسد الإنسان تسمى بالس ُّ ل َ ام َ ات، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((كل سُلَامَى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها، أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة)). جزاء من قام بهذه الحقوق أما جزاء من قام بهذه الحقوق فهي المثوبة الحسنى في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فالثناء الحسن من الناس، وحسن السيرة، وقرب الناس منه، ومؤازرته في كل شئون الحياة، والطمأنينة والسكينة التي تنزل على قلبه فيحيا في دنياه حياة هنيئة بحبه لإخوانه وحب إخوانه له، وفي الآخرة يكون له الثواب العظيم، والمقام في جنات عدن عند مليك مقتدر، يتقلب كما مر في الحديث في أغصان الجنة التي أعد الله له ولكل من يدخلها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر، على قلب بشر. أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يقومون بأداء حقوق إخوانهم المسلمين، وأن يجعلنا من المتخلقين بالأخلاق الحسنة والآداب الرفيعة التي جاءت في موضوعات هذه المادة -الحديث الموضوعي- وأن يجعلنا من ورثة جنة النعيم. وبذلك نكون قد انتهينا من الموضوعات المكررة في منهج هذه المادة القيمة، ألا وهي مادة الحديث الموضوعي. هذا وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1