الحدود والتعزيرات عند ابن القيم
بكر أبو زيد
حقوق النشر محفوظة النشرة الثانية 1415 هـ دار العاصمة المملكة العربية السعودية الرياض - ص ب 42507 - الرمز البريدي 11551 هاتف 4915154-4933318- فاكس 4915154
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على توالي نعمه وعظيم إفضاله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته. وأشهد أن محمداً عبده المجتبى ونبيه المصطفى. صلى الله وسم عليه وعلى آله وأصحابه وبعد: فإنه في ليلة الخامس والعشرين من شهر الله المحرم من عام أربعمائة وألف من الهجرة النبوية منَّ الله تعالى علي بمناقشة رسالتي باسم (الحدود والتعزيرات عند ابن قيم الجوزية/ دراسة وموازنة) (1) وذلك في قاعة المعهد العالي للقضاء بمدينة الرياض، وكانت هذه الرسالة تقع في ثمان وثمانمائة صفحة بقسميها. وقد طبعت القسم الأول منها باسم (ابن قيم الجوزية حياته وآثاره) في كتاب مستقل. ثم أعدته مع زيادات هامة في مقدمة كتابي الموسوعي لفقه ابن قيم الجوزية (2) . والآن أحتسب عند الله تعالى تقديم كتابي هذا، الحدود والتعزيرات عند ابن قيم الجوزية/ دراسة وموازنة. والذي يمثل الموضوع الرئيسي للرسالة. راجياً من
موضوع البحث
الله تعالى أن ينفعني به ومن شاء من عباده. وإن هذا الموضوع في دراسته التحليلية هو في الواقع واحدة من ثمار تتبعي لفقه ابن قيم الجوزية من كتبه المطبوعةِ والتي تبلغ واحداً وثلاثين كتاباً في قرابة ستين مجلداً في نحو عشرين ألف صحيفة. والآن أضع إمام الناظر في هذا الكتاب طلائعه المثلة لمفاتيح التصور للبحث ودوافعه، وتفسير عنوانه. ومسالك البحث فيه. وتبيانها كالآتي: موضوع البحث: لقد تحصّل لي من السير في ذلك المشروع المبارك (التقريب لفقه ابن قيم الجوزية) . أن لابن القيم رحمه الله تعالى مباحث عزيزة المطلب: في الحدود والتعزيرات منتشرة في أربعة عشر كتاباً من مؤلفاته (1) عالجها من ناحيتين: أولاهما: من ناحية حكمتها وأسرارها التشريعية. والثانية: من ناحية أحكامها الفقهية. وقد أولى ذلك عناية فائقة، وبسط الكلام في الكثير منها أشد البسط فنالت من تحقيقاته وآرائه وتحريراته: النصيب الأوفى والحظ الأوفر. وحسبي في هذه الدراسة أن أتناول ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في هذه الجزئية من مباحثه بالدراسة
دوافع البحث
والتحقيق والموازنة والترجيح بين رأيه وغيره من المذاهب. مبيناً ما التقى فيها مع غيره وما انفرد به عن المذاهب الفقهية المشهورة: الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4) . وبذلك تبرز مكانته (5) العلمية بجلاء. دوافع البحث: والغاية التي دفعتني الى اختيار مباحث " الحدود والتعزيرات" من بين عامة مباحثه، لتكون موضوعاً لهذه الرّسالة، هي في وجوه متعددة منها ما يلي:- الأول: أن القاضي أحوج ما يكون الى مباحث ابن القيم في ذلك، إذ أنه رحمه الله تعالى من أولئك العلماء الأفذاذ الذين انطلقوا من ربقة التقليد ونهجوا في
البحث والتحقيق منهج الاستدلال والمناقشة. وهذا ما يتطلبه القاضي المنصف المتطلب للصواب والحكم بين الناس بالحق. الثاني: أن أحكام الحدود والتعزيرات هي من أهم أعمال القضاء إذ عليها المدار لحفظ الضروريات: ففي حد الردة حفظ الدين. وفي حد الزنا حفظ الأنساب. وفي حد الخمر حفظ العقل. وفي حد القذف حفظ الرض. وفي حد السرقة حفظ المال. وابن القيم رحمه الله تعالى قد أفصح عن جل أحكام هذه الحدود وحكمها وأسرارها وتحقيق ما يلائم سياسة الأمة بالعدل وحالة العمران في كل زمان ففي تقريبها تحقيق لذلك. الثالث: أنه رحمه الله تعالى لم يؤلف في ذلك تأليفاً مستقلاً- حسب التتبع بل هي أبحاث متناثرة في كتبه المتكاثرة. والوقوف على الكثير منها قد يكون صعباً لذلك ولوجود طائفة منها في غير مظنته. إذ أنه رحمه الله تعالى يكثر الاستطراد لأدنى مناسبة، لسيلان ذهنه وفقه نفسه. ومن هنا يعم الناظر شدة الحاجة ومبلغ الأهمية لجمعها في صعيد واحد وترتيبها على النسق المعروف في المدونات الفقهية تيسيراً للقارئ وتوفيراً لجهده الرابع: أنه قد كثر الشغب في الأزمان المتأخرة من المستشرقين وتلامذتهم بالتنديد بالعقوبات الإسلامية المقدرة على الجرائم الأخلاقية من أنها: وحشية
تسمية الرسالة. وشرحها.
وتعسف إلى أمثال هذا الطيش وتلك القلاقل والبداءات بغياً من أنفسهم للصد عن دين الله وشرعه وتحكيمه في أموال الناس وأعراضهم وسائر أحوال مدنيتهم. وإن ابن القيم رحمه الله تعالى قد أبان من حكمة التشريع وأسراره لهذه العقوبات ما أماط اللثام وأزهق الباطل، ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. وقد نظرت في مباحث حكمة التشريع عند جماعة من أهل العلم فلم أر عالماً يفري فريه قد ضرب من الحق بعطن أمثال هذا الإمام: في مباحثه العزيزة وتحقيقاته المنيفة. فكأنما أعطى رحمه الله تعالى نسخة من إيراداتهم، فكر عليها بالنقض حتى أصبحت في حساب الوساوس والأحلام الرديئة. ومن المعلوم أن تقرير ذلك من أهل العلم لم يكن الا رداً للباطل وزيادة في تثبيت الإيمان، وإلا فمقتضى الإيمان وموجب الإسلام: التسليم لأوامر الله ونواهيه سواء علمنا حكمة التشريع أم لا. هذه جملة من الأسباب التي دفعتني الى اختيار "الحدود والتعزيرات عند ابن قيم الجوزية" موضوعاً للرسالة. وأرجو أن تكون أسباباً مقنعة للتدليل على سلامة الاختيار وأحقيته عند أنصار ابن القيم وخصومه على السواء تسمية الرسالة: ولما كانت تسمية الكتاب أو الرسالة من المتعين على أهل الإسلام أن يراعوا في ذلك الأصالة في اللسانين: لسان الشريعة المطهرة، واللغة العربية الكرمة كالشأن في سائر محرراتهم وألفاظهم. ولما كانت تسمية الرسالة ينبغي أن توحي بموضوعها وفلكة مغزلها الذي تدور عليه حتى تكون التسمية كالإطار العام للرسالة.
لما كان الأمر لا بد أن يكون كذلك فقد وسمت هذه الرسالة بما يلي: (الحدود والتعزيرات عند ابن قيم الجوزية/ دراسة وموازنة) . إيضاح هذه التسمية: فلفظ (الحد والتعزير) لفظان جاريان في اللغة والاصطلاح (1) وجعلهما الفصل الأول في عنوان الرسالة يفيد موضوعها. ولفظ (عند ابن قيم الجوزية) يقيد الإطلاق في الفصل الأول. فيتقيد الموضوع بحدود ما ذكره ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى. ولفظ (دراسة) من ألفاظ القرآن الكريم في بضع آيات (2) كما في قوله تعالى: (3) (كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) والدراسة هنا تعني القراءة ومعاهدة المقروء والتفهم (4) . وأما لفظ (موازنة) : فهي تأتي في اللغة بمعنى المقارنة بين الشيئين والمحاذاة. قال الرازي (5) : (وازن بين الشيئين موازنة ووزاناً، وهذا يوازن هذا إذا كان على زنته أو كان محاذيه) .
الفرق بين الخلاف والاختلاف (ت) .
قال ابن فارس (1) : (هذا يوازن ذاك أي هو محاذيه، ووزين الرأي: معتدلة، وهو راجح الوزن إذا نسبوه إلى رجاحة الرأي وشدة العقل) . وهذا المدلول اللغوي (موازنة) يوافق المعنى المراد من ذكرها في عنوان هذه الرسالة وهو: ذكر خلاف (2) العلماء بجانب آراء ابن القيم واختياراته حتى تحصل المعرفة لمدى قوة اختيار ابن القيم وانتخابه للرأي الذي رآه في مسألة ما من بين الآراء والمذاهب. سبب العدول عن لفظ (مقارنة) إلى لفظ (موازنة) : تبين من بيان معنى لفظ (موازنة) لغة وإيضاح مدلولها في عنوان الرسالة أن هذا يعني ذكر (خلاف العلماء في المسألة بجانب رأي ابن القيم) . وعلم خلاف الفقهاء: فن مستقل بنفسه اشتهر باسم (علم خلاف الفقهاء) واشتهرت كتبه باسم (كتب الخلافيات) (3) .
التنديد بالألفاظ الدخيلة والغريبة.
وقد اشتهر في لسان هذا العصر باسم (الفقه القارن) وكتبه باسم (كتب الفقه المقارن) . وهذا إطلاق سليم من حيث مدلوله اللغوي فإن المقارنة في اللغة جمع شيء إلى شيء فتقول قارنت بين الشيئين (1) . لكنها في عرف الوقت الحاضر من مصطلحات (علم الحقوق الحديث) (2) ، يقصد بها مقارنة شريعة رب الأرض والسماء بقوانين البشر الموضوعة المختلقة المصنوعة (3) . فانتقل هذا الاصطلاح الحقوقي من المقارنة بين الشريعة والقانون إلى المقارنة بين أقوال فقهاء الإسلام. فأصبح هذا الاصطلاح من المشترك المعنوي وفي ضوء هذا يمكن لنا أن نقوم حكم نقل هذا الاصطلاح بهجر اسم (علم خلاف الفقهاء) واستبداله باسم (علم الفقه المقارن) . فنقول: أن هذه بلوى وقع في شراكها كثير من أهل الإسلام حيث استبدلوا الكثير من مصطلحات العلوم الإسلامية. وامتحنوا المسلمين بأسماء جديدة تبعدهم عن تراثهم وتوحي بغرابة كتب أسلافهم على أفهامهم وعلومهم وثقافتهم. وقد وقع من هذا الشيء الكثير وعمت البلوى بانتشاره وإدخاله في مؤلفات علماء الإسلام.
كما في تسمية (أحكام النكاح وتوابعه) باسم (الأحوال الشخصية) (1) . وتسمية (وضع الجوائح) باسم (نظرية (2) الظروف الطارئة) . إلى غير ذلك من ألفاظ الاصطلاح الناشئة لدى الفرنجة تنقلها الأقلام المنهزمة إلى علوم الإسلام وهي من الغرابة بمكان؟. ومن المؤسف جداً أن تأتي هذه المصطلحات في رسائل الشهادات العالية والشهادات العالمية من طالب يتلقى دروسه في معاهد الإسلام وفي ديار الإسلام ومنازله، وتحت إشراف أساتذة في علوم الإسلام. ولا يعار لهذا انتباهاً بل يرى الكثير أن هذا من المرونة وسعة الأفق والاطلاع المدهش. وأقول بكل ثبات إنها تسميات آثمة وخطط مأجورة ساقنا إليها دافع الغفلة والسبات العميق عما يراد بنا. وإن من أخشى ما أخشاه أن تورث هذه المشابهة في الظاهر التفاتة في الباطن فتشتبك الروح بالهيكل، وتنفخ فيه روح أصله وحينئذ يقع المسلمون في الاحتكام إلى غير ما أنزل الله.
مسلك البحث الإجمالي
ونضرع إلى الله أن لا يقع هذا. فليتق الله أهل الإسلام في إسلامهم وفي أمتهم ولينشروا العلم في قالبه السليم في الشكل والمضمون والظاهر والباطن (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) (1) . وليحذر المسلمون الطاعة في بعض الأمر والملاحنة في القول فقد توعد الله الفعلة لذلك بقوله: (2) (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزَّل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكليف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم. ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم. أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يُخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) . مسلك البحث الإجمالي: وفي إطار هذا العنوان للرسالة سلكت في إبراز موضوعها مسلكاً أرجو أن يكون مثمراً للفائدة المرجوة. مرتباً على مسلكين اثنين في تضاعيفهما مباحث تفصيلية تساعد على الوضوح والتجلية وإبعاد الغموض والتعمية. ولما كان الحكم فرع التصور فقد جعلت بين يدي ذلك مقدمة مفصلة في التعريف بابن قيم الجوزية، تكشف عن كثير من الجوانب، للتعريف بشخصيته وبيئته وعلومه وآثاره. حتى يحصل تمام المطابقة بين الذات وآثارها. وفي ذلك أيضاً- أن شاء الله تعالى- تبصير وتنوير للذين في نفوسهم اعتلال وفي قلوبهم مرض صدهم عن الاستفادة من علوم مؤسسي المدرسة السلفية ومحيي السنة
المحمدية، وباعثي النهضة الإسلامية. عسى أن ينتهي بهم المطاف إلى الحكم العادل والقول الحق فيثوبوا لرشدهم ويناصروا الحق وأعوانه، فينهلوا ويرتووا من علوم ابن القيم وإخوانه من علماء المدرسة السلفية في الحاضر والغابر (1) . هذا إن نظروا إلى ذلك بعين الإنصاف والتجرد من الهوى والتبعية (2) .
المسلك التفصيلي
ثَانيا: موضوع الرسَالة الحدود والتعزيرات عَندَ ابن القيم "دراسة وموازنة" والبحث في هذا في مسلكين اثنين: المسلك الأول: عرض كلام ابن القيم على الترتيب الفقهي المشهور على ما يلي:- كتاب الحدود. وفيه ذكر الأحكام والمباحث العامة للحدود. باب حد الزنا. باب حد القذف. باب حد السكر. باب حد السرقة. باب حكم المرتد. باب التعزير (1) . المسلك الثاني: مسلك الموازنة بين رأي ابن القيم وبين آراء المذاهب الفقهية الأخرى الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. مع بيان ما يلتقي فيها مع غيره وما ينفرد بها دونهم.
خطوات العرض والدراسة في هذين المسلكين:
ومن ثم ترجيح ما يؤيده الدليل. خطوات العرض والدراسة في هذين المسلكين: حصل بالتتبع لمنهج ابن القيم في الحدود والتعزيرات ما يلي: أن ابن القيم قد يذكر التعريف الاصطلاحي للجريمة وقد لا يذكره. وابن القيم قد يذكر حكمة التشريع من وجوه متعددة وقد يذكرها من وجه واحد. وابن القيم قد يذكر المسألة مفصلة بذكر الخلاف وأدلته مع بيان وجوه الاستدلال ومناقشتها. وقد يعرض المسألة بصفة دون ذلك. وقد يذكر المسألة بمجرد الإشارة إليها. وابن القيم لا يعنى بذكر العناوين التفصيلية للمسألة. وابن القيم أيضاً: قد يذكر المسألة في بحث واحد وقد يبحثها في موضعين فأكثر من كتاب فأكثر. وعلى أي من هذه الأحوال فإنني سقت الحديث في كل باب من أبواب الحدود في جملة مباحث على هذا الطرد والنسق. 1- تعريف الجريمة في اللسانين اللغة والشرع. 2- مبحث حكمة التشريع في حدود ما ذكره ابن القيم. 3- مباحث الأحكام الفقهية. وفي كل مبحث ما يلي: أ- ذكر الخلاف والقائل به. ب- ذكر أدلته. ج- ذكر وجوه الاستدلال منها.
هـ- الترجيح لما يظهر بدليله. والمنطلق في كل مبحث مما ذكره ابن القيم في ذلك المبحث من عامة كتبه المطبوعة والله الموفق. مسارد الرسالة: وقد أتبعت هذه الرسالة بمسارد تكشف عن أهم المصادر والمراجع وعن موضوعات الرسالة. وأثبات بالآيات والأحاديث والأعلام. هذه تقدمة لعلها تكشف للقارئ موضوع الرسالة وهيكلها العام واستميحه العذر في الإطالة فلعل نقاطاً هامة استدعت ذلك كما يظهر للمطلع الفطن وأرجو من الله أن يكون حائزاً للرضا مقبولاً عند أولي النهي. ولا يجول في خلدي أنني بلغت أدنى درجة الكمال فضلاً عن الكمال إذ هذا أمر لله وحده. والخطأ من لوازم البشر (لانقطاع العصمة بانقطاع عالم النبوة والأنبياء) ومما يفسح ميدان الأمل أن الله سبحانه وتعالى تجاوز لنا عن الخطأ. والمرء نفسه إذا كتب شيئاً في يومه ثم عاوده بعد أمد قدم فيه وأخر وغير وبدل إذ الأمر كما قيل (ما ألف أحد في يومه إلا قال في غده لو قدمت أو أخرت وهذا مما يدل على ضعف القوى والقدر وكمالها لواهبها سبحانه) . وختاماً أدعو بدعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقول: " اللهم أجعل عملنا هذا صالحاً واجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل لأحد فيه شيئاً". وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم بكر بن عبد الله أبو زيد
كتاب الحدود
كتاب الحدود جرت عادة العلماء خاصة علماء الحنابلة أن يجعلوا بين أبواب الحدود المباحث التي تشترك فيها الحدود، كبيان من يجب عليه الحد ونحوه من المسائل، ونحن بصدد دراسة آراء ابن القيم في الحدود والتعزيرات، سوف نقصر الكلام في هذه التقدمة على المباحث التي تناولها ابن القيم منتظمة لأبواب الحدود بالاتفاق أو على الراجح من الخلاف في نظره، مقفياً ذلك بمسلك الموازنة والترجيح.
توطئة
توطئة الحدود توطئة في تعريف الحد في اللسانين: اللغة والشرع: لغة: الحد: جمعه حدود، وهو في أصل الوضع العربي بمعنى المنع (1) ومنه قول نابغة ذبيان (2) . إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند (3) ولذا قيل للحاجز بين الشيئين حداً، لأنه يمنع من اختلاط أحدهما بالآخر (4) . ومنه: حدود الأرض، وحدود الحرم، ونحوهما، كتسميهَ أهل الاصطلاح المعرف للماهية بالزانيات حداً (5) ، إذ الحد يمنع أفراد غير المعرف من الدّخول في
لماذا سميت العقوبات المقدرة حدودا.
التعريف ويمنع أفراد المعرف من الخروج عن التعريف. ومنه أيضاً للإشارة إلى المنع (1) : (سمّي الحديد حديداً لأنه يمنع من وصول السّلاح إلى البدن وسمّي البوّاب والسّجّان: حداداً، لأنه يمنع من في الدّار من الخروج منها ويمنع الخارج من الدّخول فيها) . ومنه أيضاً سمّيت الحاد في العدّة، لأنها تمنع من الزينة (2) . وعليه سمّيت العقوبات المقدرة: حدوداً (3) . فالحد إذا على كثرة إطلاقاته وسعة مدلولاته لا يخرج عن معناه الأصلي الذي وضع له وهو (المنع) . لماذا سمّيت العقوبات المقدرة (حدوداً) : لا خلاف في أن العقوبات المقدرة إنما سمّيت حدوداً لعلة المنع وإنما حصل الخلاف في تعليل مورد المنع في ذلك على أقوال ثلاثة هي: ا- لأن هذه العقوبات تمنعه المعاودة في مثل ذلك الذّنب وتمنع غيره أن يسلك مسلكه (4) . 2- لأنها عقوبات مقدرة من الشارع، تمتنع الزيادة فيها أو النقصان (5) .
الحد اصطلاحا. وشرحه.
3- لأنها زواجر عن محارم الله (1) . وفي الواقع أن هذه التعليلات ليس هناك ما يمنع التعليل بها مجتمعة لاشتمالها على هذه المعاني الثلاثة: فهي عقوبات مقدرة على مرتكبي محارم الله وحقوقه تمنعهم من العود لمثلها، وهي موانع وزواجر عن محارم الله، ويمتنع الزيادة عليها أو النقصان منها. الحد في الاصطلاح (3) : تكاد تتفق كلمة أهل الاصطلاح على أن تعريف الحد اصطلاحاً: عقوبة مقدرة في الشرع لأجل حق الله تعالى. شرح التعريف: لفظ عقوبة: جنس في التعريف تشمل المقدرة وغير المقدرة. ولفظ مقدرة: تخرج غير المقدر وهو ما عرف باسم: التعزيرات ولفظ في الشرع: يفيد أنها توقيفية على لسان الشارع صلى الله عليه وسلم. فتخرج العقوبات المقدرة في القوانين الموضوعة المختلقة المصنوعة. فلا تسمى حدوداً. لأجل حقّ الله تعالى: يخرج به ما كان حقاً للعبد، وهو: القصاص في نفس أو طرف. والله أعلم.
موقف ابن القيم من تعريف الحد
موقف ابن القيم من هذا الاصطلاح: رأينا أن الفقهاء يقصرون في اصطلاحهم لفظ " الحد " على العقوبة المقدرة في الشرع لحقّ الله تعالى. لكنا نرى ابن القيم رحمه الله تعالى لا يرتضى القصر في هذا الاصطلاح الفقهي فيقدر أن هذا اصطلاح حادث وأنه في لسان الشرع أعم وأشمل فيعم العقوبة مقدرة أو غير مقدرة كما يشمل نفس الجناية أيضاً كلّ هذا في نظره يسمى (حداً) على لسان الشارع. وأوضح هذا المعنى في كتابه (الأعلام) في معرض ردّه على من فهم من قوله صلى الله عليه وسلم (لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى) (1) - أن الحدود هنا يراد بها ما ترتب عليه عقوبات مقدرة فقال (2) : (الحد في لسان الشارع أعم منه في اصطلاح الفقهاء، فإنهم يريدون بالحدود: عقوبات الجنايات المقدرة بالشرع خاصة. والحد في لسان الشارع أعم من ذلك. فإنه يراد به هذه العقوبة تارة. ويراد به نفس الجناية تارة كقوله تعالى (3) (تلك حدود الله فلا تقربوها) وقوله تعالى (4) (تلك حدود الله فلا تعتدوها) . ويراد به تارة جنس العقوبة وإن لم تكن مقدرة. فقوله صلى الله عليه وسلم (لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود
الله) . يريد به الجناية التي هي حق الله) . وإن هذا الموقف من ابن القيم رحمه الله تعالى هو من فقه الكتاب والسنة فهذا العموم للفظ (الحد) في لسان الشارع تؤيده النصوص التي ساقها رحمه الله تعالى. وقصر (الحد) على العقوبة المقدرة للجنايات يحتاج إلى دليل يفيد القصر. وبعد التحري لم أر دليلاً على هذا القصر. وإنما هو محض اصطلاح دعاهم إليه- والله أعم- أن تتميز العقوبات المقدرة عن غيرها لأهميتها وتميزها بأحكام خاصة بها. تقريباً للأذهان، وتيسيراً على الطالبين ولا مشاحة في الاصطلاح. وهذا ما يقرره ابن القيم في موضع آخر إذ يقول (1) : (والاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة) . فابن القيم لا ينفي هذا الاصطلاح الفقهي في تعريف (الحد) ولكن يعارض بكل شدّة أن يقضي بالاصطلاحات الحادثة على نصوص الشرع، فتفسر بها، وتقصر معانيها عليها ولاشك أن هذا من الغلط البيّن على نصوص الكتاب والسنة. ومن هذا الغلط غلط من فسر لفظ (حدود الله) في الحديث المذكور بمعنى (ذات العقوبة المقدرة) فهذا قضاء على عموم معنى النص باصطلاح حادث. وإنما معناه ما حرم لحق الله فإن (حدود الله) هي (حقوق الله) وهذا يشمل ويعم المقدر وغيره. وابن القيم في تقرير هذا المعنى له سلف من أهل العلم منهم شيخه أبو العباس ابن تيمية في طائفة من أهل العم، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى (2) :
(والحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) قد فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد بحدود الله، ما حرم لحق الله فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام مثال: آخر الحلال وأول الحرام. فيقال في الأول (تلك حدود الله فلا تعتدوها) (1) . ويقال في الثاني (تلك حدود الله فلا تقربوها) (2) . وأما تسمية العقوبة المقدرة حداً فهو عرف حادث. ومعنى الحديث: أن من ضرب لحق نفسه كضرب الرجل امرأته في النشوز لا يزيد على عشر جلدات) . وهذه الإفادة عن ابن القيم التي قذف بها موج بحره الزخار تكسبنا إنارة في تقويم المفهوم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ومعرفة لحدود لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا يفوتني في هذا المقام أن أشير إلى أن ابن القيم له مبحث نفيس في هذه القاعدة وهي معرفة حدود كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أعلام الموقعين (3) والله أعلم.
مَبَاحث الحدود العَامة عَندَ ابن القيم رحمه الله تعَالى حصل بالتتبع أن مباحثه في ذلك على ما يلي: المبحث الأول: في آثار المعاصي شرعاً وقدراً. المبحث الثاني: في حكم إقامة الحد بدار الحرب. المبحث الثالث: في تأخير الحد لعارض. المبحث الرابع: في إقامة الحد بالقرينة الظاهرة. المبحث الخامس: في أثر التوبة في الحدود. وإلى بيانها على هذا النسق والترتيب.
المبحث الأول: في آثار المعاصي شرعا وقدرا
المبحث الأول: في آثار المعاصي شرعاً وقدراً (1) أوضح ابن القيم رحمه الله تعالى أن للوقوع في معاصي الله وانتهاك حرماته آثاراً عقابية شرعاً وقدراً، تحيط بالعاصي وتلم به، وهي في مجموعها تنقسم إلى عقوبتين: الأولى: قدرية. والثانية: شرعية. وقد تناول كلا منهما في. بحوث طويلة الذيل، واسعة الأطراف، تشرق بالحيوية، وتفهم روح الشريعة الإسلامية، والوقوف على نصوصها وفقه أحكامها. فإلى الوقوف على خلاصة مباحثه في كل منهما على ما يلي: الأثر الأول: العقوبات القدرية يقصد بالعقوبات القدرية ما ينتج من انتهاك حرمات الله وارتكاب معاصيه من الآثار العقابية القدرية- المذمومة المضرة بالدين والقلب والبدن وغير ذلك مما يحيط بالعاصي ويلم به في مراحل سفره: في الدنيا، والبرزخ والآخرة وهي متفاوتة بحسب تفاوت المعاصي في درجاتها ومفاسدها.
أنواعها: ومن آثار المعاصي العقابية القدرية: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى ما يزيد عن خمسين نوعاً من آثارها وقد تناولها بالبيان والتفصيل في (الداء والدواء) (1) . وفي معرض كلامه عن أسباب الصبر عن معاصي الله تعالى في (طريق الهجرتين) ساق جملة منها على سبيل الإجمال فقال (2) (منها: سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمه، وحزنه وألمه وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريه من زينته بالثوب الذي جعله الله وزينه به، والعصرة التي تناله والقسوة والحيرة في أمره وتخلى وليه وناصره عنه، وتولي عدوه المبين له، وتوارى العلم الذي كان مستعداً له عنه، ونسيان ما كان حاصلاً له أو على ضعفه ولا بد ومرضه الذي استحكم به فهو الموت ولا بد، فإن الذنوب تميت القلب، ومنها ذلة بعد عزة. ومنها أنه يصير أسيراً في يد أعدائه بعد أن كان ملكا متصرفاً يخافه أعداؤه. ومنها أنه يضعف تأثيره فلا يبقى له نفوذ في رعيته ولا في الخارج فلا رعيته تطيعه إذا أمرها، ولا ينفذ في غيرهم. ومنها زوال أمنه وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة. ومنها زوال الأنس والاستبدال به وحشة، وكلما ازداد إساءة ازداد وحشة. ومنها زوال الرضى واستبداله بالسخط. ومنها زوال الطمأنينة بالله والسكون إليه والإيواء عنده واستبدال الطرد والبعد منه ومنها وقوعه في بئر الحسرات، فلا يزال في حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته
نفسه إلى نظيرها إن لم يقض منها وطراً، أو إلى غيرها إن قضى وطره، منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعاف أضعاف ما يقدر عليه، وكلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه. فيا لها ناراً قد عذب بها القلب في هذه الدار قبل نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. ومنها فقره بعد غناه فإنه كان غنياً بما معه من رأس مال الإيمان وهو يتجر به ويربح الأرباح الكثيرة، فإذا سلب رأس ماله أصبح فقيراً معدماً فإما أن يسعى بتحصيل رأس مال آخر بالتوبة النصوح والجد والتشمير (أولا) فقد فاته ربح كثير بما أضاعه من رأس ماله. ومنها نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه. ومنها ضعف بدنه. ومنها زوال المهابة والحلاوة التي لبسها بالطاعة فتبدل بها مهانة وحقارة. ومنها حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس. ومنها ضياع أعز الأشياء عليه وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوض منه، ولا يعود إليه أبداً. ومنها طمع عدوه فيه وظفره به، فإنه إذا رآه منقاداً مستجيباً لما يأمره اشتد طمعه فيه وحدث نفسه بالظفر به وجعله من حزبه حتى يصير هو وليه دون مولاه الحق. ومنها الطبع والرين على قلبه، فإن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه، فذلك هو الران قال الله تعالى (1) : (كلاّ بل ران على قلوكم ما كانوا يكسبون) .
ومنها أنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان والعقل والرغبة في الآخرة، فإن الطاعة تثمر هذه الثمرات ولا بد. ومنها أن تمنع قلبه من ترحله من الدنيا ونزوله بساحة القيامة، فإن القلب لا يزال مشتتاً مضيعاً حتى يرحل من الدنيا وينزل في الآخرة فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفود التوفيق والعناية من كل جهة، واجتمع على جمع أطرافه وقضاء جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده، ما لم يترحل إلى الآخرة ويحضرها فالتعب والعناء والتشتت والكسل والبطالة لازمة له لا محالة. ومنها إعراض الله وملائكته وعباده عنه فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرض الله عنه فأعرضت عنه ملائكته وعباده، كما أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه وأقبل بقلوب خلقه إليه. ومنها أن الذنب يستدعي ذنباً آخر ثم يقوى أحدهما بالآخر فيستدعيان ثالثاً، ثم تجتمع الثلاثة فتستدعي رابعاً وهم جرا حتى تغمره ذنوبه وتحيط به خطيئته، قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها. ومنها علمه بفوات ما هو أحب إليه وخير له منها من جنسها وغير جنسها، فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات في الدنيا ولذة ما في الآخرة. كما قال الله تعالى (1) : (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) ، فالمؤمن لا يذهب طيباته في الدنيا، بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة. وأمّا الكافر فإنه لا يؤمن بالآخرة فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته في الدنيا.
ومنها علمه بأن أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته فإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته. ومنها علمه بأن عمله هو وليه في قبره وأنيسه فيه وشفيعه عند ربه والمخاصم والمحاج عنه، فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه. ومنها علمه بأن أعمال البر تنهض بالعبد وتقوم به وتصعد إلى الله به، فبحسب قوة تعلقه بها يكون صعوده مع صعودها. وأعمال الفجور تهوي به وتجذبه إلى الهاوية وتجره إلى أسفل سافلين، وبحسب قوة تعلقه بها يكون هبوطه معها ونزوله إلى حيث يستقر به، قال الله تعالى (1) : (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقال تعالى (2) : (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء) فلما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أغلقت عنها. وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إليه تعالى وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها في عليين. ومنها خروجه من حصن الله الذي لا ضيعة على مدخله، فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نهماً للصوص وقطاع الطرق. فما الظن بمن خرج من حصن حصين لا تدركه فيه آفة، إلى خربة وحشة هي مأوى اللصوص وقطاع الطريق فهل يتركون معه شيئاً من متاعه؟ ومنها أنه بالمعصية قد تعرض لمحق بركته. وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً، فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته، وفي بعض الآثار يقول الله سبحانه وتعالى: " من ذا الذي أطاعني فشقي بطاعتي؟ ومن ذا الذي عصاني فسعد بمعصيتي".
تقسيم هذه العقوبات القدرية: وقد ذكر رحمه الله تعالى تقسيم هذه العقوبات القدرية وتنويعها باعتبارات ثلاثة هي: 1- تقسيمها باعتبار العموم والخصوص. 2- تقسيمها باعتبار المحل الذي تقع فيه. 3- تقسيمها باعتبار المكان الذي تقع فيه. وبيانها على هذا النسق كما يلي: 1- تقسيمها باعتبار العموم والخصوص: هذه العقوبات القدرية إما أن تقع على المتلبس بالمعصية خاصة ولا تتعداه إلى سواه وإما أن تتعداه إلى غيره فيكون لها بالغ الأثر في مجتمعه وفي ظل هذا التنويع يبين ابن القيم رحمه الله تعالى مجال كل منهما فيقول (1) : أما العقوبة القدرية فإنها تقع عامة وخاصة، فإن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت ضرت الخاصة والعامة، وإذا رأى الناس المنكر فاشتركوا في ترك إنكاره أوشك أن يعمهم الله بعقابه) . فالعقوبات القدرية إذا تنقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين: الأول: خاصة، بمعنى وقوعها على المتلبس بالمعصية دون غيره فيما إذا كان العمل. بها خفيا لم تقع المجاهرة به. الثاني: عامة، بمعنى وقوعها على العاصي وغيره. ومجال عمومها: إذا أعلنت وجاهر. المذنبون بمعاصيهم ولم ينكر المسلمون ذلك، والله أعلم.
2- تقسيمها باعتبار المحل الذي تقع عليه: وقد ذكر أيضاً رحمه الله تعالى أن هذه الآثار العقابية القدرية للمعاصي تنقسم باعتبار المحل الذي تقع عليه إلى قسمين أيضاً: الأول: على الأبدان والأموال. مثل: ارتفاع النعم وحلول النقم. وحدوث الأمراض والآفات في الأبدان والثمار، وتسلط الرعاة على الرعية ونحو ذلك. الثاني: على القلوب والنفوس. مثل إضعاف القلب عن إزالة الطاعة. والطبع عليه. وتوريثها الذلّ. وإفساد العقل وإلغاء نور النفس. وسقوط الجاه والكرامة. ونحو ذلك (1) . وهذه العقوبة هي أصل عقوبة الأبدان والأموال. وهي أشد العقوبتين أثراً ونكاية. وهي أيضاً تتنوع إلى نوعين. وفي بيان هذا يقول رحمه الله تعالى (2) : (أمّا العقوبات القدرية فهي نوعان: نوع. على القلوب والنفوس. ونوع على الأبدان والأموال. والتي على القلوب نوعان: أحدهما: آلام وجودية يضرب بها القلب. والثاني: قطع المواد التي بها حياته وصلاحه عنه، وإذا قطعت عنه حصل له أضدادها. وعقوبة القلب أشد العقوبتين. وهي أصل عقوبة الأبدان وهذه العقوبة تقوى وتتزايد حتى تسري من القلب إلى البدن كما يسري ألم البدن إلى القلب. فإذا فارقت النفس البدن صار الحكم متعلقاً بها، فظهرت عقوبة القلب
حينئذ وصارت علانية ظاهرة، وهي المسماة بعذاب القبر، ونسبته إلى البرزخ كنسبة عذاب الأبدان إلى هذه الدار) . 3- تقسيمها باعتبار المكان الذي تقع فيه: وهذا أيضاً تقسيم ثالث لآثار المعاصي العقابية القدرية بالنسبة لظرف وقوعها المكاني. فذكر رحمه الله تعالى انقسامها بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام: الأول: عقوبات في دار الدنيا. الثاني: عقوبات في دار البرزخ. الثالث: عقوبات في الآخرة. وينتظم هذه العقوبات الثلاث قول الله تعالى (1) (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) . وفي بيان ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (قال تعالى (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) . وفسرت المعيشة الضنك: بعذاب القبر. ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعم منه وإن كانت نكرة في سياق الإثبات فإن عمومها من حيث المعنى، فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره، فالمعرض عنه له من المعيشة الضنك بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأصناف النّعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما يواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحبّ الدنيا والرياسة، وإن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر، فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر، فإنه يفيق صاحبه ويصحو وسكر الهوى وحبّ الدنيا لا يصحو
صاحبه إلا إذا كان صاحبه في عسكر الأموات فالعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم في دنياه. وفي البرزخ، ويوم معاده. الأثر الثاني: العقوبات الشرعية: ترتب العقوبات الشرعية أثر من آثار التلبس بمعاصي الله واقتراف المآثم ويراد بها: ما رتبه الشارع على ذلك من حد أو كفارة (1) أو تعزير. وهذا الأثر العقابي الشرعي الحكمي هو ما عرف بعد باسم: الحدود والتعازير إذا ما استثنينا ترتب الكفارة. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن المعاصي بالنسبة لترتب هذا الأثر عليها تنقسم إلى ثلاثة أقسام (2) : القسم الأول: ما فيه حد مقدر، كالزنى، والسرقة، والقذف، وشرب الخمر. فهذا القسم لا كفارة فيه ولا تعزير. القسم الثاني: ما فيه كفارة، كالجماع في الإحرام، ونهار رمضان، وولاء المظاهر منها قبل التكفير وقتل الخطأ، والحنث في اليمين ونحو ذلك. فهذا القسم لا حد فيه. الجمع بين الكفارة والتعزير (3) : ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى الخلاف في الجمع بين التعزير والكفارة في
المعصية التي لا حد فيها على قولين للفقهاء هما وجهان لأصحاب أحمد: الأول: يجب التعزير مع الكفارة، وذلك لما انتهك من الحرمة بركوب الجناية. الثاني: لا تعزير مع الكفارة اكتفاء بها، لأنها جابرة وماحية. هكذا حكى ابن القيم رحمه الله تعالى القولين ولم يرجح أحدهما على الآخر والذي يظهر والله أعلم هو عدم وجوب التعزير مع الكفارة لآن الوجوب لا بد له من دليل يقضي بالإيجاب وهذا ما لا يعلم توفره هنا والله أعلم. القسم الثالث: ما ليس فيه حد ولا كفارة. فهذا فيه التعزير. وهذا القسم على نوعين (1) : (أحدهما: ما كان الوازع عنه طبيعياً، كأكل العذرة، وشرب البول.، والدم. والثاني: ما كانت مفسدته أدنى من مفسدة ما رتب عليه الحد، كالنظر والقبلة، واللمس والمحادثة وسرقة فلس، ونحو ذلك) . ومن هذا البحث، نستخلص أن العقوبات الشرعية المترتبة على المعاصي ثلاثة أنواع: 1- حد مقدر. 3- كفارة مقدرة. 3- تعزير. وأن المعاصي بالنسبة لترتيب هذه العقوبات الشرعية الحكمية- عليها على أنواع أيضاً وهي: 1- معصية فيها حد مقدرة فلا كفارة فيها ولا تعزير (2) . 2- معصية فيها كفارة مقدرة فلا حد فيها بالاتفاق ولا تعزير على أصح القولين. 3- معصية لا حد فيها ولا كفارة ففيها التعزير.
المبحث الثاني: في حكم إقامة الحد بدار الحرب
المبحث الثاني: في حكم إقامة الحد بدار الحرب (1) : إذا أصاب المسلم فيها ما يوجب حداً في سرقة أو شرب خمر أو نحوها من موجبات الحدود فهل يقام عليه الحد؟ هذه من مسائل الاختلاف بين أهل العلم، وقد تناولها ابن القيم رحمه الله تعالى بالبيان والتفصيل، فحكى الخلاف، ودلّل، ورجح. وضرب بها المثال لتغير الفتوى بتغير الأزمنة والأحوال. اختياره رحمه الله تعالى (2) : يظهر جلياً من مباحثه رحمه الله تعالى في ذلك: اختياره قاعدة يرد عليها استثناء واحد ذلك: أن من باشر ما يوجب حداً في دار الحرب، فإنه لا يسقط عنه الحد بالكلية وإنما يؤخر حتى يقفل من دار الحرب ويعود إلى اْرض الإسلام. لكن إن كان لمن وجب عليه الحد من الحسنات والنكاية بالعدو ما يغمر سيئته التي وقع فيها، وظهرت منه مخايل التوبة النصوح فإنه يسقط عنه الحد بالكلية. سلفه في تقرير هذا الاختيار: اختياره هذا رحمه الله تعالى يتكون من تقرير قاعدة يرد عليها استثناء وهذا (1) أ- انظر في هذا المبحث: أعلام الموقعين 2/307، 3/17- 21، 3/ 155. ب- دار الحرب، ويقال: دار الكفر. وأرض الكفر. وأرض الحرب كلها بمعنى: دار التباعد والبغضاء. وهي: دار الكفار الذين ليس بيننا وبينهم عهد ولا أمان (انظر المطلع ص/226) . (2) انظر: أعلام الموقعين 3/17- 31
الاستثناء لم أر من سبقه إليه، أما تقريره القاعدة المذكورة فهي مذهب أحمد، وإسحاق (1) ، والأوزاعي (2) وغيرهم. وقد أوضحه ابن القيم رحمه الله تعالى فقال (3) : (وقد نص أحمد، وإسحاق والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو. وذكرها أبو القاسم الخرقي (4) في مختصره (5) فقال (6) : لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو) . وعدم إقامته في أرض العدو يعني تأخيره حتى يعود إلى أرض الإسلام فيقام الحد إذاً على مرتكب موجبه. وهو كذلك مصرحاً به عند من حكى مذهب هؤلاء أو بعضهم كالترمذي وابن قدامة، وابن الهمام. وغيرهم. قول الترمذي (7) :
قال بعد سياق الحديث في النهي عن القطع في الغزو (1) : (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم الأوزاعي، لا يرون أن يقام الحد في الغزو وبحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو، فإذا خرج الإمام من أرض الحرب ورجع إلى دار الإسلام أقام الحد على من أصابه) . قوِل ابن قدامة (2) : قال في بيان مذهب الإمام أحمد (3) : (من أتى حداً من الغزاة أو ما يوجب قصاصاً في أرض الحرب لم يقم عليه حتى يقفل فيقام عليه الحد وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق) . قول ابن الهمام (4) : قال بعد سياق قول الترمذي المتقدم (5) : (واعلم أن مع الأوزاعي أحمد وإسحاق فمذهبهم تأخير الحد إلى القفول) .
أدلته: مع التحرير والمناقشة.
أدلة اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى: عرفنا أن اختياره رحمه الله تعالى هو: تأخير الحد وأنه لا يسقط إلا عن من كانت له من الحسنات والنكاية بالعدو ما يغمر سيئته وقد ظهرت منه مخايل التوبة النصوح. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: الأدلة على تأخير الحد كما ذكر دليل الاستثناء المذكور في اختياره. لهذا فإني أسوق أدلة اختياره وما يرد عليها من مناقشات على ما يلي: أولاً: الأدلة التي استدل بها على تأخير الحد: وهي من السنة (1) . وقضاء الصحابة (2) رضي الله عنهم والإجماع (3) والقياس (4) وبيانها على ما يلي: 1- استدلاله من السنة: استدل بحديث النهي عن القطع في الغزو فقال (5) :
(إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو رواه أبوِ داود) . علّة النهي: قال في بيانها (1) : (فهذا حد من حدود الله وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هوِ أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق لصاحبه بالمشركين حمية وغضباً، كما قال عمر (2) ، وأبو الدرداء (3) وحذيفة (4) وغيرهم..) . وجه الاستدلال: دلالة هذا الحديث نصية على النهي عن إقامة حد السرقة على مرتكبها من الغزاة في الغزو. لكن ابن القيم رحمه الله تعالى فهم منهم العموم في النهي عن إقامة كافة الحدود في أرض العدو، للاشتراك في علّة النهي فطرد هذا الحكم في سائر الحدود فقال (5) :
(إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفار، ولهذا لا تقام الحدود في الغزو كما تقدم) (1) . وهذا من ابن القيم رحمه الله تعالى: أخذ بروح التشريع، ونظر إلى مقاصد الشريعة، ومراعاة لعلل الأحكام، وبعد عن الجمود مع ظاهر النص. إيراد وجوابه: وهو أنَ يقال: اين الاستدلال من هذا الحديث على تأخير الحد فإن ظاهره . سقوط الحد لا تأخيره والحال يقِتضي البيان؟ والجواب عن هذا من وجهين: 1- إن الحديث نهى عن إقامة حد القطع في ظرف خاص وهو (الغزو) فهذا نهي عن إقامة الحد في حالة الغزو وليس إسقاطا له. يوضحه الوجه بعده: 2- وهو أن الصحابة رضي الله عنهم الذين وقع التشريع في عصرهم وفي مواجهتهم أخروا إقامة الحدود عن مرتكبيها في المغازي في قضايا متعددة كما سيأتي ذكر بعضها إن شاء الله تعالى هم أقرب الأمة لفهم كلام نبيها، ومعرفة مراده، وبهذا أخذ ابن القيم وجعل ما وقع من الصحابة رضي الله عنهم من تأخير الحد- تفسيراً للنص وكشفاً عن مراد الشارع صلى الله عليه وسلم.
المناقشة لحديث النهي عن القطع في الغزو
مناقشة هذا الدليل: بعد أن رأينا هذا الحديث نصاً ودلالة والتسليم لها، فما هي منزلة هذا الحديث ودرجته من الصحة أو الضعف أو غيرهما من درجات الحديث الصناعية (1) . إذ أن التسليم لدلالة الحديث مترتبة على التسليم لثبوته. وبيان ذلك على ما يلي: منزلته عند ابن القيم: لم يتكلم عليه ابن القيم رحمه الله تعالى بتصحيح أو تضعيف لكن ذكره له بصيغة الجزم (2) كما تقدم واستدلاله به على ما رآه وعدم تعقبه له يعتبر تسليما منه لحجية إسناده. هذا ما يتضح للناظر من سياق ابن القيم لهذا الحديث في (أعلام الموقعين) (3) لكنا نراه في مبحث لاحق من نفس الكتاب، يشير إلى ضعف الحديث في معرض ردّه على من قال الزيادة على ما في القرآن نسخ فيقول (4) : (إنكم أخذتم بخبر ضعيف (لا تقطع الأيدي في الغزو) وهو زائد على القرآن، وعديتموه إلى سقوط الحدود على من فعل أسبابها في دار الحرب..) . فمن هنا يبدو تضارب في منزلة هذا الحديث عند ابن القيم بين الحجية والتضعيف. لكن بعد التأمل يجد الناظر لكلامه محملاً ينفي عنه التضارب وهو أن يقال:
إن الحديث في نظر ابن القيم رحمه الله تعالى ضعيف ضعفاً محتملاً، يتقوى بما يشهد له من أقضية الصحابة رضي الله عنهم والقياس الصحيح. بما يفيد النهي عن الحد حال الغزو وتأخيره بعد القفول منه، أما أن يريد به الضعيف ضعفاً غير محتمل، وهو ما كان في سنده من تكلم في عدالته بحيث لا يصح معه اعتبار ولا شاهد فهذا ما لم يظهر من كلامه والله أعلم. الدراسة الإسنادية لهذا الحديث: وهي تتجلى في الخطوات الآتية: أ- صحابي الحديث: صحابي هذا الحديث هو: بسر ابن أبي أرطأة رضي الله عنه. وهو من مفاريده (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم. ب- مخرجيه: أخرج هذا الحديث الأئمة: أحمد (2) ، وأبو داود (3) ، والترمذي (4) والنسائي (5) ، والدارمي (6) ، والضياء (7) كلهم من حديث بسر رضي الله عنه.
ج- ألفاظه: أما ألفاظه عند من خرجه فهي على ما يلي: أ- قال صلى الله عليه وسلم (لا تقطع الأيدي في السفر) رواه أبو داود. والنسائي، والضياء. ب- قال (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قال صلى الله عليه وسلم - لا تقطع الأيدي في الغزو) رواه أحمد. والترمذي والدارمي. ج- عند أحمد وأبي داود بإسناديهما عن جنادة بن أبي أمية (1) قال: كنا مع بسر ابن أبي أرطاة (2) في البحر، فأتى بسارق يقال له (مصدر) قد سرق بختية (3) فقال: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا تقطع الأيدي في الغزو) . الجمع بين روايتي (السفر) و (الغزو) : رواية النهي عن قطع الأيدي (في السفر) لا تعارض رواية (في الغزو) ذلك أن السفر المذكور يراد به سفر الغزو فهو من باب العام المخصص على ما ذكره جماعة الشراح لهذا الحديث (4) . 4- التعريف بأسانيد هذا الحديث إلى راويه بسر: أما رجال إسناده عند أبي داود فكلهم ثقات إلى بسر كما قاله الشوكاني (5) .
ومدار أسانيده عند أحمد والترمذي على ابن لهيعة، وهو عبد الله بن لهيعة المصري المتوفى سنة 174 هـ. ومنزلته الصدق وقد اختلط بعد احتراق كتبه (1) ، وهو مدلس (2) لكنه قد صرح بالتحديث في هذا الحديث. فيعلم من حاله إذا أن حديثه يتابع عليه، وقد تابعه (حيوة ابن شريح) عند أبي داود والنسائي وحيوة بن شريح الحضرمي المتوفى سنة 224 هـ من ثقات المحدثين (3) . وحيوة وابن لهيعة يرويانه: عن عياش بن عباس القتباني المصري المتوفى سنة 233 هـ. وعياش من الأئمة الثقات (4) . فتحصل أن أسانيد هذا الحديث إلى بسر، ترقى إلى درجة الصحة حسب أصول الصناعة الحديثية والله أعم. 4- التعريف ببسر راوي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (5) : هو بسر ابن أبي أرطأة: عمير بن عويمر القرشي العامري. قيل مات أيّام معاوية رضي الله عنه. وقيل في أيّام عبد الملك بن مروان (7) . وقيل في أيّام ابنه الوليد سنة 86 هـ (8) .
وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم سوى ثلاثة أحاديث (1) هذا أحدها، وهو من مفاريده فقد تفرد بروايته له عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يعلم أن أحداً شاركه في رواية هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تكلم الحفاظ في بسر هذا من ثلاث جهات: في صحبته وفي سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عدالته. وبيان هذا فيما يلي: أ- الخلاف في صحبته: اختلف في صحبة بسر للنبي صلى الله عليه وسلم على قولين حكاها المنذري فقال فيه (2) : (اختلف في صحبته، فقيل: له صحبة، وقيل: لا صحبة له. وإن مولده قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وله أخبار مشهورة، وكان يحيى بن معين (3) ، لا يحسن الثناء عليه، وهذا يدل على أنه عنده لا صحبة له، والله عزّ وجلّ أعلم، وقد غمزه الدارقطني (4)) . والمنذري حكى الخلاف ولم يجزم بواحد من القولين. وهذا صنيع المزي في (تحفة الأشراف) (5) والذهبي في (الميزان) (6) وابن حجر في (الإصابة) (7) وفي (تهذيب التهذيب) (8) .
بينما نجد الذهبي نفسه في كتابه (تجريد أسماء الصحابة) (1) يذكره في عداد الصحابة ولا يتعقبه بشيء ينبئ بخلاف صحبته والحافظ ابن حجر في كتابه (التقريب) (2) يجزم بصحبته فيقول فيه: (من صغار الصحابة مات سنة 86 هـ. روى له أبو داود، والترمذي والنسائي) . فهذان الحافظان الذهبي وابن حجر اختلفت كلمتهما في صحبة بسر هذا بين الجزم بصحبته وبين التوقف فيها. كما توقف فيها أيضاً الشوكاني في (نيل الأوطار) (3) . ب- الخلاف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم: ثم أن المزي، والذهبي، وابن حجر، لما ذكروا الخلاف في صحبة بسر للنبي صلى الله عليه وسلم ذكروا الخلاف أيضاً في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجزموا بواحد من القولين في سماعه أو عدمه. وللقائلين بصحبته: (الجزم بسماعه عن النبي) لأنه قد صرح في بعض روايات هذا الحديث بسماعه له من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تقطع الأيدي- الحديث (4) . وقال الشوكاني (5) : (ونقل عبد الغني أن حديثه في الدعاء فيه التصريح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم) .
ج- عدالته: قد تكلم في عدالة بسر بكلام خشن ذكره الذهبي (1) وابن حجر (2) والشوكاني (3) والمناوي (4) . وذكروا من أحواله: أن معاوية رضي الله عنه وجهه إلى اليمن والحجاز ففعل الأفاعيل وقتل: عبد الرحمن (5) وقثم (6) ابني العباس، وقال ابن معين: أنه رجل سوء. والذهبي لما أدخله في الميزان وهو محط المتكلم فيهم لم ينتصر له فيه بل حكى وسكت وكذا ابن حجر والمناوي. لكن من تكلم فيه لم يغمز في صدقه ومدار الرواية على تحري الصدق وعدم الكذب وفي هذا يقول الشوكاني (7) . (لكن إذا كان المناط في قبول الرواية هو تحري الصدق وعدم الكذب فلا ملازمة بين القدح في العدالة وعدم قبول الرواية) . الخلاصة والترجيح: هذه كلمة الحفاظ في هذا الحديث رواية ودراية، وقد تبين من دراسته الإسنادية: صحة الإسناد إلى بسر. وإن مدار الكلام في هذا الحديث على (بسر) ،
استدلاله بالأثر مع المناقشة
ومما تقدم يعلم أن الكلام في بسر لا ترد بمثله الرواية إذ أن من تكلم فيه لم يغمزه في صدقه ومدار الرواية على الصدق. وهو قد صرح بالسماع في هذا الحديث وفي غيره فدل تصريحه بالسماع على: صحبته وسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا صحح الأئمة هذا الحديث: فقال الذهبي: الحديث جيد لا يرد بمثل هذا. أحد: بمثل الكلام في بسر (1) . وظاهر صنيع ابن القيم تصحيحه لهذا الحديث كما تقدم. وقال ابن حجر: إسناده قوي مصري (3) . ورمز السيوطي لصحته (3) . وقال الألباني: إسناده صحيح على ما قيل في ابن أبي أرطأة (4) . فالحديث إذا سليم الدلالة رواية ودراية لصراحة لفظه وصحة إسناده والله أعلم. 2- استدلاله بالمأثور عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك: واستدل على اختياره تأخير الحد بأنه فتيا جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعلم منهم: عمر رضي الله عنه، وأبو الدرداء رضي الله عنه، وحذيفة بن (5) اليمان رضي
الله عنه، وبسر ابن أبي أرطاة رضي الله عنه. وساق أخبارهم في هذا. وبيانها كما يلي: أ- أثر عمر رضي الله عنه: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (روى سعيد بن منصور (2) في سننه (3) بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حداً وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار) . درجة هذا الأثر: وهذا الأثر ضعيف بهذا الإسناد لأنه من رواية الأحوص بن حكيم ابن عمر العنسي الحمصي عابد وهو ضعيف من قبل حفظه (4) . وهو أيضاً يرويه عن والده وهو صدوق لكنه يهم (5) . والراوي له أيضاً عن الأحوص هو: إسماعيل بن عياش الحمصي المتوفى سنة 182 هـ. وهو مدلس وقد عنعن إلا أن المقرر لدى المحققين كابن القيم (7) ، وابن
حجر (1) : أن روايته عن الشاميين مقبولة ولو عنعن وهو هنا يرويه عن شامي مثله وهو الأحوص بن حكيم. بل هذا إسناد كله حمصي. إذاً فضعف هذا الأثر بهذا الإسناد لضعف الأحوص. والأحوص قد توبع كما في (مصنف ابن أبي شيبة) (2) و (السنن الكبرى) (3) للبيهقي. كما أن إسماعيل ابن عياش أيضاً قد توبع عند من ذكر. فصار مدار هذا الأثر على: حكيم بن عمير الحمصي. وتفرده لا يضر لأن منزلته الصدق، وقد تعددت مخارجه إليه وعدلت نقلته فظهر إذاً: أن هذا الأثر حسن الإسناد والله أعلم. وجه الدلالة: ودلالة هذا الأثر على تأخير الحد عن الغزاة نصية لنهيه رضي الله عنه عن إقامة الحد على غاز إلا إذا قطع الدرب قافلاً إلى بلاد الإسلام مبيناً رضي الله عنه علة النهي بقوله: لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار والله أعلم. ب- أثر أبي الدرداء رضي الله عنه: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (4) : (وعن أبي الدرداء مثل ذلك) .
أي رواه سعيد بن منصور في (سننه) بنحو أثر عمر رضي الله عنه. والأمر كذلك وهذا لفظه (1) : (عن أبي الدرداء- رضي الله عنه: أنه كان ينهي أن تقام الحدود على الرجل وهو غاز في سبيل الله حتى يقفل مخافة أن تحمله الحمية فيلحق بالكفار، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا فإن عقوبة الله من ورائهم) . وقد رواه أيضاً ابن أبي شيبة (2) . وهذا الأثر عند سعيد وابن أبي شيبة من رواية إسماعيل بن عياش عن أبي بكر ابن أبي مريم وقد عنعن إسماعيل وهو مدلس لكنه في روايته عن شامي فيقبل حديثه (3) . فيبقى مدار السند على أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي المتوفى سنة 156 هـ. وهو ضعيف كما في (التقريب) (4) . فهذا الأثر إذاً ضعيف الإسناد لضعف الغساني المذكور، لكن هذا الأثر ليس هو العمدة وحده في الاستدلال بل سياقه من باب المتابعات والشواهد فيسلم الاستدلال به إذاً ودلالته نصية على تأخير الحد كأثر عمر سواء والله أعلم. ج- أثر حذيفة رضي الله عنه: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (5) :
(وقال علقمة (1) : كنا في جيش في أرض الرّوم، ومعنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وعلينا الوليد بن عقبة (3) ، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أميركم، وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم) . درجة هذا الأثر: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الأثر عرياً من التخريج، وقد خرجه أبو يوسف (3) ، وعبد الرزاق (4) وسعيد ابن منصور (5) . وابن أبي شيبة (6) كلهم بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم (7) . وجه دلالته: ووجه الاستدلال منه على تأخير الحد عن الغزاة ظاهر، فإن حذيفة لم يسقطه ولكن استنكر عليهم تعجيله وهم عند أرض العدو مخافة أن يطمع فيهم الأعداء، فهذا ينبئ عن أن العلة في استنكاره هي قربهم من العدو خشية طمعه فيهم فدل على أنه بعد العودة يعود الحكم بالحد لزوال علته وعليه فإن قول حذيفة رضي الله عنه دالّ على التأخير لا غير والله أعلم.
استدلاله بالإجماع
د- أثر بسر ابن أبي أرطاة رضي الله عنه: وقد تقدمت فتواه بذلك في سياق حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض رواياته والله أعلم. 3- استدلاله بالإجماع: واستدل رحمه الله تعالى على تأخير الحد بالإجماع فقال (1) : (وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم (2)) . والمراد بالإجماع هنا والله أعلم- الإجماع السكوتي (3) ، فإن القول بهذا قد ورد عن جملة من الصحابة رضي الله عنهم في مواجهة آخرين منهم فلم يظهر في سياق الأخبار خلاف أحد منهم فصار إذاً إجماعاً على تأخير الحد والله أعلم. 5- استدلاله بقياس الأولى (4) : وفي خضم هذه الأدلة التي ساقها ابن القيم رحمه الله تعالى: من السنن. وعمل الصحابة رضي الله عنهم، والإجماع يستدل عليه بقياس الأولى فيبين أن قاعدة الحدود تأخير الحد لعارض لمصلحة المحدود وتأخير الحد هنا لمصلحة الإسلام فيكون تأخيره لمصلحة الإسلام أولى وفي هذا يقول (5) :
(وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة أما من حاجة المسلمين إليه، أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض، فهذا تأخير لمصلحة المحدود فتأخره لمصلحة الإسلام أولى) . وهذا قياس مسلم يفيد مطابقة صريح المعقول لصحيح النقول، قد استوفى شرائط القياس وأركانه: فذكر المقيس: وهو تأخير الحد في الغزو. وذكر المقيس عليه: وهو تأخير الحد في غير الغزو. وذكر العلة الجامعة: وهي المصلحة. وذكر الحكم: وهو الجواز. وبين أنه قياس الأولى: لأن المصلحة العارضة في المقيس لمصلحة الإسلام، وفي المقيس لمصلحة المحدود، فإذ كانت المصلحة الخاصة علة للتأخير تكون المصلحة العامة أولى بذلك لأنها أقوى في الاعتبار والله أعلم. ثانياً: استدلاله على تقرير الاستثناء: سبق في صدر هذا المبحث بيان أن اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى: هو تأخير الحد عن المسلم في أرض العدو وأنه استثنى من هذا، أن من كانت له من الحسنات والنكاية بالعدو ما يغمر سيئته التي وقع فيها وقد ظهرت منه مخايل التوبة النصوح فإنه يسقط عنه الحد بالكلية (1) . وقد سبق أيضاً بيان أدلته على تأخير الحد، أما دليله على تقرير هذا الاستثناء فإنه استدل بما يلي:
استدلاله بقصة أبي محجن رضي الله عنه
قصة أبي محجن رضي الله عنه (1) : استدل ابن القيم رحمه الله تعالى على تقرير الاستثناء المذكور بقصة أبي محجن رضي الله عنه مع سعد ابن أبي وقاص (2) رضي الله عنه فقال (3) : (أتي سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه بأبي محجن رضي الله عنه- يوم القادسية وقد شرب الخمر، فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس قال أبو محجن: كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً عليّ وثاقيا. فقال لابنة حفصة امرأة سعد (4) : أطلقيني ولك والله على أن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد. فإن قتلت استرحتم مني. قال: فخلته حتى التقى الناس. وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس. قال وصعدوا به فوق العذيب (5) ينظر إلى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة (6) . فوثب أبو محجن على فرس لسعد. يقال لها البلقاء. ثم أخذ رمحاً ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم. وجعل الناس يقولون: هذا ملك لما يرونه يصنع. وجعل سعد يقول: الضبر. ضبر البلقاء (7) . والظفر ظفر أبي محجن. وأبو محجن في القيد فلما هزم العدو رجع أبو
محجن حتى وضع رجليه في القيد. فأخبرت ابنة حفصة سعداً بما كان من أمره. فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهم. فخلى سبيله فقال أبو محجن: قف كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها. أما إذ بهرجتني (1) فوالله لا أشربها أبداً) . درجة هذه القصة: ساق ابن القيم رحمه الله تعالى هذه القصة مرسلة من غير تخريج لها وقد ذكرها على سبيل الجزم بصحتها والأمر كذلك فإن هذه القصة المشهورة صحيحة الإسناد كما قرره الحافظ ابن حجر (2) ولعل ابن القيم رحمه الله اكتفى باشتهار صحتها عن تخريجها. وقد رواها سعيد بن منصور في (سننه) (3) وابن أبي شيبة وعبد الرزاق (4) في مصنفيهما (5) . وجه الاستدلال: ودلالة هذا الأثر نصية على سقوط الحد عن الغازي إذا كانت حاله كحال أبي محجن من الإبلاء في الإسلام والنكاية بالعدو وظهور مخايل التوبة النصوح منه فإن سعداً قد قال: (لا والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهم فخلى
مسلك الموازنة
سبيله، فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يقام على الحد وأطهر منها أما إذا بهرجتني فوالله لا أشربها أبداً) . وفي إيضاح وجه الاستدلال يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (وقوله (إذ بهرجتني) أي أهدرتني بإسقاط الحد عني، ومنه (بهرج دم ابن الحارث) أي أبطله، وليس في هذا ما يخالف نصاً ولا قياساً ولا إجماعاً بل لو ادعى أنه إجماع الصحابة كان أصوب، قال الشيخ في (المغنى) (2) : وهذا اتفاق لم يظهر خلافه) . مسلك الموازنة: هذا رأي ابن القيم رحمه الله تعالى، وهذه أدلته، ولا ينجلي الترجيح لقوله أو قول مخالفه إلا بعد سياق الخلاف وأدلته، ومعرفة ثبوتها أمام النقد من عدمه. وابن القيم رحمه الله تعالى لم يذكر الخلاف في هذا المبحث وإنما أشار إلى خلاف الحنفية في قولهم بإسقاط الحد مطلقا (3) . وهو معذور في هذا لأن غرضه سياق المثال (لما تتغير به الفتوى بتغير الزمان والأحوال) . فإلى ذكر الخلاف وأدلته: مذهب الحنفية: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى سقوط الحد عن المسلم في دار الحرب (4) . وهو في هذا قد تابع ابن قدامة في حكايته لمذهب أبي حنيفة إذ قال (5) : (وقال أبو حنيفة: لا حد ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع) .
وهذا الإطلاق يخالف ما ذكره علماء الحنفية وغيرهم (1) من تقييد ذلك: بشرط أن لا يكون الخليفة مع المسلمين في دار الحرب فإن كان معهم وجبت إقامة الحدود على من تلبس بها، ولا تؤخر إلى حين القفول من دار الحرب أما إن لم يكن معهم فيسقط الحد. ولم أر من حكى السقوط مطلقاً مذهباً لأبي حنيفة رحمه الله تعالى سوى ما تقدم عن ابن القيم وابن قدامة والله أعلم. أدلة أبي حنيفة: استدل لمذهب أبي حنيفة بأدلة منها ما يلي: 1- حديث (لا تقام الحدود. في دار الحرب) (2) . وجه الاستدلال: بيّن البابرتي، من الحنفية وجه الاستدلال منه فقال (3) : (ووجه التمسك به أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد به حقيقة عدم الإقامة حساً لأن كل واحد يعرف أنه لا يمكن إقامة الحد في دار الحرب لانقطاع ولاية الإمام عنها فكان المراد بعدم الإقامة عدم وجوب الحد) . مناقشة الاستدلال: وهذا الاستدلال مناقش بما يلي: 1- أن الاستدلال به على خلاف الدعوى، فإن مذهب أبي حنيفة سقوط الحد بشرط أن لا يكون الإمام مع المعسكر، والحديث لا إشارة فيه إطلاقاً إلى
وجوب إقامة الحد مع وجود الإمام في المعسكر بدار الحرب بل ينافيه. 2- أن هذا الحديث لا تثبت به دعوى سقوط الحد من أصلها لأن عدم إقامة الحد في دار الحرب لا تستلزم سقوطه بل تحتمل التأخير إلى القفول من الغزو، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال. بل إن معناه في تأخير الحد أظهر ويدل عليه أقضية الصحابة رضي الله عنهم. فيتبين من هذا أن دلالته دراية على مذهب أبي حنيفة غير سليمة والله أعلم. درجة هذا الحديث: إن دلالة الحديث دراية فرع لثبوت الحديث رواية. وكما أن هذا الحديث لا يدل لفظه على مذهب أبي حنيفة، فإن الاستدلال به من أصله لا ينهض لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال ابن الهمام الحنفي (1) : (لا يعلم له وجود) . أي أن هذا حديث لا أصل له رواية، فبطل الاستدلال به إذاً رواية ودراية والله أعلم. 2- قصة أبي محجن رضي الله عنه (2) : ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن إسقاط سعد بن أبي وقاص الحد عن أبي محجن قد يتمسك به من يقول: لا حد على مسلم في دار الحرب كأبي حنيفة. وجه الاستدلال: ودلالة هذا الأثر على سقوط الحد عمن كان في دار الحرب من الغزاة دلالة نصية فإن سعداً رضي الله عنه أسقط الحد حد الخمر عن أبي محجن فخلى سبيله وقال (والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهم) فأسقط عنه الحد.
مناقشة هذا الاستدلال: وقد أوضح ابن القيم رحمه الله تعالى فيما تقدم أن هذا الأثر لا يعني سقوط الحد بالكلية وإنما سقوط مقيد لن كانت حاله وصفته كأبي محجن رضي الله عنه. ولهذا تعقب من يستدل به على إسقاط الحد بالكلية فقال رحمه الله تعالى (1) : (لا حجة فيه - أي لأبي حنيفة- والظاهر أن سعداً رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة الله تعالى. فإنه لما رأى من تأثير أبي محجن وجهاده وبذل نفسه لله ما رأى، درأ عنه الحد. لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة. وجعلتها كقطرة نجاسة وقعت في بحر. ولا سيما وقد شام منه مخايل التوبة النصوح وقت القتال. إذ لا يظن مسلم إصراره في ذلك الوقت الذي هو مظنة القدوم على الله وهو يرى الموت. وأيضاً فإنه لتسليمه نفسه ووضع رجله في القيد اختياراً قد استحق أن يوهب له حده كما قال (3) النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له (يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي. فقال هل صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم. قال اذهب فإن الله قد غفر لك حدك) - وظهرت بركة هذا العفو والإسقاط في صدق توبته. فقال: والله لا أشربها أبداً. وفي رواية (أبد الأبد) وفي رواية (قد كنت آنف أن أتركها من أجل جلداتكم، فأما إذا تركتموني فوالله لا أشربها أبداً) . وقد بريء النبي صلى الله عليه وسلم مما صنع خالد ببني جذيمة (3) لحسن بلائه وقال (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) ولم يؤاخذه به لحسن بلائه ونصره للإسلام. ومن تأمل المطابقة بين الأمر والنهي والثواب والعقاب وارتباط أحدهما بالآخر علم فقه هذا الباب) .
3- تعذر إقامة الحد لانقطاع ولاية الإمام عن دار الحرب: قالوا: إن الوجوب مشروط بالقدرة ولا قدرة للإمام على مسلم تلبس بالحد في دار الحرب فلا حد إذاً، أما لو كان الإمام معه في المعسكر فيقام الحد، لأنه تحت يده فالقدرة ثابتة عليه (1) . مناقشة هذا الدّليل: نسلم أن مناط إقامة الحد هي القدرة، لكن ما الذي أسقطه بالكلية حتى ولو عاد إلى دار الإسلام فإن المسلم إذا عاد إلى دار الإسلام صار تحت يد الإمام، فالقدرة ثابتة عليه، فإذا لم تقم عليه الحدود أهدرنا مقتضيات النصوص الآمرة بإقامة الحدود، أما إذا قلنا بتأخيره فقد راعينا المصلحة ولم نهدر الحد بالكلية. أما قولهم: بإقامة الحد إذا كان الإمام في المعسكر لوجود القدرة فيقال: هذا غير مسلم لأنه ليس مناط إقامة الحد وجود القدرة فحسب، بل معها أيضاً عدم وجود المعارض، وهو هنا قد وجد لحاجة المسلمين إلى تكثير الصف أو خوفاً من ارتداده ولحوقه بالكفار كما علله الصحابة رضي الله عنهم بذلك. ومن القواعد المقررة: أنه إذا وجد المانع والمقتضي قدم المانع على المقتضي، فإذا زال المانع بأن رجعوا إلى دار الإسلام أقيم الحد لوجود المقتضي وانتفاء المعارض. وهذا له نظائر في الحدود كما في تأخير الحد لمصلحة المحدود كتأخيره عن الحامل ونحوها (2) . ولعله تبين من سياق أدلة الحنفية ومناقشتها أنه ليس لدى الحنفية ما تسلم دلالته على سقوط الحد عن الغزاة. ولهذا نرى الإمام أبا يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة
مذهب المالكية. مع التدليل والمناقشة.
وخريجه يجنح إلى القول بتأخير الحد فيقول (1) : (ولا ينبغي أن تقام الحدود في المساجد ولا في أرض العدو- ثم ذكر قولي أبي حذيفة وعمر رضي الله عنهما في تأخير الحد حتى القفول إلى دار الإسلام) . والله أعلم. مذهب المالكية (2) : هو إقامة الحد في كلّ زمان وفي كلّ مكان: دار حرب أو إسلام أو غيرهما. ومعهم على هذا أبو ثور (3) ، وابن المنذر (4) . أدلتهم (5) : استدلوا بأن أوامر الله بإقامة الحدود مطلقة في كلّ مكان وزمان كما في قوله تعالى (6) (الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة) وقوله تعالى (7) (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وغيرهما من النصوص الآمرة بإقامة الحدود غير مقيدة بمكان دون آخر أو بزمان دون زمان. مناقشته: هي أن يقال أن من المناهج والقواعد الأصولية المقررة لدى المالكية وغيرهم
مذهب الشافعية. وبيان الاختلاف في حكايته
من أهل العلم: أن العام يخص، والمطلق يقيد. ولهذا قال المالكية كغيرهم: أن الحد يؤخر لمصلحة المحدود لعارض كحر أو برد شديدين (1) ، وهذا تقييد لإطلاق النص، فما الذي يمنع من تأخيره هنا مع أن المصلحة أظهر وأشمل فهي لمصلحة المحدود خوفاً من لحوقه بالكفار وارتداده عن الإسلام، ولمصلحة المسلمين تكثيراً لصفهم ومحافظهَ على سلامة وحدتهم وهذا هو محض فقه الصحابة رضي الله عنهم. إذاً: فيكون ورود هذا القيد أولى من تقييد مطلق الأمر بنحو حر أو برد شديدين والله أعلم. مذهب الشافعية: اختلفت حكاية أهل العلم لمذهب الشافعي على ما يلي: الأول: أنه كمذهب مالك سواء: من إقامة الحد في كلّ زمان ومكان: دار حرب أو إسلام. حكاه البيهقي (2) ، وابن هبيرة (3) ، وابن الهمام (4) . الثاني: إقامة الحد بدار الحرب إذا كان أمير الجيش الإمام أو أمير الإقليم، وإلا فيؤخر حتى يأتي إلى الإمام، وكذلك يؤخر أن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود أو قوة به. حكاه ابن قدامة (5) وهو يوافق مذهب الحنفية في إقامته إذا كان مع الجيش الإمام أو أمير الإقليم كما تقدم (6) .
المبحث الثالث: في تأخير الحد لعارض
الترجيح: بعد ذكر الخلاف وأدلته وما ورد عليها من مناقشات فإن الذي يظهر والله أعلم سلامة اختيار ابن القيم لأن به تجتمع الأدلة ويلتئم شملها وهو الذي يساير روح التشريع ومراعاة الحكم والمصالح وتسنده الأدلة شرعاً وعقلا وعليه: فإن من قارف موجباً لحد من الحدود وهو في دار الحرب صار تأخيره إلى حين عودته إلى دار الإسلام فيقام عليه موجبه المقدر شرعاً: من قتل أو قطع أو جلد. وإن من كانت حاله كحال أبي محجن: له من الحسنات والنكاية بالعدو ما يغمر سيئته وقد ظهرت منه مخايل التوبة النصوح: فإنه يخلى سبيله والله أعلم. المبحث الثالث: في تأخير الحد لعارض (1) يقرر العلماء رحمهم الله تعالى في مسائل منثورة من أبواب الحدود خاصة في بابي (الزنى) و (السرقة) تأخير الحد لعارض من حر أو برد أو حمل أو رضاع أو نحو ذلك (2) . وابن القيم رحمه الله تعالى يشير في معرض كلامه عن تأخير الحد عن الغزاة الى أن تأخير الحد لعارض أمر يشكل قاعدة شرعية: وهي تأخير الحد لعارض يترتب عليه مصلحة للإسلام أو للمحدود أو لمصلحة من تعلق به كالحمل والرضيع. وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (3) :
دليله مع بيان وجهه
(تأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد، والمرض لمصلحة المحدود) . الدّليل: استدل ابن القيم رحمه الله تعالى على ذلك بما جاء في حديث الغامدية فقال (1) : (وفي صحيح مسلم (2) ، جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني وأنه ردها فلما كان من الغد، قالت: يا رسول الله، لم تردني، لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فوالله أني لحبلى، قال: أما الآن، فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته أتته بالصبي، وفي يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها صلى الله عليه وسلم فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها ... ) . وجه الاستدلال: وقد قرر ابن القيم رحمه الله تعالى أن هذا الحديث يدل على تأخير الحد أي حد من الحدود لأي من المصالح المترتبة على تأخيره فقال (3) : (فيه: أن الحد لا يقام على الحامل، وأنها إذا ولدت الصبي أمهلت حتى ترضعه وتفطمه) ولهذا نراه يقرر هذه القاعدة وهي تأخير الحد لعارض فيه مصلحة للمحدود أو لغيره، وعليه طرد تأخيره لكلّ مصلحة تترتب على التأخير، ومنه
تقسيم العوارض الموجبة للتأخير
جعل هذه القاعدة من مؤيدات تأخير الحد عن الغزاة بل هو أولى كما تقدم والله أعلم. تقسيم العوارض حسب المصلحة الموجبة لتأخير الحد: ومن هنا نستطيع أن نقسم العوارض الموجبة لتأخير الحد- لدى ابن القيم- على ما يلي: 1- عارض لمصلحة الإسلام والمسلمين، كما في تأخيره عن الغزاة كما تقدم. 2- عارض لمصلحة المحدود ذاته كما في تأخيره لحر أو برد أو مرض. 3- عارض لمصلحة المحدود وغيره كما في تأخيره عن الحامل. 4- عارض لمصلحة الغير كما في تأخيره عن- المرضع حتى يفطم الرضيع وكما في تأخيره عن الحامل إذا كان الحد بالقتل. والله أعلم. المبحث الرابع: إقامة الحد بالقرينة الظاهرة (1) من القضايا الكلية الشرعية التي عالجها ابن القيم رحمه الله تعالى في مواطن كثيرة من كتبه: (الحكم بالقرائن الظاهرة وشواهد الأحوال في حقوق الله تعالى وحقوق العباد) . وساق لذلك شتى وجوه الأدلة من أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم. وأوضح أن القاضي إذا أهمل العمل بالقرائن الظاهرة أضاع الحقوق وتعرض للحكم بالظلم والعدوان. كما يقرر أن الحكم بموجبها هو أولى من الحكم بشهادة الشهود لأن هذا خبر يحتمل الصدق والكذب، أما العمل والحكم بالقرينة الظاهرة فهو أبعد من احتمال الكذب فالحكم به إذاً أولى من الحكم بالشهادة.
المبحث الخامس: أثر التوبة في الحدود
وقد ضرب لهذا كثيراً من الأمثلة من أقضية النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من الحكم بالقرائن الظاهرة وشواهد الأحوال في شتى القضايا والأحكام. ومن الأحكام بالقرينة الظاهرة في كتاب الحدود ما يلي: 1- إقامة حد الزنى: بالحبل. 2- إقامة حد السرقة: بوجود المسروق في حوزة السارق. 3- إقامة حد السكر: بوجود الرائحة أو القيء. ويأتي إن شاء الله تعالى- بيان الحكم بكل قرينة من هذه القرائن الثلاث في بابها لانفراد كلّ قرينة بأدلة ومناقشة لها والله أعلم. المبحث الخامس: أثر التوبة (1) في الحدود (2) لابن القيم رحمه الله تعالى في أحكام التوبة مباحث فائقة تناولت الكثير من جوانبها، منها أبحاثه في توبة أصحاب الحدود: في مسائل والذي يعنينا هنا: هو مبحثه العام في أثر التوبة في درء الحد من عدمه. أما مباحثه الخاصة في بعض الحدود فيأتي بيانها في مواضعها إن شاء الله تعالى. وعليه فقد تبين أن أثر التوبة في الحد درءاً أو إيجابا يكون على حالتين:
إذا كانت التوبة بعد القدرة فلا تسقط الحد اتفاقا
الحالة الأولى: أن تكون توبته بعد القدرة عليه، فهذه التوبة لا تسقط- الحد بالاتفاق، كما حكاه رحمه الله تعالى بقوله (1) : والحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقاً) . الحالة الثانية: أن تكون توبة مرتكب الجريمة الحدية قبل القدرة عليه. وأثر التوبة في سقوط العقوبة الحدية في هذه الحالة ينقسم إلى قسمين: محل اتفاق. ومحل اختلاف. وقد بينهما ابن القيم رحمه الله تعالى على ما يلي: 1- محل الاتفاق: وهو المحارب (2) : إذا تاب قبل القدرة عليه سقط عنه الحد بالاتفاق (3) . الدليل: والأصل في هذا قوله تعالى (4) (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف،
بيان محل الخلاف
أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) . 2- محل الاختلاف: وهو: في توبة من عدا المحارب من مرتكبي الجرائم الحدية كالزنى والسرقة ونحوهما - إذا تاب قبل القدرة عليه، في هذا خلاف على قولين. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: أن نفاة المعاني والقياس قالوا: إن الشريعة جاءت بالتفريق بين المتماثلين، فاعتبرت توبة المحارب قبل القدرة عليه، دون غيره من مرتكبي الجرائم الحدية. فرفض ابن القيم رحمه الله تعالى هذا التفريق، وقرر طرد الحدود كلها على نسق واحد، فتقبل توبة مرتكبي الجرائم الحدية قبل القدرة عليهم. وذكر أن هذا أحد القولين في المسألة، ونصب الأدلة عليه من السنة والقياس. وذكر القول المخالف القائل بالتفريق وما يستدل به وأجاب عنه. وإلى بيان ذلك مفصلاً: القول الأول: قبول التوبة قبل القدرة عليه. ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن قبول توبة من ارتكب جريمة حدية قبل القدرة عليه هو إحدى الروايتين عن أحمد وهو القول الصواب (1) . وهذا هو المعتمد أيضاً من مذهب الشافعية (2) .
استدلاله بحديث أنس رضي الله عنه
استدل ابن القيم رحمه الله تعالى لهذا القول بالسنة والقياس على ما يلي: 1- حديث أنس رضي الله عنه (1) : قال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (في الصحيحين (3) من حديث أنس رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علىّ، ولم يسأله، قال: وحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه رجلُ (4) فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه عليّ، قال: ولم يسأل عنه، قال: أليس قد صليت معنا قال: نعم قال: فإن الله عزّ وجلّ قد غفر لك ذنبك) . وذكره أيضاً من حديث أبي إمامة (5) رضي الله عنه نحوه عند النسائي (6) وقد رواه أيضاً: مسلم (7) . وأبو داود (8) .
بيان مسالك العلماء رضي الله عنهم في الجواب عنه مع المناقشة والترجيح
الخلاف في حكم هذا الحديث: قبل ذكر بيان ابن القيم رحمه الله تعالى لوجه الاستدلال من هذا الحديث. أذكر بيانه لمسالك العلماء في الحكم الذي تضمنه هذا الحديث لأن ذكر وجه الاستدلال فرع لتصحيح المسالك الذي يدل عليه هذا الحديث. وهذه بيان مسالك العلماء في هذا الحديث: أشار ابن القيم رحمه الله تعالى إلى أن للناس في معنى هذا الحديث ثلاثة مسالك: المسلك الأول: حمل معنى الحديث على من أقر بحد مبهم فإنه لا يقام عليه الحد. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن هذا هو أحد المسالك وعليه ترجمة النسائي (1) فقال ابن القيم (2) : (ومن تراجم النسائي على هذا الحديث (من اعترف بحد ولم يسمه) . وهو أيضاً مسلك أبي داود في (سننه) (3) فقد ترجم عليه بقوله (باب في الرجل يعترف بحد ولا يسميه) . وهوِ أيضا ظاهر صنيع البخاري في (صحيحه) (4) فإنه ترجم عليه بقوله (باب إذا أقر بالحد ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه؟) . قال ابن حجر في كشف مراد البخاري من ترجمته المذكورة (5) : (وظاهر ترجمة البخاري حمله على من أقر
بحد ولم يفسره فإنه لا يجب على الإمام أن يقيمه عليه إذا تاب) . وعليه فإن من أقر بحد منهم فلا يجب عليه الحد إلا إذا عينه وأصر عليه المقر به طالباً التطهير به من وراء التوبة. أما إذا لم يعينه أو عينه ولم يصر عليه فلا يقام عليه الحد مع التوبة. قال بن حجر عن ابن القيم: في بيان هذا المسلك (1) (أحدها: أن الحد لا يجب إلا بعد تعيينه والإصرار عليه من المقر به) . توجيه هذا المسلك: هو أن هذا الرجل: أقر بحد مبهم لم يفسره، والحدود مختلفة المقادير فلا يتمكن الإمام من إقامتها مع الإبهام فستر عليه الشارع ودرأ عنه الحد للإبهام (2) . تعقب هذا التوجيه: هو أن يقال: أنه ورد في بعض روايات هذا الحديث تفسير الحد بالزنى وأنه أقر به صريحاً فانتفى الإبهام والله أعلم (3) . المسلك الثاني: حمله على الخصوصية بذلك الرجل (4) . وجه هذا المسلك: وقد بينه ابن حجر فقال (5) : (يحتمل أن يختص بالذكور: لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد كفر عنه حده
بصلاته، فإن ذلك لا يعرف إلا بطريق الوحي فلا يستمر الحكم في غيره إلا فيمن علم أنه مثله في ذلك وقد انقطع علم ذلك بانقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم) . تعقب هذا المسلك: ويمكن التعقيب على هذا المسلك من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والخصوصية لا تثبت إلا بدليل يقوم عليها. ولهذا فإن في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، في قصة الرجل الذي أصاب من امرأة دون المسيس، وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائباً، أتبعه صلى الله عليه وسلم برجل، فدعاه، فتلى عليه (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل-) إلى آخر الآية (1) ، فقال رجل من القوم: يا رسول الله، أله خاصة، أم للناس كافة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: للناس كافة (2) . المسلك الثالث: حمله على سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه. قال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (الثالث: سقوِط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه، وهذا أصح المسالك) . وجه هذا المسلك: الأول: أنه قد جاء في بعض روايات الحديث: التصريح بتعيين الحد وهو (الزنى) وذلك من حديث أنس رضي الله عنه قال (4) : (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني زنيت فأقم عليّ الحد. الحديث) .
فحديث أنس من هذه الطريق يفسر الرواية المبهمة في حديثه من الطريق الآخر عنه وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه. وأن الحد ليس بمبهم وإنما هو معين. ولذا قال الحافظ بن حجر بعد سياق هذا اللفظ (1) : (وقد يتمسك به من قال: إنه إذا جاء تائباً سقط عنه الحد) . الثاني: أن التوبة قبل القدرة قاومت السيئة فأسقطت الحد. وهذا الوجه حكاه ابن القيم رحمه الله تعالى في وجه الاستدلال من حديث المغيث الآتي بعده (2) وفي الواقع أن التوجيه به يشمل الحديثين معاً. وهذا ما فهمه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حيث ذكر أن ابن القيم رحمه الله تعالى صحح هذا المسلك وقواه بذلك فقال ابن حجر بعد سياقه المسلك المذكور عن ابن القيم (3) : (وقواه- أي ابن القيم- بأن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعاً بخشية الله تعالى وحده تقاوم السيئة التي عملها، لأن حكمة الحدود الردع عن العود، وصنيعه ذلك دال على ارتداعه فناسب رفع الحد عنه لذلك والله أعلم) . المسلك الرابع: هذه هي المسالك الثلاثة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى. وهناك مسلك رابع للإمام النووي رحمه الله تعالى (4) وغيره: وهو: أن الذنب الذي فعله هذا
المعترف كان من الصغائر لا الكبائر. وجه هذا المسلك (1) : هو ما جاء في بقية الخبر أنه كفرته الصلاة والذي تكفره الصلاة من الذنوب الصغائر لا الكبائر. تعقب هذا المسلك: وهذا متعقب بأنه جاء في بعض روايات حديث أنس رضي الله عنه تفسير الحد الذي اقترفه بالزنى فثبت كون المعترف به جريمة حدية من الكبائر لا الصغائر والله أعلم. الترجيح: هذه مسالك العلماء في هذا الحديث وما يمكن توجيه كلّ مسلك به وما تعقب به، والذي يظهر والله أعلم- أن ما اختاره ابن القيم رحمه الله تعالى من حمل الحديث على سقوط الحد [بالتوبة] (*) قبل القدرة عليه- هو الصواب للأمرين المذكورين في توجيه هذا المسلك وهما أن الحد وقع مفسراً لا مبهماً وأن التوبة قبل القدرة قاومت السيئة والله أعلم. وجه الاستدلال: وبعد تصحيح هذا المسلك من حمل الحديث: على سقوط الحد عن التائب قبل القدرة عليه فإن دلالته على هذا الحكم واضحة ذلك: أن هذا الرجل قد وقع في حد وهو حد الزنى كما صرحت به بعض الروايات وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه معترفاً به تائباً إلى الله تعالى فأسقط عنه النبي صلى الله عليه وسلم الحد ولم يقمه عليه لأن التوبة
استدلاله بحديث المغيث. مع بيان وجه دلالته.
قبل القدرة قاومت الجريمة مقاومة الدواء للداء (1) . وفي بيان هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (فهذا لما جاء تائباً بنفسه من غير أن يطلب غفر الله له- ولم يقم عليه الحد الذي اعترف به ... ) . والله أعلم. حديث المغيث (3) : قال ابن القيم رحمه الله تعالى (4) : (عن وائل (5) رضي الله عنه أن امرأة وقع عليها في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مرّ عليها وفر صاحبها، ثم مرّ عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر، فجاؤا به يقودونه إليها: فقال: أنا الذي أغثتك، وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أنه الذي وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذب هو الذي وقع علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلقوا به فارجموه. فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي وقع عليها، والذي أغاثها، والمرأة فقال: أما أنت فقد غفر لك. وقال للذي أغاثها: قولاً حسناً فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لأنه قد تاب إلى الله) (6) .
استدلاله بحديث ابن مسعود مع بيان وجه دلالته.
وجه الاستدلال: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الحد المعترف بالزنى قبل القدرة إذ قد تاب إلى الله تعالى قبل القدرة عليه كما قال صلى الله عليه وسلم: (لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم (1) فالحسنة: وهي اعترافه [طوعا] (*) إلى الله قبل القدرة عليه- دافعت السيئة وهي (الزنى) فدل ذلك على سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة. وفي بيان وجه الاستدلال يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (سقوط الحد عن المعترف- يعني في هذا الحديث- إذا لم يتسع له نطاق أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فأحرى أن لا يتسع له نطاق كثير من الفقهاء ولكن اتسع له نطاق الرؤوف الرحيم فقال (إنه قد تاب إلى الله) . وأبى أن يحده. ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعاً واختياراً خشية من الله وحده وإنقاذاً لرجل مسلم من الهلاك، وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها، فقاوم هذا الدواء ذاك الداء، وكانت القوة الصالحة، فزال المرض، وعاد القلب إلى حال الصحة، فقيل: لا حاجة لنا بحدك، وإنما جعلناه طهرة ودواء، فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك، فأي حكم أحسن من هذا الحكم وأشد مطابقة للمرحلة والحكمة والمصلحة؟ وبالله التوفيق) . 3- حديث ابن مسعود رضي الله عنه: واستدل ابن القيم أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له (3) .
استدلاله بقياس الأولى.
درجة هذا الحديث: هذا الحديث من زوائد ابن ماجة في سننه (1) رواه بسنده إلى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو حديث حسن بمجموع طرقه. كما حكم بذلك الحافظان ابن حجر (2) ، والسخاوي (3) . وجه الاستدلال منه: ووجه الاستدلال منه هو أن يقال: أن الحديث يفيد بمنطوقه، أن التائب من الذنب يساوي الذي لا ذنب له، والذي لا ذنب له لا عقاب عليه، فلا عقاب إذا على التائب مما يوجب حداً إذا تاب قبل القدرة عليه لتمحض صدقه في توبته والله أعلم. 4- استدلاله بقياس الأولى: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (4) . (نص الشارع، على اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه، من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره قبل القدرة عليه، بطريق الأولى، فإنه إذا دفعت عنه توبته حد حرابة مع شدة ضررها وتعديه، فلأن تدفع التوبة عنه ما دون حد الحرابة بطريق الأولى والأحرى وقد قال الله تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) . وقال أيضاً (5) : (وقد نص الله على سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التي
وقعت قبل القدرة عليهم مع عظيم جرمهم، وذلك للتنبيه على سقوط ما دون حد الحراب بالتوبة الصحيحة بطريق الأولى) . وهذا قياس واضح الأولوية جلي الدلالة: فإنه ذكر الفرع المقيس: وهو توبة غير المحارب قبل القدرة عليه. وذكر الأصل المقيس عليه: وهو توبة المحارب قبل القدرة عليه. وذكر العلة الجامعة: وجود التوبة قبل القدرة وإزالتها للجريمة. وذكر الحكم: وهو: سقوط الحد. وبين أنه قياس الأولى: لأن الحرابة أشد ضرراً من سائر الحدود وقد قبلت وقد أسقطت توبة المحارب حد الحرابة عنه. والضرر في سائر الحدود عدا الحرابة أقل منها ضرراً والله أعلم. القول الثاني: أن توبة غير المحارب قبل القدرة عليه لا تسقط الحد عنه. وبه قال: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه (1) . أدلته: استدل لهذا القول بأدلة أهمها ما يلي: 1- من القرآن الكريم: استدل بعموم آيات إقامة الحدود في القرآن نحو قوله تعالى (2) (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) الآية وقوله تعالى (3) (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وقوله تعالى (4) (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة
القول الثاني، مع بياق أدلته ومناقشتها
شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) . فهذه الآيات عامة في التائبين وغيرهم، إذا فالتوبة قبل القدرة لا تسقط الحد عن التائب والله أعلم (1) . مناقشة هذا الدليل: وهذا الدليل مناقش بأن هذا من العموم المخصّص، وقد قام الدليل على المخصّص من السنة بسقوط الحد عن التائب قبل القدرة عليه والله أعلم. 2- من السنة (2) : واستدل من السنة بأحاديث الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد كماعز (3) رضي الله عنه والغامدية رضي الله عنها [فأقام] (*) صلى الله عليه وسلم عليهم الحد وهم تائبون قبل القدرة عليهم فلو كانت التوبة قبل القدرة مسقطة للحد لم يحدهم صلى الله عليه وسلم. مناقشة هذا الاستدلال: وقد ناقش ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الاستدلال وبين ضعف هذا المسلك في فهم أحاديث هؤلاء، وأن كلّ واقعة منها لا تدل إلا على أن النبي صلى الله عليه وسلم حد صاحبها باختياره حيث اختار التطهير بالحد، ولم يكتف بالتطهير بالتوبة. فالحد غير. متعين والحالة هذه، ولو كان متعيناً لما قال في حق ماعز (هلاّ تركتموه) . وفي بيان هذا يقول رحمه الله تعالى (4) : (فإن قيل: فماعز جاء تائباً، والغامدية جاءت تائبة، وأقام عليهم الحد.
الترجيح والاختيار
قيل: لا ريب أنهما جاءا تائبين، ولا ريب أن الحد أقيم عليهما، وبما احتج أصحاب القول الآخر، وسألت شيخنا (1) عن ذلك، فأجاب بما مضمونه بأن الحد مطهر، وأن التوبة مطهرة وها اختارا التطهر بالحد على التطهير بالتوبة، وأبيا إلا أن يطهرا بالحد، فأجابهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد، فقال في حق ماعز (هلاّ تركتموه يتوب فيتوب الله عليه) . ولو تعين الحد بعد التوبة لما جاز تركه بل الإمام مخير بين أن يتركه كما قال لصاحب الحد الذي اعترف به (اذهب فقد غفر الله لك) وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختارا إقامته وأبيا إلا التطهير به، ولذلك ردهما النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وهما يأبيان إلا إقامته عليهما. وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول: لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة وبين مسلك من يقول: لا أثر للتوبة في إسقاطه البتة وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط والله أعلم) . الترجيح والاختيار: يتبين للقارئ أن أدلة التفريق بين المحارب وغيره لا تثبت دلالتها أمام النقد ومنه يتبين أيضاً أنه لا دليل على التفريق، وأن الأدلة من السنة الصحيحة والقياس الأولى تدل بوضوح على سلامة اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى للقول بعدم التفريق: فتقبل توبة مرتكب الجريمة الحدية قبل القدرة عليه وتسقط عنه الحد. وهذا كما تقتضيه أدلة الشريعة فهو الموافق لروح التشريع وتقتضيه رحمة ربّ العالمين واتساعها للعفو عن المذنبين ورفع العقاب عن التائبين والله أعلم.
باب حد الزنى
باب حد الزنى
توطئة
توطئة في تعريف (الزنى) في اللسانين اللغة والشرع. تعريفه لغة: (1) فيه لغتان: الأولى: أنه اسم ممدود فيقال: الزناء. وهي لغة أهل نجد، وقيل [لبني] (*) تميم منهم خاصة ومنه: أما الزناء فإني لست قاربه ... والمال بيني وبين الخمر نصفان الثانية: أنه اسم مقصور، فيقال: الزنى. وهي لغة أهل الحجاز. وبها ورد القرآن الكريم. والأصل أن تكتب هكذا (الزنى) بألف مقصورة. وعليه جرى الرسم في القرآن في قوله تعالى (3) (ولا تقربوا الزنى) الآية.
ويجوز لغة أن تكتب هكذا (الزنا) بألف. وعلى كلا اللغتين: القصر والمد: فهو مصدر، زنى يزنى زناء بالمد أو زنى بالقصر والنسبة إليه: زنوى. وجعه: زناة. واسم الفاعل منه: زان. ؟ يقال للرجل (زاني) وللمرأة (زانية) ومنه قوله تعالى (1) (الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة) الآية. هذه هي المادة من حيث تصريفها اللغوي أما من حيث معناها في لغة العرب فهي تطلق على معان: الأول: الزنى بمعنى: الضيق (3) . ومنه قيل للحاقن (زناء) بوزن (جبان) لأنه يضيق ببوله. ومنه أيضاً، يقال زنأ في الجبل يزنأ إذا صعد لأنه يضيق بذلك نفسه. الثاني: يطلق (الزنى) على ما دون مباشرة المرأة الأجنبية من غير عقد شرعي. فزنا العين: النظر. وزنا اللسان: النطق. وزنا اليد: اللمس. َهكذا. كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كتب على
تعريفه اصطلاحا. في المذاهب الأربعة
ابن آدم نصيبه من الزنى لا محالة العينان: زناهما النظر، والأذنان: زناها الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد: زناها البطش، والرجل: زناها الخطى، والقلب يهوى؟ يتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه) رواه مسلم (1) . الثالث: الزنى، بمعنى: وطء المرأة من غير عقد شرعي (2) . وهذا هو المعنى المراد منه في القرآن الكريم كما في قوله تعالى (3) (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين) الآية. وقوله تعالى (4) (ولا تقربوا الزنى أنه كان فاحشة) الآية. وعلى هذا المعنى عامة نصوص الوعيد على الزنى في السنة المشرفة (5) وهو المعنى المراد عند أهل العلم من المحدثين والفقهاء في قولهم (باب حد الزنى) أو (باب الزنى) . تعريفه في الاصطلاح: وهذا التعريف: اللغوي لماهية الزنى من أنه (وطء المرأة من غير عقد شرعي) . هو أصل في تعاريف أهل الاصطلاح. والاختلاف الحاصل في التعاريف إنما هو من حيث القيود الواردة شرعاً فمنها ما هو مطلوب التحقق في الفاعل ومنها ما هو مطلوب تحققه في الفعل نقسه. ومن
حيث أيضاً شموله للوطء في الدبر من رجل أو امرأة أو عدم شموله. إذا علم ذلك فهذا طرف من التعريفات المذهبية للزنى: الحنفية: قال ابن الهمام (1) : (الزنا: إدخال المكلف الطائع قدر حشفة، قبل مشتهاة حالاً أو ماضياً بلا ملك وشبهته، أو تمكينه من ذلك أو تمكينها) . وقال الجرجاني (3) : (الزنا: الوطء في قبل خال عن ملك وشبهة) المالكية: قال خليل (3) : (الزنا: وطء مكلف مسلم فرج آدمي لا ملك له فيه باتفاق تعمداً) . وقال ابن عرفة (4) : (الزنا:- الشامل للواط - مغيب حشفة آدمي في فرج آخر دون شبهة حله عمداً) .
التعريف المختار
الشافعية: قال النووي (1) : (إيلاج الذكر بفرج محرم لعينه خال من الشبهة مشتهى طبعاً) . الحنابلة قال المجد ابن تيمية (2) : (الزنا: هو تغييب حشفة في قبل أو دبر حراماً محصناً) . الترجيح: وهذه التعاريف لدى المالكية والشافعية والحنابلة تشمل الوطء في الدبر (اللواط) وسيأتي في أخريات المباحث إن شاء الله تعالى أن الوطء في الدبر لا يسمى زنى، وأن حكمه مغاير لحكم الزنى فهو (القتل بكل حال) . وعليه فإن أقرب التعاريف لحد الزنى من حيث المصادر (لحد الزنى شرعاً) هو تعريف الحنفية كما ذكره ابن الهمام والجرجاني وأولى التعريفين تعريف الجرجاني لأن الزوائد في تعريف ابن الهمام من باب الشروط والشروط لا دخل لها في التعاريف. فتحرر إذاً أن أمثل التعاريف للزنى هو أن يقال: (الزنى: هو الوطء في قبل خال عن ملك وشبهة) والله أعلم.
مباحِث ابن القيم في الزّنى جرت عادة العلماء بحث أحكام اللواط ووطء البهيمة في باب حد الزنى بجامع الوطء المحرم في كلّ منها. وبالتتبع حصل أن مباحث ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا على ما يلي: المبحث الأول: في الاعتراض على عقوبة الزنى ورده. المبحث الثاني: حكمة التشريع في تحريم الزنى. المبحث الثالث: سد الذرائع الموصلة إلى الزنى. المبحث الرابع: في خصائص حد الزنى. المبحث الخامس: حكمة تحصين الرجل بالحرة دون الأمة. المبحث السادس: في اشتراط الإسلام في الإحصان. المبحث السابع: في عقوبة الزاني المحصن. المبحث الثامن: في عقوبة من زنى بجارية امرأته. المبحث التاسع: في عقوبة من زنى بذات محرمة. المبحث العاشر: في إقامة حد الزنى بالقرينة الظاهرة.
المبحث الحادي عشر: في ذكر حيل لإبطال حد الزنى وإبطالها. المبحث الثاني عشر: في ذكر حيلة جائزة لإبطال الشهادة على الزنى. المبحث الرابع عشر: في مفاسد اللوطية الصغرى. المبحث الخامس عشر: في مفاسد اللواط وإن مفسدته أعظم من كلّ ذنب بعد الشرك. المبحث السادس عشر: في عقوبة اللواط. المبحث السابع عشر: في عقوبة من وطئ بهيمة.
المبحث الأول: في الاعتراض على عقوبة الزنى ورده
المبحث الأول في الاعتراض على عقوبة الزنى ورده (1) . تختلف عقوبة الزنى باختلاف حال الزاني، فالجلد والتغريب عقوبة الزاني البكر، والرجم عقوبة الزاني المحصن. وعلى أي من الحالين فقد أورد نفاة المعاني والقياس اعتراضاً على عقوبة الزنى، فقالوا: هذا تفريق في الشرع بين المتماثلات، فكيف يعاقب الشارع السارق بقطع يده، ويترك معاقبة الزاني بقطع فرجه والفرج هو العضو الذي باشر فيه معصية الزنى كما أن اليد هي الآلة التي باشر فيها معصية السرقة (2) . وقد ناقش ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الاعتراض، وأتى عليه بالنقض والرد له من وجوه متعددة مبيناً أن هذا من أفسد القياس وأبطله، وإن عين الحكمة والكمال: هي فيما رتبه الشارع على كلّ جريمة بما يناسبها من عقاب. ونستطيع أن نستخلص وجوه الرد والتعقب لهذا الاعتراض فيما يلي: 1- أن الفرج عضو خفي مستور لا تراه العيون فلا يحصل بقطعه مقصود الشارع بالحد من الزجر والردع للغير، وهذا بخلاف السارق بقطع يده. 2- أن في قطع العضو التناسلي قطع للنسل وتعريض للهلاك وقضاء على النوع الإنساني وهذا بخلاف قطع يد السارق. 3- أن لذة الزنى سرت في جميع البدن كلذة العضو المخصوص فكان الأحسن أن تعم العقوبة جميع البدن الذي نالته اللذة المحرمة. 4- أن السارق إذا قطعت يده بقيت له يد أخرى تعوض عنها بخلاف الفرج فإنه
إذا قطع لم يبق له ما يقوم مقامه لتتميم مصالحه بتنمية النوع الإنساني. 5- أن قطع العضو التناسلي مفض إلى الهلاك، وغير المحصن لا تستوجب جريمته الهلاك، والمحصن يناسب جريمته أشنع القتلات، ولا يناسبها قطع بعض أعضائه. فافترقا. لهذه الوجوه ولغيرها من أسرار التشريع- التي أبدى ابن القيم رحمه الله تعالى الكثير منها - يتبين للمنصف أن عقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه وأقومها بالمصالح وأوفقها للعقل كما في عقوبة الزنى، وإن الشارع لم يفرق بين متماثلين قط، كما أنه لم يجمع بين ضدين أبداً، بل وضع كلّ حكم موضعه المناسب له ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. وهذه الوجوه قد أبداها ابن القيم رحمه الله تعالى مختصرة ومبسوطة، فيحسن بنا بعد هذا السياق ذكر كلامه الشامل في ذلك إذ يقول (1) : (وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة وليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كلّ جان كلّ عضو عصاه به فيشرع قلع عين من نظر إلى محرم، وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدواناً، ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها. وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبى ذلك وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب وأن يعتبر به غيره وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحاً، وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة. إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.
ثم إن في حد السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سراً كما يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون (فلان ينظر إلى فلان مسارقة) إذا كان ينظر إليه نظراً خفياً لا يريد أن يفطن له، والعازم على السرقة كاتم مختف خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء ... وأما الزاني: فإنه يزني بجميع بدنه، والتلذذ بقضاء شهوته يعم البدن، والغالب من فعله وقوعه برضاء المزني بها، فهو غير خائف ما يخافه السارق من الطلب، فعوقب بما يعم بدنه من الجلد مرة والقتل بالحجارة مرة. ولما كان الزنى من أمهات الجرائم وكبائر المعاصي لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل معه التعارف والتناصر على إحياء الدين، وفي هذا إهلاك الحرث والنسل، فشاكل معانيه أو في أكثرها القتل الذي فيه هلاك ذلك، فزجر عنه بالقصاص ليرتاع عن مثل فعله من يهم به، فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم الموصل إلى إقامة العبادات الموصلة إلى نعيم الآخرة. ثم إن للزاني. حالتين: إحداهما: أن يكون محصناً قد تزوج، فعلم ما يقع به من العفاف عن الفروج المحرمة، واستغنى به عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنى، فزال عذره من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى مواقعة الحرام. والثانية: أن يكون بكراً، لم يعلم ما علمه المحصن ولا عمل ما عمله فحصل له من العذر بعض ما أوجب له التخفيف، فحقن دمه، وزجر بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد ردعاً عن المعاودة للاستمتاع بالحرام وعوناً له إلى القناعة بما رزقه الله من الحلال. وهذا في غاية الحكمة والمصلحة، جامع للتخفيف في موضعه، والتغليظ في موضعه، وأين هذا من قطع لسان الشاتم والقاذف وما فيه من الإسراف والعدوان؟.
المبحث الثاني: حكمة التشريع في تحريم الزنى مع بيان مفاسده
ثم إن قطع فرج الزاني فيه من تعطيل النسل وقطعه عكس مقصود الرّب تعالى، من تكثير الذرية وذريتهم فيما جعل لهم من أزواجهم. وفيه من المفاسد أضعاف ما يتوهم فيه من مصلحة الزجر، وفيه إخلاء جميع البدن من العقوبة، وقد حصلت جريمة الزنى بجميع أجزائه، فكان من العدل أن تعمه العقوبة، ثم أنه غير مقصور في حق المرأة، وكلاها زان، فلا بد أن يستويا في العقوبة فكان شرع الله سبحانه أكمل من اقتراح المقترحين ... ) . المبحث الثاني: حكمة التشريع في تحريم الزنى (1) تناول ابن القيم رحمه الله تعالى هذا المبحث بالبسط والتتبع لأسرار التشريع مجلياً له بإبراز مفاسد الزنى، وإظهار آثاره السيئة. ومضاره على مصالح العباد في معاشهم ومعادهم. وقد لهج به في مواطن من كتبه فرأيت أن أستخلصها برقم تسلسلي يضم مفردات هذه الحكم والأسرار واحدة إثر واحدة، مع المحافظة على مقوله فيها وهي على ما يلي: 1- مناقضة الزنى لصلاح العالم، في أنسابهم وأعراضهم. قال رحمه الله تعالى (2) : (مفسدة الزنى مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس.
وإن حملت من الزنى: فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنى والقتل وإن حملته على الزوج أدخلت على أهله وأهلها أجنبياً ليس منهم فورثهم وليس منهم، ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم، إلى غير ذلك من مفاسد زناها. وأما زنى الرجل، فانه يوجب اختلاط الأنساب أيضاً، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف والمفاسد، وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين ... فكم في الزنى من استحلال لحرمات وفوات حقوق. ووقوع مظالم) . وقال أيضاً (1) : (لما كانت مفسدة الزنى من أعظم المفاسد، وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقي ما يوقع أعظم العدواة، والبغضاء بين الناس، من إفساد كلّ منهم امرأة صاحبه وابنته وأخته وأمه، وفي ذلك خراب العالم كانت تلي مفسدة القتل في الكبر، ولهذا قرنها الله سبحانه بها في كتابه لرسوله صلى الله عليه وسلم في سننه. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ولا أعلم بعد قتل النفس شيئاً أعظم من الزنى، وقد أكّد سبحانه حرمته بقوله (2) (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب) الآية. فقرن الزنى بالشرك وقتل النفس، وجعل جزاء ذلك الخلود في العذاب المضاعف، ما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح وقد قال تعالى (3) (ولا تقربوا الزنى أنه كان فاحشة وساء سبيلاً) فأخبر سبحانه عن فحشه في نفسه، وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقر فحشه في العقول
حتى عند كثير من الحيوان كما ذكر البخاري في صحيحه (1) عن عمرو بن ميمون الأودي (2) قال (رأيت في الجاهلية قرداً زنى بقردة، فاجتمع القرود عليها فرجموها حتى ماتت) . ثم أخبر عن غايته بأنه ساء سبيلاً، فإنه سبيل هلكة وبوار وافتقار في الدنيا، وعذاب وخزي ونكال في الآخرة ... ) . 2- الزنى يجمع خلال الشر كلها: قال رحمه الله تعالى (3) : (الزنى يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تجد زانياً معه ورع، ولا وفاء بعهد ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء، وعدم الأنفة للحرم، وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته) . 3- الزنى يفتح على العبد أبواباً من المعاصي: وفي بيان هذا يقول رحمه تعالى (4) : (ومنها أن الزنى يجرئه على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق وإضاعة أهله وعياله، وربما قاده قسراً إلى سفك الدم الحرام، وربما استعان عليه بالشرك وبالسحر، وهو يدري ولا يدري فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها وبعدها، ويتولد عنها أنواع أخر من المعاصي بعدها. فهي محفوفة بجند من المعاصي قبلها وجند بعدها، وهي أجلب شيء لشر الدنيا
والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة وإذا علقت بالعبد فوقع في حبائلها وأشراكها عز على الناصحين استنقاذه، وأعيى الأطباء دواؤه فأسيرها لا يفدى، وقتيلها لا يودى، وقد وكلها الله تعالى بزوال النعم فإذا ابتلى بها عبد فليودع نعم الله فإنها ضيف سريع الانتقال، وشيك الزوال، وقال الله تعالى (2) (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) . وقال تعالى (2) وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) 4- الزنى يولد الأمراض النفسية والقلبية. وفي بيانها يقول رحمه الله تعالى (3) : (ومن خاصيته أيضاً - أي الزنى - أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته ويجلب الهم والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان) . وقال أيضاً (4) : (ومنها ظلمة القلب وطمس نوره) وقال أيضاً (5) : (ومنها الوحشة التي يضعها الله سبحانه وتعالى في قلب الزاني، وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه فالعفيف على وجهه حلاوة وفي قلبه أنس، ومن جالسه استأنس به، والزاني تعلو وجهه الوحشة ومن جالسه استوحش به) . وقال أيضاً (6) :
(ومنها ضيقة الصدر وحرجه فإن الزناة يعاملون بضد قصودهم فإن من طلب لذة العيش وطيبه بما حرمه الله عليه عاقبه الله [بنقيض] (*) قصده، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط. ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور وانشراح الصدر وطيب العيش لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعاف ما حصل له) . 5- الزنى يورث الفقر والمسكنة. وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (1) : (ومنها أنه يورث الفقر اللازم. وفي أثر يقول الله تعالى (2) (أنا الله مهلك الطغاة ومفقر الزناة) . 6- الزنى يورث نفرة العباد من الزناة وسقوطهم من أعينهم. وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (3) : (ومنها، أنه يذهب حرمة فاعله ويسقطه من عين ربّه ومن أعين عباده ... ومنها: قلة الهيبة التي تنزع من صدور أهله وأصحابه وغيرهم له، وهو أحقر شيء في نفوسهم وعيونهم، بخلاف العفيف فإنه يرزق المهابة والحلاوة. ومنها: أن الناس ينظرونه بعين الخيانة ولا يأمنه أحد على حرمته ولا على ولده) . 7- الزنى: يولد سيماء الفساد في وجه فاعله. وفي بيان ذلك يقول رحمه الله تعالى (4) :
(ومنها: سواد الوجه وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو للناظرين.... فالعفيف على وجهه حلاوة وفي قلبه أنس ومن جالسه استأنس به والزاني تعلو وجهه الوحشة ومن جالسه استوحش به) . 8- الزنى: يولد رائحة كريهة بغيضة. قال رحمه الله تعالى (1) : (ومنها: الرائحة التي تفوح عليه يشمها كل ذي قلب سليم، تفوح من فيه وجسده ولولا اشتراك الناس في هذه الرائحة، لفاحت من صاحبها ونادت عليه ولكن كما قيل: كلّ به مثل ما بي غير أنهم ... من غيرة بعضهم للبعض عذال) . 9- الزنى: يورث العقاب الأليم في البرزخ وفي يوم القيامة. وفي كشف هذا يقول رحمه الله تعالى (2) : (سبيل الزنى أسوأ سبيل، ومقيل أهلها في الجحيم شر مقيل ومستقر أرواحهم في البرزخ تنور من نار يأتيهم لهبها من تحتهم فإذا أتاهم اللهب ضجوا وارتفعوا، ثم يعودون إلى موضعهم فهم هكذا إلى يوم القيامة كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه (3) ورؤيا الأنبياء وحي لا شك فيها) . هذا ما أبرزه ابن القيم رحمه الله تعالى من لطائف الحكم ودقائق الأسرار التشريعية في بيان حكمة تحريم الزنى بإظهار أضراره ومفاسده وآثاره السيئة المناقضة لصلاح العالم أفراداً وجماعات ومنه يقف الناظر على جملة من الحكم
المبحث الثالث: في سد الذرائع الموصلة إلى الزنى. بذكر عشرة وجوه منها
التشريعية الجليلة في سبب حرمة الزنى، لا يجد الكثير منها عند كثير من الكاتبين في هذا المجال (1) . وهذا تدليل على ما لدى ابن القيم رحمه الله تعالى من السعة والشمول وفقه النفس والوقوف العميق على أسرار التشريع ومحاسنه والله المستعان. المبحث الثالث: في سد الذرائع (2) الموصلة إلى الزنى (3) قاعدة التشريع التي لا تنخرم أن الله سبحانه وتعالى إذا حرم شيئاً حرم الأسباب والدوافع الموصلة إليه سداً للذريعة وكفاً عن الوقوع في حمى الله ومحارمه، ليعيش في مجتمع مملوء بالإباء والشمم عن كافة الرذائل والطرائق الموصلة إليها حتى يلقى الله تعالى وهو على هدى من الله وصراط مستقيم. ولهذا فإن علماء الشريعة استنبطوا بطريق التتبع والاستقراء لمواطن التنزيل قاعدة شريفة هامة تعتبر من الكليات التشريعية التي تعايش المسلم في كلّ لحظة وآن، تلك هي: قاعدة (سد الذرائع الموصلة إلى المحرمات) . وابن القيم رحمه الله تعالى قرر هذه القاعدة، واستدل لها من وجوه الأدلة بما
يقارب مائة وجه من الكتاب والسنة (1) ، وبيّن أن قاعدة سد الذرائع، أحد أرباع التكليف، فإنه وجه ذلك فقال (2) : (وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان، أحدهما: مقصود لنفسه والثاني: وسيلة إلى المقصود والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه والثاني: ما يكون وسيلة إلى مفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين) . وفي خضم هذا المبحث ذكر ضروباً ووجهاً مما ورد في الكتاب والسنة من سد الذرائع الموصلة إلى فاحشة الزنا، وعرضها بأسلوبه العلمي الأخاذ الخالي من التعقيد والجفاف وبيانها على ما يلي: 1- نهى النساء عن الضرب بالأرجل. قال رحمه الله تعالى (3) : (قال الله تعالى ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) . فمنعهن من الضرب بالأرجل، وإن كان جائزاً في نفسه لئلا يكون سبباً إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن) . وهذا المنهي عنه- من وسائل الإغراء والإشارة- هو نهي تحريم كما فهمه ابن القيم وهو محل اتفاق من علماء التفسير. وابن القيم في مقام دلالة النص على قاعدة سد الذرائع، وإلا فإن الآية تفيد أيضاً النهي عن كلّ حركة من شأنها أن تثير الغريزة وتلهب داعي الشهوة، وفي ذلك يقول ابن كثير رحمه الله تعالى (8) : (وقوله تعالى (ولا يضربن بأرجلهن)
الآية كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوتها ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستوراً فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي لقوله تعالى ولا يضربن بأرجلهن) إلى آخره) . 2- وهذا الأمر بغض البصر (1) . وهذا أمر مطلوب من الجنسين الرجال والنساء لقوله تعالى (2) (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم أن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن " الآية. وابن القيم رحمه الله تعالى قد أبدى في هذه الذريعة عجباً فأبدى كلاماً يزع الأبصار الخائنة، والأعين الفاجرة عن غوايتها إن كان لديها بقية من إيمان واستجابة لداعي الرحمن. وقد أكثر اللهج برعاية حرمات الله، وأنا في هذا المقام أسوق للقارئ شذرة من كلامه المنثور والمنظوم إذ يقول (3) : (أما اللحظات: فهي رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج، فمن أطلق بصره أورده موارد الهلكات. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى ". وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم (4) "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غضّ بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه " هذا معنى
الحديث. وقال (1) " غضّوا أبصاركم واحفظوا فروجكم " وقال (2) (وإياكم والجلوس على الطرقات قالوا يا رسول الله مجالسنا، ما لنا بدّ منها، قال: إن كنتم لا بد فاعلين، فأعطوا الطريق حقّه، قالوا: وما حقّه؟ قال: غض البصر، وكفّ الأذى، ورد السّلام". والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فالنظرة تولد خطرة ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد، ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا قيل " الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده ". قال الشاعر كلّ الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة بلغت من قلب صاحبها ... كمبلغ السهم بين القوس والوتر والعبد ما دام ذا طرف يقلبه ... في أعين العين موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحباً بسرور عاد بالضرر ومن آفات النظر: أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابراً عنه، وهذا من أعظم العذاب: أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه، ولا قدرة على بعضه (3) . قال الشاعر: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً، أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه، ولا عن بعضه أنت صابر
وهذا البيت يحتاج إلى شرح. ومراده: أنك ترى ما لا تصبر عن شيء منه ولا تقدر عليه، فإن قوله " لا كله أنت قادر عليه" نفي لقدرته على الكلّ الذي لا ينفى إلا بنفي القدرة عن كلّ واحد واحد. وكم من أرسل لحظاته فما أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلاً كما قيل: يا ناظراً، ما أقلعت لحظاته ... حتى تشحط بينهن قتيلاً ولي من أبيات: ملّ السّلامة فاغتدت لحظاته ... وقفاً على طلل يظن جميلاً ما زال يتبع إثره لحظاته ... حتى تشحط بينهن قتيلاً ومن العجب: أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه، حتى يتبوأ مكاناً من "قلب الناظر، ولي من قصيدة: يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً ... أنت القتيل بما ترمي فلا تصب يا باعث الطرف يرتاد الشفاء له ... احبس رسولك، لا يأتيك بالعطب وأعجب من ذلك: أن النظرة تجرح القلب جرحاً، فيتبعها جرحاً على جرح، ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعاء تكرارها. ولي أيضاً في هذا المعنى: مازلت تتبع نظرة في نظرة ... في إثر كلّ مليحة ومليح وتظن ذاك دواء جرحك وهو في الـ ... تحقيق تجريح على تجريح فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا ... فالقلب منك ذبيح أي ذبيح وقد قيل: إن حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات) . 3- النهي عن الخلوة بالأجنبية. : وفي ذلك يقول رحمه الله تعالى (1) :
(أنه صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن) . وقال أيضاً (1) : (نهى صلى الله عليه وسلم الرجال عن الدخول على النساء لأنه ذريعة ظاهرة) . وهذا محل إجماع ولو في باب من أبواب الخير والرشاد كإقراء القرآن وتعليم العلم، وقد حكى الإجماع على ذلك الحافظان ابن حجر والشوكاني (2) . 4- النهي عن سفر المرأة بلا محرم. قال رحمه الله تعالى (3) : ونهى صلى الله عليه وسلم عن السفر بلا محرم وما ذاك إلا أن سفرها بغير محرم قد يكون ذريعة إلى الطمع فيها والفجور بها) . 5- النهي عن خروج المرأة متطيبة. وفي ذلك يقول (4) : (ونهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو تصيب بخوراً وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوقهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها، فأمرها أن تخرج تفلة ولا تتطيب ... كلّ ذلك سداً للذريعة وحماية عن المفسدة) . 6- النهي من أن تصف المرأة المرأة لزوجها. وفي هذا يقول (5) :
(نهى صلى الله عليه وسلم أن تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها، ولا يخفى أن ذلك سداً للذريعة، وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه، وكم ممن أحب غيره بالوصف قبل الرؤية) . 7- الأمر بالتفريق بين الأولاد في المضاجع. وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (1) : (أمر صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين الأولاد في المضاجع، وإن لا يترك الذكر ينام مع الأنثى في فراش واحد، لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما: المواصلة المحرمة بواسطة اتحاد الفراش ولا سيما مع الطول. والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لا يشعر، وهذا أيضاً من ألطف سد الذرائع) . 8- النص من الشياع قال رحمه الله تعالى في ذلك (2) : (أنه صلى الله عليه وسلم حرّم الشياع: وهو المفاخرة بالجماع، لأنه ذريعة إلى تحريك النفوس والتشهي، وقد لا يكون عند الرجل من يغنيه عن الحلال فيتخطى إلى الحرام. ومن هذا كان المجاهرون خارجين من عافية الله وهم المتحدثون بما فعلوه من المعاصي، فإن السامع تتحرك نفسه إلى التشبه، وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله) . 9- إبطال أنواع من الأنكحة التي يتراضاها. الزوجان. وفي بيانها وبيان وجه الإبطال يقول (3) :
(أنه صلى الله عليه وسلم أبطل أنواعاً من النكاح الذي يتراضى به الزوجان سداً لذريعة الزنى: فمنها: النكاح بلا ولي، فانه أبطله سداً لذريعة الزنى، فإن الزاني لا يعجز أن يقول للمرأة: انكيني أنكحيني نفسك بعشرة دراهم) ويشهد عليها رجلين من أصحابه أو غيرهم، فمنعها من ذلك سداً لذريعة الزنى. ومن هذا تحريم نكاح التحليل الذي لا رغبة للنفس فيه في إمساك المرأة واتخاذها زوجة بل وطر فيما يفضيه بمنزلة الزاني في الحقيقة وإن اختلفت الصورة. ومن ذلك تحريم نكاح المتعة، الذي يعقد فيه المتمتع على المرأة مدة يقضي وطره منها فيها. فحرم هذه الأنواع كلها سداً لذريعة السفاح، ولم يبح إلا عقداً مؤبداً يقصد فيه كلّ من الزوجيين المقام مع صاحبه، ويكون بأذن الولي وحضور الشاهدين، أو ما يقوم مقامهما من الإعلان. فإذا تدبرت حكمة الشريعة وتأملتها حق التأمل رأيت تحريم هذه الأنواع من باب سد الذرائع، وهي من محاسن الشريعة وكمالها) . 10- النهي عن اختلاط الجنسين. وقد ورد بذلك جملة الأحاديث الصحيحة منها قوله صلى الله عليه وسلم (باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء) وفي بيان الذريعة يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (لا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال: أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنى، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة ... فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنى
المبحث الرابع: خصائص حد الزنى. وهي ثلاثة
بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية - قبل الدين - لكانوا أشد شيء منعاً لذلك..) . هذه جملة من المناهي التي وردت في الشريعة الإسلامية سداً لإثارة الغرائز وتهييج الشهوات حماية للمجتمع وصيانة له من الوقوع في جريمة الزنا وهذا باب في الشريعة مطرد: إذا حرّم الله شيئاً سد الأبواب الموصلة إليه والله أعلم. المبحث الرابع: خصائص حد الزنى (1) ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن الله سبحانه خص حد الزنى من بين الحدود بثلاث خصائص وهي على ما يلي (3) : الأولى: تغليظ العقوبة قال رحمه الله تعالى في بيانها: (أحدهما: أن القتل فيه بأشنع القتلات، وحيث خففه جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد، وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة) . وهذه الخصيصة قد تضافرت النصوص على بيانها: فالقتل عقاب مشترك بين عدد من الجرائم: كالبغاة، والمحاربين، والقاتل المتعمد، لكن كونه رجماً بالحجارة حتى تزهق النفس لا يكون هذا عقاباً مرضياً لأي جريمة سوى جريمة الزناة المحصنين كما دلت عليه النصوص الشرعية. والجلد أيضاً عقوبة مشتركة بين جملة من الحدود: فالقاذف عقوبته الجلد والسكير عقوبته الجلد، لكن الزاني البكر وإن كانت عقوبته الجلد
إلا أنها تخالف غيرها من ناحيتين: أولاهما، أن الجلد مائة جلدة وليس في الحدود ما يبلغ ذاك حداً. الثانية: أن من تمام الحد التغريب، ولا يكون التغريب عقوبة حدية في غير: حد الزاني البكر والله أعلم. الثانية: التنصيص على نهي العباد عن أن تأخذهم رأفة بالزناة. قال رحمه الله تعالى في بيانها (1) : (الثاني أنه نهى عباده أن تأخذهم رأفة في دينه، بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم، فإنه سبحانه من رأفته ورحمته بهم شرع هذه العقوبة فهو أرحم بكم، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة، فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره) . وهذه الخصيصة قد نبه الله تعالى عليها في محكم تنزيله إذ يقول (2) (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله أن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) . حكمة التشريع في هذه الخاصية: ثّم يبيّن ابن القيم رحمه الله تعالى أن النهي للعباد عن أن تأخذهم رأفة بالجرمين عام في حق كلّ مجرم أو بغيره لكنه ذكر في حد الزنى خاصة لأسرار تشريعية نوه عنها بقوله (3) : وهذا - وإن كان عاماً في سائر الحدود- لكن ذكر في حد الزنى خاصة لشدة الحاجة إلى ذكره، فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما
يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر، فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم والواقع شاهد بذلك: فنهى أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله) . سبب هذه الرحمة ثم يستطرد ابن القيم رحمه الله في أسباب وجدان هذه الرحمة في نفوس العباد- في حق المحدودين في هذه الفاحشة فيقول (1) : وسبب هذه الرحمة: أن هذا ذنب يقع من الأشراف والأوساط والأرذال، وفي النفوس أقوى الدواعي إليه، والمشارك فيه كثير، وأكثر أسبابه العشق والقلوب مجبولة على رحمة العاشق وكثير من الناس يعد مساعدته، طاعة وقربة، وإن كانت الصورة المعشوقة محرمة عليه، ولا يستنكر هذا الأمر فإنه مستقر عند ما شاء الله من أشباه الأنعام، ولقد حكى لنا من ذلك شيئاً كثيراً- نقاص العقول كالخدم والنساء. وأيضاً، فإن هذا ذنب غالب ما يقع مع التراضي من الجانبين ولا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه. وفي النفوس شهوة غالبة له فيصور ذلك لها فتقوم بها رحمة تمنع إقامة الحد، وهذا كله من ضعف الإيمان. وكمال الإيمان أن تقوم به قوّة يقيم بها أمر الله ورحمة يرحم بها المحدود فيكون موافقاً لربه تعالى في أمره ورحمته) . الثالثة ثم ذكر الخصيصة الثالثة. فقال (2) :
المبحث الخامس: حكمة تحصين الرجل بالحرة دون الأمة
(أنه سبحانه أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين فلا يكون في خلو بحيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر) . وهذا هو ما عرف عند العلماء باسم: التشهير (1) . وهذه الخصيصة والتي قبلها قد انتظمهما قوله تعالى (2) (الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) . المبحث الخامس: في حكمة تحصين الرجل بالحرة دون الأمة (3) من شروط الإحصان الموجب لحد الرجم في الزنى: أن يطأ الرجل الحر العاقل امرأة عاقلة حرة في نكاح صحيح. فلو كان الزوج مثلا غير حر ثم زنى لم يكن محصناً في قول جهور أهل العلم (4) وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن نفاة المعاني والقياس ذكروا في اعتراضهم المشهور على نفي القياس أن الشرع قد فرّق بين المتماثلين حيث جعل الحرة الشوهاء تحصن الرجل دون الأمة الجميلة. وقد تعقب ابن القيم رحمه الله تعالى ذلك مبرزاً حكمة التشريع في هذا التفريق فقال (5) : (وأما قولهم: وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن الرجل، والأمة البارعة
المبحث السادس: في اشتراط الإسلام في الإحصان
الجمال لا تحصنه، فتعبير سيء عن معنى صحيح، فإن حكمة الشارع اقتضت وجوب حد الزنى على من كملت عليه نعمة الله بالحلال،. فيتخطاه إلى الحرام، ولهذا لم يوجب كمال الحد على من لم يحصن، واعتبر للإحصان أكمل أحواله: وهو أن يتزوج بالحرة التي يرغب الناس في مثلها، دون الأمة التي لم يبح الله نكاحها إلا عند الضرورة، فالنعمة بها ليست كاملة، ودون التسري الذي هو في الرتبة دون النكاح، فإن الأمة وإن كانت ما عسى أن تكون لا تبلغ رتبة الزوجة لا شرعاً ولا عرفاً ولا عادة، بل قد جعل الله لكل منها رتبة؟ والأمة لا تراد لما تراد له الزوجة، ولهذا كان له أن يملك من لا يجوز له نكاحها، ولا قسم عليه في ملك يمينه فأمته تجرى في الابتذال والامتهان والاستخدام مجرى دابته وغلامه بخلاف الحرائر. وكان من محاسن الشريعة أن اعتبرت في كمال النعمة على من يجب عليه الحد أن يكون قد عقد على حرّة ودخل بها إذ بذلك يقضي كمال وطره، ويعطي شهوته حقها، ويضعها مواضعها، هذا هو الأصل ومنشأ الحكمة، ولا يعتبر ذلك في كل فرد من أفراد المحصنين، ولا يضر تخلفه في كثير من المواضع، إذ شأن الشرائع الكلية أن تراعي الأمور العامة المنضبطة، ولا ينقصها تخلف الحكمة في أفراد الصور كما هذا شأن الخلق، فهو موجب حكمة الله في خلقه وأمره في قضائه وشرعه، وبالله التوفيق) . المبحث السادس في اشتراط الإسلام في الإحصان (1) انعقد الإجماع على أن الرجم في الزنى لا يجب إلا على محصن، وقد أختلف العلماء هل الإسلام شرط في الإحصان، على قولين، ذكرهما ابن القيم رحمه الله
اختيار ابن القيم عدم الاشتراط
تعالى واختار أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان، واستدل على ذلك من السنة وناقش القائلين بشرطيته. وبيان ذلك على ما يلي: القول الأول ليس الإسلام شرطاً في الإحصان، فالذمي يحصن الذمية وإذا تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين. وهذا مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه (1) . الدليل: استدل ابن القيم رحمه الله تعالى لهذا القول المختار عنده بحديث رجم اليهوديين المشهور فقال (3) : (ثبت في الصحيحين (3) . والمسانيد (4) : أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم، فقالوا نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله ابن سلام (5) كذبتم إن فيها الرجم، فأمروا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله ابن سلام ارفع يدك فرفعها فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق يا محمد إن فيها الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما) . وجه الاستدلال: قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الاستدلال من هذا الحديث (6) : (تضمنت هذه
القول الثاني: اشتراط الإسلام. ودليله مع بيان دلالته
الحكومة أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان وأن الذمي يحصن الذمية وإلى هذا ذهب أحمد والشافعي) . ولم يذكر رحمه الله تعالى وجه الاستدلال، وبيانه أن يقال: أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله تعالى كما في قوله تعالى (1) (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) . وحكم الزاني المحصن في شريعة الإسلام الرجم بالحجارة، وهما محصنان كما وقع التصريح به في بعض روايات الحديث بلفظ (2) (إن اخيار اليهود اجتمعوا في بيت المدراس، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة منهم قد أحصنت) - فحكم صلى الله عليه وسلم برجم اليهوديين وهما كافران ليسا من أهل الإسلام فدل ذلك على أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان إذ لو كان شرطاً فيه لما كان حكمهما الرجم (3) . وعليه: فإن الذمي محصن الذمية وأن المسلم إذا تزوج ذمية ووطئها صار محصناً والله أعلم. القول الثاني: أن الإسلام شرط في الإحصان فلا يكون الكافر محصناً ولا تحصن الذميهَ مسلماً. وهذا مذهب الحنفية والمالكية وأحمد في الرواية الثانية عنه (4) . دليله: استدل لهذا القول بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من
أجوبة المشترطين عن دليل النفاة. مع التعقب والمناقشة
أشرك بالله فليس بمحصن) (1) وجه الاستدلال: ووجه دلالة كل ذا الحديث واضحة فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن المشرك بالله تعالى ليس بمحصن والحد بالرجم لا يكون إلا على محصن فالإسلام إذا شرط للإحصان. فالمشرك إذا زنى لا يقام عليه الحد بالرجم على أي حال لأن إحصانه لا يتم إلا بالإسلام والله أعلم. أجوبة المشترطين عن حديث رجم اليهوديين: ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن المشترطين للإسلام في الإحصان اختلفت أجوبتهم عن هذا الحديث فذكر ثلاثة من أجوبتهم ثم تعقبها وذلك على ما يلي: 1- الجواب الأول: للمالكية وهو أن اليهود يومئذ ليسوا بأهل ذمة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في جوابهم عن هذا الحديث (2) : (قال مالك رحمه الله تعالى، في غير الموطأ: لم يكن اليهود بأهل ذمة) . تعقب هذا الجواب: وتعقب ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الجواب بأن اليهود كانوا أهل ذمة فقال (3) : (والذي في صحيح البخاري، أنهم أهل ذمة، ولا شك أن هذا كان بعد العهد الذي وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم ولم يكونوا إذ ذاك حرباً كيف ذلك، وقد تحاكموا إليه ورضوا بحكمه، وفي بعض طرق الحديث أنهم قالوا: اذهبوا بنا إلى
هذا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بعث بالتخفيف، وفي بعض طرقه: أنهم دعوه إلى بيت مدارسهم فأتاهم وحكم بينهم. فهم كانوا أهل عهد وصلح بلا شك) . وهذا التعقب قال به طائفة من المحققين منهم النووي (1) ، والطحاوي (2) والقرطبي من المالكية (3) ، ولا شك أن مجيئهم إليه سائلين وهم آمنون يوجب أن يكون لهم عهد وذمة وقد قال الشوكاني (4) في هذا الجواب (إنه من غرائب التعصبات) . الجواب الثاني: للحنفية وهو أنه صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين بحكم التوراة (5) . وفي بيانه يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (6) : (وقالت طائفة أخرى إنما رجمهما بحكم التوراة قالوا وسياق القصة صريح في ذلك) . ومراده بسياق القصة الصريح هو ما جاء في بعض رواياته (7) (فإني أحكم بما في التوراة) . تعقب هذا الجواب: تعقب ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الجواب بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم بينهم بالحق
المحض وهو شريعتَه الواجب اتباعه فلا وجه لهذا التأويل فقال (1) : (وهذا مما لا يجدي عنهم شيئاً البتة فإنه حكم بينهم بالحق المحض فيجب اتباعه بكل حال فماذا بعد الحق إلا الضلال) . وهذا معنى ما قاله الخطابي في تعقبه لهذا الجواب حيث يقول (2) : (وهذا تأويل غير صحيح: لأن الله سبحانه يقول (3) (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله) وإنما جاءه القوم مستفتين طمعاً في أن يرخص لهم في ترك الرجم ليعطلوا به حكم التوراة، فأشار عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كتموه من حكم التوراة، ثم حكم عليهم بحكم الإسلام على شرائطه لواجبة فيه. وليس يخلو الأمر فما صنعه صلى الله عليه وسلم من ذلك عن أن يكون موافقاً لحكم الإسلام أو مخالفاً له. فان كان مخالفاً فلا يجوز أن يحكم بالمنسوخ ويترك الناسخ. وان كان موافقاً له فهو شريعته، والحكم الموافق لشريعته لا يجوز أن يكون مضافاً إلى غيره ولا يكون فيه تابعاً لمن سواه) . وقد ذكر الحافظ ابن حجر جواب الخطابي وأيده وذكر الجواب عما في رواية أبي هريرة (فأني أحكم بما في التوراة) بأن في سند هذه الرواية رجل مبهم ثم قال الحافظ (4) : (ومع ذلك فلو ثبت لكان معناه لإقامة الحجة عليهم) . ولا شك أن قول الله تعالى (5) (فاحكم بينهم بما أنزل الله) الآية دليل قطعي
أجوبة النفاة عن دليل المشترطين
الدلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بما في شريعته فكيف يقال أنه حكم بشريعة من سواه؟. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى جواباً آخر على سبيل التنزيل فقال (1) : (فإن قيل إنما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجم بما في التوراة إلزاماً لهما بما اعتقدا صحته. قيل: هب أن الأمر كذلك أفحكم بحق يجب اتباعه وموافقته وتحرم مخالفته أم بغير ذلك؟ فاختاروا. أحد الجوابين ثم اذهبوا إلى ما شئتم) . الجواب الثالث: أن رجمهما كان سياسة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى معقباً عليه (2) : (وقالت طائفة رجمهما سياسة، وهذا من أقبح الأقوال بل رجمهما بحكم الله الذي لا حكم سواه) . أجوبة النفاة عن هذا الحديث: لنفاة اشتراط الإسلام في الإحصان في الجواب عن هذا الحديث مسلكان: الأول: من حيث الرواية. والثاني: من حيث الدراية. وبيانهما على ما يلي: المسلك الأول: مناقشة هذا الحديث رواية: هذا الحديث ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وموقوفاً
من قوله، وهو في كلّ منهما من مفاريده وله لفظان في المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأحد اللفظين ورد موقوفاً. ألفاظه ومخرجيها: وبيان كلّ لفظ مرفوعاً أو موقوفاً مع ذكر من خرجه على ما يلي: اللفظ الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يحصن المشركَ بالله شيء) . مخرجيه: أخرجه بهذا اللفظ مرفوعاً، الدارقطني (1) ، والبيهقي (2) . منزلة إسناده: تكلم نقاد الأثر على إسناد هذا الحديث من ناحيتين: الأولى: إعلال رواية الرفع، وأن الصواب وقفه، صرح بذلك الدارقطني فقال (3) : (وهم عفيف في رفعه، والصواب موقوف من قول ابن عمر رضي الله عنهما) . وهذا الإعلال متعقب بأن عفيفاً قد صرح برفع الحديث هو: عفيف ابن سالم الموصلي البجلي مولاهم صدوق مات سنة 280 هـ (4) . وقد تقرر في علوم الاصطلاح أن زيادة هذا الضرب مقبولة فيقبل رفعه للحديث إذاً.
وقد صرح بذلك ابن القطان (1) فيما نقله الزيلعي عنه فقال (3) : (قال ابن القطان في كتابه (3) ، وعفيف بن سالم الموصلي ثقة قاله ابن معين، وأبو حاتم وإذا رفعه الثقة لم يضره وقف من وقفه وإنما علته أنه من رواية أحمد بن أبي نافع عن عفيف المذكور وهو أبو سلمة الموصلي، ولم تثبت عدالته ... ) . وهذا الذي قاله ابن القطان هو القول الحق الذي عليه عامة المحققين من أهل الاصطلاح (4) أن الإرسال أو الوقف في الرواية لا يكون شيء من ذلك علة في المرفوع، وما هنا زيادة من عفيف بن سالم وحاله الصدق فهي مقبولة، فينتج أن إعلال هذا الحديث برواية الوقف غير واردة فيبقى النظر في حال رجال بقية إسناده والحديث عنه فيما يلي: الثانية: تحصل بالتتبع أن مدار هذا الحديث سنداً هو كما قال ابن القطان رحمه الله تعالى، على رواية (أحمد ابن أبي نافع الموصلي) . وأحمد هذا قد وهّاه النقاد، وعدّوا هذا الحديث من مناكيره، كما حرره ابن عدي (5) والذهبي (6) ، وابن حجر (7) ، وذلك في ترجمتهم له.
ومن حاله كذلك فلا يصلح حديثه للاعتبار فضلاً عن الاعتماد عليه فالحديث إذا بهذا الإسناد لا يعتبر به والله أعلم. اللفظ الثاني: (من أشرك بالله فليس بمحصن) . مخرجيه: الحديث بهذا اللفظ روي موقوفاً من قول ابن عمر رضي الله عنهما وروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه على كلا الوجهين، إسحاق بن راهويه في (مسنده) (1) ومن طريقه أخرجه، الدارقطني (2) ، والبيهقي (3) . منزلة إسناده: هذا الحديث تكلم الحفاظ فيه من جهة رفعه ووقفه. وقد حكى الحافظان البيهقي (4) . والزيلعي (5) ، الخلاف في ذلك وسكتا. وجزم الحافظان: الدارقطني (6) ، وابن حجر (7) بوقفه فقالا: والصواب أنه موقوف. وجه الخطأ في رفع هذا الحديث: وما قرره الدارقطني وتابعه عليه ابن حجر في الجزم بوقف الحديث هو الذي يقتضيه النظر في إسناد هذا الحديث مرفوعاً، إلا أن الذي يظهر لي والله أعلم أن
الترجيح والاختيار
الحمل في رفع هذا الحديث: هو على شيخ إسحاق، وهو عبد العزيز بن محمد الدراوردي المتوفى سنة 287 (1) لأن هذا الحديث مرفوعاً من رواية الدراوردي هذا عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني المتوفى في بضع وأربعين بعد المائتين من الهجرة (2) . والدراوردي وإن كان ثقة فإن أحاديثه عن عبد الله العمري منكرة كما قاله النسائي (3) . وقد بيّن الحافظ في (التهذيب (4) وجه نكارة أحاديث الدراوردي عن عبد الله العمري من أنه يقلب حديث عبد الله العمري المضعف في الحديث (5) فيرويها عن عبد الله بن عمر العمري الثبت في الحديث. فظهر من هذا أن الحديث منكر مرفوعاً بهذا الإسناد. وعليه فإن الصواب هو رواية هذا الحديث موقوفاً من قول ابن عمر رضي الله عنهما نفسه كما رواه جمع من الثقاة على ما قرره الدارقطني (6) ، وابن حجما 7) ، وغيرهما والله أعلم. الترجيح: يتبين من ذكر الخلاف وأدلته ومناقشة أدلة الخلاف أن أرجح القولين هو: القول بأن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان على ما اختاره ابن القيم رحمه الله تعالى
المبحث السابع: في عقوبة الزانى المحصن
لسلامة الاستدلال بحديث رجم اليهوديين. وضعف الاستدلال للقول المخالف بحديث (من أشرك بالله فليس بمحصن) لعدم صحته مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم والحجة في قول المعصوم صلى الله عليه وسلم والله أعلم. المبحث السابع: في عقوبة الزاني المحصن اختار ابن القيم رحمه الله تعالى أن الزاني المحصن لا يجمع له بين الجلد والرجم بل حده الرجم لا غير وإن حديث عبادة (1) منسوخ فيقول (2) : (حديث عبادة: خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً الثيب بالثيب جلد مائة والرجم منسوخ فإن هذا كان في أول الأمر عند نزول حد الزنى. ثم رجم صلى الله عليه وسلم ماعزاً والغامدية ولم يجلدهما، وهذا كان بعد حديث عبادة بلا شك) . وابن القيم رحمه الله تعالى يبين الرأي المختار مشيراً إلى خلاصة الخلاف ومجامع الأدلة بين الطرفين. ولم أره مبسوطاً عنده في موضع آخر. ولتجلية هذا الاختيار نأتي على ذكر الخلاف وأدلته على ما يلي: خلاف العلماء في هذا الحديث: اختلف العلماء على ثلاثة أقوال (3) : القول الأول: لا جلد على من وجب عليه الرجم. وهذا مذهب الجمهور منهم
أدلة القول الأول وبيانها
الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك الشافعي وهو إحدى الروايتين عن أحمد. القول الثاني: الجمع بين الجلد والرجم للمحصن فيجلد مائة جلدة ثم يرجم. وهو رواية عن الإمام أحمد. وهو مذهب الظاهرية. القول الثالث: أن الجمع بين الجلد والرجم للمحصن: خاص بالشيخ والشيخة دون الشاب. فالشاب إن كان محصناً رجم فقط وإن لم يحصن جلد. وبه قال أبي بن كعب (1) رضى الله عنه ومسروق (2) رحمه الله تعالى. أدلة القول الأول: استدل الجمهور لمذهبهم بما يلي: 1- أن الذين رجمهم النبي صلى الله عليه وسلم كماعز والغامدية واليهوديين: لم يأت في رواية أنه جلد واحداً منهم. وإقامة الحد أمر يشتهر بين الناس فلو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل الرجم ولو في رواية واحد منهم فإن هذا مما توفر الهمم والدواعي على نقله. فلما لم يكن شيء من ذلك علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع لأحد بين الجلد والرجم: فلا يجمع بينهما إذا والله أعلم (3) . ب- وهذا الظاهر مؤيد بقضاء عمر رضي الله عنه في قضايا مختلفة: منها ما رواه البيهقي (4) (أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أمر أبا واقد الليثي: أن يرجم امرأة اعترفت بالزنى وهي ثيب ولم يأمره بجلدها) . ومنها ما رواه ابن أبي شيبة (5) (أن عمر ابن الخطاب رجم رجلاً في الزنى ولم يجلده) .
أدلة القول الثاني وبيانها
وجه الاستدلال: أن عمر رضي الله عنه رجم المحصن ولم يجلده. وهو رضي الله عنه قد شاهد التنزيل وأدرك قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في الذين رجموا فيبعد أن ينفذ قضاء على خلاف قضاء النبي صلى الله عليه وسلم. 6- قالوا: وهذا القضاء ثم قضاء عمر رضي الله عنه: يوافق المعنى المراد من الحد وهو الزجر والردع. فالضرب مع الإتلاف والقتل بالرجم لا تأثير له فلا يكون لشرعيته إذا معنى. ولهذا فإن قاعدة الشريعة: أن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما عداه. وفي هذا يقول ابن رشد (1) : (إن الحد الأصغر ينطوي في الحد الأكبر، وذلك إنما وضع للزجر فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم) . ويقول ابن قدامة في التعليل لمذهب الجمهور (2) : (ولأنه حد فيه قتل يجتمع معه جلد كالردة لأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه فالحد أولى. أدلة القول الثاني: استدل القائلون بالجمع بين الجلد والرجم للمحصن بما يلي: أ- حديث عبادة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)
دليل القول الثالث وبيانه
رواه مسلم (1) وغيره. ووجه الدلالة منه نصية صريحة ثابتة كثبوت سنده فلا يعدل عنه إلا بمثله (2) . ب- قضاء علي رضي الله عنه في شراحة الهمدانية. فانه جلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال (جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) (3) . فتوارد على هذا الرأي- الجمع بين الجلد والرجم للمحصن- قول النبي صلى الله عليه وسلم وقضاء علي رضي الله عنه: فوجب الجمع بينهما للمحصن والله أعلم دليل القول الثالث: استدل القائلون بأن الجمع بين الجلد والرجم للشيخ المحصن والرجم بلا جلد لمن كان شاباً محصناً بما يلي: لفظ (الشيخ والشيخة) من الآية في حديث عمر رضي الله عنه أن فيما أنزل الله من القرآن (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة (4)) وجه الاستدلال: بينه الحافظ بن حجر بقوله (5) :
المناقشة والترجيح
(أن الآية وردت بلفظ الشيخ ففهم هؤلاء من تخصيص الشيخ بذلك أن الشاب أعذر منه في الجملة) . ويدل لهذا تفسير عمر رضي الله عنه لهذه الآية بما أخرجه الحاكم (1) قال: (كان زيد بن ثابت (2) وسعيد بن العاص (3) يكتبان في المصحف فمرا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الشيخ والشيخة فارجموها البتة. فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت، أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم) . وعليه قال أبي بن كعب ومسروق: (البكران يجلدان وينفيان والثيبان يرجمان، واللذان بلغا سناً يجلدان ثم يرجمان) رواه عبد الرزاق (4) وقال ابن حجر: رجاله رجال الصحيح (5) . وعلى قولهما (البكران وينفيان) نكت البخاري رحمه الله تعالى بترجمته فقال (باب: البكران يجلدان وينفيان) (6) . المناقشة والترجيح: من سياق أدلة هذه الأقوال الثلاثة في هذا المبحث يتبين أن موارد النقاش على
أدلة الخلاف كما يلي: 1- وجود تعارض في الظاهر بين أدلة الجمهور من السنة من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم للمحصن وعدم الجمع بين الجلد والرجم كما في حديث ماعز وغيره، وبين حديث عبادة رضي الله عنه الذي فيه أن حد المحصن: الجمع بين الجلد والرجم. والجواب عن هذا: هو أن الواجب عند وجود التعارض بين الروايات الترجيح بين الروايات فإذا تعادلت نظر في الجمع فإن لم يمكن نظر في النسخ. والترجيح هنا من حيث الصناعة غير وارد لأن أدلة كلّ مخرجة في الصحاح والسنن وغيرها. والجمع غير ممكن أيضاً لأن حديث عبادة رضي الله عنه فيه إيجاب الجلد والرجم على المحصن وحديث ماعز وما في معناه من الذين رجموا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيه الاقتصار على الرجم فقط ولا ذكر للجلد. فصار المآل إلى النسخ: والقول بالنسخ هنا هو الظاهر فإن حديث عبادة متقدم وأحاديث الرجم كحديث ماعز وغيره متأخرة فصار حديث عبادة رضي الله عنه الذي فيه الجمع بين الجلد والرجم منسوخاً بالأحاديث المتأخرة التي فيها الاقتصار على الرجم. وقد أوضح شيخنا محمد الأمين رحمه الله تعالى توجيه القول بالنسخ بقوله (1) : (وأما الذين قالوا بأن المحصن يرجم فقط ولا يجلد، فقد رجحوا أدلتهم بأنها متأخرة عن حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي فيه التصريح بالجمع بين
الجلد والرجم والعمل بالمتأخر أولى. والحق أنها متأخرة عن حديث عبادة المذكور كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (وقد جعل الله لهن سبيلاً) فهو دليل على أن حديث عبادة هو أول نص ورد في حد الزنى كما هو ظاهر من الغاية في قوله تعالى (حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً) . ومن أصرح الأدلة في أن الجمع بين الجلد والرجم منسوخ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيراً عنده (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله) وهذا قسم منه صلى الله عليه وسلم أنه يقضي بينهما بكتاب الله، ثم قال في الحديث الذي أقسم أنه قضاء بكتاب الله (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) جزاء هذا الشرط، فدل الربط بين الشرط وجزاءه على أن جزاء اعترافها هو الرجم وحده، وأن ذلك قضاء بكتاب الله تعالى. وهذا دليل من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم صريح على أن جزاء اعترافها بالزنى: هو رجمها فقط فربط هذا الجزاء بهذا الشرط وأقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضاء بكتاب الله وهو متأخر عن حديث عبادة لما قدمنا. وهذا الدليل أيضاً قوي جداً لأن فيه إقسامه صلى الله عليه وسلم بأن الاعتراف بالزنى من المحصن يترتب عليه الرجم ... ) . 2- تعارض أقضية الصحابة رضي الله عنهم في حد الزنى المحصن على أوجه ثلاثة: 1- قضاء عمر رضي الله عنه بالرجم فقط للمحصن. ب- قضاء علي رضي الله عنه بالجلد والرجم للمحصن. ج- رأى عمر وأبي كعب رضي الله عنهما على أن الجمع بين الجلد والرجم يكون للشيخ المحصن والاقتصار على الرجم للشاب المحصن. والذي يظهر لي والله تعالى أعلم- في دفع هذا التعارض: أن كلّ واحد منهم
رضي الله عنهم قضى أو رأى حسبما أداه إليه اجتهاده بدلالة أن عمر رضي الله عنه اختلف اجتهاده في هذه المسألة بين الرجم للمحصن فقط وبين الجمع بين الرجم والجلد للمحصن إذا كان شيخاً ورجمه فقط إذا كان شاباً. والعصمة في نص المعصوم صلى الله عليه وسلم وقد تكاثرت الوقائع على أنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً. ورجم الغامدية. ورجم الجهنية. ورجم اليهوديين. وهي جميعها متأخرة عن حديث عبادة رضي الله عنه وليس فيها: سوى الرجم ولا ذكر للجلد. فصار الأظهر- والله أعلم- هو مذهب الجمهور المختار لدى ابن القيم رحمه الله تعالى: وهو الاقتصار على الرجم فقط في حق كل محصن. ويتقوى هذا أيضاً بعدة أمور ذكرها شيخنا محمد الأمين رحمه الله تعالى فقال في بيانها (1) : (منها: أنه قول جهور أهل العلم. ومنها: أن روايات الاقتصار على الرجم في قصة ماعز، والجهنية والغامدية، واليهوديين كلها متأخرة بلا شك عن حديث عبادة، وقد يبعد أن يكون في كل منها الجلد مع الرجم ولم يذكره أحد من الرواة مع تعدد طرقها. ومنها: أن قوله الثابت في الصحيح (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن جزاء اعترافها رجمها، والذي يوجد بالشرط هو الجزاء وهو في الحديث الرجم فقط. ومنها: أن جميع الروايات المذكورة المقتضية لنسخ الجمع بين الجلد والرجم على أدنى الاحتمالات لا تقل عن شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. ومنها: أن الخطأ في ترك عقوبة لازمة أهون من الخطأ في عقوبة غير لازمة والعلم عند الله تعالى) .
المبحث الثامن: في عقوبة من زنى بجارية امرأته
المبحث الثامن: في عقوبة من زنى بجارية امرأته (1) ورد في هذا المبحث حديثان من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهما ابن القيم رحمه الله تعالى وهما: 1- حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. 2- وحديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه (2) . وقد اختلف الكلام في إسنادهما اختلافاً كثيراً، وكما اختلفت أقاويل أهل العلم في القول بمقتضاهما، فهما من مشكلات الأحاديث سنداً ومتناً. وابن القيم رحمه الله تعالى ساق الحديثين الذكورين وذكر الخلافين الآنفين حولهما، واضطربت كلمته في حديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه، ففي (الأعلام) (3) جزم بأن الحديث حسن وقرر الأخذ بما اشتمل عليه من أحكام، بينما في (الزاد) (4) لم يجزم بذلك بل علق الأخذ بموجبه على القول بصحته. وعلى أي حال فإنه رحمه الله تعالى لا يرى في موجبها إشكالاً بل يقرر رحمه الله تعالى أن الحكم بمقتضاها على وفق القياس ولا يخالف شيء من أحكامها أياً من أصول الشريعة وقواعدها. ومبحثه في هذا على ما يلي: أ- حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (5) :
(في المسند (1) والسنن الأربعة (3) ، من حديث قتادة (3) عن حبيب بن سالم (4) ، أن رجلاً يقال له: عبد الرحمن ابن حنين، وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير رضي الله عنه وهو أمير على الكوفة فقال: لأقضين فيك بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة جلدة، وإن لم تكن أحلتها رجمتك بالحجارة فوجدوه أحلتها له فجلد مائة) . منزلة هذا الحديث: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (5) : (قال الترمذي في إسناد هذا الحديث اضطراب، سمعت محمداً يعني البخاري يقول لم يسمع قتادة من حبيب بن سالم هذا الحديث، إنما رواه عن خالد بن عرفطة، وأبو اليسر لم يسمعه أيضاً من حبيب بن سالم، إنما رواه عن خالد بن عرفطة وسألت محمداً عنه فقال: أنا أنفي هذا الحديث، وقال النسائي: هو مضطرب، وقال أبو حاتم الرازي (6) : خالد بن عرفطة مجهول) . فهؤلاء أربعة ينفون صحة هذا الحديث وكذلك الخطابي فإنه قال (7) : (هذا الحديث غير متصل وليس عليه العمل) .
وكلام هؤلاء جميعهم ذكره المنذري ولم يتعقبه بشيء (1) نقله الشوكاني ولم يتعقبه بشيء أيضاً (3) وخلاصة ما علل به هذا الإسناد علتان: الأولى: الاضطراب الحاصل في سنده على ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى. الثانية: جهالة خالد بن عرفطة كما قاله أبو حاتم الرازي. موقف ابن القيم من هذا الحديث: نظر ابن القيم رحمه الله تعالى إلى كلام أهل العلم في هذا الحديث من حيث الإسناد والمتن على ما يلي: النظرة الإسنادية: يقول رحمه الله تعالى (3) : (الحديث حسن، وخالد بن عرفطة قد روى عنه ثقتان، حبيب بن سالم، وأبو اليسر، ولم يعرف فيه قدح، والجهالة ترتفع عنه برواية ثقتين) . فابن القيم رحمه الله تعالى يحكم بأن هذا الحديث حسن الإسناد، فينفي لهذا جهالة خالد بن عرفطة لأنه قد روى عنه ثقتان هما: حبيب وأبو اليسر. فنرى من هذا أن ابن القيم رحمه الله تعالى قد أتى على نفي علة الجهالة لخالد بن عرفطة، فحكم بحسن إسناد هذا الحديث، لكن كلامه لم يتضمن الجواب على العلة الأولى: وهي علة الاضطراب في سند هذا الحديث كما ذكرها البخاري وعنه الترمذي رحمهما الله تعالى وأشار إليها النسائي رحمه الله تعالى.
فهؤلاء ثلاثة من نقاد الأثر أعلوا هذا الحديث بالاضطراب، والاضطراب علة من علل الإسناد ومن علل المتن أيضاً. وهي توجب ضعفه إن لم يأت للحديث من الطرق والشواهد ما يقيمه ويرقيه إلى درجة القبول، وهذا ما لم يتيسر الوقوف عليه في هذا الحديث والله أعلم. موافقة هذا الحديث للقياس: ابن القيم رحمه الله تعالى لما حكم بأن هذا الحديث حسن الإسناد بين رحمه الله تعالى أن موجبه على وفق القياس وقواعد الشريعة وأنهما يقضيان القول بموجبه فقال (1) : (القياس وقواعد الشريعة يقتضي القول بموجب هذه الحكومة فإن إحلال الزوجة شبهة توجب سقوط الحد ولا تسقط التعزير، فكانت المائة تعزيراً، فإذا لم تكن أحلتها له كان زنى لا شبهة فيه ففيه الرجم، فأي شيء في هذه الحكومة مما يخالف القياس) . وقال أيضاً (2) : (إن قيل كيف تخرجون حديث النعمان على القياس قيل: هو بحمد الله موافق القياس مطابق لأصول الشريعة وقواعدها، فإن إحلالها له شبهة كافية في سقوط الحد عنه ولكن لما لم يملكها بالإحلال كان الفرج محرماً عليه، وكانت المائة تعزيراً له وعقوبة على ارتكاب فرج حرام عليه وكان إحلال الزوجة له وطأها شبهة دارئة للحد عنه) . وهذا من ابن القيم رحمه الله تعالى تفريع لهذه الواقعة على قاعدة درء الحدود بالشبهات بجامع وجود الشبهة فنتج الحكم بدرء الحد. وإيجاب التعزير. وهذا التخريج من ابن القيم رحمه الله تعالى للحكم في هذه الواقعة قد سبقه إليه
ذكر حديث سلمة بن المحبق. وما جرى حوله من مناقشات مع بيان مواقف العلماء منه
بعض أهل العلم كما ذكره الخطابي (1) ب- حديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (في المسند (3) والسنن (4) ، عن قبيصة بن حريث (5) عن سلمة بن المحبق رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها) . منزلة هذا الحديث عند ابن القيم: قرر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (الأعلام) أن هذا حديث حسن وأن تضعيف من ضعفه إنما هو لإشكال وجدوه في متنه فأقدموا على تضعيفه فقال (6) : (هذا حديث حسن يحتجون بما هو دونه في القوة ولكن لإشكاله أقدموا على تضعيفه مع لين في سنده) . وأما في كتابه (زاد المعاد) فتوقف في قبول هذا الحديث وعلق القول به على القول بصحته فقال (7) : (وأما حديث سلمة بن المحبق فإن صح تعين القول به ولم يعدل عنه)
موقف العلماء من هذا الحديث: ذكر رحمه الله تعالى أن الناس حول هذا الحديث، قد انقسموا إلى طائفتين: طائفة ضعفت هذا الحديث ونفت صحته. وطائفة قبلت هذا الحديث فبينوا وجهه وتخريجه. وبيانه لموقف كل من الطائفتين على ما يلي: أولاً: موقف القائلين بتضعيف هذا الحديث: بعد أن قرر في (زاد المعاد) (1) تعليق القول بهذا الحديث على القول بصحته، ذكر القائلين بضعفه وهم: أحمد، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، والبيهقي وابن المنذر، والخطابي، وذكر أقوالهم فقال: (لكن قال النسائي: لا يصح هذا الحديث: قال أبو داود (2) : سمعت أحمد بن حنبل يقول الذي يرويه عن سلمة شيخ لا يعرف ولا يحدث عنه غير الحسن يعني قبيصة بن حريث، وقال البخاري في (التاريخ) (3) قبيصة بن حريث سمح سلمة بن المحبق في حديثه نظر، وقال ابن المنذر (4) . لا يثبت خبر سلمة بن المحبق، وقال البيهقي (5) وقبيصة بن حريث غير معروف، وقال الخطابي (6) : هذا الحديث منكر وقبيصة غير معروف والحجة لا تقوم بمثله، وكان الحسن (7) لا يبالي أن يروي الحديث ممن سمع) .
وقد ذكر أقوال هؤلاء الأئمة كل من المنذري (1) والشوكاني رحمهما الله تعالى ولم يتعقبوها بشيء. ثانياً: موقف القائلين بقبول الحديث اختلف موقفها منه إلى فرقتين: الفرقة الأولى: قالت إن هذا الحديث منسوخ بأحكام الحدود. وفي بيان هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (قالت طائفة هو منسوخ وكان هذا قبل نزول الحدود) . وقد ذكر الخطابي القول بالنسخ عن الحسن البصري رحمه الله تعالى فيما بلغه فقال (3) : (وقد روى عن الأشعث (4) صاحب الحسن أنه قال: بلغني أن هذا كان قبل الحدود) . ثم يقول الخطابي (5) : (وخليق أن يكون الحديث منسوخاً إن كان له أصل في الرواية) . وقفة وتأمل: إن الذي دعى القائلين بالنسخ إلى القول به هو كون هذا الحديث فيه مخالفة للأصول منها أن فيه إسقاطاً لحد الزنى، وابن القيم رحمه الله تعالى يورد هذا الاعتراض ويرفضه مبيناً أنه ليس في الحديث تعرض لحد الزنى فيقول (6) :
اختلاف العلماء في هذا المبحث على أقوال ثلاثة مع بيان كل قول ودليله ووجهه
(فإن قيل: فهب أنكم خرجتم ذلك على القياس، فما تصنعون بسقوط الحد عنه، وقد وطئ فرجاً لا ملك له فيه ولا شبهة ملك؟. قيل: الحديث لم يتعرض بنفي ولا إثبات، وإنما دل على الضمان وكيفيته) . وهذا جواب مسلم به فإن الحديث في كافة رواياته ليس فيه تعرض للحد فكيف يقال أن الحديث فيه إسقاط الحد. وأيضاً فإن القول بالنسخ لا بد فيه من معرفة التاريخ، وهو هنا غير معلوم فيتبين إذا أن القول بالنسخ غير وارد والله أعلم. الفرقة الثانية: الذين قالوا بأن هذا الحديث محكم غير منسوخ فخرجوه على وفق القياس. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى تخريجهم لهذا الحديث على وفق القياس فقال (1) : (وقالت طائفة: بل وجهه أنه إذا استكرهها فقد أفسدها على سيدتها ولم تبق ممن تصلح لها، ولحق بها العار وهذا مثلة معنوية فهي كالمثلة الحسية أو أبلغ منها، وهو قد تضمن أمرين: إتلافها على سيدتها، والمثلة المعنوية بها، فتلزمه غرامتها لسيدتها وتعتق عليه. وأما إن طاوعته فقد أفسدها على سيدتها فتلزمه قيمته لها، ويملكها لأن القيمة قد استخفت عليه، وبمطاوعتها وإرادتها خرجت عن شبهة المثلة، قالوا ولا يعد في تنزيل الإتلاف المعنوي منزلة الإتلاف الحسي إذ كلاهما يحول بين المالك وبين الانتفاع بملكه، ولا ريب أن جارية الزوجة إذا صارت موطؤة لزوجها، فإنها لا تبقى لسيدتها كما كانت قبل الوطء، فهذا الحكم من أحسن الأحكام وهو موافق للقياس الأصولي) . اختلاف العلماء: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم من وطىء جارية امرأته على أقوال
أشهرها ما يلي: القول الأول: أن من وطئ جارية امرأته بإذنها جلد مائة جلدة تعزيراً وإن لم تكن زوجته أحلتها له فإنه زان حكمه حكم الزنى. وهذا مذهب الحنابلة وهو اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى (1) . وجه الاستدلال منه: هو أن الحديث نص على أنه إذا لم تكن أحلتها له فلا حد لأن إحلال الزوجة شبهة توجب سقوط الحد ولا تسقط التعزير فكانت المائة تعزيراً والله أعلم (2) . القول الثاني: أن وطء الرجل جارية زوجته لا يوجب الحد إن ظن الحل وإن لم يظن الحل حد. وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه (3) . دليله: استدل بعموم أحاديث درء الحدود بالشبهات، فظن الحلّ هنا شبهة فعل دارءة للحد (4) . القول الثالث: أن من وطيء جارية امرأته وجب عليه حد الزنى بكل حال. وهو مذهب مالك والشافعي وهو قول عمر وعلي رضي الله عنهما (5) .
الترجيح والاختيار
دليله: هو أن هذا وطء ليس في نكاح ولا ملك ولا شركة ملك فأوجب الحد ومجرد الإباحة لا يوجب درء الحد لأنه لا شبهة له فيها أصلاً فلا تكون إذا شبهة دارئة للحد والله أعلم (1) . الترجيح: لا شك أن حديث قبيصة رضي الله عنه لا تعرض فيه لحد من وطئ جارية امرأته أو عدمه وإن العمدة في المرفوع هو حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وابن القيم رحمه الله تعالى قد حكم بأن هذا حديث حسن وأخذ بما دل عليه من أحكام منها حد من وطئ جارية امرأته إن لم تكن أحلتها له وإن أحلتها فيعزر بمائة جلدة وسلفه في هذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى وشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. ومن بعدهم جميعاً العلامة الشوكاني. وبموازنة هذا الاختيار بآراء العلماء في فقه هذه المسألة نجد أن ابن القيم رحمه الله تعالى أسعد بموافقة القياس الصحيح لهذا الاختيار المفصل. فانه مع توقفي بصحة حديث النعمان رضي الله عنه فإن الذي يظهر لي والله أعلم هو أرجحية هذا القول المختار لدى ابن القيم على غيره من الأقوال والذي دل عليه حديث النعمان رضي الله عنه، وذلك لموافقته القياس والنظر الصحيح في درء الحدود بالشبهة، في حالة إحلالها له من زوجته، وأما إذا لم تحلها له فإن الحد يجب لعدم ورود شبهة دارءة للحد والله أعلم.
المبحث التاسع: في عقوبة من زنى بذات محرمة
المبحث التاسع: في عقوبة من زنى بذات محرمة (1) حكى ابن القيم رحمه الله تعالى اتفاق المسلمين على أن من زنى بذات محرمه فإن عليه الحد، وأن الخلاف الحاصل إنما هو في صفة حده فقال (2) : (اتفق المسلمون على أن من زنى بذات محرمه فعليه الحد، وإنما اختلفوا في صفة الحد: هل هو القتل بكل حال أو حده حد الزاني على قولين: مذهب الشافعي ومالك وأحمد في أحد روايتيه: أن حده حد الزاني. وذهب أحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث إلى أن حده القتل بكل حال) . اختياره رحمه الله تعالى: اختار ابن القيم رحمه الله تعالى قتله بكل حال محصناً أم غير محصن. دليله: استدل له ابن القيم بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من وقع على ذات محرمه فاقتلوه (3) . وجه الاستدلال: هو أن دلالة هذا الحديث نصية على قتل من وقع على ذات محرم مطلقاً فهي أخص مما ورد في الزنى والله أعلم.
المبحث العاشر: في إقامة حد الزنى بالحبل
الترجيح: ويظهر لي رجحان اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى لدلالة النص عليه والمقام يقتضي التفصيل فلو كان حكمه التفريق بين المحصن وغيره لبينه صلى الله عليه وسلم فدل بعموم حكمه من غير استفصال على قتله مطلقاً والله أعلم. المبحث العاشر: إقامة حد الزنى بالحبل (1) . في معرض أبحاث ابن القيم رحمه الله تعالى في الحكم بالقرائن الظاهرة: ضرب المثال بالحكم بإقامة حد الزنى بالحبل. وقرر أن هذا هو أصح القولين في المسألة وذكر دليله وصحته. ولمعرفة مدى قوة هذا الاختيار لا بد من ذكر القول المقابل له وذكر أدلته، وإجراء المناقشات الواردة على الأدلة في المسألة. وتفصيل القول في ذلك على ما يلي: القول الأول: إقامة حد الزنى بالقرينة الظاهرة: الحبل. اختار ابن القيم رحمه الله تعالى هذا القول. وذكر أن هذا هو قول عمر رضي الله عنه وعليه فقهاء المدينة، وهو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه (1) : تقييد هذا القول (3) : هكذا حكى ابن القيم رحمه الله تعالى وينبغي أن يعلم أن هذا القول ليس على
إطلاقه عند من حكاه عنهم بل هو مقيد بأمرين: الأول: أن لا يكون من ظهر بها الحمل- ذات زوج ولا سيد. الثاني: أن لا تذكر شبهة موجبة لدرء الحد كدعوى أنها مكرهة بأمارة ظاهرة كأن تأتي مثلاً - تدمي مستغيثة عند نزول الأمر بها. فإذا تحقق هذان القيدان كان الحبل حينئذ قرينة ظاهرة موجبة لإقامة حد الزنى- على هذا القول. وينبغي أن يخرج اختيار ابن القيم على هذا لأنه ذكر اختياره مذهباً لأولئك ومذهبهم متقيد بذلك والله أعلم. أدلة هذا القول: وقد استدل ابن القيم رحمه الله تعالى لهذا القول بالسنة وفتوى الصحابة وقضائهم رضي الله عنهم والقياس الأولى. وأنا أسوقها كما ذكرها ثم أذكر ما يرد عليها من مناقشات وبيانها على ما يلي: الأول: حديث بصرة رضي الله عنه (1) . قال (تزوجت امرأة بكراً في سترها فدخلت عليها فإذا هي حبلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لها الصداق بما استحللت من فرجها، والولد عبد لك، فإذا ولدت فاجلدها، أو قال: فحدوها) رواه أبو داود (2) . وجه الاستدلال: ثم ذكر رحمه الله تعالى وجه الاستدلال منه فقال (3) :
(حديث بصرة هذا فيه أنه أمره بجلدها بمجرد الحمل، من غير اعتبار بينة ولا إقرار) . فدلالة هذا الحديث نصية على الحد بالقرينة الظاهرة وهي الحبل إذ ليس في الحديث أن شهوداً أربعة شهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولا أنها أقرت به، فتخلص أن موجب الحد الحبل. مناقشة هذا الدليل: هذا الحديث انفرد به أبو داود عن بقية الستة (1) . وقد رواه أبو داود موصولاً من حديث سعيد بن المسيب (2) عن بصرة رضي الله عنه، ورواه مرسلاً (3) عن ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وصحابي الحديث بصرة رضي الله عنه مختلف في صحبته واسمه والذي عليه الحفاظ كابن عبد البر (4) ، والذهبي (5) ، وابن حجر (6) أنه صحابي اسمه بصرة بن أكثم الأنصاري رضي الله عنه. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى لهذا الحديث علتين فقال (7) : (له- أي لهذا الحديث- علة عجيبة وهي: أنه حديث يرويه ابن جريج (8) عن
صفوان ابن سليم (1) ، عن سعيد ابن المسيب عن رجل من الأنصار. وأن جريجاً لم يسمعه من صفوان، إنما رواه عن، إبراهيم ابن محمد ابن أبي يحيى الأسلمي (2) عن صفوان. وإبراهيم هذا: متروك الحديث، تركه: أحمد بن حنبل ويحيى ابن معين (3) وابن المبارك (4) ، وأبو حاتم، وأبو زرعة (5) الرازيان وغيرهم. وسئل عنه مالك، أكان ثقة فقال: لا ولا في دينه. وله علة أخرى: وهي أن المعروف أنه إنما يرويه مرسلاً عن سعيد ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا رواه قتادة، ويزيد ابن نعيم (6) ، وعطاء الخراساني (7) كلهم عن سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر عبد الحق (8) هاتين العلتين، ثم قال: والإرسال هو الصحيح) . وله أيضاً علة ثالثة: وهو أن ابن جريج مدلس وقد عنعن. فتخلص أن هذا الحديث بهذا الإسناد فيه ثلاث علل:
الأولى: عنعنة ابن جريج وهو مدلس. الثانية: أن ابن جريج يرويه عن ابن أبي يحيى وهو: متروك. الثالثة: أنه قد اختلف في وصله وإرساله. والذي عليه الأكثر روايته مرسلاً وهذا هو المعروف. وقد حكم بإرساله: عبد الحق. والخطابي. وعليه فإن الحديث بهذه العلل لا يكون حجة والله أعلم. الثاني: (قول عمر رضي الله عنه: الرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف متفق عليه) (1) . وجه الاستدلال: دلالة هذا الأثر نصية على الحكم بإقامة حد الزنى بالقرينة الظاهرة وهي: الحبل. إذ جعل عمر رضي الله عنه: مجرد وجود الحبل موجباً لإقامة حد الزنى كإيجابه بالبينة أو الاعتراف الثالث: أن هذا كما ثبت من قول عمر رضي الله عنه فقد ثبت أيضاً من حكمه وقضائه رضي الله عنه. وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (وقد حكم أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه والصحابة رضي الله عنهم معه: برجم المرأة التي ظهر بها حمل ولا زوج لها ولا سيد) . الرابع: قياس الأولى:
القول الثاني: وهو عدم إقامته بالحبل. مع التدليل وبيانه
وفي بيانه يقول رحمه الله تعالى (1) : (ولأن وجود الحمل أمارة ظاهرة على الزنى أظهر من دلالة البينة، وما يتطرق إلى دلالة الحمل يتطرق مثله إلى دلالة البينة وأكثر) . أي فيكون الحكم بالحبل أولى من الحكم بالبينة وهي الشهادة. وهذا من باب قياس الأولى وهو قياس مستوف لأركانه وشرائطه: فقد ذكر المقيس: وهو القرينة الظاهرة: الحبل. وذكر المقيس عليه: وهو البينة: الشهادة. والعلة الجامعة: هي الدلالة على الزنى في كلّ منهما. والحكم: وهو إقامة حد الزنى. هذا هو اختيار ابن القيم وهذا أدلته التي استدل بها له. فإلى القول الآخر في المسألة مع بيان وجهته وموقفه من أدلة هذا الرأي. القول الثاني: وهو عدم إقامة الحد بالحبل فلا يثبت الزنى إلا ببينة أو اعتراف فإذا أحبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد. وسئلت فادعت إكراهاً أو أنها ذات زوج أو نحو ذلك من وجوه الدفع، لم تحد بمجرد الحبل ولو لم تأت ببينة على ذلك. وهذا مذهب الحنفية والشافعية والمعتمد في مذهب الحنابلة (2) أدلتهم: استدلوا بمقتضى قاعدة الشريعة المطردة وجملة من أقضية الصحابة رضي الله عنهم في ذلك وبيانها على ما يلي:
الأول: أن قاعدة الشريعة المطردة درء الحد بالشبهة بالإجماع. والشبهة هنا متحققة من وجوه متعددة (1) : فيحتمل أنه من وطء إكراه والمستكرهة لا حد عليها. ويحتمل أنه من وطء رجل واقعها في نومها وهي ثقيلة النوم. ويحتمل أنه من وطء شبهة. ويحتمل أنه حصل الحبل بإدخال ماء الرجل في فرجها إما بفعلها أو بفعل غيرها. فإذا كان الحد يدرء بالشبهة. والشبهة هنا واردة: صار وجود الحبل قرينة ضعيفة لا تقوى على إيجاب الحد، فلزم الدرء والله أعلم. الثاني: أقضية الصحابة رضي الله عنهم في درء الحد عمن وجدت حبلى ولا زوج لها ولا سيد وقد ادعت الاستكراه ونحوه. منها ما يلي: 1- قصة شراحة رضي الله عنها: روى عبد الرزاق في (مصنفه) (2) أن علياً أتى بامرأة من همدان وهي حبلى يقال لها: شراحة. قد زنت، فقال لها علي رضي الله عنه: لعل الرجل استكرهك، قالت: لا. قال: فلعل الرجل قد وقع عليك وأنت راقدة، قالت: لا. قال: فلعل لك زوجاً من عدونا هؤلاء وأنت تكتمينه، قالت: لا. فحبسها حتى إذا وضعت، جلدها يوم الخميس مائة جلدة، ورجمها يوم الجمعة فأمر فحفر لها حفرة بالسوق، فدار الناس عليها، أو قال بها: فضربهم بالدرة. ثم
قال: ليس هكذا الرجم. إنكم إن تفعلوا هذا يفتك بعضكم بعضاً، ولكن صفوا كصفوفكم للصلاة، ثم قال: يا أيها الناس، أن أول الناس يرجم الزاني: الإمام إذا كان الاعتراف، وإذا شهد أربعة شهداء على الزنى: أول الناس يرجم: الشهود بشهادتهم عليه، ثم الإمام، ثم الناس. ثم رماها بحجر وكبر، ثم أمر الصف الأول فقال: ارموا، ثم قال: انصرفوا وكذلك صفاً صفاً حتى قتلوها) . ورواه البيهقي (1) . وأحمد (2) . والحاكم (3) ، والنسائي (4) ، وأصله مختصراً في صحيح البخاري (5) . والحديث بطوله صحيح الإسناد كما حرره الحافظ بن حجر (6) . وجه الاستدلال: هو أن هذا الأثر نص في محل النزاع: فإن شراحة اليمانية اعترفت بالزنى وهي حبلى فسألها علي رضي الله عنه عن موارد الشبه فنفت تلك الواردات وأصرت على اعترافها. فرجمها علي رضي الله عنه. فصار موجب الرجم الاعتراف لا الحبل، ولهذا فإن علياً رضي الله عنه- وهو الإمام- صار أول من رجم لأن الحد إذا وجب بالاعتراف صار الإمام أول من يرجم كما ذكره علي رضي الله عنه. ب- قصة المرأة المتعبدة. روى عبد الرزاق في (مصنفه) (7) (أنه بلغ عمر رضي الله عنه أن امرأة
الترجيح والاختيار. وفيه اختيار القول الثاني. والجواب عن أدلة ابن القيم
متعبدة حملت. فقال عمر: أراها قامت من الليل تصلي خشعت فسجدت فأتاها غاو من الغواة فتجشمها فأتته فحدثته بذلك سواء فخلى سبيلها) . وجه الاستدلال: وهو ظاهر بدلالة نص الأثر عليه فإن الحبل لم يكن موجباً للحد لاحتمال الشبهة ولهذا خلى سبيلها رضي الله عنه. ج- قصة المرأة اليمانية: روى عبد الرزاق في (مصنفه) (1) (أن أبا موسى كتب إلى عمر رضي الله عنه في امرأة أتاها رجل وهي نائمة، فقالت: أن رجلاً أتاني وأنا نائمة. فوالله ما علمت حتى قذف فيَّ مثل شهاب النار. فكتب عمر: تهامية تنومت. قد يكون مثل هذا، وأمر أن يدرء عنها الحد) . ووجه الاستدلال منه كالأثر السابق سواء. الاختيار والترجيح: هذا هو ما تحصل الوقوف عليه من ذكر الخلاف وأدلته وبيان وجوه الاستدلال منها. والذي يظهر لي والله تعالى أعلم- هو أرجحية القول الثاني على ما اختاره الإمام ابن القيم وهو القول الأول. لأنه أجرى على قاعدة الشريعة المطردة وهي: درء الحدود بالشبهات والشبهة هنا محتملة. وقد أجمع المسلمون على أنه لا يحل إقامة حد مع وجود شبهة. وعلى هذا دلت- أيضاً: أقضية الصحابة رضي الله عنهم. والأدلة التي ساقها ابن القيم رحمه الله تعالى لا تعارض- فيما يظهر والله أعلم- أدلة هذا القول لأمور:
المبحث الحادي عشر: في ذكر حيل لإبطال حد الزنى وإبطالها
1- أن حديث بصرة رضي الله عنه ليس إسناده بالقائم، فلا يكون حجة في هذا لا سيما في الحدود على أنه قد قيل بنسخه (1) . 2- أن ما روي عن عمر رضي الله عنه من إقامة الحد بالحبل قد روي عنه خلافه كما قاله بن قدامة (2) على أنه يمكن الجمع في ذلك بين ما روي عنه من الإيجاب للحد والدرء. بتنزيل حكم الإنجاب حيث صار خالياً من موجبات الدرء وهذا هو الأظهر وبه تجتمع الآثار ويلتئم شملها وتعمل السنن والله أعلم. 3- أما قياس الحبل على البينة. فهذا يعتريه: النزاع في تسليم جواز القياس في الحدود من عدمه (3) . وفي حال التسليم تكون دلالة الحبل أقوى من البينة إذا سلمت من دعوى استكراه ونحوه من وجوه الدفع فيؤول الأمر إلى الحكم بالاعتراف لكنه مع وجود الحبل أقوى وأظهر بكل حال من مجرد اعتراف بلا حبل أو بينة والله أعلم. المبحث الحادي عشر: في ذكر حيل لإبطال حد الزنى (4) لابن القيم رحمه الله تعالى مباحث مستفيضة في الحيل وتحريمها وبيان أن تجويزها يناقض قاعدة سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فهي مخادعة لله ومخادعة الله حرام. وذكر جملة وافرة من الحيل المحرمة التي قال بها بعض أنصار المذاهب المتبوعة وقرر أن أكثرها من توليدات المنتسبين إلى الأئمة وتفريعهم والأئمة براء منها (5) .
وفي هذه الأمثلة ذكر طرفاً من الحيل الباطلة التي قال بها من قال لإسقاط حد الزنى، وإن في إقرارها مناقضة لدين الإسلام وفتح لأبواب الفساد فقال (1) : (ومن الحيل الباطلة الحيل التي تتضمن إسقاط حد الزنى بالكلية، وترفع هذه الشريعة من الأرض: بأن يستأجر المرأة لتطوي له ثيابه، أو تحول له متاعه من جانب الدار إلى جانب آخر (2) . أو يستأجرها لنفس الزنى ثم يزني بها. فلا يجب عليه الحد (3) . وأعظم من هذا كله أنه إذا أراد أن يزني بأمه أو أخته أو ابنته أو خالته أو عمته ولا يجب عليه الحد فليعقد عليها النكاح بشهادة فاسقين يطؤها ولا حد عليه (4) . وأعظم من ذلك: أن الرجل المحصن إذا أراد أن يزني ولا يحد فليرتد ثمّ يسلم فإنه إذا زنى بعد ذلك فلا حد عليه أبداً حتى يستأنف نكاحاً أو وطئاً جديداً. وأعظم من هذا كله أنه إذا زنى بأمه وخاف من إقامة الحد عليه فليقتلها فإذا فعل ذلك سقط عنه الحد (5) ، وإذا شهد عليه الشهود بالزنى ولم يمكنه القدح فيهم فليصدقهم فإذا صدقهم سقط عنه الحد. ولا يخفي أمر هذه الحيل ونسبتها إلى دين الإسلام، وهل هي نسبة موافقة أو هي نسبة مناقضة؟) .
المبحث الثاني عشر: في ذكر حيلة جائزة لإبطال الشهادة على الزنى. ومناقشة ابن القيم في ذلك
المبحث الثاني عشر: في ذكر حيلة جائزة لإبطال الشهادة على الزنى يقسّم ابن القيم رحمه الله تعالى الحيل إلى أقسام أربعة ثلاثة منها محرمة (1) لذاتها أو لما تفضي إليه. وقسم رابع يقصد به أخذ حق أو دفع باطل وهو ثلاثة أنواع (2) : منها أن يحتال على التوصل إلى الحق أو إلى دفع الظلم بطريق مباحة وذكر لهذا النوع ما يقرب من مائة وعشرين مثالاً. ذكر منها في (المثال الخامس والخمسين) حيلة جائزة لإبطال الشهادة على الزنى فقال (2) : (المثال الخامس والخمسون: إذا رفع إلى الإمام وادعى عليه أنه زنى، فخاف إن أنكر أن تقوم عليه البينة فيحد، فالحيلة في إبطال شهادتهم، أن يقر إذا سئل مرة واحدة ولا يزيد عليها فلا تسمع البينة مع الإقرار، وليس للحاكم ولا للإمام أن يقرره تمام النصاب بل إذا سكت لم يتعرض له، فإن كان الإمام ممن يرى وجوب الحد بالمرة الواحدة، فالحيلة أن يرجع عن إقراره فيسقط عنه الحد، فإذا خاف من إقامة البينة عليه أقر أيضاً ثم رجع، وهكذا أبدا، وهذه الحيلة جائزة، فإنه يجوز له دفع الحد عن نفسه، وأن يخلد إلى التوبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة لما فر ماعز عن الحد (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه) فإذا فر من الحد إلى التوبة فقد أحسن) . هذا ما قرره ابن القيم رحمه الله تعالى من جواز هذه الحيلة لأن البينة لا تسمع
مع الإقرار، فإذا أقر مرة واحدة بطلت البينة وصار العول على الإقرار، وهو إنما أقر مرة واحدة والحد لا بد فيه من أربع مرات في الإقرار. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أيضاً هذه الحيلة في ثلاثة مواضع من نفس كتابه (الأعلام) (1) في مقام الرد والتعقب لها وأنها حيلة باطلة لا يعتبر بها لأن تصديقه الشهود يزيد البينة قوة والعمل إنما هو بالبينة لا بالإقرار. وفي هذا يقول (2) : (وقلتم: لو شهد عليه أربعة بالزنى فصدق الشهود سقط عنه الحد، وإن كذبهم أقيم عليه الحد وهذا من أفسد قياس في الدنيا فإن تصديقهم إنما زادهم قوة، وزاد الإمام يقيناً وعلماً أعظم من العلم الحاصل بالشهادة وتكذيبه. وتفريقكم- بأن البينة لا يعمل بها إلا مع الإنكار فإذا أقر فلا عمل للبينة، والإقرار مرة لا يكفي فيسقط الحد- تفريق باطل، فإن العمل ههنا بالبينة لا بالإقرار، وهو إنما صدر منه تصديق البينة التي وجب الحكم بها بعد الشهادة، فسواء أقر أم لم يقر فالعمل إنما هو بالبينة) . ويقول أيضاً (3) : (ومن العجب أنه لو شهد عليه أربعة بالزنى فكذب الشهود حد وإن صدقهم سقط عنه الحد) . وإن من تأمل التعليل في مقامي المنع والجواز لهذه الحيلة تبين له فضل المنع له على الجواز لضعف ما بني عليه الجواز من تعليل كما هو ظاهر من تعقب ابن القيم رحمه الله تعالى.
المبحث الثالث عشر: اللواط في القرآن والسنة
المبحث الثالث عشر: اللواط (1) في القرآن والسنة (2) جريمة اللواط لم يعملها أحد من العالمين قبل قوم لوط كما قال تعالى (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) . وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى ما في قصة اللوطية من المواعظ والعبر الدالة على عظم إثم هذه الفعلة وغلظها (3) . ثم ذكر رحمه الله تعالى السور التي وردت فيها عقوبة اللوطية فقال (4) : (وقد ذكر الله سبحانه عقوبة اللوطية وما حل بهم من البلاء في عشر سور من القرآن هي: سورة الأعراف (5) ، وهود (6) ، والحجر (7) ، والأنبياء (8) ، والفرقان (9) ،
اللواط في السنة على وجهين وبيانهما
والشعراء (1) ، والنمل (2) ، والعنكبوت (3) ، والصافات (4) ، واقتربت الساعة (5) وجمع على القوم بين عمي الأبصار، وخسف الديار، والقذف بالأحجار ودخول النار، وقال محذراً لمن عمل عملهم ما حل بهم من العذاب الشديد (6) (وما قوم لوط منكم ببعيد) . وأما اللواط في السنة فإنه جاء فيها على وجهين: 1- وعيد فاعله (7) 2- بيان عقوبته من قوله صلى الله عليه وسلم (8) . وأما قضاء فلم يقض فيه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء لأن العرب لم تكن تعرفه ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم فيه بشيء. وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (9) : (لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء لأن هذا لم تكن تعرفه العرب ولم
المبحث الرابع عشر: في مفاسد اللوطية الصغرى
يرفع إليه صلى الله عليه وسلم ولكن ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال (اقتلوا الفاعل والمفعول به) رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح) . وهذا النص من ابن القيم رحمه الله تعالى قد سبقه إلى نحوه ابن الطلاع (1) في (أحكامه) . كما ذكره الحافظ بن حجر إذ قال (2) : (قال ابن الطلاع في (أحكامه) لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه وثبت عنه أنه قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به) . المبحث الرابع عشر: في مفاسد اللوطية الصغرى (3) يقرر ابن القيم رحمه الله تعالى أن وطء النساء (الزوجات) في أدبارهن لم يبح على لسان نبي قط وأن من نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة في دبرها فقد غلط عليه أقبح الغلط وأفحشه، وأن وطء النساء (اللوطية الصغرى) إلى الوطء في أدبار الصبيان (اللوطية الكبرى) . وقد ذكر في هذا المبحث مفاسد هذه الذريعة المحرمة وأضرارها ومن هذه المفاسد والأضرار ما تنفرد به اللوطية الصغرى ومنها ما هو مشترك بين اللوطيتين، وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (4) :
(إذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض فما الظن بالحش (1) الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل، والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان. وأيضاً: فللمرأة حق على الزوج في الوطء ووطؤها في دبرها يفوت حقها، ولا يقضي وطرها ولا يحصل مقصودها. وأيضاً: فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يخلق له، وإنما الذي هيىء له الفرج. فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً. وأيضاً: فإن ذلك مضر بالرجل، ولهذا ينهي عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه والوطء في الدير لا يعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي. وأيضاً: يضر من وجه آخر، وهو إحواجه إلى حركات متعبة جداً لمخالفته للطبيعة. وأيضاً: فإنه محل القذر والنجو فيستقبله الرجل بوجهه ويلاقيه. وأيضاً: فإنه يضر بالمرأة جداً، لأنه وارد بعيد غريب عن الطباع منافر لها غاية المنافرة. وأيضاً: فإنه يحدث الهمّ والغمّ والنفرة عن الفاعل والمفعول به. وأيضاً: فإنه يسود الوجه ويظم الصدر ويطمس نور القلب، ويكسي الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء يعرفها من له أدنى فراسة.
وأيضاً: فإنه يوجب النفرة، والتباغض الشديد والتقاطع بين الفاعل والمفعول به ولا بد. وأيضاً: فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول به فساداً لا يكاد يرجى بعده صلاح إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح. وأيضاً: فإنه يذهب بالمحاسن منها ويكسوها ضدها كما يذهب بالمودة بينهما ويبدلها به تباغضاً وتلاعناً. وأيضاً: فإنه من أكبر أسباب زوال النعم وحلول النقم، فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله وإعراضه عن فاعله وعدم نظره إليه، فأي خير يرجوه بعد هذا وأي شر يأمنه، وكيف حياة قد حلت عليه لعنة الله ومقته وأعرض عنه بوجهه ولم ينظر إليه. وأيضاً: فإنه يذهب بالحياء جملة والحياء هو حياة القلوب، فإذا فقدها القلب استحسن القبيح، واستقبح الحسن، وحينئذٍ فقد استحكم فساده. وأيضاً: فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئاً من الحيوان، بل هو طبع منكوس، وإذا نكس الطبع انتكس القلب والعمل والهدى، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والهيئات ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره. وأيضاً: فإنه يورث من الوقاحة والجرأة ما لا يورثه سواه. وأيضاً: فإنه يورث من المهانة والسفال والحقارة ما لا يورثه غيره. وأيضا: فإنه يكسو العبد من حلة المقت والبغضاء وازدراء الناس له واحتقارهم إياه، واستصغارهم له، ما هو مشاهد بالحس. فصلاة الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به، وهلاك الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به) .
المبحث الخامس عشر: في مفاسد اللواط
المبحث الخامس عشر: في مفاسد اللواط وأن مفسدته أعظم من كل ذنب بعد الشرك بالله تعالى (1) فيما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى من مفاسد اللوطية الصغرى (2) مفاسد وأضرار مشتركة بين اللوطيتين: خلقية، وطبية، وطبيعية. وقد بيّن أيضاً رحمه الله تعالى جملة مما في سبيل اللوطية الكبرى من المفاسد الدنيوية والأخروية فقال (3) : (أما سبيل الأمة اللوطية فتلك سبيل الهالكين المفضية بسالكها إلى منازل المعذبين الذين جمع الله عليهم من أنواع العقوبات ما لم يجمعه على أمة من الأمم لا من تأخر عنهم ولا من تقدم وجعل آثارهم وديارهم عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين (4) ... وجمع على القوم بين عمي الأبصار وخسف الديار، والقذف بالأحجار، ودخول النار، وقال محذراً لمن عمل عملهم ما حل بهم من العذاب الشديد (وما قوم لوط منكم ببعيد) . وقال بعض العلماء إذا علا الذكر الذكر هربت الملائكة، وعجت الأرض إلى ربها، ونزل سخط الجبار جلّ جلاله عليهم، وغشيتهم اللعنة، وحفت بهم الشياطين، واستأذنت الأرض ربها أن تخسف بهم، وثقل العرش على حملته، وكبرت الملائكة، واستعرت الجحيم فإذا جاءته رسل الله لقبض روحه نقلوها إلى ديار إخوانهم وموضع عذابهم فكانت روحه بين أرواحهم، وذلك أضيق مكاناً
وأعظم عذاباً من عذاب الزناة، فلا كانت لذة توجب هذا العذاب الأليم، وتسوق صاحبها إلى مرافقة أصحاب الجحيم، تذهب اللذات وتعقب الحسرات، وتفنى الشهوة، وتبقى الشقوة، وكان الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى ينشد: تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الخزي والعار تبقى عواقب سوء في مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار وفي معرض بحثه رحمه الله تعالى لعقوبة اللواط وأن عقوبته أغلظ من عقوبة الزنى فيقتل على كل حال بين رحمه الله تعالى في مساق التأييد لهذا القول، وجه كون مفسدة اللواط تلي مفسدة الكفر بالله تعالى، وأن اللواط أعظم مفسدة من الزنى ومن القتل وبسط ذلك ببيان قصة اللوطية في القرآن الكريم وما فيها من وجوه الشناعة والذم فقال رحمه الله تعالى (2) : (ليس في المعاصي أعظم مفسدة من هذه المفسدة، وهي تلي مفسدة الكفر، وربما كانت أعظم من مفسدة القتل. قالوا: ولم يبتل الله سبحانه بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحداً من العالمين، وعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحداً غيرهم، وجمع عليهم أنواعاً من العقوبات، بين الإهلاك، وقلب ديارهم عليهم والخسف بهم، ورجمهم بالحجارة من السماء، فنكل بهم نكالا لم ينكله أمة سواهم، وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة التي كادت تميد الأرض من جوانبها إذا عملت عليها، وتهرب الملائكة إلى أقطار السموات والأرض إذا شاهدوها خشية نزول العذاب على أهلها فيصيبهم معهم، وتعج الأرض إلى ربها تبارك وتعالى، وتكاد الجبال تزول عن أماكنها، وقتل المفعول به خير له من وطئه، فإنه إذا وطئه قتله قتلا لا ترجى الحياة معه، بخلاف قتله، فإنه مظلوم شهيد أو ربما ينتفع به في آخرته.
قالوا: والدليل على هذا أن الله سبحانه جعل حد القاتل إلى خبرة الولي، إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وحتم قتل اللوطي حداً كما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها، بل عليها عمل أصحابه وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم أجمعين ... (1) . قالوا: وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله من عمل عمل قوم لوط ثلاثا - ولم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم لعنة الزاني ثلاث مرات في حديث واحد، وقد لعن جماعة من أهل الكبائر فلم يتجاوز بهم في اللعن مرة واحدة، وكرر لعن اللوطية وأكده ثلاث مرات. وأطبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتله ... (2) قالوا: ومن تأمل قوله سبحانه (3) (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا) وقوله في قوم لوط (4) (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) تبين له تفاوت ما بينهما، وأنه سبحانه نكر الفاحشة في الزنى أي هو فاحشة من الفواحش، وعرفها في اللواط، وذلك يفيد أنه جامع لمعاني اسم الفاحشة، كما تقول زيد الرجل ونعم الرجل زيد، أي أتأتون الخصلة التي استقر فحشها عند كل أحد، فهي لظهور فحشها وكماله غنية عن ذكرها بحيث لا ينصرف الاسم إلى غيرها، وهذا نظير قول فرعون لموسى (5) (وفعلت فعلتك التي فعلت) أي الفعلة الشنعاء الظاهرة المعلومة لكل أحد. ثم أكد سبحانه شأن فحشها بأنها لم يعملها أحد من العالمين قبلهم فقال (6) : (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) .
ثم زاد في التأكيد بأن صرح بما تشمئز منه القلوب وتنبو عنه الأسماع وتنفر منه الطباع أشد نفرة وهو إتيان الرجل رجلاً مثله ينكحه كما ينكح الأنثى فقال (1) (أئنكم لتأتون الرجال) . ثم نبه عن استغنائهم عن ذلك وأن الحامل لهم عليه ليس إلا مجرد الشهوة لا الحاجة التي لأجلها مال الذكر إلى الأنثى، من قضاء الوطر ولذة الاستمتاع، وحصول المودة والرحمة التي تنسى المرأة لها أبويها وتذكر بعلها، وحصول النسل الذي هو حفظ هذا النوع الذي هو أشرف المخلوقات وتحصين المرأة وقضاء وطرها، وحصول علاقة المصاهرة التي هي أخت النسب، وقيام الرجال على النساء وخروج أحب الخلق إلى الله من جماعهن كالأنبياء والأولياء والمؤمنين ومكاثرة النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء بأمته. الى غير ذلك من مصالح النكاح. والمفسدة التي في اللواط تقاوم ذلك كله، وتربي عليه بما. لا يمكن حصر فساده ولا يعلم تفصيله إلا الله. ثم أكد قبح ذلك بأن اللوطية عكسوا فطرة الله التي فطر الله عليها الرجال، وقلبوا الطبيعة التي ركبها الله في الذكور، وهي شهوة النساء دون الذكور، فقلبوا الأمر وعكسوا الفطرة والطبيعة فأتوا الرجال شهوة من دون النساء، ولهذا قلب الله سبحانه ديارهم عليهم، فجعل عاليها سافلها وكذلك قلوبهم ونكسوا في العذاب على رؤوسهم. ثم أكد سبحانه بأن حكم عليهم بالإسراف وهو مجاوزة الحد فقال (2) (بل أنتم قوم مسرفون) . فتأمل هل جاء مثل ذلك أو قريب منه في الزنى.
وأكد سبحانه ذلك عليهم بقوله (1) (ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث) . ثم أكد سبحانه عليهم الذم بوصفين في غاية القبح فقال (3) (إنهم كانوا قوم سوء فاسقين) . وسماهم مفسدين في قول نبيهم (3) (ربّ انصرني على القوم المفسدين) . وسماهم ظالمين في قول الملائكة لإبراهيم (4) (إنا مهلكو أهل هذه القرية، إن أهلها كانوا ظالمين) . فتأمل من عوقب بمثل هذه العقوبات ومن ذمه الله بمثل هذه المذمات. ولما جادل خليله إبراهيم الملائكة، وقد أخبروه بإهلاكهم قيل له (5) (يا إبراهيم أعرض عن هذا أنه قد جاء أمر ربك، وإنهم آتيهم عذاب غير مرود) . وتأمل خبث اللوطية، وفرط تمردهم على الله حيث جاءوا نبيهم لوطاً لما سمعوا بأنه قد طرقه أضيافه، هم من أحسن، البشر صوراً، فأقبل اللوطية عليه يهرولون، فلما رآهم قال لهم (6) (يا قوم هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم) ففدى أضيافه ببناته يزوجهم بهن خوفا على نفسه وأضيافه من العار الشديد فقال (7) (يا قوم هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد. فردوا عليه ولكن رد جبار عنيد (8) (لقد علمت ما لنا في بناتك من حق،
وإنك لتعلم ما نريد) ، فنفث نبي الله نفثة مصدور، خرجت من قلب مكروب فقال (1) (لو أن لي بكم قوّة أو آوى إلى ركن شديد) . فنفس له رسل الله، وكشفوا له عن حقيقة الحال، وأعلموه أنهم ممن ليس يوصل إليهم، ولا إليه بسببهم، فلا تخف منهم ولا تعبأ بهم وهوّن عليك فقال (2) (يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) . وبشروه بما جاءوا به من الوعد له ولقومه من الوعيد المصيب فقالوا (3) (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد، إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) . فوالله ما كان بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إلا ما كان بين السحر وطلوع الفجر وإذا بديارهم قد أقتلعت من أصلها ورفعت نحو السماء حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ونهيق الحمير فبرز المرسوم- الذي لا يرد- عن الرب الجليل، إلى عبده ورسوله جبرائيل، بأن قلبها عليهم كما أخبر به في محكم التنزيل فقال عزّ من قائل (4) : (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) . فجعلهم آية للعالمين، وموعظة للمتقين، ونكالاً وسلفاً لمن شاركهم في أعمالهم من الجرمين، وجعل ديارهم بطريق السالكين (إن في ذلك لآيات للمتوسمين، وإنها لبسبيل مقيم، إن في ذلك لآية للمؤمنين) (5) . أخذهم على غرة وهم نائمون، وجاءهم بأسه وهم في سكرتهم يعمهون، فما
أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، فقلبت تلك اللذات آلاماً، فأصبحوا بها يعذبون. مآرب كانت في الحياة لأهلها ... عِذاباً فصارت في الممات عَذاباً. ذهبت اللذات، وأعقبت الحسرات، وانقضت الشهوات، وأورثت الشقوات تمتعوا قليلاً، وعذبوا طويلاً، رتعوا مرتعاً وخيما، فأعقبهم عذاباً أليماً، أسكرتهم خمرة تلك الشهوات، فا استفاقوا منها إلا في ديار المعذبين، وأرقدتهم تلك الفعلة فما استيقظوا منها إلا وهم في منازل الهالكين، فندموا والله أشد الندامة حين لا ينفع الندم، وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم. فلو رأيت الأعلى والأسفل من هذه الطائفة، والنار تخرج من منافذ وجوههم وأبدانهم وهم بين أطباق الجحيم، وهم يشربون بدل لذيذ الشراب كؤوس الحميم. ويقال لهم وهم على وجوههم يسحبون، ذوقوا ما كنتم تكسبون (1) (اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليم إنما تجزون ما كنتم تعملون) . ولقد قرّب الله مسافة العذاب بين هذه الأمة وبين إخوانهم في العمل فقال مخوفاً لهم أن يقع الوعيد (2) (وما هي من الظالمين ببعيد) . فيا ناكحي الذكران يهنيكم البشرى ... فيوم معاد الناس إن لم أجرا كلوا واشربوا وازنوا ولوطوا وأبشروا ... فإن لكم زفاً إلى الجنة الحمرا. فإخوانكم قد مهدوا الدار قبلكم ... وقالوا، إلينا عجلوا لكم البشرى وها نحن أسلاف لكم في انتظاركم ... سيجمعنا الجبار في ناره الكبرى فلا تحسبوا أن الذين نكحتموا ... يغيبون عنكم بل ترونهم جهراً ويلعن كلاً منكم لخليه ... ويشقى به المحزون في الكرة الأخرى يعذب كلاً منهما بشريكه ... كما اشتركا في لذة توجب الوزرا
المبحث السادس عشر: في عقوبة اللواطة
المبحث السادس عشر: في عقوبة اللواط (1) يقرر- ابن القيم رحمه الله تعالى أن الصحابة رضي الله عنهم متفقون على قتل اللوطي، وإن الخلاف بينهم إنما هو في كيفية قتله. فغلط بعض الناس، فنقل محل الخلاف إلى محل الاتفاق، وظنوا أن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا في قتله والأمر بخلاف ذلك. وفي بيان ذلك يقول رحمه الله تعالى (2) : (الصحابة رضي الله عنهم متفقون على قتل اللوطي، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فظن بعض الناس أنهم متنازعون في قتله ولا نزاع بينهم فيه إلا في إلحاقة بالزاني أو قتله مطلقاً) . وقال أيضاً (3) : (قال ابن القصار، وشيخنا: أجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتله وإنما اختلفوا في كيفية قتله) . وقال أيضاً (4) : (أطبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتله لم يختلف فيه منهم رجلان، وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله، فظن بعض الناس أن ذلك اختلاف منهم في قتله، فحكاها مسألة نزاع بين الصحابة رضي الله عنهم، وهي بينهم مسألة إجماع لا مسألة نزاع) . فنحصل من هذه النقول من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى: أن
بيان اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في صفة قتله على عدة وجوه وبيانها
الصحابة رضي الله عنهم متفقون على قتل اللواطي وأن الخلاف الحاصل بينهم في موضعين: الأول منهما: هي يقتل مطلقاً أم يلحق بالزاني. الثاني: في كيفية قتله. اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في صفة عقوبة اللوطي: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى جملة من أقاويل الصحابة رضي الله عنهم في ذلك على ما يلي: 1- إحراق اللوطي بالنار وهو قول أبي بكر وعلي وابن الزبير (1) رضي الله عنهم وهشام ابن عبد الملك (2) رحمه الله تعالى وقد حرق كل واحد منهم اللوطية في خلافته. وقد شاور أبو بكر رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم فاجتمع رأيهم على إحراق اللوطية. وفي بيان ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (حرق اللوطية بالنار أربعة من الخلفاء: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وهشام بن عبد الملك رحمه الله تعالى) .
(حرقهم أبو بكر رضي الله عنه بالنار بعد مشاورة الصحابة رضي الله عنهم وأشار عليه علي ابن أبي طالب رضي الله عنه بذلك وحرقهم علي وابن الزبير كما ذكره (الآجري) (1) وغيره عن محمد ابن المنكدر (2) : أن خالد بن الوليد (3) كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه أنه وجد رجلاً في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فجمع أبو بكر رضي الله عنه لذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال علي رضي الله عنه: أن هذا ذنب لم يعمل به إلا أمة واحدة ففعل الله بهم ما قد علمتم، أرى أن تحرقوه بالنار، فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق بالنار فأمر به أبو بكر أن يحرق (4) . قال (5) : وقد حرقهم ابن الزبير وهشام بن عبد الملك) . 2- الرجم بالحجارة حتى يموت وهو قول عمر رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم (6) .
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة والتابعين: يرجم بالحجارة حتى يموت أحصن أو لم يحصن) . وقال أيضاً (3) : (وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يرجم اللوطي بكراً كان أو ثيباً) . وذكر أيضاً أن هذا فتوى من ابن عباس رضي الله عنهما بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفعه (من عمل عمل قوم لوط فاقتلوه) (3) . وقال أيضاً (4) : (ورجم علي رضي الله عنه لوطياً وأفتى بتحريقه، وكأنه رأى هذا وهذا) . 3- الرمي من أعلى بناء في البلد ثم يتبع بالحجارة: وهو مروي عن أبي بكر وابن عباس رضي الله عنهم (5) . قال ابن القيم رحمه الله تعالى (6) : (وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن اللوطي ما حده؟ قال: ينظر أعلى بناء في المدينة فيرمى منه منكساً ثم يتبع بالحجارة. وقال أيضاً (7) :
اختلاف العلماء في عقوبة اللواط
(وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يرمى من شاهق) . 4- أنه يلقى عليه حائط. وهذا مروي عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم (1) . وذكره ابن القيم عن علي رضي الله عنه فقال (2) : (وقال علي- كرّم الله وجهه- يهدم عليه حائط) . 5- أن عقوبة اللوطي كحد الزاني، الرجم للمحصن والجلد لغير المحصن. وذكره ابن القيم عن ابن الزبير رضي الله عنه فقال (3) : (قال عطاء (4) : شهدت ابن الزبير أتى بسبعة أخذوا في اللواط: أربعة منهم قد أحصنوا، وثلاثة لم يحصنوا، فأمر بالأربعة فأخرجوا من المسجد الحرام فرجموا بالحجارة، وأمر بالثلاثة فضربوا الحد وفي المسجد ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم) . هذه أقاويل الصحابة رضي الله عنهم وأحكامهم في عقوبة اللوطي وهي كما يراها الناظر اختلاف في كيفية العقوبة لا في أصل إيقاع العقوبة بالقتل والله أعلم. اختلاف العلماء (5) : ثم إن ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى في عقوبة
القول الأول: أن عقوبته أغلظ من الزنى. وبيان أدلته
اللواط هل هي أغلظ من عقوبة الزنى على ما حكم به جلّ الصحابة رضي الله عنهم وأفتوا به. أم أن عقوبة الزنى أغلظ من عقوبة اللواط. أم أنهما سواء. على ثلاثة أقوال ذكرها رحمه الله تعالى وذكر من قال بها. مع ذكر الاستدلال ومناقشته وبيان ذلك على ما يلي: القول الأول: أن عقوبة اللواط أغلظ من عقوبة الزنى. فعقوبته القتل حداً على كلّ حال محصناً كان أو غير محصن. قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (ذهب أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وجابر بن زيد رضي الله عنهم، وعبد الله بن معمر والزهري (2) ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن (3) ومالك، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد في أصح الروايتين عنه والشافعي-. في أحد قوليه، إلى أن عقوبته أغلظ من عقوبة الزنى وعقوبته القتل على كلّ حال محصناً كان أو غير محصن) . أدلته: استدل ابن القيم رحمه الله تعالى لهذا القول بالسنة، والإجماع ومطابقته لحكم
الشارع في تغليظ العقوبات كلما تغلظت المحرمات. وبيان ذلك على ما يلي: 1- السنة: قال رحمه الله تعالى في الاستدلال لهذا القول من السنة (1) : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) رواه أهل السنن (2) وصححه ابن حبان (3) واحتج الإمام أحمد بهذا الحديث، وإسناده على شرط البخاري) . وقال أيضاً (4) : (ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (اقتلوا الفاعل، والمفعول به) رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح، وقال الترمذي حديث حسن) . وقال أيضاً (4) : (وفي المسند (6) والسنن من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقتلوا الفاعل والمفعول به) وفي لفظ (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) وإسناده على شرط البخاري) . وجه الاستدلال: ووجه الدلالة من هذا الحديث نصية على قتل الفاعل والمفعول به وليس فيه تفصيل لمن أحصن أو لم يحصن فدل بعمومه على قتله مطلقاً.
القول الثاني: أن عقوبته مثل الزنى. وبيان أدلته ومناقشتها
2- الإجماع: واستدل له أيضاً بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على قتله مطلقاً، وحكاه في مواضع كما تقدم (1) . وحكاه أيضاً ابن قدامة فقال للاستدلال به لهذا القول (2) : (ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أجمعوا على قتله وإنما اختلفوا في صفته) . 3- مطابقة هذا القول لقاعدة الشريعة المطردة من تغليظ العقوبات كلما تغلظت المحرمات: وفي بيان هذا يقول رحمه الله تعالى (3) : (وهذا الحكم على وفق حكم الشارع فإن المحرمات كلما تغلظت تغلظت عقوبتها، ووطء من لا يباح بحال أعظم جرماً من وطء من يباح في بعض الأحوال فيكون حده أغلظ) . وذكر رحمه الله تعالى اعتبار هذا فيمن وطء ذات محرم أو أتى بهيمة. القول الثاني: أن عقوبة اللواط والزنى سواء، فيجلد مرتكبه مائة جلدة ويغرب سنة إن كان بكراً، ويرجم إن كان محصناً. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى من قال بهذا فقال (4) : (وذهب عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم
النخعي (1) ، وقتادة والأوزاعي والشافعي في ظاهر مذهبه والإمام أحمد في الرواية الثانية عنه، وأبو يوسف، ومحمد- إلى أن عقوبته وعقوبة الزنى سواء. الأدلة: استدل لهذا القول بحديث، وقياس، وقد ذكرهما ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض بحثه لجريمة اللواط وبيانها على ما يلي: 1- الاستدلال بالحديث: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) (قال أبو داود الطيالسي، حدثنا بشر بن المفضل (3) عن خالد الحذاء (4) ، عن محمد بن سيرين (5) عن أبي موسى الأشعري (6) رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا باشر الرجل الرجل فهما زانيان) وفي لفظ (إذا أتى الرجل الرجل) . وجه الاستدلال: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى كلاً من اللائط والملوط به زانياً، وذلك- والله أعلم- بجامع الوطء في محل محرم، فلما أدخله صلى الله عليه وسلم في مسمى الزنى صارت عقوبة اللواط إذا مثل عقوبة الزنى سواء.
إذا علم ذلك فليعلم القارئ أنه قد وقع في النسخة المطبوعة من (روضة المحبين) (1) تصحيف عجيب في سند هذا الحديث ترقى به من حال الضعف إلى كون الحديث على شرط البخاري ومسلم. ذلك أنه جاء فيه ما نصه: (وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا بشر بن المفضل ... ) وبشر بن المفضل هذا: هو الرقاشي وهو من ثقات المحدثين والأثبات، وهو من شيوخ الطيالسي (2) ، بينما قد عين الحفاظ بشراً هذا فبين الحافظان، الذهبي (3) وابن حجر (4) ، أنه بشر ابن المفضل البجلي، وهذا مجهول فضعف الحديث من طريقه لجهالته. فقال ابن حجر مشيراً إلى هذا الحديث (5) : (ورواه الطبراني (6) من وجه آخر عن أبي موسى رضي الله عنه وفيه بشر بن المفضل البجلي وهو مجهول، وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه) (7) . فتبين أن هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف على ما صرح به الذهبي وابن حجر لجهالة بشر البجلي.
طريق أخرى للحديث: والحديث قد رواه البيهقي (1) بسند آخر لكن فيه راو موصوف بالكذب وهو: محمد بن عبد الرحمن القشيري، قال فيه الذهبي (2) (كذاب مشهور) . فصار الحديث إذا بطريقيه المذكورين ضعيفاً لا تقوم به حجة والله أعلم. 2- القياس: استدل أصحاب هذا القول بقياس اللواط على الزنى بجامع أن كلاً منهما إيلاج فرج محرم في فرج محرم شرعاً، مشتهى طبعاً، فيكون حكمه حكم حد الزنى (3) . تعقب هذا الدليل: وهذا الدليل متعقب بما يلي: (- أن القياس لا يكون في الحدود لأن الحدود تدرأ بالشبهة. لكن هذا متعقب بأن الأكثر على جوازه في الحدود (4) . ب- أن هذا الدليل القياسي يقدح فيه بالقادح المسمى (فساد الاعتبار) (5) . لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: اقتلوا الفاعل والمفعول به، فالقول بالقياس في مقابلة النص اعتبار فاسد وفي بيان هذا يقول الشوكاني (6) : (ويجاب عن ذلك بأن الأدلة الواردة بقتل الفاعل والمفعول به مطلقاً مخصصة
القول الثالث: أن عقوبته التعزير. وبيان أدلته وتعقبها
لعموم أدلة الزنى الفارقة بين البكر والثيب على فرض شمولها للوطي، ومبطلة للقياس المذكور على فرض عدم الشمول لأنه يصير فاسد الاعتبار كما تقرر في الأصول) . القول الثالث: أن عقوبة اللائط التعزير بالضرب والسجن ونحو ذلك. وهذا مذهب أبي حنيفة وفي بيانه يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (وذهب الحاكم وأبو حنيفة إلى أن عقوبته دون عقوبة الزنى: وهي التعزير) . ثم يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن أصحاب أبي حنيفة صرحوا بأن اللوطي إذا أكثر منه قتل تعزيراً فقال (2) : (ثم قال هؤلاء: إذا كثر منه اللوطي فللإمام قتله تعزيراً، صرح بذلك أصحاب أبي حنيفة) . أدلته: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أدلة هذا القول وما أمكن أن يوجه به ثم عاد عليها بالمناقشهَ والنقض. وسياق أدلته مع ما يرد على كل دليل على ما يلي: 1- أنه لم يرد في الشرع للواط عقوبة مقدرة فصار فيه التعزير. وفي حكاية هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (قالوا لأنه معصية من المعاصي لم يقدر الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فيها حداً مقدراً، فكان فيه التعزير كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير) .
تعقب هذا الدليل: وقد عاد ابن القيم رحمه الله تعالى على هذا الحديث بالنقض إذ ورد في السنة أن حد صاحب اللواطة القتل فثبت ورود حد معين فيها وهو القتل بالدليل إذا غير منتف بل هو ثابت. وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (1) : (أما قولهم: إنها معصية لم يجعل الله فيها حداً معيناً فجوابه من وجوه. أحدهما: أن المبلغ عن الله جعل حد صاحبها القتل حتما، وما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما شرعه عن الله. فإن أردتم أن حدها غير معلوم بالشرع فهو باطل. وان أردتم أنه غير ثابت بنص الكتاب لم يلزم من ذلك انتفاء حكمه لثبوته بالسنة. والثاني: أن هذا ينقض عليكم بالرجم، فإنه إنما ثبت بالسنة. فإن قلتم: بل ثبت بقرآن نسخ لفظه وبقي حكمه. وقلنا: فينقض عليم بحد شارب الخمر. والثالث: أن نفي دليل معين لا يستلزم نفي مطلق الدليل، ولا نفي المدلول، فكيف وقد قدمنا أن الدليل الذي نفيتموه غير منتف) . 2- أن التلوط وطء في محل لا تشتهيه الطباع والمعصيهَ إذا كان الوازع عنها طبيعياً اكتفى بالوازع عن الحد كما في وطء الأتان والميتة والبهيمة ونحو ذلك. وفي بيان هذا الدليل القياسي يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) :
(قالوا ولأنه وطء في محل لا تشتهيه الطباع، بل ركبها الله تعالى على النفرة منه حتى الحيوان البهيم فلم يكن فيه حد كوطء الميتة وغيرها. قالوا: وقد رأينا قواعد الشريعة أن المعصية إذا كان الوازع عنها طبيعياً، اكتفى بذلك الوازع عن الحد، وإذا كان في الطباع ما يقتضيها جعل فيها الحد بحسب اقتضاء الطباع لها، ولهذا جعل الحد في الزنى والسرقة وشرب المسكر دون أكل الميتة والدم ولحم الخنزير. قالوا: وطرد هذا: أنه لا حد في وطء البهيمة ولا الميتة، وقد جبل الله سبحانه وتعالى الطباع على النفرة من وطء الرجل رجلاً مثله أشد نفرة، كما جبلها على النفرة من استدعاء الرجل من وطؤه بخلاف الزنى فإن الداعي فيه من الجانبين) . تعقب هذا الدليل: ثم أن ابن القيم رحمه الله تعالى تعقب هذا القياس بالإبطال له أصلاً وذلك بالقادح المسمى فساد الاعتبار حيث أنه قياس في مقابلة النص. ثم بإبطال القياس نفسه إذ هو قياس مع وجود الفارق إذ أن الزاجر الطبيعي عن إتيان الأتان أقوى من الزاجر الطبيعي عن التلوط. وفي بيان هذا يقول رحمه الله تعالى (1) : (وأما قولكم: أنه وطء في محل لا تشتهيه الطباع، بل ركب الله الطباع على النفرة منه فهو كوطء الميتة والبهيمة، فجوابه من وجوه: أحدهما: أنه قياس فاسد الاعتبار مردود بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة رضي الله عنهم. والثاني: أن قياس وطء الأمرد الجميل الذي فتنته تربوا على كل فتنة، على وطء أتان أو امرأة ميتة من أفسد القياس، وهل يعدل ذلك أحد قط بأتان أو بقرة
أو ميتة أو سبى ذلك عقل عاشق أو أسر قلبه، أو استولى على فكره وقلبه، فليس في القياس أفسد من هذا. الثالث: أن هذا منتقض بوطء الأم والأخت والبنت، فإن النفرة الطبيعية منه حاصلة مع أن الحد فيه من أغلظ الحدود- في أحد القولين، وهو القتل بكل حال محصناً أو غير محصن.. (1) . 3- قياس تلوط الرجل بآخر على مساحقة (2) النساء. فكلما لا يجب الحد في المساحقة فكذلك في التلوط. وفي بيان هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (قالوا: ولأن أحد النوعين إذا استمتع بشكله لم يجب عليه الحد، كما لو تساحقت المرأتان، واستمتعت كل واحدة منهما بالأخرى) . تعقب هذا الدليل: وقد تعقب ابن القيم رحمه الله تعالى هذا القياس بالإبطال لفقدانه ركناً من أركان القياس وهو: العلة الجامعة بين المقيس والمقيس عليه فقال (4) : (وأما قياسكم وطء الرجل لمثله على تدالك المرأتين (5) فمن أفسد القياس، إذ لا إيلاج هناك، وإنما نظيره مباشرة الرجل الرجل من غير إيلاج، على أنه قد جاء في بعض الآثار المرفوعة (6) .
اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى للقول الأول
(إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان) ولكن لا يجب الحد بذلك لعدم الإيلاج، وإن أطلق عليهما اسم الزنى العام كزني العين واليد والرجل والفم) . 4- أن اللواط لا يدخل في مسمى الزنى لا لغة ولا شرعاً فلا يجب على اللوطي حد الزنى. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الاستدلال لهم (1) : (قالوا: ولأنه لا يسمى زانياً لا لغة ولا شرعاً ولا عرفاً، فلا يدخل في النصوص الدالة على حد الزانين) . تعقب هذا الدليل: لم يتعقب ابن القيم رحمه الله تعالى هذه الوجهة بشيء والذي يظهر والله أعلم أنه إنما تركه لضعفه، إذ هو تعليل في مقابلة النص- لمن يرى أن حد اللوطي كحد الزاني- والنصوص ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بقتله مطلقاً. على أن نفي تسمية اللواط (زنى) يحتاج إلى مدرك تام بالاستقراء والتتبع للغة العرب. ولو كان القياس في اللغة جائزاً لأمكن القول بأنه قد ثبت في اللغة تسمية ما هو دون الزنى زناً كتسمية النظر المحرم (زنى العين) وهكذا، فيكون تسمية اللواط زناً من باب قياس الأولى لكن القياس في اللغة ممتنع والله أعلم. اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى: اختار رحمه الله تعالى القول الأول وهو أن عقوبة اللواط أغلظ من عقوبة الزنى فقال رحمه الله تعالى (2) : (والصحيح أن عقوبته أغلظ من عقوبة الزاني لإجماع الصحابة رضي الله عنهم
الترجيح والاختيار لما اختاره ابن القيم رحمه الله تعالى
على ذلك، وغلظ حرمته، وانتشار فساده، ولأن الله سبحانه لم يعاقب أمة ما عاقب اللوطية) . لكنه رحمه الله تعالى لما حكى اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في صفة قتل اللوطي هل هي الرجم أم الإحراق أم الرمي من شاهق أم هدم الحائط عليه لم يصرح باختيار واحدة من هذه الصفات والله أعلم. الترجيح والاختيار: مما تقدم يتبين أن ابن القيم رحمه الله تعالى استوفى ذكر الخلاف في هذه المسألة وذكر أدلتها وما ورد على بعضها من مناقشات وأنه اختار ما ذهب إليه جهور أهل العلم من أن عقوبة اللوطي القتل بكل حال لدلالة السنة والإجماع وقاعدة الشريعة المطردة. وهذا القول المختار هو الذي يظهر لي- والله أعلم- لقوة أدلته وسلامة دلالتها على ما سيقت من أجله، ولأن أدلة المخالفين لا تنهض على مقاومتها. وأما صفة القتل فإن الذي يظهر لي أيضاً - والله أعلم- هو أن هذا عائد إلى رأي الإمام من القتل بالسيف أو رجماً بالحجارة ونحو ذلك حسب مصلحة الردع والزجر والله أعلم. ويطيب لي أن أذكر كلاماً للشوكاني رحمه الله تعالى في تأييد مذهب الجمهور إذ يقول (1) : (وما أحق مرتكب هذه الجريمة ومقارب هذه الرذيلة الذميمة بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيباً يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى فاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين أن يصلي من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشابهاً لعقوبتهم، وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم) .
المبحث السابع عشر: في عقوبة واطىء البهيمة
المبحث السابع عشر: في عقوبة من وطئ بهيمة (1) في معرض كلام ابن القيم رحمه الله تعالى على عقوبة اللواط ذكر الخلاف في عقوبة من أتى بهيمة على ثلاثة أقوال وذكر القائلين بها. وذكر في الاستدلال حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) . ولم أره في موضع جزم ببيان حال هذا الحديث صحة أو ضعفاً والظاهر من سياق كلامه اختياره رحمه الله تعالى القول بموجبه. وتفصيل الخلاف في هذا المبحث على ما يلي: القول الأول: أنه يعزر ولا حد عليه. وهذا مذهب الجمهور منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي، في قول له وأحمد في إحدى الروايتين عنه وإسحاق، والشعبي، والنخعي كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى عنهم- فقال (2) : (وقال الشعبي والنخعي يعزر، وبه أخذ الشافعي ومالك وأبو حنيفة، وأحمد في رواية فإن ابن عباس رضي الله عنهما أفتى بذلك وهو راوي الحديث) . وقال أيضاً (3) : (أحدها - أي أحد أقواله- أنه يؤدب ولا حد عليه، وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وهو قول إسحاق) .
القول الثاني: أن عقوبته مثل الزنى مع ذكر دليله ووجهه
الأدلة: وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في الاستدلال لهذا القول: أنه لم يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعقوبات المقدرة لا بد فيها من دليل مثبت ولا دليل هنا ثابت فلا حد إذا وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (1) : (ومن لم ير عليه حداً قالوا: لم يصح فيه الحديث، ولو صح لقلنا به، ولم يحل لنا مخالفته) . القول الثاني: أن حده حد الزاني سواء. وهو قول الحسن البصري وأحد أقوال الشافعي (2) . قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بيانه (3) : (القول الثاني: حكمه حكم الزاني، يجلد إن كان بكراً ويرجم إن كان محصناً، وهذا قول الحسن) . دليله: يستدل بالقياس على الزنى بجامع أن كلاً منهما وطء في فرج محرم ليس له فيه شبهة فيكون حده كالزنى (4) . القول الثالث: أن حكمه حكم اللوطي فيقتل بكل حال. وهذا مذهب أبي سلمة ابن عبد الرحمن والرواية الثانية عن الإمام أحمد حكى ذلك ابن القيم عنهما (5) . وقال الشافعي إن صحّ الحديث قلت به (6) .
الأدلة: استدل ابن القيم رحمه الله تعالى لهذا القول بحديث بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) (1) رواه أحمد (2) وأصحاب السنن (3) . وجه الاستدلال: والاستدلال من هذا الحديث على هذا القول واضح فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أتى بهيمة وقتل البهيمة معه، وليس فيه تفصيل في الفرق بين المحصن وغيره بل يفيد قتله مطلقاً. منزلة هذا الحديث: هذا الحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) (4) رواه أحمد وأبو يعلى (5) . وورد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه عن أبي داود (6) بلفظ: (من وقع على ذات محرم فاقتلوه، ومن وقع على بهيمة فاقتلوه، واقتلوها معه) .
استظهار رأي ابن القيم وترجيح ما استظهرته وهو القول الثالث
رواه ابن ماجه (1) ، والحاكم (2) . وفي لفظ عند الترمذي (3) والبيهقي (4) (من وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة فقيل لابن عباس: ما شأن البهيمة قال: ما سمعت من رسول الله في ذلك شيئاً ولكن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كره أن يؤكل لحمها أو ينتفع بها، وقد عمل بها ذلك العمل. وفي لفظ عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً عند البيهقي (5) . (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ملعون من وقع على بهيمة، وقال: اقتلوه واقتلوها لا يقال هذه التي فعل بها كذا وكذا) (6) . وقد مال البيهقي إلى تصحيح الحديث في ذلك (7) . وصححه الشوكاني (8) وسكت عنه ابن حجر في (التلخيص) (9) وقد علم من اصطلاحه أنه إذا سكت عن حديث في التلخيص فدرجته أنه حسن عنده (10) وسبق الجميع إلى تصحيح حديث ابن عباس الذهبي في تلخيصه للمستدرك (11) والله أعلم. الترجيح: تبين من هذا المبحث أن ابن القيم رحمه الله تعالى حكى ثلاثة أقوال في حكم من أتى بهيمة وأن ظاهر كلامه اختياره قتل الفاعل بكل حال وهذا رواية عن أحمد وقد علق الشافعي الأخذ به على صحة الحديث. وأن
ابن القيم رحمه الله تعالى قد ساق الحديث في ذلك. وقد ظهر أن هذا الحديث صحيح كما قاله الشوكاني وغيره فيلزم المصير إليه. وبناء كل هذا: فإن قول أرباب القول الأول (لم يصح فيه حديث) غير صحيح. وقول أرباب القول الثاني أن حده كحد الزاني استدلالاً بالقياس قول ضعيف، وقياسهم قياس في مقابلة النص. والعصمة في النص وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) والله أعلم.
باب حد القذف
بَابُ حدِّ القذْف
توطئة
توطئة في تعريف القذف في اللسانين اللغة والشرع: في اللغة: مصدر قذف يقذف، من باب ضرب يضرب، وجمعه: قذاف، وقذفه كفساق، وفسقة (1) . وأصل معنى القذف، الرمي، يقال قذف بالحجارة يقذف أي رمى بها (2) . وقد قيد القذف بالرمي البعيد، ولاعتبار البعد فيه قيل، منزل قذف وقذيف أي بعيد (3) . وقيد أيضاً برمي الشيء بقوة، ومنه اشتهر استعماله في رمي المرأة المحصنة أو الرجل المحصن بالزنى، أو ما في معناه بالألفاظ المكروهة (4) . القذف في الشرع: اختلفت كلمة أهل الاصطلاح في تعريف القذف الموجب للحد على وجوه منها ما يلي:
تعريفه شرعا لدى المذاهب الأربعة
الحنفية: قال ابن الهمام (1) : (القذف في الشرع رمي بالزنى) . المالكية: قال الأزهري (2) : (القذف في الشرع: نسبة آدمي غيره حراً عفيفاً مسلماً بالغاً أو صغيرة تطيق الوطء لزني، أو قطع نسب مسلم) . الشافعية: قال الرملي (3) : (القذف الرمي بالزنى في معرض التعيير لا الشهادة) . الحنابلة: قال البهوتي (4) : (هو الرمي بزنى أو لواط، أو شهادة به عليه ولم تكتمل البينة) . مناقشة وترجيح: هذه التعاريف ليس في واحد منها ما يفيد الشمول لكلما يوجب حد القذف وأقربها تعريف المالكية، لكنه لا يخلو من طول، وتحديد مذهبي، والتعاريف
مواطن بحث القذف عند العلماء
مبناها على الاختصار، ولا دخل للشروط فيها. وعليه فإن التعريف الشامل هو أن يقال: (القذف: هو الرمي بوطء، أو نفي نسب، موجب للحد فيهما) . شرح التعريف: فالرمي بوطء، يشمل الرمي بزنا أو لواط. ويشمل أيضاً الشهادة به عند عدم اكتمال نصابها (أربعة شهود) (1) . أو نفي نسب: وهو قذف يوجب الحد عند الجميع. موجب للحد فيهما: إشارة إلى ما يجب توفره في القاذف كالعقل وفي المقذوف كالإحصان وهوْ (العفة) وفي لفظ القذف مثل لفظ (زاني) أو (لوطي) والله أعلم. تنبيه: في مواطن بحث القذف عند العلماء: يعقد علماء الشريعة في مدوناتهم الحديثية والفقهية: بابين لأحكام القذف. أحدهما: في أحكام قذف الزوج لزوجته ويعقدون له باباً باسم (باب اللعان) ومحله في أعقاب فرق النكاح (2) . الثاني: في أحكام حد القذفة غير الزوجين أو منهما إذا لم يتلاعنا. ويعقدون له باباً باسم (باب حد القذف) ويذكرونه في كتاب الحدود (3) .
إلا أن الشافعية رحمهم الله تعالى يذكرون جلّ أحكام (حد القذف) في أواخر باب اللعان (1) . ولهذا يقتضي الأمر بالتنبيه كما وقع مثل ذلك لابن هبيرة في الإفصاح (2) . وفي (كتاب الشهادات) (3) يذكر العلماء حكم شهادة القاذف إذا تاب. وكيفية توبته والله أعلم.
مباحِث ابن القيم في حدّ القذف وفي كل من هذه المواطن المتقدمة قريباً بحث ابن القيم رحمه الله تعالى جملة من المسائل ونحن هنا في تبيان آرائه في الحدود سوف نعيش معه إن شاء الله تعالى في مباحثه لأحكام (حد القذف) لا نتجاوزها سوى ذكر مبحثين لمناسبة لطيفة اقتضت ذكرهما وإلا فمحلهما (كتاب الشهادات) وهما: أ- حكم شهادة القاذف المحدود إذا تاب. ب- بم تكون توبة القاذف. والمناسبة المقتضية لهذا (مبحث عقوبة القاذف برد شهادته) واقتضى ذلك الحديث عن شهادته إذا تاب هل تقبل أم لا. ومن هنا اشتدت الحاجة إلى معرفة التوبة التي بها تقبل شهادته. وقد أجريت سياق بحوثه في ذلك على النسق الآتي: المبحث الأول: أول قذف في الإسلام: في قصة الإفك. المبحث الثاني: حكمة التشريع في حد القاذف بالزنا دون الكفر؟. المبحث الثالث: حكمة التشريع في حد قاذف الحر دون العبد. المبحث الرابع: في التعريض بالقذف. المبحث الخامس: في عقوبات القاذف. المبحث السادس: في توبة القاذف. وإلى الحديث عنها واحداً إثر واحد على هذا الترتيب.
المبحث الأول: في بيان أول قذف في الإسلام
المبحث الأول: في أول قذف في الإسلام، في قصة الإفك المراد بأول قذف في الإسلام ما كان بين غير الزوجين مما يوجب الحد. أما إذا كان بين الزوجين فيوجب اللعان وفي حديث أنس رضي الله عنه قال (أول لعان كان في الإسلام أن شريك ابن سحماء (1) قذفه هلال ابن أمية (2) بامرأته) (3) . وعليه: فقد اشتهر أول قذف في الإسلام بين غير الزوجين بقصة القذف الكاذب على عائشة رضي الله عنها. المشتهرة قصتها باسم (قصة الإفك) (4) . وأنزل الله فيها قرآناً يتلى من سورة النور تبرئة من الله للصديقة بنت الصديق وحبيبة رسول ربّ العالمين إذ قال تعالى (5) (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لم بل هو خير لم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) الآيات. وابن القيم رحمه الله تعالى في ظل سياقه لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم من كتابه (زاد المعاد) (6) يسوق الأحداث المتعلقة بالمغازي فلما عقد فصلاً في (غزوة المريسيع) (7) الشهيرة (بغزوة بني المصطلق) في شعبان سنة خمس من الهجرة ذكر (قصة الإفك) لأنها وقعت بعد القفول من هذه الغزوة.
ذكر قصة الإفك
قصة الإفك: لا يختلف علماء التفسير أن سبب نزول هذه الآيات هو ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة رضي الله عنها وقد ساقها البخاري رحمه الله تعالى في (صحيحه) (1) مطولة. وابن القيم رحمه الله تعالى ساق القصة مختصراً لمقاصدها فقال (3) : (ونحن نشير إلى قصة الإفك: وذلك أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها. وكانت تلك عادته مع نسائه فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها ففقدت عقداً لأختها كانت أعارتها إياه فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها: فجاء النفر الذي كانوا يرحلون هودجها (3) . فظنوها فيه فحملوا الهودج ولا ينكرون خفته، لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها. وأيضا فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته، ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين لم يخف عليهما الحال. فرجعت عائشة رضي الله عنها إلى منازلهم وقد أصابت العقد فإذا ليس بها داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها والله غالب على أمره يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء فغلبتها عيناها فنامت فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل (4) : إنا لله وإنا إليه راجعون. زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم.
بيان ابن القيم للحكم والغايات في هذه القصة
كما جاء عنه في صحيح أبي حاتم (1) وفي السنن فلما رآها عرفها وكان يراها قبل نزول الحجاب فاسترجع وأناخ راحلته فقربها إليها فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا استرجاعه ثم سار بها يقودها حتى قدم بها وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة. فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به. ووجد الخبيث عبد الله ابن أبي متنفساً فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه. فجعل يستحكي الإفك ويستوشيه ويشيعه ويذيعه ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه. فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم ثم استشار أصحابه في فراقها. فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها تلويحاً لا تصريحاً وأشار إليه أسامة وغيره بإمساكها وألا يلتفت إلى كلام الأعداء. وقد حبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً في شأنها ثم جاء الوحي ببراءتها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك فحدوا ثمانين ثمانين ولم يحد الخبيث عبد الله ابن أبي مع أنه رأس الإفك) (3) . الحكم والغايات المحمودة في هذه القصة (4) : وقد أشار ابن القيم رحمه الله تعالى في تضاعيف سياقه للقصة إلى جملة من الحكم
والأسرار التشريعية في هذه القصة: كاستشارته صلى الله عليه وسلم لعلي وأسامة رضي الله عنهما. وتوقفه صلى الله عليه وسلم في شأنها. وتأخر نزول الوحي ... الخ. واقتصر هنا على ما له تعلق بحد القذف وهو إيراده رحمه الله تعالى عدداً من الوجوه في الجواب عن السؤال الآتي: لم لم يحد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن أبي. فقال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (قيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة والخبيث ليس أهلاً لذلك وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة فيكفيه ذلك عن الحد. وقيل: بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه. وقيل: الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو البينة. وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه ولم يكن يذكروه بين المؤمنين. وقيل: حد القذف حق لآدمي لا يستوفي إلا بطلبه، وإن قيل إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف وعائشة لم تطالب به ابن أبي. وقيل: ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مراراً، وهي: تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام فإنه كان مطاعاً فيهم رئيساً عليهم فلم تؤمن إثارة الفتنة في حده. ولعله ترك لهذه الوجوه كلها. فجلد مسطح ابن أثاثة (2) وحمنة بنت جحش (3) ، وحسان بن ثابت (4)
تعقب ابن حجر لابن القيم في ابدائه حكمة الترك لحد ابن أبي
وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيراً لهم وتكفيراً. وترك عبد الله ابن أبي إذاً: فليس هو من أهل ذاك) . تعقب الحافظ ابن حجر لابن القيم: والحافظ ابن حجر يقف على هذه الوجوه من الحكمة التي أبداها ابن القيم في ترك حد عبد الله ابن أبي فيتعقبه بأن الرواية قد وردت بإقامة الحد على عبد الله ابن أبي فيقول (1) : (وأبدى صاحب (الهدى) (2) الحكمة في ترك الحد على عبد الله ابن أبي، وفاته أنه ورد ذكره أيضاً فيمن أقيم عليه الحد. ووقع ذلك في رواية أبي أويس (3) عن الحسن بن زيد (4) عن عبد الله ابن أبي بكر (5) أخرجه الحاكم (6) في (الإكليل) . وليت الحافظ رحمه الله ساق الإسناد بتمامه ليتم الكشف عن درجته. وعلى أي حال كان فإنا نستفيد من سياق ابن القيم هذا تلك الجامعية الفذة والقدرة العجيبة على استحضار هذه الوجوه المتعددة وإملائها من حفظه في خضم ذلك الكتاب الضخم الذي ألّفه في سفره والله أعلم.
المبحث الثاني: في حكمة التشريع في حد القاذف بالزنى دون الكفر
المبحث الثاني حكمة التشريع في حد القاذف بالزنى دون الكفر (1) . لابن القَيم في كتابه (أعلام الموقعين) (2) بحث مستفيض في الرد على نفاة القياس ونقض إيراداتهم وتقويض شبههم وفيه أورد سؤالهم المشهور: وهو قولهم إن الشريعة قد فرقت بين المتماثلين، وجمعت بين المختلفين وضربوا له عدداً من الأمثلة منها قولهم (3) : (وأوجب حد الفرية على من قذف غيره بالزنا دون من قذفه بالكفر وهو شر منه) . فأجاب ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذا السؤال مبيناً حكمة التشريع في ذلك فقال: (وأما إيجاب حد الفرية على من قذف غيره بالزنا دون الكفر ففي غاية المناسبة: فإن القاذف بالزنا لا سبيل للناس إلى العلم بكذبه فجعل حد الفرية تكذيباً له، وتبرئة لعرض المقذوف. وتعظيما لشأن هذه الفاحشة التي يجلد من رمي بها مسلماً. وأما من رمى غيره بالكفر فإن شاهد حال المسلم واطلاع المسلمين عليها كاف في تكذيبه، ولا يلحقه من العار بكذبه عليه في ذلك ما يلحقه بكذبه عليه في الرمي بالفاحشة. ولا سيما إن كان المقذوف امرأة، فإن العار والمعرة التي تلحقها بقذفه بين أهلها وتشعب ظنون الناس وكونهم بين مصدق ومكذب لا يلحق مثله بالرمي بالكفر) .
فمن هذا النص نرى ابن القيم رحمه الله تعالى يرد دعوى التفريق بين الحد بالرمي بالزنا دون الرمي بالكفر بإبراز حكمة التشريع في حد القذف ومدارها على: عدم القدرة من المقذوف بنفي ما رمى به من الزنا فجعل حد القذف تكذيباً للقاذف. وتبرئة للمقذوف. وتعظيما لشأن هذه الفاحشة التي تبهرج المجتمع. وتلطخه بالعار والمعرة. ولا سبيل للمقذوف ظلماً إلى نفي ما قذف به من الزنا إلا بمجرد التكذيب للقاذف، وهذا غير مقنع لنفوس البشر ولا يكون مذهباً لتشعب ظنونهم فجعل الله حد الفرية لكف هذه الآثام وحماية لمجتمع الإسلام من أن يزن بريبة أو يرمى بنقيصة. فتبقى أعراض المسلمين محترمة تحت ستر الله ورحمته، الألسنة عنها مقفلة والظنون عنها محجمة وبذلك يكون الإسلام قد حفظ للمسلمين ضرورة من ضروريات معاشهم وقيام مدنيتهم وذلك بحفظ أعراضهم وصيانتها فأوجب حد القذف ثمانين جلدة للقاذف الكاذب الجاني بكذبه الزمن، على حرمة الأعراض تقويضاً لمعنوياتهم وإدخالاً لعنصر الفساد في مصلحة تعايشهم قال الله تعالى (1) : (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) . ولهذا عظم الله سبحانه معصية القذف بعشر آيات متواليات من سورة النور تكذيباً لقصة الإفك (2) على عائشة رضي الله عنها فقال تعالى (3) : (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم. لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) الآيات. قال الحافظ بن حجر في (فتح الباري) (3) : (قال الزمخشري) (4) : لم يقع في القرآن من التغليظ من معصية ما وقع في معصية
الإفك بأوجز عبارة وأشنعها، لاشتماله على الوعيد الشديد والعتاب البليغ، والزجر العنيف واستعظام القول في ذلك واستشناعه بطرق مختلفة، وأساليب متنوعة، كل واحد منها كاف في بابه بل ما وقع منها من وعيد عبدة الأوثان إلا بما هو دون ذلك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير من هو منه بسبيل) . هذا طرف من حكمة التشريع الموجبة للتفريق بين الرمي بالزنى والرمي بالكفر بالحد بالأول دون الثاني. ونحن إذا وازنا بين اللفظين لا نجد تلك المعاني والأسرار التشريعية تتوفر في الرمي بالكفر وذلك للمعاني التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى ومدارها: على وجود القدرة من المرمى بالكفر بتكذيب ما رمى به من الكفر من وجود شاهد الحال بقيامه بشعائر الإسلام الظاهرة كالصلوات الخمس المفروضات ونحوها واطلاع المسلمين على ذلك وظنونهم غير متشعبة ولا مختلفة وهذا كاف في تكذيب قول القاذف وإظهار زيفه فالقاذف غيره بالكفر إذا كاذب والمقذوف بريء بطبيعة الحال، فلا حاجة إذاً إلى تقرير عقوبة مقدرة عليه لتكذيبه وإظهار براءة المقذوف بالكفر وهذا بخلاف المقذوف بالزنا فلا تبرز هذه المعاني إلا تقرير عقوبة مقدرة فكان ذلك بجلد القاذف المعتدي على أعراض المسلمين ثمانين جلدة مقرراً في دين الله وشرعه بنص واضح جلي محكم. على أن هذا لا يعفي قاذف غيره بالكفر من عقوبة تعزيرية فإن الشريعة أمسكت بلسان السليط ورمت به في مكان بعيد عن الفحش والبذاء والتطاول على قيم الناس ومعنوياتهم ومقومات حياتهم فطفحت نصوص الكتاب والسنة بصيانة هذا الثغر وحراسته من أن ينطق بفحش أو يفري في عرض (1) . ولهذا قرر العلماء في مدوناتهم الفقهية تعزير من قذف مسلماً بغير الزنا في (باب التعزير) (2) والله أعلم.
المبحث الثالث: في حكمة التشريع في حد قاذف الحر دون العبد
المبحث الثالث حكمة التشريع في حد قاذف الحر دون العبد (1) : وفي معرض رده أيضاً على من قال أن الشريعة قد جمعت بين المختلفين وفرقت بين المتماثلين قال في بيان حكمة التشريع في حد قاذف الحر دون قاذف العبد: (وأما جلد قاذف الحر دون العبد فتفريق لشرعه بين ما فرق الله بينهما بقدره: فما جعل الله سبحانه العبد كالحر من كل وجه لا قدراً ولا شرعاً. وقد ضرب الله سبحانه لعباده الأمثال التي أخبر فيها بالفارق بين الحر والعبد، وأنهم لا يرضون أن تساويهم عبيدهم في أرزاقهم. فالله سبحانه وتعالى فضل بعض خلقه على بعض، وفضل الأحرار على العبيد في الملك وأسبابه والقدرة على التصرف. وجعل العبد مملوكاً والحر مالكاً، ولا يستوي المالك والمملوك. وأما التسوية بينهما في أحكام الثواب والعقاب فذلك موجب العدل والإحسان، فإنه يوم الجزاء لا يبقى هناك عبد ولا حر ولا مالك ولا مملوك) . وابن القيم رحمه الله تعالى في إظهار محاسن التشريع في هذا التفريق يشترك مع غيره من المتقدمين في ذلك كالقرطبي ويشاركه غيره من المتأخرين كابن حجر ومن ذلك ما يلي: قول القرطبي المالكي: قال القرطبي رحمه الله تعالى في كتابه (الجامع لأحكام القرآن) (2) :
(أجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما. ولقوله عليه السلام (من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال) خرجه البخاري (1) ومسلم (2) وفي بعض طرقه: إن قذف عبده بزنى ثم لم يثبت أقيم عليه الحد يوم القيامة ثمانون) ذكره الدارقطني (3) . قال العلماء: وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى. ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة. واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم. وإنما لم يتكافأوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين في مكافأتهم لهم. فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة وتبطل فائدة التسخير حكمة من الحكيم العليم لا الله إلا هو) . قول الحافظ ابن حجر الشافعي: وقال الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري) (4) معللاً التفريق: (لأنه لو وجب على السيد أن يجلد في قذف عبده في الدنيا لذكره كما ذكره في الآخرة، وإنما خص ذلك في الآخرة تمييزاً للأحرار من المملوكين، فأما في الآخرة فإن ملكهم يزول عنهم ويتكافأون في الحدود ويقتص لكل منهم إلا أن يعفوا، ولا مفاضلة حينئذ إلا بالتقوى) . ونحن لو قارنا بين كلام هؤلاء الأئمة ابن القيم والقرطبي وابن حجر لوجدنا
مناقشة الخلاف بالتفريق وبيان الراجح من القولين
كلامهم يدور على التباين بين مرتبتي الحر والعبد. لكن ابن القيم أوسع في البيان والإيضاح والله أعلم. مناقشة الحكم بالتفريق: جواب ابن القيم هذا يعتبر أنه رحمه الله تعالى يرى التعزير ولكن هل هذا الحكم مسلم به أم هو محل خلاف؟. بتتبع كلام أهل العلم في هذه المسألة نجد أن فيها قولين لأهل العلم وهما على ما يلي: القول الأول: أنه لا حد على قاذف العبد في الدنيا وإنما عليه التعزير. وهذا ما تناقلته كتب المذاهب لا تكاد تختلف فيه (1) . أدلتهم: استدلوا بدليلين: 1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال) رواه البخاري ومسلم واللفظ له. ورواه أبو داود والترمذي (2) . وجه الاستدلال منه: أنه لو وجب على السيد حد في الدنيا إذا قذف عبده لذكره كما ذكره في الآخرة فلما لم يذكره دل على أنه لا حد عليه.
2- الإجماع: وقد حكى الإجماع على هذا الحكم بالتفريق غير واحد من أهل العلم منهم النووي (1) . والقرطبي (2) . وابن قدامة (3) والحافظ ابن حجر (4) . القول الثاني: أن الحر إذا قذف العبد أقيم عليه الحد. وهو قول الظاهرية وانتصر له ابن حزم في كتابه (المحلى) (5) . أدلتهم: يستدل لمذهبهم بما يلي: 1- عموم آية القذف وهي قوله تعالى (6) (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة الآية. وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى رتب حكم الذين يرمون المحصنات أي العفائف على الإحصان وهو العفة. وهذا يشمل الحر والعبد لأن (المحصنات) جمع معرّف بـ (أل) فيفيد العموم، كما أن لفظ (الذين) اسم موصول عام، فيشمل الذين يرمون الأحرار أو العبيد بناء على تفسير المحصنات بالعفائف. فيجب إذا حد قاذف العبد كقاذف الحر.
2- ما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن أميراً من الأمراء سأل ابن عمر عن رجل قذف أم ولد لرجل، قال: يضرب الحد صاغراً. رواه عبد الرزاق (1) . وابن حزم (2) من طريقه وسنده صحيح) . ففي هذا تصريح من ابن عمر لإقامة الحد على قاذف العبد. مناقشتهم لأدلة القول الأول: أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم (4) فلم أرَ من ناقشه من المخالفين. وقد ساقه ابن حزم في أدلة مخالفيه ولم يتعقبه بشيء. وأما الإجماع: فقد ناقشه الحافظان ابن حزم (5) وابن حجر (6) . بأن رأي ابن عمر والحسن البصري على خلافه فلا إجماع إذا فلا يسم الاستدلال به. تعقب هذه المناقشة: في الواقع أن استدلال ابن حزم بقول ابن عمر ومناقشته للإجماع به غير واردة، لأن رأي ابن عمر هو في (أم الولد) لا في مطلق الرقيق. كما أنه في قذف شخص أم ولد لشخص آخر وهنا تنتفي الملكية المانعة من الحد فلا يستلزم الحد هنا - لو سلم - وجوبه فيمن قذف مملوكه. وهذه مسألة مستقلة عن محل النص والإجماع ولهذا فإن العلماء يبحثون هذه المسألة في أعقاب المسألة الأولى (7) .
المبحث الرابع: التعريض بالقذف
والخلاف فيها قائم بين مدعي الإجماع أنفسهم في المسألة الأولى: وهي قذف العبد. وأما نقضه بأنه رأى الحسن على خلافه فالحسن البصري رحمه الله تعالى من التابعين فهو بعد انعقاد الإجماع فلا يكون ناقضاً له على أن ابن حجر ذكره رأياً له عرياً من الإسناد فلا بد من المطالبة به ليعلم ثبوته عنه من عدمه. ومن هذا يتضح أن الإجماع سالم من النواقض فيتم الاستدلال به والله أعلم. الراجح: والذي يظهر لي والله أعلم أنه لا حد على الحر إذا قذف العبد لوضوح دليله من السنة ونقل الإجماع على مقتضاها والله أعلم. المبحث الرابع: التعريض (1) بالقذف (2) يقرر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (أعلام الموقعين) قاعدة الشريعة المطردة وهي (أن العبرة في الشريعة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني) وفي معرض حديثه هذا ذكر مبحث المعاريض في الحدود والحقوق. وذكر نقلاً مستفيضاً عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقرر فيه أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم مضت فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق: على ما يظهرون والله تعالى يدين بالسرائر وضرب لهذا عدداً من الأمثلة، ذكر منها أن الشارع لم يعلق حكم القذف على التعريض بالقذف وقرر أنه لا يجب بذلك الحد.
أدلة الشافعي على نفي الحد بالتعريض ومناقشة ابن القيم لها
ثم أخذ ابن القيم رحمه الله تعالى في مناقشة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بذلك وبيّن أن محض السنة والقياس هو: الحد بالتعريض بالقذف. وبيان ذلك فما يلي: أدلة الإمام الشافعي: استدل الشافعي رحمه الله تعالى على نفي الحد بالتعريض بالقذف بما يلي: 1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (جاء أعرابي (1) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، أن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال هل لك من إبل قال نعم، قال ما لونها قال: حمر. قال فيها من أورق (2) . قال: نعم: قال: فأنى كان ذلك. قال: أراه عرق نزعه. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق) رواه البخاري (3) ومسلم (4) . وجه الاستدلال: قال الشافعي رحمه الله تعالى (الأغلب على من سمع الفزاري بقوله للنبي صلى الله عليه وسلم (إن امرأتي ولدت غلاماً أسود) وعرّض بالقذف أنه يريد القذف ثم لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن التعريض ظاهراً بالقذف. فلم بحكم النبي صلى الله عليه وسلم بحكم القذف) . يريد الشافعي رحمه الله تعالى: أنه لما كان قول الأعرابي الفزاري محتملاً لغير القذف لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه بحكم القذف فدل على أنه لا حد في التعريض بالقذف.
أدلة ابن القيم على الحد بالتعريض ومناقشة الشافعية لها
ووجه التعريض: أنه قال: (غلاماً أسود) أي وأنا أبيض فكيف يكون مني (1) . وهذا الاستدلال من الشافعي هو عمدة نفاة الحد بالتعريض بالقذف عند الحنفية والحنابلة (2) . مناقشة ابن القيم للشافعي: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (إن قول الأعرابي (إن امرأتي ولدت غلاماً أسود) فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحاً ولا كناية وإنما أخبره بالواقع مستفتياً عن حكم هذا الولد. أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه؟ فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرب له الحكم بالشبه الذي ذكره ليكون أذعن لقبوله وانشراح صدره له. ولا يقبله على إغماض فأين في هذا ما يبطل حد القذف ... ) . أدلة ابن القيم: استدل ابن القيم بعد ذلك على وجوب الحد بالتعريض بما يلي: 1- وجود المعرة بالتعريض بالقذف.: يذكر ابن القيم (أن من التعريض بالقذف ما هو أوجع وأنكى من التصريح وأبلغ في الأذى وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح مثل قول من يشاتم غيره (أما أنا فلست بزان وليست أمي بزانية) (4) . وهذا الاستدلال من ابن القيم مسطر لدى المالكية القائلين بوجوب الحد
بالتعريض بالقذف كما بسطه القرطبي في (تفسيره) (1) . 3- حد عمر رضي الله عنه لمن عرض بالقذف وموافقة الصحابة عليه رضي الله عنهم. قال رحمه الله تعالى (2) : (وقد حد عمر بالتعريض في القذف ووافقه الصحابة رضى الله عنهم. والأثر عن عمر رضي الله عنه بذلك رواه عبد الرزاق في (المصنف) بسنده (3) (أن رجلا في زمن عمر بن الخطاب قال: ما أمي بزانية ولا أبي بزان قال عمر: ماذا ترون، قالوا: رجل مدح نفسه، قال: بل انظروا فإن كان بالآخر بأس، فقد مدح نفسه، وإن لم يكن به بأس فلم قالها فوالله لأحدنه فحده) . رد الشافعي لدعوى الاتفاق: قال ابن القيم نقلاً عن الشافعي (4) : (فإن قال قائل: فإن عمر حد في التعريض قبل استشارة الصحابة فخالفه بعضهم، ومع من خالفه ما وصفنا من الدلالة) والدلالة يعني بها احتمال القذف وعدمه وهذه شبهة فلا حد. تعقب ابن القيم لمناقشة الشافعي: لكن ابن القيم رحمه الله تعالى لا يرتضي رد الشافعي هذا وبيّن أن القائل لم يخالف عمر فقال (5) :
(وأما قوله له- يعني الشافعي- رحمه الله تعالى (فإنه استشار الصحابة فخالفه بعضهم) فإنه يريد ما رواه مالك عن أبي الرجال (1) . عن أمه: عمرة بنت عبد الرحمن (2) . أن رجلين استبا في زمن عمر رضي الله عنه فقال أحدهما للآخر: والله ما أنا بزان ولا أمي بزانية فاستشار في ذلك عمر رضي الله عنه، فقال قائل: مدح أباه وأمه وقال آخرون: قد كان لأمه وأبيه مدح غير هذا، نرى أن تجلده الحد فجلده عمر الحد ثمانين) . وهذا لا يدل على أن القائل الأول خالف عمر، فإنه لما قيل له: إنه قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا فهم أنه أراد القذف فسكت، وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة) . ثم ذكر ابن القيم أنه قد صح عن عمر رضي الله عنه من وجوه أخر وعن جماعة من السلف على ما يلي: أ- أن هذا الحكم من عمر رضي الله عنه قد صح عنه من وجوه أخر. بين ابن القيم أن هذا الحكم صح عن عمر رضي الله عنه من عدة وجوه وهو يريد بهذا تقوية الاتفاق على استمرار عمر رضي الله عنه على (الحكم بذلك واستشهار ذلك فقال) (3) : وقد صح عن عمر رضي الله عنه من وجه أنه حد في التعريض فروى معمر (4) عن الزهري (5) عن سالم (6) عن أبيه (7) أن عمر كان يحد في التعريض بالفاحشة (8) .
وروى ابن جريج (1) عن ابن أبي مليكة (2) عن صفوان (3) وأيوب (4) عن عمر أنه حد في التعريض) (5) ب- أنه رأي عثمان رضي الله عنه. قال رحمه الله تعالى: (وذكر أبو عمر (6) أن عثمان كان يحد في التعريض، وذكره ابن أبي شيبة) (7) . ج- وهو رأي عمر ابن عبد العزيز رحمه الله تعالى (8) : قال ابن القيم رحمه الله تعالى (9) : (وكان عمر ابن عبد العزيز يرى الحد في التعريض (10) . د- قال ابن القيم رحمه الله تعالى (11) : (وهو قول أهل المدينة والأوزاعي) (12) .
ومن هنا نرى ابن القيم يسند رأيه بأنه مذهب جماعة من السلف منهم الخليفتان الراشدان عمر وعثمان رضي الله عنهما والإمام العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. والإمام الأوزاعي وهو قول أهل المدينة والله أعلم. 3- القياس: ثم إن ابن القيم رحمه الله تعالى يبين أن هذا الرأي وهو حد القاذف بالتعريض كما أنه قول جماعة من الصحابة والتابعين. فهو مؤيد بدلالة القياس عليه. فتطابق النقل والعقل وفي ذلك يقول: (وهو محض القياس، كما يقع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالصريح والكناية) . وهذا القياس نجده بعد النظر قياساً مستوفياً لأركانه وشرائطه على ما يلي: أولاً: ذكر المقيس وهو التعريض بالقذف. ثانياً: ذكر المقيس عليه: وهو الطلاق مثلاً بالكناية. ثالثاً: العلة: كون الكل ألفاظاً يمكن أن يفيد غير الصريح منها ما يفيده الصريح. رابعاً: الحكم: وهو ترتب ما رتب الشارع على كل من الحكم الشرعي: من وقوع الطلاق بالكناية مثلاً، ووجوب حد القذف بالتعريض. 4- دلالة الوضع اللغوي عليه: ومن وراء هذه الأدلة من الأثر والقياس يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن إيقاع حد القذف بالتعريض هو مقتضى لغة العرب فيقول (2) : (واللفظ إنما وضع
الخلاصة والترجيح. وفيه تحرير اختيار ابن القيم
لدلالته على المعنى، فإذا ظهر المعنى غاية الظهور لم يكن في تغيير اللفظ كثير فائدة) . الخلاصة والترجيح: من هذا العرض لما ذكره ابن القيم في مبحث حد المعرض بالقذف ومما لحقه مما يوجبه بيان ذلك المبحث يتبين ما يلي: أولاً: أن القول بنفي الحد هو مذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد. ثانياً: وأن القول بوجوب الحد في التعريض بالقذف هو مذهب مالك رحمه الله تعالى. وأن ابن القيم رحمه الله تعالى يرى وجوب الحد بالتعريض لكن يرد ههنا سؤال مهم؟. وهو هل يرى وجوب الحد بالتعريض بالقذف مطلقاً أم بالتعريض الذي يفهم منه معنى القذف معنى واضحاً للقرائن التي تحتف به؟. والذي يظهر بعد تأمل لكلام ابن القيم رحمه الله تعالى هو الثاني: أي أنه اختار وجوب الحد بالتعريض في القذف إذا قامت القرائن على تحديد القصد في ذلك وفهم ذلك من التعريض فهماً واضحاً لا لبس فيه وهذا هو ما يتمشى مع قاعدتي الشريعة التي يقررهما ابن القيم ويطيل في الاستدلال لها من (أن العبرة في الشريعة بالمقاصد والنيات) (1) . وقاعدة (درء الحد بالشبهات) فإذ احتفت القرائن مع أن المراد بالتعريض ذات القذف انتفت الشبهة وتحقق الحد. وإذا ضعفت القرائن قويت الشبهة وانتفى الحد.
المبحث الخامس: عقوبات القاذف
هذا هو ما ظهر لي أنه هو رأي ابن القيم في خصوص هذه القضية (وجوب الحد بالتعريض بالقذف) . وعلى أي كان رأي ابن القيم، فإن الذي يظهر لي في هذه القضية هو هذا. وهو ما قرره شيخنا أبو عبد الله محمد الأمين الجكني رحمه الله تعالى في كتابه (أضواء البيان) (1) فقال: (وأظهر القولين عندي أن التعريض إذا كان يفهم منه معنى القذف المسلم تتحقق بكل ما يفهم منه ذلك فهماً واضحاً. ولئلا يتذرع بعض الناس لقذف بعضهم بألفاظ التعريض التي يفهم منها القذف بالزنا. والظاهر أنه على قول من قال من أهل العلم: أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد أنه لا بد من تعزير المعرض بالقذف للأذى الذي صدر منه لصاحبه بالتعريض والعلم عند الله تعالى) . وبهذا تجتمع الأدلة ويلتئم شملها وعليه يحمل حديث أبي هريرة المتقدم في الفزاري الذي قال (إن امرأتي ولدت غلاماً أسود) على القول بأنه تعريض محتمل لم يقم بجانبه من القرائن ما يجعله يفهم منه بوضوح أنه قذف والله أعلم. المبحث الخامس: عقوبات القاذف (2) صان الله الأعراض عن جلب المعرة إليها وإلصاق الفواحش بها فمن تطاول على عرض مسلم يرميه بفاحشة الزنا أو ما يستلزم الزنا كنفي ولد المحصنة عن
العقوبة الأولى: جلد القاذف
أبيه (1) وعجز عن إثبات دعواه هذه. فإن الله تعالى أوجب عليه ثلاث عقوبات هي: الأولى: جلد القاذف ثمانين جلدة. الثانية: عدم قبول شهادته. الثالثة: الحكم عليه بأنه فاسق. وأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك نصاً قرآنياً صريحاً محكماً يتلى فقال تعالى (2) : (والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً. وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) . وابن القيم رحمه الله تعالى عرج في كتابيه (زاد المعاد) (3) و (أعلام الموقعين) (4) . على حكمي الجلد ورد الشهادة. وهما حكمان نصيان لا يفتقران إلى تفصيل. سوى الحكم في استمرار رد شهادة القاذف بعد توبته فقد ناقش هذه القضية بعقد مجلس للمناظرة بين المانعين والقابلين، ولكنه رحمه الله تعالى لم يفصح عن اختياره لأي من القولين؟. وسوف أظهر إن شاء الله تعالى السر في وقفه رحمه الله تعالى عن الاختيار والترجيح. وإلى القارئ البيان لذلك على ما يلي: العقوبة الأولى: جلد القاذف. من قواطع الأحكام في الإسلام أن العقوبة المقدرة للقاذف (ثمانون
العقوبة الثانية: الحكم بفسقه
جلدة) (1) . لآية القذف الآنفة الذكر. وابن القيم رحمه الله تعالى في ظل سياقه لموقف النبي صلى الله عليه وسلم من قصة الإفك (2) . وفي سياقه لأحكامه صلى الله عليه وسلم في الحدود (3) . يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد القذفة لعائشة رضي الله عنها: ثمانين ثمانين لكل واحد منهم كما تقدم والله أعلم. العقوبة الثانية: الحكم بفسق القاذف. جاء النص في الآية الكريمة على أن القاذف فاسق فهو كبيرة من الكبائر. وذلك لانطباق حد الكبيرة عليه كما حكاه الحافظ ابن حجر في (الفتح) إذ قال (4) : (في الآية بيان كونه من الكبائر بناء على أن كل ما توعد عليه باللعن أو العذاب أو شرع فيه حد فهو كبيرة وهو المعتمد) . العقوبة الثالثة: عدم قبول شهادته. في (أعلام الموقعين) (5) عند بيان ابن القيم رحمه الله تعالى لقول عمر رضي الله عنه (أو مجلوداً في حد) حرر الكلام عن شهادة القاذف من ثلاث جهات وهي على ما يلي: الأولى: عدم قبول شهادته بعد حده ما لم يتب. وهذا أمر متفق عليه فيقول (6) : (القاذف إذا حد للقذف لم تقبل شهادته بعد ذلك وهذا متفق عليه بين الأمة والقرآن نص فيه) .
الثانية: هل عدم قبول شهادة القاذف من تمام عقوبته أم لفسقه
أي لقوله تعالى (1) (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً الآية. الثانية: هل عدم قبول شهادة القاذف من تمام عقوبته أم لفسقه؟ أشار ابن القيم رحمه الله تعالى إلى هذا الحكم في معرض الحجاج بين- الطرفين المانعين والقابلين لشهادته بعد التوبة، ولم يقرر اختيار واحد منهما (2) . وسر الخلاف هو: هل الموجب لرد شهادة القاذف بعد الحد، هو نفس القذف. أم الموجب لرد شهادته: هو الفسق بالقذف؟. فمن قال: إن السبب الموجب لرد شهادته هو الفسق بالقذف، لم يجعل رد. شهادته من تمام عقوبة الحد. وهذا مذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد (3) . وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد بيان لهذا في أواخر: مبحث قبول شهادة القاذف بعد توبته (4) . الثالثة: في حكم قبول شهادته بعد توبته. ذكر ابن القيم في هذه قولين للعلماء وأدلى بحججهما ومناقشة كل منهما للآخر (5) . وتفصيل ذلك على ما يلى: القول الأول: وهو أنه لا تقبل شهادة المحدود في قذف ولو تاب وقد بيّن ابن القيم القائلين به فقال (6) :
(وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأهل العراق، وهو ثابت عن جماعة من السلف منهم مجاهد (1) . وعكرمة. والحسن (3) . ومسروق (3) . والشعبي (د) . في إحدى الروايتين عنهم وهو قول شريح (5) . أدلة هذا القول: ذكر ابن القيم حجة هذا القول من الكتاب والسنة ومناقشته المخالفين لهم فيها على التفصيل الآتي: 1- الدليل من الكتاب. استدل المانعون على المنع مطلقاً بموضعين من آية القذف هما (6) : 1- الاستثناء في الآية: قال الله تعالى (7) (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) الآية.
وجه الاستدلال: قال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً وجه الاستدلال لهم من الآية (1) : (احتج أرباب هذا القول بأن الله سبحانه أبد المنع من قبول شهادتهم بقوله (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) وحكم عليهم بالفسق ثم استثنى التائبين من الفاسقين. وبقي المنع من قبول الشهادة على إطلاقه وتأبيده) . وهذا الاستدلال راجع إلى مسألة أصولية مشهورة قررها الحنفية في مذهبهم (2) وهي: (أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات رجع الاستثناء للأخير فقط) . فاستثناء الذين تابوا في هذه الآية إنما يرجع إلى الجملة الأخيرة منها وهي قوله (وأولئك هم الفاسقون) فالتوبة تزيل وصف الفسق فقط ولا يعود الاستثناء إلى ما ذكر قبله من الجمل المتعاطفات وهي في هذه الآية جملتين: الحد- وعدم قبول شهادته. فلو تاب القاذف وصار من أصلح الناس فلا تقبل شهادته. ب- الاستدلال الثاني من الآية: وهو أن رد شهادة القاذف من الأحكام العقابية للقاذف فلا يسقط هذا العقاب بالتوبة كما أن الحد لا يسقط عنه بالتوبة. ويبسط ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الوجه من الاستدلال لهم فيقول (3) : (قالوا: ولأن المنع من قبول شهادته جعل من تمام عقوبته. ولهذا لا يترتب المنع إلا بعد الحد. فلو قذف ولم يحد لم ترد شهادته. ومعلوم أن الحد إنما زاده طهرة وخفف عنه إثم القذف أو رفعه. فهو بعد الحد خير منه قبله. ومع هذا فإنما
ترد شهادته بعد الحد. فردها من تمام عقوبته وحده. وما كان من الحدود ولوازمها فإنه لا يسقط بالتوبة. ولهذا لو تاب القاذف لم تمنع توبته إقامة الحد عليه فكذلك شهادته. وقال سعيد بن جبير: (1) (تقبل توبته فيما بينه وبين الله من العذاب العظيم. ولا تقبل شهادته) . وقال شريح (لا تجوز شهادته أبداً وتوبته فيما بينه وبين ربه) . وسر المسألة: أن رد شهادته جعل عقوبة لهذا الذنب، فلا يسقط بالتوبة كالحد) . ونستطيع أن نفهم من هذا الاستدلال تكونه من فصلين: الأول: أن رد شهادة القاذف ولو تاب عقوبة من تمام الحد. فلا تسقط هذه العقوبة بالتوبة. الثاني: قياس هذه العقوبة على عقوبة الحد: فكما أن الحد لا يسقط بالتوبة فكذلك تمامه وهو: عدم قبول شهادته. تعقب هذا الاستدلال في، فصله الأول: وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى تعقب الجمهور لذلك فقال (2) : (وأما قولكم (إن رد الشهادة من تمام الحد) فليس كذلك، فإن الحد تم باستيفاء عدد5 وسببه نفس القذف. وأما رد الشهادة فحكم آخر أوجبه الفسق بالقذف لا الحد. فالقذف أوجب حكمين: ثبوت الفسق وحصول الحد. وها متغايران) .
وعندي أن استدلال الحنفية هذا غير وارد أصلا فما سيق لأجله ذلك: لأنه لا نزاع بين الحنفية ومخالفيهم أن المحدود في قذف لا تقبل شهادته قبل أن يتوب. والخلاف في قبولها بعد توبته. فرد الشهادة إذا حكم ذو طرفين: الطرف الأول: الحكم برد شهادة القاذف قبل توبته وهذا حاصل عند الجميع بالإجماع وسواء قلنا أن موجبه القذف كما يقوله الحنفية. أو قلنا: موجبه الفسق بالقذف كما يقوله الجمهور. الطرف الثاني: الحكم برد شهادة القاذف إذا تاب وهو محل النزاع بين الحنفية والجمهور. هل يستمر الرد ولو تاب كما يقوله الحنفية. أم تقبل إذا تاب كما يقوله الجمهور. وهذه هي صورة النزاع التي من أجلها يورد كل من الطرفين لها الاستدلال. فتبين إذا أن الاستدلال المذكور من الحنفية غير وارد أصلاً في صورة النزاع إذ الخلاف في الغاية لا في أصل الحكم برد شهادة القاذف؟ فلمن ينصر مذهب الجمهور أن يتنزل على استدلال الحنفية فيقول: نوافقكم أن رد الشهادة من تمام الحد. لكنه رد معلق بالتوبة لا مؤبد والله أعلم. تعقب القياس في هذا الاستدلال: أما قياس الحنفية، عقوبة رد شهادة القاذف على عقوبته بالجلد فكما لا تسقط عقوبة الجلد بالتوبة فكذلك عقوبته برد الشهادة. فهذا القياس يرد عليه القادح بافتراق العلة فإن العلة في (الحد بالجلد) هي (القذف) ذاته فالقذف هو العلة الموجبة للحد. أما العلة في إيجاب (عدم قبول شهادته) فهي مترددة بين القذف أو الفسق بالقذف فلا يتم الاستدلال بهذا القياس إذا والله أعلم.
2- الدليل من السنة: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى استدلال الحنفية من السنة بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة. ولا محدود في الإسلام. ولا ذي غمر (1) على أخيه) . وذكر طرقه وألفاظه فقال (2) : (قالوا: وقد روى أبو جعفر الرازي (3) عن آدم ابن فائد (4) . عن عمرو بن شعيب (5) عن أبيه (6) ، عن جده (7) عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة. ولا محدود في الإسلام. ولا ذي غمر على أخيه) . وله طرق إلى عمرو. ورواه ابن ماجه (8) من طريق حجاج بن أرطاة (9) عن عمرو. ورواه البيهقي (10) من طريق المثنى بن الصباح (11) عن عمرو.
قالوا روى يزيد ابن أبي زياد (1) الدمشقي. عن الزهري. عن عروة (2) عن عائشة ترفعه (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود في حد، ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرب عليه شهادة زور. ولا ظنين (3) في ولاء أو قرابة) وروى عن سعيد ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً) (4) . تعقب هذا الدليل: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى تعقب الجمهور لهذا الدليل من جهتين هما: تعقبه من جهة إسناده: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (5) : (قالوا: وأما تلك الآثار التي رويتموها ففيها ضعف. فإن آدم ابن فائد غير معروف ورواته عن عمرو قسمان: ثقات، وضعفاء. فالثقات لم يذكر أحد منهم (أو مجلوداً في حد) . وإنما ذكره الضعفاء كالمثنى ابن الصباح، وآدم، والحجاج. وحديث عائشة فيه يزيد وهو ضعيف) . وهذا التعقيب مسلم به عند جماعة الحفاظ كابن حجر في (تلخيص الحبير) (6) والشوكاني في (نيل الأوطار) (7) ومن قبلهما الترمذي في (سننه) (8) . فإن أصل
الحديث قوي الإسناد كما ذكره بن حجر وغيره. لكن أسانيده بهذه الزيادة (أو مجلوداً في حد) ضعيفة لأن مدارها على من ذكر والله أعلم. ثم ذكر رحمه الله تعالى تعقب الجمهور له من حيث دلالته على فرض صحته فقال (1) : (ولو صحت الأحاديث لحملت على غير التائب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له) . وهذا أيضاً نقد مسلم والاتفاق عليه ذلك أن لفظ (أو مجلوداً في حد) يشمل أي حد من الحدود كالخمر والزنا والقذف ونحوها. لأنه نكرة في سياق النفي فيفيد العموم. والاتفاق جار على أن المحدود في خمر مثلا تقبل شهادته إذا تاب فكذا يقال في القاذف لاحتمال أن يكون الاستثناء في الآية مخصصاً لعموم الحديث بالنسبة له. وإذاً فلا يتم الاستدلال به على المنع من قبول شهادة القاذف ولو تاب والله أعلم. 3- أن هذا هو مقتضى حكمة الشرع في التغليظ بالزجر. قال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (قال المانعون: القذف متضمن للجناية على حق الله وحق الآدمي وهو من أوفى الجرائم فناسب تغليظ الزجر. ورد الشهادة من أقوى أسباب الزجر. لما فيه من إيلام القلب والنكاية في النفس إذ هو عزل لولاية لسانه الذي استطال به على عرض أخيه وإبطال لها) مناقشة الجمهور لهذا الاستدلال: ثم ذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى - مناقشة الجمهور لهذا ونقضه من وجوه فقال (3) :
(قال القابلون: تغليظ الزجر لا ضابط له، وقد حصلت مصلحة الزجر بالحد، وكذلك سائر الجرائم جعل الشارع مصلحة الزجر عليها بالحد (وإلا فلا تطلق نساؤه (1) ، ولا يؤخذ ماله، ولا يعزل عن مناصبه ولا تسقط روايته) لأنه أغلظ في الزجر، وقد أجمع المسلمون على قبول رواية أبي بكرة رضي الله عنه، وتغليظ الزجر من الأوصاف التي لا تنضبط، وقد حصل إيلام القلب والبدن والنكاية في النفس بالضرب الذي أخذه من ظهره. وأيضاً فإن رد الشهادة لا ينزجر به أكثر القاذفين، وإنما يتأثر بذلك وينزجر أعيان الناس وقلّ أن يوجد القذف من أحدهم، وإنما يوجد غالباً من الرّعاع والسقط ومن لا يبالي برد شهادته وقبولها. وأيضاً فكم من قاذف انقضى عمره وما أدى شهادة عند حاكم، ومصلحة الزجر إنما تكون بمنع النفوس ما هي محتاجة إليه وهو كثير الوقوع منها. ثم هذه المناسبة يعارضها ما هو أقوى منها: فإن رد الشهادة أبداً تلزم منه مفسدة فوات الحق على الغير وتعطيل الشهادة في محل الحاجة إليها، ولا يلزم مثل ذلك في القبول فإنه لا مفسدة فيه في حق الغير من عدل تائب قد أصلح ما بينه وبين الله، ولا ريب أن اعتبار مصلحة يلزم منها مفسدة أولى من اعتبار مصلحة يلزم منها عدة مفاسد في حق الشاهد وحق المشهود له وعليه، والشارع له تطلعٍ إلى حفظ الحقوق على مستحقيها بكل طريق وعدم إضاعتها، فكيف يبطل حقا قد شهد به عدل مرضي مقبول الشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دينه رواية وفتوى) . ونستطيع أن نلخص وجوه التعقب هذه فما يلي: 1- أن مصلحة الزجر متحصلة بالحد. وتغليظ الزجر وصف لا ينضبط فلا يعلق له حكم.
2- أن زجر القاذف برد شهادته لا يتحقق في كلّ أحد لتفاوت الناس. فهو غير مطرد في حق كل أحد. 3- أن قاعدة الشرع المطردة (رد المفاسد وتغليظها وجلب المصالح وتكثيرها) ، وما يترتب على رد شهادته أبداً من المفاسد، تغمر المصلحة في ذلك والله أعلم. هذا ما قرره ابن القيم من الاستدلال للحنفية ومناقشة الجمهور لهم. والذي يظهر بعد التأمل قبول الاستدلال ومناقشته في آن واحد على الوجه الآتي: وهو أن قول الحنفية أن رد شهادة القاذف من باب التغليظ بالزجر. يقال نعم هو كذلك لكن إلى غاية وهي: حصول توبته. وإذا كان التغليظ معيناً حصل انضباطه. وأيضاً فالقذف عادة إنما يحصل من الرّعاع لا من أعيان العباد وهم لا ينزجرون غالبا برد شهاداتهم، وإذا كانوا يمثلون الأكثرية من القاذفين فإن المقصود- والله أعلم- من رد الشهادة لا يحصل بالنسبة للأكثر والعبرة بهم. وما لم يتب فهو محكوم بفسقه ورد شهادته وأما إذا تاب فقد تجلت هذه الظلم والتوبة في الإسلام تجب ما قبلها من الذنوب كالإسلام بعد الشرك يجب ما قبله من الضلال والكفر. وحينئذ إذا قلنا باستمرار رد شهادته ولو بعد التوبة تنزلت هذه الوجوه من الرد التي ذكرها الجمهور في تعقبهم على الحنفية والله أعلم. 4- تنظير هذه العقوبة بقطع يد السارق: يقرر ابن القيم دليلهم على أن رد شهادة القاذف أبداً حتى لو تاب هو عقوبة في محل الجناية وهو لسانه، وهذا مثل عقوبة الشارع في قطع يد السارق فيقول في استدلالهم (1) :
(ثم هو عقوبة في محل الجناية، فإن حصلت بلسانه، فكان أولى بالعقوبة فيه وقد رأينا الشارع قد اعتبر هذا حيث قطع يد السارق فإنه حد مشروع في محل الجناية) . تعقب الجمهور لهذا الاستدلال: ثم يذكر ابن القيم تعقب الجمهور لذلك فيقول (1) : (وأما قولكم (إن العقوبة تكون في محل الجناية) فهذا غير لازم- كما في عقوبة الشارب والزاني، وقد جعل الله سبحانه عقوبة هذه الجريمة على جميع البدن دون اللسان، وإنما جعل عقوبة اللسان بسبب الفسق الذي هو محل التهمة، فإذا أزال الفسق بالتوبة فلا وجه للعقوبة بعدها) . والذي أقطع به أن هذا تنظير في مقابلة النص فإن الآية الكريمة نصت على أن عقوبة القاذف الحسية هي جلده ثمانين جلدة. والجلد للقاذف عقوبة في غير محل الجناية، إذ محلها اللسان بينما الجلد في الظهر. وأما رد شهادته فهي عقوبة معنوية أو بما يسمى في الاصطلاح الحادث (فقد اعتبار) فكيف يتم التنظير بقطع يد السارق فافترقا إذاً. ولابن القيم رحمه الله تعالى بحث مستفيض على اعتراض نفاة المعاني من قولهم أن الشارع جاء بالتفريق بين المتماثلين. ومن بينها إيرادهم هذا التنظير. وقد تعقبه ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (أعلام الموقعين) (2) . هذا هو القول الأول وما وسع ابن القيم من ذكر الأدلة له ومناقشتها. ولننتقل إلى ما ذكره عن القول الثاني وأدلته ومناقشتها.
القول الثاني: قبولها إذا تاب. مع ذكر أدلته ومناقشتها
القول الثاني: وهو قبول شهادة القاذف إذا تاب وقد بيّن ابن القيم القائلين به فقال (1) : (والثاني: تقبل، وهو قول الشافعي وأحمد ومالك) . أدلة هذا القول: ذكر ابن القيم أدلة هذا القول من الكتاب والسنة ومناقشة المانعين لهم فيها وبيانه على التفصيل الآتي: 1- الدليل من الكتاب. استدلوا على أن الاستثناء في آية القذف وهو قوله تعالى ( ... إلا الذين تابوا) (2) الآية عائد إلى الجملتين المتعاطفتين قبله في قوله تعالى (3) (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون) . ولا يعود على الجملة الأولى وهو قوله تعالى (فاجلدوهم ثمانين جلدة لإجماع المسلمين على أن حد القذف لا يسقط بالتوبة. وفي بيان استدلالهم يقول ابن القيم (4) : (قال الآخرون، واللفظ للشافعي: والثنيا في سياق الكلام على أول الكلام وآخره في جميع ما يذهب إليه أهل الفقه إلا أن يفرق بين ذلك خبر) ثم قال ابن القيم: (قالوا: والاستثناء عائد على جميع ما تقدمه سوى الحد، فإن المسلمين مجمعون على أنه لا يسقط عن القاذف بالتوبة. وقد قال أئمة اللغة: إن الاستثناء يرجع إلى ما
تقدم كله. قال أبو عبيدة في كتاب القضاء (وجماعة أهل الحجاز ومكة على قبول شهادته. وأما أهل العراق فيأخذون بالقول الأول أن لا تقبل أبداً، وكلا الفريقين إنما تأولوا القرآن فيما نرى والذين لا يقبلونها يذهبون إلى أن المعنى انقطع من عند قوله (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) ثم استأنف فقال (وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) فجعلوا الاستثناء من الفسق خاصة دون الشهادة. وأما الآخرون فتأولوا أن الكلام تبع بعضه بعضاً على نسق واحد فقال (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) فانتظم الاستثناء كل ما كان قبله. وقال أبو عبيد: وهذا عندي هو القول المعمول به، لأن من قال به أكثر وهو أصح في النظر ولا يكون القول بالشيء أكثر من الفعل، وليس يختلف المسلمون في الزاني المجلود أن شهادته مقبولة إذا تاب) . الاستثناء في هذه الآية بين الحنفية والجمهور: هذا هو مذهب الجمهور في الاستثناء في هذه الآية من أن الاستثناء عامل في الفسق ورد الشهادة والحنفية كما تقدم مذهبهم: أن الاستثناء في هذه الآية عامل في الفسق فقط. ومدار الخلاف في هذه الآية يرجع إلى خلاف الفريقين في قاعدة أصولية وهي: أن الاستثناء إذا جاء بعد جل متعاطفات فإنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصصه ببعضها وهذا هو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة (1) .
وعند الحنفية: عندما يقررون هذه القاعدة لا يقولون (إنه يرجع لجميعها) ولكن يقولون: يرجع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط (1) . ففي هذه الآية تقدم الاستثناء، ثلاث جمل متعاطفات هي: أ- (فاجلدوهم ثمانين جلدة) . ب- (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) . ج- (وأولئك هم الفاسقون) . وقد قرر غير واحد الإجماع على أن الاستثناء (إلا الذين تابوا) غير عامل في جلده في الجملة الأولى فالتوبة لا تسقط عن القاذف حد الجلد. كما قرروا أيضاً أنه بالإجماع: فإن الاستثناء عامل في فسقه في الجملة الثالثة. فالتوبة تزيل عن القاذف وصف الفسق. ومحل الخلاف في عمل الاستثناء في رد الشهادة؟: فأبو حنيفة لا يعمله فيه للقاعدة المذكورة عنده. والجمهور يعملونه طرداً للقاعدة المذكورة عندهم إذ لا يوجد دليل من نقل أو عقل يخصص عدم لحوق الاستثناء به. هذه هي خلاصة خلاف العلماء في الاستثناء بعد المتعاطفات. وقد استظهر شيخنا محمد الأمين (2) رحمه الله تعالى ما قرره العلامة القرطبي في (تفسيره) (3) وتتابع عليه جماعة من المتأخرين منهم: ابن الحاجب (4) من المالكية. والغزالي من
الشافعية (1) . والآمدي من الحنابلة (2) . من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف ولا يحكم برجوعه إلى الجميع ولا إلى الأخيرة إلا بدليل يدل عليه ولعل ابن القيم رحمه الله تعالى لم يصرح باختيار له في هذه المسألة لذلك والله أعلم. والذي يظهر لي والله أعلم أنه قد دلّ الدليل على رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) . أ- عمل الصحابة رضي الله عنهم. ب- محض القياس على قاعدة الشريعة المطردة في قبول شهادة كل تائب. ج- عموم قوله صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) . 2- الاستدلال من الأثر ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى استدلال الجمهور بقبول الصحابة رضي الله عنهم شهادة القاذف بعد توبته كما في قصة قذف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (3) فإن عمر رضي الله عنه قبل شهادة نافع (4) ، وشبل (5) لما تابا، ورد شهادة أبي بكرة (6) إذ
أبى أن يتوب (1) . وقد حكى ابن قدامة في (المغنى) (2) أن هذا محل إجماع من الصحابة رضي الله عنهم. 3- محض القياس على قاعدة الشريعة المطردة من قبول شهادة كل تائب: وفي هذا يوضح ابن القيم استدلالهم فيقول (3) : (قالوا وأعظم موانع الشهادة: الكفر، والسحر، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، والزنا، ولو تاب من هذه الأشياء قبلت اتفاقاً، فالتائب من القذف أولى بالقبول. قالوا وأين جناية قتله من قذفه. قالوا: ولا عهد لنا في الشريعة بذنب واحد أصلاً يتاب منه ويبقى أثره المترتب عليه من رد الشهادة، وهل هذا إلا خلاف المعهود منها وخلاف قوله صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) (4) . وعند هذا فيقال: توبته من القذف تنزله منزلة من لم يقذف فيجب قبول شهادته. أو كما قالوا. قالوا: ورد الشهادة بالقذف إنما هو مستند إلى العلة التي ذكرها الله عقيب هذا الحكم وهي الفسق، وقد ارتفع الفسق بالتوبة، وهو سبب الرد، فيجب ارتفاع ما ترتب عليه وهو المنع. وهذا القياس مستوف لأركانه المعتبرة على ما يلي:
فالمقيس عليه: مثلاً التائب من الزنا. والمقيس: التائب من القذف. والحكم: قبول شهادة التائب. والعلة: أي المعنى المشترك بينهما في رد الشهادة قبل التوبة هي: الفسق. تعقب الحنفية لهذا القياس: ذكر ابن القيم تعقب الحنفية لهذا القياس بأنه قياس مع الفارق ويكمن وجه الفرق في نفي وجود علة الأصل وهي: الفسق في الزنا مثلاً - في الفرع وهو القذف فإن علته تتمة الحد بسبب القذف لا الفسق به. فقال (1) : (قالوا: وأما التائب، من الزنا، والكفر، والقتل، فإنما قبلنا شهادته لأن ردها كانت نتيجة الفسق، وقد زال، فخلاف مسألتنا، فأنا قد بينا أن ردها من تتمة الحد، فافترقا) . رد الجمهور لهذا التعقيب: لكن الجمهور لا يرضون هذا القادح ويشير ابن القيم إلى ردهم له فيقول (1) : (وأما قولكم: إن رد الشهادة من تتمة الحد. فليس كذلك. فإن الحد تم باستيفاء عدده. وسببه نفس القذف. وأما رد الشهادة فحكم آخر أوجبه الفسق بالقذف، لا الحد. فالقذف أوجب حكمين: ثبوت الفسق، وحصول الحد، وهما متغايران) . والذي يظهر والله أعلم أن القادح الذي أورده الحنفية غير وارد. ولا منافاة بينه وبين ما ذهب إليه الجمهور بيان ذلك: أما أنه غير وارد: فإن الحنفية يلزمهم أن لا يرجعوا الاستثناء إلى (الفسق)
الخلاصة والترجيح. وبيان أن ابن القيم لم يصرح باختيار واحد من القولين
لأن الحكم بفسقه مسوق مساق الجملتين قبله: الجلد. ورد الشهادة. فهو من تتمة الحد إذاً. وهم لا يقولون بهذا وبالإجماع فإن التوبة تزيل وصف الفسق. ورد الشهادة أثر مترتب على فسقه بالقذف فإذا زال الوصف ارتفع ما ترتب عليه: وهو رد الشهادة. وهذا ألصق بأصول الشريعة وأجرى على قواعدها. من قبول توبة التائبين، ورجوع المذنبين. فإنه ما من محدود إلا ويحكم بفسقه لجرمه وما من تائب إلا ويحكم بارتفاع فسقه بتوبته ولا عهد للشريعة بذنب يتأبد عقابه ما عاش صاحبه. 4- قال ابن القيم في الاستدلال للجمهور (1) (قالوا الحد يدرء عنه عقوبة الآخرة. وهو طهرة له، فإن الحد طهرة لأهلها. فكيف تقبل شهادته إذا لم يتطهر بالحد، وترد أطهر ما يكون. فإنه بالحد والتوبة قد يطهر طهراً كاملاً) . الخلاصة والترجيح: هذا ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى من سياق الخلاف وأدلته ومناقشتها ولم يصرح رحمه الله تعالى باختيار أي من القولين. وقد تبين أن مدار الخلاف ومحل التجاذب بين القولين يعود إلى معرفة ما يعود إليه الاستثناء في الآية. وقد ظهرت عائديته إلى الفسق بالإجماع. وعدم عوده على الجلد بالإجماع ودلالة القرائن على عوده إلى (عدم قبول الشهادة) فتقبل إذا شهادة التائب من القاذف المحدود والله أعلم.- وبمناسبة تعلق القبول على التوبة من القاذف فإن الحاجة تشتد إلى معرفة كيفية توبة القاذف. وهذا ما يتضح في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى.
المبحث السادس: كيفية توبته
المبحث السادس: في توبته (1) اختلف العلماء في صورة توبة القاذف على قولين: أحدهما: أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه. وهذا قول جماعة من السلف منهم عمر رضي الله عنه وبه قال الشافعي (2) . وأحمد (3) . الثاني: أن توبته أن يصلح ويحسن حاله وحسبه الاستغفار وإن لم يكذب نفسه في ذلك. وهذا قول جماعة منهم مالك رحمه الله تعالى (4) وقد حكى ابن القيم رحمه الله تعالى القولين واختار القول الأول ودلّل عليه وبيّن ضعف القول الثاني. وفي ذلك يقول (5) : (الصحيح من القولين: أن توبة القاذف: إكذابه نفسه، لأنه ضد الذنب الذي ارتكبه وهتك به عرض المسلم المحصن، فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه، لينتفي عن المقذوف العار الذي ألحقه به بالقذف وهو مقصود التوبة. وأما من قال: إن توبته أن يقول (استغفر الله) من القذف، ويعترف بتحريمه، فقول ضعيف لأن هذا لا مصلحة فيه للمقذوف. ولا يحصل له به براءة عرضه مما
حكاية ابن القيم للخلاف واختياره أن توبته تكون باكذاب نفسه
قذفه به. فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب، فإن فيه حقان: حق الله: وهو تحريم القذف فتوبته منه باستغفاره، واعترافه بتحريم القذف. وندمه عليه وعزمه على أن لا يعود. وحق للعبد: وهو إلحاق العار به بتوبته منه: بتكذيبه نفسه. فالتوبة من هذا الذنب بمجموع الأمرين) . وهذا القول المختار لدى ابن القيم رحمه الله تعالى واضح الدليل قوى التعليل وقد اشتمل على القول الثاني: فإن القذف فيه حقان: حق لله تعالى. وحق لعبده. ولا يحصل التخلص منها إلا: بالاستغفار والندم والعزم ألا يعود وأن يكذب نفسه فيكون بهذا قد تاب بأداء الحقين حق الله تعالى وحق عبده. اعتراض وجوابه: أورد ابن القيم رحمه الله تعالى اعتراضاً على القول المختار وهو أن القاذف إذا كان صادقاً في قذفه لمعاينته الزنا فكيف يسوغ له أن يكذب نفسه ويكون ذلك من تمام توبته. فقال في الإيراد والجواب (1) : (فإن قيل إذا كان صادقاً قد عاين الزنا، فاْخبر به فكيف يسوغ له تكذيب نفسه وقذفها بالكذب، ويكون ذلك من تمام توبته؟. قيل: هذا هو الإشكال الذي قال صاحب هذا القول لأجله ما قال: أن توبته الاعتراف بتحريم القذف والاستغفار منه. وهو موضع يحتاج فيه إلى بيان الكذب الذي حكم الله به على القاذف وأخبر أنه كاذب عنده، ولو كان خبره مطابقاً للواقع (2) . فنقول:
الكذب، يراد به أمران. أحدهما: الخبر غير المطابق لخبره. وهو نوعان: كذب عمد. وكذب خطأ. وكذب العمد معروف. وكذب الخطأ مثل كذب: أبي السنابل بن بعلك (1) في فتواه للمتوفى عنها إذا وضعت حملها أنها لا تحل حتى يتم لها أربعة أشهر وعشراً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (كذب أبو السنابل) (2) . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (كذب من قالها) لمن قال (حبط عمل عامر حيث قتل نفسه خطأ) (3) . ومنه: قول عبادة بن الصامت رضي الله عنه (4) (كذب أبو محمد) حيث قال (الوتر واجب) (5) . فهذا كله من كذب الخطأ. ومعناه (أخطأ) قائل ذلك. والثاني من أقسام الكذب: الخبر الذي لا يجوز الإخبار به، وإن كان خبره مطابقاً لمخبره. كخبر القاذف المنفرد برؤية الزنا، والإخبار به فإنه كاذب في حكم الله وإن كان خبره مطابقاً لمخبره. ولهذا قال تعالى (6) (فإذ يأتوا بالشهداء.
الترجيح
فأولئك عند الله هم الكاذبون) فحكم الله في مثل هذا: أن يعاقب عقوبة المفتري الكاذب وإن كان خبره مطابقاً. وعلى هذا فلا تتحقق توبته حتى يعترف بأنه كاذب عند الله كما أخبر الله تعالى به عنه. فإذا لم يعترف بأنه كاذب وجعله الله كاذباً. فأي توبة له. وهل هذا إلا محض الإصرار والمجاهرة بمخالفة حكم الله الذي حكم به عليه) . الخلاصة والترجيح: من هذا السياق يتجلى أن ابن القيم رحمه الله تعالى قد وفى الحديث عن صورة توبة القاذف إذ ذكر الخلاف والتدليل واختار ما يسنده الدليل وفرض ما يرد عليه به اعتراض ورده بأحسن مسلك وأقوى بيان. وهذا المختار أرعى لحرمة حق الله وحق عباده والله أعلم.
باب حد الخمر
باب حد الخمر
توطئة
توطئة في تعريف (الخمر) في اللسانين، اللغة والشرع: لغة (1) : الخمر: تجمع على خمور. وهي مؤنثة في اللغة الفصيحة المشهورة وتذكر، لكن قيل على ضعف، وقيل: لا، بل هي فصيحة لكن التأنيث أكثر وأشهر. ولهذا قال (الفيروز آبادي) وقد تذكر (2) . وهي: تؤنث بالهاء، فيقال: خمرة، لكن هل هذا من الفصيح؟. الذي صححه النووي (2) ، أنها لغة فصيحة، وقيدها في (مقصد النبيه) (4) بقوله له (هي قليلة) . فنخلص من هذا أنه يقال: هذه أو هذا خمر. وهذه خمرة. والجمع خمور مثل تمرة وتمور. لماذا سمّيت الخمر خمراً: ذكر علماء اللغة في ذلك خلافاً على أقوال ثلاثة:
الأول: سميت خمرا لأنها تغطى حتى تدرك أي حتى تغلي. حكاه النووي (1) والقرطبي (2) ، والحافظ بن حجر (3) ، والرازي (4) ، وعزاه لابن الأعرابي (5) . الثاني: أنها لما كانت تستر العقل وتغطيه سميت بذلك. حكاه القرطبي (6) ، والحافظ بن حجر (7) ، والفيروز آبادي (8) ، والنووي (9) ، وعزاه للكسائي (10) الثالث: سميت خمراً لأنها تخامر العقل أي تخالطه. حكاه الفيروز آبادي (11) ، والقرطبي (12) ، وابن حجر (13) ، والنووي (14) ، وعزاه لابن الأنباري. وهذه المعاني الثلاثة يجدها الناظر متقاربة بل هي متشابكة لأن أصلها الستر فلا مانع إذا أن تكون سميت الخمر خمراً لهذه الأمور الثلاثة ولا منافاة وهذا هو ما جنح إليه جمع منهم العلامة القرطبي إذ قال (15) : (فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تركت، وخمرت حتى أدركت ثم خالطت العقل، ثم خمرته والأصل الستر) . ومنهم الحافظ بن حجر إذ قال بعد حكايته (16) :
حقيقتها لغة
(ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان) . قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في الخمرة، لأنها تركت حتى أدركت وسكنت فإذ شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه) . فهؤلاء ثلاثة من أعيان المحققين من أهل العلم وهم: ابن عبد البر، والقرطبي، وابن حجر، يرون أن الخمر إنما سميت خمراً لاجتماع هذه المعاني الثلاثة بها لأن الأصل في معناها الستر والتغطية. وقد ثبتت جميعها عن أهل اللسان العربي والله أعلم. حقيقتها في اللغة: عرفنا فيما سبق، تصريفها في اللغة (1) ، وسبب تسميتها بذلك (2) ، فما هي حقيقتها في لسان العرب أي مم تكون الخمر. أو ما هو حدها عند العرب. اختلف أهل المعرفة باللسان في ذلك على أربعة أقوال على ما يلي: الأول: العموم في حقيقتها وهو: أن كل ما أسكر فهو خمر. وهذا هو ما صححه جماعة المحققين منهم الراغب (2) ، والنووي (4) ، والفيروز آبادي (5) ، وابن حجر (6) . وقال: وهو لغير واحد من أهل اللغة. الثاني: كل مسكر اتخذ من العنب خاصة، حكاه الراغب (7) ، والفيروز آبادي (8) ، والنووي (9) ، وابن حجر (10) .
حقيقتها شرعا
الثالث: الخمر كل مسكر اتخذ من العنب والتمر. حكاه الراغب (1) ، وابن حجر (2) الرابع: هي كل ما أسكر من غير المطبوخ. حكاه الراغب (3) ، وابن حجر (4) . ولهذا الخلاف شواهد وأدلة لا سيما الأقوال الثلاثة الأول. وقد كشف عنها الحافظ بن حجر في الفتح (5) ، وابن الهمام في فتح القدير (6) ، عند بيانهما لحقيقتها الشرعية. ولولا الإطالة والخروج عن موضوع الرسالة لأتيت بذكر ذلك مع ما ذكره غيرهما. ولعل في بيان حقيقتها الشرعية هنا ما يجلى بعض ذلك وهو المبحث الآتي: حقيقتها الشرعية: اختلف العلماء في حقيقة (الخمر) الشرعية على قولين: الأول: للحنفية، فالخمر عندهم، ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد، بطبعه دون عمل النار (7) . الثاني: للجمهور منهم المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم من أهل الأثر قا لوا: الخمر كل ما أسكر سواء كان عصيراً أو نقيعاً من العنب أو غيره مطبوخاً أو غير مطبوخ وهذا هو ما انتصر له جماعة المحققين من أهل العلم منهم: النووي (8) ،
وابن حجر (1) ، والقرطبي (2) ، والفيروز آبادي (3) . قال النووي: واللغة تشهد لهذا (4) . وقال القرطبي (5) : (الأحاديث الواردة تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمراً ولا يتناوله اسم الخمر. وهو قول مخالف للغة العرب والسنّة الصحيحة والصحابة رضي الله عنهم. . لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر. ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه، ولم يتوقفوا ولم يستفصلوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب. وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن إلى أن قال: فصار القائل بالتفريق سالكا غير سبيلهم) إلخ.. فتبين من هذا أن الخمر من ماء عصير العنب إذا اشتد، حقيقة لغوية شرعية بالاتفاق فيطلق عليه اسم (الخمر) إطلاقاً حقيقياً إجماعاً. وأما من غيره فيطلق عليه اسم (الخمر) حقيقة لغوية شرعية على الأصح عند الجمهور من علماء اللغة والشريعة. ومن فوائد الخلاف أن من شرب من أي مسكر من العنب أو غيره أقيم عليه الحدّ سواء سكر منه الشارب أم لا وهذا على الأصح وهو مذهب الجمهور. وأما عند الحنفية فمن شرب من ماء عصير العنب المشتد حدّ سواء سكر منه أم لا لأنه هو (الخمر) حقيقة. وأما من شرب من خلافه فلا يحد إلا إن أسكر والله أعلم (6) .
موقف ابن القيم من حقيقتها
موقف ابن القيم من حقيقة الخمر (1) : أما ابن القيم رحمه الله تعالى فيرى أن بيان حقيقة الخمر شرعاً من المسائل التي طال فيها النزاع وكثر السؤال والجواب. وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جعل لها حداً أغنانا به عن هذا التعب والتطويل فقال صلى الله عليه وسلم "كل مسكر خمر" (2) . فهذا الحد يتناول كل فرد من أفراد المسكر. وقد سماه (خمراً) أفصح الأمة لساناً صلى الله عليه وسلم. وبيّن أن من خصّ الخمر بنوع خاص من المسكرات، فقد قصر فهمه، وهضم المعنى العام في الخمر- الشامل معناه لكل مسكر، وبالتالي ففي هذا جهل بحدود كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وهو من الغلط البيّن على دين الله وشرعه. وإن من نتائج هذا الرأي أنهم لما احتاجوا إلى تحريم كل مسكر سلكوا طريق القياس ونازعهم الآخرون. وكل هذا من نتائج قصور الفهم لحدود الحلال والحرام. وأرى من الأمانة لحفظ كلامه وسلامة وحدة الموضوع أن أذكر كلامه بنصه في تقرير هذه القاعدة مع ذكر المثال لها في معرفة حد الخمر من الوضع الشامل من كلامه وهذا نصه من (الأعلام) (3) : (من المعلوم أن الله سبحانه حد لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه. وذم من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله. والذي أنزله هو كلامه. فحدود ما أنزله الله هو الوقوف عند حدّ الاسم الذي علق عليه الحل والحرمة. فإنه هو المنزل على رسوله وحده بما وضع له لغة أو شرعاً. بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه. ولا يخرج منه شيء من موضوعه. ومن المعلوم أن حد البر لا يتناول الخردل. وحد التمر لا يدخل فيه البلوط. وحد الذهب لا يتناول القطن. ولا يختلف الناس أن حد الشيء ما يمنع دخول غيره فيه. ويمنع خروج بعضه منه. وإن أعلم الخلق بالدين
أعلمهم بحدود الأسماء التي علق بها الحل والحرمة. والأسماء التي لها حدود في كلام الله ورسوله ثلاثة أنواع: نوع له حد في اللغة: كالشمس والقمر والبر والبحر والليل والنهار. فمن حمل هذه الأسماء على غير مسماها أو خصها ببعضه أو أخرج منها بعضه فقد تعدى حدودها. ونوع له حد في الشرع: كالصلاة والصيام والحج والزكاة والإيمان والإسلام والتقوى ونظائرها فحكمها لتناولها في مسمياتها الشرعية كحكم النوع الأول في تناوله لمسماه اللغوي. ونوع له حد في العرف: لم يحده الله ورسوله بحد غير المتعارف. ولا حد له في اللغة كالسفر والمرض المبيح للترخص والسفه والجنون الموجب للحجر والشقاق الموجب لبعث الحكمين والنشوز المسوغ لهجر الزوجة وضربها والتراخي المسوغ لحل التجارة والضرار المحرم بين المسلمين. وأمثال ذلك. وهذا النوع في تناوله لسماه العرفي كالنوعين الآخرين في تناولها لمسماها. ومعرفة حدود هذه الأسماء ومراعاتها مغن عن القياس غير محوج إليه وإنما يحتاج إلى القياس من قصر في هذه الحدود، ولم يحط بها علماً. ولم يعطها حقها من الدلالة. مثاله: تقصير طائفة من الفقهاء في معرفة حد الخمر حيث خصوه بنوع خاص من المسكرات. فلما احتاجوا إلى تقرير تحريم كل مسكر سلكوا طريق القياس. وقاسوا ما عدا ذلك النوع في التحريم عليه. فنازعهم الآخرون في هذا القياس. وقالوا: لا يجري في الأسباب وطال النزاع بينهم. وكثر السؤال والجواب. وكل هذا من تقصيرهم في معرفة حد الخمر. فإن صاحب الشرع قد حده بحد يتناول كل فرد من أفراد السكر فقال (كل مسكر خمر) فأغنانا هذا الحد عن باب طويل عريض كثير التعب من القياس وأثبتنا التحريم بنصه لا بالرأي والقياس) . فنرى ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا يقرر مذهب الجمهور ويبيّن أنه هو عين ما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله (كل مسكر خمر) . ويشدد النكير على من
تعقب ابن القيم للكوفيين
خالفهم من الكوفيين أهل الرأي من الحنفية وغيرهم الذين يخصون اسم الخمر بماء عصير العنب المشتد خاصة. وهذا الحديث الذي يدور عليه كلام ابن القيم في شمول اسم الخمر لكل مسكر هو من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وغيره رواه أحمد (1) ، ومسلم (2) ، وأصحاب السنن (3) ، كلهم بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كل مسكر خمر) مطولاً ومختصراً. ولفظه عند مسلم: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة" (4) والله أعلم. رد ابن القيم على الكوفيين: ثم إن ابن القيم رحمه الله تعالى أنحى بالملام على الكوفيين حيث خصوا الخمر بنوع خاص من العنب وساق من النصوص ما يرد هذا الرأي ويبطله وبسط ذلك في كتابه (تهذيب سنن أبي داود) (5) على ما يلي: 1- وعن أنس رضي الله عنه قال (إن الخمر حرمت. والخمر يومئذ: البسر والتمر) رواه البخاري (6) ، ومسلم (7) .
2- وعن أنس أيضاً رضي الله عنه قال: (لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها الخمر. وما بالمدينة شراب يشرب إلا من التمر) . رواه مسلم (1) . 3- وعنه أيضاً قال: (حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد خمر الأعناب وعامة خمرنا البسر والتمر) رواه البخاري (2) . 4- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذٍ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب) رواه البخاري (3) ، ومسلم (4) . 5- وعن أنس رضى الله عنه قال: (كنت أسقي أبا عبيدة (5) وأبا طلحة (6) ، وأبي بن كعب (7) ، فضيخ (8) زهو وتمر فجاءهم آتٍ. فقال إن الخمرة حرمت فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها) ، رواه البخاري (9) ، ومسلم (10) . وجه الدلالة من هذه الأحاديث: ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى وجه الدلالة من هذه الأحاديث رداً على الذين خصوا الخمر بما كان من عصير العنب فقال (11) : (فهذه النصوص الصحيحة
الصريحة في دخول هذه الأشربة المتخذة من غير العنب في اسم الخمر في اللغة التي نزل بها القرآن. وخوطب بها الصحابة عن التكلف في إثبات تسميتها خمراً بالقياس مع كثرة النزاع فيه. فإذا قد ثبت تسميتها خمراً أيضاً. فتناول لفظ النصوص لها كتناوله لشراب العنب سواء تناولاً وحداً. فهذه طريقة منصوصة سهلة تريح من كلفة القياس في الاسم. والقياس في الحكم) . 6- دلالة القياس. ثم إن ابن القيم رحمه الله تعالى لم يكتفِ بسياق هذه النصوص من السنة المشرفة بل بين أن محض القياس الجلي يقتضي هذا فقال (1) : (ثم إن محض القياس الجلي يقتضي التسوية بينها. لأن تحريم قليل شراب العنب مجمع عليه وإن لم يسكر وهذا لأن النفوس لا تقتصر على الحد الذي لا يسكر منه وقليله يدعو إلى كثيره. وهذا المعنى بعينه في سائر الأشربة المسكرة. فالتفريق بينها في ذلك تفريق بين المتماثلات. وهو باطل. فلو لم يكن في المسألة إلا القياس لكان كافياً في التحريم. فكيف وفيها ما ذكرناه من النصوص التي لا مطعن فيها ولا اشتباه في معناها. بل هي صحيحة صريحة. وبالله التوفيق) . وهذا قياس جلي يفيد المطابقة التامة لصحيح المنقول وهو مستوفي لأركانه وشرائطه: فذكر المقيس وهو: قليل المسكر من غير العنب. وذكر المقيس عليه وهو: قليل شراب العنب وإن لم يسكر. وذكر العلّة الجامعة وهي: الإسكار. وذكر الحكم وهو: التحريم. وبيّن أنه من قياس الأولى: لأن المسكر من غير العنب أولى بالتحريم من قليل الخمر من العنب إذا لم يسكر. لأن الأول تحقق فيه الإسكار أما الثاني فهو مدعاة لأن يشرب منه ما يسكر فتكون العلّة إذا في المسكر من غير العنب أقوى في
الاعتبار من قليل الخمر من العنب الذي لا يسكر والله أعلم. ولا شك أن ما اختاره ابن القيم وانتصر له هو الذي يؤيده النص الصحيح. والعقل الصريح والنظر الرجيح. وإن قول الكوفيين هذا من غرائب الآراء وأشدها بعداً عن هدي الشريعة ودلها وهو يفتح باب إفساد العقول. لهذا اشتد النكير من أهل العلم عليهم وقابلوه بالرفض والنقض. ومن هؤلاء العلماء الذين نقدوا هذه المقالة وكشفوا عنها. القرطبي رحمه الله تعالى في (تفسيره) (1) ، وقد أطال فيها المقال وذكر كلاماً حسناً لأحد شيوخه فقال (2) : (قال شيخنا الفقيه الإمام أبو العباس أحمد (3) رضي الله عنه: العجب من المخالفين في هذه المسألة فإنهم قالوا: إن القليل من الخمر المعتصر من العنب حرامٍ ككثيره. وهو مجمع عليه. فإذا قيل لهم: فلم حرم القليل من الخمر وليس مذهبا للعقل؟ فلا بد أن يقال: لأنه داعية إلى الكثير، أو للتعبد، فحينئذٍ يقال لهم: كلّ ما قدرتموه في قليل الخمر هو بعينه موجود في قليل النبيذ فيحرم أيضاً. إذ لا فارق بينهما إلا مجرد الاسم إذا سلم ذلك. وهذا القياس هو أرفع أنواع القياس. لأن الفرع فيه مساوٍ للأصل في جميع أوصافه ... ثم العجب من أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله فإنهم يتوغلون في القياس ويرجحونه على أخبار الآحاد. ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجلي المعضود بالكتاب والسنّة والإجماع من صدور الأمة.
مباحث حد الخمر عند ابن القيم رحمه الله تعالى وفي ضوء هذا البيان من ابن القيم رحمه الله تعالى لحقيقة الخمر كشف عن عدة مباحث في الخمر وحد شاربها على النحو الآتي: المبحث اَلأول: السكر، حقيقته وأسبابه. المبحث الثاني: حكمة التشريع في الخمر. المبحث الثالث: في سد الذرائع الموصلة إلى الخمر. المبحث الرابع: في عقوبة شارب الخمر. المبحث الخامس: إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة. وبيان كلّ مبحث منها على ما يلي:
المبحث الأول: حقيقة السكر وأسبابه
المبحث الأول حقيقة السكر (1) ، وأسبابه (2) : عرفنا اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى في حد الحمر وهو: أنها لكل مسكر (2) . وعرفنا أيضاً في أثناء ذلك البحث أن عقوبة شارب الخمر تتعلق بمجرد شرب الخمر من كلّ مسكر سواء سكر منه أم لا. هذا في قول الجمهور وهو الصحيح كما تقدم. لكن للسكران أحكام أخرى في التصرفات قولية كانت أو فعلية من بيع وطلاق وأيمان وعتاق، وجناية ونحو ذلك على خلاف بين أهل العلم هل يكون السكران زائل التكليف في جميعها أم في بعضها دون الآخر؟. فما هي إذا حقيقة السكر التي تترتب عليها أحكام السكران التكليفية كلها سوى إقامة الحد؟. حقيقة السكر بين الفقهاء وابن القيم: يبيّن الفقهاء رحمهم الله تعالى حقيقة (السكر) في دائرة المترتب من الشرب: فعند الحنفية: السكر من الشرب هو: الذي يجعل صاحبه لا يعلم الأرض من السماء (4) .
وعند المالكية: هو الذي يغيب العقل دون الحواس مع نشوة وطرب (1) . وعند الشافعية: هو الذي به: يختلط كلامه المنظوم، ويفشى سره المكتوم (2) . وعند الحنابلة: هو الذي يجعل صاحبه يخلط في كلامه ولا يعرف ثوبه من ثوب غيره (3) . هذه حقيقته عند فقهاء المذاهب المشهورة وهي كما يرى الناظر تعود إلى معنى واحد: فقدان العقل المميز. أما ابن القيم رحمه الله تعالى فتراه يبين لنا حقيقة السكر في دائرة أعم وأشمل من سكر الشراب، لأن التخليط في التصرفات وعدم التمييز لا يكون من الشراب فحسب بل يكون من الشراب وغيره من الأسباب التي تجعل حال صاحبها كحال الشارب فيقول في بيان حقيقة السكر مبيناً الدليل (4) : (السكر لذة ونشوة يغيب معها العقل الذي يحصل به التمييز فلا يعلم صاحبه ما يقول: قال الله تعالى (5) : (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون! فجعل الغاية التي يزول بها حكم السكر أن يعلم ما يقول، فإذا علم ما يقول خرج عن حد السكر) . فعرف: السكر، ثم ذكر الدليل. ثم بيّن وجه الاستدلال. وهو بهذا التعريف يكسب السعة والشمول لحقيقة السكر من الشرب وغيره. فلم يعتبر حقيقة السكران عن شرب بل هو بعض أفراد المسكر وهذا المعنى
أسباب السكر
العام لحقيقة السكر شرعاً يتواطأ مع معناه اللغوي فإن السكران في اللغة هو: خلاف الصاحي (1) ، وخلاف الصاحي من في عقله ضرب من الخلط وعجز عن التمييز وهذا يتولد من عدة أسباب، ومن خص السكر بما تولد من الشراب فقد قصر معناه على بعض أفراده. أسباب السكر: لهذا نراه يبين أسباب السكر فيقول (2) : (وقد يكون سبب السكر غير تناول المسكر: إما ألم شديد يغيب به العقل حتى يكون كالسكران. وقد يكون سببه مخوف عظيم هجم عليه وهلة واحدة حتى يغيب عقل من هجم عليه، ومن هذا قوله تعالى (3) : (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) . فهم سكارى من الدهش والخوف وليسوا بسكارى من الشراب) . ثم أخذ في بيان جملة من أسباب السكر سوى سكر الشراب مثل: سكر الفرح، وسكر الغضب (4) ، وسكر الحرص، وسكر السماع الشيطاني، وسكر عشق الصور، وغيرها من أسباب السكر باسطاً لها أشد البسط (5) . وبهذا نستفيد ما كان عليه ابن القيم رحمه الله تعالى من سعة الأفق وفقه النفس وربطه بين أجزاء الحياة وشتات المعلومات. ونلمس منه أيضاً روحاً شفافة كسر بها الجمود الاصطلاحي وفتح بها آفاقاً علمية تصقل النفوس وتربى الملكات والله أعلم.
المبحث الثاني: حكمة التشريع في الخمر، وبيانها من ناحيتين
المبحث الثاني حكمة التشريع في الخمر أبان ابن القيم رحمه الله تعالى عن حكمة التشريع في الخمر من ناحيتين: الأولى: حكمة الشرع في تحريم الخمر. الثانية: الحكمة في عقوبة شارب الخمر بالجلد. والكلام عنهما فيما يلي: الأولى: حكمة الشرع في تحريم الخمر (1) لم تحظَ هذه المسألة بكلام مفرد من الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى. وإنما تكلم عليها بمناسبات اقتضت ذكرها. لكن يؤخذ من كلامه في هذه المناسبات مجامع القول من حكمة الشارع في تحريم الخمر على وجه البيان لقول الله تعالى (2) : (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) . ونستطيع أن نستخلص كلامه في حكمة الشرع في تحريم الخمر في النقاط الآتية: أ- آية تحريم (3) الخمر فيها بيان حكمة التحريم.
يقول ابن القيم مشيراً إلى الآية المذكورة (1) : (حرم الله سبحانه السكر لشيئين: ذكرهما في كتابه. وهما إيقاع العداوة، والبغضاء بين المسلمين والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة. وذلك يتضمن حصول المفسدة الناشئة من النفوس بواسطة زوال العقل. وانتفاء المصلحة التي لا تتم إلا بالعقل، وإيقاع العداوة من الأول والصدّ عن ذكر الله من الثاني) . فهو بيّن أن المفاسد إنما تنشأ من زوال العقل والمصالح لا تتم إلا بالعقل. والسكران قد جنى على عقله بالإفساد. ولهذا صان الله العقول عن الإفساد بتحريم الخمر، وصار هذا من ضروريات دين الإسلام وأحكامه التشريعية. دفعاً لما يترتب على فساد العقل وزواله في المفاسد وانتفاء المصالح. وفي هذا يقول ابن القيم أيضاً (2) : (إن الله تعالى حرم الحمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل- وهذا ليس مما نحن فيه) (3) . ومن هذه المفاسد التي تترتب على زوال العقل بالسكر أنها تأخذ بالإنسان إلى المواطن التي توقع في الندم والأسف. من روح تزهق أو عرض يهتك. أو مال يضاع إلى غير ذلك من المفاسد ومواطن الهلكة (4) التي أبان الله عن مفاسدها في الآية المتقدمة. ب- التحريم لكافة المحرمات على هذه الأمة هو: تحريم حفظ وصيانة لا تحريم عقوبة. وتحريم الخمر صيانة للعقول وحفظ لها.
هذه من طرائف العلم التي شحن بها ابن القيم كتابه (مفتاح دار السعادة) فقال ما ملخصه (1) : (قال الله تعالى (2) : (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) ... قد أخبر تعالى أنه حرم عليهم طيبات كانت حلالاً عقوبة لهم فهذا تحريم عقوبة بخلاف التحريم على هذه الأمة فإنه تحريم صيانة وحماية) . وهذه النقطة مرتبطة بالتي قبلها ومشتبكة معها اشتباك الروح بالهيكل فإن ما جاء في النقطة الأولى هو من آثار فساد العقل وزواله بالخمر ولهذا جاء الشرع بتحريم الخمر صيانة للعقول وحفظاً لها ودفعاً للمفاسد التي تحصل من شرب الخمر لزوال العقل بها والله أعلم. وماذا بعد إذا كانت الخمر جناية على العقل. العقل الذي شرّف الله بني الإنسان وميزه به عن سائر الحيوان. ومن أجله صار محط رسالاته. وابتلائه واختياره وإنه لخرق متناهٍ أن يجني المرء على عقله بطوعه واختياره ليغيب عن رشده ويفقد إدراكه ووعيه ويتخلى عن كلّ فضل وفضيلة. منهكاً أشرف قواه وأ جلها: العقل. ويطيب لي هنا أن أسوق كلاماً نفيساً لإمامنا ابن القيم في بيان منزلة العقل من الإنسان فقال (3) : (العقل الذي به عمارة الدارين، وهو الذي أرشد إلى طاعة الرسل، وسلم القلب والجوارح ونفسه إليه، وانقاد لحكمه، وعزل نفسه وسلم الأمر إلى أهله، لكفي به شرفاً وفضلاً. وقد مدح الله سبحانه العقل وأهله في كتابه في مواضع كثيرة منه. وذم من لا عقل له وأخبر أنهم أهل النار، الذين لا سمع لهم ولا عقل. فهو آلة كل
عم وميزانه الذي به يعرف صحيحه من سقيمه وراجحه من مرجوحه، والمرآة التي يعرف بها الحسن والقبيح. وقد قيل: العقل ملك والبدن روحه. وحواسه وحركاته كلها رعية له فإذا ضعف عن القيام عليها وتعهدها وصل الخلل إليها كلها. ولهذا قيل من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خصال الشر عليه ... ) . ج- قاعدة الشريعة المطردة تحرم كل خبيث وضار، والخمر أم الخبائث، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الخمر أم الخبائث) (1) ، وهي ضارة لقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الخمر يجعلها في الدواء (إنها داء وليست بدواء) (2) . ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض بحثه التداوي بالمحرمات هذه القاعدة في التحريم ثم ضرب المثال بالخمر فقال (2) : (وليفرض الكلام في أم الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاء قط: فإنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطباء وكثير من الفقهاء والمتكلمين، قال أبقراط (4) في أثناء كلامه في الأمراض الحادة (ضرر الخمرة بالرأس شديد لأنه يسرع الارتفاع إليه ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن. وهو كذلك يضر بالذهن)) . وهذا الذي قرره ابن القيم من أن الخمر مضرة بالدماغ هو محل إجماع رجال الطب. كما ذكره الأستاذ إسماعيل الخطيب في كتابه (المسكرات بين الشرائع والقوانين) فيقول (5) :
تنبيه مهم في أن مركز العقل القلب. ونفى الابهام في كلام ابن القيم
(يجمع رجال الطب على أن مضار الخمر متعددة فتعاطى أقل مقدار من المسكرات لا بد أن يؤثر تأثيراً ضاراً على المخ. ويؤثر بصفة خاصة على مراكزه المهمة كالذاكرة والحافظة) . تنبيه مهم: قول ابن القيم الآنف الذكر في الخمر (إنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطباء وكثير من الفقهاء والمتكلمين) لا ينبغي أن يفهم القارئ من كلام ابن القيم هذا أن مقر العقل هو (الدماغ) فإن هذا خطأ صرف مناقض لنصوص الكتاب والسنة. وقد ذكر ابن القيم الخلاف في هذه القضية في كتابه (مفتاح دار السعادة) على ثلاثة أقوال (1) : الأول: أن مركز العقل القلب. وهو قول عامة أهل العلم. الثاني: أن مركزه الدماغ في الرأس. وهو قول الفلاسفة والطبائعيين. الثالث: وهو اختيار ابن القيم: التوسط بين القولين وهو أن مركزه القلب وفروعه في الرأس. وسلامته مربوطة بسلامة الدماغ فإذا اختلت خانة من خانات الدماغ اختل العقل الذي في القلب. وعلى أن مقره القلب دل القرآن كما في قوله تعالى (3) (أفلم- يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) وإسناد العقل والفهم إلى القلوب يدل على أن القلب هو مركز العقل ومقره. وقال تعالى (3) (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) ولم يرد بالقلب هنا مضغة اللحم المشتركة بين الحيوانات لأن الذكرى التي تتأتى بالفهم لا تحصل بها. بل المراد ما فيه من العقل واللب. وفي حديث النعمان بن بشير (4) رضي الله عنه- الطويل (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد
الثانية: الحكمة في عقوبة الشارب بالجلد
كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب) رواه البخاري وغيره (1) . الثانية: الحكمة في عقوبة شارب الخمر بالجلد: المتتبعون لمحاسن الشريعة وأسرار التشريع يبدون الحكمة في عقوبة شارب الخمر. من أنها عملية تطهيرية للمحدود وردع له ولغيره أيضا (2) : هذه مجامع الحكمة في عقوبة شارب الخمر. لكن ابن القيم وهو في معرض الرد على نفاة المعاني والقياس والحكم والتعليل الذين يقولون إن الشرع فرق بين المتماثلين وجمع بين المختلفين، أشار إلى حكمة جعل الجلد عقوبة لشارب الخمر وأنه لم يبلغ بالعقوبة في الخمر إلى جعلها حداً بالقتل أو إبانة الطرف وإنما شرع فيها ما يقابل درجتها في الضرر ورتبتها في الإفساد وهو: الجلد. وهذا، موجب أسمائه وصفاته من حكمته وعدله ورحمته ولطفه وإحسانه (3) . فقال (4) : (وأما الجلد فجعله عقوبة الجناية على الأعراض، وعلى العقول، والأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغاً يوجب القتل ولا إبانة الطرف ... إلى أن قال: وأما الجناية على العقول بالسكر فكانت مفسدتها لا تتعدى السكران غالباً، ولهذا لم يحرم السكر في أول الإسلام كما حرمت الفواحش والظلم والعدوان في كلّ ملة وعلى لسان كلّ نبي ... ) .
المبحث الثالث، من الذرائع الموصلة إلى الخمر. وهو ستة
المبحث الثالث في ليد الذرائع الموصلة إلى الخمر (1) . في مباحث ابن القيم رحمه الله تعالى لسد الذرائع ذكر وجوهاً مما حرم في الشريعة سداً للذريعة ومنها عدة وجوه مما حرم سداً لذريعة الوصول إلى الخمر وهي كالآتي: 1- تحريم القطرة من الخمر. 2- النهي عن التخليل. 3- النهي عن الانتباذ فوق ثلاث. 4- النهي عن العصير بعد ثلاث. 5- النهي عن الخليطين. 6- النهي عن الانتباذ في بعض الأوعية. وابن القيم رحمه الله تعالى إضافة إلى بيانه لدلالة هذه الوجوه على سد الذريعة إلى الخمرة، بيّن مواقف العلماء واختلافهم في هذه المناهي. وإيضاح هذه الذرائع مع ما لحقه خلاف منها على ما يلي: أولاً: تحريم القطرة من الخمر: قال (2) : (حرم الشارع القطرة من الخمر، وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير، لكونها ذريعة إلى شرب كثيرها) .
وقال أيضاً (1) : (وحرم القطرة الواحدة منها - أي من الخمر- لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة) (2) . ودليل ابن القيم في هذا واضح وهو عموم الأدلة في تحريم الخمر من الكتاب والسنة كما تقدم (3) . بل جاء في خصوص ذلك أحاديث منها: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) رواه النسائي وغيره (4) . وفي رواية للترمذي (5) من حديث عائشة (6) رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر الفرق (7) منه فالحسوة منه حرام) . فالقطرة والحسوة يصدق على كل منهما اسم القليل. فتحريم القطرة إذا ثابت بالنص من الشارع والله أعلم. اعتراض ورده: ولابن القيم في سد الذريعة بتحريم القطرة من الخمر. مواقف مع نفاة المعاني في القياس والحكم والتعليل إذ قالوا: كيف أوجب الشارع الحد في القطرة الواحدة من الخمر دون الأرطال الكثيرة من البول؟.
2- النهي عن امساكها للتخليل
أورد ابن القيم هذا التساؤل من النفاة في كتابيه (أعلام الموقعين) (1) و (بدائع الفوائد) (2) وانفصل عنه بالجواب: بأن هذا من كمال الشريعة ومراعاتها لصالح العباد لأن الشارع ينظر إلى المحرم ومفسدته. وينظر إلى وازعه وداعيه. فيركب العقوبة على صاحب المفسدة وإن كان في ذلك المحرم ما يمنع بطبعه بني آدم اكتفى بذلك ولم يرتب عليه حداً كشرب البول والدم والقيء وأكل القذرة لأن ترتيب الحد للزجر وطباع الناس تنفر منها فلا تكثر مواقعتها فلا يترتب إذاً الزجر بالحد. وفي هذا يقول في أعلام الموقعين جواباً على ذلك الإيراد (2) : (فهذا أيضاً من كمال الشريعة. ومطابقتها للعقول والفطر وقياسها بالصالح. فإن ما جعل الله في طباع الخلق النفرة منه، ومجانبته اكتفى بذلك عن الوازع عنه بالحد، لأن الوازع الطبيعي كافي في المنع منه. وأما ما يشتد تقاضي الطباع له فإنه غلظ العقوبة عليه بحسب شدة تقاضي الطبع له. وسد الذريعة إليه من قرب وبعد. وجعل ما حوله حمى، ومنع من قربانه ... ) . ثانياً: النهي عن إمساكها للتخليل (4) : عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر، تتخذ خلاًّ، فقال صلى الله عليه وسلم: لا. رواه مسلم (5) . علة النهي: وقد بيّن ابن القيم رحمه الله تعالى علة هذا النهي من الشارع فقال (6) : (لئلا
تفضي مقاربتها بوجه من الوجوه إلى إمساكها لشربها) . وجه الاستدلال: هذا الحديث نص في حرمة إمساك الخمر للتخليل، إذ النفي في هذا الحديث بمعنى النهي فهو خبر بمعنى الإنشاء، والنهي يدل على التحريم. خلاف العلماء في التخليل (1) : التحريم هو مذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد رحمهم الله تعالى. والخلاف لأبي حنيفة رحمه الله تعالى إذ قال بإباحة التخليل. التعليل لمذهب الحنفية: وقد وجه ابن قدامة مذهب الحنفية بقوله (2) : (لأن علة تحريمها زالت بتخليلها فطهرت كما لو تخللت بنفسها) . الترجيح: وهذا تعليل في مقابلة النص، وقد صح النص بالنهي عن إمساك الخمر لتخليلها فيجب التسليم لموجبه. إضافة إلى أن العلة ليست كما ذكره الحنفية، بل هي كما ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى (لئلا تفضي مقاربتها إلى إمساكها لشربها) . لهذا فإن الراجح- والله أعلم- هو تحريم تخليل الآدمي للخمر وإن علة التحريم كما ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى (3) .
3- النهي عن الانتباذ فوق ثلاث
ثالثاً: النهي عن الانتباذ (1) فوق ثلاث: عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له فيشربه يومه ذلك، والغد، واليوم الثالث، فإن بقي منه شيء أهرقه، أو أمر به فأهرق) رواه مسلم (2) والنسائي (3) بنحوه. وقد أشار ابن القيم رحمه الله تعالى إلى ذلك مبيناً علة النهي فقال (4) : (وثبت في صحيح مسلم (أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتبذ له أول الليل، ويشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجيء، والغد إلى العصر، فإن بقي منه شيء سقاه الخادم أو أمر به فصب) . وهذا النبيذ هو ما يطرح فيه تمر يحليه، وهو يدخل في الغذاء والشراب، وله نفع عظيم في زيادة القوة وحفظ الصحة. ولم يكن صلى الله عليه وسلم يشربه بعد ثلاث خوفاً من تغيره إلى الإسكار. فإذا كان مظنة الإسكار ففي تركه حسم لمادة قربان المسكر، وسد لذريعة الوصول إليه، وهذه المسألة قد ذكرها ابن قدامة (5) رحمه الله تعالى ولم يحك في هذا النهي خلافاً والله أعلم. رابعاً: النهي عن شرب العصير (6) بعد ثلاث: وفي معرض ذكر الأشربة النهى عنها سداً لذريعة الوصول إلى المسكر ذكر
ابن القيم رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شرب العصير بعد ثلاث: حسما لمادة قربان المسكر، وسداً لذريعة الوصول إليه (1) . اختلاف العلماء (2) : وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في النهي عن العصير بعد ثلاث على قولين: القول الأول: وهو قول الجمهور أن العصير مباح ما لم يغل فإذا غلى وأسكر حرم قبل الثلاث وبعدها. التدليل: وقد دللوا على هذا القول بأن مدار التحريم على الشدة المطربة، وهي إنما تكون في المسكر خاصة فلا يحرم العصير إذا إلا إذا اشتد وصار مسكرا. القول الثاني: وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن العصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام فقد حرم إلا أن يغلي قبل ذلك فيحرم. أدلته: وقد دل لمذهب أحمد رحمه الله تعالى عدة أدلة منها ما يلي: 1- عموم أحاديث النهي عن النبيذ بعد ثلاث (3) وجه الاستدلال: هو أن العلة مشتركة بين النبيذ والعصير في النهي عن كل منهما بعد ثلاث إذ كل منهما مظنة ظناً غالباً للإسكار، فيحرم العصير إذا بعد ثلاث.
5- النهي عن الخليطين
ولهذا فإن المجد ابن تيمية ترجم على أحاديث النهي عن النبيذ بذلك فقال (1) : (باب شرب العصير ما لم يغل أو يأت عليه ثلاث) . 2- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (اشربوا العصير ثلاثاً ما لم يغل) (2) . 3- إن الحكم يثبت بغلبة الظن، والعصير بعد ثلاث يصير مظنة للتغيير ظناً غالباً، وأما قبل الثلاث فالظن فيه ضعيف الترجيح: والذي يظهر لي والله تعالى أعلم هو النهي عن العصير بعد ثلاث مطلقاً لقوة أدلة المذهب الحنبلي. من النص والتعليل. أما إذا غلي واشتد قبل ثلاث فإنه يحرم بالإجماع كما حكاه ابن قدامة رحمه الله تعالى. النتيجة: وعليه فقد سلم لابن القيم رحمه الله تعالى الاستدلال بالنهي عن العصير بعد ثلاث على سد الذرائع الموصلة للمسكر والله أعلم. خامساً: النهي عن الخليطين (3) : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة (النهي عن الخليطين) . منها حديث جابر (4) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يخلط الزبيب والتمر
والبسر والتمر) متفق عليه (1) . وهذا مما نهى عنه سدا لذريعة الوصول إلى الخمر وفي بيان ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (وبالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين) وكون النهي عن شرب الخليطين: هو سدا لذريعة الوصول إلى المسكر، مما اتفقت عليه كلمة العلماء (3) ، لأن الأنواع إذا اختلفت في الانتباذ كانت أسرع إلى المسكر الحرم فنهى صلى الله عليه وسلم عن الخلط حتى لا تكون وسيلة إلى المسكر والله أعلم اختلاف العلماء: وقد اختلفت أقوال العلماء في حكم الخليطين بين النهي والإباحة، فما هي أصح الأقوال في هذه المسأله حتى نعرف: هل يتم لابن القيم رحمه الله تعالى التدليل بالنهي عنهما على سد الذرائع الموصلة إلى المسكر؟ فإلى بيان الخلاف وأدلته القول الأول: تحريم الخليطين وهو قول جماعة منهم: مالك وأحمد وإسحاق وظاهر مذهب وظاهر مذهب الشافعي فقالوا: من شربه قبل حدوث الشدة فيه فهو آثم من جهة واحدة (وهي شربه الخليطين) ، ومن شربه بعد حدوثها فهو آثم من جهتين (وهما: شرب الخليطين، وشرب المسكر (4) . أدلتهم: استدلوا بأحاديث النهي عن الخليطين الواردة في الكتب الستة وغيرها من
حديث جابر رضي الله عنه وأبي سعيد (1) رضي الله عنه وأبي قتادة (2) رضي الله عنه وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. وهي بألفاظ متقاربة وجميعها يتضمن النهي عن الخليطين ومنها ما يلي: أ- عن جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعاً، ونهى أن ينبذ الرطب، والبسر جميعاً) رواه الجماعة (3) ، واللفظ لمسلم. ب- عن أبي قتادة رضي الله عنه قال (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهو والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدته) . رواه الشيخان (4) واللفظ للبخاري. وجه الاستدلال: ووجه الاستدلال من هذين الحديثين أنهما نصان في محل النزاع: إذ جاء كل منهما بصيغة النهي، والنهي يدل على التحريم فيحرم الخليطان والله أعلم. ج- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شرب النبيذ منكم فليشربه زبيبا فرداً، أو تمراً فرداً، أو بسراً فرداً) . رواه مسلم (5) والترمذي (6) والنسائي (7) . واللفظ لمسلم.
وجه الاستدلال: ودلالة هذا الحديث ظاهرة بطريق مفهوم المخالفة، فإن تقييد الشرب بالانفراد يدل على عدم جوازه مختلطاً، إذ تقييد الحكم بالوصف يدل على انتفائه عند انتفاء الوصف، والله أعلم. القول الثاني: الكراهة. وهو مذهب الشافعي (1) وحكي عن مالك (2) وذكر النووي الشافعي: أنه قول الجمهور. فقال (3) : (مذهبنا، ومذهب الجمهور، أن هذا النهي لكراهة التنزيه، ولا يحرم ذلك ما لم يصر مسكراً، وبهذا قال جماهير العلماء) . دليلهم: هو حمل أحاديث النهي عن الخليطين على الكراهة لا على التحريم، لأن الخلط في ذاته حلال، ولا يكون مسكراً بمجرد الخلط،. لكن لما كان الخلط مظنة التغير سريعاً نهى عنه الشارع خشية أن يشربه الشارب ظاناً أنه ليس بمسكر، ويكون مسكراً. وقد ذكر النووي سبب الكراهة فقال (4) : (قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: سبب الكراهة فيه أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه، فيظن الشارب أنه ليس مسكراً ويكون مسكراً) .
القول الثالث: الإباحة: وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى (1) وحكاه الخطابي: له ولسفيان (2) رحمه الله تعالى أدلته: استدل لمذهب أبي حنيفة بالأثر والقياس، وبيانهما على ما يلي: 1- الأثر: روي عن ابن زياد أنه قال: سقاني ابن عمر رضي الله عنهما، شربة ما كدت أهتدي إلى منزلي، فغدوت إليه من الغد، فأخبرته بذلك فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب (3) . وجه الاستدلال: هو أن يقال: إن هذا نوع من الخليطين أجاز شربه الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ولو كان منهياً عنه لما سقاه ابن زياد. مناقشة هذا الدليل وهذا الأثر مناقش رواية ودراية على ما يلي: مناقشته رواية: وهي أن هذا الأثر فيه ابن زياد وقد قال الحافظ ابن حجر في هذا الأثر (4) : (أخرجه محمد بن الحسن ... وابن زياد لا أعرفه ولم أرَ من سماه) . فأثر في سنده مجهول ولم يعلم له شاهد ولا متابع لا يكون حجة بحال.
مناقشته دراية: وهي أن قول ابن زياد (ما كنت لأهتدي لأهلي) يشعر بإسكار الشربة التي سقاه ابن عمر رضي الله عنهما، والسكر من كل شراب حرام بالاتفاق فكيف يستدل بذلك على الحل للخليطين. على أنا نجل الفقيه الورع الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يسقي شخصاً شراباً فيه إسكار والله أعلم. ب- القياس: وهو قياس الخليطين في الحل على المفرد في الحل أيضاً وفي هذا يقول النووي رحمه الله تعالى في معرض الاستدلال لهذا القول (1) : (قالوا: لا بأس به لأن ما حل بمفرده حل مخلوطاً) . مناقشة هذا القياس: وهذا الدليل مناقش من وجهتين: الأولى أنه قياس في مقابلة النص والقاعدة أنه لا قياس مع النص (2) . الثانية: أن القياس غير سليم لأنه قياس مع الفارق. ووجه الفرق: أن العلة في حل المفرد هي عدم إفضائه غالباً إلى المسكر، أما المخلوِط فيفضي إلى السكر غالباً، لأن الخلط يقوي أحد النوعين على الآخر فيسرع إليه الإسكار. وعليه: فإن هذا القياس لا يتم الاستدلال به والله أعلم. موقف الحنفية من أحاديث النهي: يرى الحنفية أن أحاديثه النهي كانت في أول الإسلام حين الحاجة والشدة فلما
فتح الله على عباده النعم أباح الجمع بين الخليطين. وفي هذا يقوِل البابرتي (1) : (النهي عن الجمع بين التمر والزبيب، كان في الابتداء في وقت كان بين المسلمين ضيق وشدة في أمر الطعام لئلا يجمع بين الطعامين، ويترك جاره جائعاً بل يأكل أحدهما، ويؤثر الآخر على جاره، ثم لما وسع الله على عباده النعم أباح الجمع بين النعمتين) . حديث عائشة رضي الله عنها: وقد تتبعت كثيراً من المطولات لدى الحنفية فلم أرهم يذكرون حديث عائشة رضي الله عنها للدلالة على النسخ وهو أنها قالت: (كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء، فنأخذ قبضة من تمر، وقبضة من زبيب فنطرحهما، ثم نصب عليه الماء فننبذه غدوة فيشربه عشية، وننبذه عشية فيشربه غدوة) رواه ابن ماجه (2) . ولعله لعدم معرفة تأخره عن أحاديث النهي عن الخليطين عدل الحنفية رحمهم الله تعالى عن ذكره ناسخاً والله أعلم. مناقشة جواب الحنفية: جواب الحنفية هذا يتضمن القول بنسخ أحاديث النهي، وهم لا يذكرون دليلاً عليه ناسخاً، والنسخ لا بد فيه من معرفة الدليل الناسخ، المكتمل لشروطه من ثبوت التأخر للناسخ، وقيام التعارض بين الدليلين مع عدم إمكان الجمع وهذا ما لم يثبت هنا. فظهر إذا أن قول الحنفية بإباحة الخليطين مطلقاً، لا تنهض أدلته على مقاومة أحاديث. النهي.
ولهذا اشتد نكير الأئمة على مذهب الحنفية فقال النووي (1) : (وأنكر عليه- أي على أبي حنيفة- الجمهور، وقالو منابذة لصاحب الشرع فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في النهي عنه، فإن لم يكن حراماً كان مكروهاً) . وقال ابن حجر (2) : (وشذ من قال: لا بأس به) . الترجيح: هذه هي أقوال العلماء في هذه المسألة. وهذه عمدتهم في الأدلة لها. والمناظر يرى تجاذباً شديداً بين النهي والإباحة. ذلك أن أحاديث النهي صحيحة صريحة في النهي عن الخليطين. وحديث عائشة صحيح صريح في شرب النبي صلى الله عليه وسلم للخليطين وأنه كان يصنع له في بيته صلى الله عليه وسلم. وهما في المنزلة كما ترى وإن كانت أحاديث النهي أكثر وأشهر وقد اتفق على روايتها الشيخان البخاري ومسلم. إلا أن حديث عائشة رضي الله عنها خارج مخرج الصحيح وهو صريح في الإباحة لفعله صلى الله عليه وسلم فما بقي إذا من وجوه دفع التعارض في الظاهر إلا اللجوء إلى الجمع أو النسخ. والنسخ هنا غير وارد للجهل بتاريخ المتقدم من المتأخر فيهما. فما هو المسلك السليم إذا في الجمع بين أدلة النهي والإباحة؟. وللانفصال بالجواب عن هذا أقول: ليعم أولاً أن مناط التحريم هو السكر باتفاق الأئمة (3) . فإذا صار الشراب من الخليطين فيه إسكار فإنه حرام باتفاق الأئمة كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (4) .
6- النهي عن الانتباذ في بعض الأوعية
وعلى هذا فإن نصوص المسألة هذه تتنزل على ما يلي: أولاً: ما كانت مدة الانتباذ فيه قريبة وهي يوم وليلة، لا يتوهم الإسكار فيها. فهو مباح إذا وعلى هذا يتنزل حديث عائشة رضي الله عنها. ثانياً: ما كانت مدة الانتباذ فيه للخليطين محتملة للإفضاء إلى الإسكار وهي ما كان فوق يوم وليلة وما دون ثلاث ليال. فهذا مكروه ما لم يتغير. لتخلف مناط التحريم عنه. ثالثاً: ما كانت مدة الانتباذ فيه للخليطين قد مضى عليها ثلاث ليال وتغير بغليان ونحوه. فهذا حكمه التحريم. هذا هو ما ظهر لي في هذه المسألة وبه إن شاء الله تعالى تجتمع الأدلة وينتفي التعارض الظاهر. وهذا هو ما جنح إليه الشيخ أبو محمد بن قدامة في كتابه المغني إذ قال بعد سياقه لحديث عائشة رضي الله عنها (1) : (لما كانت مدة الانتباذ قريبة وهي يوم وليلة لا يتوهم الإسكار فيها لم يكره. فلو كان مكروهاً لما فعل هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم له. فعلى هذا: لا يكره ما كان في المدة اليسيرة. ويكره ما كان في مدة يحتمل إفضاؤه إلى المسكر. ولا يثبت التحريم ما لم يغل أو تمضِ عليه ثلاثة أيام) . ولعله بهذا يظهر لنا جلياً أنه قد تمّ لابن القيم الاستدلال بالنهي عن الخليطين على سد الذرائع الموصلة للخمر ولكن على التنزيل المذكور والله أعلم. سادساً: النهي عن الانتباذ في بعض الأوعية (2) : روى مسلم (3) بسنده عن زاذان (4) قال: قلت لابن عمر حدثني بما نهى عنه النبي
صلى الله عليه وسلم من الأشربة بلغتك وفسره لي بلغتنا، فإن لكم لغة، سوى لغتنا فقال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتم (وهي الجرة) وعن الدباء (وهي القرعة) وعن المزفت (وهو المقير) وعن النقير (وهي النخلة تنسخ نسخاً، وتنقر نقراً،) وأمر أن ينبذ في الأسقية) . وقد روي بمعناه أحاديث كثيرة في النهي عن الانتباذ في بعض الأوعية كما في حديث وفد عبد القيس (1) وغيره. وفي ذكر النهي عن الانتباذ في بعض الأوعية يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (ونهى عن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به) . ويزيد ابن القيم رحمه الله تعالى هذا المعنى إيضاحاً مبيناً علة النهي فيقول (3) : (وسر المسألة أن النهي عن الأوعية المذكورة من باب سد الذرائع إذ الشراب يسرع إليه الإسكار فيها. وقيل: بل النهي عنها لصلابتها، وإن الشراب يسكر فيها ولا يعلم به، بخلاف الظروف غير المزفتة، فإن الشراب متى غلا فيها وأسكر انشقت فيعلم أنه مسكر. وعلى كلا العلتين فهو من باب سد الذريعة، كالنهي أولاً عن زيارة القبور سداً لذريعة الشرك، فلما استقر التوحيد في نفوسهم وقوي عندهم أباح لهم في زيارتها غير أن لا يقولوا هجراً. وهكذا قد يقال في الانتباذ في هذه الأوعية: أنه فطمهم عن المسكر وأوعيته وسد الذريعة إليه، إذ كانوا حديثي عهد بشربه فلما استقر تحريمه عندهم واطمأنت
إليه نفوسهم، أباح لهم الأوعية كلها غير ألا يشربوا مسكراً، فهذا فقه المسألة وسرها) . رأي ابن القيم. في استمرار النهي: في هذه المسألة وأمثالها يحصل الغلط من كثير من أهل العلم في الإفصاح عن اختيارات العلماء وآرائهم في مسائل العلم. فمثلاً ابن القيم في هذه المسألة. ذكر في معرض بحثه لقاعدة سد الذرائع وجوهاً كثيرة مما ورد النهي عنه سداً للذريعة. كما في كتابيه (الأعلام) (1) و (الإغاثة) (2) فقال في الكتابين: (ونهى- عن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به) . فيظن الناظر لكلامه هذا أن اختيار ابن القيم أو رأيه هو النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية. بينما الأمر على خلافه فإنه يرى أن هذا من الأحكام المنسوخة وإن الشارع نهى عن الانتباذ في هذه الأوعية في أول الأمر سداً لذريعة الوصول إلى الخمر وقربانها (3) (إذ كانوا حديثي عهد بشربه فلما استقر تحريمه عندهم، واطمأنت إليه نفوسهم أباح لهم الأوعية كلها غير ألا يشربوا مسكراً) ثم قال: (وهذا فقه المسألة وسرها) (4) . فتبين أن رأي ابن القيم هو عدم بقاء النهي وإن الأمر عاد إلى الإباحة. وإن ما ذكره في كتابيه (الأعلام) و (الإغاثة) في معرض الذرائع لا حرج عليه فيه، ولا يفهم منه أن هذا رأيه، لأن النهي عن الانتباذ في الأوعية المذكورة لما كانوا حديثي عهد بشرب الخمر. فسد كل باب موصل إليه فلما استقر في نفوسهم حرمة الخمر أباح الانتباذ في الأوعية كلها غير ألا يشربوا مسكراً والله أعلم.
الدليل الناسخ: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن الدليل الناسخ هو حديث بريدة رضي الله عنه فقال (2) : (عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نهيتم عن الظروف، وإن ظرفا لا يحل شيئاً ولا يحرمه وكل مسكر حرام) رواه مسلم) (3) . وحديث بريدة رضي الله عنه قد ورد بنحوه عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم أنس رضي الله عنه (4) وجابر رضي الله عنه (5) وغسان التيمي (6) رضي الله عنه وغيرهم كما رواها الإمام أحمد رحمه الله تعالى (7) . والقول بالنسخ هو مذهب الجماهير من أهل العلم منهم الحنفية (8) والشافعية (9) ورواية عن أحمد (10) وهو اختيار البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (11) وابن قدامة (12) والخطابي (13) وابن حجر (14) وغيرهم من المحققين والله أعلم.
القول المخالف: وبعد أن قرر ابن القيم رحمه الله تعالى القول بنسخ أحاديث النهي وأنه قول الجمهور، ذكر القول الثاني: وهو أن أحاديث النهي محكمة غير منسوخة وذكره رواية عن الإمام أحمد (1) . وهو أيضاً مذهب مالك رحمه الله تعالى (2) . موقفهم من أحاديث النسخ: وقد بيّن ابن القيم رحمه الله تعالى وجهة نظر من قال بأن أحاديث النهي محكمة - نحو الأحاديث المفيدة لنسخها فقال (3) : (ومن قال بإحكام أحاديث النهي وأنها غير منسوخة قال: هي أحاديث تكاد تبلغ التواتر في تعددها، وكثرة طرقها، وحديث الإجازة فرد فلا يبلغ مقاومتها) . مناقشتهم: هكذا ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى وجهة المخالف ولم يتعقبها بشيء، والجواب عنها من وجهين: الأول: أن حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه قد كثرت مخارجه وعدلت نقلته ويكفي أنه في صحيح الإمام مسلم مسنداً من وجوه عدة إلى بريدة رضي الله عنه (4) . وليس من شرط الحديث الناسخ ألا يكون فردا بل شرطه الصحة والسلامة والثبوت. وحديث بريدة صحيح ثابت وسالم من شذوذ أو علة ولهذا فإن القائلين بعدم النسخ، لم يؤثر عنهم إبداء قوادح في إسناده. ودونها خرط القتاد. فتبيّن إذاً أنه يصلح أن يكون بمفرده ناسخاً لأحاديث النهي.
الثاني: أن بريدة رضي الله عنه لم ينفرد بنقل النص الناسخ بل رواه غيره من الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث جابر رضي الله عنه عند البخاري. وأحاديث أنس، وعلي، وأبي هريرة، وعبد الله المزني (1) وغيرهم كما عند الإمام أحمد في مسنده. فكيف يقال إنه فرد لا يبلغ قوة المقاومة لأحاديث النهي. ويضيف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عذراً آخر لن قال باستمرار النهي فيذكر أن (منهم من لم يبلغه النسخ) (2) وإذ قد بلغ فليكن حجة على من بلغه والله أعلم. الخلاصة والترجيح: يتضح مما تقدم أن القول بالنسخ هو مذهب الجماهير من العلماء منهم الحنفية والشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد واختيار جماعة من محققي العلماء منهم البخاري، والخطابي، وابن قدامة وغيرهم وإن حجتهم في هذا حجة أحاديث النسخ لأحاديث النهي من حديث بريدة رضي الله عنه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم. وهذا هو ما اختاره ابن القيم رحمه الله تعالى. وإن القول ببقاء الحظر هو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وإن هذا القول لا يثبت أمام النقد لعدم سلامة الدفع لأحاديث النسخ. وعليه فإن ما ذهب إليه الجمهور من عود الحكم إلى الإباحة واختاره ابن القيم رحمه الله تعالى هو أرجح القولين وأولاهما بالقبول والله أعلم.
المبحث الرابع: في عقوبة شارب الخمر. وفيه خمسة فروع
المبحث الرابع في عقوبة شارب الخمر (1) تناول ابن القيم رحمه الله تعالى الحديث عن عقوبة شارب الخمر في عدة فروع: الفرع الأول: أن عقوبة الشارب حدية لا تعزيرية. الفرع الثاني: في بيان مقدار العقوبة. الفرع الثالث: في بيان أن قتل الشارب في الرابعة تعزيراً. الفرع الرابع: في بيان أنواع من العقوبات التعزيرية لشارب الخمر. الفرع الخامس: في العقوبة المالية للخمار. وإلى بيانها على هذا الترتيب: الفرع الأول: أن عقوبة الشارب حدية مقدرة لا تعزيرية: يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى اختياره من أن عقوبة الشارب حدية مقدرة لا تعزيرية مبيناً أن هذا هو خلاصة ما تدل عليه الأحاديث فيقول (2) : (ومن تأمل الأحاديث رآها تدل على أن الأربعين حد والأربعون الزائدة عليها تعزير، وقد اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم) . ولعل ابن القيم رحمه الله تعالى اكتفى بهذه الخلاصة، ولم يورد النقاش على
عادته لتكاثر النصوص على دلالته حتى حكى فيه الإجماع. ولكن قد أثير الخلاف في هذه القضية، فلا بد إذا من تحرير الكلام فيها، لأنها من باب التأصيل في أحكام الخمر. فإلى إيراد الإجماع ومناقشته من المخالف ثم مناقشة المخالف فما أورده. حكاية الإجماع: حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم على أن عقوبة شارب الخمر حدية مقدرة والخلاف إنما حصل في التقدير. وممن حكى الإجماع في هذا: ابن حزم، والقاضي عياض (2) ، وابن هبيرة (3) ، وابن قدامة (4) ، والحافظ ابن حجر (5) ، والمرتضى في (البحر الزخار) (6) . منزلة هذا الإجماع: تعاقب على هذا الإجماع عالمان: الحافظ ابن حجر يدافع عنه ويؤيده (7) والعلاّمة الشوكاني (8) يرفض هذا الدفاع وينقض هذا الإجماع. وإليك البيان:
تعقب الإجماع: حكى الحافظ ابن حجر (1) : أن الطبري، وابن المنذر (2) ، وغيرهما حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير. أدلتهم: استدلوا بجملة من الأحاديث الواردة (3) في الصحيحين وغيرهما التي تفيد عدم تعيين عدد الضرب ومنها: 1- حديث علي رضي الله عنه قال: (ما كنت لأقيم الحد على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن (رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه) رواه الشيخان) (4) . 2- عن أنس رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين) رواه البخاري (5) . 3- عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقف في الخمر حداً) رواه أبو داود. (6) . قال الحافظ ابن حجر (إسناده قوي) (7) . وجه الدلالة: قالوا فهذه الأحاديث وأمثالها صريحة من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد في الخمر حداً
مقدراً فما دام لم يقدر فهو ليس بحد فيكون إذاً: تعزيراً. الجواب عن هذه الأدلة: من وجهين: الوجه الأول: النصوص الحديثية: وتعقبت هذه الأدلة بأنه قد وردت نصوص تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد فيها أربعين جلدة. وقد اعتمدها أبو بكر رضي الله عنه في خلافته، وعمر رضي الله عنه في خلافته، وعمر رضي الله عنه في صدر خلافته حتى تتابع الناس فيها فزادها أربعين. ومنها ما يلي: 1- حديث علي رضي الله عنه قال: (جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين. وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة) . رواه أبو داود (1) . 2- ما أخرجه مسلم في صحيحه (2) : (أن عثمان رضي الله عنه أمر علياً بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر (3) اجلده فجلده فلما بلغ الأربعين قال امسك: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي) . ورواه أيضاً أبو داود (4) ، وابن ماجه (5) . قال الحافظ ابن حجر (في هذا الحديث: الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين) (6) . 3- حديث أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين) رواه مسلم (7) .
وجه الاستدلال: يقال فهذه الأحاديث وما ورد في معناها تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب في الخمر عقوبة مقدرة، فجلد أربعين. فهي إذا عقوبة حدية مقدرة من الشارع صلى الله عليه وسلم. ومن رواة هذه الأحاديث علي وأنس رضي الله عنهما اللذين هما من رواة الأحاديث التي استدل بها على عدم الحدية. الجمع بين الأحاديث: يبقى أن يقال ما هو الجمع بين أحاديث الفريقين والجواب: إن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكن تعارضها ولا تضاربها بل يجب أن تنزل السنن منازلها تأليفاً لها ونفياً لتعارضها في الظاهر فالنصوص بمجموعها تفيد: أن الحد استقر من النبي صلى الله عليه وسلم على أربعين جلدة لشارب الخمر، بدلالة أن هذا هو ما استقر في مفهوم الصحابة رضي الله عنهم. واعتماد أبي بكر رضي الله عنه هو حجة في ذلك كما قاله الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى (1) . وقال أيضاً (2) : (وقد وقع التصريح بالحد المعلوم فوجب المصير إليه ورجح القول بأن الذي اجتهد فيه زيادة على الحد إنما هو تعزير) . وأحاديث المعارض المتقدمة يجاب عنها بما يلي: جواب ابن القيم عن حديث علي رضي الله عنه: تقدم قول علي رضي الله عنه (أن رسول الله لم يسنه) (2) وقد أجاب عنه ابن القيم فقال (3) :
(المراد بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقدر فيه بقوله تقديراً لا يزاد عليه. ولا ينقص كسائر الحدود، وإلا فعلي رضي الله عنه قد شهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ضرب فيها أربعين وقوله (إنما هو شيء قلناه) يعني التقدير بثمانين فإن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم فأشاروا بثمانين فأمضاها. ثم جلد علي في خلافته أربعين وقال هذا أحب إلي) . وهذا الجواب من ابن القيم هو ما أجاب به جمع من الأئمة رحمهم الله تعالى منهم الحافظ ابن حجر وقال (1) : (وبه جزم البيهقي وابن حزم) . الجواب عن حديث أنس رضي الله عنه: أما قول أنس رضي الله عنه (إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين) (2) . فيقال هذا حق لكن سنة أبي بكر هذه من الجلد بأربعين هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر وأنس رضي الله عنه راوي الحديثين فإنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين) (3) . وحديث المعارض أيضاً ليس فيه نفي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلد أربعين فالتأمت بذلك السنن والحمد لله. الجواب عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أما حديث ابن عباس المتقدم أنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الخمر حداً) (4) فالجواب عنه أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يبلغه التعيين المذكور وقد وقع التعيين بأربعين، وخفاء بعض السنن على بعض أجلاء الصحابة أمر منتشر في
كتب السنة. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت فيه كما تقدم والله أعلم. الجواب الثاني: من الجواب عن أدلة المعارض: الإجماع، فالإجماع منعقد على أن عقوبة شارب الخمر عقوبة حدية مقدرة من الشارع صلى الله عليه وسلم كما حكاه غير واحد من أهل العلم منهم: ابن حزم، والقاضي عياض، وابن هبيرة، وابن قدامة، والمرتضى، وابن حجر، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في صدر هذه المسألة، والله أعلم. اعتراض الشوكاني ومناقشته: انتصر الشوكاني للقول بأن عقوبة الخمر غير مقدرة. وادعى عدم التسليم بالإجماع، وأنه لم يأتِ رواية بالتقدير فقال (1) : (والحاصل أن دعوى إجماع الصحابة رضي الله عنهم غير مسلمة. فإن اختلافهم في ذلك قبل إمارة عمر وبعدها وردت به الروايات الصحيحة. ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاقتصار على مقدار معين ... فالأولى الاقتصار على ما ورد عن الشارع من الأفعال وتكون جميعها جائزة) . مناقشة: يقدح الشوكاني في الإجماع المذكور بوجود الاختلاف المذكور: وهذا قدح غير وارد لأن الاختلاف الحاصل إنما هو فيما زاد على الأربعين، أما الأربعين فلا خلاف فيها بدلالة فعل أبي بكر رضي الله عنه كما تقدم. وأما قوله (إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاقتصار على مقدار معيّن) فقد تقدم طرف من الأحاديث التي تنص على أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على أربعين ومنها حديث أنس عن مسلم في صحيحه.
الفرع الثاني: بيان مقدار العقوبة
إذاً فيكون تجويز جميع الأفعال المذكورة في النصوص: نفي للحدية المقدرة وفي ذلك إهدار للنصوص الواردة بالتقدير ونقض للإجماع على مقتضاها والله أعلم. الخلاصة: إنا نرى ابن القيم رحمه الله تعالى يقرر في كتابه (زاد المعاد) ما دلت عليه النصوص واقتضاه الإجماع من أن عقوبة الخمر حدية مقدرة من الشارع صلى الله عليه وسلم ويستدل على ذلك بمجامع النصوص الحديثية ويجيب عن أقواها في المعارضة وهو حديث علي رضي الله عنه والله أعلم. الفرع الثاني بيان مقدار العقوبة لشارب الخمر هذه من مسائل العلم التي اشتد فيها الخلاف وكثرت فيها الأقوال حتى أوصلها الحافظ بن حجر إلى ستة أقوال (1) . وابن القيم في هذه المسألة يتحفنا برأيه من أن مقدار العقوبة: أربعون جلدة، وإن ما زاد عليها من أنواع العقوبات كلها تعزيرية: فزيادة الأربعين في عهد عمر رضى الله عنه زيادة تعزيرية لا حدية وقد اتفق عليها الصحابة رضي الله عنهم. وزيادة الحلق للرأس تعزير. وزيادة النفي تعزير. وذلك بحسب ما رآه الولاة من الانهماك في شربها والجرأة عليها. ويبيّن على ضوء هذا أن هذه الزيادات من الأحكام المتعلقة بالأئمة، إذ رأي
اختيار ابن القيم أن الحد بأربعين والزيادة إلى ثمانين تعزير اتفق عليه الصحابة
الوالي الانهماك في، شربها والجرأة عليها؟. وهو في هذا العرض يتحفنا بخلاصة رأيه من غير سياق للأقوال ومناقشتها فيقول: (ومن تأمل الأحاديث رآها تدل على أن الأربعين حد، والأربعون الزائدة عليها تعزير اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم ... وقد حلق فيها عمر رضي الله عنه وغرب وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة وبالله التوفيق) . سلف ابن القيم في هذا الرأي: ابن القيم في هذا الرأي يوافق مذهب الشافعية والرواية الثانية عن الإمام أحمد. في قولهم إن الحد: أربعون والزيادة إلى الثمانين تعزير. والتعزير موكول إلى رأي الإمام كما بسط مذهبهم الحافظ (2) وابن قدامة (3) . أدلته: استدل ابن القيم لهذا الاختيار بالأحاديث المرفوعة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلد أربعين من رواية علي وأنس وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم كما تقدم سياقها (4) . وإن هذا الفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تأيد التزامه حداً بذلك وباستمرار العمل عليه في عهد أبي بكر رضي الله عنه. وإنه بذلك تجتمع الأخبار وإليه رجع علي رضي الله عنه (5) . وما فعله عمر رضي الله عنه إنما كان تعزيراً لوجود المقتضى حيث انهمك الناس في شربها وكثرة الإقدام عليها. لهذا تنوع التعزير منه تبعاً للمصلحة فمرة زاد أربعين، ومرة حلق، ومرة نفي والله أعلم.
مذهب الجمهور وأدلتهم ومناقشتها
مذهب الجمهور: اختيار ابن القيم هذا يخالف فيه مذهب الجمهور من أهل العلم منهم الحنفية والمالكية وأحد القولين عند الشافعية والرواية الثابتة عن الإمام أحمد وهو: أن مقدار حد الشارب ثمانون جلدة، كما حكاه النووي (1) وابن قدامة (2) وابن حجر (3) وابن الهمام (4) . أدلتهم: استدلوا بما يلي: 1- ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر ثمانين (5) . فهذا حديث نص لما ذهبوا إليه. رد هذا الدليل: لكن هذا الحديث قد روي بأسانيد لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها به ابن دحيه (6) في كتابه (وهج الجمر في تحريم الخمر) (7) وعبد الرزاق في (مصنفه) (8) بإسنادين كلاهما مرسلاً عن الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه جماعة الحفاظ وقرروا أنه لا يصح عن رسول الله منهم ابن
حزم (1) ، وابن حجر (2) ، والشوكاني (3) . إذا فلا تقوم به حجة لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم. 2- ما روي من الآثار عن عمر رضي الله عنه من أنه جلد الشارب ثمانين جلدة، وأنه بذلك استشار الصحابة رضي الله عنهم فاتفق رأيهم عليه فكان إجماعاً كما حكاه ابن قدامة (4) . ومنها ما رواه عبد الرزاق: أن عمر رضى الله عنه شاور الناس في جلد الخمر، وقال إن الناس قد شربوها واجترأوا عليها. فقال له علي: إن السكران إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فاجعله حد الفرية، فجعله عمر حد الفرية ثمانين (5) . وأصل جعل عمر رضي الله عنه حد الخمر ثمانين في صحيح البخاري (6) . مناقشة هذا الدليل: هذا الدليل مناقش من عدة وجوه منها ما يلي: أ- إن روايات هذا الأثر على كثرة مخارجها وتعدد ألفاظها لم يأتِ في شيء منها حسب التتبع أن عمر رضي الله عنه نقص الحد عن أربعين بل رواية الأربعين ثابتة في عامة الروايات عن عمر رضي الله عنه من أنه كان في صدر خلافته يجلد أربعين كما في رواية البخاري وإنما الذي حصل منه هو الزيادة فلو لم تكن (الأربعين) حداً عنده لنقص عنها تبعاً لمقتضيات الأحوال. فهي إذا زيادة تعزيرية لا حدية، يزيده وضوحا الوجه بعده:
ب- إنه جاء في عامة الروايات أيضاً تعليل الزيادة وهي أن عمر رضي الله عنه رأى أن الناس قد اجترأوا على شربها وتتابعوا وتهالكوا فيه فاستشار الصحابة رضي الله عنهم في ذلك. فهذا يدل على أن الحد ثابت عندهم وهو (أربعون) جلدة وأن الزيادة إلى ثمانين حصلت لحصول المقتضى لها وهو (تهالك الناس في شربها) . ج- أنه ثبت أن عمر رضي الله عنه تدرج بالجلد للشارب من أربعين إلى ستين ثم إلى ثمانين كما في رواية عبد الرزاق (1) . (إن عمر رضي الله عنه جلد أربعين سوطاً. فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين. فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين. ثم قال هذا أدنى الحدود) . وهل هذا التنوع في الزيادة إلا دليل على أن هذه الزيادة من باب التعزير لا الحد. د- أنه ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه في الوقت الذي يحد فيه الشارب بثمانين حده أيضاً بأربعين كما رواه الدارقطني مطولاً وفيه (أن عمر رضي الله عنه جلد في الخمر ثمانين) قال: (وكان عمر رضي الله عنه إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الذلّة ضربه أربعين) (2) . وجه الاستدلال: دلّ هذا الأثر على أن عمر رضي الله عنه في الوقت الذي كان يجلد فيه الشارب ثمانين كان يجلد أيضاً أربعين وهذا دليل أن هذه الزيادة تعزير وإلا لما جاز له أن ينقص في الجلد عن الحد المقدر. هـ- إن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين وأبا بكر أربعين واستمر ذلك إلى أواخر خلافة
عمر رضي الله عنه كما في حديث السائب بن يزيد عند البخاري (1) . فهذا دليل على أنهم فهموا أن ذلك هو الحد المقدر ولم يجاوزوه زيادة في الحد كما لم يجاوزوا غيره من الحدود المنصوصة. ولو قيل إن هذه الزيادة هي من الحد لكان هذا الاستنباط يعود على النص بالإبطال وهذا لا يجوز. فترجح إذا أن تكون هذه الزيادة تعزيراً لا حداً. وهذا تؤيده الآثار المروية عن عمر رضي الله عنه: مثل تدرجه بالضرب ومثل ضربه في وقت واحد أربعين وثمانين تبعاً للمصلحة. ومثل ما رواه أبو عبيد في الغريب عن عمر أنه أتى بشارب، فقال المطيع بن الأسود: إذا أصبحت غداً فاضربه. فجاء عمر فوجده يضربه ضرباً شديداً فقال: كم ضربته؟ قال: ستين قال: اقتص منه بعشرين) (2) . قال أبو عبيد في معنى ذلك (يعني اجعل شدة ضربك له قصاصاً بالعشرين التي بقيت من الثمانين ... ويؤخذ من هذا: أن الزيادة على الأربعين ليست بحد إذ لو كانت حداً لما جاز النقص منه بشدة الضرب إذ لا قائل به) (3) . و أما دعوى الإجماع في عهد عمر رضي الله عنه حيث وافقه كبار الصحابة على أن الحد ثمانون جلدة (4) . فهذا متعقب بأن علياً رضي الله عنه رجع منه. ومن قبله عثمان رضي الله عنه. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في تعقب الإجماع (5) : (وتعقب بأن علياً رضي الله عنه أشار على عمر بذلك ثم رجع عنه واقتصر على الأربعين
الترجيح
لأنها القدر الذي اتفقوا عليه في زمن أبي بكر مستندين إلى تقدير ما فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما عثمان رضي الله عنه ففي سنن الدارقطني (أن عثمان رضي الله عنه جلد الحدين معاً ثمانين وأربعين) (1) . فهذا المأثور عن الخليفتين عثمان وعلي رضي الله عنهما يدل على أن الجلد بثمانين غير مستمر وعليه فلا يكون حداً إذ لو كان حداً لما جاز لهما النقص منه بل هو منتقض بفعل عمر نفسه إذا كان يجلد أربعين في الوقت الذي كان يجلد الشارب فيه ثمانين فلو كان حداً مجمعاً عليه لما جاز له ذلك رضي الله عنه. ولعله من هذه الوجوه يتضح أن هذه الزيادة عن الأربعين إنما هي من باب التعزير حسبما يراه الإمام من مصلحة الردع والزجر عند الانهماك والتهاون بشربها والله أعلم. الترجيح: من هذه المناقشة يتضح أن ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله تعالى من أن الحد أربعين جلدة وما زاد فهو تعزير هو الذي يساعده الدليل وبه تلتئم الآثار ويجتمع شملها والله أعلم.
الفرع الثالث: في قتل الشارب في الرابعة
الفرع الثالث بيان أن قتل الشارب في الرابعة تعزيراً ورد في قتل شارب الخمر في الرابعة جملة أحاديث عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم منها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما ونفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاقتلوه ". رواه النسائي (1) والحاكم (2) وإسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم كما قاله الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه (3) . موقف العلماء من هذا الحديث (4) : قبل الأخذ ببيان رأي ابن القيم في هذا لا بدّ أن أوضح موقف العلماء السالفين من هذا الحديث وغيره مما ورد في معناه حتى يتبين تدرج الرأي في حكم مقتضاه حسب التسلسل الزمني. وبيان ذلك فيما يلي: أولا: لم يكن مقتضى هذا الحديث من قتل شارب الخمر في الرابعة محل بحث في أنظار العلماء السابقين من الأئمة الأربعة وغيرهم لأن الحديث في نظرهم إما منسوخ أو أن الإجماع منعقد على خلافه وعلى هذا تتابعت كلمة أهل العلم. وفي هذا يقول الترمذي في (كتاب العلل) من (جامعه) (5) : (قال أبو عيسى
جميع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين ... وذكر منهما الحديث المذكور) . دليل النسخ: واستدلوا على نسخ هذا الحكم بأحاديث منها: 1- حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه"، قال: فثبت الجلد ودرئ القتل) رواه الطحاوي (1) . وفي لفظ (فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وإن القتل قد رفع) رواه النسائي في (السنن الكبرى) (2) وجه الاستدلال منه: وهذا نص يفيد أن القتل قد رفع أي نسخ واستمر الحد بالجلد. 2- حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة " رواه الجماعة (3) . وجه الدلالة منه: أن الحديث عام لأن لفظ (امرئ) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم وهو بعمومه يتناول شارب الخمر لأنه ليس ممن استثنى في الحديث فيفيد عدم حل دمه. وهذا استدلال بالمنطوق.
رأي ابن حزم
ويمكن أن يستدل بمفهومه عند القائلين بالمفهوم فيقال إن هذا حديث صحيح صريح في حصر القتل في واحد من أمور ثلاثة. وقتل شارب الخمر في الرابعة ليس منها فيكون إذا منسوخاً والله أعلم. 3- كما احتجوا أيضاً على النسخ بدعوى الإجماع على خلاف حكمه. كما هو ظاهر من كلام الترمذي المتقدم والنووي (1) . ثانياً: رأي ابن حزم الظاهري (2) : استمر القول الأول مسطراً في كتب المذاهب الأربعة لا يكاد يحكي خلافه حتى جاء ابن حزم الظاهري رحمه الله تعالى فأورد هذا البحث وقرر فيه أن قتل الشارب في الرابعة حد شرعي محكم غير منسوخ. ورد على القائلين بالنسخ وأبرز سلفاً له في هذا الرأي وهو: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه. ثالثاً: رأي ابن تيمية وابن القيم: جاء ابن تيمية وإمامه قولان للعلماء فلم يرتض واحداً منهما وسلك مسلكاً وسطاً بين القولين فقرر أن قتل شارب الَخمر في الرابعة يجوز تعزيراً حسب المصلحة إذا رآها الإمام (3) . فصار بذلك إمام مترجمنا ابن القيم ثلاثة أقوال لأهل العلم وناقش الجمهور في مذهبهم (4) وانتهى من البحث بقتله تعزيراً حسب المصلحة لكنه في هذه المسألة أكثر إيضاحاً من شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى. وقد أكثر من تقرير هذا الرأي في جملة من المناسبات كما في (زاد
بيان ابن القيم للخلاف وأدلته ومناقشتها
المعاد) (1) و (الطرق الحكمية) (2) و (أعلام الموقعين) (3) . بيان ابن القيم للخلاف: أشار ابن القيم إلى أن أهل العلم اختلفوا في حكم قتل شارب الخمر في الرابعة على ثلاثة أقوال مبيناً مآخذها فقال (4) : (صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتله في الرابعة أو الخامسة واختلف الناس في ذلك: 1- فقيل هو منسوخ: وناسخه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث (5) . 2- وقيل هو محكم: ولا تعارض بين الخاص والعام لا سيما إذا لم يعلم تأخر العام (6) . 3- وقيل قتله تعزير حسب المصلحة: فإذا أكثر منه ولم ينهه الحد واستهان به فللإمام قتله تعزيراً لا حداً. وقد صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال (ائتوني به في الرابعة فعلي قتله لم) وهو أحد رواة الأمر بالقتل. مناقشات ابن القيم للقائلين برفع القتل: ناقش ابن القيم أدلة القائلين برفع القتل بنقض دعوى الإجماع ونقض القول بالنسخ وذلك على ما يلي:
1- مناقشته لدعوى الإجماع: قال رحمه الله تعالى (1) : (أما دعوى الإجماع على خلافه فلا إجماع، فإن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو قال كل منهما (ائتوني به في الرابعة فعلي أن أقتله) - وهذا مذهب بعض السلف) . قال الأستاذ أحمد شاكر (2) : (ويكفي هذا في نقض الإجماع أو نفي ادعائه) . وابن القيم في نقضه دعوى الإجماع يلتقي مع ابن حزم (3) رحمه الله تعالى. تعقب هذه المناقشة: من المعلوم أن ثبوت دعوى النقض فرع عن ثبوت الدليل الناقض وابن القيم رحمه الله تعالى نقض دعوى الإجماع هذه بما يلي: أ- قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه (ائتوني به في الرابعة فعلي أن أقتله) . ب- قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مثله. ج- أنه مذهب بعض السلف. فهل ثبتت هذه الأدلة؟ إن ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر هذه الأدلة مجردة من تتبع أسانيدها وتفحص ثبوتها. وبيانها على ما يلي: 1- قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:
أما قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فقد رواه الإمام أحمد (1) بإسناده عن الحسن قال: (والله لقد زعموا أن عبد الله بن عمرو شهد بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، فإذا كان عند الرابعة ضربوا عنقه. قال فكان ابن عمرو يقول: ائتوني برجل قد جلد في الخمر أربع مرات فإن لكم عليّ أن أضرب عنقه) . رواه الطحاوي في (معاني الآثار) (2) وابن حزم في (المحلي) (3) وعزاه الهيثمي في (مجمع الزوائد) (4) للطبراني كلهم من رواية الحسن البصري عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنه. واللفظ المرفوع من هذا الحديث قد جاء عن عبد الله بن عمرو من غير رواية الحسن منه كما أوضح ذلك الحافظ بن حجر) والعلاّمة أحمد شاكر (6) . أما اللفظ الموقوف من قول ابن عمرو رضي الله عنه وهو قوله (ائتوني به في الرابعة ... ) فمدار جميع أسانيده على رواية الحسن البصري عن ابن عمرو وهذه رواية منقطعة لأن الحسن لم يسمع من ابن عمرو على الصحيح وأنه وإن اختلف في سماعه منه فقد صرح في رواية أحمد المذكورة أنه لم يسمعه منه فكفى بهذا حجة على انقطاع هذه الرواية بصرف النظر عن الاختلاف في سماعه منه من عدمه. وهذه الرواية بهذه الزيادة الموقوفة من قول ابن عمرو لم أرَ لها شاهداً ولا متابعاً في روايته فهي إذا رواية منقطعة والانقطاع ضعف في الرواية لا تقوم معه الحجة. فلا تتم دعوى نقض الإجماع إذا بهذه الرواية المنقطعة (7) والله أعلم.
ب- قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أما قول ابن عمر رضي الله عنهما فإن ابن القيم رحمه الله تعالى تابع ابن حزم في نسبتها إلى ابن عمر رضي الله عنهما إذ قال في رد دعوى الإجماع (1) : (قال أبو محمد- يعني ابن حزم- وهذه دعوى كاذبة لأن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو يقولان بقتله. ويقولان (جيئونا به فإن لم نقتله فنحن كاذبان) . وابن حزم لم يشر إلى هذه الرواية عن ابن عمر في كتابه (المحلى) (2) وقد ذكر رواية ابن عمرو وهي منقطعة كما تقدم. وقد تتبعت هذا الأثر في مواطنه من كتب السنة فلم أرَ لذكره من أثر والإسناد من الدين والاحتجاج به متوقف على ثبوته. ولعل ذلك دونه خرط القتاد؟. فكيف تتم دعوى نقض الإجماع بأثر لم نعلم سلامة ثبوته؟. على أنه في حالة ثبوته عنه رضي الله عنه (لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ وعد ذلك من ندرة المخالف) (4) والله أعلم. ج- قول بعض السلف: بعد أن ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن هذا هو قول ابن عمرو وابن عمر وقال (وهو قول بعض السلف) (5) . وقد تتبعت جهدي عمن قاله من السلف فلم أرَ سوى عزو القول به إلى الحسن
البصري رحمه الله تعالى. والقول في هذا كسابقه: لا بد من العلم بسنده ولم يذكر له الحافظ سنداً (1) . على أنه في حالة ثبوته يحمل خلافه على أنه حدث بعد الإجماع والله أعلم. والخلاصة: أن دعوى نقض الإجماع غير ثابتة بدليل، وأدلة النقض لا تقوى عليه والله أعلم. 2- مناقشته لدعوى النسخ: ناقش ابن القيم القول بالنسخ من دليليه على ما يلي: أ- مناقشته دعوى النسخ بالحديث العام: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (قال الإمام أحمد وقد قيل له: لم تركته؟ - فقال: لحديث عثمان لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) (3) . ثم قال ابن القيم: (دعوى نسخه بحديث (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) لا تصح، لأنه عام وحديث القتل خاص) . وهذا دفع صحيح سليم من ابن القيم ودعوى النسخ بهذا الحديث كثر إيرادها في التجاذب المذهبي مع أنه كل مذهب قد خص هذا العموم في عدد من الأحكام (4) والله أعلم.
ب- مناقشة دعوى النسخ بالحديث الخاص: قال رحمه الله تعالى (1) : (وقيل: هو منسوخ بحديث عبد الله بن حمار: فإنما يتم بثبوت تأخره، والإتيان به بعد الرابعة. ومنافاته للأمر بقتله) . تعقب هذه المناقشة: يلتقي ابن القيم مع ابن حزم في هذه المناقشة في رفض دعوى النسخ هذه لكن ابن القيم أسلم منهجا وألطف مسلكاً. إذ لم يقدح في صحة حديث مدعي النسخ. أما ابن حزم فقد أضاف إلى ذلك تعليل الرواية بالضعف والانقطاع. وهذا لا شك مسلك مرفوض لصحة الإسناد بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق عدّة كما بسط الحديث عنها الحافظ ابن حجر (3) ، والعلامة أحمد شاكر (4) في تحقيق لهما نفيس ومبسوط أشد البسط في بيان ألفاظ الرواة ومخارج الروايات وتحريرها وإبراز النتيجة بصحة أسانيدها وسلامتها. فإذ سلمنا صحة أسانيدها فهل تثبت دعوى المناقشة بالنسخ بها دراية على ما قرره ابن القيم أم لا: نرى ابن القيم رحمه الله تعالى يطالب فقط بتوفر شرائط النسخ على ما يلي: 1- مطالبته بثبوت التعارض بين الدليلين: دليل الأمر بالقتل، ودليل ترك القتل. 2- مطالبته بثبوت تأخره الدليل الناسخ وهو ترك القتل عن المنسوخ وهو الأمر بالقتل.
3- مطالبته أن يكون الذي ترك قتله إنما أتى به بعد الرابعة. أي عدم إمكان الجمع بين الدليلين. وهذه المطالبات عند تأمل ألفاظ الروايات نجدها متوفرة بيان ذلك كما يأتي: ثبوت التعارض بين الدليلين: فالتعارض بين أحاديث الأمر بالقتل وبين أحاديث ترك القتل- ثابت لأن أحاديث الأمر بالقتل جاءت موجبة له بعد الرابعة على سبيل الحدية فيكون القتل بعد الرابعة حداً للشارب لا يجوز تركه ولا تجاوزه وقد جاء في بعض ألفاظ الرواة ما يفيد تسمية ذلك حداً كما في رواية النسائي من حديث جابر وفيه (فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وإن القتل قد رفع) (1) . فكيف لا يثبت التعارض بين أحاديث توجب القتل (ثم إن شرب في الرابعة فاقتلوه) وبين أحاديث ترك القتل) ؟ ثبوت أن الشارب الذي ترك قتله إنما أتى به بعد الرابعة: وهذا أمر واضح في جلّ الروايات بل في جميعها ومنها رواية ابن حزم (2) (ثم أتى به في الرابعة فجلد ووضع القتل عن الناس) ورواية البيهقي (3) (ثم أتى به في الرابعة فجلده، فرفع القتل عن الناس وكانت رخصة فثبتت) . إلى غيرهما من الروايات. ثبوت تأخر الدليل الناسخ: أما الدليل الناسخ فقد ثبت تأخره عن الدليل المنسوخ من حديث جابر رضي الله عنه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم. فإنهم نقلوا حديث الأمر بالقتل ثم
أعقبوه بترك النبي صلى الله عليه وسلم للقتل وفهموا من هذا أن القتل قد رفع ونسخ وثبت الحد بالجلد. وهذا ما رآه المسلمون وتتابع عليه الرواة في مروياتهم لهذا الحديث. وأسوق هنا جملة من ألفاظ الرواة في إعقاب الحديث المنسوخ بالحديث الناسخ لترك النبي صلى الله عليه وسلم للقتل. وما فهمه الرواة والمسلمون من هذا (أنه نسخ للقتل وإثبات للحد بالجلد) . فمنها ما يلي: 1- حديث جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من شرب الخمر فاضربوه، فإن عاد فاضربوه، فإن عاد فاضربوه، فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيمان أربع مرات (فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وإن القتل قد رفع) رواه ابن حزم في (المحلي) (1) من طريق النسائي في (السن الكبرى) . ففي هذا الحديث ترك القتل في الرابعة من النبي صلى الله عليه وسلم. وفهم المسلمون أن هذا رفع للقتل أي نسخ له وإثبات للجلد وهذا من باب نسخ الأثقل بالأخف. وقد جاء هذا الحديث بعدة ألفاظ منها: رواية ابن حزم في (الحلي) وفيها (.... فإن عاد الرابعة فاقتلوه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منا فلم يقتله) (2) . فهذا من أصرح ما يكون دلالة على ترك النبي صلى الله عليه وسلم للقتل في الرابعة بعد أمره صلى الله عليه وسلم بقتله. وفي رواية للطحاوي (فثبت الجلد ودرئ القتل) (3) .
وفي رواية للبيهقي (فرأى المسلمون أن الحد قد وقع حين ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات) (1) . وفي رواية للنسائي (ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر في الرابعة فجلده ولم يقتله) (2) . وزاد في لفظ (فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وإن الحد قد رفع) (3) . قال العلاّمة أحمد شاكر أن صواب هذه اللفظة (وأن القتل قد رفع) (4) . وفي رواية البزار (فلما كان في الرابعة أمر به فجلد الحد فكان نسخاً) (5) . وجه الدلالة من حديث جابر رضي الله عنه: ووجه الدلالة من الحديث بمجموع رواياته ظاهرة في أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك القتل في الرابعة وقد تركه صلى الله عليه وسلم للقتل بعد أمره به فإن لم يكن هذا نسخاً فما هو معنى النسخ؟؟ وجابر رضي الله عنه الذي روى حديث الأمر بالقتل يقول (فأتى برجل منّا فلم يقتله) فشاهد الواقعة وبين أن هذا هو ما فهمه المسلمون فقال (فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وإن القتل قد رفع) . ولهذا قال الشافعي (هذا ما لا اختلاف فيه بين أهل العلم علمته) (6) . وقد ذكر ابن عبد البر أنه أتى به أكثر من خمسين مرة كما ذكره الحافظ ابن حجر (7) .
2- حديث قبيصة ابن ذؤيب رضي الله عنه (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن شرب الخمر فاجلدوه. ثم أن شرب فاجلدوه ثم أن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه. لا يدري الزهري أبعد الثالثة أم الرابعة. فأتى برجل قد شرب فجلدوه. ثم أتى به قد شرب فجلدوه، ثم أتى به قد شرب فجلدوه. ووضع القتل. فصارت رخصة) رواه أبو داود (2) والشافعي (3) وقد صححه ابن حجر وقيل بل هو مرسل لأن قبيصة من كبار التابعين (4) . وفي لفظ عند البيهقي (فرفع القتل عن الناس، وكانت رخصة فثبتت) (5) . وفي لفظ للترمذي معلقاً (فرفع القتل وكانت رخصة) (6) . وفي لفظ عند البيهقي أيضاً (فرأى المسلمون أن القتل قد تأخر وإن الضرب قد وجب) (7) . وفي لفظ رواية ابن حزم ( ... ثم أتى به في الرابعة فجلده ووضع القتل عن الناس (8) . وجه الدلالة من الحديث: ووجه الاستدلال منه كحديث جابر سواء وفي مجموع هذه الروايات أن النبي
نهاية المطاف عند ابن القيم: أن قتل الشارب في الرابعة تعزيرا للحديث الوارد فيه
صلى الله عليه وسلم حده بالجلد ولم يقتله وفهم النقلة من هذا وضع القتل عن الناس وإيجاب الجلد بدلاً من الأثقل إلى الأخف. قال الله تعالى (1) (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) . فلا كلام لأحد بعد كلام الله تعالى (2) (أأنتم أعلم أم الله) . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الشارب بعد الرابعة وأمره من أمر الله تعالى ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل عن الناس (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) . فجيء إليه صلى الله عليه وسلم بشارب قد شرب مراراً فلم يحده في المرة التي كان حدها القتل إلا بالجلد فكان الأمر كما رآه المسلمون وفهموه (أن الحد بالقتل قد وضع وإن الجلد قد وجب) تخفيفاً من الله ورحمة بعباده (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً) . نهاية المطاف عند ابن القيم: ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً اختياره (3) : (والذي يقتضيه الدليل: أن الأمر بقتله ليس حتما، ولكنه تعزير بحسب المصلحة فإذا أكثر الناس من الخمر، ولم ينزجروا بالحد فرأى الإمام أن يقتل فيه قتل. ولهذا كان عمر رضي الله عنه ينفي فيه مرة. ويحلق فيه الرأس مرة. ويجلد فيه ثمانين. وقد جلد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه أربعين. فقتله في الرابعة: ليس حداً. وإنما هو تعزير بحسب المصلحة) . الترجيح: مما تقدم من سياق الخلاف وأدلته ومناقشتها نرى أن ابن القيم وابن حزم يتفقان في مناقشة الإجماع والنسخ من أدلة القائلين بالنسخ لكن يختلفان في النتيجة
الفرع الرابع: في بيان أنواع من العقوبات التعزيرية للشارب
فابن حزم يقرر أن الحد بالقتل بعد الرابعة محكم غير منسوخ. وابن القيم يرى أنه تعزير لا حد. وإنني بعد التأمل والنظر أوافق ابن القيم في النتيجة وأخالفه في المأخذ. فالأحاديث بقتله حداً منسوخة والإجماع على نسخ الحد بالقتل لم ينخرم في عصره والذي وقع فيه الإجماع على ترك الحد بالقتل للشارب بعد الرابعة. ولكن إذا أدمن الناس شربها وانهمكوا فيها وتهالكوا في شربها ولم يكن الحد بالجلد زاجراً لهم فإن للإمام أن يعزر الشارب المتهالك بالقتل صيانة للعباد وردعاً للفساد. وذلك تطبيقاً لمبدأ سياسة الراعي للرعية سياسة شرعية فيما ظهرت فيه المصلحة كما قرر ذلك أهل العلم في مدوناتهم وذكروا له الأمثلة والنظائر كما في قتل الداعية إلى البدعة إذا افتتن به الناس ونحو ذلك (1) والله أعلم. الفرع الرابع: بيان أنواع من العقوبات التعزيرية لشارب الخمر. نجد أن ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض الأبحاث المتقدمة يقرر أن للإمام أن يزيد في الحد للخمر تعزيراً بحسب تهالك الناس فيها واستهانتهم بحدها. وقد بيّن أنواعاً من هذه العقوبات التعزيرية على ما يلي: 1- التعزير بمضاعفة الحد من أربعين إلى ثمانين (2) . 2- التعزير بالقتل للمدمن. وقد تقدم تفصيل القول عن هذين النوعين من التعزير (3) .
التعزير بالنفي
3- التعزير: بالنفي. 4- التعزير بالحلق للرأس. 5- التعزير: بزيادة عشرين جلدة على الحد أربعين للشارب في رمضان. وهذه الأنواع الثلاثة الأخيرة أشار إليها ابن القيم رحمه الله تعالى وذكر التعزير بالنفي والحلق للرأس عن عمر رضي الله عنه والتعزير للشارب في رمضان عن علي رضي الله عنه. وابن القيم رحمه الله تعالى لا يقصر التعزير على هذه الأنواع بل يضرب بها المثال من فعل السلف رضي الله عنهم- على أن للإمام أن يزيد عن حد الخمر تعزيراً إذا تهاون الناس في شربها وتهالكوا فيها بما يراه رادعاً وزاجراً لهم وهذا أمر يتنوع ويختلف باختلاف الأزمان والأشخاص والله أعلم. وإلى بيان مستند هذه الأنواع الثلاثة التعزيرية من النقل. وردت آثار متنوعة عن عمر رضي الله عنه في تغريب شارب الخمر بعد إقامة الحد عليه وذلك في قضايا مختلفة هي كما يلي: 1- ما رواه عبد الرزاق في (مصنفه) (1) بسنده قال: (غرّب عمر ربيعة ابن أمية بن خلف (2) في الشراب إلى خبير فلحق بهرقل فتنصر، قال عمر: لا أغرب بعده مسلماً أبداً) . ورواه النسائي من طريق عبد الرزاق وترجمه بقوله (تغريب شارب الخمر) (3) . وقول عمر رضي الله عنه (لا
التعزير بالحلق للرأس
أغرب بعده مسلماً أبداً) حمله ابن قدامة (4) على أن عمر أراد تغريبه في الخمر الذي أصابت الفتنة ربيعة فيه. ولذا فإن التغريب يكون باختلاف الأشخاص والأحوال. وقد غرب عمر رضي الله عنه في وقائع أخر للشاربين. 2- ما رواه عبد الرزاق أيضاً في (مصنفه) بسنده قال (1) : (أتى عمر رضي الله عنه بشيخ شرب الخمر في رمضان فقال للمنخرين (2) : للمنخرين في رمضان وولداننا صيام. فضربه ثمانين. وسيره إلى الشام) . 3- ما رواه عبد الرزاق في (مصنفه) أيضاً بسنده قال (3) : (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا وجد شارباً في رمضان نفاه مع الحد) . التعزير بالحلق للرأس: وأما الدليل على التعزير بحلق الرأس مع الحد لشارب الخمر فقد رواه عبد الرزاق (4) في قصة إقامة والي مصر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه للحد على: عبد الرحمن بن عمر رضي الله عنه فإنه حلق رأس: عبد الرحمن بن عمر رضى الله عنه. ثم أعقبه عبد الرزاق رحمه الله تعالى بروايته عن ابن عباس رضي الله عنهما من إنكاره الحلق مع الحد فقال رضي الله عنهما (جعل الله حلق الرأس سنة ونسكاً فجعلتموه نكالاً، وزدتموه في العقوبة) (5) .
تعزير الشارب في رمضان
تعزير الشارب في رمضان: ذكر ابن القيم أن الشارب في رمضان يزاد في حده عشرين تعزيراً، وأن هذا هو المنصوص عن أحمد ودلل عليه بفعل علي رضي الله عنه مع النجاشي الشاعر. وذكر خلافاً للخلال من أن الزيادة عشر جلدات فقال (1) : (إذا شرب في رمضان زيد الحد عشرين تعزيراً كما فعله علي بالنجاشي نص عليه. وقال أبو بكر يجلد خمسين، أربعين للشرب وعشرة لرمضان) . تنوع تعزير الشارب في رمضان عند السلف: إن ما ذكره ابن القيم هو بعض من أنواع التعزير للشارب في رمضان عند السلف وإلا فقد تنوعت العقوبات لهم بزيادة الجلد. أو النفي. أو التشهير ونحو ذلك كما رواها عبد الرزاق في (مصنفه) (2) وهذه التعزيرات راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بحسب المصلحة في كلّ زمان ومكان وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم وهذا ما تقتضيه حكمة التشريع وأسراره والله أعلم. الفرع الخامس: العقوبة المالية للخمار. لابن القيم رحمه الله تعالى في جواز العمل بالسياسة الشرعية مباحث عظيمة طرقها في مواضع من كتبه (3) . وفيها تكلم عن العقوبات المالية أو التعزير بالمال، وضرب الكثير من الأمثلة، ومنها التعزير بكسر أواني الخمر، وتحريق أمكنة
الخمارين، وذكر ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ومن فعل خليفتيه عمر وعلي رضي الله عنهما وبيانها كالآتي: أ- عقوبة الخمار المالية في السنة النبوية: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (ومن التعزير بالعقوبات المالية أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر (2) ، وشق ظروفها، وهذا التعزير قد روي من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وروى من فعله أيضاً: أما أمره صلى الله عليه وسلم بذلك ففيما رواه الترمذي عن أبي طلحة رضي الله عنه أنه قال (يا نبي الله اشتريت خمراً لأيتام في حجري، قال: أهرق الخمر، وكسر الدنان (3) . وأما فعله صلى الله عليه وسلم لذلك ففيما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال (4) : (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم شفرة وخرج إلى السوق، وبها زقاق خمر جلبت من الشام فشق بها ما كان من تلك الزقاق) (5) . وجه الاستدلال: ووجه الدلالة من الحديثين ظاهرة، على أن هذا الإتلاف من باب العقوبة المالية للخمار، وإلا فالانتفاع بها ممكن بعد التطهير كما قرره الحافظ ابن حجر (6) . وعليه ترجم البخاري رحمه الله تعالى بقوله (7) (باب هل تكسر الدنان التي فيها خمر أو تخرق الزقاق) .
المبحث الخامس: إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة
ب- تحريق الخليفتين عمر وعلي رضى الله عنهما لأمكنة الخمارين. قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (ومنها- أي من التعزيرات المالية- تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر) . والآثار عن عمر وعلي رضي الله عنهما في تحريق أمكنة الخمارين عقوبة لهم مستفيضة خرجها أبو عبيد (2) ، وخرج عبد الرزاق (3) 0 الآثار في ذلك عن عمر رضي الله عنه والله أعلم. المبحث الخامس: إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة (4) في معرض بحث ابن القيم رحمه الله تعالى للحكم بالقرائن الظاهرة وشواهد الأحوال في الدماء والأموال والحدود، ضرب لها المثال بحد الشارب بالرائحة تنبعث من فمه أو بالخمر يتقيؤها وإن هذا من الأحكام التي اتفق عليها الصحابة رضي الله عنهم. وفي بيان هذا يقول رحمه الله تعالى (5) : (وحكم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة
ذكر الخلاف على أقوال أربعة:
رضي الله عنهم، بوجوب الحد بالرائحة للخمر أو قيئه خمراً اعتماداً على القرينة الظاهرة) . وقال أيضاً (1) : (وكان أهل المدينة في زمن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم يحدون بالرائحة والقيء) . فنجد ابن القيم رحمه الله تعالى استدل لهذه المسألة وهي الحد بالرائحة بأحكام الصحابة رضي الله عنهم منهم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما مع عدم وجود المخالف لهما في ذلك. الخلاف وأدلته: إن معرفة قوة انتخاب هذا الرأي أو ضعفه من ابن القيم يقتضي ذكر الخلاف في هذه المسألة ومناقشته وتحرير الأدلة رواية ودراية ومناقشة وجوه الاستدلال منها فإلى بيان الخلاف مع ذكر أدلته ومناقشتها. القول الأول: أنه لا يجب الحد بوجود الرائحة من الفم أو القيء وهذا قول الجمهور منهم الثوري وأبو حنيفة. والشافعي. وأحمد في إحدى الروايتين كما حكاه ابن قدامة وقال (2) : (وهو قول أكثر أهل العلم) . وجهة هذا القول: هي أن يقال إن مجرد وجود الرائحة مثلاً لا يلزم منه الشرب فقد تتفق الروائح.
أو ظنها ماء فلما أحس بها في فيه مجها. أو شرب منها لغصة بقدر ما يسيغها فأوجدت رائحة أو تقيئها. وهذه ونحوها وجوه محتملة تورث شبهة والحد لا يقام مع وجود شبهة. فالنتيجة إذا أنه لا يجب إقامة الحد بالرائحة أو القيء. وقد كشف عن وجهة مذهب الجمهور ابن قدامة فقال (1) : (لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماءً فلما صارت في فيه مجها، أو ظنها لا تسكر أو كان مكرهاً أو أكل نبقاً (2) بالغاً أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر. وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يدرء بالشبهة) . وقال الحافظ ابن حجر في تعليل مذهب الجمهور (3) : (لأن الروائح قد تتفق والحد لا يقام مع الشبهة) . وقال النووي في التعليل (4) : (أنه لا يجب الحد بمجرد ريحها لاحتمال النسيان والاشتباه والإكراه وغير ذلك هذا مذهبنا ومذهب آخرين) . القول الثاني: وجوب إقامة الحد بالرائحة أو القيء وهذا مذهب مالك وأصحابه وجماعة من أهل الحجاز. والرواية الثانية عن الإمام أحمد (5) . وهؤلاء هم سلف بن القيم في اختياره في هذه المسألة.
أدلة هذا القول: لا تخرج أدلة هذا القول عما ذكره ابن القيم من أن هذا مقتضى ما حكمت به الصحابة رضي الله عنهم. وقد ذكرها رحمه الله تعالى على سبيل الإشارة والإجمال وتفصيلها على ما يلي: 1- حكم عمر رضي الله عنه. وذلك فيما رواه السائب بن يزيد (أن عمر رضي الله عنه كان يضرب بالريح) رواه ابن أبي شيبة (1) . وفي رواية عبد الرزاق (2) بسنده إلى السائب بن يزيد (أنه حضر عمر بن الخطاب وهو يجلد رجلاً وجد منه ريح شراب، فجلده، الحد تاماً) . وجه الاستدلال: ووجه الدلالة من هذا الأثر ظاهرة من أن عمر رضي الله عنه أقام الحد بالقرينة الظاهرة وهي: وجود رائحة الخمر. 2- حكم ابن مسعود رضي الله عنه: وهذا الحكم من رواية الصحيحين: البخاري (3) ومسلم (4) . ولفظه عند البخاري بإسناده إلى علقمة (5) قال: (كنا بحمص فقرأ ابن مسعود رضي الله عنه سورة يوسف: فقال رجل ما هكذا أنزلت فقال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت. ووجد منه ريح
الخمر. فقال: أتجمع أن تكذب بكتاب الله. وتشرب الخمر. فضربه الحد) . وجه الدلالة منه: يقال في وجه الدلالة من هذا الأثر أنها ظاهرة أيضاً من إقامة ابن مسعود الحد بالرائحة. 3- حكم عثمان رضي الله بالحد بالقيء. وهذا الحكم رواه مسلم (1) وأبو داود (2) . ولفظه عند مسلم بإسناده إلى حضين بن المنذر أبو ساسان الرقاشي (3) قال: (شهدت عثمان رضي الله عنه وأتى بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم. فشهد عليه رجلان. أحدهما: حمران (4) أنه شرب الخمر. وشهد آخر أنه رآه يتقيأ. فقال عثمان إنه لم يتقيئها حتى شربها. فقال: يا علي قم فاجلده. فقال علي: قم يا حسن (5) فاجلده. فقال الحسن: ولّ حارّها من تولى قارّها (6) . فكأنه وجد عليه. فقال يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده. فجلده. وعلي يعدّ حتى بلغ أربعين فقال: أمسك. ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين. وجلد أبو بكر أربعين. وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي) .
وجه الدلالة منه: هي أن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أن من تقيأ الخمر يحد حد الشارب كما تفيده هذه القصة وقد أشار إلى ذلك النووي (1) . 4- اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على الحكم بهذه القرينة الظاهرة من وجود الرائحة تنبعث من فمه أو وجوده يتقيؤها. وقد حكى ابن القيم هذا الاتفاق وأنه لا يعرف لعمر وابن مسعود في حكميهما السابقين مخالفة من الصحابة رضى الله عنهم (2) . القول الثالث: أن الذي يجب عليه الحد بالرائحة من يكون مشهوراً بشرب الخمر مدمناً عليها. حكاه ابن المنذر عن بعض السلف كما ذكره الحافظ فقال (3) : (وحكى ابن المنذر عن بعض السلف أن الذي يجب عليه الحد بمجرد الرائحة من يكون مشهوراً بإدمان شرب الخمر) . ومنهم عمر رضي الله عنه وابن الزبير (4) رضي الله عنه كما رواه عنهما عبد الرزاق فقال (5) : (عن معمر (6) . عن إسماعيل بن أمية (7) قال: كان عمر إذا وجد من رجل ريح
شراب جلده جلدات إن كان ممن يدمن شرب الخمر. وإن كان غير مدمن تركه) . وعن ابن جريج (1) عن ابن أبي مليكة (2) . يزعم أنه استشار ابن الزبير- وهو أمير الطائف- في الريح أيجلد فيها. فكتب إليه: إذا وجدتها من المدمن وإلا فلا) . القول الرابع: أنه لا يحد بمجرد الرائحة بل لا بد أن ينضم معها قرينة أخرى مثل أن يوجد جماعة شهروا بالفسق ويوجد معهم خمر ويوجد من أحدهم رائحة الخمر. وهذا هو اختيار الشيخ ابن قدامة كما حكاه الحافظ عنه في (فتح الباري) فقال (3) : (ولما حكى الموفق في: المغنى الخلاف في وجوب الحد بالرائحة المجردة اختار ألا يحد بالرائحة وحدها بل لا بد معها من قرينة كأن يوجد سكران، أو يتقيأها. ونحوه أن يوجد جماعة شهروا بالفسق ويوجد معهم خمر ويوجد من أحدهم رائحة الخمر) . وهذا الاختيار لابن قدامة لا يوجد في مظنته من كتابه (المغني) في نسخه المطبوعة (4) والله أعلم. وهذا الرأي مروي عن عطاء رحمه الله تعالى كما رواه الشافعي في مسنده بسنده عن ابن جريج قال: (قلت لعطاء أتجلده في ريح الشراب. فقال عطاء أن الريح لتكون من الشراب
مناقشة أدلة الخلاف في هذا المبحث
الذي ليس فيه بأس. فإذا اجتمعوا جميعاً على شراب واحد فسكر أحدهم جلدوا جميعاً الحد تماماً) . معنى هذا الأثر: قال الساعاتي في بيان معنى هذا الأثر (1) : (معناه أن مجرد الريح بدون سكر لا يوجب الحد لأنه قد يشتبه بريح شيء مباح، أما لو فرضنا أن من وجد منه ريح الشراب مع جماعة وسكر أحدهم فإنه يجب عليهم الحد جميعاً) . وهكذا يرمي إلى أن الحد لا يقام بمجرد الرائحة بل لا بد من ضميمة قرينة أخرى إليه والله أعلم. المناقشة والترجيح: بعد بيان الخلاف وأدلته. يبقى ما هو الراجح من هذه الأقوال والاختيارات هل هو ما ذهب إليه ابن القيم من وجوب الحد بالرائحة أو القيء، ودلل عليه، وأكثر من ذكره في بعض كتبه أم أن الراجح سواه؟؟ إن مدار البحث في هذه المسألة يدور على تقرير قاعدتين: الأولى: دراسة هذه الأحكام من الصحابة رضي الله عنهم بجمع ألفاظها وبيان مخارجها حتى نرى هل يتم لابن القيم وسلفه من أهل العلم رحمهم الله تعالى الاستدلال بها على الحد بمجرد الرائحة أو القيء أم لا. الثانية: الكشف عن الشبه التي أوردها نفاة وجوب الحد بالرائحة أو القيء وهل هي محتملة أم غير محتملة. وبيان ذلك على ما يلي:
أولاً: مناقشة أدلة ابن القيم وسلفه من العلماء من الحد بمجرد الرائحة أو القيء وهي كما يأتي: 1- مناقشة الاستدلال بحكم عمر رضي الله عنه: إن حكم عمر رضي الله عنه من الآثار التي وقع فيها لبس واشتباه بسبب اختصار بعض الرواة لها فهي وإن تعددت مخارجها وألفاظها قصة واحدة وأصلها في صحيح البخاري معلقة قال (1) : (وقال عمر وجدت من عبيد الله ريح شراب وأنا سائل عنه فإن كان يسكر جلدته) . وهذا المعلق قد وصله الشافعي في (مسنده) (2) ومالك في (الموطأ) (3) كلاهما من حديث السائب بن يزيد عن عمر. لكن في روايتهما أبهما اسم الذي وجد منه ريح الشراب. وقد وصلها أيضاً سعيد ابن منصور في (سننه) (4) وعبد الرزاق في (مصنفه) (5) وصرحا في روايتهما باسم الذي وجد منه ريح الشراب. وهذا لفظه عند عبد الرزاق قال في روايته عن معمر عن الزهري: (عن السائب بن يزيد قال شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى على جنازة ثم أقبل علينا، فقال أني وجدت من عبيد الله ريح الشراب. واني سألته عنها. فزعم أنها الطلاء. وإني سائل عن الشراب الذي شرب فإن كان مسكراً جلدته. قال فشهدته بعد ذلك يجلده) . ثم رواها عبد الرزاق أيضاً مختصرة بلفظ (عن السائب أنه حضر عمر يجلد
رجلا وجد منه ريح شراب فجلده الحد تاماً) (1) . قال الحافظ ابن حجر (2) : (ظاهر هذه الرواية أنه جلده بمجرد وجود الريح منه. وليس كذلك لما تبين من رواية معمر) . ثم أن ابن أبي شيبة أخرج هذه الرواية في (مصنفه) كما ذكرها ابن حجر في (فتح الباري) (2) بلفظ هو أشد لبساً واختصاراً فقال (عن السائب أن عمر كان يضرب في الريح) . فهذه روايات هذا الأثر مدارها كلها موصولة على السائب بن يزيد عن عمر رضي الله عنه مما يدل على أن الكل رواية لقصة واحدة وإن تعددت مخارجها وإن اللبس إنما حصل من اختصار بعض الرواة لها وقد كشف عن ذلك جازماً به الحافظ ابن حجر ثم قال (4) : (وقد تبين برواية معمر- عند عبد الرزاق- أن لا حجة فيه لمن يجوز إقامة الحد بوجود الريح) . وهذا رد من الحافظ على من يستدل برواية ابن أبي شيبة مثلاً على أن عمر رضي الله عنه كان يضرب بوجود الريح. وهذا من الوضوح بمكان فإن عمر رضي الله عنه لما وجد من الرجل وهو ابنه عبيد الله- ريح الشراب أقر ابنه عبيد الله أنه شرب (الطلاء) فرجع عمر رضي الله عنه بالحكم إلى علته وهي (الإسكار) فلما علم أن (الطلاء) يسكر. أقام عمر رضي الله عنه الحد على ابنه عبيد الله إذ شرب المسكر.
فلم يكن الحكم بهذا بمجرد وجود الرائحة بل استدل بهذا الأثر وهو (الرائحة) على وجود المؤثر وهو (الشرب) فاعترف ابنه بالشرب وزعم أنه (الطلاء) والطلاء مسكر فحده عمر رضي الله عنه لأنه شرب المسكر. فتبين إذا من مناقشة هذا الأثر رواية ودراية أنه لا حجة فيه لابن القيم رحمه الله تعالى لإقامة الحد بوجود الرائحة والله أعلم. ب- مناقشة الاستدلال بحكم ابن مسعود رضي الله عنه. أما حكم ابن مسعود رضي الله عنه (وهو أنه وجد من الرجل ريح الخمر. فقال له: أتجمع أن تكذب بكتاب الله وتشرب الخمر. فضربه الحد) . فما أجله من إسناد وأصحه ويكفي أنه من رواية الشيخين البخاري ومسلم. لكن دلالته على وجوب الحكم بمجرد الرائحة غير مسلم بها لأمرين هما: 1- حمل هذا الحكم على أن الرجل اعترف بشرب الخمر بلا عذر كما قرره النووي فقال (1) : (هذا محمول على أن الرجل اعترف بشرب الخمر بلا عذر وإلا فلا يجب الحد بمجرد ريحها لاحتمال الاشباه والنسيان والإكراه وغير ذلك هذا مذهبنا ومذهب آخرين) . وهذا جواب مسلم به. ومع الاحتمال يسقط الاستدلال. وقال الحافظ ابن حجر في معرض مناقشته لدلالة هذا الأثر (2) : (وللمانع أن يقول: إذا احتمل أن يكون أقر سقط الاستدلال بذلك) . فهذا الأثر ليس نصاً في أن موجب الحد وجود الرائحة مجردة بل يحتمل وجود اعتراف بالشرب فلا يتم الاستدلال به إذا والله أعلم.
2- أن هذا مجرد رأي لابن مسعود رضي الله عنه وقد خولف. والمخالف له علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وقد ذكرها الحافظ ابن حجر فقال (1) : (ووقع عند الإسماعيلي إثر هذا الحديث- يشير إلى حكم ابن مسعود- النقل عن علي أنه أنكر على ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها إذ لم يشهد عليه) . فهذا إذا مجرد رأي من ابن مسعود والرأي قد يخطئ ويصيب وقد خطأه الخليفة الراشد علي رضي الله عنه.. ولذا نعلم أن قول ابن القيم رحمه الله تعالى أنه لا يعلم لابن مسعود مخالف من الصحابة رضي الله عنهم إنما قرر ذلك لمنتهى علمه هو رحمه الله تعالى وإلا فقد علم وجود المخالف كما ذكره الحافظ بن حجر نقلاً عن الإسماعيلي. فكيف يكون هذا الأثر حجة على وجوب الحكم بالرائحة مجردة مع ذلك الاحتمال وهذه المخالفة. ولذا والله أعلم فإن البخاري ومسلما لم يخرجا هذا الأثر في أحكام الحدود: فمسلم رحمه الله تعالى ذكره في زمرة أحاديث فضائل القرآن أثناء أحكام الصلوات. ولذا ترجم له النووي بقوله (باب فضل استماع القرآن) (2) . والبخاري رحمه الله تعالى ذكره في (كتاب فضائل القرآن) وترجمه بقوله (باب القراءة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) (3) . ولم يترجم واقعة الخمر منه في كتاب الحدود، مع دقة فهمه رحمه الله تعالى، وقوة استنباطه حتى أنه ليقطع الأحاديث على أبواب العلم مراعاة لما فيها من تعدد الأحكام والله أعلم. ولعله واضح بهذا أنه لا يسلم الاستدلال لابن القيم ولا لسلفه من أهل العلم- بهذا الأثر على الحد بمجرد الرائحة والله أعلم.
ب- مناقشة الاستدلال بحكم عثمان رضي الله عنه. أما الاستدلال على وجوب إقامة الحد بمجرد الرائحة- بحكم عثمان رضي الله عنه كما أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى، فإنه أبعد ما يكون في الاستدلال وجه ذلك: أن حمران ابن أبان وهو ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره فهو من ثقات التابعين وأجلة علمائهم كما ذكره الحافظ ابن حجر (1) ، شهد عند عثمان رضي الله عنه بأن الوليد شرب الخمر. وشهد شاهد آخر بأنه رأى الوليد يتقيأها، فانضمت شهادة التقيؤ إلى شهادة الشرب. فقال عثمان رضي الله عنه (لم يتقيأها حتى شربها) . وقد شهد حمران بأنه شربها، فهذا ظاهر جداً من أن عثمان رضي الله عنه لم يحد الوليد بمجرد القيء لها إضافة إلى أن الوليد بن عقبة رضي الله عنه قد شرب وشرب كما ذكره أخباره في ذلك الحافظ ابن حجر (2) . ولهذا والله أعلم فإن مخرجي هذا الأثر لم يترجموه بما يفيد الحد بالقيء كما تقدم. فهل يبقى بعد هذا التمسك بهذا الأثر لمن قال أن عثمان رضي الله عنه حد بمجرد القيء؟؟. د- مناقشة الاستدلال بدعوى اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على إقامة الحد بالرائحة والقيء. وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أنه لا يعلم مخالف لعمر وابن مسعود وغيرهم بالحكم بإقامة الحد بالرائحة والقيء وأن هذا اتفاق من الصحابة رضي الله عنهم في على ذلك؟.
وفي الواقع أن هذه دعوى اتفاق تخالف المحل المأخوذة منه كما ظهر جلياً من مناقشة الحكم العمري. والحكم العثماني. وحكم ابن مسعود رضي الله عنه بيان ذلك: أن حكم عمر رضي الله عنه لم يكن موجبه الرائحة بل إقرار ابنه عبيد الله بالشرب. وحكم عثمان رضي الله عنه لم يكن موجبه الشهادة بالتقيؤ بل بالشهادة على الشرب مع انضمام شهادة التقيؤ إليها مع أن الوليد رضي الله عنه قد شرب وشرب. وحكم ابن مسعود رضي الله عنه قد وجد له مخالف وهو علي رضي الله عنه. مع احتمال أن يكون المحدود قد أقر فيكون هذا موجب الحكم فيضعف الاستدلال إذا بوجوب الحد بالرائحة. ثانياً: الكشف عن الشبه التي أوردها نفاة الحد بالقيء أو الرائحة وهل هي محتملة أم غير محتملة. قاعدة الشرع المطردة درء الحدود بالشبهات للأحاديث المتكاثرة المتعاضدة في هذا المعنى (1) كحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً) رواه ابن ماجه (2) . وحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) رواه الترمذي (3) . وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم (4) .
مناقشة الجمهور فيما أوردوه من شبه على نفي الحد
الشبه الواردة: إذا كانت قاعدة الشرع درء الحد بالشبهة فما هي الشبه الواردة هنا وبيانها على ما يلي: 1- شبهة الاشتباه: وهي واردة من جهتين. من جهة اشتباه الروائح فإن من الأشربة والمآكل المباحة ما يوافق برائحته رائحة الخمر كشراب التفاح. والنبق البالغ. ومن جهة المشروب نفسه فإنه قد يشتبه على الشارب شراب تفاح مباح بشراب خمر حرام فيشربه يظنه المباح. فانبعاث الرائحة إذا أو تقيؤه لا يكون قرينة ظاهرة سالمة يقام بها الحد. لأن هذا الاشتباه ليس مجرد شبهة بل هو شبهة محتملة الورود. وقد أشار إلى هذه الشبهة. النووي في (شرح مسلم) (1) وابن قدامة في (المغني) (2) وابن حجر في (فتح الباري) (3) . وقد تقدم نقل أقوالهم في هذا. 2- شبهة النسيان: كأن يكون لديه عصير أو نبيذ قد تخمر فنسى تخمره فشربه. وقد أشار إلى هذه النووي في (شرح مسلم) كما تقدم. وهذه شبهة واردة أيضاً لأن اتخاذ العصير والنبيذ دون ثلاث ليال مباح أصلاً، والتخمر وارد. والنسيان عذر مسقط للجزاء كما في قوله تعالى (4) (ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) الآية.
الترجيح. وفيه مناقشة ابن القيم في اختياره
فتكون هذه شبهة محتملة لا أنها مطلق شبهة. الى غير ذلك من الشبه الواردة كشبهة الإكراه. وشبهة جهل كونها خمراً ونحو ذلك من الشبه التي يحتمل ورودها غالباً لا أنها مجرد احتمال. فهذه وأمثالها شبه يدرء معها الحد بالرائحة أو القيء لأن هذه قرينة لا تقوى على مدافعة هذه الشبه. الترجيح: يتبين من دراسة الخلاف وأدلته أن مما ذهب إليه ابن القيم من وجوب الحد بالقرينة الظاهرة كالرائحة أو القيء غير مترجح لعدم ظهور دلالة الأدلة المذكورة على مقتضاه ففي هذا القول نوع إفراط لاحتمال الشبهة الدارءة للحد. وفي مقابل هذا القول: مذهب نفاة وجوب الحد بالقرينة الظاهرة لوجود احتمال شبهة. والله أعلم. والذي يظهر والله أعلم هو القولان الثالث (1) والرابع (2) فإنا لو نظرنا لرأينا هذين القولين مآلهما إلى قول واحد، وهو: أن الحد بالرائحة مثلاً لا يجب إلا بضميمة قرينة إليه تنفي الشبهة وتبعد الاحتمال. وبذلك تلتئم الأدلة ويجتمع شملها. وهذا هو ما ذهب إليه جماعة من السلف منهم عمر رضي الله عنه، وابن الزبير رضي الله عنه. وعطاء رحمه الله تعالى. وابن قدامة رحمه الله تعالى. وعليه فإن الحد بالرائحة والقيء يكون في مثل الصور الآتية. الأولى: أن يكون من وجدت منه الرائحة مشهوراً بإدمان شرب الخمر. وبها
قال عمر رضي الله عنه (1) . الثانية: أن يوجد جماعة الفساق على شراب فيكون في بعضهم سكر. والبعض تنبعث الرائحة من فمه. فيحد الجميع. وبها قال عمر بن عبد العزيز (2) . وعطاء (3) . الثالثة: أن يوجد مع الرائحة عوارض السكر والتقيؤ، كما ذكره ابن قدامة رحمه الله تعالى (4) . الرابعة: أن يشهد على شخص شاهدان أحدهما بالشرب والثاني بالرائحة أو القيء كما في قصة عثمان رضي الله عنه مع الوليد رضي الله عنه (5) . وهذا القول كما تلتئم به النصوص ويجتمع شملها تدل عليه أيضاً قضايا السلف وأقوالهم. أما أن يوقع الحد بمجرد الرائحة مثلاً فلا. وقد وقع ما يدل على أن ذلك غير موجب للحكم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك فيما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (6) : (شرب رجل فسكر، فلقى يميل في الفج. فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فلما حاذى بدار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك. فقال أفعلها. ولم يأمر فيه بشيء) .
وجه الدلالة منه: قال الخطابي في وجه الدلالة من هذا الحديث (1) : (يحتمل أن يكون إنما لم يتعرض له بعد دخوله دار العباس رضي الله عنه من أجل أنه لم يكن ثبت عليه الحد بإقرار منه أو شهادة عدول. وإنما لقي في الفج يميل، فظن به السكر فلم يكشف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه على ذلك والله أعلم) . وهذا من أحسن محامل الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقع الحد بمجرد وجود قرينة (تمايل الرجل) لاحتمال أن هذا من السكر أو من غيره من المؤثرات. ولم ينضم إلى ذلك ما يوجب انتفاء الشبهة وإقامة الحد والله أعلم.
باب حد السرقة
باب حد السرقة
تعريفها لغة وشرعا
تعريف السرقة في اللسانين: اللغة والشرع: تعريفها لغة: هي مصدر سرق، بفتحتين، يسرق على وزن ضرب يضرب: سرقاً بفتحتين وسرقاً بفتح فكسر. وسرقة بفتح فكسر أيضاً. فهو سارق والأنثى سارقة والشيء: مسروق. وصاحبه: مسروق منه (1) قال ابن حجر: (ويقال لسارق الإبل: خارب بخاء معجمة. وللسارق في المكيال: مطفف. وللسارق في الميزان مخسر) (2) . والاسم منه: السّرقة بكسر الراء قاله النووي وغيره (3) . ويقال فيه أيضاً: السرق بفتحتين مع تشديد السين المهملة. ذكره ابن الأثير وغيره (4) .
أما السرقة، بفتحتين: فهي الاسم: للحرير. أو للجيد منه. أو للأبيض منه خاصة (1) هذا تصريف الكلمة في اللغة. أما معناها: فتتفق كلمة أرباب اللسان على أن العنصر الأساسي في معنى مادة (سرق) هو (الاختفاء) . ومنه قوله تعالى (2) (الا من استرق السمع أي تسمع مختفياً (3) . ومنه قيل للأبح: سرق صوته فهو مسروق لاختفاء حصل فيه (4) . ومنه هنا قيل لن يأخذ المال من غيره مختفياً (سارق) فإن أخذه من غير خفية فهو: مختلس. ومستلب. ومحترس (5) . فمعنى (السرقة) في اللغة إذا هو (الأخذ بخفية) . وعلى هذا المعنى دارت تعاريف النقلة لمعنى السرقة لغة: فقال الراغب (السرقة أخذ ما ليس له أخذه في خفاء) (6) . وفي القاموس (أخذ الشيء المختفى) (7) . وفي معجم متن اللغة (أخذ ما ليس له من حرز مستتراً) (8) . وقال ابن حجر في (فتح الباري) هي (الأخذ خفية) (9) . تعريفها في لسان الشرع: يجد الناظر في بيان أهل العلم لمعنى السرقة في اصطلاح الشرع: التقاء تعريف
السرقة اصطلاحاً مع المعنى اللغوي بجامع الاختفاء. فهو عنصر أساسي في التعريف الاصطلاحي شرعاً. لكن يأتي بين بعض التعاريف اختلاف وذلك ناشئ من اختلاف المذاهب في الشروط، فيعرفه صاحب المذهب بما يراه جامعاً مانعاً من حيث الما صدق على ما هو مفرع في مذهبه لاناطة حكم الشرع به (وهو القطع) . ومن هذه التعاريف ما يلي: الحنفية: قال البابرتي (1) : (السرقة أخذ مال الغير على سبيل الخفية نصاباً محرزاً للتمول غير متسارع إليه الفساد من غير تأويل ولا شبهة) . المالكية: قال ابن رشد (2) : (حد السرقة: أخذ مال الغير مستتراً من غير أن يؤتمن عليه) . الشافعية: قال الرملي (3) : (السرقة شرعاً: أخذ مال خفية من حرز مثله بشرائط) . الحنابلة: قال ابن قدامة (4) :
(السرقة: أخذ المال على وجه الخفية والاستتار) . وقال البهوتي (1) : (وهي: أخذ مال محترم لغيره وإخراجه من حرز مثله بلا شبهة له فيه على وجه الاختفاء) .
مباحث ابن القيم في السرقة لابن القيم رحمه الله تعالى في ذلك مباحث كريمة المأخذ عزيزة المطلب، عليها أنوار التحقيق ولطافة التدقيق. ومسايرة روح التشريع ونستطيع أن نستخلص مباحثه فيها على النمط الآتي: المبحث الأول: حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده. المبحث الثاني: كشف الشبه الواردة على هذه العقوبة. المبحث الثالث: في بيان جملة من شروط القطع في السرقة. المبحث الرابع: في عقوبات السارق. المبحث الخامس: في قطع جاحد العارية. المبحث السادس: الحد بالقرينة الظاهرة. المبحث السابع: في توبة السارق. والى الحديث عنها واحداً إثر واحد على هذا الترتيب:
المبحث الأول: حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده
المبحث الأول: حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده (1) من ضروريات التعايش الآمن وبناء العمران المطمئن صيانة الأموال والمحافظة عليها فكان من حكمة الله ورحمته بعباده أن فرض العقوبة الرادعة لكل سارق يفسد على الناس معاشهم ويخل بأمنهم على أموالهم. ففرض عقوبة قطع اليد من السارق. وجاء في نص صريح محكم وتنزيل يتلى فقال تعالى (2) (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) . وفي هذه الآية، جماع القول بالحكمة (جزاءً بما كسبا نكالاً من الله) . فبيّن سبحانه أن (القطع) هو الحكم المطابق لمجازاة (السارق) لا نقص ولا شطط فلم يجعل عقوبته الجلد، فيكون جزاء، ناقصاً عن مقابلة الجرم. ولم يجعله إعداماً للنفس فيكون فيه مجاوزة لما يستحقه الجرم. وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (إن عقوبة القطع للسارق أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد. ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل، فكان أليق العقوبات به: إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذي الناس وأخذ أموالهم) . وقال أيضاً (4) : (ولم يشرع في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدالته لتزول النوائب وتنقطع
الأطماع عن التظالم والعدوان. ويقنع كلّ إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقَّه) . وقال أيضاً (1) : (إن المقصود هو الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كفّ عدوانه أقرب، وإن يعتبر به غيره، وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحاً وإن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح. ثم أن في حد السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرّاً كما يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون (فلان ينظر إلى فلان مسارقة) إذا كان ينظر إليه نظراً خفياً لا يريد أن يفطن له. والعازم على السرقة مختف كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء. واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران. ولهذا يقال: (وصلت جناح فلان) إذا رأيته يسير منفرداً، فانضممت إليه لتصحبه، فعوقب السارق بقطع اليد قصاً لجناحه. وتسهيلاً لأخذه أن عاود السرقة. فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفاً في العدو. ثم تقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفاً في عدوه، فلا يكاد يفوت الطالب. ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة. ورجله الأخرى في الرابعة فيبقى لحما على وضم فيستريح ويريح) (2) .
المبحث الثاني: كشف الشبه الواردة على: عقوبة السارق بالقطع (1) . أورد ابن القيم رحمه الله تعالى التساؤل المشهور من نفاة القياس والحكم والتعليل من وجود التفريق بين المتماثلين. والجمع بين المختلفين. وفي هذا ذكر إيرادهم في السرقة وكشف عنها بما لا يدع لقائل مقالاً. ونفاة القياس إنما أوردوا هذا وأمثاله لفك شرعية القياس لا للقدح في حكم السرقة فحاشاهم بل هم مؤمنون بحكم الله ودينه وشرعه ولا يعتريهم في ذلك شك ولا يساورهم فيه وهم.: أما في عصرنا فهذه الإيرادات ونحوها هي النافذة الموهومة التي نفث منها - المستشرقون وأذنابهم- بإلقاء الشبه وتكوين الشكوك لا في هذا الحد (قطع السارق) فحسب بل ليتدرجوا بالرعاع من أولاد المسلمين، الغرباء عن إسلامهم- إلى ترك الإسلام جملة وتفصيلاً؟ ولكن نقول بكل ثبات: وأنى لهم أن يتم ذلك؟؟؟. (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (2) . وابن القيم رحمه الله تعالى في مباحثه هذه كأنما أعطى رحمه الله تعالى نسخة من شبه المستشرقين فكر عليها بالنقض والرفض حتى أصبحت أثراً بعد عين بل ولا أثر. لهذا فإنني أورد هذه الإيرادات على لسان مورد الشبه والاعتراض (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة) (3) .
الاعتراض الأول: أن العقوبة بالقطع محض ضرر السارق. نعى ابن القيم على المتباكين على هؤلاء اللصوص، الذين يقولون إن القطع شر محض على المقطوع فقال (1) : (السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم. وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمراً وحكماً. لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموماً بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم فهو محمود على حكمه بذلك وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة ... أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض وحكمة وإحسان إلى العبيد وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي فالشر ما قام به من تلك العقوبة وأما ما نسب إلى الربّ منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة. فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه وأنه سبحانه كما أنه البر الرحيم الودود المحسن فهو الحكيم الملك العدل، فلا تناقض حكمته رحمته، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم. فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه موَضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته. ولا تلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله: أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء ولا فرق أصلاً وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة؟. وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلاً بالرد على هذه المقالة وإنكارها أشد الإنكار وتنزيه نفسه عنها كقوله تعالى (2) (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون) وقولة (3) (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا
وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) وقوله (1) (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) . فأنكر سبحانه على من ظن هذا الظن ونزّه سبحانه نفسه عنه فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزّته وإلاهيته لا إله إلا هو تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيراً. وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار واستهجنته أعظم الاستهجان. وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام موضع العقوبة والانتقام كما إذا جاء من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام ورفعه وكرمه، فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا وتشهد على سفه من فعله. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها وأحقها بالعقوبة، وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق، ولظهرت مناقضة الحكمة كما قال الشاعر: نعمة الله لا تعاب ولكن ... ربما استقبحت على أقوام. هذا ما قرره ابن القيم بحماس متدفق ضد هذا الاعتراض المريض المتلخص: أن في هذه العقوبة حماية للمجتمع من ضرر هذه الجريمة، واهتماماً بتهذيب المجرم وتطهيره مع إبداء كمال المناسبة بين الجريمة والعقاب. ويطيب لي في هذا المقام أن أذكر ما أوضحه الأستاذ عبد الكريم زيدان، في تفنيد هذا الاعتراض ونقضه فقال (2) : (أما صيرورة المقطوع عالة على المجتمع فهذا إذا. كان صحيحاً فمن الصحيح
أيضاً أن يقال: إن صيرورة المقطوع عالة على المجتمع، وقد انكف إجرامه، خير له وللمجتمع من أن يبقى مجرماً سليم اليدين ينال كسبه من السحت الحرام أما الاستعاضة عن القطع بالحبس مع التربية والتوجيه، فالرد على هذا أن الطواف على السجون وعد نزلائها يرينا أنهم بازدياد دائم. فما ردعت السجون عن جريمة السرقة إلا قليلاً. بل إن السجن أصبح مكاناً أميناً للسراق يتواجدون فيه ويلتقون ويتبادلون خبراتهم في عالم السرقة والإجرام. أما قطع اليد فإنها كفيلة بقطع دابر السرقة أو تقليلها إلى حد كبير جداً، والتاريخ خير شاهد على ما نقول فإن هذه العقوبة آتت أكلها وثمرتها للناس فعاشوا بأمان من السرقة والسراق) . الاعتراض الثاني: كيف يكون القطع لمن سرق ثلاثة دراهم دون مختلس ألف دينار أو منتهبها أو غاصبها (1) . قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب عن ذلك (2) : (هذا من تمام حكمة الشارع: فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه. فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضاً. وعظم الضرر. واشتدت المحنة بالسراق بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس. فيمكنهم أن يأخذوا على يديه. ويخلصوا حق المظلوم. أو يشهدوا له عند الحاكم، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره، فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه. وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس. فليس كالسارق. بل هو بالخائن أشبه.
وأيضاً فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالباً، فإنه الذي يقاتلك ويختلس متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه. وهذا يمكن الاحتراز منه غالباً فهو كالمنتهب. وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر وهو أولى بعدم القطع من المنتهب. ولكن يسوغ كفّ عدوان هؤلاء بالضرب والنكال، والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال) . ومدار الدفع من ابن القيم لهذا الاعتراض: هو توفر الحرز في السرقة وهو غاية ما يملكه الناس من الاحتراز. مع اختفاء السارق. وهذا المعنى لا يوجد في كل من المنتهب والمختلس. والغاصب على ما أوضحه رحمه الله تعالى (1) . الاعتراض الثالث: التفاوت بين ديّة اليد إذا جنى عليها فإن ديّتها خمسمائة دينار وبين عقوبتها بالقطع إذا سرق فإن نصاب السرقة الموجب للقطع ثلاثة دراهم (2) ؟. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب عن ذلك (3) : (وأما قطع اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمسمائة دينار: فمن أعظم المصالح والحكمة. فإنه احتاط في الموضعين للأموال والأطراف: فقطعها في ربع دينار حفظاً للأموال. وجعل ديتها خمسمائة دينار حفظاً لها وصيانة. وقد أورد بعض الزنادقة هذا السؤال وضمنه بيتين فقال (4) :
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض مالنا إلا السكوت له ... ونستجير بمولانا من العار فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت. وضمنه الناظم قوله (1) : يد بخمس مئين عسجد وديت لكنها ... قطعت في ربع دينار حماية الدمّ أغلاها، وأرخصها ... خيانة المال، فانظر حكمة الباري وروي أن الشافعي (2) رحمه الله تعالى أجاب بقوله: هناك مظلومة غالت بقيمتها ... وههنا ظلمت هانت على الباري وأجاب شمس الدّين الكردي (3) بقوله: قل للمعري عار أيما عار ... جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار لا تقدحن زناد الشعر عن حكم ... شعائر الشرع لم تقدح بأشعار فقيمة اليد نصف الألف من ذهب ... فإن تعدت فلا تسوى بدينار ومنه يتضح للمنصف أن هذا التفاوت بين ديّة اليد إذا جنى عليها وبين نصاب القطع إذا جنت هو عين الحكمة والعدل والصيانة لأبدان الناس وأموالهم. وهذا الاعتراض الآثم أورده جماعة من العلماء ولكن لا يخرجون في جوابهم عما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى. وهو نقض جلى مبناه على التفاوت العظيم بين الجنايتين.
وممن أورده الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) (1) . وفي (لسان الميزان) (2) وقال (3) : (قال السلفي (4) : إن كان المعري قال هذا الشعر معتقداً معناه فالنار مأواه وليس له في الإسلام نصيب) . حكمة التشريع في جعل نصاب السرقة ربع دينار: وابن القيم رحمه الله تعالى بعد نقض هذا الاعتراض يتحفنا بحكمة الشرع في تخصيص القطع بهذا القدر (ربع دينار) زيادة منه في نقض مقالة المعري وأضرابه فيقول (5) : (وأما تخصيص القطع بهذا القدر: فلأنه لا بد من مقدار يجعل ضابطاً لوجوب القطع، إذ لا يمكن أن يقال: يقطع بسرقة فلس أو حبة حنطة أو تمرة، ولا تأتي الشريعة بهذا وتنزه حكمة الله ورحمته وإحسانه عن ذلك. فلا بد من ضابط: وكانت الثلاثة دراهم أول مراتب الجمع، وهي مقدار ربع دينار. وقال إبراهيم النخعي (6) وغيره من التابعين: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه (7) . فإن عادة الناس التسامح في الشيء الحقير من أموالهم، إذ لا يلحقهم ضرر بفقده وفي التقدير بثلاثة دراهم حكمة ظاهرة: فإنها كفاية المقتصد في يومه له ولمن
المبحث الثالث: في بيان جملة من شروط القطع في السرقة وهي ستة شروط
يمونه غالباً. وقوت اليوم للرجل وأهله له خطر عند غالب الناس، وفي الأثر المعروف (1) (من أصبح آمناً في سربه (2) معافىً في بدنه عنده قوت يومه فكأنما (3) حيزت له الدنيا بحذافيرها) (4) . المبحث الثالث: في بيان جملة من شروط القطع في السرقة للقطع في السرقة شروط منها ما يعود إلى السارق نفسه ومنها ما يعود إلى المسروق منه ومنها ما يعود إلى المسروق ذاته، ومن هذه الشروط المتفق عليه ومنها المختلف فيه وجميعها مسطرة في كتب المذاهب المشهورة (5) . وحسبنا هنا ذكر ما تناوله قلم التحقيق من ابن القيم رحمه الله تعالى وهي أربعة شروط: الشرط الأول: أن تكون السرقة من حرز. الشرط الثاني: أن يكون المسروق بما لا يسرع إليه الفساد. الشرط الثالث: أن يكون المسروق نصاباً. الشرط الرابع: مطالبة المسروق منه بماله.
الشرط الأول: الحرز. ذكر الخلاف ومناقشته
الشرط الخامس: انتفاء الشبهة. الشرط السادس: ثبوت السرقة بشهادة عدلين أو إقرار مرتين. وبيانها على هذا الترتيب كما يلي: الشرط الأول: أن تكون السرقهَ من حرز (1) . وابن القيم رحمه الله تعالى في حديثه عن الحرز يتكلم عنه من ناحيتين: الأولى: شرطية. الثانية: بيان أنواع من الحرز مختلفة باختلاف الأموال والأحوال. وبيانها كما يلي: الأولى: شرطية الحرز: اشتراط إخراج السرقة من حرز، هو قول الجماهير من أهل العلم منهم الأئمة
الأربعة. بل حكى عليه الإجماع. كما ذكره ابن قدامة (1) وابن هبيرة (2) وابن حزم (3) وابن الهمام (4) . وابن القيم رحمه الله تعالى ينص على: اعتبار الحرز في السرقة وإخراجه منه (5) . استدلال ابن القيم (6) : ويستدل لذلك الاعتبار بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التمر المعلق فقال (من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة (7) فلا شيء عليه. ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثلية والعقوبة. ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين (8) فبلغ ثمن المجن (9) فعليه القطع) رواه أبو داوود (10) والترمذي (11) وابن ماجه (12) واللفظ لأبي داوود.. وجه الاستدلال: قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بيانه (13) : (فيه اعتبار الحرز فإنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة وأوجبه
على سارقه من الجرين) . وهذا القدر من الاستدلال وبيان وجهه هو عمدة القائلين بشرطية الحرز من السنة النبوية ولهذا قرروا أنه يخص آية السرقة وهي قوله تعالى (1) (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) الآية كما خصصت باعتبار النصاب. وهذا ما قرره ابن قدامة (2) وابن الهمام (3) وغيرهما والله أعلم. الثانية: بيان أنواع من الحرز مختلفة باختلاف الأموال والأحوال. عرفنا من بيان حد الحرز في الاصطلاح أنه يختلف باختلاف الأموال والأحوال والبلدان (4) وابن القيم رحمه الله تعالى يوضح بعضاً منها في حدود ما دلت عليه الوقائع في عهد النبوة ومنها ما يلي: أ- حرز الثمار من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه- المتقدم ذكره (5) : بين ابن القيم رحمه الله تعالى أن الثمار لها ثلاثة أحوال حالتان لا قطع فيهما والثالثة فيها القطع فقال (6) : (جعل النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ الثمرة ثلاثة أحوال حالة لا شيء فيها وهو ما إذا أخذه من شجرة وأخرجه. وحالة يقطع فيها وهو ما إذا سرقه من بيدره (7) سواء قد انتهى جفافه أم لم ينتهي) . وهذا حكم متفق عليه لدى الأئمة الأربعة إلا أن الحنفية يشترطون أن تكون الثمار جافة غير رطبة ولهذه المسألة مزيد بحث يأتي إن شاء الله في الشرط الثاني.
ب- الإنسان حرز لثيابه وفراشه: عن صفوان بن أمية (1) رضي الله عنه قال: كنت نائماً في المسجد على خيصة (2) لي ثمنها ثلاثين درهاً فجاء رجل فاختلسها مني فأخذ الرجل. فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم. فأمر به ليقطع. فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهاً. أنا أبيعه وأنسئه (3) ثمنها. فقال هلا كان قبل أن تأتيني به) . رواه أبو داوود (4) . والنسائي (5) . وابن ماجه (6) واللفظ لأبي داوود. ذكر ابن القيم حديث صفوان هذا مختصراً (7) ثم قال في الاستنباط منه (8) : (فيه أن الإنسان حرز لثيابه ولفراشه الذي هو نائم عليه أين كان سواء كان في المسجد أو غيره) . وهذا من الأحكام المتفق عليها في المذاهب الأربعة على ما هو مسطر في مدوناتهم من أن الإنسان حرز لثيابه وفراشه ومتاعه فيعتبرون الحرز هنا بالحافظ والملاحظ لا بالمكان (9) والله أعلم. ج- المسجد حرز لما يعتاد وضعه فيه. عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل سرق ترساً (10)
من صفة النساء (1) ثمنه ثلاثة دراهم) رواه أبو داوود (3) . وهو بمعناه في مسلم (3) . والنسائي (4) . ساق ابن القيم هذا الحديث بمعناه فقال (5) : (وقطع صلى الله عليه وسلم سارقاً سرق ترساً كان في صفة النساء في المسجد) . الاستدلال من هذا الحديث: ثم قال في الاستدلال منه لذلك (6) : (وفيه أن المسجد حرز لما يعتاد وضعه فيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قطع من سرق منه ترساً وعلى هذا: فيقطع من حصيره وقناديله وبسطه وهو أحد القولين في مذهب أحمد رحمه الله وغيره. ومن لم يقطعه قال: له فيها حق فإن لم يكن (فيها حق كالذي قطع) . وهذا الحق هو الجلوس على الفراش والشرب من السقاء ونحو ذلك من آلات المسجد. مناقشة ابن القيم: إذا عرفنا أن (الترس) هو (المجن) والمجن آلة من آلات الحرب و (صفة النساء) يراد بها مصلى النساء وهو مكان مظلل لهن في آخر المسجد (7) فإنه يحصل عند التأمل وقفة شديدة في هذا الاستدلال. ذلك أن الترس ليس من المعتاد وضعه في المسجد بل هو آلة تكون عائديتها للمالك لها ومصلي النساء ليس حرزاً بنفسه (حرز مكان) فإن حرزيته من حرز
المسجد، فيبقى أن نفسر هذه الواقعة فيما يظهر والله أعلم على ما فرعه جماعة الفقهاء (1) : من أن سرقة المتاع من المسجد فيه القطع إذا كان محرزاً بملاحظ قريب منه وهذا (حرز بالحافظ) لا بالمكان والله أعلم. أما ما يعتاد وضعه فيه: من حصيره وقناديله وبسطه فهي مسألة مستقلة عن هذه وهي محل خلاف بين أهل العلم إذا كان السارق مسلما. على قولين كما ذكرهما ابن القيم رحمه الله تعالى: القول الأول: أنه لا قطع بذلك وهو مذهب الحنفية (2) ، والشافعية (3) . والمعتمد من مذهب الحنابلة (4) بل ذكر ابن قدامة في (المغني) (5) لا قطع وجهاً واحداً في المذهب. الدليل: هو كما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى من التعليل- أن له فيه حق الانتفاع فأورث ذلك شبهة تدرء الحد كالسرقة من بيت المال فلا قطع (6) . القول الثاني: أنه يقطع بسرقة قناديل المسجد وبسطه وحصيره ونحو ذلك وهو وجه في المذهب الحنبلي حكاه المرداوي (7) وهو مذهب المالكية بشرط عندهم وهو: أن
الشرط الثاني: كون المسروق لا يسرع إليه الفساد. وفيه ذكر الخلاف ومناقشته
تجري العادة بترك ذلك ليلاً ونهاراً فإن كانت ترفع منه في غير أوقات اجتماع الناس للصلاة وتركت في غيرها فسرقت فلا قطع لسارقها (1) وهذا هو ما قرره ابن القيم رحمه الله تعالى مستدلاً بالحديث المذكور آنفاً. والظاهر عدم توجه الاستدلال منه كما تقدم في مناقشته. ولم أر لدى الحنابلة أو المالكية تعليلاً لهذا وهذه مما أستخير الله فيها. الشرط الثاني: أن يكون المسروق مما لا يسرع إليه الفساد. هذا الشرط من مفردات الحنفية عن الجمهور. وتحرير مذهب الحنفية هو: أنه لا قطع فيما يتسارع إليه الفساد: كاللبن واللحم ولو قديد أو الثمار والفواكه الرطبة أما إذا كانت الثمار مثلاً يابسة وآواها الجرين ففيها القطع (2) . مذهب الجمهور: وهو القطع في الطعام والثمار إذا كان من حرزه كما الجرين لا فرق بين اليابس والرطب عندهم (3) . الدليل في هذا الشرط نفياً وإثباتاً: مدار الخلاف بين الحنفية والجمهور في هذا الشرط هو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم ذكره ولفظه. (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق فقال: من أصاب بفيه من ذي حاجة غير
متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثلية والعقوبة. ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع) . فعند الحنفية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة لأنه يسرع الفساد إليه لرطوبته. وأوجبه على سارقه من الجرين ليبسه بحيث لا يتسارع إليه الفساد. وعند الجمهور: مدار التعليل على الحرز المكاني لا على اليبس والرطوبة. موقف ابن القيم من هذا الاستدلال وبيان اختياره: وابن القيم رحمه الله تعالى يناقش وجهة الحنفية هذه ويصحح مذهب الجمهور ويختاره فيقول (1) : (إن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة وأوجبه على سارقه من الجرين. فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أن هذا النقصان ماليته لإسراع الفساد إليه. وجعل هذا أصلاً في كل ما نقصت ماليته بإسراع الفساد إليه. وقول الجمهور: أصح، فإنه صلى الله عليه وسلم جعل له ثلاثة أحوال: حالة لا شيء فيها وهو ما إذا أكل منه بفيه. وحالة يغرم مثليه ويضرب من غير قطع وهو ما إذا أخذه من شجرة وأخرجه. وحالة يقطع فيها وهو ما إذا سرقه من بيدره سواء كان قد انتهى جفافه أو لم ينته فالعبرة للمكان والحرز لا ليبسه ورطوبته. ويدل عليه: أنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الشاة من مرعاها، وأوجبه على سارقها من عطنها فإنه حرزها) . وهذه مناقشة ينشرح لها الصدر وهي مقتضى نص الشارع فإنه علق الحكم
الشرط الثالث: كون المسروق نصابا. مع ذكر الدليل والاختيار
بالقطع على (إيوائه الجرين ... ) وهذا نص على أن مدار الحكم: الحرز لا الرطوبة واليبس. ويزيد هذا قوة على قوته: ذلك التنظير بسارق الشاة من مرعاها فلا قطع كسارق الثمرة من الشجرة وأما سارق الشاة من مراحها وعطنها ففيه القطع كالسارق للثمرة من الجرين وهذا: لتوفر الحرز فيهما. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بين الحكمين في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: في كم تقطع اليد. قال: لا تقطع اليد في ثمر معلق، فإذا ضمه الجرين قطعت في ثمن المجن ولا تقطع في حريسة (1) الجبل، فإذا آوى المراح قطعت في ثمن المجن) رواه النسائي (2) . الشرط الثالث: أن يكون المسروق نصاباً (3) . ساق ابن القيم رحمه الله تعالى أربعة أحاديث تدل على أن مقدار نصاب السرقة الموجب للقطع: ثلاثة دراهم أو ربع دينار وهي: 1- قال (4) : (قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم) . وهذا الحديث رواه البخاري (5) . ومسلم (6) . وأبو داود (7) . والنسائي (8) كلهم من حديث ابن عمر رضي
الله عنهما. 2- قال (1) (وقضى صلى الله عليه وسلم أنه لا تقطع اليد في أقل من ربع دينار) . وهذا الحديث رواه البخاري (2) . ومسلم (3) . وأبو داود (4) والترمذي (5) . والنسائي (6) . وا بن ماجه (7) . 3- قال (8) : (وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى) . وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في (مسنده) (9) من حديث عائشة رضي الله عنها والبيهقي في (السنن الكبرى) (10) . وأصل هذا الحديث في الصحيحين (11) وغيرهما بلفظ (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً) من حديث عائشة رضي الله عنها. 4- قال (12) : (وقالت عائشة رضي الله عنها لم يكن تقطع يد السارق في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المجن ترس أو حجفة (1) وكان كل منهما ذا ثمن) . هذا الحديث رواه البخاري (2) . ومسلم (3) . الاستدلال من هذه الأحاديث: ثم قال (4) ابن القيم رحمه الله تعالى في الاستدلال من هذه الأحاديث على مقدار نصاب السرقة قال فيها (إنه لا يقطع في أقل من ثلاثة دراهم أو ربع دينار) . الترجيح: هذا ما ذكره ابن القيم في مقدار النصاب الموجب للقطع وهو مذهب اختاره من نحو عشرين مذهباً في مقدار نصاب السرقة ساقها الحافظ ابن حجر في كتابه (فتح الباري) (4) وذكر أدلتها وقرر فيها أن صح ما ورد في أقل مقدار للنصاب في السرقة هو (ربع دينار) أو (ثلاثة دراهم) . وقد ورد فيه حديث بصيغة القول وهو حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم (اقطعوا في ربع دينار فصاعداً، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك) . وقال (6) : إن سائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية فعل لا عموم لها. ومن كلام الحافظ هذا نعرف سر اختيار ابن القيم لمقدار النصاب في السرقة (ثلاثة دراهم أو ربع دينار) . وهذا مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد.
الشرط الرابع: مطالبة المسروق منه بماله وذكر الخلاف وأدلته
وعليه تدل السنة القولية والفعلية والله أعلم. الشرط الرابع: مطالبة المسروق منه بماله. في سياق ابن القيم رحمه الله تعالى لأحكام النبي صلى الله عليه وسلم في السرقة ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم بقطع سارق رداء صفوان بن أمية كما تقدم. ثم قال (1) : (فيه أن المطالبة في المسروق شرط في القطع ولو وهبه إياه أو باعه قبل رفعه إلى الإمام سقط عنه القطع كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم وقال (هلا كان قبل أن تأتيني به) . اختلاف العلماء في هذا الشرط: وهذا الشرط محل خلاف بين أهل العلم على قولين: القول الأول: اشتراط المطالبة وهو مذهب أبي حنيفة (2) . والشافعي (3) . وإحدى الروايتين عن أحمد وهي المذهب (4) . الدليل: هو حديث صفوان كما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى. القول الثاني: لا تشترط المطالبة. وهذا مذهب مالك (5) . والرواية الثانية عن أحمد (6) وذكر
الشرط الخامس: انتفاء الشبهة
بعض المعاصرين أن هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (1) الدليل: استدلوا بعموم الآية (2) (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) الآية. فليس فيها اشتراط مطالبة المسروق منه بماله المسروق وتعقب بدلالة حديث صفوان عليه. وهذا من باب التخصيص للآية كما خصصت بشروط أخرى منها النصاب والحرز والله أعلم. الشرط الخامس: انتفاء الشبهة (3) . هذا شرط متفق عليه عند الأئمة الأربعة، وهو يعود إلى قاعدة شرعية مطردة في كتاب الحدود وهي: درء الحدود بالشبهات. وقد حكى عليها الإجماع ابن قدامة فقال (4) : (قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرء بالشبهات) . وابن القيم رحمه الله تعالى يبحث بعضاً من الشبه الدارئة لحد السرقة مبيناً القبول لبعض الشبه. والرد والتعقيب لبعضها (5) . وسياق الحديث عنها عند ابن القيم كما يلي: الشبهة الأولى: السرقة في المجاعة.
يعني أن المحتاج إذا سرق في زمن المجاعة ما يأكله صار هذا من موجبات درء حد القطع عنه. وابن القيم رحمه الله تعالى يوضح هذه الشبهة ويقرر أنها دارئة للحد ويستدل لها من الأثر. ويؤيده بالقياس. وأن درء الحد بها أولى من كثير من الشبه التي يدرء الحد بها عند بعض أهل العلم. وضرب بهذه المثال لتغير الفتوى بتغير الأزمنة والأحوال وبيانها كالآتي: القائلون بهذه الشبهة: يبيّن ابن القيم رحمه الله تعالى أن عمر رضي الله عنه لم يقطع السارق في عام المجاعة وأن هذا هو مذهب أحمد والأوزاعي (1) . الأدلة: استدل لها ابن القيم من الأثر والقياس كالآتي: 1- قول عمر رضي الله عنه: لا تقطع اليد في عذق ولا عام ولا سنة (2) . قال السعدي: سألت أحمد عن هذا الحديث فقال: العذق: النخلة والسنة: المجاعة. فقلت لأحمد تقول به: فقال أي لعمري. قلت أن سرق في مجاعة لا تقطعه فقال: لا. إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة) . 2- قضية عمر رضي الله عنه مع غلمان حاطب ابن أبي بلتعة (3) : (ذلك أن غلمة لحاطب ابن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة فأتي بهم عمر فأقروا فأرسل إلى عبد الرحمن بنَ حاطب فجاء فقال له: إن غلمان حاطب سرقوا
ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم، فقال عمر: يا كثير ابن الصلت (1) . اذهب فاقطع أيديهم فلما ولى بهم ردهم عمر ثم قال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم. وأيم الله إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك. ثم قال: يا مزني بكم أريد منك ناقتك قال: بأربع مائة. قال عمر: اذهب فأعطه ثمانمائة) (2) . وجه الاستدلال والاستدلال من هذه القصة واضح فإن عمر رضي الله عنه لم يقطع السارق في المجاعة والله أعلم. 3- القياس. قال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (وإسقاط القطع عن السارق في عام المجاعة هو: محض القياس. ومقتضى قواعد الشريعة فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعو إلى ما يسد به رمقه. ويجب على صاحب المال بذل ذلك له، إما بالثمن أو مجاناً. على الخلاف في ذلك، والصحيح وجوب بذله مجاناً. لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج. وهذه شبهة قوية تدرء القطع عن المحتاج. وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء. بل إذا وازنت بين هذه الشبهة وبين ما يذكرونه ظهر لك التفاوت. فأين شبهة كون المسروق مما يسرع إليه الفساد (4) . وكون أصله على الإباحة
الشبهة الثانية: قول السارق هذا ملكي، وإبطالها
كالماء (1) . وشبهة القطع به مرة. وشبهة دعوى ملكه بلا بينة (2) . وشبهة إتلافه في الحرز بأكل أو احتلاب من الضرع (3) . وشبهة نقصان ماليته في الحرز بذبح أو تحريق ثم إخراجه (4) . وغير ذلك من الشبه الضعيفة جداً إلى هذه الشبهة القوية، لا سيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه. وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون. ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره. فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه: فدرئ. نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع) . هذا كلام ابن القيم في إبراز هذين الدليلين: القياس. ومقتضى قاعدة الشريعة. القياس: وهو في دليله القياسي يقيس حالة السارق عام المجاعة لحاجته إلى ما يأكله على حالة المضطر بجامع الحاجة. إذ الضرورة المبيحة هي: التي يخاف التلف بها أن ترك الأكل. فصارت الحاجة إذا شبهة قوية أسقطت الحد وهو القطع والله أعلم. الشبهة الثانية: قول السارق هذا ملكي. هذه من الشبه التي يقررها جماعة من أهل العلم منهم الشافعية (5) والحنابلة (6) ويسميه الشافعي: السارق الظريف (7) .
قالوا: إذا قال السارق الذي أخذته ملكي كان عنده وديعة ونحو ذلك فلا قطع عليه ولو كان معروفاً بالسرقة لأن صدقه محتمل. وابن القيم رحمه الله تعالى يندد بذلك ويبطل هذه الشبهة ويرى أنها من الحيل المحرمة لإبطال حد السرقة فيقول (1) : (الحيلة على إسقاط حد السرقة بقول السارق: هذا ملكي وهذه داري وصاحبها عبدي من الحيل التي هي إلى المضحكة والسخرية والاستهزاء بها أقرب منها إلى الشرع ونحن نقول: معاذ الله أن يجعل في فطر الناس وعقولهم قبول مثل هذا الهذيان البارد المناقض للعقول والمصالح فضلاً عن أن يشرع لهم قبوله. وكيف يظن بالله وشرعه ظن السوء: أنه شرع رد الحق بالباطل الذي يقطع كل أحد ببطلانه. وبالبهتان الذي يجزم كل حاضر ببهتانه. ومتى كان البهتان والوقاحة والمجاهرة بالزور والكذب مقبولاً في دين من الأديان أو شريعة من الشرائع أو سياسة أحد من الناس؟. ومن له مسكة من عقل وإن بلى بالسرقة فإنه لا يرضى لنفسه بدعوى هذا البهت والزور. ويا لله ويا للعقول! أيعجز سارق قط عن التكلم بهذا البهتان ويتخلص من قطع اليد. فما معنى شرع قطع يد السارق ثم إسقاطه بهذا الزور والبهتان) . وقال أيضاً في معرض بيانه لبطلان الحيل (2) : (ويا لله العجب كيف يسقط القطع عمن اعتاد سرقة أموال الناس، وكلما أمسك معه المال المسروق قال: هذا ملكي. والدار التي دخلتها داري. والرجل الذي دخلت داره عبدي، قال أرباب الحيل: فيسقط عنه الحد بدعوى ذلك. فهل تأتي لهذا سياسة قط جائرة أو عادلة. فضلاً عن شريعة نبي الأنبياء فضلاً عن الشريعة التي هي أكمل شريعة طرقت العالم) .
الشبهة الثالثة: من سرق من شيء له فيه حق درىء عنه الحد
الشبهة الثالثة: أن من سرق من شيء له فيه حق درئ عنه الحد: ذكر ابن القيم الحديث في ذلك فقال (1) : (درء صلى الله عليه وسلم القطع عن عبد من رقيق الخمس (2) سرق من الخمس. وقال: مال الله سرق بعضه بعضاً رواه ابن ماجه) (3) . ثم ذكر الاستنباط من هذا الحديث (أن من سرق من شيء له فيه حق لم يقطع) (4) وهذه شبهة دارئة على ما هو مدون في المذاهب الأربعة (5) . وقال ابن قدامة (هو قول عامة أهل العلم) (6) . فلا يقطع عندهم الوالد فيما أخذ من مال ولده لأنه أخذ ما يحقق له أخذه، ولا الوالدة فيما أخذت من مال ولدها ولا العبد فيما سرق من مال سيده. مناقشة ابن القيم في هذا الدليل: نفهم من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله (من سرق من شيء له فيه حق لم يقطع) مسايرته للجمهور في رأيهم المسطر قريباً. لكن ابن القيم في هذا اكتفى بالاستدلال بحديث ضعيف على خلاف عادته. فهل يسلم تضعيف هذا الحديث. وفي حالة ضعفه ما هي الأدلة في هذه القضية.
حديث ابن عباس ومناقشته مع سياق الأدلة من وجوه أخر
سند الحديث: هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو من مفاريد ابن ماجه. ولذا قال في الزوائد (في إسناده جبارة وهو ضعيف) (1) . وجبارة هذا هو: جبارة بن المغلس الكوفي المتوفى سنة 241 هـ. وهو ضعيف كما في التقريب (2) وهو شيخ ابن ماجه في هذا الحديث. وقد قال الذهبي (3) (شيخ واه) وقد قال الحافظ بن حجر في هذا الحديث (إسناده ضعيف) (4) . وقد روى عبد الرزاق هذا الحديث في (مصنفه) (5) من وجه مرسل عن ميمون بن مهران. قال (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعبد قد سرق من الخمس. فقال: مال الله سرق بعضه بعضاً. ليس عليه قطع) . وميمون بن مهران هو الجزري من ثقاة الأئمة الفقهاء وقال ابن حجر (6) (كان يرسل مات سنة 117 هـ) . ولم أجد للموصول بعد البحث شاهداً أو متابعاً. فهو إذا على ما تقدم حديث ضعيف لا تقوم به حجة والله أعلم. ما هي الأدلة إذاً: استدل أهل العلم لهذا الحكم بعدة أدلة من المرفوع والموقوف منها ما يلي: استدلوا بعموم حديث جابر رضي الله عنه أن رجلاً قال يا رسول الله أن لي
مالاً وولداً، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال: أنت ومالك لأبيك. رواه ابن ماجه بسند صحيح على شرط البخاري كما في (الزوائد) (1) وجه الاستدلال: استدل بهذا الحديث على سقوط القطع بسرقة الأب من مال ابنه لأن الكلام للتمليك في قوله (لأبيك) ففي هذا شبهة الانبساط بين الأب وابنه وعليه: فلا يجوز قطع الإنسان يأخذ ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذه ولا أخذ ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم مالاً له مضافاً إليه كما بينه ابن قدامة (2) وابن الهمام (3) . ب- ما رواه في (مصنفه) (4) بسند صحيح أن عمر رضي الله عنه: جاءه عبد الله بن عمرو الحضرمي (5) بغلام له، فقال له: إن غلامي هذا سرق فاقطع يده، فقال عمر: ما سرق قال: مرآة امرأتي، قيمتها ستون درهما. قال أرسله فلا قطع عليه. خادمكم أخذ متاعكم، ولكنه لو سرق من غيركم قطع. ورواه البيهقي (6) . والقضايا بنحو هذا كثيرة عن جماعة من السلف رواها عبد الرزاق (7) وذكر طرفاً منها ابن قدامة ثم قال (8) : (وهذه قضايا تشتهر ولم يخالفها أحد فتكون إجماعاً. وهذا يخص عموم الآية (6) ولأن هذا إجماع من أهل العلم لأنه قول من سمينا من الأئمة ولم يخالفهم في
الشرط السادس: ثبوت السرقة بشهادة عدلين أو إقرار مرتين
عصرهم أحد فلا يجوز خلافه بقول من بعدهم، كما لا يجوز ترك إجماع الصحابة بقول أحد من التابعين) . وأهل العلم يطردون لهذه الأدلة ولغيرها: أنه لا قطع بسرقة الولد مال والده ولا بسرقة مسلم من بيت المال في فروع كثيرة هي محل اتفاق بين الأئمة الأربعة (1) والله أعلم. الشرط السادس: ثبوت السرقة بشهادة عدلين أو الإقرار مرتين عن أبي أمية المخزومي (2) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص قد اعترف اعترافاً، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله: ما إخالك (3) سرقت. قال: بلى. فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً. فأمر به فقطع، وجيء به. فقال: استغفر الله وتب إليه. فقال: أستغفر الله وأتوب إليه. فقال: اللهم تب عليه ثلاثاً) . رواه أبو داود (4) . والنسائي (5) . وابن ماجه (6) . ساق ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الحديث مختصراً في أحكام النبي صلى الله عليه وسلم في السرقة ثم قال (7) : (فيه أنه لا يقطع إلا بإقرار مرتين أو بشهادة شاهدين لأن السارق أقر عنده مرة فقال: ما إخالك سرقت. فقال: بلى. فقطعه حينئذ ولم يقطعه حتى أعاد عليه مرتين) .
بيان الخلاف في عدد الإقرار ومناقشته. مع الترجيح
وطريق الثبوت للسرقة بشهادة عدلين اثنين هذا من طرق الإثبات المتفق عليها عند أهل العلم. كما حكاه ابن رشد (1) وابن قدامة (2) وابن الهمام (3) وقال (هذا بإجماع الأمة) . ثبوتها بالإقرار: أما ثبوتها بالإقرار فقد اختلف أهل العلم في عدده على قولين: القول الأول: وهو كما ذكر ابن القيم: من أنه لا بد من الإقرار مرتين (4) . وهذا من مفردات الحنابلة عن الثلاثة على ما قرره: ابن قدامة (5) . وابن هبيرة (6) . والدمشقي (7) . وابن رشد (8) . وابن الهمام (9) .. وغيرهم. دليله: استدلوا بالسنة والقياس: أما السنة: فحديث أبي أمية المخزومي كما تقدم قريباً. وأما القياس:
فذكره ابن قدامة (1) : (ولأنه يتضمن إتلافاً في حد فكان من شرط التكرار كحد الزنا. ولأنه أحد حجتي القطع فيعتبر فيه التكرار كالشهادة) . وهذا الدليل يتضمن قياسين: أحدهما: قياس تكرار الإقرار في حد السرقة على التكرار للإقرار في حد الزنى. الثاني: قياس تكرار الإقرار في حد السرقة على العدد في الشهادة فيه. تعقب الحنفية لهذا القياس: وابن الهمام رحمه الله تعالى لا يرتضي هذا القياس ويراه قياساً مع وجود الفارق، ويقرر هذا في قياس تكرار الإقرار على الشهادة فيقول (2) : (أما قياسه على الشهادة فمع الفارق لأن اعتبار العدد في الشهادة إنما هو لتقليل التهمة ولا تهمة في الإقرار، إذ لا يتهم الإنسان في حق نفسه بما يضره ضرراً بالغاً، على أن الإقرار الأول: إما صادق والثاني لا يفيد شيئاً إذ لا يزداد صدقاً، وإما كاذب فبالتالي لا يصير صدقاً، فظهر أنه لا فائدة في التكرار) . وهذا التعقب مناقش بأن التهمة موجودة في كل من البينتين: الإقرار والشهادة ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لماعز: " لعلك قبلت" ونحو ذلك من ألفاظ الاستيثاق، ودفع عوامل الاحتمال ليبقى الإقرار سليماً وظاهراً. فتبين إذا موافقة هذا القياس للنص وهو حديث أبي أمية المخزومي رضي الله عنه (2) . وأيضاً: فلو قيل بهذا التعقب لقلنا بعدم التكرار في الإقرار في الزنى والنصوص فيه متكاثرة لا تدفع والله أعلم.
القول الثاني: أنه يثبت بالإقرار مرة واحدة ولا يفتقر إلى مرتين، وهذا مذهب: الحنفية (1) والمالكية (3) والشافعية (3) . دليلهم: استدلوا بالقياس، فقال ابن قدامة في بيانه له (4) : (لأنه حق يثبت بالإقرار فلم يعتبر فيه التكرار كحق الآدمي) . وقال ابن الهمام أيضاً (5) : (لأن السرقة قد ظهرت بالإقرار مرة فيكتفى به كما في القصاص وحد القذف) . نقض هذا القياس: وقد بين ابن قدامة رحمه الله تعالى انتقاض هذا القياس لوجود قادح فيه بوجود الفارق فقال (6) (إن الإقرار في السرقة يفارق حق الآدمي لأن حقه مبنى على الشح والتضييق ولا يقبل رجوعه عنه بخلاف مسألتنا) . وبنحو هذا التعقب ذكره صاحب الهداية من الحنفية (7) . وابن الهمام أيضاً (8)
الترجيح: والذي يظهر لي والله أعلم هو القول الأول على ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى: فلا بد من الإقرار مرتين لورود السنة به. وعليه أيضاً يدل قضاء السلف رضي الله عنهم كما في قضاء علي رضي الله عنه أنه جاء رجل إليه فقال: إني سرقت فرده: فقال: إني سرقت فقال شهدت على نفسك مرتين. فقطعه. قال: فرأيت يده في عنقه معلقة) رواه عبد الرزاق (1) والله أعلم.
المبحث الرابع: عقوبات السارق
المبحث الرابع: في عقوبات السارق. تناول ابن القيم الحديث عن عقوبات السارق الحدية والتعزيرية على النحو الآتي: 1- العقوبة الحدية بقطع يد السارق. 2- العقوبة بالإتيان على أطراف السارق. 3- العقوبة بقتل السارق. 4- العقوبات التعزيرية للسارق. والكلام عنها على هذا النسق والترتيب. 1- العقوبة الحدية بقطع يد السارق: مما علم من الإسلام بالضرورة أن العقوبة الحدية المقدرة للسارق قطع يده اليمنى أن كانت موجودة لدلالة الكتاب في قوله تعالى (1) (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وفي قراءة بن مسعود (فاقطعوا أيمانهما) (2) . ومن السنة الأحاديث المتكاثرة البالغة مبلغ التواتر قوله وقضائه صلى الله عليه وسلم وانعقاد الإجماع على ذلك من المسلمين كما حكاه غير واحد من كبار النقلة منهم: ابن حزم (3) . وابن قدامة (4) . وابن حجر (5) . وابن هبيرة (6) . وابن الهمام (7) . وغيرهم.
عقوبة السارق بالإتيان على أطرافه. وبيانها في ثلاث نقاط
وابن القيم في هذه العقوبة يسوق أحكام النبي صلى الله عليه وسلم فيها قولاً وتنفيذاً كما تقدم ذكرها والله أعلم (1) . 2- عقوبة السارق بالإتيان على أطرافه محل هذه العقوبة فيما إذا سرق ثانياً وثالثاً ورابعاً. هل يؤتى على أطرافه بمعنى أن يقطع في كل سرقة يد أو رجل حتى يؤتى على أطرافه الأربعة اليدين والرجلين أم لا؟. في هذه العقوبة محل وفاق ومحل خلاف. وابن القيم رحمه الله تعالى ساق الحديث عن هذه العقوبة على وجهين (2) : الأول: بيان ما يروى فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: بيان اختلاف العلماء فيها وتعليل الخلاف. وهو رحمه الله تعالى لم يفصح لنا عن اختياره في هذه المسألة وإن كان ظاهر توهينه للمروي فيها يفيد اختياره عدم الإتيان على أطراف السارق؟. وهذه العقوبة طرقتها أقلام العلماء بالبيان والتفصيل ولا بد في تجلية التحقيق فيها من إجراء الكلام على ما يلي: أ- بيان ما يروى فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وبيان منزلته حسب الصناعة. ب- بيان ما يروى فيها عن الصحابة رضي الله عنهم. ج- بيان محل الاتفاق في هذه العقوبة. د- بيان محل الخلاف في هذه العقوبة.
1- بيان ما يروى فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم. يروى فيها جملة أحاديث مرفوعة منها ما هو مختص بالإتيان على الأطراف فقط ومنها ما فيه مع ذلك القتل في الخامسة وهي على ما يلي: الحديث الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال (إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله) . ومدار إسناده عنده على الواقدي صاحب المغازي وهو: محمد بن عمر بن واقد الأسلمي الواقدي. متروك الحديث مات سنة 207 هـ (1) . وذكره ابن حجر من رواية الشافعي عن بعض أصحابه (2) . فيكون من رواية عن مجهول الحال والعين فإن أصحاب الشافعي كثيرون وفيهم من تكلم فيه: مثل شيخه إبراهيم بن محمد كما في (زاد المعاد) (3) لابن القيم رحمه الله تعالى. فتبين من هذا أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه لا يصح الاحتجاج به لوجود متروك في رواية الدارقطني. ومجهول في رواية الشافعي والله أعلم. الحديث الثاني: حديث عصمة بن مالك رضي الله عنه (4) . عن عصمة بن مالك رضي الله عنه قال (سرق مملوك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعفى عنه ثم رفع إليه، فعفى عنه. فرفع ثالثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعفى
عنه ثم رفع إليه الرابعة وقد سرق، فعفى عنه، ثم رفع إليه الخامسة وقد سرق فقطع يده، ثم رفع إليه السادسة فقطع رجله، ثم رفع إليه السابعة فقطع يده، ثم رفع إليه الثامنة فقطع رجله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربع بأربع) . رواه الدارقطني (1) ، والطبراني (2) ، منزلة هذا الحديث: مدار إسناد هذا الحديث عندهما على: الفضل بن المختار أبو سهل البصري. وهو ضعيف جداً، وقد ترجمه الذهبي (3) ولم يذكر فيه من وثقه وذكر هذا الحديث من مناكيره ثم قال بعد سياقه (وهذا يشبه أن يكون موضوعاً) . وقال ابن حجر في ترجمة عصمة بن مالك رضي الله عنه (4) : (له أحاديث ... مدارها على الفضل بن المختار، وهو ضعيف جداً) . وقال الزيلعي (5) : (هذا حديث ضعيف، وقال عبد الحق: هذا حديث لا يصح للإرسال والضعف في الإسناد) . وقال الهيثمي (6) : (فيه الفضل بن مختار وهو ضعيف) . فالحديث إذاً: لا تقوم به حجة بهذا الإسناد على ما أفادته كلمة الحفاظ والله أعلم.
رواية الحارث له مرسلاً: وهذا الحديث قد روي من وجه آخر مرسلاً أرسله: الحارث بن عبد الله ابن أبي ربيعة المخزومي أمير الكوفة المتوفى قبل السبعين من الهجرة (1) وقد حدث به مباشرة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه عبد الرزاق (2) وابن حزم (3) وابن أبي شيبة (4) . منزلة هذه الرواية: وهذه الرواية من هذا الوجه لا تقوم بها حجة أيضاً لأن بين الحارث وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفازة فأنى له الرواية عنه مباشرة والله أعلم. اَلحديث الثالث: هذان حديثان وردا بخصوص الإتيان على أطراف السارق. وقد ورد حديث آخر من وجوه متعددة يتضمن هذه الحكومة مع الحكم بقتله. من حديث جابر والحارث بن حاطب رضي الله عنهما. والكلام عنهما كما يلي: حديث جابر رضي الله عنه: عن جابر رضي الله عنه قال (جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقتلوه: فقالوا يا رسول الله إنما سرق. فقال: اقطعوه. قال: فقطع. ثم جيء به الثالثة فقال: اقتلوه. فقالوا يا رسول الله إنما سرق فقال: اقطعوه. ثم أتى به الرابعة. فقال: اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق. قال اقطعوه. فأتى به الخامسة فقال اقتلوه. قال جابر: فانطلقنا به، فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة) .
روا5 أبو داوود (1) . والنسائي (2) . والبيهقي (3) . والدارقطني (4) . وقال النسائي بعده (هذا حديث منكر. ومصعب بن ثابت ليس بالقوي في الحديث) . وأسانيده عندهم عدا الدارقطني مدارها على: مصعب. بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوّام الأسدي. قال فيه ابن حجر: لين الحديث وكان عابداً مات سنة 157 هـ (5) . ومعلوم أن اصطلاح الحافظ فيمن قال فيه (لين الحديث) أنه لا يتابع على حديثه (6) . وأما الدارقطني فقد رواه بثلاثة أسانيد إلى هشام بن عروة (7) . عن محمد بن المنكدر (8) عن جابر رضي الله عنه. وقد رواه عن هشام ثلاثة وهم: أ- محمد بن يزيد بن سنان الجزري أبو عبد الله ابن أبي فروة المتوفى سنة 220 هـ. وقد أدخله الذهبي في (الميزان) (9) في نقد الضعفاء ولم يذكر توثيقاً له. وقال ابن حجر: ليس بالقوي (10) . ب- ورواه عن هشام: عائذ بن حبيب بن الملاح الكوفي. وقد اختلفت كلمة
النقاد فيه بين التعديل والتجريح كما في (الميزان (1)) وقال ابن حجر: صدوق رمي بالتشيع (2) . وقال الذهبي بعد سياق الأقوال فيه (قلت شيعي جلد) (3) . ج- ورواه عن هشام: سعيد بن يحيى بن صالح اللخمي الكوفي. وقد أدخله الذهبي في (الميزان) (4) في نقد الضعفاء وذكر اختلاف كلمة النقاد فيه بين التعديل والتجريح. وهو من رجال البخاري في صحيحه لكن ليس له في البخاري سوى حديث واحد ولم ينفرد به بل توبع عليه (5) وقال ابن حجر: صدوق وسط (6) . روايته من حديث الحارث بن حاطب (7) رضي الله عنه: عن الحارث بن حاطب رضي الله عنه قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلص فقال: اقتلوه. فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، فقال: اقتلوه قالوا: يا رسول الله إنما سرق، قال: اقطعوا يده. قال: ثم سرق فقطعت رجله. ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى قطعت قوائمه كلها. ثم سرق أيضاً الخامسة. فقال أبو بكر رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال: اقتلوه. ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه. منهم عبد الله بن
الزبير. وكان يحب الإمارة. فقال: أمروني عليكم، فأمروه عليهم. فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه. رواه النسائي (1) . وقال (لا أعلم في هذا الباب حديثاً صحيحاً) (2) . ورواه الحاكم (3) وقال (صحيح الإسناد ولم يخرجاه) قال الذهبي معقباً على الحاكم (قلت بل منكر) . وقال الزيلعي ورواه الطبراني في معجمه (4) . والذي دعا بالحاكم إلى تصحيحه كون رجال إسناده ثقات لكن النقاد لم يرتضوه وإن كانوا ثقات بل حكموا بنكارته كما قرره العالمان: النسائي والذهبي. الحديث الرابع: حديث عبد الله بن زيد الجهني رضي الله عنه (5) . قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سرق متاعاً فاقطعوا يده، فإن سرق فاقطعوا رجله، فإن سرق فاقطعوا يده، فإن سرق فاقطعوا رجله، فإن سرق فاضربوا عنقه) رواه أبو نعيم (6) في (الحلية) (7) ثم قال (تفرد به حزام بن عثمان وهو من الضعف بالمحل العظيم) . منزلة هذا الحديث: وقد وقع في إسناد هذا الحديث تصحيف عجيب في اسم (حرام ابن عثمان)
حيث ذكر باسم (حزام بن عثمان) بالحاء المهملة والزاي المعجمة. وصوابه (حرام) بالحاء المهملة والراء المكسورة المهملة أيضاً على وزن (حزام) كما ضبطه الخطيب البغدادي (1) . وقد بحثت كثيراً فلم أر في الرواة من اسمه (حزام بن عثمان) وتصحيحه إلى (حرام ابن عثمان) لا أشك به فإن (حرام بن عثمان الأنصاري المتوفى سنة 150 هـ. من طبقة: معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني المتوفى سنة 118 هـ (2) . وهو شيخه في هذا الحديث وكلاها مدنيان. إذا علم ذلك: فإن حرام هذا متروك الحديث كما قاله الذهبي فقال (3) (حرام ابن عثمان الأنصاري. تابعي. متروك مبتدع) . فالحديث إذا لا يصلح في باب المتابعات والشواهد فضلاً عن أن يكون حجة بنفسه والله أعلم. خلاصة الصناعة الإسنادية: هي أن أحاديث الإتيان على الأطراف المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وحديث عصمة رضي الله عنه، ومرسل الحارث بن عبد الله رحمه الله تعالى، كلها لا تقوم بها حجة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم في إتيان هذه العقوبة: وهي الإتيان على الأطراف الأربعة بالقطع لمن تكررت منه السرقة أربعاً. وأن أحاديث الإتيان على أطرافه مع قتله في الخامسة منزلتها الإسنادية على ما يلي: فحديث عبد الله بن زيد الجهني: لا يحتج به لأن في سنده متروك. وحديث جابر: في أسانيده عند أبي داوود والنسائي، والبيهقي ضعف.
مسالك العلماء في أحاديث المسألة
وأن روايته من حديث: الحارث بن حاطب، وإن كان بإسناد رجاله ثقات لكن قد حكم الحفاظ بنكارته. هذه خلاصة مباحث الصناعة الإسنادية لهذه الأحاديث. ومنها يتضح أن محل النظر فيها: هو قصة الإتيان على الأطراف مع القتل في الخامسة من حديث جابر والحارث رضي الله عنهما. وللعلماء في الجواب عنه عدة مسالك، ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى منها ثلاثة، وقد حصل بالتتبع مسلكان آخران وبيانها كما يلي: مسالك العلماء التي ذكرها ابن القيم في الجواب عن هذا الحديث: المسلك الأول: نفى صحة هذا الحديث: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (اختلف الناس في هذه الحكومة فالنسائي وغيره لا يصححون هذا الحديث. قال النسائي هذا حديث منكر، ومصعب بن ثابت ليس بالقوى) . و (في تهذيب السنن) (2) ساق الحديث بروايتيه عند النسائي من حديث جابر والحارث ثم قال بعد حديث الحارث (قال النسائي: ولا أعلم في هذا الباب حديثاً صحيحاً) . وهذه اللفظة من النسائي راوي حديث الحارث بن حاطب رضي الله عنه بإسناد رجاله ثقات: لها قوتها ومنزلتها إذ يقول بعد سياقه (ولا أعلم في هذا الباب حديثاً صحيحاً) (3) . وقد تبين لي- والله أعلم- أن النسائي يرمي إلى تعليله: بنكارته. مع الاضطراب الحاصل وبيان ذلك على ما يلي: أولاً: إن في سياقه نكارة لأمرين هما:
مخالفة هذه القصة للمشهور من هديه صلى الله عليه وسلم من التثبت والاستفصال من أرباب الحدود كما في قصة ماعز رضي الله عنه وفي قصة السارق الذي قال له صلى الله عليه وسلم - واضحة ذلك أن لفظ الخبر (أنه جيء بلص فقال صلى الله عليه وسلم اقتلوه: فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما سرق. وهكذا في كل مرة يقول لهم صلى الله عليه وسلم: اقتلوه فأخبروه بجرمه وأنه (السرقة) فيقول صلى الله عليه وسلم (اقطعوه) . هذا ما يستبعد حصوله وهو صلى الله عليه وسلم في مقام التشريع والبيان للناس. وحد السارق: القطع لليد اليمنى في المرة الأولى لا القتل. والأمر الثاني: المفيد لنكارته: مباينة هذه القصة للمعقول، إذ كيف يتصور أن يأتي شخص مقطوع اليدين والرجلين (فيهتك الحرز) ويسرق ويخرج بالمال المسروق من حرزه. هذا لا يتأتى. وليس هذا رد للنص بالعقل واستبعاد التصور: كلا ثم كلا. ولكنه شرح وبيان لحكم الحفاظ والنقاد على هذا الحديث: بالنكارة. وأنه حديث منكر. ثانياً: في القصة اضطرابا (1) . قد جاء في متن هذا الحديث اضطراباً لا يمكن معه الجمع بين القصتين ذلك أنه جاء في روايته من حديث جابر رضي الله عنه: أن السارق قتل في الخامسة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء في روايته من حديث الحارث رضي الله عنه: أن السارق قتل في الخامسة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه: والقصة واحدة. والجمع متعذر؟. فهل هذا إلا وجه من وجوه الاضطراب فهذا الحديث إذا مضطرب في متنه والمضطرب من قسم الضعيف. فتخلص إذا أن هذا حديث لا تقوم به حجة: لنكارته واضطرابه والله أعلم. وهذا المسلك: هو عدم تصحيح هذا الحديث ورده رواية ودراية هو مذهب جماعة
النقاد منهم النسائي كما تقدم. ومنهم الخطابي (1) قال (هذا الحديث في بعض إسناده مقال) . ثم بيّن وجوهاً من المعاني يتخرج عليها الحديث وفيها يقول (إن كان له أصل) وفي بعضها يقول (إن صح الحديث) . ومنهم ابن حجر إذ تعقب أسانيده بالتضعيف (2) . ومنهم الزيلعي حيث تعقب أسانيده بالتضعيف أيضاً (3) . ومنهم ابن عبد البر إذ قال (حديث القتل منكر لا أصل له) (4) . وهذا المسلك هو الذي تقتضيه قواعد النقد وأصول المنهج في البحث والله أعلم. المسلك الثاني: خصوصية هذه الحكومة بهذا الرجل. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان هذا المسلك (5) : (ومنهم من يحسنه ويقول: هذا حكم خاص بذلك الرجل وحده لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المصلحة في قتله) . وقد ذكر هذا الوجه أيضاً الحافظ ابن حجر فقال (6) : (وقال بعضهم هو خاص بالرجل المذكور فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أنه واجب القتل ولذلك أمر بقتله من أول مرة) . وذكر نحوه صاحب (عون
المعبود) (1) . وذكره قبلهم (المنذري) (2) . والخصوصية لا بد لها من دليل يدل عليها وهذا مجرد احتمال هنا، وما دعاهم إلى ذلك إلا مخالفة هذه القصة لما عهد في أحكام الحدود كما تبين في المسلك قبله والله أعلم. المسلك الثالث: القول بموجبه. قال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (وطائفة ثالثة تقبله وتقول به وأن السارق إذا سرق خمس مرات قتل في الخامسة وممن ذهب إلى هذا المذهب أبو مصعب من المالكية) . وحكى هذا القول أيضاً ابن حجر فقال (4) : (وقيل يقتل في الخامسة قاله: أبو مصعب الزهري المدني صاحب مالك) (5) . وهذا المسلك مبني على القول بقبول الحديث وصحته وقد علم من المسلك الأول أن صحته دونها خرط القتاد والله أعلم. هذه المسالك التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى وقد تحصل لي غيرها وهي: المسلك الرابع: أن هذا الحديث منسوخ. وهذا محكي عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى حكاه ابن حجر (6) والآبادي (7) . ومن قبلهما البيهقي (8) رحمهم الله تعالى.
وناسخه هو حديث ترك قتل شارب الخمر في الرابعة كما في قصة النعيمان الملقب (حماراً) (1) . وهذا نسخ بالتنظير لا بالنص، وهو مسلك غريب والله أعلم. المسلك الخامس: حمل الحكم بقتله على أن كان من المفسدين في الأرض. حكى، الخطابي (2) وابن حجر (3) والآبادي (4) على أن هذا الحديث قد يخرج على مذاهب بعض الفقهاء وهو أن يكون هذا من المفسدين في الأرض فيكون هذا من باب العقوبة التعزيرية للمفسدين في الأرض. وهذا يعزى للإمام مالك رحمه الله تعالى. وهذا المسلك وإن كان في ذاته قاعدة مقررة لدى كثير من أهل العلم في أحكام (الاستصلاح) و (السياسة الشرعية) فإن الأمر بقتله من أول مرة ونص القرآن الكريم بقطع السارق يأبى هذا المسلك والله أعلم. الخلاصة: هذه هي مسالك أهل العلم في الجواب عن هذا الحديث وإن كان بعضها يناقشه في قضية القتل خاصة، وقد ظهر من هذا السياق لها أن المسلك الأول وهو: النقد لها رواية ودراية هو المسلك الذي تقتضيه أصول الصناعة الحديثية. وقواعد الشريعة الكلية. وأن ما سواها كل قال بمجرد اجتهاده، ولا يخلو واحد منها من نظر والله أعلم. ب- بيان ما يروى فيها عن الصحابة رضي الله عنهم؟.
العقوبة بقتل السارق وبيان المخالف ومناقشته
وقد تحصل بالتتبع الوقوف على آثار في ذلك عن علي رضي الله عنه وعن عمر رضي الله عنه ساقها عبد الرزاق (1) والبيهقي (2) وهي تفيد قطع الرجل اليسرى بعد اليد اليمنى فإن عاد عزر ولا قطع ومنها: عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يقطع إلا اليد والرجل- وإن سرق بعد ذلك سجن ونكل، وكان يقول: إني لأستحي من الله ألا أدع له يداً يأكل بها ويستنجى) رواه عبد الرزاق (3) والبيهقي (4) . قال ابن حجر وسنده صحيح (5) . وعن عمر رضي الله عنه أنه أتى برجل قد سرق يقال له: سدوم، فقطعه ثم أتى به الثانية فقطعه، ثم أتى به الثالثة، فأراد أن يقطعه، فقال له علي لا تفعل. إنما عليه يد ورجل، ولكن احبسه. رواه عبد الرزاق (6) . والبيهقي (7) . وقال ابن حجر وسنده حسن (8) . ج- بيان الاتفاق في هذه العقوبة. ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم قطع الرجل اليسرى في السرقة بعد اليد اليمنى وهذا محل اتفاق بين أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وغيرهم. كما حكاه ابن قدامة (9) وابن هبيرة (10) بل حكى عليه الإجماع ابن الهمام (11) .
الدليل في هذا: هو أقضية الصحابة رضي الله عنهم كما تقدم ذكر بعضها وفيه يقول ابن عبد البر (1) (ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم قطع الرجل بعد اليد وهم يقرؤون (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (2) . د- بيان محل الخلاف في هذه العقوبة. ثم اختلفوا فيما وراء ذلك إذا سرق ثالثة ورابعة على قولين: القول الأول: أنه لا يقطع في الثالثة بعد قطع اليد والرجل بل يحبس وهذا هو مذهب الحنفية والمعتمد لدى الحنابلة (3) . وهم يريدون من سجنه: تخليده في السجن حتى يموت كما صرّح به ابن الهمام (4) وهو ظاهر المذهب الحنبلي كما في (المغنى) (5) وغيره. ودليلهم في هذا: أقضية الصحابة رضي الله عنهم كما تقدم والله أعلم. القول الثاني: أنه يقطع في الثالثة يسري يديه وفي الرابعة يمنى رجليه فإن سرق خامسة عزر
بضرب أو سجن ونحوهما. وهذا مذهب المالكية. والشافعية. ورواية في المذهب الحنبلي (1) . دليلهم: استدلوا بالأحاديث المرفوعة المتقدم سياقها (2) . والمتضمنة للإتيان على أطراف السارق الأربعة. وقد تبين أن هذه الأحاديث لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتم الاستدلال إذا والله تعالى أعلم. الترجيح: والذي يظهر والله أعلم هو القول بقطع الرجل اليسرى بعد قطعٍ اليد اليمنى وإن سرق ثالثاً فلا قطع بل يكون التعزير والنكال بما يراه الحاكم رادعا لعدوانه من حبس أو جلد. أو بهما حسبما يراه رادعاً وهذا مما يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والله أعلم. 3- العقوبة بقتل السارق. اشتهر عن أبي مصعب المالكي- القول بقتل السارق في الخامسة بعد الإتيان على أطرافه الأربعة إذا سرق أربع مرات وفي الخامسة يقتل (2) . وقد ذكر ذلك الحافظ ابن حجر (4) قولاً عن مالك أولا ثم أنه رجع عنه واستقر رأيه على تعزيره دون قتله في الخامسة ولو بلغ التعزير إلى القتل كما تقدم (5)
العقوبات التعزيرية للسارق
واستدل أبو مصعب لذلك بحديث القتل في ذلك. وقد تبين أن الاستدلال به لا يتم لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. 4- العقوبات التعزيرية للسارق. نستخلص مما تقدم ومما يأتي من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى أن العقوبات التعزيرية للسارق تكون في صور منها ما يلي: الصورة الأولى: تعزيره إذا سرق في الثالثة أو الخامسة على الخلاف ويكون تعزيره بالحبس أو بالضرب ونحوه على الخلاف المتقدم. الصورة الثانية: قتله في الخامسة تعزيراً إذا استشرى بالفساد عند بعض أهل العلم كما تقدم. الصورة الثالثة: أن كل من سرق فسقط عنه الحد ترتب عليه عقوبتان تعزيريتان: عقوبة مالية بتضعيف الغرم للمسروق. وعقوبة بدنية: بالضرب ونحوه نكالاً له. وقد أوضح ابن القيم هذه الصورة التعزيرية فقال (1) : (أسقط صلى الله عليه وسلم العقوبة بالقطع عن سارق الثمر (2) والكثر (3) . وحكم أن من
المبحث الخامس: قطع جاحد العارية
أصاب منه شيئاً بفمه وهو محتاج فلا شيء عليه. ومن خرج منه بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة (1) . وقضى صلى الله عليه وسلم في الشاة تؤخذ من مراتعها بثمنها مرتين وضرب نكال ... الاستدلال: م ذكر رحمه الله تعالى الاستدلال من هذين الحديثين على اجتماع هاتين العقوبتين في حق كل من سقط عنه القطع فقال (2) : (في ذلك أن من سرق ما لا قطع فيه ضوعف عليه الغرم، وقد نص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقال (كل من سقط عنه القطع ضوعف عليه الغرم) وفي إجماع التعزير مع الغرم الجمع بين العقوبتين: مالية وبدنية. وقد بيّن رحمه الله تعالى أيضا (3) أن هذه العقوبة المالية يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان حسب المصلحة وهذا يأتي بسطه إن شاء الله تعالى في العقوبة المالية من باب التعزير والله أعلم. المبحث الخامس: في قطع جاحد العارية. هذه من مسائل العلم المشتهرة بين الحنابلة والجمهور على ما يلي: مذهب الجمهور: وهو أنه لا قطع على جاحد العارية.
وفيه: تحرير الخلاف. وأدلته. ومناقشتها. والترجيح
وهذا مذهب الحنفية (1) . والمالكية (2) . والشافعية (3) . وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد (4) . وقيل هي المذهب (5) . المعتمد من مذهب الحنابلة: وهو وجوب قطع جاحد العارية. وهذا هو الرواية الثانية عن الإمام أحمد (6) . وهي المذهب على الصحيح (7) وهذا هو مذهب الظاهرية وله انتصر ابن حزم (8) . مناقشة أدلة الخلاف (9) : ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في (أعلام الموقعين) الخلاف في هذه المسألة، وناقش الدّليل محل التجاذب بين الطرفين وهو: حديث المخزومية (10) وبين أن القول بالقطع لجاحد العارية، هو مقتضى الدّليل الصحيح والقياس الصريح. وفي (زاد المعاد) (11) بين أن هذا هو مقتضى لغة العرب.
وفي الكتابين نقض قياس المخالف وأشار للنقض أيضاً في كتابه (إغاثة اللهفان) (1) . وأتى على جميع هذه الأدلة والمناقشات في كتابه (تهذيب السنن) (2) . والتفصيل لذلك على ما يلي: حديث المخزومية. هو من الأحاديث المشهورة في الكتب الستة وقد جاء في بعض ألفاظ الرواة (أنها سرقت) وفي بعضها (أنها كانت تستعير المتاع وتجحد) . وقد جاء اللفظان في روايته من حديث عائشة رضي الله عنها. كما يلي: روايته بلفظ (سرقت) : عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد (3) حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتشفع في حد من حدود الله. ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضلّ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد. وإني والذي نفسي بيده: لو أن فاطمة بنت محمد (4) صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
رواه البخاري (1) . ومسلم (2) وأبو داوود (3) . والترمذي (4) . والنسائي (5) . وا بن ماجه (6) . واللفظ لمسلم (7) . روايته بلفظ (كانت تستعير المتاع وتجحده) : عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها- وذكر فيه نحو ما تقدم بالرواية قبله - وقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها. رواه مسلم (8) . وأبو داوود (9) . والنسائي بروايات متعددة (10) وجعل روايته بلفظ (أنها كانت تستعير المتاع وتجحده) هي الأصل. وجعل روايته بلفظ (سرقت) من اختلاف الرواة الناقلين للحديث وأردف ذكرها بعد ذكر اللفظ الأول وهذا من تمام فقهه رحمه الله تعالى. وهذه من لطائف النسائي في (سننه) التي جرى عليها عند اختلاف النقلة في لفظ الحديث.
وإنما قدمت هنا الرواية بلفظ (سرقت) لرواية البخاري لها تقديماً له فحسب والله أعلم. الحديث بين النفاة والموجبين للقطع: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن نفاة القطع لجاحد العارية وهم الجمهور، ناقشوا وروده بلفظ (كانت تستعير المتاع وتجحده) من حيث الرواية والدراية، ثم تعقب الإيرادين بالمناقشة والرد. وذلك على ما يلي: تعليل الجمهور لرواية (كانت تستعير المتاع وتجحده) : قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (وأعل بعض الناس الحديث بأن معمر (2) تفرد من بين سائر الرواة بذكر (العارية) في الحديث. وأن الليث (3) . ويونس (4) . وأيوب بن موسى (5) . رووه عن الزهري، وقالوا (سرقت) . ومعمر لا يقاومهم) . تعقب ابن القيم لهذا التعليل: قال رحمه الله تعالى (6) :
(أما تعليله بما ذكر فباطل: فقد رواه: أبو مالك عمرو بن هشام الكوفي (1) ، عن عبيد الله بن عمر (2) . عن نافع. عن ابن عمر (أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله. وترد ما تأخذ من القوم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها. ذكره النسائي (3) . ورواه: شعيب بن إسحاق (4) . عن عبيد الله عن نافع بنحوه سواء، ذكره النسائي أيضاً (5) . وقال فيه: لتتب هذه المرأة، ولتؤدي ما عندها مراراً. فلم تفعل فأمر فقطعت. ورواه سفيان عن أيوب بن موسى، عن الزهري. عن عروة. عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت مخزومية تستعير متاعاً وتجحده. فرفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم فيها: فقال: لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها. ذكره النسائي (6) . ورواه بشر بن شعيب (7) . أخبرني أبي (8) . عن الزهري، عن عروة، عن عائشة
رضي الله عنها قالت: استعارت امرأة على ألسنة أناس يعرفون وهي لا تعرف- حلياً فباعته وأخذت ثمنه. فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث- وقال في آخره: ثم قطع تلك المرأة. وذكره النسائي أيضاً (1) : ورواه هشام (2) . عن قتادة (3) عن سعيد بن يزيد (4) ، عن سعيد بن المسيب: أن امرأة من بني مخزوم استعارت حلياً على لسان أناس فجحدته. فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت ذكره النسائي أيضاً (5) . فقد صح الحديث ولله الحمد (6)) . وقد تبين من تعقب ابن القيم أن تعليل الحديث بتفرد معمر به غير صحيح بل قد رواه) . جمع من الرواة ومن بينهم أيوب بن موسى أحد رواته عن الزهري بلفظ (سرقت) . وعليه فإن هذه الرواية بلفظ (العارية) قد كثرت مخارجها وعدلت نقلتها وتعدد رواتها فبطلت إذا علية الانفراد من معمر به وهذا ما حققه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى والله أعلم (7) .
مناقشة الجمهور للحديث دراية: ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى تعقب الجمهور لرواية (العارية) على فرض ثبوتها عندهم من أن السبب الموجب للقطع هو (السرقة) كما في بعض روايات الحديث وأن ذكر (العارية) إنما هو للتعريف المجرد بالمرأة لا أنه سبب القطع. وفي ذلك يقول عنهم ابن القيم (1) : (قالوا: ولو ثبت، فذكر وصف العارية إنما هو للتعريف المجرد لا لأنه سبب القطع) . تعقب ابن القيم لهذه المناقشة: لم يرتض ابن القيم هذا التأويل والحمل من الجمهور لهذا اللفظ (العارية) على فرض ثبوتها عندهم فتعقبها بقوله (3) : (وأما قولهم: أن ذكر جحد العارية للتعريف، لا أنه المؤثر: فكلام في غاية الفساد لو صح مثله- وحاشا- وكلا- لذهب من أيدينا عامة الأحكام المترتبة على الأوصاف. وهذه طريقة لا يرتضيها أئمة العلم، ولا يردون بمثلها السنن، وإنما يسلكها بعض المقلدين من الأتباع) . وبين أن لفظ رواية النسائي (لتتب هذه المرأة، ولتؤدي ما عندها مراراً فلم تفعل. فأمر بها فقطعت) . يبطل قولهم: أن ذكر هذا الوصف للتعريف المجرد (2) . وهذا تعقب وارد ذلك أن جعل ذكر جحد العارية للتعريف ينافي القاعدة
الشرعية الأصولية وهي: أن ترتيب الحكم على الوصف يؤذن بعلية ذلك الوصف) . ومن شأن العلة أنها إذا وجدت يوجد الحكم فمعنى ذلك أن الوصف كلما وجد يوجد الحكم وبهذا لا يضيع شيء من الحكم المترتب على الوصف. بخلاف ما إذا جعل ذكر الوصف لتعريف من اتصف به فإنه حينئذ لا يكون علة وبالتالي لا يستلزم وجوده وجود الحكم وبذلك تذهب عامة الأحكام المترتبة على الوصف وتضيع. فثبت إذا أن ذكر لفظ (العارية) للتعليل لا لمجرد الوصف والله أعلم. جمع ابن القيم بين ألفاظ الرواة للحديث: بعد أن بيّن ابن القيم أن رواية (العارَية) صحيحة الإسناد كرواية (السرقة) وأن تأويل الجمهور لرواية (العارية) لا يصح. بين أن الصحيح في سبب القطع هو: جحد العارية. وأنه لا تنافي بين الروايتين فقال (1) : (ولا تنافي بين ذكر جحد العارية وبين السرقة فإن ذلك داخل في اسم السرقة فإن هؤلاء الذين قالوا (إنها جحدت العارية) وذكروا أن قطعها لهذا السبب قالوا (إنها سرقت فأطلقوا على ذلك اسم السرقة. فثبت لغة أن فاعل ذلك سارق، وثبت شرعاً أن حده قطع اليد. وهذه الطريقة أولى من سلوك طريقة القياس في اللغة. فيثبت كون الخائن سارقاً لغة، قياساً على السارق. ثم يثبت الحكم فيه. وعلى ما ذكرناه يكون تناول اسم السارق للجاحد لغة. بدليل تسمية الصحابة له سارقاً ونظير هذا سواء: ما تقدم من تسمية نبيذ التمر وغيره خمرا: لغة لا
قياساً. وكذلك تسمية النباش سارقاً) . فابن القيم رحمه الله تعالى يبين بكل ثبات أنه لا تنافي بين الروايتين فإن المخزومية سرقت وسرقتها بجحدها العارية. إذ جحد العارية داخل في اسم السرقة لغة كما جرى على لسان الصحابة رضي الله عنهم في روايات الحديث وهذا أولى من قياس جاحد العارية ليتم إطلاق اسم السارق عليه إذ القياس في اللغة لا يجوز. وقد ذكر ابن حجر في (فتح الباري) (1) كلام ابن القيم هذا واستبعده فقال: (كذلك قال ولا يخفى بعده) . وليت ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر لنا شواهد اللغة على تسمية (جاحد العارية) سارقاً والله أعلم. رفض قياس جاحد العارية على الخائن في الوديعة (2) : ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن قياس جاحد العارية على جاحد الوديعة، بجامع الخيانة في كل منهما، فينتج الحكم أنه لا قطع على جاحد العارية كما أنه لا قطع على جاحد الوديعة- ذكر أنه قياس مع الفارق. ووجهه: أن جاحد العارية لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف جاحد الوديعة فإن صاحب المتاع فرط حيث ائتمنه فهو إنما يفعل ذلك عند عدم احتراز المالك (3) . لكن الحافظ ابن حجر (4) تعقب ابن القيم في رفضه هذا القياس فقال: وهي مناسبة لا تقوم بمجردها حجة إذا ثبت حديث جابر رضي الله عنه (ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع) .
والحديث قد ثبت بإسناد صحيح عند أبي داوود (1) . والترمذي (2) . والنسائي (3) وابن ماجه/17. واللفظ للنسائي دونهم (5) . قطع جاحد العارية هو مقتضى القياس، وحكمة التشريع: بعد أن بين ابن القيم رحمه الله تعالى ثبوت الحديث برواية (العارية) وأن جاحد العارية يسمى (سارقاً) لغة، وأن قطع يد المخزومية إنما كان بسبب (جحد العارية) وأن من قاس جاحد العارية على جاحد الوديعة فقد غلط. بعد أن بين ذلك رحمه الله تعالى أوضح أن القول بالقطع هو مقتضى القياس الصريح وحكمة التشريع الكريم فقال: (ولو ثبت أن جاحد العارية لا يسمى سارقاً لكان قطعه بهذا الحديث جارياً على وفق القياس: فإن ضرره مثل ضرر السارق أو أكثر، إذ يمكن الاحتراز من السارق بالأحراز والحفظ وأما العارية: فالحاجة الشديدة لكي تبلغ الضرورة ماسة إليها، وحاجة الناس فيما بينهم من أشد الحاجات. ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى (6) وجوبها. وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين، وأحد القولين في مذهب أحمد.
فترتيب القطع على جاحدها طريق إلى حفظ أموال الناس، وترك لباب هذا المعروف مفتوحاً وأما إذا علم أن الجاحد لا يقطع فإنه يفضي إلى سد باب العارية في الغالب) . وفي معرض رده على نفاة القياس قال (1) : (إذا كان الصحيح هو القول الآخر- قطع جاحد العارية- فموافقته للقياس والحكمة والمصلحة ظاهرة جداً، فإن العارية من مصالح بني آدم التي لا بد لهم منها، ولا غنى لهم عنها، وهي واجبة عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأجرة أو مجاناً، ولا يمكن المعير كل وقت أن يشهد على العارية، ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعاً وعادة وعرفاً، ولا فرق في المعنى بين من توصل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة، وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها) . وابن القيم في هذا القياس يذكر أركانه: فيذكر المقيس، وهو جاحد العارية. ويذكر المقيس عليه: وهو السارق. ويذكر العلة الجامعة: وهي الضرر. ويذكر الحكم: وهو القطع. ويقرر أنه قياس جلي ذلك: أن العلة وهي (الضرر) في المقيس وهو (جاحد العارية) أقوى منها في المقيس عليه، لعدم إمكان الاحتراز عن جاحد العارية بينما الاحتراز عن السارق يمكن بالحفظ والأحراز، فيكون المقيس بناء على هذا القياس أولى بالحكم.
تعقب هذا القياس: وعندي أن هذا القياس متعقب بأمور منها ما يلي: الوجه الأول: أن هذا قياس مع الفارق، ذلك أن الحرز غير متوفر في العارية إذ المعير قد سلط المستعير على ماله وجعله تحت يده، وهذا بخلاف السرقة من حرز فافترقا. الوجه الثاني: أن العلة ليست الضرر وإنما هي (السرقة) والحكم الشرعي وهو (القطع) مرتب على الوصف وهو (السارق والسارقة) . وهو اسم فاعل مشتق من المصدر الذي هو (السرقة) ، وترتيب الحكم على المشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق، وهذا المعنى غير متوفر في (جاحد العارية) . الوجه الثالث: اتفاق أهل اللسان على أن السرقة: هي من المسارقة وهي الاختفاء وهذا العنصر غير موجود في جاحد العارية. ومجرد الإطلاق للفظ (السرقة) على (جاحد العارية) لا يفيد الاجتماع معه في الحكم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العين تزني الحديث. ولم يكن زناها موجباً للحد. الوجه الرابع: أن في هذا إثباتاً للحد بالقياس، والحدود لا تثبت بالقياس (1) . الوجه الخامس: إمكان نقض هذا القياس بمقابله وهو أن يقال: يقاس جاحد العارية على: المنتهب، بعلة الضرر، فينتج الحكم بعدم القطع، وحينئذ يتعارض الدليلان، وعند التعارض يسقطان والله أعلم. هذا ما ظهر لي في تعقب هذا الدليل القياسي والله أعلم.
المبحث السادس: الحد بوجود المسروق في حوزة السارق
الخلاصة والترجيح: والخلاصة أن مذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة وإحدى الروايتين عن أحمد أنه لا قطع. وإن الرواية المعتمدة من مذهب الحنابلة وهو مذهب الظاهرية وجوب القطع على جاحد العارية وهو اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى، وعليه يدل حديث المخزومية والله أعلم. المبحث السادس الحد بالقرينة الظاهرة، وهي وجود المسروق في حوزة المتهم (1) . في معرض بحث ابن القيم: عن اعتبار القرائن وشواهد الأحوال الظاهرة والحكم بموجبها. ضرب لها المثال بإقامة الحد على المتهم بالسرقة إذا وجد المسروق عنده. وهو يقرر رحمه الله تعالى: اختياره على أن الأصح من قولي أهل العلم، أن وجود المسروق في حوزة المتهم يوجب القطع وإن الحكم بهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار: لأنها خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب فالمستفاد منهما الظن الغالب. أما وجود المسروق في حوزة المتهم فيستفاد منه اليقين. وفي ذلك يقول (1) : (ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم. وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب. ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة) . ويقول أيضاً (3) :
(والصحيح أنه يقام الحد على المتهم بالسرقة إذا وجد المسروق عنده) . وقال أيضاً (1) : (إنه أصح القولين) . أدلة ابن القيم: استدل ابن القيم على ذلك بقصة إخوة يوسف عليه السلام إلى قوله تعالى: (قالوا تا الله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين. قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين. قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين. فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه. ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف) الآيات (2) . وجه الاستدلال: قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بيانه منها (3) . (فيها دليل على أن وجود المسروق بيد السارق كاف في إقامة الحد عليه. بل هو بمنزلة إقراره. وهو أقوى من البينة. وغاية البينة أن يستفاد منها الظن وأما وجود المسروق بيد السارق فيستفاد منه اليقين) . خلاف العلماء في هذه المسألة: الحديث عن الخلاف في خصوص هذه القضية فرع عن الحديث في الحكم بالقرينة الظاهرة هل يقضى فيها بكل شيء من حقوق الله أو حقوق العبد. أو تقبل فيما عدا الحدود. أو تقبل في حقوق العباد وفي بعض الحدود دون بعض وقد تقدم سياق الخلاف في هذه المسألة في (باب الزنا) .
المبحث السابع: في توبة السارق
وأما المالكية فينبغي أن يكون هذا هو مقتضى مذهبهم لأنهم يصرحون بالحد بالقرينة الظاهرة بالحبل في الزنا والرائحة في الخمر. لكن لم أر لهم تصريحاً في حد السارق بوجود المسروق في حوزته والله أعلم. موقفي في هذا المبحث: لم أزل متطلعاً إلى الوقوف على أقضية الصحابة رضي الله عنهم في ذلك كما أشار إليه ابن القيم، ولكن لم يتيسر الوقوف عليها ولم أر في هذه المسألة بحثا فسبيلي بها الوقف حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين بالوقوف على قضايا السلف في هذا وكلام أهل العلم والله أعلم. المبحث السابع: في توبة السارق قال الله تعالى (1) (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم. فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه أن الله غفور رحيم. تكلم ابن القيم رحمه الله تعالى عن توبة السارق في صور ثلاث: الصورة الأولى: توبته قبل القدرة عليه. الصورة الثانية: توبته بعد القدرة عليه. الصورة الثالثة: توبته بعد إقامة الحد عليه. الصورة الأولى: توبته قبل القدرة عليه: تقدم الحديث مستوفى عن هذه الصورة في: مبحث توبة أصحاب الحدود قبل القدرة عليهم. وأن اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى: سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه. والله أعلم.
الصورة الثانية: توبته بعد القدرة عليه: وكذا تقدم الحديث عن هذه الصورة (1) . من أن الحد لا يسقط بالتوبة بعد رفعه إلى الإمام. والله أعلم. الصورة الثالثة: توبته بعد إقامة حد القطع عليه. محل الخلاف في هذه الصورة هل من شرطها ضمان المسروق ورده لصاحبه أم لا؟ ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن في هذا: إجماعاً. واختلافاً. محل الإجماع: إذا كانت العين المسروقة موجودة بعينها فالإجماع على أن ردها لصاحبها شرط لصحة توبته وفي ذلك يقول (2) : (وأجمعوا على أن من شرط صحة توبته: أداؤها إليه إذا كانت موجودة بعينها) . محل الاختلاف: اختلف أهل العلم إذا كانت العين المسروقة تالفة فهل من تمام التوبة ضمانها لمالكها أم لا. حكى ابن القيم رحمه الله تعالى ثلاثة أقوال على ما يلي: القول الأول: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (قال الشافعي وأحمد: من تمام توبته: ضمانها لمالكها. ويلزمه ذلك موسراً كان أو معسراً) . أدلتهم: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (4) :
(وأصحاب القول الأول يقولون: هذه العين تعلق بها حقان: حق لله. وحق لمالكها وهما حقان متغايران لمستحقين متباينين. فلا يبطل أحدهما الآخر بل يستوفيان معاً. لأن القطع حق لله. والضمان حق للمالك. ولهذا لا يسقط القطع بإسقاطه بعد الرفع إلى الإمام. ولو أسقط الضمان سقط. وهذا كما إذا أكره أمة غيره على الزنا لزمه الحد لحق الله. والمهر لحق السيد. وكذلك إذا أكره الحرة على الزنا أيضاً. بل لو زنا بأمة ثم قتلها: لزمه حد الزنا وقيمتها لمالكها. وهو نظير ما إذا سرقها، ثم قتلها: قطعت يده لسرقتها، وضمنها لمالكها. قالوا وكذلك: إذا قتل في الإحرام صيداً مملوكاً لمالكه. فعليه الجزاء لحق الله وقيمة الصيد لمالكه) . وهذه الاستدلال: هو من حيث المعنى الموجود في السرقة بترتب الحقين حق الله وحق العبد فلا يبطل أحدهما الآخر. وذلك مطرد في جملة من أحكام الشريعة كما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى للتنظير. القول الثاني: قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (وقال أبو حنيفة: إذا قطعت يده- وقد استهلكت العين- لم يلزمه ضمانها. ولا تتوقف صحة توبته على الضمان) . أدلته: ذ! ابن القيم رحمه الله تعالى عدة أدلة هي كما يلي: 1- (إن قطع اليد هو مجموع الجزاء، والتضمين عقوبة زائدة عليه لا تشرع.
وهذا بخلاف ما إذا كانت العين قائمة: فإن صاحبها قد وجد عين ماله. فلم يكن أخذها عقوبة ثانية. بخلاف التضمين. فإنه غرامة. وقد قطع طرفه فلا تجمع عليه غرامة الطرف وغرامة المال) (1) . مناقشة الجمهور لهذا الدليل: ثم ذكر رحمه الله تعالى مناقشة هذا الدليل فقال (2) : (وأما قولكم إن قطع اليد مجموع الجزاء. إن أردتم. أنه مجموع العقوبة فصحيح. فإنه لم يبق عليه عقوبة ثانية. ولكن الضمان ليس بعقوبة للسرقة. ولهذا يجب في حق غير الجاني: كمن أتلف مال غيره خطأ أو إكراهاً. أو في حالة نومه. أو أتلفه إتلافاً مأذوناً له فيه كالمضطر إلى أكله. أو المضطر إلى إلقائه في البحر لإنجاء السفينة. ونحو ذلك. فليس الضمان من العقوبة في شيء) . وهذا تعقب وارد فإن: مجموع الجزاء العقابي للسارق هو القطع. والقول بتضمينه لا دخل له في العقوبة لهذا فإن سقوط الحد لا يسقط الضمان لتفاوت الحقين بتفاوت جهتهما الأول حق الله والثاني حق العبد والله أعلم. 2- استدلالهم من الكتاب: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى دليل الحنفية من القرآن الكريم فقال (3) : (قالوا: ولهذا لم يذكر الله سبحانه في عقوبة السارق والمحارب غير إقامة الحد عليهما ولو كان الضمان لما أتلفوه واجباً لذكره مع الحد. ولما جعل مجموع جزاء المحاربين ما ذكره من العقوبة بأداة (إنما) التي هي عندكم للحصر، فقال تعالى (4) (إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً) الآية. ومدلول هذا الكلام، عند من يجعل أداة (إنما) للحصر. أنه لا جزاء لهم غير ذلك) . أي وهذا استدلال من القرآن على أنه لا ضمان. مناقشة الجمهور لهذا الاستدلال:. ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى مناقشة الجمهور لهذا فقال (1) : (وأما قولكم (إن الله لم يذكر في القرآن تضمين السارق والمحارب) فهو لم ينفه أيضاً. وإنما سكت عنه فحكمه مأخوذ من قواعد الشرع ونصوصه كقوله تعالى (2) (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) . وهذا قد اعتدى بالإتلاف فيعتدى عليه بالتضمين ولهذا: أوجبنا رد العين إذا كانت قائمة. ولم يذكر في القرآن. وليس هذا من باب الزيادة على النص. بل من باب إعمال النصوص كلها. لا يعطل بعضها ويعمل بعضها. وكذلك الجواب عن قوله تعالى في المحاربين (3) ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) أي عقوبتهم. وخلاصة هذه المناقشة: أن الذي ذكره الله في آيتي السرقة والحرابة هو: الجزاء العقابي أي بمعنى العقوبة المقدرة للجريمة. أما قضية التضمين فشيء آخر لا دخل له في العقوبة. وليس في النص ما ينفيه: إذا فيجب التضمين لدلالة الدليل عليه (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) . والله أعلم.
3- استدلال الحنفية من السنة: (قالوا: وقد روى النسائي في سننه (1) عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قضى في السارق إذا أقيم عليه الحد. أنه لا غرم عليه) (2) . مناقشة الجمهور لهذا الدليل: (قالوا: وأما حديث عبد الرحمن بن عوف: فمنقطع لا يثبت. يرويه سعد ابن إبراهيم. عن منصور. وقد طعن في الحديث ابن المنذر، فقال: سعد ابن إبراهيم مجهول. وقال ابن عبد البر: الحديث ليس بالقوي) (3) . هذا ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في تعقب هذا الحديث ومناقشته. ولي موقف في هذه المناقشة يتجلى في نقطتين هما: تعقب هذه المناقشة. وبيان منزلة هذا الحديث. تعقب هذه المناقشة: وهو من وجهين: أولاً: في قوله (يرويه سعد ابن إبراهيم عن منصور) . هذا تحريف صوابه (سعد بن إبراهيم عن (المسور) . كما في سياق سنده عند مخرجيه (النسائي) (4) و (الدارقطني) (5) ونص على ذلك ابن حجر (6) .
الثاني: قوله (وقد طعن في الحديث ابن المنذر فقال: سعد ابن إبراهيم: مجهول) . هذا غير صحيح من ابن المنذر فإن سعداً هذا هو: سعد ابن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف المتوفى سنة 125 هـ. وكان ثقة فاضلاً عابداً كما في (التقريب) لابن حجر (1) . وأن سعداً هذا يرويه عن أخيه (المسور بن إبراهيم ابن عبد الرحمن ابن عوف المتوفى سنة 107 هـ. وقد وقع منسوباً في روايتي (الدارقطني) و (الجوزجاني) (2) بإسنادهما (عن سعد ابن إبراهيم عن أخيه المسور) كما نبه عليه الحافظ بن حجر في (التهذيب) (3) . إذاً: فرد الحديث بجهالة سعد لا يصح والله أعلم. بيان منزلة هذا الحديث: وإذ قد علمنا عدم سلامة هذه المناقشة فما هي منزلة هذا الحديث؟ لقد تبين لي أن هذا حديث لا تقوم به حجة كما ذكره ابن القيم ذلك لما يلي: أ- أن راويه النسائي قال بعد سياقه (4) : . (قال أبو عبد الرحمن- يعني نفسه -: وهذا مرسل، وليس بثابت) . ويريد بالإرسال الانقطاع الحاصل بين المسور ابن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف وجده عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فإن المسور لم يدرك جده عبد الرحمن بن
عوف رضي الله عنه فإن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مات سنة 32 هـ. وحفيده المسور مات سنة 107 هـ. كما ذكره الحافظ ابن حجر (1) . فتحقق إذا انقطاع الحديث بهذا السند. ب- كما أن المسور هذا انفرد برواية هذا الحديث عن جده عبد الرحمن ابن عوف وبينهما مفازة فهو أيضاً كما قال الحافظ بن حجر مقبول الحديث (2) . ومن كان كذلك فيقبل حديثه حيث توبع وإلا فلا. وهو في الحديث لم يتابع عليه. وقد وهم من ظن متابعة المسور بن مخرمة الصحابي المتوفى سنة 64 (3) . وقد نبه على ذلك الوهم الحافظ بن حجر إذ قال (4) (إن الحديث جاء منسوبا في رواية الدارقطني. والجوزجاني فإنهما أخرجاه من طريق عن مفضل بن صالح عن يونس عن سعد ابن إبراهيم عن أخيه المسور به وقال: المسور لم يدرك عبد الرحمن) (5) . 4- استدلال الحنفية: بجريان العمل بهذا: (قالوا: وهذا هو المستقر في فطر الناس وعليه عملهم: أنهم يقطعون السراق، ولا يغرمونهم ما أتلفوه من أموال الناس، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) . مناقشة الجمهور لهذا الدليل: قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان هذه المناقشة (6) : (وأما استقرار ذلك في فطر الناس: فمن قال؟ إنه مستقر في فطرهم، أن الغني الواجد إذا سرق مال فقير
محتاج، أو يتيم فأتلفه، وقطعت يده: أنه لا يضمن مال هذا الفقير واليتيم، مع تمكنه من الضمان، وقدرته عليه، وضرورة صعبه وضعفه. فهل المستقر في فطر الناس إلا عكس هذا؟) القول الثالث: المتوسط بين القولين. وهو أنه إن كان له مال ضمنها وإلا فلا وهذا مذهب فقهاء المدينة مالك وغيره. وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وتوسط فقهاء المدينة- مالك وغيره- بين القولين. فقالوا: إن كان له مال ضمنها بعد القطع. وإن لم يكن له مال فلا ضمان عليه. وهذا استحسان حسن جداً. وما أقربه من محاسن الشرع. وأولاه بالقبول والله سبحانه وتعالى أعلم) . هذا هو نهاية المطاف في هذه المسألة عند ابن القيم رحمه الله تعالى ومنه يظهر ترجيحه لرأي مالك رحمه الله تعالى واختياره له والله أعلم. الخلاصة والترجيح: بعد الوقوف على هذه الأقوال وبيان مناهج الأدلة التي استدل بها الحنفية ومناقشة الجمهور لهم وبيان استدلال الجمهور. والإلماع إلى رأي المالكية ووجهته: فإن الذي ظهر لي والله أعلم هو: أن رأي الحنفية لم تثبت أدلته المذكورة أمام النقد والتعقب. وأن رأي المالكية المختار لدى ابن القيم هو مجرد استحسان فأين الدليل؟. إذ الاستحسان هو (الحكم على مسألة بحكم يخالف نظائرها لدليل شرعي) (1) . ولم
يذكروا لنا دليلاً شرعياً يقضي بهذا الاستحسان. وعليه فإن الذي يظهر لي والله أعلم هو رأي الجمهور: لقوة أدلته وسلامتها. وهو أن من تمام توبة السارق ضمان المسروق لربه إذا كان تالفاً. فإن كان قادراً تعين دفعه وإن كان غير قادر فقد قال الله تعالى في حق غير القادرين (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) (1) . ولم يسقط عنهم ما ترتب في ذممهم من حقوق فكذلك ههنا وقد قال صلى الله عليه وسلم (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) رواه أبو داوود (2) . والترمذي (3) . وابن ماجه. والله أعلم.
باب الردة
باب الردة
توطئة
توطئة تعريف (الردّة) و (المرتد) في اللسانين اللغة والشرع. التعريف اللغوي: (الردّة) و (المرتد) من مادة، رده، يرده. والمصدر منه: رداً، وترداداً وارتداداً وردة، فهو مرتد (1) . إذاً (الردة) مصدر. والاسم منه (مرتد) . أصل معنى هذه المادة: وأصل معنى المادة: الرّاء والدّال: يعود إلى أصل واحد مطرد منقاس وهو: (رجع الشيء) كما في (معجم مقاييس اللغة) لابن فارس (2) . فمعنى (الردّة) لغة إذاً هو: الرجوع. ومعنى (المرتد) لغة هو: الراجع.
وقرر غير واحد من أهل اللغة على: أن الردّة لغة الرجوع عن الإسلام إلى الكفر وأن المرتد لغة: الراجع من الإسلام إلى الكفر (1) . بل ذكر الراغب اختصاص معنى (الردّة) بذلك. دون معنى (الارتداد) فقال (2) : (الارتداد والردّة: الرجوع في الطريق الذي جاء منه. لكن الردّة تخص بالكفر والارتداد يستعمل فيه وفي غيره) . والخلاصة: أن (الردّة) مصدر وهي لغة: الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر. وأن الاسم منه (المرتد) وهو لغة: الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر. والله أعلم. المرتد شرعاً: الناظر لكلمة أهل الاصطلاح في معنى (المرتد) شرعاً: يجد التواطؤ التام بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي. فالمرتد شرعاً: الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر (3) الردّة شرعاً: أما تعريف الردّة شرعاً، فهو وإن اختلفت كلمة أهل الاصطلاح فيه، فهو اختلاف مذهبي يعود إلى موجبات الردّة عند صاحب المذهب لكنها تؤول إلى معنى واحد هو:
(الإتيان بما يوجب الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر) . ومن تعريفات المذاهب المشهورة للردّة ما يلي: الحنفية: قال السمرقندي (1) : (الردّة عبارة عن الرّجوع عن الإيمان) . المالكية: قال خليل (3) : (الردّة: كفر المسلم بصريح أو لفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه) . الشافعية: قال النووي (3) : (الردّة: قطع الإسلام بنية أو قول أو فعل) . الحنابلة: قال ابن قدامة (4) : (الردّة: هي الإتيان بما يخرج به عن الإسلام إما نطقاً أو اعتقاداً أو شكاً ينقل عن الإسلام) . هذه تعريفات فقهاء المذاهب المشهور لمعنى (الردّة) شرعاً وهي تتفق في الغاية
وهي: كفر من أتى ما يوجب رجوعه وردته عن دين الإسلام وتختلف من حيث الشمول لما يتصور وقوعه من المكلف، من قول أو فعل أو اعتقاد أو شك. فتعريف المالكية: أتى على القول والفعل دون الاعتقاد والشك. وتعريف الشافعية: اشتمل على القول. والفعل. والاعتقاد. دون الشك. وتعريف الحنابلة: اشتمل على القول. والاعتقاد. والشك. دون الفعل. وأما تعريف الحنفية: بقولهم (الردّة الرجوع عن الإيمان) . فينقصه الوضوح والبيان لموجبات الردّة الجامعة من قول أو فعل ونحو ذلك. والتعاريف مبناها على الوضوح والبيان لا على الغموض والإبهام. وإن كان التعريف بعمومه الذي يتضمنه لفظ (الرجوع) يشمل كل موجبات الردَّة، ويكون التعريف بذلك جامعاً لجميع أفراد الردّة. لكن ينبني أن يكون التعريف جامعاً واضحاً. لهذا فإن التعريف الذي أراه مانعاً جامعاً واضحاً هو أن يقال: (الردّة: هي الإتيان بما يوجب الرجوع عن دين الإسلام من قول أو فعل أو اعتقاد أو شك) .
مباحِث ابن القيم رحمه الله في الردَّة حصل بالتتبع أن مباحثه فيها كالآتي: المبحث الأول: في ردّة من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني: في ردّة قاذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. المبحث الثالث: يا الهازل وردّته. المبحث الرابع: أثر الإكراه في انتفاء الردّة. المبحث الخامس: في توبة الزنديق. والى بيانها على هذا الترتيب.
المبحث الأول: في ردة من سب النبي صلى الله عليه وسلم
المبحث الأول: في ردة من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم (1) من قواطع الأحكام في الإسلام أن من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر مرتد، وعقوبته القتل. وقد حكى ابن القيم (2) رحمه الله تعالى إجماع المسلمين من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم. وهذا إجماع محكي لدى عامة أهل العلم وممن حكاه: الخطابي (3) وابن تيمية (4) بل قرر ابن سحنون من علماء المالكية: أن من شك في كفر ساب النبي صلى الله عليه وسلم وعذابه فهو كافر (6) . والحكم بردّة ساب النبي صلى الله عليه وسلم أمر فطري لأنه لا يسبه إلا وهو جاحد له، وقد ذكر الله تعالى كفر المستهزئ وهو دون الساب فقال سبحانه (7) (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) . الآية والله أعلم.
المبحث الثاني: في ردة قاذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
المبحث الثاني: في ردّة قاذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟ من مواطن الإجماع أن من قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر عقوبته القتل، وفي حكاية الإجماع على كفره يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (اتفقت الأمة على كفر قاذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها) . وقد حكى هذا الإجماع ابن حزم (2) ، وابن تيمية (3) والبهوتي (4) وغيرهم. الحجة في هذا: والحجة في هذا أن براءتها قد نزلت في كتاب الله تعالى فيكون قادفها مكذباً لنص كتاب الله تعالى كما في آيات براءتها في قصة الإفك إذ قال سبحانه (5) (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين) . عقوبته: وأما عقوبته فهو القتل، لأن من رماها بالقذف فقد خالف صريح القرآن الكريم ومخالفته والحالة هذه كفر، فعقوبته القتل كما قرره مالك وغيره (6) والله أعلم.
المبحث الثالث: في الهازل وردته. مع التدليل والإيضاح
المبحث الثالث: في الهازل وردته، تعريف ابن القيم للهازل: قال رحمه الله تعالى في تعريفه (للهازل) (1) . (الهازل: هو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته بل على وجه اللعب) . ونقيضه الجاد: فاعل من الجدّ بكسر الجيم وهو نقيض الهزل، وهو مأخوذ من (جد فلان) . إذا عظم واستغنى وصار ذا حظ. والهزل: من هزل إذا ضعف وضؤل. نزل الكلام الذي يراد معناه حقيقته بمنزلة صاحب الحظ والبخت والغني. والذي لم يرد معناه وحقيقته: بمنزلة الخالي منِ ذلك. إذ قوام الكلام بمعناه، وقوام الرجل بحظه وماله. وابن القيم في هذا التعريف يأتي على معناه الاصطلاحي بقوله: (الهازل: هو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته بل على وجه اللعب) . ولم يذكر رحمه الله تعالى (مخالفة الهازل للمعنى المجازى) لأنه رحمه الله تعالى
لا يرى المجاز في اللغة ولا في الشرع وقد أوسع الكلام في ذلك في كتاب (الصواعق المرسلة) (1) . وأما مثبتو المجاز فيقولون في حد الهازل: (هو الذي لا يريد باللفظ معناه لا الحقيقي ولا المجازي) (2) والله أعلم. كما أتى ابن القيم رحمه الله تعالى على المأخذ اللغوي للفظ (هازل) وهو قوله: (من هزل: إذا ضعف وضؤل) وهذا ما قرره علماء اللغة (3) والله أعلم. موقف ابن القيم من الهزل في حقوق الله تعالى: بحث ابن القيم رحمه الله تعالى تصرفات الهازل وعقوده من بيع وشراء ونحوه من حقوق العباد. والهزل فيما هو متضمن لحق الله وحق العبد كالنكاح والطلاق والعتق. والهزل فيما هو محض حق لله تعالى. وقرر رحمه الله تعالى حرمة الاستهزاء والهزل فيما هو محض حق الله تعالى فقال (4) : (ليس للعبد أن يهزل مع ربه ولا يستهزئ بآياته، ولا يتلاعب بحدوده وفي حديث أبي موسى (5) (ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته) . وذلك في الهازلين، يعني- والله أعلم- يقولونها لعباً غير ملتزمين لأحكامها وحكمها لازم لهم ...
وحاصل الأمر: أن اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله تعالى غير جائز، فيكون جد القول وهزله سواء- بخلاف جانب العباد. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح مع الصحابة ويباسطهم. وأما مع ربّه تعالى فيجد كل الجد. ولهذا قال للأعرابي يمازحه (من يشتري مني العبد؟ فقال: تجدني رخيصاً يا رسول الله فقال: بل أنت عند الله غال) (1) . وقصد صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله. والصيغة صيغة استفهام) . ردة الهازل: هو ما قرره ابن القيم رحمه الله تعالى في تعريف الهازل. وبيان عدم جواز الهزل في حقوق الله تعالى. وهو رحمه الله تعالى لم يبين حكم الهازل وعقوبته وهو معذور في ذلك لأن هذا المبحث استطرادي دعاه إليه الحديث عن (الهازل في العقود) . فما هو إذا حكم الهازل في حقوق الله تعالى. وما هي عقوبته: من أتى هازلاً ما يوجب ردّته: فهو مرتد وعقوبته القتل. كما قرره غير واحد من أهل العلم (2) . الأدلة: استدلوا بأدلة منها ما يلي:
1- الأصل في هذا قوله تعالى (1) (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) الآية. وجه الاستدلال من الآية: بينه القاضي أبو بكر العربي بقوله (2) : (لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جداً أو هزلاً. وهو كيفما كان كفر فإن الهزل بالكفر: كفر لا خلاف فيه بين الأمة. فإن التحقيق أخو العلم والحق. والهزل أخو الباطل والجهل) . 2- عموم قوله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري (3) وأبو داوود (4) والترمذي (5) والنسائي (6) وابن ماجه (7) من حديث ابن عباس رضي الله عنهم. وجه الاستدلال: هو أن الهازل بما يوجب ردّته مبدل لدينه. والهازل في حقوق الله غير معذور فيكون بهزله بذلك مبدلاً لدينه فيكون مرتداً يجب قتله والحديث بعمومه يتناول المبدل جاداً والمبدل هازلاً والله أعلم.
المبحث الرابع: أثر الإكراه في انتفاء الردة
المبحث الرابع: أثر الإكراه (1) في انتفاء الردّة. التلفظ بكلمة الكفر يوجب الحكم بالردّة، لكن في حال الإكراه ينفي وجوب الحكم بردّة المكره، كما قال تعالى (2) (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرحَ بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) . وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان) . ويقول أيضاً في بيان علة انتفاء الحكم عنه (4) : (المكره قد أتى باللفظ المقتضي للحكم، ولم يثبت عليه حكمه، لكونه غير قاصد له وإنما قصد رفع الأذى عن نفسه، فانتفى الحكم لانتفاء قصده وإرادته لموجب اللفظ) . وهذا الحكم متفق عليه عند الأئمة الأربعة وغيرهم (5) .
المبحث الخامس: في توبة الزنديق
لكن حصل النزاع في الأفضل للمكره، هل هو التكلم بكلمة الكفر أم الصبر ولو أتى ذلك على نفسه، والذي عليه الأكثر: هو أن الأفضل للمكره على كلمة الكفر أن يصبر ولا يقوله ولو أتى ذلك على نفسه (1) . بل حكى ابن حجر رحمه الله تعالى عليه الإجماع (2) ، واختار رحمه الله تعالى أن المفاضلة بين الصبر للمكره، والتلفظ تختلف باختلاف النفع الظاهر المتعدى فمن كان في مصابرته نفع ظاهر متعد للمسلمين كان الأفضل له الصبر، ومن لم يكن كذلك فالأفضل له التلفظ للإبقاء على نفسه والله أعلم. المبحث الخامس: في توبة الزنديق (3) . الزنديق أخص من المرتد، فكل زنديق مرتداً، وليس كل مرتد زنديقاً. هذه من مسائل العلم التي اشتهر فيها الخلاف بين الأئمة وقد حكى ابن القيم فيها الخلاف وساق الأدلة، وبيّن الرأي المختار (بأعلام الموقعين) (4) . بيان محل الخلاف: وليعلم قبل الدخول في مناقشة هذه المسألة أن محل الخلاف هو قبول توبتهم في
الدنيا التي يخص بها دينهم تترتب عليها أحكام الإسلام في حقهم أما في الباطن وهو قبول الله تعالى لتوبته فليس هذا محل خلاف. قال ابن قدامة (1) : (وفي الجملة فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقهم. وأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفران الله تعالى لمن تاب وأقلع ظاهراً وباطنا فلا خلاف فيه فإن الله تعالى قال في المنافقين (2) (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله، وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظما) . وإذا تبين محل الخلاف فإلى بيان هذا المبحث على ضوء ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى. القول الأول: عدم قبول توبة الزنديق. قال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً القائلين به (3) : (وهذا مذهب أهل المدينة، ومالك وأصحابه، والليث بن سعد، وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة، وهو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه، بل هي أنص الروايات عنه) . الأدلة: استدل ابن القيم رحمه الله تعالى لهذا القول بعدد من وجوه الأدلة على ما يلي:
1- أنه لا سبيل إلى العلم بتوبة الزنديق والحال أنه يظهر الإسلام ويستسر الكفر. فكيف تقبل؟. وفىِ هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (إنه لا سبيل إلى العلم بها، فإن الزنديق قد علم أنه لم يزل مظهراً للإسلام فلم يتجدد له بإسلامه الثاني حال مخالفة لما كان عليه. بخلاف الكافر الأصلي: فإنه إذا أسلم فقد تجدد له بالإسلام حال لم يكن عليها. والزنديق إنما رجع إلى إظهار الإسلام. وأيضاً فالكافر كان لكفره غير مستتر به ولا مخف له. فإذا أسلم تيقنا أنه أتى بالإسلام رغبة فيه لا خوفاً من القتل، والزنديق بالعكس فإنه كان مخفياً لكفره مستتراً به، فلم نؤاخذه بما في قلبه إذا لم يظهر عليه فإذا ظهر على لسانه وآخذناه به فإذا رجع عنه لم يرجع عن أمر كان مظهراً له غير خائف من إظهاره وإنما رجع خوفاً من القتل) . 2- قياس الزنديق على المحارب. قال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (وأيضاً فإن الله تعالى سن في المحاربين أنهم أن تابوا قبل القدرة عليهم قبلت توبتهم، ولا تنفعهم التوبة بعد القدرة عليهم. ومحاربة الزنديق للإسلام بلسانه أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه فإن فتنة هذا في الأموال والأبدان، وفتنة الزنديق في القلوب والإيمان، فهو أولى ألا تقبل توبته بعد القدرة عليه.
وهذا بخلاف الكافر الأصلي فإن أمره كان معلوماً، وكان مظهراً لكفره غير كاتم له، والمسلمون قد أخذوا حذرهم منه وجاهروه بالعداوة والمحاربة) وهذا القياس هو من قياس الأولى وهو مستوف لأركانه وشرائطه: فقد ذكر المقيس: وهو الزنديق. وذكر المقيس عليه: وهو المحارب. وذكر العلة الجامعة: وهي الإفساد في كل منهما. وذكر الحكم: وهو عدم قبول التوبة. 3- أن الزنديق محارب لله ورسوله. قال رحمه الله تعالى (1) : (وأيضاً فإن من سبّ الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً: فجزاؤه القتل حداً. والحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقاً. ولا ريب أن محاربة هذا الزنديق لله ولرسوله وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفساداً فكيف تأتي الشريعة بقتل من صال على عشرة دراهم لذمي أو على بدنه، ولا تقبل توبته، ولا تأتي بقتل من دأبه الصول على كتاب الله وسنة رسوله والطعن في دينه وتقبل توبته بعد القدرة عليه) . فابن القيم رحمه الله تعالى في هذا الاستدلال يجعل (الزنديق) واحداً من أفراد (المحاربين) الذين قال الله فيهم (2) (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا
ولهم في الآخرة عذاب عظيم. إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) . فالزنديق: محارب لله ورسوله ساع في الأرض فساداً على الناس في أديانهم فلا تقبل توبته بعد القدرة عليه والله أعلم. 4- أن في قبول توبة الزنديق تسليطاً له على دين الله وشرعه والشريعة لا تأتي بهذا فتعين عدم قبولها. قال رحمه الله تعالى (1) : (وأيضاً فإن الزنديق هذا دأبه دائماً فلو قبلت توبته لكان تسليطاً له على بقاء نفسه بالزندقة والإلحاد، وكلما قدر عليه أظهر الإسلام وعاد إلى ما كان عليه ولا سيما وقد علم أنه أمن بإظهار الإسلام من القتل، فلا يزعه خوفه من المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومسبة الله ورسوله، فلا ينكف عدوانه عن الإسلام إلا بقتله) . 5- أن قاعدة الشريعة المطردة: العمل بالظاهر حتى يعارضه ما هو أقوى منه، فإذا عارضه ما هو أقوى منه وجب المصير إليه وترك الظاهر. فالزنديق قد أظهر ما يبيح دمه. وما أظهره دليل قوي على إباحة دمه. فإظهاره التوبة بعد القدرة عليه، دليل ضعيف على صدقه لا يقوى على دفع ذلك الظاهر القوى المبيح لدمه. وقد بيّن ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الدليل ووجه ضعف المعارضة فقال (2) :
(وههنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها، وهي أن الشارع إنما قبل توبة الكافر الأصلي من كفره بالإسلام، لأنه ظاهر لم يعارضه ما هو أقوى منه، فيجب العمل به، لأنه مقتضى لحقن الدم، والمعارض منتف. فأما الزنديق، فإنه قد أظهر ما يبيح دمه، فإظهاره بعد القدرة عليه للتوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه، دلالة قطعية ولا ظنية أما انتفاء القطع فظاهر، وأما انتفاء الظن، فلأن الظاهر إنما يكون دليلاً صحيحاً إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام دليل على الباطن، لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه) . القول الثاني: وهو قبول توبته فيستتاب فإن تاب قبلت توبته ولم يقتل. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان أصحاب هذا القول (1) : (وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يستتاب. وهو قول الشافعي. وعن أبي يوسف روايتان: أحداهما أنه يستتاب وهي الرواية الأولى عنه) (2) . الأدلة: لم يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أدلة هذا القول. والظاهر أنه رغب عن ذلك لأنه لم يورد دليلاً مقنعاً في الدلالة لما ذهبوا إليه. وقد تتبعت ذكر أدلة هذا القول، فرأيت أن جماعة من أهل العلم منهم ابن
قدامة (1) وابن حجر (2) يجمعون بين الأدلة في خصوص الزنديق وبين الأدلة في عموم المرتد. لهذا فإني لا أذكر هنا إلا ما يمكن الاستدلال به في خصوص الزنديق أو دخوله في دلالته. ومنها ما يلي: 1- ما حكاه الحافظ ابن حجر (3) من (الإجماع على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر) . أي فإن الزنديق إذا استتيب فتاب تقبل توبته ويحقن دمه بها إجراء للحكم على الظاهر منه وهو: الرجوع إلى الإسلام. مناقشة هذا الاستدلال: للمانع أن يقول: نسلم أن أحكام الدنيا تجري على الظواهر: لكن هذا إذا لم يعارض الظاهر ما هو أقوى منه. وإظهاره التوبة بعد القدرة عليه لا يقاوم إظهاره ما أباح دمه من الكفر والفساد والتكذيب بالدين واستهانته به بما أظهره من الزندقة. بل هذا هو الظاهر وهو دليل قوى فلا يمكن إلغاءه بإعمال إظهاره التوبة وهو دليل ضعيف. فاستدلال المانع إذا بظاهر زندقته أقوى كما تقدم نقله في أدلتهم من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
2- قوله تعالى عن المنافقين (1) (اتخذوا أيمانهم جنة) الآية. وجه الاستدلال: قال ابن حجر (2) : (من حجة من استتابهم هذه الآية، على قول أن إظهار الإيمان يحصن من القتل) . والزنديق يجتمع مع المنافق في استسرار الكفر وإظهار الإسلام وقد صارت الأيمان جنة أي سترة لهم عن القتل مع كفر قلوبهم. فتكون التوبة نافعة إذا لحقن دم الزنديق. مناقشة هذا الاستدلال: من إفادات شيخ الإسلام ابن تيمية التي قذف بها موج بحره الزخار في كتابه (الصارم المسلول) (3) أنه قرر أن آية المجادلة ونظائرها (4) تدل على النقيض من ذلك فهي تدل على قتل المنافق إذا ثبت نفاقه بلا استتابة فقال (5) : (دلت هذه الآيات على أن المنافقين كانوا يرضون المؤمنين بالأيمان الكاذبة وينكرون أنهم كفروا، ويحلفون أنهم لم يتكلموا بكلمة الكفر) . وذلك دليل على أنهم يقتلون إذا ثبت ذلك عليهم بالبينة لوجوه:
أحدها: أنهم لو كانوا إذا أظهروا التوبة قبل ذلك منهم لم يحتاجوا الى الحلف والإنكار ولكانوا يقولون: قلنا، وقد تبنا. فعلم أنهم كانوا يخافون إذا ظهر ذلك عليهم أنهم يعاقبون من غير استتابة. الثاني: أنه قال تعالى (اتخذوا أيمانهم جنة) واليمين إنما تكون جنة إذا لم تأت بينة عادلة تكذبها، فإذا كذبتها بينة عادلة انخرقت الجنة، فجاز قتلهم ولا يمكنه أن يجتن بعد ذلك إلا بجنة من جنس الأولى وتلك جنة مخروقة. الثالث: أن الآيات دليل على أن المنافقين إنما عصم دمائهم الكذب والإنكار، ومعلوم أن ذلك إنما يعصم إذا لم تقم بينة بخلافه ولذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم) . القول الثالث: التفصيل هو: أنه أن تاب قبل القدرة عليه فتقبل توبته ويحقن دمه. وأما بعد القدرة عليه فلا يستتاب بل يقتل من غير استتابة وإن تاب بعد القدرة عليه فلا تحقن دمه. وقد بيّن ابن القيم رحمه الله تعالى أن هذا هو الرواية الثانية عن أبي يوسف والرواية الثالثة عن الإمام أحمد (1) . وحكاه الحافظ عن مالك وبعض الشافعية (2) . الاستدلال (3) : استدل ابن القيم رحمه الله تعالى على أن توبة الزنديق لا تحقن دمه بقوله تعالى (4)
(قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) . وجه الاستدلال: ثم بيّن وجه الاستدلال من الآية فقال (1) : (قال السلف في هذه الآية: (أو بأيدينا) بالقتل أن أظهرتم ما في قلوبكم. وهو كما قالوا: لأن العذاب على ما يبطنوه من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل. فلو قبلت توبتهم بعد ما ظهرت زندقتهم، لم يكن للمؤمنين أن يتربصوا بالزنادقة: أن يصيبهم الله بأيديهم، لأنهم كلما أرادوا أن يعذبوهم على ذلك أظهروا الإسلام فلم يصابوا بأيديهم قط. والأدلة على ذلك كثيرة جداً (2) . وعند هذا فأصحاب هذا القول يقولون نحن أسعد بالتنزيل والسنة من مخالفينا في هذه المسألة المشنعين علينا بخلافها، وبالله التوفيق) (3) . اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى: اختار ابن القيم رحمه الله تعالى القول الثالث: وهو القول بالتفصيل فقال (4) : (نعم لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والأعمال ما يدل على حسن الإسلام وعلى التوبة النصوح، وتكرر ذلك منه، لم يقتل، كما قاله أبو يوسف وأحمد في إحدى الروايات عنه. وهذا التفصيل أحسن الأقوال في المسألة) .
وقفة وتأمل: ظاهر ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى للخلاف على هذه الأقوال الثلاثة أن أرباب القول الأول لا يقولون: بقبول توبة الزنديق إذا جاء تائباً من تلقاء نفسه قبل القدرة عليه. وظاهر سياق ابن القيم لأدلة القول الأول: أنهم يقولون بهذا التفصيل فإنه في معرض سياقه لأدلتهم يذكر تعليق عدم قبول التوبة في حال: بعد القدرة عليه بل يقول في معرض الاستدلال لهم (1) : (ولهذا لو جاء- يعني الزنديق- من تلقاء نفسه وأقر بأنه قال كذا وكذا وهو تائب منه قبلنا توبته ولم نقتله) . وإضافة إلى هذا فإن كتب الخلافيات لم يذكر أربابها أن أصحاب القول الأول: لا يقبلون توبة الزنديق إذا تاب قبل القدرة عليه. وإنما يحكون الخلاف في (استتابته بعد القدرة عليه) . وقد استقصى الحافظ بن حجر الخلاف في المسألة ولم يذكر ذلك عن أي من المخالفين (2) . لهذا فإن القول الأول والثالث كما يلتقيان في عدم قبول توبة الزنديق بعد القدرة عليه فالظاهر أيضاً التقائهما في قبول توبته قبل القدرة عليه والأدلة المسوقة للرأي الأول تؤيد هذا وتنصره. هذا ما ظهر لي بعد التأمل، وأستغفر الله من تحميل آراء الأئمة ما لا تحتمله وعذري إن أخطأت أني بذلت الوسع وهذا منتهى ما توصلت إليه في التحري والله أعلم.
باب التعزير
باب التعزير
توطئة
تعريف التعزير في اللسانين اللغة والشرع: لغة: مصدر، عزره، بفتحات ثلاث، مخففاً، يعزره عزراً أو تعزيراً (1) وأصله مأخوذ من العزر، وهو الرد والمنع هذا أصل معناه في اللغة كما قرره غير واحد منهم (3) . وقالوا أيضاً: أنه من أسماء الأضداد (3) : فالتعزير: النصرة والتعظيم ومنه قوله تعالى (4) (وآمنتم برسلي وعزرتموهم) الآية. وقوله (وتعزروه) (5) . والتعزير: التأديب.
تنبيه: على غلط لأهل اللغة في ذلك
لكن الراغب الأصفهاني بين أن المعنى الثاني وهو (التأديب) يؤول للمعنى الأول وهو (النصرة والتعظيم) (1) . تنبيه: قد ذكر غير واحد من أهل اللغة أن من معاني التعزير بمعنى التأديب لغة. إطلاقه لغة على (الضرب بما دون الحد المقدر) (2) . لكن الرملي من علماء الشافعية تعقب ذلك مبيناً أن هذا وضع شرعي لا لغوي تجمعهما حقيقة التأديب لغة، ويفترقان في القيد الشرعي وهو قولهم (بما دون الحد المقدر) ، لأنه قبل ورود الشرع ليس ثمت حدود مقدرة فقال رحمه الله تعالى مشيراً إلى رد هذا الإطلاق لغة (3) : (والظاهر أن هذا الأخير غلط، إذ هو وضع شرعي لا لغوي لأنه لم يعرف إلا من جهة الشرع فكيف ينسب لأهل اللغة الجاهلين بذلك من أصله والذي في (الصحاح) بعد تفسيره بالضرب: ومنه سمى ضرب ما دون الحد تعزيراً، فأشار إلى أن هذه الحقيقة الشرعية منقولة عن الحقيقة اللغوية بزيادة قيد: هو كون ذلك الضرب دون الحد الشرعي، فهو كلفظ الصلاة، والزكاة ونحوهما، المنقولة لوجود المعنى اللغوي فيها. بزيادة) . ولقوة هذا التوجيه والتعقب من الرملي رأيت سياقه حتى لا يغتر الناظر بما قاله أهل اللغة في ذلك والله أعلم.
التعزير شرعاً: تختلف كلمة أهل الاصطلاح في تعريفه على وجوه منها ما يلي: الحنفية: قال الجرجاني (1) ، وابن الهمام (2) : (التعزير: هو تأديب دون الحد) . المالكية: أما المالكية فلم أر لهم تعريفاً للتعزير، لأنهم لا يعقدون للتعزير باباً ولا فصلا مستقلا بل يدرجون أحكامه في أخريات (باب الشرب) مع أحكام الصيال، والضمان ونحو ذلك. لكن نستطيع أن نأخذ تعريفهم له من بيانهم لمواضع التعزير على ما ذكره خليل (3) ، وابن عرفة (4) ، فيقال: (التعزير: هو التأديب لحق الله أو لآدمي غير موجب للحد) . الشافعية: قال الماوردي (5) ، وعنه نقل النووي (6) :
(التعزير: هو التأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود) . وقال الرملي (1) : (التعزير: هو التأديب في كل معصية لله أو لآدمي لا حد لها ولا كفارة) . الحنابلة: اختلفت كلمة الحنابلة في حد التعزير على وجوه منها ما يلي: الأول: مثل تعريفه لدى الحنفية سواء (2) . الثاني: تعريفه بمطلق التأديب. قال البهوتي (3) : (التعزير اصطلاحاً: هو التأديب) . الثالث: نحو تعريف الماوردي لدى الشافعية، وفيه يقول ابن قدامة (4) : (التعزير: هو العقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها) . الرابع: تعريف المجد ابن تيمية إذ يقول (5) : (التعزير: هو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة) . مناقشة هذه التعريفات: هذه جملة من التعريفات للتعزير لدى نقلة المذاهب المشهورة والمتأمل فيها يرى ما يلي: اتفاق هذه التعاريف في الفصل الأول من التعريف وهو (التأديب) . وهذا
الفصل هو حقيقة لغوية للتعزير، فصارت هذه الحقيقة الشرعية منقولة عن الحقيقة اللغوية. لكن هذه الحقيقة في الشرع لا تتم إلا بزيادة قيد، وهذا القيد هو محل الخلاف في تعاريف أهل الاصطلاح: فنجد الحنفية والبعلي من الحنابلة يوردون القيد على (ذات التأديب) فيقولون (التعزير تأديب دون الحد) أي أن التأديب لا يبلغ به مقدار العقوبة الحدية، المقدرة. ونجد بقية التعاريف تورد القيد على موضع التعزير ومحله وموجبه ولا يعتبرون ذات التأديب في تعاريفهم. وهم في هذا القيد مختلفون على ما يلي: فالمالكية وبعض الشافعية كالماوردى وبعض الحنابلة كابن قدامة يقيدون محل التأديب وموضوعه بأن يكون في (معصية لا حد فيها) . ويزيد الرملي من الشافعية والمجد من الحنابلة تقييد محل التأديب من أن يكون في (معصية لا حد فيها ولا كفارة) بزيادة (ولا كفارة) . وهذا التقييد وإن لم يكن مصرحاً به في التعريف لدى الحنفية وبعض الحنابلة فهو معتبر عندهم إذ أن تعاريفهم في أحكام التعزير تقتضيه.. التعريف الجامع المانع: فنخلص من هذه التعاريف والمناقشة لها أن نقول أن: الفصل الأول من التعريف وهو (التأديب) محل اتفاق لدى الجميع في التعريف. والفصل الثاني وهو قولهم (في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة) ينبغي أن يكون محل اتفاق أيضاً.
فيكون التعريف المتفق عليه أن يقال: (التعزير هو: التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة) . يبقى قولهم (فيما دون الحد) هل يضاف إلى التعريف فيقال: (التعزير هو: التأديب فيما دون الحد في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة) . وكون التعزير يبلغ به الحد المقدر أو لا يكون إلا دونه محل خلاف بين العلماء. وقد ناقشه ابن القيم رحمه الله تعالى فيما يأتي من بحوثه في التعزير إن شاء الله تعالى. والذي يظهر لي والله أعلم أن هذا من باب الشروط في التعزير لا من باب التعاريف والشروط لا دخل لها في التعاريف فيكون التعريف المختار كالآتي: (التعزير هو: التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة) . والله أعلم. تعريف ابن القيم للتعزير: إن هذه النتيجة التي حصل التوصل إليها في تعريف التعزير نستطيع أن نقول هي التعريف المختار لدى إمامنا ابن القيم رحمه الله تعالى. وذلك من بيانه لموضع التعزير ومحله إذ يقول (1) : (التعزير في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة) . وقد عرفنا أن كون التعزير تأديباً هو محل اتفاق فيكون تعريفه لدى ابن القيم إذاً: (وهو: التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة) والله أعلم. وقد تقدم في مقدمة (كتاب الحدود) ما يزيد هذا إيضاحاً من كلام ابن القيم في بيانه لأنواع المعاصي وعقوباتها والله أعلم.
مباحث ابن القيم في التعزير تحصل بالتتبع أن ابن القيم رحمه الله تعالى أتى على جلّ مباحث التعزير الرئيسية، وناقش الكثير من قضاياه، ونستطيع تصنيف مباحثه فيها على ما يلي: المبحث الأول: في مقدار التعزير. المبحث الثاني: في أنواع العقوبات التعزيرية.
المبحث الأول: في مقدار التعزير
المبحث الأول في مقدار التعزير (1) يتكون البحث عن مقدار التعزير في فرعين: الفرع الأول: في أقل التعزير. الفرع الثاني: في أكثر التعزير. وقد تكلم ابن القيم عن مقدار التعزير في فرعيه المذكورين وبيان ذلك على ما يلي: الفرع الأول: في أقل التعزير. يقرر ابن القيم رحمه الله تعالى أنه ليس لأقل التعزير حداً مقدراً ولم يحك في ذلك خلافاً وفي هذا يقول (2) : (ليس لأقله- أي التعزير- حد مقدر) . وابن القيم رحمه الله تعالى قد تابع الإمام ابن قدامة في هذا إذ ذكر ذلك ولم يحك خلافاً وعلله بقوله (3) : (لأنه لو تقدر لكان حداً) .
بيان أكثر التعزير مع ذكر الخلاف وأدلته والترجيح
خلاف القدوري (1) من الحنفية: لكن قد وجد خلاف في ذلك للقدوري من الحنفية إذ قدر أدنى التعزير بثلاث جلدات. كما ذكر ذلك صاحب (الهداية) معللاً له فيقول (2) : (ثم قدر الأدنى- في الكتاب (3) - بثلاث جلدات، لأن ما دونها لا يقع به الزجر) . الترجيح: والذي يظهر والله أعلم- هو عدم التقدير لأقل التعزير كما حكاه الحافظ ابن القيم من غير خلاف لأن التقدير لا يكون إلا بنص من الشارع يجب المصير إليه، ولا نص على التعزير لأقله، فيبقى على التفويض بحسب ما يراه الحاكم زاجراً ورادعاً والله أعلم. الفرع الثاني: في أكثر التعزير. حكى ابن القيم رحمه الله تعالى الخلاف في أكثر التعزير على أربعة أقوال ودلل على قولين منها، واختلف اختياره رحمه الله تعالى. وبيان ذلك على ما يلي: القول الأول: أنه لا حد لأكثر التعزير بل هو مفوض إلى رأي الحاكم حسب المصلحة.
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (أحدهما - أي أحد الأقوال- أنه بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة فيجتهد فيه ولي الأمر) . وابن القيم رحمه الله تعالى لم يذكر القائلين لهذا: وهو المعتمد من مذهب مالك (2) والوجه المقدم من مذهب الشافعي (3) . واختاره أبو يوسف من الحنفية (4) . وشيخ الإسلام ابن تيمية من الحنابلة (5) . أدلته: استدل ابن القيم رحمه الله تعالى لهذا القول بما وسعه من ذكر جملة وافرة من أقضية النبي صلى الله عليه وسلم في التعزير، ثم أقضية الصحابة رضيَ الله عنهم حيث تنوعوا في التعازير حسب المصلحة فقال رحمه الله تعالى (6) : (إن الشارع ينوع فيها - أي في التعزيرات- بحسب المصلحة) : فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة (7) . وعزم صلى الله عليه وسلم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لولا
ما منعه من تعدي العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية (1) . وعزر صلى الله عليه وسلم بحرمان النصيب المستحق من السلب (2) . وأخبر صلى الله عليه وسلم عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله (3) . وعزر صلى الله عليه وسلم بالعقوبات المالية في عدة مواضع (4) : وعزر صلى الله عليه وسلم من مثل بعبده، بإخراجه عنه وعتقه عليه (5) . وعزر صلى الله عليه وسلم بتضعيف الغرم على السارق لما لا قطع فيه (6) . وكاتم الضالة (7) . وعزر صلى الله عليه وسلم بالهجر ومنع قربان النساء (8) . وكذلك أصحابه تنوعوا في التعزيرات بعده: فكان عمر رضي الله عنه يحلق الرأس (9) ، وينفي (10) ، ويضرب (11) ، ويحرق حوانيت الخمارين (12) ، والقرية التي يباع فيها الخمر. وحرق قصر سعد بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية) . وجه الاستدلال من هذه الأدلة: ودلالة هذه الأدلة واضحة على ما استدل بها عليه من أن التعزير لا يتحدد أكثره بقدر معين بل حسبما يراه الإمام أدعى لتحقيق المصلحة، ونفي المفسدة فإن
فيها ما جاوز الحد كالقتل للشارب في الرابعة، وفيها ما ليس من جنس الحد كالنفي للشارب، وحلق رأسه، وفي هذا التنوع دلالة ظاهرة على هذا القول والله أعلم. القول الثاني: أنه لا يبلغ بالتعزير في معصية قدر الحد المقدر فيها. وابن القيم رحمه الله تعالى يحكي هذا القول مبيناً القائل به مقرراً اختياره فيقول (1) : (الثاني- وهو أحسنها- أنه لا يبلغ في التعزير في معصية قدر الحد فيها فلا يبلغ بالتعزير على النظر والمباشرة: حد الزنى، ولا على السرقة من غير حرز: حد القطع، ولا على الشتم بدون القذف: حد القذف. وهذا قول طائفة من أصحاب الشافعي (2) وأحمد) . وابن القيم يعزو هذا القول لطائفة من أصحابه أحمد، وهو في الواقع: رواية عن الإمام أحمد رحمه- الله تعالى كما حكاها: ابن هبيرة (3) وابن قدامة (4) وابن الهمام (5) والله أعلم. دليله: ساق ابن القيم رحمه الله تعالى هذا القول واستحسنه ولكنه لم يذكر أدلته وعمدة استدلال أرباب هذا القول ما يلي:
هو: حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه في الرجل الذي رفع إليه وقد وقع على جارية امرأته فقال: لأقضين فيك بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة جلدة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة، فوجدوه أحلتها له فجلدوه مائة (1) . وجه الاستدلال: استدل ابن قدامة رحمه الله تعالى بهذا الحديث لهذا القول ثم قال في وجه الاستدلال (2) : (وهذا تعزير، لأنه في حق المحصن وحده إنما هو الرجم) . فهذا المواقع للجارية كان محصناً وحد المحصن الرجم فلما وجدت الشبهة الدارئة للحد جلده النعمان رضي الله عنه مائة جلدة تعزيراً، فلم يبلغ بالتعزير قدر الحد في المحصن وقد ذكر أن هذا هو قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان في هذا دلالة على أن التعزير في عقوبة في جنسها حد مقدر لا يبلغ بها الحد المقدر والله أعلم. مناقشة هذا الدليل: وقد تقدمت (3) مناقشة هذا الحديث من ناحية إسناده، وأن الحفاظ قد حكموا باضطرابه فما لم يصح سنده لا يسلم الاستدلال به. وعلى فرض ثبوته: فإن هذه واقعة عين يختص حكمها بمن وقع على جارية امرأته فلا تفيد العموم كما قرره القاضي أبو يعلى من الحنابلة واستحسنه العلامة ابن قدامة رحمه الله تعالى (4) .
القول الثالث: أنه لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود. وفي بيانه يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (والقول الثالث: أنه لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود، إما أربعين وإما ثمانين وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة) . التفصيل في هذا القول: يختلف القائلون به لاختلاف أدنى الحدود بين الأحرار والعبيد، وهل الاعتبار بأدنى الحدود في الأحرار أم العبيد، وتفصيل مذاهبهم في هذا على ما يلي: أ- فعند أبي حنيفة ومحمد، أن أكثره تسعة وثلاثون سوطاً، لأن أدنى الحدود حد الرقيق، وحده أربعون جلدة في القذف وأربعون في الخمر على النصف من الحر فيهما (2) . ب- وعند أبي يوسف من الحنفية: أن أكثره خمسة وسبعون سوطاً، لأن أقل الحد في الأحرار ثمانون، والحرية هي الأصل فصار الاعتبار به (3) . ج- وعند زفر من الحنفية وهو رواية عن أبي يوسف أيضاً وحكى مذهباً لمالك: أن أكثره تسعة وسبعون سوطاً، لأن أقل الحد في الأحرار ثمانون والحرية هي الأصل (4) . د- وعند بعض الشافعية يجب النقص في أكثره عن عشرين جلدة، لأن حد
الحر في الخمر، أربعون، والعبد على النصف، وما فيه التعزير لا يبلغ به الحد، والعشرون حد فلا يبلغ بالتعزير عشرين جلدة (1) . هـ- وعند بعض الشافعية أيضاً: يجب النقص في أكثره عن عشرين في حق عبد وعن أربعين جلدة في حق حر (2) والله أعلم. دليله (3) : استدل أصحاب هذا القول على اختلاف وجهات نظرهم في أدنى الحدود بحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين) . رواه البيهقي (4) . وجه الاستدلال: هو أن الوعيد في هذا الحديث يفيد المنع من الزيادة على الحد المقدر، فلا يبلغ بالتعزير حداً مقدراً. وقد جاء لفظ (حد) منكراً فيتناول أي حد من الحدود ولهذا صار اختلاف القائلين بهذا على الوجوه المتقدمة والله أعلم. مناقشة هذا الدليل: وهذا الدليل مناقش بالمطالبة بثبوته إذ الاستدلال فرع الثبوت وقد حصل بالتتبع أن المحفوظ من هذا الحديث إرساله وأما رفعه فلا يثبت كما نص على ذلك الحافظ البيهقي فانه قال بعد روايته (5) :
(والمحفوظ في هذا الحديث أنه مرسل) . ثم ذكر إرساله من الضحاك (1) إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا قرر المحدثون ضعفه: منهم السيوطي (2) ، والمناوي (3) ، والألباني (4) وعليه فلا يتم الاستدلال به لضعفه والله أعلم. القول الرابع: أنه لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط. وفي بيانه يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (5) : (والقول الرابع: أنه لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره) . وهو المختار لدى جماعة من الشافعية (6) ، واختاره الشوكاني (7) ، والصنعاني (8) . دليله عمدة الاستدلال لهذا القول: حديث أبي بردة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) رواه
بيان مسالك العلماء في حديث أبي بردة رضي الله عنه
البخاري (1) ، ومسلم (2) ، وغيرهما (3) . وجه الاستدلال: أن هذا الحديث ورد بصيغة الحصر التي يمثلها النفي والاستثناء وهذه من أبلغ صيغ الحصر، فهو نص في محل النزاع: على أنه لا عقوبة فوق عشر جلدات إلا فيما ورد فيه من الشارع عقوبة مقدرة كالخمر والقذف ونحوهما لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (إلا في حد من حدود الله) ، أما ما لم يرد فيه من الشارع عقوبة مقدرة فإن العقوبة تكون فيه تعزيراً وهذا التعزير لا يتجاوز عشر جلدات والله أعلم. مسالك العلماء في الجواب عن هذا الحديث: إن شدة الخلاف في هذا المبحث تدور على دلالة هذا الحديث على هذا القول سلباً أو إيجاباً، وقد تنوعت مواقف العلماء المخالفين لهذا القول- للجواب عن هذا الحديث على عدة وجوه، وقد سلك ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب عن هذا الحديث مسلكاً جديداً تابع فيه شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى وجرت حوله أبحاث ومناقشات. وإلى بيان أبرز هذه المسالك في الجواب عن هذا الحديث على ما يلي: المسلك الأول: دعوى النسخ (4) . ذهب جماعة من الحنفية والشافعية إلى أن هذا الحديث منسوخ.
تعقب المسلك الأول
دليل النسخ: ودليل النسخ عندهم: هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل على خلافه من غير نكير. تعقب هذا المسلك: وهو نقضه من حيث دعوى النسخ بالإجماع فإن الإجماع لا ينسخ السنة، لكن الإجماع إذا ثبت صار دليلاً على نص ناسخ قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (ومحال أن ينسخ الإجماع السنة، ولكن لو ثبت الإجماع لكان دليلاً على نص ناسخ) . وقال الحافظ ابن حجر معقباً لدعوى نسخه بالإجماع (2) : (نعم لو ثبت الإجماع لدل على أن هناك ناسخاً) . المسلك الثاني: قصر الحديث على التعزير بالجلد، وأما الضرب بالعصا مثلاً فتجوز الزيادة لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا مسلك الإصطخري من الشافعية (3) كما حكاه الحافظ ابن حجر (4) . تعقب هذا المسلك: وتعقب الحافظ ابن حجر بالرواية الواردة في الضرب بلفظ (لا يضرب.... الحديث) (5) فقال (وكأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب) .
المسلك الثالث وتعقبات العلماء عليه
وهذه الرواية في صحيح البخاري عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله) (1) . المسلك الثالث: مسلك ابن القيم رحمه الله تعالى. وهو حمل الحديث على التأديب الصادر من غير الولاة في غير معصية كتأديب الأب ولده ونحو ذلك، إذ المراد بحدود الله في الحديث (حقوق الله) كما تقدم هذا مبسوطاً (2) . وابن القيم في هذا قد تابع شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى. تعقب ابن دقيق العيد (3) لهذا المسلك: والإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى قد تعقب عصريه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا التأويل للحديث، بأن هذا التأويل فيه خروج عن الظاهر ويحتاج إلى نقل، والأصل عدمه وأورد عليه بقوله (4) : (ويرد عليه أنا إذا أجزنا في كل حق من حقوق الله أن يزاد على العشر لم يبق لنا شيء يختص المنع به، لأن ما عدا الحرمات التي لا يجوز فيها الزيادة هو ما ليس بمحرم، وأصل التعزير أنه لا يشرع فيما ليس بمحرم فلا يبقى لخصوص الزيادة معنى) . موقف الحافظ ابن حجر: والحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد ذكره لإيراد ابن دقيق العيد على رأى
تأمل وترجيح لهذا المسلك
ابن تيمية ذكر أن هذا هو مسلك تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى. ثم دفع إيراد ابن دقيق العيد بأن المعاصي على ثلاث مراتب هي: 1- معصية فيها عقوبة مقدرة فهذه لا يزاد على المقدر فيها. 2- معصية من الكبائر ليس فيها عقوبة مقدرة، فتجوز الزيادة فيها على عشر جلدات لدخولها في حقوق الله. 3- معصية صغيرة ليس فيها عقوبة مقدرة فهذه لا تجوز الزيادة فيها على عشر جلدات وهي المقصودة في الحديث. فقال رحمه الله تعالى في بيانه (1) . (قلت: ويحتمل أن يفرق بين مراتب المعاصي مما ورد فيه تقدير لا يزاد عليه وهو المستثنى في الأصل، وما لم يرد فيه تقدير فإن كان كبيرة جازت الزيادة فيه وأطلق عليه اسم الحد كما في الآيات المشار إليها (2) ، والتحق بالمستثنى، وإن كان صغيرة فهو المقصود بمنع الزيادة، فهذا يدفع إيراد الشيخ تقي الدين على العصري المذكور إن كان ذلك مراده) . تأمل: إن الذي ينظر إلى كلام هؤلاء الأجلة من العلماء يجد أن الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر الأدلة القرآنية على أن المراد بحدود الله في لسان الشارع (حقوق الله) وما فيه حق لله تعالى، وأنه يطالب بنص يفيد القصر للفظ حدود الله على معنى (ما فيه عقوبة مقدرة) ، وهذا في نظري ما لم يتحصل الجواب عليه من كلام الحافظ ابن دقيق العيد.
تعقب الشوكاني لهذا المسلك: لهذا فإن العلامة الشوكاني اعترض على هذا المسلك بالجواب على مساءلة ابن القيم هذه فقرر أنه قد ظهر في لسان الشارع إطلاق لفظ الحدود على العقوبات المقدرة فقال (1) : (واعترض على ذلك بأنه قد ظهر أن الشارع يطلق الحدود على العقوبات المخصوصة ويؤيد ذلك قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: إن أخف الحدود ثمانون) (2) . وهذا الاعتراض من الشوكاني أيده بقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأقوى منه للتأييد اللفظ المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله إلا تقام الحدود في المساجد) (3) . فإن الحدود هنا يراد بها العقوبات المقدرة لا مطلق حقوق الله تعالى. الترجيح: والذي يظهر لي والله تعالى أعلم- أن حدود الله يراد بها عند الإطلاق (حقوق الله تعالى) وعليه تحمل الآيات التي أوردها ابن القيم رحمه الله تعالى. وأنها لا تنصرف إلى جنس (الجنايات التي قدر عليها عقوبات مخصوصة) إلا بقرينة صارفة كما في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وفي حديث (لا تقام الحدود في المساجد) . وعليه: فإن لفظ (حدود الله) في هذا الحديث (لا يجلد فوق عشرة أسواط
المسلك الرابع
إلا في حد من حدود الله) . قد قامت القرينة على أن المراد بها (الجنايات ذات العقوبات المقدرة) لأن السياق في مقام العقاب، والعقاب من الشارع. إما مقدر فهو: على جريمة حدية، أو غير مقدر فهو على ما سواها وهو المراد بهذا الحديث والله أعلم. ولذا فإن المسلك الرابع في الجواب عن هذا الحديث وهو أن عمل الصحابة على خلافه فصار الإجماع على ترك العمل به له وجه في النظر وبيانه كالآتي: المسلك الرابع: أن إجماع الصحابة على خلاف العمل به فعزروا رضي الله عنهم بأكثر من عشر جلدات وتنوعت تعازيرهم في ذلك من غير نكير. وممن حكى إجماع الصحابة رضي الله عنهم بالعمل على خلافه من غير إنكار جماعة من المحققين. منهم الأصيلي (1) ، والنووي (2) ، وحكاه عنه الحافظ ابن حجر فقال (3) : (وهو المعتمد فإنه لا يعرف القول به عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم) . وحكى الإجماع أيضاً الرافعي (4) وهو مسبوق بمن ذكر وبغيرهم وكذا قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر كلام الرافعي (5) : (وسبق إلى دعوى عمل الصحابة بخلافه الأصيلي وجماعة) .
اضطراب كلمة الحافظ ابن حجر
اضطراب موقف الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: من كلمات الحافظ ابن حجر المتقدمة هذه نرى أنه أقر الإجماع كما حكاه النووي رحمه الله تعالى لكنه في نفس كتابه (فتح الباري) تعقب دعوى الإجماع في معرض رده على القائلين بنسخ الحديث بالإجماع من الصحابة على خلافه (1) بقوله: (ورد- أي الإجماع- بأنه قال به بعض التابعين وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار) . ومعلوم أن الإجماع المذكور محكي عن الصحابة رضي الله عنهم فمخالفة الليث رحمه الله تعالى بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم فكيف ينقض الإجماع بعد انقراض عصره بمخالفة الليث رحمه الله تعالى والحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى من أهل التتبع والاستقراء التام والإحاطة بالأثر فلو كان عنده أثر مخالف عن صحابي لذكره والله أعلم. وللحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى مناقشة أخرى للإجماع ذكرها في كتابه (تلخيص الحبير) إذ نقل عن البيهقي أنه روى في مقدار التعزير آثار مختلفة ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى (3) : (فتبين بما نقله البيهقي من اختلاف الصحابة رضي الله عنهم: أن لا اتفاق على عمل في ذلك ... ) . وتعقب الحافظ ابن حجر بأن هذا غير وارد لأن الاختلاف المروي عن الصحابة رضي الله عنهم هو في المقدار لا في حكم الحديث واختلاف العمل به. ولهذا فإن العلامة المناوي رحمه الله تعالى لما ذكر أن عمل الصحابة رضي الله
تحرير اختيار ابن القيم في أكثر التعزير
عنهم على خلاف هذا الحديث قال (1) : (ونوزع بما لا يجدي) . فثبت من هذا المسلك أن عمل الصحابة رضي الله عنهم على خلاف هذا الحديث وأن الاختلاف الحاصل في الرواية عنهم هو اختلاف تنوع في مقدار التعزير في أحوال مختلفة وليس اختلافاً في مقتضى الحديث. والجواب عن هذا الحديث بهذا المسلك ليس غريباً بل هو محكي في طائفة من الأحاديث تبلغ نحو ثلاثين حديثاً جمعتها في جزء مستقل (3) والله أعلم. اختيار ابن القيم في مقدار أكثر التعزير: ظاهر كلام ابن القيم رحمه الله تعالى اختياره القول الثاني من هذه الأقوال لقوله في كتابه (الطرق الحكمية) (3) : (الثاني- هو أحسنها- أنه لا يبلغ بالتعزير في معصية قدر الحد فيها) . وهذا الظاهر يخالف ما قرره في موضع آخر من نفس كتابه (الطرق الحكمية) وقرر في مواضع من كتبه، من اختياره القول الأول: وهو أنه لا حد لأكثره بل بحسب المصلحة، فإنه قال في (الطرق الحكمية) (4) : (والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم يوافق القول الأول..) . وقال في (أعلام الموقعين) (5) :
(إن التعزير لا يتقدر بقدر معلوم بل هو بحسب الجريمة في جنسها وصفتها وكبرها وصغرها) . وفيه أيضاً بعد كلامه على حكمة الحدود قال (1) : (ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة- وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة- جعلت عقوباتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور، بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم، فمن سوى بين الناس في ذلك وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكمة الشرع، واختلفت عليه أقوال الصحابة، وسير الخلفاء الراشدين وكثير من النصوص، ورأى عمر قد زاد في حد الخمر على أربعين والنبي صلى الله عليه وسلم إنما جلد أربعين، وعزر بأمور لم يعزر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنفذ على الناس أشياء عفا عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فيظن ذلك تعارضاً وتناقضاً وإنما أتى من قصور علمه وفهمه وبالله التوفيق) . وفي (إغاثة اللهفان) ذكر أن الأحكام على نوعين: نوع لا يتغير بحال الحدود المقدرة على الجرائم. ونوع يتغير حسب المصلحة كمقادير التعزيرات فقال فيها (2) : (النوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له، زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة ... ) . فهذه النقول المتعددة تؤيد اختياره القول الأول: وهو أن التعزير بحسب المصلحة وهو أظهر في الترجيح والاختيار من القول الثاني والله أعلم.
الترجيح
الترجيح: بعد هذا التطواف والوقوف على أقوال العلماء في أكثر التعزير وما استدل به لكل قول وما جرى حوله من مناقشات يظهر ترجيح القول الأول المختار لدى الإمام ابن القيم وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وذلك لسلامة أدلته ومراعاته لحكم الشريعة ومقاصدها والله أعلم. المبحث الثاني: في أنواع العقوبات التعزيرية (1) . العقوبات التعزيرية كثيرة ومتنوعة لكن نستطيع أن نصنفها حسب متعلقاتها على ما يلي: 1- ما يتعلق بالأبدان كالجلد والقتل. 2- ما يتعلق بالأموال كالإتلاف والغرم. 3- ما هو مركب منهما، كجلد السارق من غير حرز مع اضعاف الغرم عليه. 4- ما يتعلق بتقييد الإرادة كالحبس والنفي. 5- ما يتعلق بالمعنويات كإيلام النفوس بالتوبيخ والزجر. وهذه الأنواع ونحوها متفق عليها كأصول للتعزير، وإنما وقع الخلاف فيبعض مفرداتها.
تنديد ابن القيم بالقتل تعزيرا ظلما
وقد تناول ابن القيم رحمه الله تعالى أهمها وأكثرها شيوعاً مما تشتد الحاجة إليه منها في أقسامها الآتية: القسم الأول: التعزيرات البدنية. وفيها نوعان: أ- التعزير بالجلد. يتخرج على اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى المتقدم: من أنه لا حد لأكثر التعزير، أن التعزير بالجلد عنده لا حد لأكثره والله أعلم. ب- التعزير بالقتل: امتداداً لاختيار ابن القيم رحمه الله تعالى: القول بأن التعزير يكون حسب المصلحة وعلى قدر الجريمة، اختار أيضاً جواز أن يبلغ بالتعزير القتل إذا لم تندفع المفسدة إلا به فقال (1) : (يسوغ التعزير بالقتل إذا لم تندفع المفسدة إلا به مثل قتل المفرق لجماعة المسلمين والداعي الى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) . تنديد ابن القيم بالتعزير بالقتل ظلماً: وهو رحمه الله تعالى بجانب هذا الاختيار يندد باستحلال ولاة الجور: القتل باسم السياسة والرهبة، وأن هذا من باب تسمية الباطل باسم الحق والأسماء لا تغير المسميات عن حقائقها إذ العبرة في الشريعة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، فيقول رحمه الله تعالى في ذلك: (قال شيخنا (2) رضي الله عنه: وقد جاء حديث
موقف العلماء من القتل تعزيرا
مرفوعاً وموقوفاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء، يستحلون الخمر باسم يسمونها إياه، والسحت بالهدية والقتل بالرهبة، والزنى بالنكاح، والربا بالبيع) ..... وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تسميه ولاة الجور سياسة وهيبة وناموساً وحرمة للملك فهو أظهر من أن يذكر) . موقف العلماء من التعزير بالقتل: وقد أوضح ابن القيم رحمه الله تعالى موقف العلماء من جواز البلوغ بالقتل تعزيراً، فبين أن أوسع المذاهب في ذلك مذهب المالكية، وأبعدها عن التعزير بالقتل مذهب الحنفية وأنهم مع ذلك جوزوا التعزير به للمصلحة وأن طائفة من الشافعية وأخرى من الحنابلة أجازوا القتل تعزيراً في بعض الجرائم. وفي ذلك يقول رحمه الله تعالى (1) : (وأبعد الأئمة عن التعزير بالقتل: أبو حنيفة، ومع ذلك فيجوز التعزير به للمصلحة، كقتل المكثر من اللواط (2) وقتل القاتل بالمثقل (3) . ومالك: يرى تعزير الجاسوس المسلم بالقتل، ووافقه بعض أصحاب أحمد، ويرى أيضاً هو وجماعة من أصحاب أحمد والشافعي: قتل الداعية إلى البدعة) . وقال أيضاً (4) :
اختيار ابن القيم وأدلته
(وعلى القول الأول- (وهو أن التعزير حسب المصلحة) - هل يجوز أن يبلغ بالتعزير القتل؟ قيه قولان: أحدهما: يجوز، كقتل الجاسوس المسلم إذا اقتضت المصلحة قتله، وهذا قول مالك وبعض أصحاب أحمد، واختاره ابن عقيل، وقد ذكر بعض أصحاب الشافعي وأحمد نحو ذلك في قتل الداعية إلى البدعة، كالتجهم، والرفض، وإنكار القدر، وقد قتل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى غيلان القدري (1) لأنه كان داعية إلى بدعة، وهذا مذهب مالك رحمه الله تعالى وكذلك قتل من لا يزول فساده إلا بالقتل، وصرح به أصحاب أبي حنيفة في قتل من لا يزول فساده إلا بالقتل، وصرح به أصحاب أبي حنيفة في قتل اللوطي إذا أكثر من ذلك تعزيراً وكذلك إذا قتل بالمثقل قالوا للإمام أن يقتله، وإن كان أبو حنيفة لا يوجب الحد في هذا ولا القصاص في هذا، وصاحباه يخالفانه في المسألتين وهما مع جهور الأئمة) . فترى من هذه النقول أن القتل تعزيراً موجود في عامة المذاهب إما في قضايا معينة أو في قضايا متعددة وأن ابن القيم رحمه الله تعالى يختار جواز أن يبلغ بالتعزير القتل إذا لم تندفع المفسدة إلا به. الأدلة (2) : وقد أيد ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الاختيار بعدة قضايا ورد في السنة قتل مرتكب الجريمة فيها تعزيراً في نظره وهي: 1- قتل شارب الخمر في الرابعة. 2- قتل الجاسوس.
الدليل الأول: قتل الشارب في الرابعة
3- قتل من اتهم بأم ولده صلى الله عليه وسلم وقد ناقش ابن القيم رحمه الله تعالى كل قضية من هذه القضايا على انفرادها محتجاً بها على سبيل الإجمال للتعزير بالقتل! وهذه القضايا هي مورد النزاع بين أهل العلم في مشروعية القتل تعزيراً فإلى بيانها حتى يتضح مدى قوة اختيار ابن القيم في ذلك. 1- قتل شارب الخمر في الرابعة تعزيراً: تقدم بيان حكم هذه العقوبة وأن ابن القيم رحمه الله تعالى يرى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الشارب في الرابعة حكم تعزيري وليس حداً له وأنه محكم غير منسوخ، ولهذا فإنه من أدلة مشروعية التعزير بالقتل لدى ابن القيم رحمه الله تعالى (1) . وقد استظهرت فيما تقدم أن الحديث منسوخ، وأن قتل المدمن في الخمر تعزيراً للمصلحة ودفع المفسدة. وعليه فلا يتم الاستدلال به لابن القيم والله أعلم. 2- قتل الجاسوس (2) : الجاسوس له حالتان: الأولى: الجاسوس غير المسلم. فهذا يقتل تعزيراً عند عامة الفقهاء (3) .
دليله: هو ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه قتل جاسوساً من المشركين وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : وهو يشير إلى حديث سلمة ابن الأكوع (2) رضي الله عنه قال (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين- وهو في سفر- فجلس عند أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اطلبوه واقتلوه فقتله، فنفله سلبه) رواه البخاري (3) وأبو داوود (4) . ودلالة هذا الحديث واضحة فإن هذا المشرك كان عيناً أي جاسوساً للمشركين على المسلمين للمشركين فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله لهذا ترجمه أبو داوود بقوله (باب الجاسوس المستأمن) والله أعلم. الثانية: الجاسوس المسلم. أما الجاسوس المسلم فقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى الخلاف فيه على قولين: القول الأول (5) : جواز قتل الجاسوس المسلم إذا كان يتجسس للكفار على المسلمين. وهو مذهب مالك،- وأحد الوجهين في مذهب أحمد، واختاره ابن عقيل من الحنابلة. القول الثاني: أنه لا يقتل. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وظاهر مذهب أحمد (6) .
دليل الخلاف: يبين ابن القيم رحمه الله تعالى أن دليل الخلاف هو: قصة حاطب ابن أبي بلتعة لما جس على النبي صلى الله عليه وسلم لقريش بكتاب أرسله مع امرأة، يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وفيه: فاستأذن عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قتل حاطب فقال صلى الله عليه وسلم: وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم (1) . وجه الاستدلال: ثم يوضح ابن القيم رحمه الله تعالى وجه الاستدلال فيه لكل من- القولين فيقول (2) : (استدل به من لا يرى قتل الجاسوس المسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل حاطباً.....) . واستدل به من يرى قتله فقالوا: لأنه صلى الله عليه وسلم علله بعلة مانعة من القتل منتفية في غيره ولو كان الإسلام مانعاً من قتله لم يعلل صلى الله عليه وسلم بأخص منه لأن الحكم إذا علل كان الأخص عديم التأثير وهذا أقوى والله أعلم) . اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد اختار رحمه الله تعالى القول بجواز قتل الجاسوس المسلم تعزيراً إذا جس للأعداء على المسلمين متى رأى الإمام المصلحة في قتله فقال (3) : (والصحيح أن قتله راجع إلى رأي الإمام، فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله، وإن كان بقاؤه أصلح استبقاه والله أعلم) .
الدليل الثالث: قتل من اتهم بأم ولد النبي صلى الله عليه وسلم ومناقشته
الترجيح: والذي يظهر لي والله أعلم هو سلامة اختيار ابن القيم، وأن قصة حاطب لا تدل على المنع لأنها واقعة فعل أحاط بها مانع خاص، وخطر التجسس على المسلمين عظيم قد لا يندفع إلا بقتله فللإمام قتل الجاسوس تعزيراً إذا لم تتحقق المصلحة إلا بقتله والله أعلم. النتيجة: وعليه فقد سلم لابن القيم استدلاله على جواز القتل تعزيراً، بقتل الجاسوس المسلم تعزيراً والله أعلم. 3- قتل من اتهم بأم ولده صلى الله عليه وسلم: استدل ابن القيم رحمه الله تعالى على مشروعية القتل تعزيراً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي اتهم بأم ولده مارية القبطية (1) أم إبراهيم (2) عليه السلام حيث اتهم بها ابن عمها فلما ظهرت براءته أمسك عنه. وذكر الحديث (3) فقال: (روى ابن أبي خيثمة (4) ، وابن السكن وغيرهما من حديث ثابت عن أنس رضي الله عنه أن ابن عم مارية كان يتهم بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه: اذهب فإن وجدته عند مارية فاضرب عنقه، فأتاه علي فإذا هو في
مسالك العلماء في هذا الحديث. والترجيح
بركة يبترد فيها، فقال له علي: اخرج، فناوله يده، فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف عنه علي كرم الله وجهه ثم أتى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنه مجبوب ما له ذكر. وفي لفظ آخر: أنه وجده في نخلة يجمع تمراً وهو بخرقة، فلما رأى السيف ارتعد وسقطت الخرقة فإذا هو مجبوب لا ذكر له) (1) موقف الناس من هذا الحديث: بين ابن القيم رحمه الله تعالى أن هذا الحديث مما أشكل على كثير من الناس فذكر في الجواب عنه ثلاثة مسالك على ما يلي: المسلك الأول: تضعيف الحديث. وابن القيم رحمه الله تعالى يذكر هذا ويرفضه فيقول (2) : (طعن بعض الناس في الحديث ولكن ليس في إسناده من يتعلق عليه) . والحديث أصله في صحيح مسلم في آخر كتاب التوبة من تراجم النووي وعليه ترجم بقوله (باب براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم) (3) . المسلك الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد حقيقة القتل وإنما أراد التخويف والزجر. وفي هذا يقول أبن القيم رحمه ألله تعالى (4) : (وتأوله بعضهم على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد حقيقة القتل إنما أراد تخويفه ليزدجر عن مجيئه إليها.... فأحب صلى الله عليه وسلم أن يعرف الصحابة براءته وبراءة مارية رضي الله عنها، وعلم أنه إذا عاين السيف كشف عن حقيقة حاله فجاء الأمر كما قدره صلى الله عليه وسلم) .
المسلك الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله تعزيراً. واستحسن ابن القيم هذا المسلك وفضله على سابقه فقال (1) : (وأحسن من هذا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً رضي الله عنه بقتله تعزيراً لإقدامه وجرأته على خلوته بأم ولده فلما تبين لعلي حقيقة الحال وأنه برىء من الريبة كف عن قتله، واستغنى عن القتل بتبين الحال، والتعزير بالقتل ليس بلازم كالحد بل هو تابع للمصلحة دائر معها وجوداً وعدماً) . هذه المسالك التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى وقد ذكر النووي رحمه الله تعالى مسلكاً واحداً في الجواب عن هذا الحديث وهو الآتي: المسلك الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله لنفاقه. قال النووي رحمه الله تعالى (2) : (قيل لعله كان منافقاً ومستحقاً للقتل بطريق آخر وجعل هذا محركاً لقتله بنفاقه وغيره لا بالزنى، وكف عنه علي رضي الله عنه اعتماداً على أن القتل بالزنى وقد علم انتفاء الزنى والله أعلم) . وعندي في هذا الوجه بعد لأن القصة في الحديث من أوله إلى آخره تتركز على اتهام هذا الرجل بحرم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الباعث في القصة لبعث علي رضي الله عنه فكيف يعدل عن الظاهر من غير دليل. الترجيح: والذي يظهر لي والله أعلم هو المسلك الثالث الذي ذكره ابن القيم واستحسنه من أن الأمر بقتله كان تعزيراً لأن الأمر مجرد تهمة لكنها في جانب حرم النبي صلى الله عليه وسلم
القسم الثاني: التعزيرات المالية. وفيها ثلاثة فروع
أما لو كان ثمة بينة أو اعتراف لكان الأمر بقتله حداً لازماً والله أعلم- والحمد لله على براءة حرم نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الشك والريبة. نهاية المطاف في هذا القسم: التعزير بالقتل: يظهر من مباحث القتل تعزيراً على سبيل الإجمال والتفصيل: أن القتل تعزيراً مشروع عند عامة الفقهاء على التوسع عند البعض والتضييق عند آخرين في قضايا معينة وأن القول الصحيح الذي يتمشى مع مقاصد الشرع وحماية مصالح الأمة وحفظ الضروريات من أمر دينها ودنياها: هو القول بجواز القتل تعزيراً حسب المصلحة وعلى قدر الجريمة إذا لم يندفع الفساد إلا به على ما اختاره ابن القيم رحمه الله تعالى. وأن الأدلة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى للتدليل على جواز أن يبلغ القتل تعزيراً لا يسلم له منها إلا قتل الجاسوس المسلم تعزيراً وقتل من اتهم بأم ولده صلى الله عليه وسلم وأن قتل الشارب في الرابعة هو من باب التعزير بناءً على هذا القول والله أعلم. القسم الثاني: التعزيرات المالية (1) . انتصر ابن القيم رحمه الله تعالى للقول بمشروعية التعزيرات المالية واستدل عليها بأقضية النبي صلى الله عليه وسلم وأقضية الصحابة رضي الله عنهم من بعده في ذلك. وذكر قول المخالف المانع وناقش أدلته، وفي خضم هذا المبحث قسم العقوبات المالية باعتبارين، فصارت مباحثة في ثلاثة فروع: الفرع الأول: تنويع العقوبات المالية باعتبار الانضباط وعدمه. الفرع الثاني: تنويعها باعتبار أثرها في المال.
الفرع الثالث: الخلاف في مشروعية التعزير بالمال مع التدليل والمناقشة. وبيانها على هذا الترتيب كما يلي: الفرع الأول: في تنويعها باعتبار الانضباط وعدمه. يوضح ابن القيم رحمه الله تعالى أن العقوبات المالية تنقسم من حيث الانضباط وعدمه إلى قسمين: الأول: نوع منضبط، وهو ما قابل المتلف لحق الخالق: كإتلاف الصيد في الإحرام، أو لحق المخلوق كإتلاف ماله. الثاني: نوع غير منضبط: وهو ما يدخله اجتهاد الأئمة بحسب المصالح فهو لا يتقدر بمقدار لا يقبل الزيادة أو النقص، مثل اجتهاد عمر رضي الله عنه في تحريق قصر سعد لما احتجب عن الرعية. وفي بيان هذا التنوع يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (وهذا الجنس من العقوبات- أي المالية- نوعان: نوع مضبوط، ونوع غير مضبوط: فالمضبوط: ما قابل المتلف إما لحق الله سبحانه كإتلاف الصيد في الإحرام أو لحق آدمي كإتلاف ماله، وقد نبه الله سبحانه على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبهَ بقوله (ليذوق وبال أمره) ، ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان كعقوبة القاتل لمورثه بحرمان ميراثه. وعقوبة المدبر إذا قتل سيده ببطلان تدبيره. وعقوبة الموصي له ببطلان وصيته. ومن هذا الباب: عقوبة الزوجة الناشزة بسقوط نفقتها وكسوتها. وأما النوع الثاني، غير المقدر: فهو الذي يدخله اجتهاد الأئمة بحسب المصالح ولذلك لم تأت به الشريعة بأمر عام، وقد لا يزاد فيه ولا ينقص كالحدود) .
الفرع الثاني: تنويعها باعتبار أثرها في المال. ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى كلام شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في التعزيرات المالية وذكر تقسيمه لها إلى ثلاثة أقسام هي: 1- التعزير بإتلاف المال. مثل شق أوعية الخمر، وتحريق أمكنة الخمارين (2) . 2- التعزير بتغيير المال. مثل تقطيع الستر الذي فيه صورة إلى وسادتين (3) . 3- التعزير بتمليك المال. مثل أضعاف الغرم على السارق من غير حرز (4) . وهذه الأقسام الثلاثة نستطيع تصنيفها على سبيل الاختصار إلى قسمين: 1- عقوبة في المال: وتشمل، الإتلاف والتغيير. 2- عقوبة بالمال: وتشمل، التمليك للمال فقط. والله. أعلم. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى العديد من الأمثلة من السنة النبوية وذكرها في معرض الاستدلال لمشروعية التعزير بالمال وهذا ما تراه إن شاء الله في الفرع الآتي والله أعلم. الفرع الثالث: الخلاف في مشروعية التعزير بالمال (5) . ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى الخلاف في جواز التعزيرات المالية على قولين حكاها واختار رحمه الله تعالى استمرار مشروعيتها ودلل على ذلك بأدلة من السنة المشرفة وعمل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ومن بعدهم من الأئمة ثم ناقش
اختلاف العلماء وأدلته ومناقشتها
دليل الممانع وجمع خلاصة مبحثه هذا بقوله (1) : (اختلف الفقهاء فيه: هل حكمه منسوخ أو ثابت، والصواب أنه يختلف باختلاف المصالح ويرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة، في كل زمان ومكان حسب المصلحة إذ لا دليل على النسخ، وقد فعله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الأئمة) . وبيان الخلاف وأدلته ومناقشته مفصلاً على ما يلي: اختلاف العلماء: اختلف العلماء في مشروعية التعزيرات المالية على قولين بيانهما كالآتي: القول الأول: مشروعية التعزيرات المالية فيجوز التعزير بها. وفي بيان القائلين به يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (وأما التعزير بالعقوبات المالية: فمشروع أيضاً في مواضع مخصوصة في مذهب مالك وأحمد، وأحد قولي الشافعي) . وحكاه الشوكاني مذهباً لآل البيت بلا خلاف بينهم (3) ، وهو مروي أيضاً عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة (4) . أدلته: استدل له ابن القيم رحمه الله تعالى بأقضية متنوعة من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه في ذلك فقال (5) :
(وقد جاءت السنة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بذلك في مواضع: منها: إباحته صلى الله عليه وسلم سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده (1) . ومثل: أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفها (2) . ومثل، أمره لعبد الله بن عمر بأن يحرق الثوبين المعصفرين (3) . ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر- بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الأنسية ثم استأذنوه في غسلها، فأذن لهم، فدل على جواز الأمرين لأن العقوبة لم تكن واجبة بالكسر (4) . ومثل: هدمه مسجد الضرار (5) . ومثل: تحريق متا الغال (6) . ومثل: حرمان السالب الذي أساء على نائبه (7) . ومثل: إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر (8) . ومثل: إضعافه الغرم على كاتم الضالة (9) . ومثل: أخذه شطر مال مانع الزكاة عزمة من عزمات الرب تعالى (10) . ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم لابس خاتم الذهب بطرحه، فطرحه، فلم يعرض له أحد.
ومثل: قطع نخل اليهود، إغاظة لهم (1) . ومثل: تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر (2) . ومثل: تحريق عمر رضي الله عنه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية (3) .. وهذه قضايا صحيحة معروفة، وليس يسهل دعوى نسخها. وجه الاستدلال: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التنوع في العقوبات المالية على وجه الإتلاف: كما في كسر دنان الخمر وشق ظروفها، والتحريق لمتاع الغال والثوبين المعصفرين، وتغييراً كما في قصة الستار، ومضاعفة للغرم على السارق من غير حرز، وعلى كاتم الضالة ونحو ذلك في أقضية الصحابة رضي الله عنهم على حسب اختلاف الأحوال ومراعاة المصالح ودفع المفاسد والله أعلم. القول الثاني: عدم جواز التعزير بالمال. وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن والشافعي في قوله الأخير (4) . أدلته: ادعى أرباب هذا القول أن التعزيرات المالية منسوخة وأن الإجماع قد قام على نسخها فلا تشرع العقوبة بها (5) .
الترجيح لاختيار ابن القيم رحمه الله تعالى
مناقشة ابن القيم لهذا الدليل: أبطل ابن القيم رحمه الله تعالى دعوى النسخ هذه بأنه لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ولا إجماع يدل على صحة دعوى النسخ فأين الدليل الناسخ؟ وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (1) : (ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك، فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلاً واستدلالا، فأكثر هذه المسائل: سائغ في مذهب أحمد وغيره وكثير منها سائغ عند مالك. وفعل الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه وسلم مبطل أيضاً لدعوى نسخها، والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم، إلا أن يقول أحدهم: مذهب أصحابنا عدم جوازها فمذهب أصحابه عيار للقبول والرد؟ وإذا ارتفع عن هذه الطبقة: ادعى أنها منسوخة بالإجماع. وهذا خطأ أيضاً، فإن الأمة لم تجمع على نسخها ومحال أن ينسخ الإجماع السنة، ولكن لو ثبت الإجماع لكان دليلا على نص ناسخ) . والنووي رحمه الله تعالى وهو من كبار الشافعية قد نفى الإجماع على النسخ ورفض النسخ فقال (الذي ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف، ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ) (2) . الترجيح: هذه هي آراء العلماء وأدلتهم وأرجح القولين فيما يظهر لي والله أعلم- هو جواز التعزير بالمال إذا تحققت المصلحة التعزيرية كما اختاره الإمام ابن القيم والله أعلم.
الخاتمة في خلاصة البحث ونتائجه
الخاتمة في خلاصَة البحث ونتائجه الحمد لله أولا وآخراً وظاهراً وباطناً وبعد: فهذه خاتمة تضم خلاصة معتصرة للبحث ونتائجه المنثورة بين دفتي هذه الرسالة لنضع الرسالة أمام القارئ على طرف الثمام. في هذا المضمار جمعت ما تناثر في كتب ابن القيم من مباحثه في ذلك التي بلغت ما يقرب من خمسين مبحثاً، يدخل في تضاعيفها مباحث أخرى تقارب عشرين مبحثاً فيها تجليته لحكمة التشريع ودفع إيرادات المعترضين على الكثير من هذه العقوبات، وفيها معرفة مدى وقوفه على مذاهب الناس واختلافهم، وما يستدل لهم به ومناقشتها، وفيها كيفية تخليصه الاختيار في المبحث عن قناعة ودراية ودربة في منهجه اللطيف المنبئ عن شفوف النظر ودقة الفهم. ومن وراء هذه الاختيارات فقد تحصل لي نتيجة هامة وهي أنه ليس في اختياراته رحمه الله تعالى مسألة خرق فيها الإجماع، وأن هذه دعوى عريضة طالما شغب عليه بها خصومه- ويتكشف زيفها في أمثال هذه الدراسات. وعليه فإن اختياراته رحمه الله تعالى في ذلك يمكن تصنيفها على ما يلي: 1- اختيارات وافق فيها الجماهير بما فيهم الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى. ب- اختيارات خالف فيها الأئمة الأربعة لكن الخلف فيها محكي عن بعض الصحابة أو التابعين.
ج- اختيارات وافق فيها الجمهور لكن خالف فيها مذهب الإمام أحمد. د- اختيارات وافق فيها المذهب أو المشهور منه وخالف الجمهور. هـ- مباحث حكى الخلاف فيها ولم يجزم برأي له فيها. ومواقع مباحثه من هذه الفقرات على ما يلي: أ- الاختيارات التي وافق فيها الجمهور بما فيهم الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى وهي على ما يلي: اختياره أن الزاني المحصن لا يجمع له بين الجلد والرجم بل حده الرجم فقط. وهذا مذهب الجمهور منهم الأئمة الأربعة والرواية الثانية عن الإمام أحمد: الجمع. اختياره: أن عقوبة الخمر حدية لا تعزيرية. اختياره: اشتراط الحرز في السرقة. اختياره: شرط انتفاء الشبهة في حد السرقة. اختياره: أن من سرق من شيء له فيه حق درئ عنه الحد. تقريره: ردة ساب النبي صلى الله عليه وسلم وقتله كفراً. تقريره: كفر من قذف عائشة رضي الله عنها وردته. تقريره: أن التوبة بعد القدرة لا تسقط الحد اتفاقا. تقريره: أن توبة المحارب قبل القدرة تسقط عنه الحد اتفاقاً. ب- اختيارات خالف فيها الأئمة الأربعة لكن الخلف فيها محكي وهذه على ما يلي: 1- إنكاره قصر معنى لفظ " الحد " على العقوبات المقدرة كما هو مدون لدى أرباب المذاهب الأربعة وغيرهم. وبيانه أن لفظ " الحد" في لسان الشارع
أعم: فيفيد ذا تارة ويفيد لفظ "حدود الله" بمعنى حقوق الله، والله أعلم. 2- اختياره: قتل الشارب في الرابعة بالنص تعزيراً. وأن هذا قول جماعة من السلف وهو اختيار ابن تيمية، بل قال ابن حزم: يقتل حداً. وروى قتله عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، والأئمة الأربعة على خلافه فلا يقتل، والله أعلم. وهذا منشأ الغلط على ابن القيم وغيره من أهل العلم إذا خالف المحقق في مسألة ما هو مدون في المذاهب الأربعة قالوا: خرق الإجماع: بينما المسألة قد تجاذبتها النصوص والخلاف. ج- اختيارات خالف فيها مذهب الإمام أحمد أو المشهور من مذهبه ووافق فيها الجمهور، وهي على ما يلي: 1- اختياره: وجوب حد القذف بالتعريض، وهذا مذهب مالك والثلاثة على خلافه. 2- اختياره: إقامة حد الزنى بالحبل، وهذا مذهب مالك وأحمد في الرواية الثانية عنه، والجمهور على خلافه. 3- اختياره: أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان: وهذا مذهب الشافعي وهو الرواية الثانية عن أحمد، والجمهور على خلافه. 4- اختياره: أن عقوبة الشارب أربعون حداً والأربعون الزائدة عليها تعزيراً وهذا مذهب الشافعي والرواية الثانية عن أحمد. 5- اختياره: إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة: وهذا مذهب مالك والرواية الثانية عن الإمام أحمد، والجمهور على خلافه.
6- اختياره: أن من تمام توبة السارق ضمان قيمة المسروق إن كان قادراً، وهذا مذهب المالكية، والخلاف للجمهور. 7- اختياره: مشروعية التعزيرات المالية. وهذا مذهب المالكية، وعن الشافعية والحنابلة في مواضع، والخلاف للحنفية. د- اختيارات وافق فيها المذهب أو المشهور منه وخالف الجمهور، وهي على ما يلي: اختياره: قبول توبة مرتكب الجريمة الحدية قبل القدرة عليه. وهذا مذهب الشافعي وأحمد، والخلاف للجمهور. اختياره: أن من وطئ جارية امرأته فيعزر بمائة جلدة إن كانت أحلتها له. وهذا مذهب أحمد، والجمهور على خلافه. اختياره: أن نكح ذات محرمه فحده القتل. وهو الرواية عن أحمد والجمهور على خلافه. اختياره: أن عقوبة اللواط القتل بكل حال محصناً أو غير محصن. وهذا مشهور المذهب وأحد القولين عند الشافعي. اختياره: قتل من وطئ بهيمة فحكمه حكم اللوطي، على ما يظهر من سياق كلامه. وهذا هو الرواية عن أحمد، والجمهور على خلافه. اختياره: أن الإقرار في السرقة لا بد من تكراره مرتين. وهذا مذهب الحنابلة خلافاً للثلاثة. اختياره: قطع جاحد العارية. وهو الرواية المقدمة في المذهب، والثلاثة على خلافه.
هـ- مباحث حكى الخلاف فيها ولم يجزم باختيار له فيها، وهي: 1- القاذف المحدود إذا تاب هل تقبل شهادته: حكى الخلاف ولم يجزم فيه بشيء. 2- الإتيان على أطراف السارق: تكلم على هذا المبحث ولم يفصح عن اختيار له فيه، والله أعلم. هذه إلماعة موجزة عن اختيارات ابن القيم في الحدود والتعازير يقف القارئ من خلالها على نتيجتين: الأولى: أنه ليس له فيها اختيار خرق فيه الإجماع. الثانية: أنه لم يكن متعصباً لمذهب الإمام أحمد، بل قبلة مقصده وجهة جهده: نحو الدليل وما دل عليه، والله أعلم. (2) هذا وإن محبتي للشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى وإعجابي بشخصه وعلومه وملازمتي الدائبة لكتبه لم يمنعني ذلك من إبداء التنبيه على ما ينبغي التنبيه عليه من تقييد رأي أطلقه، أو أثر سكت عن درجته. كما لم يمنعني ذلك من إبداء ما يخالف اختياره أو التوقف حيث لم يظهر لي الوقف بجلاء وهذه المواقف أبينها على ما يلي: 1- تقييد ما أطلقه: في معرض بحثه لإقامة حد الزنى بالحبل: ذكر أن هذا هو قول عمر رضي الله عنه وهو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه.. وبينت أن هذا ليس على إطلاقه عند من ذكر بل هو مقيد عندهم بأمرين على ما أوضحتهما.
وفي معرض بحثه للحد بالتعريض: رأى رحمه الله تعالى وجوب الحد بالتعريض، ولم يقيده فيما إذا احتف بقرائن تدخل التعريض بالقذف أو لا. وقد استظهرت أن رأيه وإن لم يقيده صراحة لكن يستفاد من عموم بحثه تقييده بذلك. وفي مبحث النهي عن الانتباذ في بعض الأوعية: قررت أن رأيه هو نسخ النهي، وأن ما ذكره في بعض المواضع من النهي عن ذلك إنما ذكره للتدليل على قاعدة سد الذرائع، وهذا سائغ حين كان وقت النهي- فلا عتب على ابن القيم في هذا والله أعلم.. وفي مبحث تأخير الحدود في الغزو: ضعف الحديث في ذلك في موضع، واستدل به على التأخير للحد في موضع آخر وساقه بصيغة الجزم. وبينت أنه لا تضارب في هذا لأن الحديث ضعيف ضعفاً محتملا وعليه يحمل قوله بالتضعيف. ب- وفي مجال التعقب والمناقشة: في معرض بحثه رحمه الله تعالى لتأخير الحد في الغزو: استدل له من الأثر بأثر عمر رضي الله عنه من رواية سعيد بن منصور في سننه فقط. وهو ضعيف بهذا الإسناد. فبينت أن الأثر ضعيف بهذا الإسناد، وأنه أثر حسن الإسناد لكن من طريق آخر لم يسقها ابن القيم رحمه الله تعالى فذكرتها. وفي مبحث ذكره لحيلة جائزة لإبطال الشهادة على الزنى: ذكر الحيلة في مواضع مقرراً جوازها، وفي أخرى مقرراً لمنعها وإبطالها. فنبهت على ذلك، ورجحت جانب المنع على الجواز. وفي معرض بحثه لحكم قبول شهادة القاذف بعد توبته: بين استدلال الحنفية على منع قبولها من أن هذا هو مقتضى حكمة الشرع في التغليظ والزجر. ثم ذكر رد هذا ومناقشة الحنفية فيه من الجمهور.
وأوضحت أنه لا منافاة بين الاستدلال وما نوقش به وخرجت ذلك على وجه يحسن الوقوف عليه. وفي هذا المبحث أيضاً: أورد ابن القيم دليلا قياسياً للجمهور على شهادة القاذف بعد توبته وتعقب الحنفية له. وأوضحت أنه لا منافاة بين التعقب وما استدل به الجمهور في ذلك. وفي مبحث حكمة الشرع في تحريم الخمر: ذكر أن مقر العقل الدماغ، فبينت أن هذا على خلاف اختياره للقول الذي يدل عليه الكتاب والسنة من أن مقر العقل القلب، وقد ذكره ابن القيم ودلل عليه. وكلام ابن القيم العارض في أن مقر العقل الدماغ سياق له في غير مساقه، وقد تقرر من القاعدة لدى أهل العلم: أن السياق للشيء في غير مساق له لا يعتبر رأياً لصاحبه. وفي مبحث أن المسجد حرز لما يعتاد وضعه فيه: استدل ابن القيم عليه بحديث الترس، وناقشت ابن القيم في هذا لأن الترس ليس من آلات المسجد المعتاد وضعها فيه، وبينت وجه الحديث في ذلك. وفي مبحث أنه لا قطع على من سرق شيئاً له فيه حق: استدل بحديث ابن عباس عند ابن ماجه ولم يبين درجته. فبينت أن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة وأقمت الأدلة من وجوه أخر. وفي مبحث اختياره لقطع جاحد العارية: استدل عليه بقياس جاحد العارية على السارق فهو أولى بالقطع منه. فأوضحت أن هذا القياس متعقب بعدة أمور فصلت القول فيها. وفي مبحث توبة السارق: هل من لازم توبته ضمان المسروق: ذكر استدلال
الحنفية على نفي ذلك بحديث " أنه قضى في السارق إذا أقيم عليه الحد: أنه لا غرم عليه ". وذكر تعقب الجمهور لهذا الاستدلال. فتعقب هذه المناقشة من وجهين يتضح منهما عدم تسليم التعقب عنه والله أعلم. ج- وفي مجال الترجيح والاختيار: بعد الوقوف على الخلاف وأدلته واختيارات ابن القيم في ذلك فإن الأمانة تقضي ألا أرجح إلا ما أعتقده، وأن أقف حيث يقف علمي وإدراكي. وإن موقفي من اختيارات ابن القيم رحمه الله تعالى يتمثل في ثلاث نقاط: الأولى: موافقتي له في الكثير الغالب من اختياراته. الثانية: مخالفتي له في بعضها. الثالثة: التوقف في البعض الآخر. وأن خلاصة البحث تقتضي بيان النقطتين الأخيرتين ومنهما يتضح بيان ما حصلت موافقته فيه، وذلك على ما يلي: 1- ابن القيم رحمه الله تعالى يرى إقامة حد الزنى بالحبل. وقد ظهر لي عدم إقامة الحد بالحبل وفصلت وجهة نظري في ذلك. 2- ابن القيم رحمه الله تعالى اختار قتل الشارب في الرابعة تعزيراً بالنص من السنة. وقد ظهر لي ثبوت نسخ دليل القتل في الرابعة، وأن الصحيح قتله تعزيراً بالرجوع إلى قاعدة: القتل سياسة لمن لا يندفع فساده إلا بقتله لا بموجب النص. 3- ابن القيم رحمه الله تعالى يختار إقامة الحد على الشارب بالرائحة. وقد ظهر لي عدم إقامته في تحليل مسهب.
4- ابن القيم رحمه الله تعالى اختار في توبة السارق ضمان المسروق إن كان له مال وقد ظهر لي ضمانه بكل حال وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة. 5- ابن القيم رحمه الله تعالى اختار القطع بسرقة ما اعتيد وضعه في المسجد فهو حرز لذلك واستدل بحديث الترس. وقد ظهر لي عدم دلالة الحديث ولم أر في المسألة ما يفيد الجزم بأحد القولين، وهذا مما أستخير الله فيه. 6- ابن القيم رحمه الله تعالى اختار القطع بوجود المسروق في حوزة السارق ودلل عليه بقوله:" لم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المسروق مع المتهم.. ". ولم أزل متطلعاً إلى الوقوف على هذه الأقضية ولم يحصل الوقوف على شيء منها فسبيلي الوقف حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين.. وأختتم هذه الخلاصة المختصرة لمباحث الرسالة بما بدأت به رسالتي هذه من دعاء أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فأقول داعياً: (اللهم أجعل عملنا كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً. ولا تجعل لأحد فيه شيئاً) . واللهم ارحم ابن القيم رحمة واسعة تبل بها ثراه وترحم بها وحدته وتؤنس بها وحشته، وتدخله بها جنتك، وتجمعنا به فيها: آمين. والله الموفق.