الحدود في الأصول

أبو الوليد الباجي

الْحُدُود فِي الْأُصُولِ تأليف القَاضِي أبي الْوَلِيد سُلَيْمَان بن خَلَف بن سَعد بن أَيُّوب الْبَاجِيّ الذَّهَبِيّ الْمَالِكِي الْمُتَوفَّى سنة 474 هـ

[مقدمة التحقيق]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة أما ترجمة المصنّف أبي الوليد الباجي المتوفّى سنة 474 هـ، فتقدمت في كتاب الإشارة، ولقد استعنّا بفضل الواحد الأحد الفرد الصمد في تحقيق هذا الكتاب على نسخة مكتبة الأسكوريال - مدريد، تحت رقم [1514/ 4] وتقع في [22/ ق] ويوجد بها خرم بمقدار سطر تقريبًا نبّهنا عليه في الهامش. وليعذرنا طَلَبَة العلم على هذا الجهد القليل الضعيف الحقير. طالب العلم/ محمد فارس

ل /أ / الورقة الأولى نسخة الأسكوريال

اللوحة الأخيرة من نسخة الأسكوريال

الحد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى اللَّه على محمد وعلى آله وسلم قال القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي رضي اللَّه عنه: الحد: هو اللفظ الجامع المانع (¬1). معنى الحدّ ما يتميز به المحدود ويشتمل على جميعه، وذلك يقتضي أنه يمنع مشاركته لغيره في الخروج عن الحدّ، ومشاركة غيره له في تناول الحدّ له. وأصل الحدّ في كلام العرب المنع. قال اللَّه تبارك وتعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: الآية 229]. ومنه سُمِّي السجَّان حدَّادًا لمنعه من يُسجن من الخروج والتصرف. فلما كان في الحدّ ما قدمناه من المنع، صحّ أن يوصف بالحدّ. وهذه العبارة من قولنا "اللفظ الجامع المانع" يتناول الحدَّ وحدَّ الحدِّ وحدَّ حدِّ الحدِّ إلى ما لا نهاية له؛ لأن اسم الحد واقع على جميعها. العلم: معرفة المعلوم على ما هو به (¬2). لو اقتصرنا من هذا اللفظ على قولنا "العلم المعرفة" لأجزى ذلك، ولم ينتقض طردًا ولا عكسًا، لكنَّا زدنا باقي الألفاظ على وجه البيان لمخالفه من خالف في ذلك. وقد ترد ألفاظ الحد لدفع النقض، وترد للبيان في موضع الخلاف. وإنما قلنا "المعلوم" ليدخل تحته المعلوم المعدوم والموجود. ولا يصح أن يقال "إنه معرفة الشيء على ما هو به" على قولنا إن المعدوم ليس بشيء, لأن ذلك كان يخرج المعلوم المعدوم عما حددناه، ويوجب ذلك بطلان الحد لقولنا وقول أكثر الأمة إن المعدوم يصح أن يعلم. ¬

_ (¬1) التعريفات ص 73. (¬2) التعريفات ص 135.

العلم الضروري

بل نعلم ذلك من أنفسنا ضرورة إن علومنا تتعلق بما عُدم من غزوة بدر واحد، وظهور النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وكثير من الصحابة رضي اللَّه عنهم ممن وقع لنا العلم به من جهة الخبر المتواتر. وإنما قلنا "على ما هو به" ولم نقل على صفته, لأن ما يحتمل الصفة لا يكون إلا موجودًا، فكان ذلك أَيضًا يخرج المعدوم عن أن يكون معلومًا. وإنما قلنا "معرفة المعلوم على ما هو به" ولم نقل اعتقاده على ما هو به, لأن الاعتقاد ليس بعلم، ولا من جنسه، ولذلك نجد كثيرًا من أهل الكفر والضلال يعتقدون الشيء على خلاف ما هو عليه من الإلحاد والاتحاد والتثليث، وليس شيء من ذلك يعلم, لأن العلم لا يتعلق بالمعلوم إلا على ما هو به، والاعتقاد يتعلق بالمُعْتَقَدِ على ما هو به وعلى ضد ذلك وخلافه. واللَّه أعلم. العلم الضروري: ما لزم نفس المخلوق لزومًا لا يمكنه الانفكاك منه ولا الخروج عنه. وصفُ هذا العلم بأنه ضروري معناه أنه يوجد بالعالِمِ دون اختياره ولا قصده. ويوصف الإنسان بأنه مضطر إلى الشيء على وجهين: أحدهما: أن يوجد به دون قصده. كما يوجد به العمى والخرس والصحة والمرض وسائر المعاني الموجودة به وليست بموقوفة على اختياره وقصده. والثاني: ما يوجد به بقصده، وإن لم يكن مختارًا له، من قولهم اضطر فلان إلى أكل الميتة وإلى تكفف الناس. وإن كان الأكل إنما يوجد به بقصده. ووصفنا للعلم بأنه "ضروري" من القسم الأول, لأن وجوده بالعالِمِ ليس بموقوف على قصده. وقلنا في الحد "ما لزم نفس المخلوق" احترازًا من علم الباري تعالى، فإنَّه ليس بضرورة. والعلم الضروري يقع من ستة أوجه: الحواس الخمس. وهي حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الشم وحاسة الذوق وحاسة اللمس. والحاسة على الحقيقة التي يتعلق بها وقوع هذا العلم إنما هو المعنى الموجود بهذه الأجسام دون الأجساد.

والعلم النظري

والبصر يختص بمعنى تدرك به الأجسام والألوان والأكوان، وهي الحركة والسكون. وحاسة السمع تختص بإدراك الأصوات. وحاسة الشم تختص بإدراك الروائح. وحاسة الذوق تختص بإدراك الطعوم. ولكل واحد من هذه المعاني اختصاص بعضو من الأعضاء، وأما حاسة اللمس فموجودة لكل عضو فيه حياة، وتختص بإدراك الحرارة والرطوبة واليبوسة. وعند بعض العلماء بالصلابة والرخاوة. وهذا كله يجري العادة، وقد يصح مع خرق العادات وجود تعلق كل معنى من تلك المعاني بغير ما شاهد تعلقه به الآن. وقد يقع العلم الضروري بالخبر المتواتر. وله اختصاص بالسمع بحسب ما تقدّم. ويقع العلم الضروري ابتداءً من غير إدراك حاسة من الحواس. كعلم الإنسان بصحته وسقمه وفرحه وحزنه وغير ذلك من أحواله، وعلمه بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان وغير ذلك من المعاني. والعلم النظري: ما احتاج إلى تقدم النظر والاستدلال ووقع عقيبه بغير فصل. قولنا "نظري" يقتضي اختصاصه بالنظر والاستدلال، وأنه لا يوجد إلا به. وفي ذلك احتراز من العلم الضروري, لأنه لا يحتاج إلى تقدم نظر واستدلال، واحتراز من علم الباري تبارك وتعالى، فإنه لا يحتاج إلى نظر واستدلال. وقولنا "ووقع عقيبه بغير فصل" على قول القاضي أبي بكر في قوله إن العلم النظري إنما يقع بعد كمال النظر والاستدلال. وذهب الشيخ أبو عبد اللَّه بن مجاهد إلى خلاف ذلك، أو أنه يقع مع النظر والاستدلال، وأنه كما وقع جزء من النظر وقع جزء من العلم حتى يكمل النظر، فيكمل بكماله العلم. والاعتقال: تيقن المعتقد من غير علم. ومعنى ذلك أن يتيقن بغير العلم. لأن العلم يتضمن التيقن، ومن علم شيئًا تيقنه، وقد يتيقن المتيقن بغير علم، وهذا هو الاعتقاد. والذي يتميز به اليقين من العلم أن المعتقد يتيقن الشيء وهو على خلاف ما يعتقده، ومحال أن يعلم الشيء، ولا يكون على ما يعلمه.

والجهل

وقد قال مالك رحمه اللَّه: إن لغو اليمين هو أن يحلف الرجل على الشيء يتيقنه وهو على خلاف ما حلف عليه. إنما أوردت هذا القول عن مالك ليبين أن ما ذكرته في اليقين أمر شائع في السلف والخلف. ولذلك ينقسم الاعتقاد إلى قسمين: صحيح وفاسد. فمن اعتقد الشيء على ما هو به، فاعتقاده صحيح. ومن اعتقد الشيء على ما ليس به، فاعتقاده فاسد، واعتقاده ذلك جهل. ولذلك حددنا الجهل بأنه اعتقاد المعتقد على ما ليس به. واللَّه أعلم. ويصح أن نريد بقولنا "تيقن المعتقد من غير علم" أنه تيقن ليس من متضمن العلم ولا سببه. والاعتقاد عند القائل بهذا القول أحد أضداد العلم كالشك والظن. لأنه إذا كان اليقين من مقتضى العلم خرج عن أن يكون اعتقادًا، وكان علمًا. فهذا عُرْيَ عن ذلك صار اعتقادًا. فمحال اجتماع العلم والاعتقاد لكونهما ضدين خلافيين. واللَّه أعلم. والجهل: اعتقاد المُعْتَقَد على ما ليس به. قولنا "اعتقاد المعتقد على ما ليس به" صحيح, لأن الجاهل معتقد لما يعتقده من الموجودات على غير ما هي عليه. ولو اعتقدها على ما هي عليه لم يكن عند كثير من العلماء موصوفًا بالجهل، وإن لم يكن عالمًا بها. إنما قلنا "على ما ليس به" ولم نقل "على خلاف ما هو عليه" لأن المعدوم لا يوصف بأنه خلافٌ لشيء ولا غيرٌ له. فلو قلنا: على خلاف ما هو عليه، أو على غير ما هو عليه لخرج الجهل بالمعدوم عن أن يكون جهلًا، وذلك يبطل الحد ويوجب فساده. والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر (¬1). والظن: تجويز أمرين فما زاد لأحدهما مزية على سائرها (¬2). الظن في كلام العرب على قسمين: ¬

_ (¬1) التعريفات ص 113. (¬2) التعريفات ص 125.

والسهو

أحدهما: أن يكون بمعنى العلم. من قوله تعالى: {نِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)} [الحاقة: الآية 20]. وقول الشاعر: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سُراتهم بالفارسي المصرد والضرب الثاني: ليس بمعنى العلم، ولكنه من باب التجويز. وللمظنون مزية على سائر الوجوه التي يتعلق بها التجويز وهذا الجنس هو الذي حددناه وأما القسم الأول فقد دخل في باب العلم. ولا يصح الظن ولا الشك في أمر لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، وإنما يصح فيما يحتمل وجهين وأكثر من ذلك. فإن قوي تجويز أحد الوجوه التي يتعلق بها التجويز كان ظنًّا، وإن استوت كان شكًّا. والظن في نفسه يختلف، فيقوى تارة ويضعف أخرى ما لم يبلغ حد مساواة هذا الوجه لغيره من الوجوه، فيخرج بذلك عن أن يكون ظنًّا. والسهو: الذهول. معنى السهو أن لا يكون الساهي ذاكرًا لما نسي. وهو على قسمين: أحدهما: أن يتقدمه ذكر ثم يعدم الذكره فهذا يصح أن يسمى سهوًا ويصح أن يسمى نسيانًا. والقسم الثاني: لا يتقدمه ذكره فهذا لا يصح أن يوصف بالنسيان، وإنما يوصف بالسهو والذهول. والعقل: العلم الضروري الذي يقع ابتداءً ويعم العقلاء. فلا يلزمنا على هذا معرفة الإنسان بحال نفسه من صحته وسقمه وفرحه وحزنه، لأن ذلك لا يقع ابتداءً، ولولا وجود ذلك به ما علمه. وليس كذلك علمنا بأن الاثنين أكثر من الواحد وأن الضدين لا يجتمعان، فإن ذلك يعلمه العاقل من غير حدوث شيء ولا وقوعه ولا إدراك حاسة ولا سماع خبر. وليس كذلك العلم الواقع عن إدراك الحواس، فإنه لا يقع إلا بإدراك الحواس، وكذلك علم الإنسان بصحته وسقمه، فإنه لا يقع ابتداءً، وإنما يقع بعد أن يوجد ذلك به.

وقاله القاضي أبو بكر إنه يقع ابتداءً، فقد قرن به ما بين هذا، فقال إنه يقع ابتداءً من غير إدراك حاسة، ولم يقل إنه يقع ابتداءً على الإطلاق، وإنما قال إنه لا يحتاج في العلم به إلى إدراك حاسة من الحواس المتقدم ذكرها (¬1). واللَّه أعلم. ووجه آخر، وهو أن معرفة الإنسان بمرضه وصحته لا يعم العقلاء، وإنما يختص بذلك من وجد به، وكذلك مخبر أخبار التواتر لا يعم العقلاء وإنما يقع العلم به لمن سمع بذلك الخبر دون غيره على الوجه الذي يقع به العلم. واللَّه أعلم. وقال القاضي أبو بكر: حد العقل بعض العلوم الضرورية. وكان الشيخ أبو عبد اللَّه بن مجاهد يذهب في حده إلى أنه "مادة تعرف بها حقائق الأشياء" وأنكره أكثر شيويخنا البغداديين, لأنه إن كان أراد بقوله "مادة" أنه من جنس الأجسام والجواهر على ما يذهب إليه الفلاسفة من أنه جوهر بسيط فغير صحيح, لأن الأحكام لا تثبت بالأجسام ولا بالجواهر، ولا تكون عللًا لها, ولذلك لم يكن المتحرك متحركًا بجسم ولا جوهر، ولا الأبيض أبيض ولا الأسود أسود ولا العالم عالمًا ولا الجاهل جاهلًا، وإنما تثبت الأحكام بالأعراض التي هي علل لثبوتها. وإن كان أراد بقوله "مادة" أنه عرض من الأعراض، فينتقض بالعلم الذي تعلم به حقائق الأشياء، فإنَّه ليس من العقل بسبيل, لأن الحيوان يعلم كثيرًا من الأشياء، فيعلم ما يتقوت به فيقصده، وما لا يتقوت به ويضره فيجتنبه، ويعلم زجر من يزجره فيزدجر, ولا يوصف لذلك أنه عاقل. فوجب أن يكون ما يختص به من يُسمى عاقلًا ويوصف بذلك في لسان العرب وهو الإنسان. فإذا كان العقل مما يختص به الإنسان من العلوم، فقد قال القاضي أبو بكر بأنه ما يُعلم به أن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان وهذا يختص بمعرفته الإنسان الذي يختص بالوصف بالعقل دون الحيوان الذي لا يوصف بذلك. وهذا الذي قاله القاضي أبو بكر في هذه المسألة وذهب إليه كثير من شيوخنا. وأما ما حُدّ به العقل بأنه "بعض العلوم الضرورية" فعندي أنه ينتقض بخبر أخبار التواتر وما يدرك بالحواس من العلوم، فإنه بعض العلوم الضرورية، ومع ذلك فإنه ¬

_ (¬1) انظر التمهيد للباقلاني ص 37.

والفقه

ليس بعقل. وأيضًا فإن هذا ليس بطريق للتحديد، لأن التحديد إنما يراد به تفسير المحدود وتبيينه، وقولنا "عقل" أبين وأكثر تمييزًا مما ليس بعقل من قولنا "بعض العلوم الضرورية" فإنه لا يفهم من لفظ الحد ولا يتميز به من غيره، ولذلك لا يجوز أن يقال في حد الجوهر إنه بعض المحدثات. فصل: ومحله القلب. هذا الذي ذهب إليه مالك رضي اللَّه عنه، وهو قول أهل السنة من المتكلمين. وقال أبو حنيفة: محله الرأس. وبه قالت المعتزلة. وتتعلق به مسألة من الفقه، وذلك أن من شج رجلًا موضحة، فذهب عقله، لزمه عند مالك دية العقل وأرش الموضحة، لأنه إنما أتلف عليه منفعة ليست في عضو الشجة، فتكون الشجة تبعًا لها. وقال أبو حنيفة: إنما عليه دية العقل فقط، لأنه لما شج رأسه وأتلف عليه العقل الذي هو منفعة في العضو المشجوج دخل أرش الشجة في الدية. والصحيح ما قاله مالك رحمه اللَّه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: الآية 46]، فوصف القلوب بأنها يعقل بها، فلولا أن العقل موجود بها لما وصفت بذلك حقيقة، كما لا توصف الأذن بأنه يُرى بها ولا يُصغي بها. وأيضًا فإنه قال {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: الآية 46] فأضاف منفعة كل عضو إليه كما فعل في الأذن. وكما قال تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: الآية 195] فأضاف إلى كل عضو المنفعة المخصوصة به، فثبت بذلك أن العقل منفعة القلب ومختص به. والفقه: معرفة الأحكام الشرعية. ذهب مشايخنا إلى أن حد الفقه معرفة أحكام المكلفين، ونُقض لهم هذا الحد بأن من الفقه معرفة أحكام من ليس بمكلف من بني آدم وسائر الحيوان. وجاوب القاضي أبو بكر عن ذلك بأن قال: إن هذا النقض لا يلزم، لأن المكلفين هم المطلوبون بها، وذلك معنى إضافتنا إليهم، ولا يصح على هذا أن يكون حكم لغير مكلف.

أصول الفقه

وهذا الجواب وإن كان فيه بعض التخلص مما ألزمه الخصم على وجه الجدل، فإن إضافته الأحكام إلى من تتعلق به ممن جنى أو جُني عليه أظهر من تعلقها بمن يحكم في ذلك. ولذلك يقال حكم جناية فلان وحكم ما جُني على فلان، وحكم ما أفسدت في المواشي. فثبت حكم الجناية بوجودها وإن لم يحكم به حاكم. والتحرّز من هذا واجب لو تساوى إضافة الحكم إلى من حكم به وإضافته إلى من وجد منه أو وجد به، فكيف إذا كانت إضافته إلى من وجد منه أو وجد به أظهر. ووجه ثانٍ: وهو أنه لو كان هذا على ما جاوب به لوجب أن يجزئه من هذا الحد قوله "معرفة الأحكام" إذ لا يصح على ما جاوب به أن يضاف حكم إلى غير مكلف. فلم تزد إضافة الأحكام إلى المكلفين إلا إلباسًا. وعندي أن ما حددته به أسلم من الاعتراض، وهو قولنا "معرفة الأحكام الشرعية" احترازًا من الأحكام العقلية التي لا توصف في عادة المتخاطبين وعرفهم بأنها من الفقه، وإن كان معنى الفقه الفهم. تقول: فهمت ما قال فلان وفقهته. ومن فهم ما قال له قائل من الأحكام الشرعية العقلية صَحَّ بأن يوصف بأنه فقه عنه، وأنه فقيه بذلك. لكن عرف المخاطب قصر ذلك على نوع من العلم، ولذلك لا يوصف العالم بالعربية والحساب والهندسة ولغات العرب وغير ذلك من أنواع العلم بأنه فقيه وإن كنا لا نشك أنه لم يكن عالمًا حتى فقهها وفهمها. أصول الفقه: ما انبنت عليه معرفة الأحكام الشرعية. يريد أن أصول الفقه غير الفقه، لأن الشيء لا ينبني على نفسه، وإنما ينبني على سواه مما يكون أصلًا له، ويكون هو مستنبطًا ومأخوذًا منه، ومتوصلًا إليه بذلك الأصل. وذلك أنه معرفة أحكام الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والاستثناء والمجمل والمفصل وسائر أنواع الخطاب والنسخ والإجماع والقياس وأنواعه وضروبه وما يعترض به على كل شيء من ذلك وما يجاوب به عن كل نوع من الاعتراضات فيه، وتمييز صحيح ذلك من سقيمة مما يتوصل به إلى استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق بحكمه.

والدليل

فكانت هذه المعاني أصولًا للأحكام الشرعية، لأنه لا طريق إلى استنباطها ومعرفة صحيحها من سقيمها إلا بعد المعرفة لما وصفنا بأنه أصل لها. والدليل: هو الدلالة على البرهان. وهو الحجة والسلطان. والدليل في الحقيقة هو فعل الدال، ولذلك يقال: استدل بأثر اللصوص عليهم، وإن كان اللصوص لم يقصدوا الدلالة على أنفسهم. ومن أصحابنا من قال: إن الدليل إنما يستعمل فيما يؤدي إلى العلم. وأما ما يؤدي إلى غلبة الظن فهو أمارة. وهذا تنويعٌ قُصِدَ به المبالغة، فلم يوصل إلى الحقيقة، لا سيما على قول القاضي أبي بكر "أن كل مجتهد مصيب" لأن المستدل بالدليل المؤدي إلى غلبة الظن قد توصل به إلى العلم والقطع. لأن القياس والمستدل بخبر الآحاد إذا عمل به فقد علم أنه عمل ما أمره به ربه وافترضه عليه، لأن الذي كُلِّف هو الاجتهاد في بلوغ غلبة الظن، وهو متيقن وجود ذلك منه. وكذلك على قول شيوخنا "إن الحق في واحد" فإن الفرض إنما يتعلق بالاجتهاد إلى غلبة الظن، فإذا وُجِدَ ذلك منه، فقد عُلم قطعا وقوع ذلك منه وأداؤه لفرضه. ولو قلب هذا القول على مقسمه لما كان له طريق إلى إثبات ما اختار منه. وحدّ الدليل: ما صح أن يرشد إلى المطلوب الغائب عن الحواس (¬1). [ومعنى ذلك أن الدليل الذي يصح أن يستدل به ويسترشد ويتوصل به إلى المطلوب، وإن لم يكن استدلالٌ، ولا توَصَّلَ به أحد. ولو كان الباري جل وعلا خلق جمادًا ولم يخلق من يستدل به على أن له محدثًا لكان دليلًا على ذلك، وإن لم يستدل به أحد. فالدليل دليل لنفسه: وإن لم يُستدل به. فلو قلنا: "إن الدليل ما أرشد إلى المطلوب" لخرج الدليل الذي لم يَسْتَدلَ به أحد عن أن يكون دليلًا محدودًا بذلك الحد. وقد ذكر القاضي أبو بكر في بعض مصنفاته أن الدليل "هو المرشد إلى المطلوب على وجه التجوز". واللَّه أعلم]. والدال: هو الناصب للدليل. ¬

_ (¬1) انظر التمهيد ص 39.

والمستدل

معنى ذلك أنه هو الذي يفعل فعلًا يُستدل به على ما هو دليل عليه. وقد يكون هذا فيمن قصد الدلالة بذلك الفعل وفيمن لم يقصد ذلك، كاللصوص يُستدل على مكانهم بآثارهم. فيسمى فاعل ذلك الأثر دالًا في الحقيقة. فقد يوصل بالفعل من لم يوجد باختياره. فيقال لمن يعلم على ضرورة عالم. واللَّه أعلم وأحكم. والمستدل: هو الطالب للدليل (¬1). المستدل في الحقيقة هو الذي يطلب ما يستدل به على ما يريد الوصول إليه. كما يستدل به المكلف بالمحدثات على محدثها، ويستدل بالأدلة الشرعية على الأحكام التي جعلت أدلة عليها. وقد سمّى الفقهاء المحتج بالدليل مستدلًا، ولعلهم أرادوا بذلك أنه محتج به الآن، وقد تقدم استدلاله به على الحكم الذي توصل به إليه، ويحتج الآن به على ثبوته. والمستدل عليه: هو الحكم. وقد يقع على السائل أيضًا. حقيقة المستَدَلّ عليه هو الحكم، لأن المستدل إنما يستدل بالأدلة على الأحكام، وإنما يصح هذا بإسناده إلى عرف المخاطبين الفقهاء. فقد يستدل بأثر الإنسان على مكانه، وليس ذلك بحكم. ولكن ليس هذا من الأدلة التي يريد الفقهاء تحديدها وتمييزها مما ليست بأدلة. بل الأدلة عندهم في عرف تخاطبهم ما اشتمل عليه هذا الحد مما يوصف بأنه أدلة عندهم. وقد يوصف المحتج عليه بأنه مُستدَلٌ عليه، لما تقدم من وصف المحتج بأنه مُستدِل. فإذا كان المحتج مستدلّا صح أن يوصف المحتج عليه بأنه مُستَدَل عليه. والاستدلال: هو التفكر في حال المنظور فيه طلبّا للعلم بما هو نظر فيه أو لغلبة الظن إن كان مما طريقه غلبة الظن (1). ومعنى ذلك أن الاستدلال هو الاهتداء بالدليل والاقتفاء لأثره حتى يوصل إلى الحكم. ¬

_ (¬1) انظر الإنصاف للقاضي أبو بكر ص 15.

والبيان

والتفكر فيها قد يكون على وجوه، ولذلك خُصّ منها التفكر على وجه الطلب للعلم بالحكم المطلوب، أو لغلبة الظن في كثير من الأحكام التي ليس طريقها العلم كالأحكام الثابتة بأخبار الآحاد والقياس. والبيان: الإيضاح (¬1). ومعنى ذلك أن يوضح الآمر أو الناهي أو المخبر أو المجاوب عما يقصد إلى إيضاحه ويزيل اللبس عنه وسائر وجوه الاحتمال الذي يمنع تبيينه. من قولهم: وضح الصبح، ووضح الشيء، إذا ظهر وزال الحائل عنه. والهداية: قد تكون بمعنى الإرشاد. ومعنى ذلك أن الهداية تكون بمعنى التوفيق. قال اللَّه تعالى لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: الآية 56] يريد بذلك لا توفقه. وأما إرشاده، فقد وجد منه -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن أحب ولمن لم يحب. وتكون الهداية أيضًا بمعنى الإرشاد. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: الآية 17]. معناه -واللَّه أعلم- أرشدناهم. ولو كان بمعنى قد وفقهم لوجد منهم الإيمان، ولما استحبوا العمى على الهدى. ولما قصدنا بمعنى الهداية فيما ذكرناه الإرشاد لزم أن نتحرز من الهداية التي بمعنى التوفيق. وإن كنا قد خرجنا بما احترزنا به عن حكم الحدود على وجه التجوز. والعلم بأن مثل هذا لا يخفى على من أراد الحقيقة. واللَّه الموفق للصواب. النص: ما رفع في بيانه إلى أبعد غاياته. ومعنى ذلك أن يكون قد ورد اللفظ على غاية ما وضعت عليه الألفاظ من الوضوح والبيان. وذلك أن لا يحتمل اللفظ إلا معنى واحدًا، لأنه إذا احتمل معنيين فأكثر لم تحصل له غاية البيان. بل قد قصر عن هذه الغاية. وقد حدّه بعض أصحابنا بأنه اللفظ الذي لا يحتمل إلا معنى واحدًا وهو معنى ما أشرنا إليه. ¬

_ (¬1) تعريفات الشريف الجرجاني ص 41.

والظاهر

وقال بعض أصحابنا: إنه مأخوذ من النص في السير، وهو أرفع السير كما أن هذا أرفع المبيّن. وقال بعضهم: إنه مأخوذ من منصة العروس التي توضع عليها العروس وتجلّى لتبدو لجميع الناس. سميت بذلك لأن ذلك أتم ما يمكن أن يُتناول به إظهارها وجلاؤها. والظاهر: هو المعنى الذي يسبق إلى فهم السامع من المعاني التي يحتملها اللفظ. ومعنى ذلك أن يكون اللفظ يحتمل معنيين فزائدًا، إلا أنه يكون في بعضها أظهر منه في سائرها، إما لعرف استعمال في لغة أو شرع أو صناعة. ولأن اللفظ موضوع له، وقد يستعمل في غيره، فإذا ورد على السامع سبق إلى فهمه أن المراد به ما هو أظهر فيه. ولا يدخل على هذا النص لقولنا "من المعاني التي يحتملها اللفظ" لأن النص ليس له غير معنى واحد. وبذلك يتميز من الظاهر. والعموم: استغراق ما تناوله اللفظ. ومعنى ذلك أن يكون اللفظ يتناول جنسًا أو جماعة أو صفات أو غير ذلك مما يعمه لفظ، ويقتضي ذلك اللفظ استيعاب ما يصح أن يتناوله ويقع عليه. فإن معنى العموم حمل ذلك اللفظ على جميع ما يصح أن يقع عليه ويتناوله. كقولك: الرجال للذي يصح تناوله لكل من يقع عليه اسم رجل. فمعنى العموم حمله على كل ما يصح أن يتناوله اللفظ إلا أن يخصصه دليل يخرج به بعض ما تناوله. والخصوص: إفراد بعض الجملة بالذكر. وقد يكون إخراج بعض ما تناوله العموم عن حكمه. ولفظ التخصيص فيه أبين. ومعنى ذلك أننا إذا قلنا إن اللفظ ورد عامًا، ثم ورد لفظ آخر يتناول بعض تلك الجملة وصف بأنه خاص. مثل قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: الآية 5]. فإن هذا اللفظ عام في كل مشرك. فإذا ورد لفظ يتناول قتل اليهود والنصارى قيل هذا لفظ

المجمل

خاص. بمعنى أنه مثل اقتلوا اليهود، يتناول الجملة التي استوعبها اللفظ العام. من قولهم خُصَّ فلان بكذا، بمعنى أنه أفرد به دون غيره ممن يشمله وإياه معنى أو معانٍ. فإذا كان اللفظ الخاص حكمه حكم اللفظ العام على ما قدمناه قيل هذا لفظ خاص ولفظ عام وإذا كان حكم اللفظ الخاص يضاد حكم اللفظ العام بان أخرج من اللفظ بعض ما تناوله مثل قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: الآية 5] ثم يرد بعد هذا النهي عن قتل من أدّى الجزية، فإنه قد أخرج باللفظ الخاص بعض ما تناوله اللفظ العام، فيصح أن يقال في هذا إنه خصوص، بمعنى أن أهل الجزية خُصّوا بهذا. ولفظ التخصيص فيه أظهر وأكثر استعمالًا عند أهل الجدل. ومعنى ذلك أن هذا خصّ اللفظ الأول فجعله خاصًّا فيمن لم يؤد الجزية بعد أن كان عامًّا فيهم وفي سواهم ويحتمل أن يكون معنى ذلك أنه خصّ من يقع عليه بحكم مخالف للذي ورد به اللفظ العام. واللَّه أعلم. المجمل: ما لا يفهم المراد به من لفظه، ويفتقر في بيانه إلى غيره. معنى المجمل أن يكون اللفظ يتناول جملة المعنى دون تفصيله، وورد على صفة تقع تحتها صفات وأجناس متغايرة. ولذلك قيل في حدّه "إنه لا يفهم المراد به من لفظه" لوقوعه على أجناس متباينة مختلفة، فلا يمكن امتثال الأمر به إلا بعد بيانه، لأن المأمور لو أراد امتثال الأمر به لم يمكنه القصد إلى جنس مخصوص، لأن اللفظ المجمل لا يقتضيه ولا ينبئ عنه بمجرده، فلما كان هذا حكمه افتقر إلى معنى غيره يبينه ويوضح عن جنسه وقدره وصفاته وغير ذلك من أحكامه. وذلك مثل قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: الآية 33] فلفظة السلطان ههنا مجملة، لا يعلم المراد بها [من] جنس مخصوص من قتل أو دية أو حبس أو غير ذلك. ومن ذلك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه فإذا قالوها عصموا مني أموالهم ودماءهم إلا بحقها (¬1). فلفظة الحق ههنا مجملة، لأنه لا يعلم جنس الحق ولا قدره. وقد عاد ذلك بالإجمال في قوله: "عصموا مني دماءهم وأموالهم" وإن كان اللفظ عامًّا معروف الجنس. لكنه لما استثني منه مجملٌ غير معلوم، صار ما بقي منه مجملًا غير معلوم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي، انظر كشف الخفا للعجلوني 1/ 194.

والمفسر

والمفسر: ما فهم المراد به من لفظه، ولم يفتقر في بيانه إلى غيره. معنى ذلك أن لفظ التفسير يقتضي تبيين ما يَقْصِدُ إلى تفسيره قاصد بعد إجماله وإبهامه. ويصح أن يوصف بذلك إذا كان وُضِعَ من البيان على موضوع يقتضي كونه مفسرًا. فإذا كان ذلك قائمًا قصدنا بالحد إلى بيان اللفظ الذي موضعه التفسير والتفصيل. فإذا ورد اللفظ متناولًا لما تقصد العبارة [البيان] عنه من المعاني على وجه التفصيل والإيضاح، وبلغ من ذلك مبلغًا يُفهم المراد به من لفظه كان مفسرًا. وما كان هذا حكمه، لم يفتقر في بيانه إلى غيره واللَّه أعلم. والمحكم: يستعمل في المفسر؛ ويستعمل في الذي لم ينسخ. فإذا استعملناه في المفسر، فقد تقدم معناه، ويكون وصفنا له حينئذٍ بأنه محكم أنه قد أحكم تفسيره وإيضاحه ووضعه ونظمه على ما قصد به من الإيضاح. وإذا قلنا إن معناه الذي لم ينسخ، فإن معناه الممنوع من النسخ. وقد قال مجاهد في قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: الآية 1] أن معنى ذلك منعت من النسخ. وقد قيل إنه مأخوذ من حكمة اللجام التي تمنع الفرس من الجماح. والمتشابه: هو المشكل الذي يحتاج في فهم المراد به إلى تفكر وتأمل. ومعنى وصفنا له بأنه متشابه أن يحتمل معاني مختلفة يتشابه تعلقها باللفظ. ولذلك احتاج تمييز المراد منها باللفظ إلى فكر وتأمل يتميز به المراد من غيره. والمطلق: هو اللفظ الواقع على صفات لم يقيد ببعضها. ومعنى ذلك أن يرد اللفظ يتناول مذكورًا يصح وجوده على صفات متغايرة مختلفة، ولا يقيد بشيء منها. مثل قوله تعالى في آية الظهار {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: الآية 3] فكذلك العتق في الظهار بلفظ الرقبة، والرقبة واقعة على صفات متغايرة من كفر وإيمان وذكورة وأنوثة وصغر وكبر وتمام ونقصان، ولم يقيدها بصفة تتميز بها مما يخالفها، فهذا الذي يسميه أهل الجدل المطلق. والمقيد: هو اللفظ الواقع على صفات قد قُيّد ببعضها.

والتأويل

ومعنى ذلك أن يكون اللفظ الوارد يتناول المذكور الموجود على صفات متغايرة ويقيد ببعضها، فيتميز بذلك مما يخالفه في تلك الصفة. وذلك مثل قوله تعالى في كفارة القتل: {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: الآية 92] فاسم الرقبة واقع على المؤمنة والكافرة، فلما قيده ههنا بالإيمان كان مقيدًا من هذا الوجه، وإن كان مطلقًا في غير ذلك من الصفات. والتأويل: صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله. ومعنى ذلك أن يكون الكلام يحتمل معنيين فزائدًا إلا أن أحدهما أظهر في ذلك اللفظ إما لوضع أو استعمال أو عرف. فإذا ورد وجب حمله على ظاهره إلا أن يرد دليل يصرفه عن ذلك الظاهر إلى بعض ما يحتمله. ويسمي أهل الجدل ذلك الصرف تأويلًا. وذلك [كـ] قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: الآية 228]. فلفظة "يتربصن" ظاهرها الخبر، ويحتمل أن يراد بها الأمر. فلو تُركنا والظاهر لحملناها على الخبر، إلا أنّا نجد من المطلقات من لا يتربصن، وخبر الباري تبارك وتعالى لا يصح أن يقع بخلاف مخبره، فثبت بذلك أن المراد به الأمر. واللَّه أعلم بالصواب. والنسخ: إزالة الحكم الثابت بشرع متقدم بشرع متأخر عنه على وجه لولاه لكان ثابتًا. معنى ذلك أن النسخ في كلام العرب قد يكون بمعنى الكتابة وليس هذا الذي نريده بهذا الحد. ويكون بمعنى الإزالة. من قولهم نسخت الشمس الظل، إذا أزالته. وهو معنى النسخ في الشرع، وهو أن يزال حكم من الأحكام بعد أن يثبت الأمر به. فأما الحكم الوارد ابتداءً فلا يسمى عند أهل الجدل نسخًا، وكذلك إذا حظر معنى من المعاني مدة من الزمان مقدرة، فانقضت المدة وانقضى بانقضائها الحظر، لم يوصف ذلك بأنه نسخ، لأن ما تقدم من الحظر لم يُزل بتلك الإباحة التي خلفته، وإنما زال بانقضاء مدته، ولذلك قلنا إن النسخ "إزالة الحكم الثابت" يريد أنه باقٍ إلى حين الإزالة له، ولو كانت انقضت مدته لما وصف بأنه مزال. وقولنا "بشرع متقدم بشرع متأخر عنه" احترازًا للحد واستيعابًا للمحدود، لأنا لو قلنا "إزالة الحكم الثابت بقول متقدم بقول متأخر عنه" على ما قاله كثير من شيوخنا

دليل الخطاب

لخرج عن هذا الحد نسخ الأفعال بالأفعال ونسخ الأموال بالأفعال ونسخ الأفعال بالأقوال. فإذا علقنا ذلك بلفظه "الشرع" اشتملت على الأقوال والأفعال واستوعبت الحد. وقلنا "بشرع متأخر عنه" لأن الناسخ من شرطه أن يتأخر عن المنسوخ، ولا يرد قبله ولا معه. وقولنا "على وجه لولاه لكان ثابتًا" تبين لما تقدم من أن النسخ إنما يكون بإزالة الحكم الأول بالحكم الثاني لا بانقضاء مدته وورود ما يخالفه بعده. دليل الخطاب: قصر حكم المنطوق به على ما تناوله، والحكم للمسكوت عنه بما خالفه. ومعنى ذلك -عند القائلين به- أن يعلن الحكم على صفة موجودة في بعض الجنس، فيدل ذلك -عند القائلين به- أن حكم ما لم توجد فيه تلك الصفة مخالف لحكم ما وجدت فيه. وذلك مثل ما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "في سائمة الغنم الزكاة (¬1) " فدل ذلك عند القائلين بدليل الخطاب على أن ما ليس بسائمة من الغنم لا زكاة فيها. وذلك أن السائمة عندهم منطوق بحكمها، والمعلوفة مسكوت عنها، فوجب أن يكون حكم المعلوفة غير حكم السائمة. وقد ذكرنا أن هذا ليس بصحيح، لأن ما نص على حكمه ثبت حكمه بالنص. وما سكت عن حكمه من المعلوفة لا يجوز أن يثبت فيه بذلك النص حكم مخالف لما نص عليه ولا مماثل له، وإنما يجب أن يطلب دليل حكمه في الشرع كسائر ما سكت عنه. وهذا فائدة تخصيص ما نص على حكمه. ولحن الخطاب: هو الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به. وفحوى الخطاب: ما يعنهم من نفس الخطاب من قصد المتكلم بعرف اللغة (¬2). والحصر: له لفظ واحد إنما (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج نحوه النسائي في سننه 5/ 29. (¬2) انظر مفتاح الوصول ص 112. (¬3) التعريفات ص 78.

ومعنى الخطاب

ومعنى الخطاب: هو القياس. والحقيقة: كل لفظ بقي على موضوعه (¬1). معنى وصفنا لهذا بأنه حقيقة أنه مستعمل فيما وضع له على الحقيقة، ثم يعدل به عنه، ولا يجوز به معناه. من قولهم: هذا حقيقة الأمر. فإذا استعمل اللفظ في المعنى الذي له وصف بأنه حقيقة فيه، بمعنى أنه لم يتسامح بالعدول به عما وضع له، ولا نقل عن ذلك بتجوز ولا غيره. والمجاز: كل لفظ تجوز به عن موضوعه (1). ومعنى وصفنا له بذلك أن المستعمل له جاوز استعماله فيما وضع له إلى غيره. من قولهم: جاوز فلان قدره، إذا تعداه. واستعمل ذلك وكثر في كلامهم حتى سموا اللفظ المستعمل في غير ما وضع له مجازًا وسموا المتكلم به متجوزًا. وهو شائع ذائع في كلام العرب، ولا يكون الناطق بذلك متكلمًا بغير لغة العرب، لأن العرب استعملت هذه الألفاظ في غير ما وضعت له على هذا الوجه، فكان ذلك من اللغة العربية. الأمر: اقتضاء المأمور به بالقول على وجه الاستعلاء والقسر (¬2). ومعنى ذلك ألا يكون أمرًا إلا باستدعاء الفعل-، وذلك يتميز من الإباحة، لأن المبيح لا يستدعي الفعل، وإنما يأذن فيه والأمر يستدعيه على وجه ما هو آمر به من وجوب أو ندب. وقوله "على وجه الاستعلاء والقسر" مما يختص به الأمر ويتميز به من الشفاعة والرغبة، لأن الشافع والراغب يستدعي الفعل، لكن على وجه الرغبة والخضوع، والآمر يستدعيه على وجه الغلبة والقهر. الواجب: ما كان في تركه عقاب من حيث هو ترك له على وجه ما. قوله: "ما كان في تركه عقاب" ترك الفعل هو ضده، وترك المشي الوقوف والجلوس والاضطجاع. كل واحد من هذه يسمى تركًا للمشي، والمشي ترك لكل واحد من هذه في عرف تخاطب المتكلمين وأهل الجدل. ¬

_ (¬1) انظر مفتاح الوصول ص 75. (¬2) انظر مفتاح الوصول ص 30.

ويتميز الواجب من المندوب إليه بأنّ في تركه عقابًا، وليس في ترك المندوب إليه ولا المباح عقاب. مثال ذلك: أن من ترك صلاة الفرض إلى جلوس أو غيره حتى فات وقتها استحق العقاب. ومن ترك الصلاة النافلة إلى جلوس، أو ترك الوقوف المباح إلى جلوس لم يستحق بشيء من ذلك عقابًا. وقلنا "من حيث هو تَرْك له" احترازًا من ترك المباح والمندوب إليه إلى معصية، فإنه يستحق العقاب، ليس من حيث إنه ترك المندوب والمباح، ولكن من حيث فعل المعصية. يبين ذلك: أنه إذا ترك صلاة الفرض، إلى أي شيء تركها، استحق بذلك العقاب، لأنه ترك الواجب. وإذا ترك المندوب إليه والمباح، إلى معصية استحق العقاب من حيث فعل المعصية لا من حيث ترك المندوب إليه والمباح وإذا ترك أحدهما إلى غير معصية لم يستحق عقابًا، فتميز بذلك ترك الواجب من المندوب إليه والمباح. ولذلك قيدنا الحد بقولنا: "من حيث هو ترك له". وقولنا: "على وجه ما" احتراز من الواجب المخير فيه كالكفارات التي خُيّر المكفر فيها بين العتق والإطعام والكسوة، لا سيما على قول من أصحابنا إن جميعها واجب، فإنه يترك بعضها وهو واجب، ولا إثم عليه إذا فعل واحدًا منها. ومعنى قولنا: "على وجه" نريد ألا يكون أتى ببدل لما تركه من الواجب، أما لأن الواجب ليس فيه تخيير، وأما لأنه ترك جميع المخير فيه، ولم يقض الكفارة بشيء، وهو الغرض والمكتوب. وقد عبّر بعض أصحابنا عن مؤكد السنن بالواجب، وهذا تجوز في العبارة وليس بحقيقة. وذهب بعض أصحابنا إلى أن الواجب وإن كان في تركه عقاب فرتبته دون رتبة الفرض. ويعبر أصحاب أبي حنيفة عن ذلك بأن الفرض ما ثبت بنص القرآن والواجب ما ثبت بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهذا ليس بصحيح لأن ما ثبت بقول النبي عليه السلام وما ثبت بنص القرآن، فكل من عند اللَّه ثابت بنص القرآن، لقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المَائدة: الآية 92]، وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: الآية 63]. وذهب القاضي أبو محمد في بعض كلامه إلى أن الواجب ما أثم بتركه ولم يجب قضاؤه، وأن الفرض ما يلزم -مع ما في تركه من الإثم- قضاؤه.

المندوب إليه

وهذا أيضًا ليس بالبيّن، لأن القضاء مما يجب عند محققي أصحابنا بأمر ثان، واختلاف العبادات في مقادير المأثم بتركها لا يفرق بينها في معنى الوجوب. والصواب أن الواجب والفرض سواء، وربما كان الواجب أثبت في ذلك، لأن الواجب من وجب الحائط إذا سقط، فكأن هذه العبادة قد سقطت على المكلف سقوطًا يلزمه ولا يمكنه الفرار عنها ولا المخلص منها إلا بأدائها. والفرض لفظ مشترك بين التقدير واللزوم. وعلى هذا محققو أصحابنا وغيرهم. المندوب إليه: هو المأمور به الذي في فعله ثواب، وليس في تركه عقاب من حيث هو تَرْك له على وجه ما. قولنا: "هو المأمور به" وصفناه بذلك لمخالفة من خالف فيه بقوله: إنه ليس بمأمور به. ولأن هذه الصفة تتميز به منه لقولنا: "في فعله ثواب" هذه الصفة مؤكدة لذلك. المباح: ما ثبت من جهة الشرع أن لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه من حيث هو تَرْك له على وجه ما. قولنا: "ما ثبت من جهة الشرع" مبني على ما ذهب إليه أهل الحق من أن الإباحة والحظر والوجوب أحكام شرعية، ليس للعقل فيها مجال، ولا لثبوتها تعلق به، وإنما ذلك بحسب ما ورد به الشرع. ولذلك قلنا إن المباح ما عُلمت بالشرع صفاته التي هو عليها من "أن لا ثواب في فعله" وبهذا يتميز من الواجب والمندوب إليه، لأن في فعلهما ثوابًا، ويشارك المندوب إليه في أن لا عقاب في تركه، وبذلك يتميزان من الواجب. وقلنا: "من حيث هو ترك له" نريد إذا ترك المباح من الجلوس إلى مشي أو وقوف مباح فلا إثم عليه. ولو تركه إلى قربة لكان في تركه ثواب من حيث فعل القربة لا من حيث ترك المباح. ولو تركه إلى الشيء في معصية لكان في مشيه عقاب لا من حيث ترك الجلوس المباح، ولكن من حيث فعل المشي المحظور. واللَّه أعلم. السنة: ما رسم ليحتذى. هذا أصل موضوع هذه اللفظة. ولذلك يقال سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمعنى أنه ما رسمه.

العبادة

ولذلك تقول الفقهاء "يقرأ السنة" بمعنى أنه يقرأ ما شرع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سننًا من ذلك إما بنطق أو بفعل أو بنصب دليل. ويسمي أهل الحديث "سننًا" بمعنى أنه يتضمن ما رسمه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأمته. وقد يسمي بعض الفقهاء، ما حصلت له رتبة في النوافل سنّة، فيقولون "صلاة العيدين سنّة" "والوتر سنّة". واختلفوا في ركعتي الفجر، فقال أشهب: ليستا من السنن، بل هي من الرغائب. وقال ابن عبد الحكم: هي من السنن. وإنما اختلفا في ذلك لاختلافهما في الصفة التي لها تسمى النوافل سنة. ومذهب أشهب أن السنن من النوافل إنما هي ما أظهر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وجمع عليه أمته وشرع الجماعة له من الصلوات والنوافل، كصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف. فلما لم يكن حال ركعتي الفجر بهذه الحال، بل كان يصليها في بيته. فَذًّا وكان ذلك حكمها، لم تكن عنده من السنن. وعند ابن [عبد] الحكم أن معنى السنّة من النوافل ما كان مقدرًا لا يزاد عليه ولا ينقص منه. وهذه حال ركعتي الفجر، ولذلك وصفها بأنها من السنن -واللَّه أعلم- ولم توصف عنده صلاة الليل بأنها من السنن لما كانت غير مقدرة. العبادة: هي الطاعة والتذلل للَّه تعالى باتباع ما شرع. قولنا: "هي الطاعة" يحتمل معنيين: أحدهما: امتثال الأمر. وهو مقتضاه في اللغة. إلا أنه في اللغة واقع على كل امتثال لأمر الآمر في طاعة أو معصية، لكننا قد احترزنا من المعصية بقولنا: "والتذلل للَّه تعالى"، لأن طاعة الباري تعالى لا يصح أن تكون معصية. والثاني: أن الطاعة إذا أطلقت في الشرع فإنها تقتضي القربة، وطاعة الباري تعالى دون طاعة غيره. الحسن: ما أُمِرْنا بمدح فاعله (¬1). ومعنى ذلك أن حَسَنَ الأفعال وقبيحها لا يعرفون بالعقل، وإنما يعرف بالشرع. فما أَمَرَنا الشرع بمدح فاعله فهو حسن، وما لم نؤمر بمدح فاعله فليس بحسن. وقد ¬

_ (¬1) انظر الإنصاف ص 49.

الظلم

يصح أن يوصف بأنه قبيح إذا أمرنا بذم فاعله كالمعاصي. وقد يستحيل أن يوصف بقبح مع استحالة وصفه بالحسن إذا لم نؤمر بمدح فاعله ولا بذمه كالأفعال المباحة من الجلوس والقيام، لمّا لم نؤمر بمدح فاعله ولا بذمه استحال [وصفها] بأنها حسنة أو قبيحة. الظلم: التعدي. ومعنى ذلك أن يؤمر المكلف فيتعدى ما أمر به. وعلى هذا لا يصلح أن يوصف غير المأمور بظلم، لأنه لم يتعد أمرًا. ولذلك لا يوصف من ليس بمكلف من الحيوان إذا عاث وأفسد بأنه ظالم، لأنه لم يُنْه عن ذلك، ولا توجه إليه أمر بضده. الجائز: يستعمل فيما لا إثم فيه. وحده: ما وافق الشرع. ويستعمل في العقود التي لا تلزم، وحده: ما كان للعاقد فسخه. وقولنا: "فيما لا إثم فيه" إنه جائز معناه أنه ضد الفساد الذي يأثم فاعله. فيقال: يجوز للولي أن يقتص ممن قتل وليه. بمعنى أنه لا يأثم في ذلك إن فعله. ويجوز للرجل أن يبيع الثوب بالثوبين يدًا بيد. بمعنى أنه لا إثم عليه فيه، وأن بيعه هذا شرعي، كما أن قتل المقتص قاتل وليه شرعي. ولو فعله ظلمًا لم يصح أن يوصف بأن قتله جائز لمَّا كان قتله مخالفًا للشرع ومنافيًا له. وكذلك يقال: لا يجوز أن يبيع الرجل درهمًا بدرهمين، لأن ذلك ينافي الشرع ويأثم فاعله. وأما وصفنا ما لا يلزم من العقود أنه عقد جائز كالقراض، الشركة، فإنما وصفناه بذلك لما كان لكل واحد من المتعاقدين فسخه. ولا يوصف بذلك عقد البيع ولا عقد الإجارة، بل يوصف بأنه عقد لازم لما لم يكن لأحد المتعاقدين فسخه. ولو كان لأحد المتعاقدين فسخه، ولم يكن للآخر فسخه كالجعل، لكان جائزًا في حق من له فسخه ولازمًا في حق من ليس له ذلك. واللَّه أعلم. الشرط: ما يعدم الحكم بعدمه، ولا يوجد بوجوده. هذا على ما وصفناه من أن معنى الشرط ما يعدم الحكم بعدمه ولا يوجد بوجوده. ولو كان مما يوجد بوجوده لكان علة للحكم. وهذا في الأحكام الشرعية شبّه بالشروط والعلل في الأحكام العقلية. مثال ذلك: أن الطهارة لما كانت شرطًا في صحة الصلاة، عدمت الصلاة بعدمها، ولم توجد بوجودها فقد تصح الطهارة ولا تصح الصلاة.

الخبر

مثال ذلك من الأحكام العقلية: أن الحياة شرط في صحة وجود العلم، فيستحيل أن يوجد العلم مع عدم الحياة. الخبر: هو الوصف للمُخْبَر عنه. وتوضيح هذا أن كل خبر فهو وصف للمخبَّر عنه، إما بقيام أو قعود أو مشي أو حياة أو موت أو غنى أو فقر أو غير ذلك. وتتبع هذا يبين صحة ما قلناه. فكل وصف للموصوف فهو خبر عنه بما يوصف به، والحدّ إذا اطرد وانعكس ولم ينتقض في أحد الوجهين. حكم بصحته. والكلام على ما حدَّ به سائر المتكلمين الخبر يأتي في نفس الكتاب (¬1) والذي أورد هذا الحد وأثبته من شيوخنا القاضي أبو جعفر السمناني رحمه اللَّه، وهو أصح ما ورد في ذلك. واللَّه أعلم. الصدق: الوصف للمُخْبَر عنه على ما هو به. ومعنى ذلك أن الصدق والكذب من صفات الذي يختص به، فلا يدخل في شيء من أنواع الكلام غيره فكل من وصف شيئًا على ما هو به فهو صادق في خبره، وكل صادق في خبره هو واصف للموصوف على ما هو به، سواء قصد ذلك أو لم يقصده. وكذلك الكذب. قال اللَّه تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: الآية 39]. وقد تقدم الكلام على باقي ما في الحد من الألفاظ. التواتر: كل خبر وقع العلم بمخبره ضرورة من جهة الخبر. لفظة "التواتر" مقتضاها في كلام العرب التتابع والاتصال. فكان هذا الخبر اتصل وتتابع حتى وقع العلم به فمتى بلغ هذا الحد من الاتصال وصف بأنه متواتر، ومتى قصر عنه ولم يبلغه لم يوصف بذلك وإن كان قد تتابع وتواتر. وهذا بحسب عرف تخاطب أهل الجدل وتواطئهم على هذه الألفاظ وما يريدون بها، وذلك سائغ إذا لم يخرج عن لغة العرب على حسب ما بيناه في الكتاب من حكم الأسماء العرفية. وقلنا: "بمخبره ضرورة" يقتضي أن العلم الواقع بالخبر المتواتر علم ضرورة على ما يقوله شيوخ أهل الحق لا علم نظر واستدلال على ما يقوله غيرهم. ¬

_ (¬1) انظر التمهيد ص 160.

المسند

وقلنا: "من جهة الخبر" احتراز ممن أخبر بما يعلمه الإنسان ضرورة فإنه يقع له العلم، لكن ليس من جهة الخبرية. مثل أن يخبرك إنسان أن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان، فإن العلم الضروري يقع لك بما أخبر به، ولكن ليس من جهة خبره، بل من جهة علمك به. فبهذه الخاصية يتميز العلم الواقع بخبر التواتر أنه لا يقع إلا من جهة المخبرين به، ولولا ذلك لم يقع العلم بما أخبروا به. وما قدمناه من الخبر بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان يقع العلم بمخبره ضرورة، سواء أخبر به أو لم يخبر به، ولا تأثير لخبره في شيء من ذلك. واللَّه أعلم. المسند: ما اتصل اسناده. معنى ذلك أن يتصل نقل الرواة له، فيخبر كل واحد منهم بمن نقل إليه، إلى أن يتصل ذلك إلى الصحابي رضي اللَّه عنه الذي نقله عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فإن أخلّ فيه بذكر واحد من رواته، سواء كان الصحابي أو غيره فهو مرسل. ومعنى ذلك أنه قد أهمل فيه ذكر بعض رواته واحد كان أو أكثر من ذلك. الموقوف: ما وقف به على الراوي ولم يبلغ به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومعنى ذلك أنه وقف على الصحابي رضي اللَّه عنه أو غيرة من رواته، فجعل من قوله، ولم يرفع ولا وصل إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بإسناد أو إرسال. وهذه الألفاظ كلها على حسب المواضعة بين أهل الصناعة. وقصرهم لها على هذا النوع مما تحتمله دون سائر محتملاتها. الإجماع: اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة. لفظ الإجماع إذا أطلق في الشرع اقتضى ما ذكرناه، ويقتضي إجماع جماعة على غير ذلك من الآراء والأقوال والأعمال. إلا أن عرف الاستعمال عند الفقهاء جرى على حسب ما قدمناه أولًا، فلا يفسر الحد بغير ذلك مما لا يستعمل فيه عند الفقهاء إلا بقرينة. وهذا الحد على مذهب من يرى أن الإجماع ينعقد بعد الاختلاف. فأما على مذهب من يقول إن موت المخالف وإجماع الباقين بعده لا ينعقد به الإجماع، فلا بد

التقليد

من الزيادة في هذا الحد. فيقال: إجماع علماء العصر في حكم حادثة لم يتقدم فيها خلاف. التقليد: التزام حكم المقلد من غير دليل. ومعنى ذلك أن يلتزم المقلِّد قول المقلَّد شرعًا ودينًا، ويعتقد ما حرمه حرامًا وما أوجبه واجبًا وما أباحه مباحًا من غير دليل يستدل به على شيء من ذلك غير قول من قلّده. ولو صار إليه بدليل، فإنه فرض من لا يحسن النظر والاستدلال، ولا له آلة على حسب ما أثبتناه في الكتاب. الاجتهاد: بذل الوسع في طلب صواب الحكم. وهو على طريق من قال إن الحق في واحد، وأن المكلف إنما كلف طلبه ولم يكلف إدراكه. وأما على قول القاضي أبي بكر "إن كل مجتهد مصيب" فإن الحد يجب أن يقال فيه بذل الوسع في بلوغ حكم الحادثة. وقال محمد بن خويز منداد: إن حده بذل الوسع في بلوغ الغرض. وهذا الحد ليس بحد فقهي على الحقيقة، لأن هذا حكم كل مجتهد في طلب حكم وغيره. ومن أراد إجراءه على ما قدمناه من الحدود الفقهية فالصواب [. . . (¬1)]. الرأي: أعتقاد إدراك صواب الحكم الذي لم ينص عليه. والفرق بينه وبين الاجتهاد أن الاجتهاد معنى طلب الصواب، والرأي معنى إدراك الصواب. ولذلك يقال: إن الرأي المصيب ما رأيت. فلا يعبرون بذلك إلا عن كمال الاجتهاد وإدراك المطلوب. وقال ابن خويز منداد: الرأي استخراج حسن العاقبة. وهذا من نظير الحد الأول في أنه ليس بمقصور على الرأي الفقهي، لأن هذا حكم كل رأي مصيب في الفقه وغيره، على أنه ينتقض بالرأي الفاسد، فإنه رأي ولا يستخرج حسن العاقبة، بل يستخرج به سوء العاقبة. الاستحسان: اختيار القول من غير دليل ولا تقليد. ¬

_ (¬1) يوجد سقط بمقدار ورقة تقريبًا، طالب العلم.

وقد اختلفت تأويلات أصحابنا في الاستحسان، فذهب محمد بن خويز منداد إلى أنه الأخذ بأقوى الدليلين. ومعنى ذلك أن يتعارض دليلان فيأخذ بأقوى الدليلين. ومعنى ذلك أن يتعارض دليلان فيأخذ بأصحهما وأقواهما تعلقًا بالمدلول عليه. وهذا ليس في الاستحسان بسبيل، وإنما هو الأخذ بما ترجح من الدليلين المتعارضين. وقد عبر بعض أصحابنا عنه بأنه معنى تخصيص العام من المعاني. وذلك مثل أن يرد الشرع بالمنع من بيع الرطب بالتمر، ويطرد هذا حيث وجد من بابه، ثم يرد الشرع بجواز بيع ثمرة العرية بخرصها من التمر إلى الجداد. فلا يكون هذا موضع الاستحسان، وإنما هو من باب بناء العام على الخاص، والحكم بالخاص والقضاء به على ما قابله من العام. قال أبو الوليد رضي اللَّه عنه: والذي عندي أن الاستحسان الذي يتكرر ذكره ويكثر على وجهين: أحدهما: ترك القياس والعدول عنه: لما يعتقده القائس في الفرع أنه أضعف في تعلقه بالحكم من الأصل. فيعدل لذلك عن إلحاقه به لمعنى يختص به من علة واقفه تضاد القياس. ولو قوي الفرع قوة الأصل في حكمه لكان قياسه عليه أولى من تعلقه بالعلة الواقفة. ممن تعلق بهذا أو سماه استحسانًا، فهو قياس، والقياس الذي يخالف هذا باطل، وإنما يخالف هذا في العبارة. ومن ذلك أن يرى أن طرد القياس يؤدي إلى غلو ومبالغة في الحكم، ويستحسن في بعض المواضع مخالفة القياس لمعنى يختص به ذلك الوضع من تخفيف أو مقارنة. وهذا كثيرًا ما يستعمله أشهب وأصبغ وابن المواز. وقد قال أشهب في الرجل يشتري سلعة بالخيار فيموت، فيختلف ورثته في الخيار، فيريد بعضهم الإجازة وبعضهم الرد: إن حكمهم أن يجيزوا كلهم أو يردوا. لأن موروثهم لم يكن له إجازة البعض ورد البعض. واستحسن لمن أجاز منهم أن يأخذ حصة من لم يجز. وأما في النظر فليس لهم إلا أن يأخذوا جميعًا أو يردوا جميعًا. وهذا الاستحسان ينفيه نفاة الاستحسان وينكرونه. والواجب فيما لا نص فيه ولا إجماع إتباع مقتضى الأدلة

الذرائع

وما يوجب النظر، واجتناب العدول عنه باستحسان دون دليل يقتضي ذلك الاستحسان. والوجه الثاني: الاستحسان في حكم دون حكم. وهو أن يحكم في مسألة بما يوجب القياس، ويستحسن في مثلها على غير ذلك المحكوم عليه غير ذلك الحكم لمعنى يظهر له في المحكوم له والمحكوم عليه (¬1). والصواب ما بني المذهب عليه من إتباع القياس على مقتضاه وما توجبه أحكام الشرع، وأن لا يُترك شيء من ذلك. فإن القياس منه الصحيح ومنه الفاسد، فإذا لم يمنع من الأخذ به مانع، فهو القياس الصحيح، والأخذ به واجب، ولا يحل استحسانُ تَرْكِه والأخذ بغيره. وإذا منع من الأخذ به مانع من نص كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس هو أولى منه، فإنه قياس فاسد وتركه واجب. وهذا مقتضى القياس. فمن سمى هذا استحسانًا فقد خالف في التسمية دون المعنى. فإذا قلنا إن الاستحسان ترك القياس المتعدي لعلة واقفة أو خاصة، فحده الأخذ بأقوى الدليلين، على حسب ما قاله ابن خويز منداد. وإذا قلنا إنه ترك مقتضى القياس، فحده بما تقدم من أنه اختيار القول من غير دليل ولا تقليد. ومعنى ما يكثر منه مخالفة القياس في موضع مع التزامه والعمل به في غيره. وأكثر مشايخنا على أن هذا مما لا يصح التعلق به. وبه قال الشافعي رضي اللَّه عنه: وذهب إلى الأخذ به من تقدم ذكره من أصحابنا. وبه قال أبو حنيفة رحمه اللَّه وأصحابه، غير أنهم قد تركوا استعماله في المناظرة في زماننا هذا. الذرائع: ما يتوصل به إلى محظور العقود من إبرام عقد أو حله. وذلك مثل أن يريد المكلف بيع دينار بدينارين، فيعلم أنه لا يجوز، فيبيع ديناره بعشرة دراهم، ثم يبيع العشرة الدراهم من بائعها منه بدينارين. فالظاهر أنه لا غرض له في ذلك إلا ليتوصل بالعقدين إلى بيع دينار بدينارين. لا سيما إن اقترن ذلك بأن يرد إليه الدراهم في المجلس أو بالقرب أو غير ذلك من المعاني التي تذكر أن المراد بها بيع دينار بدينارين. ¬

_ (¬1) انظر البهجة شرح التحفة 1/ 181.

القياس

ومن ذلك أن يبيع الرجل الثوب بمائة دينار إلى شهر، ثم يشتريه من مبتاعه بخمسين دينارًا نقدًا. فهذا قد توصل بالبيع والابتياع إلى أن اقترض خمسين دينارًا نقدًا بمائة دينار إلى شهر. ومثل هذا مما لا خفاء به أن ظاهره الفساد، واللَّه أعلم. القياس: حمل أحد المعلومين على الآخر في إثبات حكم أو إسقاطه بأمر يجمع بينهما (¬1). قولنا: "أحد المعلومين على الآخر "استيعاب للحد، لأنّا لو قلنا: "أحد الموجودين على الآخر" لانتقض بقياس المعدوم على المعدوم. ونريد [بـ] "حمل أحد المعلومين على الآخر" حمل الفرع على الأصل. وقولنا: "في إثبات حكم أو إسقاطه" تخصيص للقياس الشرعي المستعمل بين الفقهاء، يتبين أنه تارة يكون لإثبات حكم اتفق على ثبوته في الأصل، فيريد القياس إثبات ذلك الحكم في الفرع بحمله على الأصل. وتارة يكون لإسقاط حكم اتفق على إسقاطه أو انتفائه من الأصل، فيريد إلحاق الفرع به في ذلك. الأصل: -عند الفقهاء-: ما قيس عليه الفرع بصلة مستنبطة منه. ومعنى ذلك أن ما ثبت فيه الحكم باتفاق هو أصل لما اختلف في ثبوته فيه وانتفائه عنه. وذلك مثل قولنا: "النبيذ المسكن حرام، لأنه شراب يدعو كثيره إلى الفجور، فوجب أن يكون قليله حرام. أصل ذلك الخمر. فقلنا إن الخمر أصل هذا القياس للاتفاق على ثبوت هذا الحكم لها، وقلنا إن النبيذ المسكر فرع، لأنه مختلف فيه. ونريد بهذا القياس أن نتوصل إلى إثبات حكمه. فلما كان التحريم ثابتًا في الخمر بأن كثيرها يدعو إلى الفجور، وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: الآية 91]. كانت الخمر محرمة لهذا المعنى. و [لما] كان المعنى موجودًا في النبيذ المسكر، واختلف العلماء في حكمه، كان فرعًا وجب إلحاقه به. [وقولنا: "بصلة مستنبطة منه" نريد من الأصل. ذلك أن القياس لا يصح إلا بعلة تجمع بين الفرع والأصل يدل الدليل على أن الحكم ثبت في الأصل لتلك العلة، ¬

_ (¬1) انظر مفتاح الوصول ص 158.

الفرع

وتكون تلك العلة موجودة في الفرع، فيقتضي ذلك إلحاقه بالأصل. ولو حمل أحد المعلومين على الآخر من غير علة تجمع بينهما على ما يفعله كثير ممن لا يحسن شيئًا من هذا الباب فيقول: "أقيس كذا على كذا، ويعتقد أنه قد قاس، فليس هذا بقياس، ولا يتناوله اسمه على وجه صحة ولا فساد]. الفرع: ما حمل على الأصل بعلة مستنبطة منه. وذلك مثل أن يستدل المالكي على أن حكم البيض حكم الحنطة في تحريم التفاضل. فيحمل الفرع الذي هو البيض على الأصل الذي هو الحنطة بعلة استنباطها من الأصل. وذلك أن علة تحريم التفاضل في الحنطة عنده أنها مقتانة للعيش. فلما كان البيض مقتانًا للعيش غالبًا، ألحقه بالحنطة في تحريم التفاضل. فهذه صفة الفرع، وصفة حمله على الأصل بما استنبط منه من العلة الموجبة لإلحاق البيض به. واللَّه أعلم. الحكم: هو الوصف الثابت للمحكوم فيه. ومعنى ذلك أن المحكوم فيه لا يوصف بأنه حلال أو حرام. فإذا دل الدليل على كونه حلالًا أو حرامًا وصف بذلك، وكان هو حكمه الثابت. وذلك مثل قولنا في الطهارة إنها تفتقر إلى نية، لأنها طهارة تتعدى محل موجبها، فافتقرت إلى النية كالتيمم. فالحكم من هذا القياس هو افتقارها إلى النية، وهو الوصف الثابت لها، فإنها توصف بأنها مفتقرة إلى النية. العلة: هي الوصف الجالب للحكم. ومعنى ذلك أن المعاني المحكوم بها موصوفة بصفات، فما كان منها جالبًا للحكم فهو علة. مثل قولنا في القياس المتقدم أنها طهارة تتعدى محل موجبها هي العلة، وهي الوصف الجالب للحكم "ولها ثبت في الأصل. فلما وجدت في الفرع وجب إلحاقه بها. وما كان من الأوصاف لا يجلب حكمًا فليس بعلة، ولذلك احترزنا في الحد بقولنا: "هي الوصف الجالب للحكم". العلة المتعدية: هي التي تعدت الأصل إلى فرع.

والعلة الواقفة

ومعنى ذلك أن كل حكم ثابت في معنى من المعاني لعلة لا تختص به، بل توجد في غيره، فإن تلك العلة متعدية، لأنها قد تعدت الأصل الذي تثبت فيه إلى فرع أو فروع. مثال ذلك: [التحريم في بيع البر متفاضلًا ثبت لكونه مقتانًا جنسًا عند المالكيين، أو مكيلًا جنسًا عند الحنفيين، أو مطعومًا جنسًا عند الشافعيين. وهذه كلها معان متعدية إلى الأرز والذرة وغير ذلك مما يطول تتبعه، فكانت علته متعدية]. والعلة الواقفة: هي التي لم تتعد الأصل إلى فرع. والعلة الواقفة إذا ثبتت في معنى من المعاني كانت مقصورة عليه، وغير موجودة في سواه. فوصفت لذلك بأنها موقوفة عليه ممنوعة من أن تتعدى إلى سواه. وذلك مثل قولنا في أن بيع الذهب بالذهب متفاضلًا والورق بالورق متفاضلًا حرام، وعلة ذلك أنها أصول الأثمان وقيم المتلفات، وهذه علة معدومة فيما سواهما، فلذلك وصفت بأنها واقفة. المعتل: هو المستدل بالعلة. وهو المعلِّل أيضًا. [لمّا كانت] العلة هي الجالبة للحكم، كان المستدل بها معللًا للحكم وجالبًا له بالعلة. والطرد: وجود الحكم لوجود العلة. [ومعنى الطرد إجراء الحكم على ما رام المستدل إجراءه عليه من إثبات أو نفي. ومثال ذلك قولنا في النبيذ المسكر أنه حرام، لأنه شراب فيه شدَّة مطربة، فإنه حرام]. والعكس: عدم الحكم لعدم العلة. والعكس أن كل سراب ليس فيه شدة مطربة فليس بحرام. يبين ذلك أن العصير قبل أن تحدث فيه الشدة المطربة حلال، فإذا حدثت فيه الشدة المطربة حرم. فإذا زالت عنه الشدة المطربة وتخلل زال التحريم. ولو عادت إليه الشدة المطربة لعاد التحريم.

التأثير

التأثير: زوال الحكم لزوال العلة في موضع ما. وذلك أنّا قد وصفنا العلة بأنها هي الجالبة للحكم. ويوضح هذا عند القائلين بالتأثير أن يعدم الحكم لعدم العلة في موضع من المواضع. ولو عدم الحكم لعدم العلة في كل موضع لكان عكسًا على ما قدمناه. فإذا زال في بعض المواضع بزوالها وثبت في بعض المواضع مع تعذر زوالها، كان ذلك تأثيرًا. بمعنى أن لهذه العلة تأثيرًا في ذلك الحكم، إذ قد يزول في بعض المواضع بزوالها. فإذا وجد بوجودها [و] لم يعدم في موضع من المواضع لعدمها، فقد عدم فيها العكس والتأثير، وذلك مفسد لها عند كثير من أهل القياس. ومنهم من قال إن ذلك لا يفسدها إذا دلَّ على صحتها دليل عند عدم التأثير. وقد بينت ذلك في نفس الكتاب. ومثل ذلك قول المالكيين إن الحلي المتخذ للبس ليس فيه زكاة، لأنه مستعمل للبس في ابتذال مباح، فلم تجب فيه زكاة، أصل ذلك الثياب. فيقول الحنفي: لا تأثير لهذه العلة في الأصل، لأن الثياب لا زكاة فيها، سواء استعملت في ابتذال مباح أو محرم. فيقول المالكي: تأثيره في تقصير الصلاة. فإنها تقصر في السفر المباح، ولا تقصر في السفر المحرم. وليس من شرط الأقيسة الشرعية أن تنعكس، لأن عللها مخالف بعضها بعضًا. ولذلك نقول إن الإحرام عليه يمنع الوطء، والحيض يمنع الوطء، فيقال إن الحائض المحرمة لا يحل وطؤها. ثم قد تزول إحدى العلتين ويبقى التحريم ببقاء العلة الأخرى. النقض: وجود العلة وعدم الحكم. ومعنى ذلك أن يدعي القائس ثبوت الحكم لثبوت علة من العلل، فتوجد العلة مع عدم الحكم، فيكون نقضًا لها، ومبطلًا لدعوى من ادعى أنها جالبة للحكم. مثال ذلك أن يستدل الحنفي على أن النجاسة تزول بغير الماء بأن الخل مزيل للعين والأثر، فوجب أن يطهر المحل النجس. أصل ذلك الماء.

الكسر

فيقول المالكي: هذا ينتقض بالدهن، فإنه يزيل العين والأثر، ومع ذلك فلا يطهر عندكم المحل النجس. فمثل هذا من النقص يبطل القياس ويمنع الاستدلال به. الكسر: وجود معنى العلة مع عدم الحكم. ومعنى ذلك أن الكسر نقض من جهة المعنى مع سلامة اللفظ من النقض. وذلك مثل أن يستدل الحنفي على المسلم يُقتل بالذمي بأن هذا محقون الدم لا على التأبيد، فجاز أن يستحق القتل على المسلم كالمسلم. فيقول له المالكي: لا يمتنع أن يكون محقون الدم ولا يستحق القصاص على المسلم كالمستأمن، فإنه محقون الدم، ولا يقتل به المسلم. ففي مثل هذا يلزم الحنفي أن يفرق في هذا الحكم بين المحقون الدم على التأبيد والمستأمن، وإلا بطل قياسه. القلب: مشاركة الخصم للمستدل في دليله. ومعنى ذلك أن يستدل المستدل على إثبات حكم بقياس يدّعي اختصاصه به، فيقلبه السائل ويطبق عليه ضد ذلك الحكم بتلك العلة مع رده إلى ذلك الأصل. فإذا كان ذلك بجميع أوصاف العلة أثَّر في الدليل ومنع الاستدلال. مثل أن يستدل المالكي على أن الخيار في البيع موروث بأن الموت معنى يزيل التكليف، فوجب أن لا يبطل الخيار كالجنون والإغماء. فيقول الحنفي: أقلب العلة فأقول إن الموت معنى يزيل التكليف، فلم ينتقل الخيار إلى الوارث كالإغماء والجنون. فمثل هذا القلب إذا سلم بطل الدليل. وقد يكون ببعض أوصاف العلة فتكون من باب المعارضة. مثال ذلك أن يستدل المالكي على صحة ضم الذهب والفضة في الزكاة بأنهما مالان زكاتهما ربع العشر لكل حال، فوجب ضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة كالدراهم الصحاح والمكسورة. فيقول الشافعي: أنا أقلب هذه العلة، فأقول: إنهما مالان زكاتهما ربع العشر لكل حال، فلم يصم أحدهما إلى الآخر بالقيمة كالدراهم الصحاح والمكسورة.

المعارضة

فهذا النوع من القلب معارضة، لأن أكثر هذه الأوصاف لا يحتاج القالب إليها. لأنه لو قال مالان فقط لم ينتقض بشيء. واللَّه أعلم بالصواب. المعارضة: مقابلة الخصم للمستدل بمثل دليله أو بما هو أقوى منه. ومعنى ذلك أن يستدل المستدل بدليل، فيسلم السائل صحته ويعارضه بدليل مثله أو أقوى منه ولو عارضه بدليل أضعف من دليله لكان معارضًا من جهة اللغة، لكنها ليست المعارضة التي يريدها أهل الجدل، ويتعلق بها مقاومة الخصم للمستدل أن يقول إني آثرت هذا الدليل لكونه أقوى مما تعلقت به. وأما إذا عارضه بمثل دليله أو بما هو أقوى منه، فلا حجة للمستدل، لأن للسائل أن يقول له إذا تساوى الدليلان فَلِمَ تَعَلَّقْتَ بالدليل الذي استدللت به دون ما يخالفه من الدليل الذي عارضتك به، ويلزم المستدل ترجيح دليله على دليل السائل، وإلا كان منقطعًا. الترجيح: بيان مزية أحد الدليلين على الآخر. ومعنى ذلك أن يستدل المستدل بدليل فيعارضه السائل بمثل دليله، فيلزم المستدل أن يرجح دليله على ما عارضه به المستدل ليصح تعلقه به. ومعنى الترجيح أن يتبين له في علته مزية في وجه من الوجوه يقتضي التعلق بها دون دليل المعارضة. وقد بينّا وجوه ذلك في نفس الكتاب. الانقطاع: عجز أحد المتناظرين عن تصحيح قوله. وقد قال كثير من شيوخنا إن حده العجز عن نصرة الدليل. وهذا ينقطع بانقطاع السائل. فإنه لم يعجز عن نصرة دليل، وإنما عجز عن نصرة ما اعترض به، لا سيما إذا لم يعارض دليل المستدل بدليل آخر. وما قلناه أولى. واللَّه أعلم بالصواب. كمل كتاب الحدود والحمد للَّه حق حمده، وصلواته على محمد نبيه وعبده وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا وذلك في العشر الوسط لجمادى الآخرة عام واحد وثلاثين وستمائة

§1/1