الحجج الباهرة في إفحام الطائفة الكافرة الفاجرة

جلال الدين الدواني

- بسم الله الرحمن الرحيم - الحمد لله محكم أحكام الجمهور بمذاهب السنة، رافض حكم بدعة الرفض بأحكام الكتاب والسنة. والصلوات الطيبات على نبيه محمد أشرف المخلوقات من البشر والملك والجن، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه مصابيح أهل الجنة في الجنة. أما بعد، فإنه لم ظهر دين الإسلام على الأديان كلها تحقيقا لما وعده الله تعالى بقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} وقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ} ونحو ذلك، امتدت إليه الأبصار فأصابته عيون الحساد.

حتى ظهرت هذه الفرقة المعارضة المسماة بالرافضة على رأس المائة الرابعة من خلافة بني العباس، فأحدثت فيه أقوالا. بعضها مبني على الكذب الظاهر. وبعضها مبني على التأويل الفاسد. وبعضها مبني على السخرية والضحك ونحو ذلك. وكان الأولى أن نعاملهم بالإهمال بأن نضرب عنهم الذكر صفحا بعدم الرد عليهم، كمعاملة أعداء الإسلام من أهل الكتاب في بلاد الإسلام، لكون حقيقية الإسلام وبقائه وبطلان اليهودية والنصرانية بقيا قطعيتين. وكذلك مذهب الجمهور ومن خالفه.

ولأنهم تجري عليهم أحكامنا، وتحت أيدينا وسلطاننا، بالخصوص في مشهد علي رضي الله عنه وفي الحلة اللذين هما تحت الرفض.

لكن حيث كان لهم في بعض الأماكن من عراق العرب ظهور وجدال، لترخص أهل العراق وسلاطينهم في الدين، احتجنا إلى الرد عليهم بسؤال من لسؤاله حق من الإخوان. وإني ملتزم أن لا أحتج بالحديث إلا نادرا، لكون متنه مظنونا يجوز للخصم دفع الاحتجاج به بدعواه الكذب له. بل إما أحتج بالقرآن لكونه مقطوع المتن أو بالمعقول المقطوع الدلالة أو بما شاهدته منهم رأي العين، حين ابتليت عندهم بالأسر ومكثت عندهم قريبا من ثماني سنين، وذلك عند سياحتي لطلب العلم.

وعلم الله وكفى به عليما أني لا أستعين في ذلك بكتاب بل بديهة. وإني معتذر إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وإلى مجموع أهل البيت عليهم السلام، بما يوهم التجري به من الحق الذي كان الإغماض عنه أولى، وإن كان الرافضة سببه، وإن كان جائزا كونه حقا. وأهل البيت لا يجزعون من الحق، لأن الله تعالى أجاز بمثله عمن هو أفضل من علي عليه السلام، وهو عيسى عليه السلام حين غالت النصارى به وبأمه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} أي كانا يخرجان لقضاء الحاجة. ورتبته على مقدمة وسبعة فصول. أما المقدمة ففي خلافة الخلفاء قبل علي رضي الله عنه

(إمامة أبي بكر)

(إمامة أبي بكر) أما إمامة أبي بكر رضي الله عنه فالدليل عليها من وجوه. الأول قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه. وإذا ثبت أنه الأتقى ثبت أنه الأكرم عند الله تعالى لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. وحينئذ فيثبت فيه استحقاق التقديم على كل أحد غيره، لكونه دونه بالتقوى والكرامة عند الله تعالى، كما هو مفهوم الآية. الثاني: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}

وهذا الداعي -هو الموعود على طاعته حسن الثواب وعلى مخالفته أليم العقاب- ليس هو النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه عليه الصلاة والسلام مأمورا بنهي المخلفين من الأعراب عن اتباعه بقوله تعالى: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} فامتنع أن يكون هو الداعي. وليس هو عليا رضي الله عنه لأنه لم يقاتل في أيام خلافته الكفار وإنما كان حربه مع المسلمين. فتعين أن يكون الداعي هو الصديق رضي الله عنه، لأنه دعاهم إلى قتال بني حنيفة أهل الردة في اليمامة، وهو أولو بأس شديد، كانوا ثمانين ألفا. ولقوة بأسهم

أشار إليه علي رضي الله عنه بالقعود عنهم فقال: هؤلاء أصحاب شوكة، وهذا أول عسكر يخرج لنا بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، نخاف أن ينكسر فلا يقوم لنا بعده قائم. فما وهن الصديق رضي الله عنه ولا ضعف. ثم جهز العسكر وخرج معه مرحلة حتى تسمّع الناس بخروجه، وأمّر عليهم سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه، فظفر بهم وقتلهم وقتل أميرهم مسيلمة الكذاب

الثالث

ورجع بالغنائم والسبي. ومن سبيهم تسرّى علي رضي الله عنه الحنفية أم ولده محمد، واستقر الإسلام في اليمامة. وكانت تلك أسا لبناء الإسلام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثالث قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ غير جزيرة العرب، وتوفي عليه الصلاة والسلام ولم يظهر دينه على كل الأديان إلا في خلافة الصديق

رضي الله عنه وخلافة صاحبيه بعده رضي الله عنهم، لأنهم أجلسوا ملوك الأديان المخالفة لٌلإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم على التراب وسلبوا ممالكهم وخزائنهم وخلعوا تيجانهم. ومن سلم من سيوفهم ولم يُسلم ضربوا عليه الجزية. واسترقوا الأطفال والنساء، حتى أخذوا شاه زنان -ابنة كسرى الذي كانوا يسمونه الأعاجم شاه شاهان- رقيقة. فتسراها الحسين رضي الله عنه من سبي عمر رضي الله عنه. ولا دليل أظهر من هذا على حقية الخلفاء الثلاثة. إذ الدين الذي سماه الله تعالى بالهدى ودين الحق كان ظهوره على الأديان كلها بإمامتهم.

الرابع

الرابع قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} ومعنى رؤية آيات الله سبحانه في الأفاق، كما نقل صاحب الكشاف، هو انتشار هذا الدين في أقطار. ومعنى رؤيتها في أنفسهم تمليك الضعفاء من المسلمين ممالك الأغنياء من الملوك، وملكوا ممالكهم وهم عرب قرية، يعني أهل مكة. حتى حكم سلمان رضي الله عنه في مملكة كسرى، وهو فارسي غريب مملوك.

والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه في مملكة النعمان بن المنذر، الحيرة وأعمالها. ومعاوية رضي الله عنه في الشام، مملكة هرقل ملك الروم، وهو من صعاليك العرب.

الخامس

وعمرو بن العاص في مصر مملكة فرعون. حتى آل الأمر بعد ذلك إلى أن كان المأمون يقرأ حتى وصل إلى قوله تعالى حكاية عن فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} فصاح بالخصيب، وكان عبدا مولاه علي الوزير أبو المنصاة، فأجابه، قال: وليتك مصرا، استصغارا لما استعظمه عدو الله فرعون. وأمثال ذلك. ولا دليل أبلغ من ذلك على حقية هذا الدين وحقية إمامة الثلاثة، إذ كانوا أصله. الخامس قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ

الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} والمراد بالركوع هاهنا التواضع والخضوع، من قول الشاعر: لا تهن الفقير علك أن تر ... كع يوما والدهر قد رفعه وبذلك فسره صاحب الكشاف، فهو قوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} وفي هذه الآية دليل واضح على إمامة الثلاثة: الصديق وصاحبيه. إذ

شروط الولاية في الآية حاصلة وصالحة لهم؛

لوجود الجُمع وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والخضوع. أما الولاية والجُمع وإقامة الصلاة فظاهر عليهم. وأما إيتاء الزكاة فلا شك أنهم كانوا أصحاب أموال. وأما الخضوع، هو عدم التكبر، فقد ثبت أن الصديق رضي الله عنه كان أرأف الصحابة وألينهم جانبا. وعمر كان يلبس المرقّع، وكان عليه رداء فيه إحدى وعشرون رقعة، واحدة منها قطعة جراب. وكان يحمل الطعام على عاتقه للضعفاء. وكان يعمر القناطر ويحمي القوافل بنفسه وأمثال ذلك. هذا وهو ملك الدنيا ومالك ملوكها بالقهر، وقد طبقت راياته وعساكره الأقطار، وترجف من سطوته ملوك الأرض من غير منازع في إمامته. وعثمان رضي الله عنه كان على مثل ذلك بالسطوة والحكم، وصبر

لقتله ولم يدم من المسلمين مثل محجمة من دم عند حصاره، وقال: لا أكون أول من خلّف محمدا في أمته بالسيف. وهذا دليل متضح على صحة إمامتهم. ادعت الرافضة [لعنهم الله] أن هذه الآية في علي رضي الله عنه خاصة دون غيره. واحتجوا بها أنه رضي الله عنه تصدق بخاتمه على سائل وهو راكع.

ويمتنع ذلك من وجوه: الأول أن الذين {الَّذِينَ آَمَنُوا} لفظ جمع، ويمتنع حمل الجمع على الواحد في لغة العرب. قالوا: للتعظيم. قلنا: التعظيم هاهنا مدفوع لعلي رضي الله عنه، إذ الله ورسوله ذكرا في الآية من غير مقارنة تعظيم، فكيف يذكر التعظيم له دونهما.

الثاني أن الرافضة يدّعون أن عليا رضي الله عنه طلق الدنيا وأنه لا مال له، كان يلبس القصير ويأكل الشعير. والآية فيها ذكر الزكاة، والزكاة لا تكون إلا ممن له مال. فتنافيا. الثالث أن الله مدح الخاشع في الصلاة. وكون إنسان يشغل جوارحه في الصلاة بنزع خاتم وإشارة إلى سائل وقذفه إليه ويشغل قلبه بنية الزكاة ليس من الخشوع. وحاشا أمير المؤمنين من مثل ذلك، إذ هو بحر علم لا يدرك قعره. الرابع أن الزكاة تطلق على صدقة الفرض ولا تكون إلا من الأنفع للمستحق. وأي نفع في قطعة فضة يجوز عليها احتمال الجهالة في القدر والغش في الجنس عن مال مضروب معلوم خالص. وهل نسبة مثل هذا إلى عالم زمانه إلا سفه من الرافضة. الخامس أن الله تعالى وصف الحزب الذي يتولاه هذا الإمام بأن يكون

السادس

غالبا بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ولم يُر غالبا إلا أهل السنة الذين هم أتباع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. والرافضة الذين يزعمون أنهم أتباع علي منذ ظهروا إلى الآن، بل إلى آخر الزمان، لم يزالوا مغلوبين تحت الحكم والقهر. وهذه أدلة راجحة تمنع اختصاص علي بالإمامة دون أصحابه. والله أعلم. السادس قوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} والثلاثة الشروط التي في الآية خطاب للصحابة. وقد حصل للأئمة الثلاث الاستخلاف وتمكين الدين وأبدل الخوف -الذي حصل بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ارتدت أهل اليمامة وتبعت مسيلمة الكذاب- بالأمن. وكان أصل تمكين من تمكن وأمن من أمن فيما بعد خلافتهم.

السابع

السابع قوله تعالى {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} الآية. أجمع المفسرون أن بعض الحديث المسر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لزوجته حفصة بنت عمر: "إن أباك وأبا بكر يليان أمر أمتي من بعدي" وأن البعض المعرض عنه أمر خلافتهما.

الثامن

الثامن أن الله تعالى جعل إثبات الحق بشاهدين عدلين أو بتسليم الخصم. وكلاهما حصل للصديق رضي الله عنه. أما التسليم فعلي رضي الله عنه -على تقدير كونه مدّعي الإمامة- حينئذ لم ينازع. وأما الشهادة فقد شهد للصديق ثمانون ألفا عدول. لأن أولئك صدر

التاسع

الأمة. وقد عدّلهم الله تعالى بأن جعلهم شهودا على الناس وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مزكيا لهم بقوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} فالطاعن في شهادتهم من الرافضة بدعوى التعصب منهم للصديق، فقد رد قوله الله تعالى. وكفى بذلك كفرا وتجرؤا على الله تعالى. وطعن الخصم أو المتعصب له في الشهود لا يسمع، ولا حاصل له على التعصب غير استهزاء الحكم به. التاسع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي عن أمته وهم من الآل والأصحاب مائة وعشرون ألفا، والجميع اتفقوا على إمامة أبي بكر رضي الله عنه، ثمانون ألفا حضروا بيعته، أربعون ألفا كانوا متفرقين في البلاد وقد حضروا بعد البيعة ووافقوا. وصورة الاجتماع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما توفي أنكر عمر رضي الله عنه وفاته وقال: ما ينبغي لمحمد أن يموت، والله ليبعثنه والله ليقطعن أيدي رجال وأرجلهم. وكان أبو بكر غائب في حائط له، فجاء ودخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكشف

عن وجهه فرآه ميتا، فقبله وقال: بأبي طبت حيا وميتا. ثم أنشد شعرا: كنت السواد لناظري ... وعليك يبكي الناظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ثم خرج [إلى] الناس وتلا على عمر قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} فقال عمر: والله لقد كنت أتلوها، وكأنها الآن لم تمر على قلبي. ثم نادى أبو بكر في الناس: ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم باشر غسله علي والعباس

وواحد من الأنصار يفيض الماء عليه. ثم كفن وصلت الناس عليه فرادى.

واختلفوا في موضع دفنه. فقال الصديق: ما من نبي مات إلا دفن موضع موته. فاعتمدوا على ذلك. ثم حُول فراشه الذي مات عليه وحفر قبره موضع الفراش ودفن فيه في حجرة زوجته عائشة رضي الله عنها. ثم بعد دفنه اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليقيموا سيدهم سعد بن عبادة أميرا على الناس.

فجاء أبو بكر وعمر إليهم. فقام خطيبهم فحمد الله وأثنى عليه وقال في خطبته: نحن كتيبة (¬1) الإسلام ونحن آوينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصرناه، ونحن أحق بالإمامة. قال عمر رضي الله عنه: وكنت هيأت مقالة لأقدمها بين يدي أبي بكر، فلما هممت بالكلام منعني أبو بكر فقال: على رسلك يا عمر. ثم تكلم بديهم أحسن ما كنت لفقته، فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله، ولكن الإمامة لا تصل إليكم. فقالوا: منا أمير ومنكم أمير. قال أبو بكر رضي الله عنه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأئمة من قريش». فلم يقم أبو بكر رضي الله عنه من مجلسه حتى بايعه مجموع الأنصار. فوعك ¬

(¬1) في الأصل كنانة

سعد، فقال قائل: قتلتم سعدا، قال عمر: قتله الله. فلم تدر عليه سنة حتى بال في جحر من الأرض فخرج منه سهم رمته الجن به فمات به. وسُمع قائل ينشد شعرا: قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورمينا بسهمين فلم نخطِ فؤاده ثم بعد بيعة الأنصار هرع مجموع من كان حاضرا من الآل والصحب إلى بيعته، وجاء مجموع من كان غائبا وبايع. والجميع انقادوا

(خلافة عمر)

لأمره ونهيه، حتى لو رمى أحدا منهم في النار لطرح نفسه اعتقادا منه لوجوب طاعته. واستمروا له إلى موته من غير معارض ولا منازع. ثم انقادوا بعده أيضا لمنصوصه عمر رضي الله عنه. ثم انقادوا بعد عمر رضي الله عنه لمنصوص منصوصه في الشورى عثمان كما سيجيء. وعلي حاضر رضي الله عنه ولم يدع إمامة لنفسه. ولا شك أن المتفق عليه المتصرف أولى من الساكت المسلّم. ولم يزل الصديق على التمكن مدة أيام خلافته إلى أن مات ودفن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرة ابنته عائشة رضي الله عنها، ولما قربت جنازته من الحجره وكان بابها مقفولا فتح من غير فاتح وسمع فيها صوت: أدخل الحبيب إلى الحبيب. وكانت مدة خلافته سنتين ونصف، ومدة عمره ثلاثا وستين سنة، كعمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. (خلافة عمر) وأما خلافة عمر رضي الله عنه فالدليل عليها أيضا من وجوه:

الأول

الأول قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الآية. الثاني أيضا قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية. الثالث أيضا قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا} الآية. الرابع قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ} الآية. الخامس أيضا الاتفاق من غير منازع وعدم القائل بغيره حينئذ. وكل ما قيل في الآيات الخمس في الصديق فهو له.

السادس

السادس تنصيص الخليفة الأول الذي أثبتنا بالأدلة القاطعة صحة خلافته، وهو الصديق رضي الله عنه، مع انقياد جميع الناس لهذا التنصيص بالسمع والطاعة. ولم يزل كذلك حتى قُتل رضي الله عنه. قتله أبو لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة. وكان سبب قتله أن أبا لؤلؤة كان نصرانيا يحمي لسبي النصارى من الروم وغيرهم إذا وصلوا إلى المدينة، ويحسن إلى الأسارى منهم. ثم إنه جاء إلى عمر يشكو على سيده المغيرة فقال: يا أمير المؤمنين، إن المغيرة ضرب علي كل يوم ثلاثة دراهم وأنا عاجز عنها، فقال: ما تحترف؟ قال: إني نجار أعمل الرحى تدور في الهواء، فقال عمر: ما أرى هذه الضريبة كثيرة عليك مع احترافك هذا. فوجد عليه أكثر من الأول وعزم على

قتله ليريح النصارى أهل دينه، فقال: يا أمير المؤمنين إني إريد أن أعمل لك رحى تدور في الشرق والغرب، فقال: أوعدني العبد! فانصرف وهو عازم على قتله. ثم هيأ له سكينا قبضتها في وسطها وطرفاها محددان. فجاء كعب الأحبار إلى عمر قبل ضربه فقال: يا أمير المؤمنين تهيأ للموت فإنك ميت بعد ثلاث، فقال: وما يدريك؟ قال: وجدت ذلك في التوراة، فقال: أوعمر مذكور في التوراة؟ قال: لا، ولكن نعتك فيها، وصاحب هذا النعت لم يبق من أجله غير ثلاثة أيام، فقال: يا هذا لا أجد فيّ علة، قال: هو كذلك. فلما كان أول الثلاث تخفى أبو لؤلؤة ودخل الجامع مع المصلين ووقف قريبا منه في الصف الذي يليه مغيرا هيئته حتى لا يعرف. فلما ركع ضربه. وكان عمر جهوري الصوت يسمعه آخر صف، فاختفى صوته وأكب الناس على أبي لؤلؤة، فضرب يمينا وشمالا بحدي سكينه التي في يده، فقتل سبعة

غير عمر، فنشر أحد الناس برنسا كان معه وحذفه عليه، فغطى بصره وتكربل به، فقبضوه. قيل إنه قتل نفسه، وقيل بل قتلوه سريعا في المسجد وعمر حي حينئذ، ولم ينتظروا موت عمر حيث كان كافرا. فقال عمر: انظروا من ضربني، فقالوا: أبو لؤلؤة عبد المغيرة. فقال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يد مسلم. ثم أتي إلى عمر بطبيب يختبر جرحه، فسقاه نبيذا فطلع من جوفه.

فقال: أوص يا أمير المؤمنين، إنك ميت. فأوصى بالمسلمين والأنصار وبلزوم الدين والتقوى؛ ثم قال: فاذهبوا إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وسلوها أن أدفن مع صاحبيّ. فلما جاءها الرسول قالت: كنت هيأته لنفسي، وإني اليوم أوثر به أمير المؤمنين. فأعلم بذلك عمر، فقال: ما كان علي أهم من ذلك، ولكن لا تكتفوا بهذا الإذن فإني حي الآن -يعني عين الحي

(خلافة عثمان)

يستحي من الحي- بل إذا مت فمروا بجنازتي على بابها فإن أذنت وإلا ردوني إلى مقابر المسلمين. فلما مُر بجنازته على بابها واستؤذنت له فأذنت ودفن مع صاحبيه إلى جانب أبي بكر رضي الله عنهما. وكانت مدة خلافته عشر سنين، ومدة عمره ثلاثا وستين سنة كعمر صاحبيه. (خلافة عثمان) وأما خلافة عثمان رضي الله عنه فالدليل عليها أيضا من وجوه: وهو ما سبق من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}

وقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ} وقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، فهذه أربعة. والوجه الخامس تنصيص عبد الرحمن بن عوف الحكم في قصة الشورى.

وذلك لما ضرب عمر رضي الله عنه قيل له: يا أمير المؤمنين استخلف. قال: إن أترك الاستخلاف فقد تركه من هو خير مني -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يستخلف أحدا- وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر، فإنه استخلف عمر- وإن كانت شرا فقد كفانا ما حملنا منها، بل الأمر في هذه الستة الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راض عنهم. عدّ عليا وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف

وسعيد بن زيد بن الخطاب، لكن أخرجه عمر منهم لكونه ابن عمه. وقال: يحضره عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء، فمن ارتضت الأمة من هذه الستة كان حاكما. فلما دفن عمر امتدت الرقاب إلى الستة تريد الإمامة لها. فقال عبد الرحمن: الأمر يطول بين ستة، أيكم ينزل عن حقه فيجعله لصاحبه حتى يقرب الاختيار؟

فقال الزبير: جعلت حقي لعلي. وقال طلحة: جعلت حقي لعثمان. وقال سعد: جعلت حقي لعبد الرحمن. فقال عبد الرحمن: صار الأمر لثلاثة، فأيكم ينزل عن حقه لصاحبه تقريبا للأمر حتى يبقى في اثنين نختار واحدا منهما؟ فأمسك الشيخان، يعني عليا وعثمان. فقال عبد الرحمن: أنزل لكما وتحكّماني في أمركما ولكما الله علي أن لا آل الأمر عن أفضلكما؟ فقالا: حكمناك. فقال: حقي لكما.

ثم صبر ثلاثة أيام يشاور الناس ليلا ونهارا، والأبصار والرقاب ممتدة إليه، لا يوطأ عقب علي ولا يوطأ عقب عثمان، بل عاكفون عليه ومترددون إليه. ثم إن الناس في اليوم الثالث اجتمعوا في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظرون وينتظرون ما يحكم به عبد الرحمن. ثم إن عبد الرحمن خطب الناس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عثمان، آلله عليك إن أمّرتك لتعدلن وإن أمرت عليك لتسمعن وتطيعن؟ فقال: الله علي. فقال: يا عثمان مد يدك لأبايعك. ثم التفت إلى علي وقال: يا علي لا تجعل لنفسك عليها سبيلا، فإني والله منذ ثلاثة أيام أشاور الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان أحدا. فبايع عثمانَ

وانقاد الناس إليه انقيادهم لصاحبيه. حتى جاء أهل مصر وشكوا عنده عبد الله [بن سعد] بن أبي سرح، وكان حاكما عليهم من قبل عثمان، وهو أخ لعثمان رضي الله عنه من الرضاع، فقال: ما يريضيكم؟ قالوا: اعزله.

قال: عزلته عنكم، من تختارون أولي عليكم؟ قالوا: محمد بن أبي بكر. فولاه ونفذه معهم. وسيّر معه جمعا من الصحابة. وخرجوا متوجهين إلى مصر. فبينا هم على نحو مرحلة من المدينة إذا بشبح يلوح على بعد، فركبت الخيل إليه، إذا هو عبد لعثمان. فقالوا: أين تريد؟ قال: أريد حاكم مصر، قالوا: هو عندنا. فلما جاءوا به إليه ورآه قال: لا أريد هذا، أريد الأمير الذي بمصر. ففتشوه إذا معه إداوة فيها كتاب. فكسروا الإداوة، إذا فيها مكتوب: من عثمان، عليه ختم عثمان، إلى عبد الله بن [أبي] سرح، إذا وصل إليك محمد بن أبي بكر ومن معه اقتل الجميع واستمر على حكمك. قالوا: أمير المؤمنين يسعى في قتل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فرجعوا وذكروا لعثمان، فأنكر وحلف.

فقالوا: لا نقبل لك هذه العثرة، عبدك وبعيرك وخاتمك، إن كنت بريئا فالغريم مروان، أخرجه إلينا. وكان مروان كاتبا له والخاتم عنده. فقال: لا أخرجه إليكم، إن أخرجته تقتلنه قبل أن يثبت عليه شيء.

فتغلظ الأمر. وجاء أهل مصر في أربع فرق عليها أربعة أمراء، عبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر الليثي وسودان بن حمران،

والمقدم على الكل الغافقي بن حرب. وكانوا ستمائة. وقيل ألفا. وقيل ألفين.

وأهل الكوفة في أربع فرق، عليهم زيد بن صوحان العبدي ومالك الأشتر النخعي وزياد بن نضر الحارثي وعبد الله بن [الأصم]. وعددهم كعدد الأول.

وأهل البصرة أربع فرق، عليهم حكيم بن جبلة العبدي وذريح بن عباد العبدي وبشر بن شريح بن الحكم و [ابن محرش] بن عمرو الحنفي. وعددهم كعدد الأول. فأهل مصر يشتهون عليا أميرا. وأهل البصرة يشتهون طلحة. وأهل الكوفة يشتهون الزبير.

وجاءت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - على بغلة لها. فضربوا وجه بغلتها فسقطت، فأخذوها وذهبوا بها إلى بيتها. وتجهزت عائشة رضي الله عنها خارجة للحج هاربة من المدينة خائفة من انتشار الشر إليها. فجاءها مروان متخفيا فقال: يا أم المؤمنين لو تقفين لمراقبة عثمان حتى تنفك الفتنة. فقالت: أتريدون أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة؟ وخرجت. ورأى عثمان ليلة قتله النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "يا عثمان الليلة فطورك عندنا".

واشتد الحصار عليه. فسأل الصحابة عثمان الخروج للجهاد فقال: يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار. ودخل عليه علي رضي الله عنه وهو مقلد بسيفه فقال: يا أمير المؤمنين، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر، وإن في الباب فئة منصورة، مرنا فلنقاتل. فقال عثمان: الله الله في من رمى بسببي مثل محجمة من دم. فخرج علي وهو يقول: اللهم إنك تعلم أن منا المعذور. فهرعت الناس إليه للصلاة فقال: لا أصلي بكم والإمام محصور. ودخل عليه أبو هريرة يستأذنه في القتال، قال: فأقسم أن ألقي سيفي، فألقيته، والله لا أعلم من أخذه.

ودخل عليه المغيرة بن شعبة فقال: إن القوم قاتلوك وإني مشير عليك بأحد ثلاثة أمور، فقال: ما هي؟ قال: أفتح لك بابا تخرج به إلى حرم مكة. قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يلحد بالحرم رجل عليه نصف عذاب أهل النار»، ولا أكون ذلك الرجل إن شاء الله تعالى. قال: تخرج إلى الشام فإن بها معاوية ينصرك. قال: المدينة دار هجرتي ولا أفارق دار هجرتي. قال: اخرج نقاتل هؤلاء. قال: لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف. وقال لعبيده: من أغمد سيفه فهو حر. وبعث إلى علي يطلب الماء. فنفذ إليه ثلاث قرب مملوءة ماء والحسن معها. فرمى القوم بالسهام، فقطعت منها قربتين، وأصاب الحسن سهم فأدمى وجهه.

فلما رأى محمد بن أبي بكر وجه الحسن داميا قال لأصحابه: فات الأمر الذي تبغونه، الساعة بنو هاشم يرون وجه الحسن داميا فيرفعونكم عن غرضكم ويهزمونكم. فأخذ منهم الغافقي وسودان بن حمران، وتسلقوا عليه من دار من دور الأنصار كانت في جواره، ودخلوا عليه من غير علم أحد بهم، وما عنده غير زوجته، فصاحت زوجته فلم يسمعها أحد. فجذب محمد بن أبي بكر بلحيته حتى سمع وقع أضراسه، فقال عثمان: لقد أخذت مأخذا ما كان أبوك ليأخذه. فخرج وقال: إني بريء من قتل عثمان.

وضربه الغافقي بحديدة على ركبته، وضرب المصحف برجله. وجاء سودان بن حمران ليضربه بالسيف، فأكبت عليه زوجته نائلة بنت الفرافصة فأصابها بالسيف في يدها، فنحاها عنه، وضرب عثمان فقتله. أما صاحب العصا فإن الأكلة وقعت في رقبته حتى أكلت جميع بدنه. وأما صاحب السيف فقتل بالسيف.

وأما محمد بن أبي بكر فأدخل في مصر في بطن حمار وأحرق هو والحمار. ثم إن القوم ندموا على قتله. وقيل ندمهم لعلي فقال علي: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} الآية. وقال سعد: أولئك {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} كانت مدة حصاره اثنين وعشرين يوما. وقيل قتل بين عصر ليلة الجمعة ومغربها، ودفن بين مغربها وعشائها.

وهرعت الناس إلى علي يطلبون أميرا، فقال: ليس ذلك إليكم، ذاك إلى أهل بدر، أمّروا غيري فإني أكون وزيرا لكم خيرا من أن أكون أميرا عليكم. وخرج إلى باب عثمان، فلقي طلحة والزبير فغلظ لهما وقال: يُقتل أمير المؤمنين وأنتم ممسكون عنه؟ فقالا: لو أخرج إليهم مروان ما قتلوه. ولقي ابن طلحة وابن الزبير كانا في الباب، فانتهرهما، ولطم ابنيه

الحسن والحسين، أحدهما على صدره والآخر على وجهه. فاعتذر جميع من كان في الباب لحراسته أن لا علم لنا بقتله. والقاعدون عنهم من الصحابة بعضهم لتخذيله وبعضهم غيظا عليه حيث لم يُخرج مروان. وكان مدة خلافته اثنتي عشرة سنة، وعمره خمس وثمانون سنة. ودفن في البقيع.

(إمامة علي)

وبويع علي. وأرسل إلى طلحة والزبير للبيعة فتقاعدا. فسلّ مالك الأشتر سيفه وقال لطلحة: والله لتبايعن أو لأضربن به ما بين عينيك. والمتأهلون للإمامة من أهل الشورى بايعوا مكرهين. قال سعد: بايعته واللحى علي. فقال: والله ما هو أحق بها مني بقميصي هذا. (إمامة علي) وأما إمامة علي رضي الله عنه فلم يكن لها سبب غير البيعة. ولم يكن الإجماع عليه من كل الأمة، بل كانت الناس معه على ثلاثة أقسام:

قسم له، وقسم عليه،

وقسم لا له ولا عليه. ثم إن عائشة رضي الله عنها كانت في الحج. فلما قدمت وجدت عثمان

قد قتل، قالت: مصيتموه كما يمص الثوب ثم درتم فقتلتموه. وضربت مخيمها خارجا عن المدينة وقالت: لا أدخل بلدا يقام فيه على أمير المسلمين فيقتل بغير ثبوت حق إلا أن يقتل علي غرماء عثمان. فقال علي: هذا ابتداء أمري، لا أوقع فيه الدماء. وكان المتفق على قتل عثمان مع سوادهم نحوا من عشرين ألفا قد

التموا إلى جملة عسكر علي داخلين فيه. فلما امتنع من قتلهم رحلت تريد البصرة ساخطة من علي، فخرج معها معظم الصحابة تعظيما لها وطلبا لإرضائها. فلم يتحمل علي رضي الله عنه لسخطها ومفارقتها المدينة. فاستشار الحسن للخروج وارءها فأشار إليه أن لا يخرج، قال له: إن المدينة دار الهجرة والخلفاء قبلك لم يفارقوها فاستقام أمرهم. فلم يقبل شوره. وخرج بعسكره لإرضائها. فلم تزل ترحل ويرحل وتنزل وينزل ويتراسلان، وهي تأبى على الرجوع إلا بتعجيل قتل الغرماء وهو يأبى إلا التأخير،

حتى نزل البصرة. فلم ير علي بدا من إجابتها إلى ما تريد، فاتفق معها على قتلهم من الغد. فعرف الغرماء جمع أمرهم على قتل قتلة عثمان، فأجمعوا أمرهم على إيقاع الفتنة وبيتوا ذلك الرأي. فلما كان الغد ركبوا حاملين على عسكر عائشة رضي الله عنها، فرأى طلحة والزبير ومن كان عارفا بالاتفاق حمل طرف من عسكر علي عليهم، قالوا: غدر علي -وكان الاتفاق دخلا- فحملوا دفعا عن أنفسهم. فرأى ذلك علي فقال: كان اتفاق عائشة وطلحة والزبير دخلا، فحمل دفعا عن نفسه. والتحم العسكران ووقعت الفتنة بغير قصد أحد منهم.

ورأى الزبير عليا في لجة الحرب فحمل عليه، وكان علي رضي الله عنه يعرف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بشر قاتل ابن صفية بالنار» فكف علي يده عنه، فلم يزل الزبير حتى خط الرمح في ترقوة علي، فلما رأى عليا لم يرفع يده عليه بل صرف الرمح عنه فقال له علي: أنسيت يا زبير قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لك: "ستحاربه وأنت له ظالم" فلما سمع الزبير ذلك وتذكره حطم رمحه ورجع موليا. فتبعوه فقتلوه. وجرح طلحة في فخذه، فراح إلى وادي السباع، فتبعوه وقتلوه.

فلما قتل طلحة والزبير وهن أصحاب عائشة، وعقر جملها، وكانت في هودجها فبرك، وتباركت الناس عنده وجندلت الأبطال وتطايرت الكفوف دفعا عنها. وعظم على الناس وعلى علي أمرها لكونها واجب أن لا تسأل حاجة إلا من وراء حجاب، وهي حينئذ يطوف بها أعداؤها كالمسبية. فلما رأى علي ذلك وفات الأمر من يده كشف الناس عن الجمل وضرب عليه القبة. واستدعى بأخيها محمد بن أبي بكر فقال: أنت محرمها وما لأحد غيرك حد أن يقرب منها.

فمضى وحط يده على كتفها فقالت: يد من هذه حرقها الله بالنار، قال: يا أختاه نار الدنيا. وكان عاقتبه كما ذكرنا أنه شق بطن حمار وأدخل فيه وأحرق هو والحمار في مصر. ثم جاء غريم الزبير إلى علي فقال: قتلت الزبير. فقال علي: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بشر قاتل ابن صفية بالنار» فقال: إن قاتلناك قلت أنتم في النار، وإن قاتلنا لك قلت أنتم في النار. ثم اتكأ على سنان رمحه فقتل نفسه. ثم بعد ذلك قعد علي وعائشة وبكيا ندما على ما وقع بينهما. والتم الباقي من العسكرين ورجعوا إلى المدينة.

ثم إن عليا رضي الله عنه لما رجع إلى المدينة استدعى ابنه الحسن واستشاره في عزل معاوية، فلم يشر به. وكان معاوية أميرا على الشام من قبل عثمان ورعيته راضون عنه. فأبى علي إلا عزله. فقال له: إن تكن لم تسمع شوري ولا بد أن تعزله فلا تعجل وابعث له حكما وتوليه على الشام حتى ينقاد لإمامتك ويستقر عقدك وعهدك في عنقه وذمامه بحيث لم يعد يمكنه المخالفة، ثم اعزله، وإن فعلت غير ذلك تتعب. فأبى علي إلا عزل معاوية، فكتب إليه: "من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد فإذا وصل إليك كتابي فأنت معزول". فلما وصل الكتاب إلى معاوية استدعى عمرو بن العاص ودفع إليه الكتاب، فلما قرأه وفهم ما فيه قال: اكتب إليه: "من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب، أما بعد فمن الذي ارتضاك وجعلك أمير المؤمنين حتى يصل عزلك إلي". فلما وصل الجواب إلى علي استدعى الحسن ودفعه إليه. فلما قرأه قال: هذا ما حذرتك منه، خذ الآن من معاوية ومن أهل الشام ما تكره.

وامتد الشر والنزاع بينهما حتى قتل في صفين سبعون ألفا، خمسة وعشرون من أصحاب علي وخمسة وأربعون من أصحاب معاوية. فلما طال الشر بينهما أجمع رأي العسكرين على تحكيم حكمين يتفقان على عزل واحد منهما ويحكم الآخر. فاختار علي من أصحابه أبا موسى الأشعري.

واختار معاوية عمرو بن العاص. فخرج الحكمان من العسكرين إلى خلاء لا أحد فيه غيرهما. وكانت الدهاة من العرب حينئذ خمسة: عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وأبو الأسود الدؤلي والمغيرة بن شعبة وإياس بن معاوية. واختار معاوية عمرو بن العاص.

فدعا عمرو أبا موسى قبل الخوض في بحث النصب والعزل فقال: يا أبا موسى ادن مني لأسارك. فقرب منه ولقاه أذنه، فقوي عزمه على كلامه. (¬1) فقال عمرو: يا أبا موسى، ما تقول في هذين الاثنين؟ فقال أبو موسى: بل قل أنت. فقال: أنت أكبر مني عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعند كل أحد، ولا يجوز لي أن أتقدمك. قال: لا بأس في ذلك نحن وحدنا فقل. قال عمرو: إني أرى الإسلام والمسلمين وهنوا بين هذين الاثنين -يعني عليا ومعاوية- كان السيف في أيام الخلفاء قبلها مغمودا عن المسلمين مشهورا على الكافرين، وفي أيام هذين انعكس الأمر، إلا أن معاوية أحلم من علي وأعرف بأمور الخلافة، وقد تولى الشام من الخلفاء والناس عنه راضون، وهو ابن أبي سفيان عم النبي عليه السلام، فإن كان علي صاهره وسبقه إلى الإسلام فمعاوية أسلم هو ووالده، ووالد علي مات كافرا، وكان معاوية كاتب وحيه، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اهد قلبه"، وإني أرى خلع علي من الخلافة وإثباتها في معاوية أو في ¬

(¬1) في طبعة الجناحي هنا: " فامتحن عمرو أبا موسى قبل الخوض في بحث النصب والعزل ليعلم فيه غرة أم لا، فقال: يا أبا موسى ادن مني لأسارك. فلم يقل: نحن في موضع خالي لا معنى للإسرار فيه بل قرب منه ولقاه أذنه، فقوي عزمه على خداعه"

عبد الله بن عباس ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال أبو موسى: هذا هو الرأي. ومال قلب أبي موسى إلى ابن عباس وقلب عمرو إلى معاوية رضي الله عنهم. فرجعوا ووقفوا بين الصفين. وامتدت إليهم العيون والرقاب، وما أحد ملتفتا لا إلى علي ولا إلى معاوية. فقال أبو موسى: يا عمرو تقدم وتكلم. فقال: حاشا لله، أنت كبيري ومخدومي، إن أتقدمك في الخلاء فلا يسعني أن أتقدمك في الملإ.

فتقدم أبو موسى وخطب، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني أرى الإسلام قد وهن والمسلمين قد نقهوا بين علي ومعاوية، كان السيف في أيام الخلفاء قبلهم مشهورا على الكفار مغمودا عن أهل القبلة، وبين هذين انعكس الأمر، أشهدكم علي أن عزلت عليا ومعاوية عن الخلافة وأثبتها في ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عباس. ثم قعد. فقام عمرو بن العاص وقال بعد حمد الله والثناء عليه: أشهدكم علي أن عزلت عليا عن الخلافة كما عزله صاحبه وأثبتها في معاوية. (¬1) ¬

(¬1) في طبعة الجناحي: "فقال أبو موسى: كذبت؛ ما على هذا كان الاتفاق، أنت كالحمار يحمل أسفارا. قال: بل أنت كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهت" وليست الزيادة في طبعة عبد الله منيب.

وقفل العسكران على ذلك، معاوية إلى الشام ينادى أمير المؤمنين، وعلي إلى العراق على الندم والشقاق من أصحابه. وحينئذ انفرد الخوارج عنه وفارقوا عسكره وقالوا: أنت على حكم

المخلوق والله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فإن أشهدت عليك بالتوبة وإلا لم نعد إليك. فقال علي: حاشا لله اعتراف بمعصية بعد طاعة. فبعث إليهم عبد الله بن عباس وناظرهم. فقال علي: لي أسوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه نزل بني قريظة على حكم سعد

بن معاذ وقتلهم بحكمه. فلم يلتفتوا إلى ذلك. واشتغل علي بقتالهم. وترك قتال معاوية. وكان حرب النهروان حربا مشهورا. فلما طال ذلك الأمر بينهم اجتمع ثلاثة من الخوارج: البرك بن عبد الله

وعمرو بن بكر التميمي وعبد الرحمن بن ملجم، ودار بينهم أن الإسلام والمسلمين قد وهنا بين هذه الثلاثة علي ومعاوية وعمرو بن العاص، ينبغي أن كلا منا يتقبل بواحد منه يقتله ويتقرب إلى الله ويريح المسلمين. فتقبل عمرو بن بكر التميمي بقتل عمرو، وتقبل البرك بن عبد الله بقتل معاوية، وتقبل ابن ملجم بقتل علي رضي الله عنه.

وكان ابن ملجم نكح قطام من الخوارج، فشرطت عليه ثلاثة آلاف دينار وقينة ومهرا وقتل علي، فتقبل بقتل علي. وفي ذلك قال الشاعر: ولم أر مهرا ساقه متزوج ... كمثل قطام من فصيح وأعجم ثلاثة آلاف ومهر وقينة ... وقتل علي بالحسام المجذم ثم تواعدوا إلى ليلة تاسع عشرة من شهر رمضان، كل يروح إلى صاحبه يقتله بها. فصاحب عمرو راح إلى مصر، فلم يخرج عمرو إلى الصلاة بل

أخرج مكانه واحدا غيره فقتل. ومعاوية خرج تلك الليلة إلى الصلاة فضربه صاحبه على إليتيه فقدّها بالسيف أربع قطع، فلم يمت بتلك الضربة بل استدعى الطبيب ليلمها له، فقال: هذه لا تلحم إلا بالنار، فقال معاوية: لا طاقة لي بالنار. فداواها حتى اندملت، وهي أربع فلذ على حالها. وكان بعد ذلك يسمى معاوية أبا الألايا. وابن ملجم راح إلى الكوفة فضرب عليا تلك الليلة ضربة كان فيها قتله. وقبض ابن ملجم إلى حين موت علي ثم قتلوه. وكانت مدة خلافته خمس سنين، وعمره ثلاثا وستين سنة، كعمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

ودفن موضع قتله في مسجد الكوفة بين قصر الإمارة وبين القبلة، متشبها بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه جعل قبره موضع فراشه الذي مات عليه. وكذلك سائر الأنبياء تكون قبورهم كما نقل.

الفصل الأول في رد حججهم وفي جواب إمامة علي رضي الله عنه دون من تقدمه من الثلاثة

الفصل الأول في رد حججهم وفي جواب إمامة علي رضي الله عنه دون من تقدمه من الثلاثة احتجت الرافضة على إمامة علي من وجوه (الاحتجاج بآية إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) الأول: قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا} الآية. وقد عرف رد قولهم بها للوجوه المقدم ذكرها من كون الآية للجمع وعلي واحد، وذكر الزكاة وعلي حينئذ لا مال له، ومن عدم الخشوع فعل الزكاة في الصلاة، ومن إخراج خاتم في الصلاة عن زكاة مال، ومن كون الرافضة حزبا مغلوبا. (الاحتجاج بآية وأنفسنا وأنفسكم) الثاني قوله تعالى: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} ادعوا أن عليا نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -

(الاحتجاج بحديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى)

حين أتى بنفسه وبه عند المباهلة. قلنا: لا معارضة في أن قرابة الإنسان نفسه، وجميع إخوة علي والعباس وأولاده كذلك، ولا قيل بإمامة واحد منهم. وقد قال الله تعالى لمجموع قريش: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} فتخصيص علي لذلك بالإمامة دونهم تحكم. مع أن لا دلالة في مثل ذلك على الإمامة. (الاحتجاج بحديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى) الثالث قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»

قلنا: لا دليل فيها على إمامة علي من وجوه أيضا: الأول إنما قيل تسلية لعلي، لا تنصيصا عليه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى تبوك لم يترك في المدينة رجلا يصلح للحرب ولم يترك غير النساء والصبيان والضعفاء، فاستخلف عليا عليهم. فطعنت المنافقون في علي فقالوا: ما تركه إلا لشيء يكرهه منه. فخرج إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - باكيا، فقال: أتذرني مع النساء والصبيان؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تسلية: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى». وقد استخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم على المدينة إحدى عشرة مرة، وهو أعمى لا يصلح للإمامة. الثاني: أن في هذا الحديث دلالة على عدم استحقاق علي للإمامة لأن

هارون مات قبل موسى، ولم يكن له بعد موسى أمر، فيلزم الرافضة أن يقولوا: ليس لعلي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر. الثالث أن الرافضة لو عقلت ما ذكروا هذا الحديث حجة على استخلاف علي، لأنه شبهه بهارون في الاستخلاف، ولم يحصل من استخلاف هارون إلا الفتنة العظيمة والفساد الكبير بعبادة بني إسرائيل العجل، حتى أخذ موسى برأس أخيه يجره إليه. وكذلك حصل من استخلاف علي أيضا لما عرفت من قتل المسلمين يوم الجمل وفي صفين، ووهن الإسلام حتى طمعت فيه الأعداء. ولم يكن لوم على علي رضي الله عنه في ذلك لكونه صاحب الحق. لكن لو لم يكن في خلافته مثله لكان أولى.

(الاحتجاج بحديث من كنت مولاه فعلي مولاه)

(الاحتجاج بحديث من كنت مولاه فعلي مولاه) الرابع: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

قلنا: لا دلالة في هذا على إمامة علي، لأنه جاء بسبب نزاع زيد بن حارثة عبد النبي - صلى الله عليه وسلم - مع علي حين قال له: أتنازعني وأنا مولاك. فشكى زيد ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كنت مولاه فعلي مولاه». ولا شك أن أقارب الإنسان موالي عتيقه. وقد يراد بالمولى الناصر. ولا دلالة فيه أيضا على الإمامة. فالمولى لفظ مشترك بين المعتق والعتيق والناصر. وإن كان فلا دلالة فيه

(دعوى الوصية لعلي)

على الخلافة. ولم يأت لفظ المولى للحكم. فبطل الاستدلال به على الإمامة. (دعوى الوصية لعلي) الخامس: دعوى الرافضة بالوصية لعلي رضي الله عنه. قالوا ذلك في موضعين: أحدها في كتب السنة. ذكره الفراء في تفسيره المسمى بمعالم التنزيل عند قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: قال علي رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أجمع بني عبد المطلب فجمعتهم وهم حينئذ أربعون رجلا يزيدون واحدا أو ينقصونه. فقال لهم بعد أن أضافهم برجل شاة وبعس من لبن، شبعا وريا، وإن كان أحدهم ليأكله ويشربه: "يا بني عبد المطلب، إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني عليه فيكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا؟ "

فقاموا يضحكون وقالوا لأبي طالب: أمرك أن تسمع لابنك وتطيعه. قلنا: الجواب عن ذلك من وجوه: الأول: أن يقال هذه الرواية مكذوبة عن علي. والدليل عليه أن هذه الآية، أي {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمجرد الإنذار

الخاص لمجموع أقرباء عشيرته، ولم يؤمر بطلب مؤازرة واحد منهم أو إنذاره. فكيف يخص بها واحدا منهم دون الباقين. الثاني: أن الإيصاء والاستخلاف على ناس لا يكون إلا بعد الانقياد والطاعة منهم، وهم حينئذ على خلاف ذلك، فكيف يستحسن من أكمل الناس رأيا فعله. الثالث: أن من يتحقق من واحد رد حكمه عليه وهو أصل، فكيف يجعل تابعه حاكما عليه ويأمره بالسمع والطاعة، وهل ذلك إلا سفه، كالمثل المضروب بين الناس، وهو: من قال لآخر أعطني دينارين بعلامة ما طلب أستاذي منك فلسا ما أعطيته. الرابع أن صاحب المعالم ذكر عنه في تفسير هذه الآية أربع روايات، واحدة عن علي رضي الله عنه وفيها ما ذكرتم من الوصية والاستخلاف، والثلاث الأخر عن غيره، اثنتان عن ابن عباس

عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأخرى عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وليس في الثلاث شيء مما روي عن علي رضي الله عنه. فروايته معارضة بهن. الخامس أن الروايات المذكورة عن غير علي مقدمة راجحة على الرويات المذكورة عنه، لأن الآية آمرة بالإنذار، والثلاثة منذرة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". والرواية عن علي رضي الله عنه مبشرة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بني عبد المطلب قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة"، وبقوله: "أيكم يوازرني عليه فيكون خليفتي". والثلاث مطابقة مقصود الآية، وهذه مضادة وضعيفة. السادس أن صاحب المعالم لم يسند الرواية عن علي رضي الله عنه إلى نقله بأن يقول أخبرنا ونحوه، بل نسبها إلى نقل غيره غير متصل به. قال: "روى محمد بن إسحاق".

ونسب الثلاث المعارضة لها إليه: "أخبرنا عبد الواحد المليحي". فوجب العمل بهن دون تلك. ولم يقم علينا بها حجة، لأنها جاءت مجيء النقل من المكتوب طريق التواريخ والحكايات، ومحمد بن إسحاق الناقل معروف بذلك. فسقط الاحتجاج بها. فإن قيل: كيف نقلها هذا العالم منكم -يعني صاحب المعالم- وهو يعرف أنها غير صحيحة؟ قلت: نقلها ونقل ما يعارضها حتى [يتبين] الزيف من الخالص فيسقط احتجاج الغير بها، فلا بأس عليه في ذلك، إذ هو دأب العلماء في محل

الخصام. وأيضا ذكر الروايات الضعيفة والموضوعة هو دأب المفسرين الكبار. ألا ترى ما أورده البيضاوي من الأحاديث الموضوعة في أواخر السور وفي سورة هل أتى وغيرها. السابع أن الرافضة يدعون أن عليا رضي الله عنه لم يزل مسلما. والذي تدل عليه الرواية عنه أن النبي رضي الله عنه إنما طلب المؤازرة من أقاربه الكفار. فما معنى جواب علي رضي الله عنه وهو ليس منهم في الاعتقاد ولم يتناوله الطلب ولا الخطاب. الثامن أن عليا رضي الله عنه كان قد أسلم وآمن قبل ذلك، وهو المأمور بجمع الكفار من بني عبد المطلب على حسب روايته. والرافضة يدعونه أبلغ البلغاء. ومقالته هذه لا تطابق هذا المقام. وحاشا مثله. وهو بليغ في مثلها.

التاسع أن الخطاب بطلب المؤازرة المرتب عليه الوصية والاستخلاف المذكوران إنما كان للكفار. وحينئذ فلا يستقيم للرافضة حجة بذلك إلا إذا زعموا أن عليها كان حينئذ على مثل ما هم عليه. وحاشاه من مثل ذلك اتفاقا. فبطل الاحتجاج. العاشر أن من شروط الوصية والاستخلاف الجزم بهما. وتعليق استحقاقهما بوجود شيء ينافي ذلك. الحادي عشر: أن الوصية والاستخلاف يكونان لمعين مقطوع به اتفاقا. وطلبه من واحد من جماعة متعلق بصفة واحدة توجد به يوجب الجهالة. فتعين البطلان به. الثاني عشر أن الخطاب بالصفة هو لواحد يكون فيه. فلو وجدت من اثنين أو أكثر دفعة واحدة أو مرتبا وقع الشقاق. فاستحال. الثالث عشر أن من شروط الموصي والمستخلف العلم بما ينص عليه بهما. وطلبه من جماعة بصفة محمول على جهالة الموصي والمستخلف به. فتنافيا. الرابع عشر أن الاستخلاف لا يكون إلا لبالغ، وعلي رضي الله عنه كان صبيا، والصبي محجور من مثله فامتنع. الخامس عشر أن عليا رضي الله عنه كان صبيا ولم يكن أحد أبويه مسلما حتى يحكم بإسلامه تبعا لأصله، ولم يكن إسلامه إلا باعتقاده وإقراره وهو بالغ وكامل. فكيف يسوغ الأمر لكاملين بالسمع والطاعة. ولهذا نقل الراوي ضحك المجموعين من هذا الكلام.

السادس عشر أن دعوى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يؤلف ويستخلف جميع من دعاه إلى الإيمان. وقوله في الرواية: "أيكم يؤازرني فيكن وصيي وخليفتي فيكم" إذا أجيبت من واحد يوجب منافرة الباقين. فاستحال. السابع عشر أن ترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون بثواب يعم جميع من يؤمن به، كالجنة في الآخرة والتمكين في الدنيا مثلا. وقوله: "أيكم يؤازرني فيكن وصيي وخليفتي فيكم" لا يختص ثوابه إلا بواحد، وما يبقى فائدة للباقين. وهل يوجب ذلك إلا عدم الرغبة في الإيمان وانعدامه. الثامن عشر أن الوصية بالاستخلاف، فأحدهما عين الآخر. وقد ذكرا في الرواية أحدهما معطوفا على الآخر. والعطف يوجب المغايرة والترادف. وكلاهما يمتنعان في التبليغ. التاسع عشر: المؤازرة المرتب عليها الوصية والاستخلاف كانت ثابتة لعلي رضي الله عنه قبل الخمسة المذكورة لتقدم إيمانه عليها اتفاقا. فما معنى طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لها من غيره بعد ذلك. وهذان حالان متناقضان. العشرون: إن كان غرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوت الوصية والاستخلاف لغير علي من الجماعة المخاطبين، فاستحال أن يكون له. وإن كان غرضه ثبوتها لعلي فهو تحصيل الحاصل لتقدم إيمانه رضي الله عنه على ذلك. ومثله لا يصلح من حكيم.

الحادي والعشرون: أن بعض هؤلاء المجموعين المخاطبين من بني عبد المطلب من أسلم كالعباس وغيره وبايع أبا بكر وتابعه وانقاد لمنصوصه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهذا مما يؤيد كذب هذه الرواية. الثاني والعشرون: أن يقال هذه الرواية عن علي رضي الله عنه صحيحة على سبيل التسليم للجدال، ولكنها لا تقوم حجة علينا ولا على ثبوت وصية واستخلاف لعلي قبل أصحابه المتقدمين عليه رضي الله عنه من وجهين: أحدهما أنها لم توجد إلا من نقله ولم توجد من نقل أحد غيره، فهي من قبل شهادة المرء لنفسه. فلم تقبل على الأخصام في محل الخصام. ولا يمنع جواز أن يطلب الخلافة لنفسه على ظن استحقاقه لها اجتهادا بالطلب إذا استحقت لغيره، إذ هو ليس بمعصوم. ثانيهما: أن الآية آمرة بالإنذار الخاص لعشيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - الأقربين، والخطاب بالوصية والاستخلاف لعلي رضي الله عنه هو عليهم وفيهم دون غيرهم في عشيرته البعيدة وغير عشيرته. ولا يدخل غيرهم في ذلك. ألا ترى أنهم قالوا لأبي طالب: "أمرك أن تسمع لابنك وتطيع" وهم

(غدير خم)

يضحكون. (غدير خم) وأما الثاني، وهو ما ذكره الرافضة من النص على علي في غدير خم.

فالجواب أيضا من وجوه. وكل منها يصلح أن يكون جوابا عن المتقدم. الأول: أنه ثبت أن العباس قال لعلي: مدّ يدك لأبايعك حتى يقول الناس بايع ابن عم النبي عمه، فلا يختلف عليك اثنان. فقال علي رضي الله عنه: ليس ذلك إلا لأهل بدر. وطلب البيعة لعلي ممن يُدعى له أنه نص النبي فيه يدل على عدم النص وكذب الدعوى. الثاني: أن عليا رضي الله عنه لم يحكم إلا بالمبايعة من باقي الصحابة. وطلب البيعة من علي ومد يده لها اعتراف وإقرار منه ودليل ظاهر على عدم النص فيه وعدم استحقاقه لها بغير الإجماع والمبايعة. الثالث أن أبا بكر رضي الله عنه بويع، ولم يدّع أحد لعلي رضي الله عنه نصا ولا هو لنفسه. فدل على عدم النص فيه. الرابع أن الأنصار طلبوا الحكم لسيدهم سعد بن عبادة وقالوا لقريش: "منا أمير ومنكم أمير". وهذا يدل على عدم النص فيه رضي الله عنه أو غيره. وإلا ادعاه المنصوص به عليه واحتج به. ولم يقع شيء من ذلك. فامتنع. الخامس أن أبا بكر رضي الله عنه احتج على الأنصار حين قالوا: "منا أمير ومنكم أمير" بحجة عامة، وانقطعوا بها وسلموا وبايعوا أبا بكر رضي الله عنه. وهو قوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأئمة من قريش». ولو كان

نص خاص في علي أو غيره لاحتج به عليهم، وكان أولى من العام وأقوى في الاحتجاج. وإذ لم يحتج به يثبت عدمه. السادس أن أبا بكر رضي الله عنه نص على عمر رضي الله عنه، وانقاد الآل والصحب له، ولم يعارض أحد في ذلك. ولا ادعى علي أيضا نصا لنفسه. فثبت عدم النص به. السابع أن عمر رضي الله عنه جعل الأمر شورى في ستة. وعلي منهم. ودخل في الشورى معهم من غير دعوى النص به منه أو من غيره. فدل على عدمه فيه. الثامن أن عليا حكم الحكمين بينه وبين معاوية. واتفق على ذلك مجموع العسكرين. ولا دليل أقوى من ذلك على عدم النص به. التاسع أن الحسن رضي الله عنه بايع معاوية وسلم الأمر إليه.

والرافضة يدعون أنه منصوص [أبيه] المنصوص له. وهذا مما يدل على عدم النص بهما. وإلا توجه الخطأ بزعم من يدعي له النص فضلا عن العصمة. العاشر أن الرافضة يدعون أن الخلافة لعلي رضي الله عنه واجبة لأنه موصى له بها، ويدعون أنه لا يخل بواجب، لأنه معصوم. ولا خلاف أنه تركها على الخلفاء قبله وترك نزاعهم عليها. وهذا يدل على أحد شيئين: إما إخلاله بالواجب أو عدم الوصية. والأول باطل اتفاقا، فتعين الثاني. الحادي عشر أن ترك الخلافة من علي رضي الله عنه إما تقية مع وجود الوصية له أو بقوة لعدم الوصية. والأول باطل لأن التقية إنما

تكون من الكفار لخوفهم على النفس عند العجز، وهؤلاء صدور الأمة وخيارها، ولا يخاف على نفس علي منهم. ولا يجوز لعلي التقية من مسلم يرتكب باطلا، بالخصوص مثل مسألة الإمامة التي هي أصل كبير في الدين. فتعين الثاني أي عدم الوصية به. الثاني عشر: نسلم جواز التقية من المسلمين عند خلافة الخلفاء رضي الله عنهم جدلا. فهلا اتقى من معاوية لخوف وقوع الفساد في الدين جدلا، ثم نقول: فهلا اتقى علي رضي الله عنه من حرب عائشة يوم الجمل وعقر

جملها ووقوعها بين أعدائها يطوفون بها كالمسبية، وهي زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبوبته وابنة صديقه والمأمور بحرمتها بضرب الحجاب عليها والمبرأة بالقرآن والمحرم نكاحها على الأمة، وقتل خيار الصحابة مثل طلحة والزبير، وتطاير أيدي كثير من المسلمين عند بروك جملها. وهلا اتقى من حرب يوم النهرون، وقد قتل خلق كثير من القراء والمسلمين وغيرهم في حرب الخوارج، وهلا اتقى حرب معاوية، ولا فساد أكثر مما وقع في نزاعهما حتى قتل بينهما في صفين سبعون ألفا من المسلمين فيهم من خيار الصحابة وكان ذلك طاعون الدين. وذلك مما يوجب أحد شيئين: إما خطأ الإمام علي على تقدير الوصية لتناقض فعله، أو صوابه على تقدير عدمها لثبوت حق المتروك نزاعهم (وهم الخلفاء الثلاثة) عليه وثبوت حقه على المتنازع.

والأول باطل. فتعين حقية الثاني. الثالث عشر: أن الله تعالى عدّل هذه الأمة وزكاها بقوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وقد شهدوا لأبي بكر رضي الله عنه. فدل على عدم النص في غيره. الرابع عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، وقد اجتمعت على أبي بكر رضي الله عنه. فلا وصية لغيره. الخامس عشر: ثبت أن عليا رضي الله عنه بايع أبا بكر رضي الله عنه، إما مع إجماع الأمة وإما بعده بستة أشهر كما نقل. وذلك دليل عدم الوصية. السادس عشر: أن تأخير البيعة من علي رضي الله عنه ووقوعها بعد ستة أشهر يدل على اجتهاد منه في هذه المسألة. والاجتهاد منه ينافي النص فيه. السابع عشر: أن الله تعالى وعد مخالفة الإجماع بقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} الآية. والرافضة

يدعون أن عليا رضي الله عنه لم يبايع أبا بكر أصلا وخالف إجماع الأمة فيه. هذا مما يدل إيقاع الوعيد عليه أو كذب الرافضة. وأي الآيتين ثبت له دل على عدم النص فيه. وحاشاه من إيقاع الوعيد عليه ومخالفته سبيل المؤمنين، إذ مثل ذلك يرفع الأمانة والتقوى، فضلا عن استحقاق الخلافة. فتعين كذب الرافضة. الثامن عشر: ادعت الرافضة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصى عليا أن لا يوقع بعده فتنة ولا يجذب بعده سيفا. ولا دليل أكبر من ذلك على عدم الوصية وعلى استحقاق أصحابه المتقدمين عليه الخلافة دونه، إذ نهي عن نزاعهم. التاسع عشر: أن عليا رضي الله عنه نكح في أيام إمامة المتقدمين عليه بالخلافة وتسرّى من سبيهم. والحسين رضي الله عنه تسرى بنت كسرى من سبي عمر رضي الله عنه. وهذا دليل منهما يشعر باستحقاق من تقدمهما الإمامة وبأن لا نص [لغيرهم]. العشرون: أن عليا رضي الله عنه كان مباشرا أشوار الخلفاء قبله في

إنفاذ العساكر ومنعها وفيما يهم من أمر الأعداء. والحسن والحسين رضي الله

عنهما كانا ملازمين مجلس عثمان رضي الله عنه -الذي هو مختار الشورى من وصية عمر الذي هو منصوص أبي بكر رضي الله عنه- ومباشرين ما يأمر به من إقامة الحدود وغيرها. وفي هذا دليل على حقية الخلفاء المذكورين وأن لا نص لغيرهم. الحادي والعشرون: أن عليا رضي الله عنه أنكح عمر ابنته أم كلثوم من

فاطمة رضي الله عنه في إمامته وأولدها زيد بن عمر. وهذا مما يدل على الوداد بين علي وعمر رضي الله عنهما وصحة إمامة عمر رضي الله عنه الذي هو منصوص أبي بكر رضي الله عنه، وأنهما لم يكونا على باطل. وإذ ثبت ذلك فلا وصية لغيرهما. الثاني والعشرون: أن غدير خم والنص الذي ادعته الرافضة لعلي فيه زور لا يعرفهما أحد من المسلمين، غير الرافضة الذين يدعونه. وحينئذ فدعواعم كالعدم إذ لا مستند لهم من غيرهم. الثالث والعشرون: أن الوصية لعلي رضي الله عنه جهلها الآل والصحب

وبايعوا أبا بكر رضي الله عنه وانقادوا له ولمنصوصه ولمنصوص منصوصه بالشورى. وما جهله من هو مصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - حضرا وسفرا ومشاهد للوحي ونزول جبريل عليه السلام كيف عرفها الرافضة الذين جاءوا وحدثوا بعد ذلك بمئات سنين؟ وأيهما أعرف الحاضر أو الغائب أو الموجود أو المعدوم؟ الرابع والعشرون: لم لم تدّع فاطمة رضي الله تعالى عنها الوصية؟ وأي تقية يحتمل في حقها؟ وهل كان أحد يقدر على مخالفتها، خصوصا بعد علمها بقرب موتها حيث أخبرها والدها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ورضي عنها. وهل كانت تخون والدها - صلى الله عليه وسلم - بكتمان وصيته ونصه؟ وهل

(حديث سأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله)

يحتمل عليها وعلى عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه الطاهرات وأصحابه الكرام من المهاجرين والأنصار وأهل الصفة وغيرهم أن يخونوا نبينا عند موته ويصروا على خيانتهم إلى موت عثمان رضي الله عنه - وهم الذين بذلوا في محبته ونصرة دينه أموالهم وأرواحهم وهجروا أوطانهم وأهلهم وتركوا راحتهم ورياستهم. وهل اعتقاد ذلك في حقهم إلا كفر وضلال. (حديث سأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله) السادس: وأما تأمر علي رضي الله عنه في فتح خيبر وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه» فبات كل يترجاها، فلما أصبح أعطاها عليا، وكان أرمد فبصق في عينيه فبرئت في الحال. قلنا: لا دلالة في ذلك على استحقاق علي الإمامة قبل أصحابه الثلاثة.

أما التأمر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمّر الصديق أول حجة في الإسلام. وأمر كثيرا من أصحابه على كثير من الغزوات، بل كل غزوة خرج بها أو لم يخرج كان عليها أمير من أصحابه. وأما قوله: «يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» فليس هو من خواص علي رضي الله عنه. هذه صفة المؤمنين جميعا كما قال الله تعالى عمن حضر القادسية من عساكر عمر: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}

وأما الفتح فقبح الله الرافضة، يفتخرون لعلي رضي الله عنه -وهو صاحب المفاخر والمناقب العالية- بفتح قرية فيها يهود أصحاب حرف، إما صاغة أو غير صاغة. وأهل السنة لم يفتخروا لأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بممالك الملوك العظام أصحاب التيجان والعساكر والهمم العالية والعدد والعدد، مثل كسرى والعراق الذي كان بريده بينه وبين عسكره صفا من دجلة إلى الفرات يتراسلان في ساعة واحدة، والعسكران منه ومن عمر يتحاربان،

ومثل قيصر وهرقل والشام والروم وغيرها. وهل كان فارس من هؤلاء إلا كجمع اليهود، وهل بعض قرية من هذه الأقاليم إلا كخيبر. وأين يوم خيبر من أيام القادسية مثل البويب الذي عد فيه قتلى الكفار مائة ألف وبقيت عظام القتلى دهرا طويلا، ومثل يوم عماس والهرير وأغواث وأرماث واليرموك الذي كان فيه أهل الروم أربعمائة ألف مقاتل،

والصحابة ثلاثين ألفا. وغير ذلك من المعارك المهولة التي لو عددنا ذكرها لطال. هذا صنيع أئمة أهل السنة وأتباعهم وهم لم يفتخروا بشيء من ذلك ولم يجعلوه لأصحابهم بتعظيم أمر. والرافضة يجعلون الجرو كلبا. فقد صح بهم المثل المضروب وهو قول الناس: الكسرة البيضاء في يد المكدي عجب.

وأما براءة عين علي رضي الله عنه، فإن ذلك من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجاء قتادة الخزرجي وقد أصيبت عينه بسهم وهي سائلة على خده حابسها بيده، فقال: يا رسول الله، إن تحتي امرأة حبها فاسأل الله أن يرد علي عيني، فردها النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده، فعادت أحسن ما كانت. وفيها قال ولده حين دخل على عمر بن عبد العزيز للعطا فقال له: انتسب، فقال:

(النسب)

أنا ابن الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد فعادت كما كانت لأحسن حالها ... فبوركت من عين وبوركت من يد فقال عمر: من أراد أن ينتسب فلينتسب مثل هذا. (النسب) السابع: النسب، وهو قول الرافضي لسني عامي: إذا مات الواحد من أحق بميراثه: الأجنبي أو ابن عمه؟ فيقول العامي، إذ لا علم له بالأدلة: ابن عمه. قلنا: الجواب من وجوه: الأول: أن الحكم ليس بالميراث، إذ الميراث يقسم على مجموع الورثة، والحكم يختص به واحد منهم فتنافيا.

(العلم)

الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخصص بالإمامة الأقرب إليه حتى سقط الاحتجاج بالأبعد، بل قال: «الأئمة من قريش»، والقرشية في علي ومن ساواه من المتقدمين عليه واحد، وقد ترجح المتقدمون بترجيح الأمة. ويؤيد ذلك أن موسى عليه السلام استخلف بعده يوشع بن نون عليه السلام، وأولاده وأولاد هارون موجودون لم يستخلف أحدا منهم. الثالث: إن كان الحكم للأقرب لزم الرافضة أن يقولوا: ليس لعلي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم، إذ العباس أقرب منه كونه عما وعلي ابن عمه. وكل من أبي بكر وعمر وعثمان أفضل من عباس. (العلم) الثامن: العلم. احتجوا أنه أعلم الصحابة بوجوه: الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أقضاكم علي" والقضاء لا يكون إلا عن

علم. وكل ما ثبت أنه أقضى ثبت أنه أعلم. والأعلم تجب له الإمامة. والجواب عنه أيضا من وجوه: منها أن نسلم أن عليا أعلم الصحابة جدلا، ثم لا نسلم أن الأعلم تجب له الإمامة بدليل قصة الخضر وموسى عليهما السلام، كان صاحب الإمامة والنبوة العامة موسى، والخضر دونه ومن رعيته. وقد سأل موسى الخضر أن يعلمه فعلمه. ومنها قصة الهدهد وسليمان بقوله {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} الآية.

ومنها قصة سليمان وداود عليهما السلام في حكم الغنم والحرث، وداود صاحب النبوة والإمامة العامة وسليمان من أتباعه. وقد قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}. ومنها أن عمر رضي الله عنه حين عزم الخروج إلى العراق ولى عليا رضي الله عنه القضاء على المدينة، وعمر صاحب الإمامة العامة. والرافضة يدعون أن عليا أعلم، وقد تولى القضاء من جهة عمر رضي الله عنه. الثاني: حديث: "أقضاكم علي" ورد مع جملة خصائص في غيره من الصحابة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقضاكم علي، أفرضكم زيد، أقرأكم أبي، أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، أرفقكم في دين الله أبو بكر، أشدكم عمر".

وحينئذ فثبت أن معاذا أعلم من علي بالحلال والحرام. والعلم بالحلال والحرام يعم سائر الأحكام، والقضاء مندرج تحته. فإن رضيت الرافضة بذلك بطل احتجاج الرافضة أنه أعلم. وإن لم يرضوا كانوا ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض. ولا ينفعهم ذلك بل يسقط احتجاجهم على رغم منهم. الثالث: أن نقول: لا نسلم أن عليا أعلم الصحابة لأن الأمة اجتمعت على كل من أبي بكر وعمر وعثمان بالتقديم. والمجمع على تقديمه مجمع على أنه أعلم ممن بعده.

الرابع: أن أبا بكر قُدم في الصلاة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - على جميع الآل والصحب وصلوا وراءه. والصلاة بنص جميع الفقهاء الأعلم مستحق للتقديم فيها. وقد قدم، فثبت أنه الأعلم.

الخامس: أن الصديق كان يفتي في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقر فتواه. وبيّن موته بعد إنكار من أنكره وموضع دفنه فلم ينازع. ولا خولف لا في إمامته ولا في مسائل الفروع والأصول، فدل على علمه بالأدلة التي تقطع النزاع.

وعلي رضي الله عنه خولف في مسألة بيع أم الولد وفي مسألة ابن السنابل مع سبيعة بنت الحارث من أن الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بأقصى الأجلين، وغير ذلك. ونوزع في مسألة الإمامة، وتغلظ النزاع حتى تضاربوا بالسيوف، ولم يقطع عنه احتجاج عمرو بن العاص. وعمر رضي الله عنه مع علمه فإنه وافق القرآن في جملة مواضع:

منها قوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. ومنها آية ضرب الحجاب على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنها {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} ومنها أسارى بدر، وهي قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآية.

وعثمان رضي الله عنه جمع القرآن. وهو على تأليفه إلى يوم القيامة. ورأى بعض أصحابه امرأة أجنبية ثم دخل عثمان فرأى وجهه فقال: أيزني أحدكم ويدخل علي. قال: يا أمير المؤمنين أبعد رسول الله وحي؟

قال: لا وإنما هي فراسة.

وأمثال ذلك عن الخلفاء رضي الله عنهم أجمعين. السادس: أن جميع الأمة، عليا وغيره، كانت تبع أبي بكر وصاحبيه أيام خلافتهم، يرجعون إليهم في المسائل في دين ودنيا، ولا يسألون غيرهم، عليا كان أو غيره. ولو كان أحد أعلم منهم لسألته الناس. ولم يثبت شيء من ذلك فتعينت الأعلمية لهم. الثاني من وجوه الرافضة بالعلم حديث: "أنا مدينة العلم وعلي بابها".

والجواب عنه أيضا من وجوه: أحدها: أن هذا الحديث يتضمن ثبوت العلم لعلي رضي الله عنه. ولا شك أنه بحر علم زاخر لا يدرك قعره. إلا أنه لا يتضمن ثبوت الرجحان على غيره، بدليل ثبوت العلم لغيره على وجه المساواة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مجموع الأصحاب: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". فثبت العلم لكلهم.

ثانيها: أن بعض أهل السنة يقولون زيادة على هذا القدر، وذلك قوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا مدينة العلم وعلي بابها وأبو بكر وعمر وعثمان حيطانها وأركانها"، والباب فضاء فارغ والحيطان والأركان طرف محيط. فرجحانهن على الباب ظاهر. ثالثها: وقع في تأويل "علي بابها" أي مرتفع، وعلى هذا يبطل الاحتجاج به للرافضة. وأيضا ورد في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أمته في المنام وعليهم القمصان، فمنهم من قميصه إلى ركبتيه ومنهم إلى ساقيه ومنهم أقصر، ورأى عمر رضي الله عنه وعليه قميص يجره، فقالوا: بم أولت يا رسول الله؟ فقال: «بالعلم». فثبت أعلمية عمر على علي

بحيث يخشى على منكره الكفر. الثالث من وجوه احتجاجهم بالعلم: قولهم: إن عليا رضي الله عنه يأخذ بقوله العلماء والحكماء والمنجمون والمداح، يقصون أخبار علمه، كقصة الخاتم والسبع واليهودي، وأنه جاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أين جبريل؟ فنظر عن يمينه وشماله وفوقه وأسفله فقال: نظرت في السماوات السبع والأرضين السبع والغرب والشرق فلم أر جبريل، إن يكن فأنت هو! وأنه يعلم عدد الرمال والجبال والأوراق وقطر الغمام. ونحو ذلك.

والجواب عن ذلك أن نقول: إن قولهم إن العلماء والحكماء والمنجمين يأخذون بقوله، فذلك من البهت والزور. وهذا التفسير منسوب إلى ابن عباس، إلى مقاتل، إلى مجاهد إلى الزهري،

إلى عمر، إلى نافع، وغيره من الصحابة. وعلي أحدهم. وهذا الفقه منسوب إلى أبي حنيفة، إلى مالك، إلى الشافعي،

إلى أحمد بن حنبل، وغيرهم من أتباعهم، والغزالي من أصحاب الشافعي بلغ من التصنيف في مجموع العلم فوق ألف كتاب، ولم يوجد علم إلا وله فيه كلام شرعي حقيقي معقول أو منقول. وابن الجوزي في مذهب أحمد بن حنبل على نحو ذلك. وهذا النحو منسوب إلى سيبويه،

إلى الأخفش، إلى البصريين، إلى الكوفيين، وبناؤه وتفاريعه إلى أبي الأسود الدؤلي. وما نقلوا من أن أصله لعلي رضي الله عنه، وذلك قوله: "الكلام ثلاثة أشياء اسم وفعل وحرف" فلم يوجد نقله في كتاب، بل من أفواه الرافضة. والله شهيد علي وكفى به شهيدا أني رأيته في كتاب عتيق منسوبا إلى عمر رضي الله عنه. وهذا علم العروض

منسوب إلى الخليل بن أحمد. وكل علم من باقي الفنون كالمنطق والأصلين والطب والنجوم ونحوها منسوب إلى أهل له غير علي رضي الله عنه. فكيف يجوز على الناس بهت الرافضة. وأما قولهم عن المداح والقصاص، فهؤلاء طرقية وسوقية وأرذال لا يحتج بقولهم إلا من هو مثلهم وأرذل منهم، وكل ما يقولون كذب. ولما رأت الرافضة ما للسنة ولأئمتهم من ذكرهم على المنابر وفي الكتب الصحيحة المعتمدة أرادوا أن يوقفوا هذه الرذائل قبال تلك الفضائل، وكفى بذلك توبيخا وخزيا لهم وسقوط همة وقدر. وأما حديث جبريل وأن عليا يعلم عدد الرمال وحوادث الليل والنهار ونحو ذلك، من أكبر الفسوق والتجري على الله تعالى، إذ العقل والنقل يكذبه.

(اتخاذ الغلاة عليا إلها)

الأول فلقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّين} وأما الثاني فلقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}. وإن عليا رضي الله عنه لم يبلغ غرضا بتحكيم عبد الرحمن بن عوف في الشورى وعزله معاوية وتحكيمه أبا موسى وخروجه وراء عائشة يوم الجمل وحربه مع الخوارج ونحو ذلك. ولو كان يعلم غيبا لم يفعل شيئا من ذلك. (اتخاذ الغلاة عليا إلها) التاسع قولهم إن الغالية اتخذوا عليا إلها وإن النصيرية اعتقدوه

نبيا وذلك ما هو إلا لمعنى فيه يوجب الترجيح. قلنا: الجواب من وجهين: أحدهما: لا شكك بكفر هاتين الطائفتين اتفاقا. وهل يحتاج للرجحان بقول كافر إلا من أعمى الله قلبه وبصره. الآخر أن الكفار اتخذوا أصناما آلهة من خشب وغيره. وأي معنى رأوا بها؟ وما رأت ثقيف في مناة وهي صخرة؟ وما رأت غطفان في العزى

(الإخاء)

وهي شجرة؟ وما رأى خزيمة في هبل؟ وأمثال ذلك. ومسيلمة الكذاب ادعت أهل اليمامة النبوة [فيه]، وتبعه ثمانون ألفا. وادعت طائفة لسجاح النبوة وهي امرأة. فانظر أيها العاقل هذه الحجج الباطلة والتأويل الفاسد. (الإخاء) العاشر الإخاء. قالوا هو من وجهين: أحدهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين أصحابه واتخذ عليا أخا له.

الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بهارون، وهارون كان أخا لموسى. قلنا: أما الجواب عن الأول فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين والأنصار للتأليف بينهم حين نزل المهاجرون عليهم. ولم يؤاخ بين أنصاري وأنصاري، وبين مهاجري ومهاجري. والنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي مهاجران، فما فائدة الإخاء بينهما. فالحديث الوارد في ذلك موضوع. وأما الجواب عن الثاني فإن الأخوة بين موسى وهارون هي أخوة القرابة، وهما من الأبوين. وليس أخوة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك. فتعين فساد تأويل ذلك. [بل خاطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإخاء وطلب الدعاء من عمر رضي الله تعالى عنه، فقال - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله تعالى عنه: "يا أخي لا تنسنا من دعائك" كما في البخاري ومسلم]. (¬1) ¬

(¬1) الحديث ليس في الصحيحين

(الشجاعة)

(الشجاعة) الحادي عشر: الشجاعة. قلنا: لا شك في شجاعة علي رضي الله عنه وأن قتلى بدر كانوا سبعين تقريبا، كان لعلي ثلاثة وعشرون خالصا غير من اشترك في دمه. وأنه تترس بباب كانت مطروحة لحصن خيبر عامة يومه، فلما طرحها من يده جاء سبعة من الصحابة فلم يحركوها. ومن شجاعته كما قيل: حدث عن البحر ولا حرج. ولكن الشجاعة ليست مختصة به دون الصحابة.

فمن ذلك الصديق رضي الله عنه، كان أشجع الصحابة حين وهنوا بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - وارتد أهل اليمامة وتبع مسيلمة الكذاب ثمانون ألفا، وكان ممن أشار بتركهم على حالهم والقعود عن نزاعهم إلى حين القوة علي رضي الله عنه، فلم يلتفت الصديق إلى قوله ولم يوهن حتى بعث خالد بن الوليد فقتلهم كما عرفت. ومنه ما فتح عمر رضي الله عنه من البلاد وكسر الملوك العظام، وعثمان على نحو ذلك. والبراء بن مالك، أخو أنس بن مالك، قتل بيده مائة غير من اشترك بدمه، وكان يقتل بلسانه أكثر مما يقتل بيده، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من

عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك»، كان إذا ضيق على المسلمين قالوا: ادع يا براء، فيقول: اللهم امنحنا أكتافهم، فيهزم الكفار. وكان أبو دجانة يوم أحد يكر على الناس كرا. وولى الناس مدبرين يوم حنين ولم يثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير العباس عمه وأبي سفيان بن الحارث ابن عمه.

ولما لحق الكفار مقداد والزبير لأجل جثة بليع الأرض قالا لهم: قفوا معشر قريش، لو تعلمون من نحن ما قدمتم علينا، أنا المقداد وهذا الزبير، فارسان أسدان يزودان عن أشبالهما، إن أردتم المبارزة بارزناكم وإن أردتم المناضلة ناضلناكم، فأحجم الكفار عنهما ورجعوا. وحين اختبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر أصحابه قام المقداد وقال: يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت اليهود لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو

(المصاهرة)

جالدت بنا برك ذات الغماد -يعني مدينة الحبشة- لجادلناها دونك. وأمثال ذلك. وقد وصف الله تعالى مجموع الصحابة بالشجاعة في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} الآية وأمثالها في القرآن كثير. (المصاهرة) الثاني عشر: المصاهرة. قلنا: لا حجة به على الإمامة، لأن عتبة بن أبي لهب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -

تزوج ابنته وهو كافر. وأبو العاص بن الربيع تزوج ابنته زينت وهو كافر، ولما أسلم أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على نكاحه. وعثمان تزوج ابنتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، [وأبو بكر وعمر أفضل منه. وفي الجملة إن الأربعة أصهار النبي - صلى الله عليه وسلم -] وأبو بكر وعمر ناكح عندما. وعثمان وعلي ناكحان عنده.

(دعوى العصمة)

(دعوى العصمة) الثالث عشر دعواهم العصمة لعلي رضي الله عنه. وقالوا: إذا ثبت له العصمة وجب أن يكون إماما دون من لا عصمة له. وثبوت العصمة لعلي من وجهين. أحدهما أنه إمام، والله تعالى أمر باتباع الأئمة وطاعتهم بقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} والمأمور بطاعته فيما يأمر وينهى يجب أن يكون معصوما. قلنا: الآية آمرة بطاعة الله ورسوله مطلقا، بدليل تكرير {أطيعوا} لهما، وللأئمة بالعطف من غير تكرير {أطيعوا}، فلا طاعة لهم مطلقا. بل طاعتهم داخلة في ضمن طاعة الله تعالى ورسوله، فإن أمروا بما فيه طاعة الله ورسوله أطيعوا، وإلا فلا. ويؤيد ذلك أن الله تعالى أمر عند النزاع بالرد إلى الله ورسوله دونهم بقوله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ولم يقل إلى أولي الأمر أيضا. فدل على عدم العصمة لغير الأنبياء.

الوجه الآخر: قولهم إن الإمام يجب أن يكون معصوما لأن العصمة لطف واللطف واجب في الأئمة. قلنا إن كانت العصمة في الإمام باعتبار اللطف، فالخلفاء قبل علي معصومون دونه، لأن اللطف كان بإمامتهم موجودا لما عرفت من استظهار الإسلام والمسلمين في أيامهم ونقيصة الإسلام والمسلمين في أيامه. وأما الحسن فكان اللطف في ترك إمامته. وأما الحسين فقد اشتهر ما حصل في طلبه الإمامة من الفساد. والباقون من أولاد علي الذين وراء الحسين

إما مقيد أو منهزم؛ ولا إمامة لهم فضلا عن العصمة. والأخير الذي يعتقدونه مهديا مفقود لم ينتفعوا به في أمر دين ولا دنيا. فلينظر ذو اللب من المستحق للعصمة على حسب تقريرهم: هل هو الذي حصل بإمامته اللطف أو الذي لم يحصل.

الفصل الثاني فيما يوجب ترجيحهم عليا على أصحابه المقدمين عليه

الفصل الثاني فيما يوجب ترجيحهم عليا على أصحابه المقدمين عليه رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بهم (النوم في الفراش) منها النوم في الفراش حين همّ قريش به. قلنا: مقابل بقصة الغار لأبي بكر، بل الغار أرجح من النوم من وجوه: أحدها: أن قصة النوم مظنونة المتن لأنها جاءت مجيء السير والتواريخ، لو جحدها أحد لم يكفر، والغار مقطوع المتن لأنه نزل به القرآن، ولو جحده أحد كفر. ثانيا: أن نفس علي في نومه في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت كالفادية، ونفس أبي بكر في الغار كانت كالمساوية لنفس النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا شك أن المساوي أعظم من الفادي.

ثالثها: أن الله تعالى عتب في قصة الغار والخروج معه - صلى الله عليه وسلم - على كل الأمة إلا على أبي بكر بقوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ولم يقل: إذ نام أحد مكانه. رابعها: أن الله تعالى لم يصرح بذكر أحد من الآل والصحب بالمدح والصحبة في القرآن إلا بذكر أبي بكر رضي الله عنه بقوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} قالوا: قصة الغار تتضمن منقصة لأبي بكر حيث قال له: {لَا تَحْزَنْ} قلنا: هذا تأويل من أعمى الله قلبه وأضله عن الهدى واتبع هواه. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: "لا تخف" بل قال: {لا تحزن}. فالخوف على النفس، والحزن على الغير. وإذا تقرر ذلك فالحزن هاهنا من أكبر المدح لأبي بكر رضي الله عنه إذ لم يخف على نفسه، بل كان حزنه على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولو قال له أيضا "لا تخف" لم يكن على أبي بكر رضي الله عنه منقصة بذلك.

إذ قال الله تعالى مثل ذلك لمن هو خير من أبي بكر وخير من علي رضي الله عنهما موسى وهارون عليهما السلام: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وقال للوط عليه السلام: {لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} وقال لأم موسى: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} وأمثال ذلك للأنبياء كثير في القرآن. ولم يكن في ذلك عيب عليهم. فأي مصيبة أصابت الرافضة حتى يعكسوا مفهومات القرآن ويتبعوا أهواءهم بغير علم. ألم تر أنهم لا يقوم لهم قائم إلى يوم القيامة. ولولا أن الله تعالى أعمى قلوب الرافضة ما فهموا مثل هذا الباطل من الآية وعمُوا عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أي معي ومعك.

(حمل النبي عليا حين رمى الأصنام عن البيت)

ولم يفرقوا بين هذا القول وقول موسى عليه السلام لأصحابه إذ قالوا له: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} أتى بالمعية والهداية له وحده دونهم. (حمل النبي عليا حين رمى الأصنام عن البيت) ومنها حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا حين رمى الأصنام عن البيت.

قلنا: لا ترجيح في ذلك على أبي بكر رضي الله عنه: الأول: أن هذا الحمل مقابل بما نقلت أهل السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ليلة الهزيمة إذا جاء إلى الرمل حمل أبا بكر رضي الله عنه كونه يؤثر فيه والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يؤثر فيه، وإذا جاء إلى الصخر حمله أبو بكر رضي الله عنه كون النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤثر فيه وأبو بكر لا يؤثر فيه. الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحمل الصبيان مثل الحسن

(آية النجوى)

ومثل أسامة بن زيد عبده ومثل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع من ابنته زينب. ولا فضل لهم في [ذلك] على الصحابة. (آية النجوى) ومنها آية النجوى، أن عليا رضي الله عنه عمل بها دون غيره.

قلنا: لا ترجيح بها لعلي رضي الله عنه على غيره من الصحابة: الأول: أن الله سبحانه وتعالى جعل نسخها بعد أن قدم علي صدقة بين يدي نجواه، فلم يأثم أحد بترك الصدقة لدى مناجاته بعد النسخ. الثاني: أن صدقة النجوى درهم أو درهمان، فقد افتخرت الرافضة بها لعلي رضي الله عنه. وقد ثبت لأبي بكر رضي الله عنه أنه أنفق على النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة ألف درهم ودينارا. وليلة رغّب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة أتى أبو

(آية ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)

بكر رضي الله عنه بكل ماله، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله. فلينظر العاقل أي صدقة أعظم. (آية ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) ومنها قوله تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}، قالوا نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم حين مرضا ونذر علي وفاطمة رضي الله عنهما أن يصوما إن شفيا. فصاما وتصدقا ثلاث ليال بفطورهما على مسكين ويتيم وأسير. قلنا: لا نزاع في نزول القرآن بمدح علي رضي الله عنه ومجموع أهل البيت وفضلهم. لكن هذه الآية في {هَلْ أَتَى} باتفاق القراء والمفسرين -إلا

(آية التطهير)

قليلا- وفي رسم المصاحف شرقا وغربا: أنها مكية. وعلي ما دخل بفاطمة رضي الله عنها وأولدها الحسن والحسين إلا في المدينة. (آية التطهير) ومنها {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} قالوا نزلت في أهل العباء، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين. أدخلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت تحت كساء له وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس»

قلنا: سبب نزول الآية نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيهن نزلت. ويدل على ذلك ما قبلها وما بعدها من الآيات، وأن أهل البيت هو هن، وأن المقصود بإرادة الله تعالى إذهاب الرجس هو عنهن، والمراد بالتطهير هو لهن؛ ولكن لما كان علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم من أهل البيت ولم يتناولهم لفظ الآية إلا بطريقة التغليب من ضمير {عنكم} و {يطهركم} أدخلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الكساء على سبيل البيان. فالدليل عليهم الحديث، وعليهن القرآن. وأما ما نقل أن أم سلمة لما نزلت الآية سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تكون من أهل البيت فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنت على خير»، لا ينافي ذلك، يعني أنك نزل فيك القرآن أنك من أهل البيت، وهذا هو الخير الكثير الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.

(آية لا أسالكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)

ويؤيد أن أزواج الإنسان أهل بيته قوله تعالى عن سارة: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} (آية لا أسالكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) ومنها قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قلنا: في معنى الآية ثلاثة تأويلات. الأول أن المراد بالقربى الطاعات. الثاني قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار المخاطبين، أي راقبوا نسبي بكم، يعني القرشية. الثالث أقاربه من أهل بيته، وهو ما تعنيه الرافضة.

ولا حرج في ذلك. فإن المودة الصحيحة للآل من محبتهم والتعظيم لهم بما هو لائق بهم من أعظم القرب إلى الله تعالى. لا ما يضيفه الرافضة من المغالاة بهم وإخراجهم عن حدهم، كونهم أفضل من الأنبياء وأن الإمامة والعصمة واجبة لهم وأنهم يعلمون الغيب وأعداد الرمال وأن المهدي حاضر في كل مكان لو تحدث اثنان كان معهم، ونحوه من الاعتقادات الفاسدة. فإن ذلك ليس من المودة لهم بل

(حديث الطائر)

من الفسوق والمباعدة عنهم. (حديث الطائر) ومنها حديث الطائر المنسوب إلى أنس بن مالك خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بطائر مشوي فقال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك" فجاء علي رضي الله عنه وأنس يرده، فبصق عليه، فبرص من قرنه إلى قدمه.

(حديث حب علي حسنة لا تضر معها سيئة)

والجواب من وجوه: الأول نقول هذا حديث مكذوب. الثاني نقول مردود لأنهم يدعون أن أنسا كذب ثلاث مرات في مقام واحد، فترد روايته. الثالث نسلم صحته ونقول معنى "أحب خلقك يأكل منه": الذي أحببت أن يأكل منه حيث كتبته رزقا. لا ما يعنيه الرافضة أن عليا أحب إلى الله تعالى، فإنه يلزم من ذلك أن يكون أحب من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ظاهر البطلان. (حديث حب علي حسنة لا تضر معها سيئة) ومنها حديث: "حب علي حسنة لا تضر معها سيئة، وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة" قلنا: هذا حديث مكذوب. والدليل عليه من وجوه:

(سقي الماء يوم القيامة)

الأول أن أكثر الخلق محبة لعلي أبوه ولم ينفعه ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أخف أهل النار عذابا أبو طالب في قدميه نعلان يغلي منهما دماغه». الثاني أن الرافضة يدعون أن كل الأمة من الصحابة وبني أمية وبني العباس وكافة أهل السنة يبغضون عليا رضي الله عنه، وعلى هذا تكون أعمال هؤلاء من الخير جميعا حابطة. والقرآن يكذب ذلك بمدح الصحابة ومدح من يعمل صالحا، وأن {من يعمل مثقال ذرة خيرا يره}، والقرآن مشحون من أمثال ذلك. ولم يشترط في شيء من ذلك حب علي ولا بغضه. الثالث أن هذا إن صح نسخ القرآن وجميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من جواز ترك المفروضات وتعطيل الحدود وإتيان المنهيات من الزنا والخمر وأكل الحرام وقطع الرحم وكافة المعاصي، مع وجود محبته. وهل اعتقاد مثل ذلك إلا كفر محض. نعوذ بالله منها. (سقي الماء يوم القيامة) ومنها سقي الماء يوم القيامة. وهو باطل من وجوه:

الأول أن الكوثر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ولم يقل ذلك لعلي رضي الله عنه. وقد نُقل أن «أولهم ورودا فقراء المهاجرين» ولم ينقل أن أحدا يسقيهم. الثاني أن هذا مما يحيله العقل، إذ يتكل الناس في سقي الماء يوم العطش الأكبر إلى واحد وهم ملء الأرض أمواتا كأنهم جراد منتشر لا يعلم عدد أقل بطن منهم إلا الله تعالى ولم يفرغ علي رضي الله عنه من سقي واحد منهم إلا مات الباقون عطشا. وهذا حقه أن يذكر في ضحكاتهم ومضحكاتهم. الثالث: أن بعض ظرفاء أهل السنة لما سمع ذلك قال لبعض الرافضة: إذا جعلتم عليا ساقيا، جعلنا أبا بكر معه الخبز واللحم والطعام، وعمر معه الحلوى، وعثمان معه الفاكهة. ولله دره قابل ضحكهم بضحكهم.

(دعواهم رد الشمس لعلي)

الرابع أن هذا غير لائق لعلي رضي الله عنه كونه يجعل سقاء وخادما لرفيع ووضيع. وحاشا أمير المؤمنين من ذلك. بل هو رضي الله عنه صاحب المقام الرفيع والإعزاز والإكرام ومخدوم الخدام. (دعواهم رد الشمس لعلي) ومنها دعواهم رد الشمس لعلي رضي الله عنه.

وهو مكذوب لم يأت إلا من نقلهم. وهم أخصام لا يقوم مجرد نقلهم على الخصم حجة. ولم يثبت إلا ليوشع بن نون فتى موسى، فإنه كان يقاتل الجبارين عُصير الجمعة فترجح عليهم قبيل المغرب. فخشي أن تغرب الشمس ويدخل حكم السبت فيكف يده عنهم لحرمة القتال فتيرجحون عليه، فسأل الله تعالى إيقاف الشمس، فوقفت حتى غلبهم وفرغ من قتالهم، ثم غربت. وفي ذلك قيل:

(دعواهم أن سلمان الفارسي كان من حزب علي)

فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع فوالله لا أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع (دعواهم أن سلمان الفارسي كان من حزب علي) ومنها دعواهم أن سلمان الفارسي كان من حزب علي رضي الله عنه بدون الخلفاء قبله وأن عليا ليلة موته جاء من المدينة إلى مدائن كسرى بليلة واحدة وغسله ثم رجع إلى المدينة في تلك الليلة. وهذا من البهت والزور ومكابرة الظاهر. فإن الأشهر والأظهر من أن سلمان كان حاكما في المدائن من قِبل عمر رضي الله عنه عاملا له عليها يدعو إلى إمامته وطاعته. قاتل الله الرافضة أنى يؤفكون. (قولهم إن عليا لم يشرك بالله) ومنها قولهم إن عليا لم يشرك بالله طرفة عين، تعريضا بأن أبا بكر

وعمر رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة كان يعبد الأصنام. والجواب عنه من وجوه: الأول أن نقول معنى ذلك أنه أسلم قبل البلوغ. فلا يكون ذلك من خصائص علي رضي الله عنه. لأن سائر أطفال الصحابة الذين طرأ الإسلام عليهم، بل كل مولود من المسلمين إلى يوم القيامة الصالح منهم والطالح لم يشرك بالله طرفة عين.

الثاني أن طفل الكفار محجور عليه من الإيمان حتى يبلغ بإجماع الفقهاء، فكيف يجعل راجحا على إيمان البالغ.

(قولهم إن الله تعالى ليلة المعراج خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغة علي)

ومنها دعواهم أن عليا رضي الله عنه لم يحدث له إسلام بل لم يزل مسلما، وإذا قال أحد إن عليا أسلم كبر عليهم. قلنا: ذلك من الجهل وعمى القلب الغالب، فإن الله تبارك وتعالى يقول لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي عرف الإيمان به: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}. فكيف بغيره من أتباعه. (قولهم إن الله تعالى ليلة المعراج خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغة علي) ومنها قولهم إن الله تعالى ليلة المعراج خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغة علي فقال: يا رب، أنت تخاطبني أم علي، فقال: بل أنا لكن لما سمعتك تقول لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، فاطلعت على قلبك فما رأيتك تحب أحدا أكثر من علي، فخاطبتك بلغته ليطمئن قلبك.

قلنا: كذب هذا ظاهر من وجوه: الأول: أن هذا الحديث كان في غزوة تبوك حين استخلفه في المدينة على النساء والصبيان، وهو آخر غزواته - صلى الله عليه وسلم -، والمعراج كان على رأس الأربعين سنة من عمره - صلى الله عليه وسلم - في مكة. فهذا من تلفيق من لا يعرف كيف يكذب، إذ بينهما فوق عشرين سنة. الثاني أن الرافضة لا يجوزون الكلام على الله تعالى. وقولهم هاهنا إنه خاطبه بلغة علي رضي الله عنه متناقض. الثالث أن اعتقاد ذلك كفر لأنه يستلزم أن يكون في علي شيء من شبه الله تعالى؛ وهو يقول عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الرابع يستلزم أيضا أن يكون علي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب من الله تعالى ويطمئن بخطابه أكثر من خطاب الله تعالى. وهو سبحانه يقول: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}

الفصل الثالث فيما خالفوا فيه من مسائل الأصول

الفصل الثالث فيما خالفوا فيه من مسائل الأصول وسنذكر منه ما هو ظاهر التداول (نفي الرؤية) فمن ذلك نفي الرؤية. واحتجوا بقوله تعالى لموسى عليه السلام: {لن تراني} ولن بإجماع أهل العربية لنفي التأبيد. قلنا: الجواب من وجوه: الأول: أن النفي في الدنيا لا في الآخرة. لأن الله نفى تمني الموت عن اليهود وأكده أبدا بقوله تعالى: {ولن يتمنوه أبدا} ثم أخبر أنهم يتمنونه في الآخرة بقوله تعالى إخبارا عنهم: {يا مالك ليقض علينا

ربك} وبقوله تعالى: {يا ليتها كانت القاضية} الثاني: قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} الثالث: قوله تعالى عن الكفار: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} فيدل على أن المؤمنين لا يحجبون عنه، والذي لا يحجب عن الآخر لا بد وأن يكون يراه.

الرابع: أن موسى عليه الصلاة والسلام من كبار الأنبياء وقد سأل الرؤية، فيدل على جوازها. وكيف يعلم الرافضي الكلب الأعمى القلب ما يجهله الأنبياء. الخامس: أن الله تعالى علق الرؤية على ممكن وهو استقرار الجبل مكانه، والمعلق على الممكن ممكن. السادس: أن الحكم بعدم الرؤية يجوز الشكوك في وجود البارئ جل وعلا، وكيف يعبد أو يجزم بوجود من هو مقطوع بأنه لا يرى. السابع: أن المدعي لواحد حبا لا ينعم أو يلذ عيشا أو يعتاض بشيء

دون رؤيته. قالوا: الذي يرى يلزم أن يكون في جهة، والجهة عن الله تعالى منتفية. قلنا: لا خلاف في أنه تعالى يَرى العباد، وإذا جاز أن يراهم مع تنزيهه عن الجهة جاز أن يروه كذلك.

(خلق القرآن)

(خلق القرآن) ومنها خلق القرآن. احتجوا بأنه لو لم يكن مخلوقا كان الله تعالى متكلما به والكلام يحتاج إلى حلق ولسان وشفاه، وذلك يستلزم التجسيم، والجسم منتف عن الله تعالى. والجواب من وجوه: الأول: في كلامهم كفر لقياسهم الخالق على المخلوق وتشبيهه به، وهو {ليس كمثله شيء} وهو قادر على كل شيء. فلا استحالة على الكلام من غير جسم.

الثاني: يدعون أنه خلقه في شجرة [وهي تتكلم به، والشجرة لا شيء لها من الشفة واللسان، فإذا جاز أن يخرج الكلام من شجرة] وهي لا شيء لها من ذلك، جاز أن يخرج من البارئ تعالى بلا شيء بالطريق الأولى. الثالث: أنه لا خلاف في أن يقال القرآن كلام الله تعالى مضافا إليه، ولو لم يكن خارجا من ذاته كان إضافته إليه كذبا فلم يجز أن يقال كلام الله مع أنه مقول.

الرابع: أن الكلام خارج من الذات لا يمكن خروجه من غيرها كما قال البلغاء. إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان عليه دليلا

وإذا ثبت أنه صفة من صفات القديم خارج من ذاته القديمة ثبت قدمه أيضا، فاستحال أن يكون مخلوقا وإلا لزم أن يكون القديم محلا للحوادث. الخامس: أن الكلام صفة من صفات الكمال، والخرس صفة نقص. وهو تعالى منزه عن النقائص. فتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ومن بدع ما أحدثه رافضة هذا الزمان بأنهم إذا حلفوا قالوا: "ورب المصحف". فإن عنوا الأوراق والحروف والجلد كان فجورا وفحشا، وإن عنوا

(أن المعاصي واقعة بإرادة إبليس والعبد لا بإرادة الله)

نفس الكلام الدال عليه الأصوات والحروف كان كفرا. (أن المعاصي واقعة بإرادة إبليس والعبد لا بإرادة الله) ومنها أن المعاصي واقعة بإرادة إبليس والعبد، لا بإرادة الله تعالى وقدره. محتجين بحجتين: الأولى: قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} والجواب من وجوه: الأول: أن ليس معنى الآية ما قصدوه من أن الحسنة من الله والسيئة منك، فإن المراد بالحسنة الأشياء المرضية في الدنيا من الغنيمة والظفر

ونحوه، والمراد بالسيئة الأشياء الكريهة من القتل والجرح ونحوه، لأنه تعالى قال: {مَا أَصَابَكَ} ولو أراد ذلك قال: "ما أصبت". الثاني: إن كان هذا الذي فسروه الرافضة هو الذي قصده القائلون قبلُ بقولهم: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} فقد رد الله عليهم بقوله عقبه: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. الثالث: أن الله تعالى وبخ قائل القول الأول وجعلهم على قولهم هذا كالبهائم بقوله: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} وإذا جعل القول الآخر على ما فسروه فهو الأول بعينه فقد صدقهم الله تعالى، ويلزم من ذلك تناقض القرآن، وهو منزه عن التناقض، فامتنع قصدهم.

الرابع: أن الكلام من أوله إلى آخره خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى قوله الرافضة يثبت تجويز السيئة عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو معصوم، فتنافيا. الخامس: أن معنى القول الآخر وهو {مَا أَصَابَكَ} منع دعوى القول الأول وهو: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ} وبيان الحديث الموبخ عليه وهو قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا .. } أي فمال هؤلاء القوم لا يفهمون هذا الحديث، أي هو الذي ما أصابك إلى آخره وهو كله من عند الله، ويؤيده ذلك قوله تعالى بعد: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي إنما أرسلناك رسولا لهم لتبشر وتنذر لا لتكون بيدك الحسنة والسيئة من خير وشر، فهو كقوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} وأمثال. السادس: أن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أن الأشياء من خير وشر واقعة بإرادته، كقوله تعالى: {ولو شاء الله ما فعلوه} {ولو شاء الله ما اقتتلوا} {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} {ومن يضلل الله فلا

هادي له} {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} وأمثال ذلك فوق مائة آية، بل حصره مشق من كثرته. فكيف أهملوه الرافضة وتمسكوا بشبهة لفظ واحد في آية واحدة وفسروه على قدر هواهم، وقد بينا فساده. وهلا تمسكوا بالكثير المقطوع الدلالة وأولوا هذه الشبهة القليلة المظنونة الدلالة. وما هذا إلا انتقام من الله تعالى لهم، أضلهم عن الهدى حيث نسبوا إليه شركية البشر في الإرادة وشركية الشيطان كما سيأتي. الحجة الثانية: قولهم إن الله تعالى يعذب على المعصية، فلو كانت بإرادته كان التعذيب عليها ظلما. والجواب من وجوه: الأول: أن الله تعالى عالم بوقوع المعصية وقادر على منع إبليس عن حمل العاصي على المعصية وعن وقوع المعصية من العاصي اتفاقا، فإذا لم يمنعها دل على إرادته. الثاني: أن الظلم عبارة عن تصرف في ملك الغير بغير إذنه، والله تعالى لا يجد لغيره ملكا، فهو متصرف في ملك غير معارض في ملكه.

الثالث: أن السيد الخالق كما إذا أشقى أحد عبديه في الخدمة من احتطاب واحتراف وخشن العيش وأنعم على الآخر منهما لا يكون ظلما، كان ذلك في الخالق أولى. الرابع: أن السلطان إذا نادى في مملكته وبين رعيته: من قتل قتلته، ثم قال لواحد منهم: أريد منك قتل فلان، فقتله، كان له قتله به ولم يكن ذلك ظلما بالاتفاق. فكيف يكون ظلما بالنسبة إلى السلطان المالك. الخامس: قوله تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وفي ذلك كفاية عن كل دليل. السادس: أن [نقول] في المخلوق إن السلطان إذا فعل ما ينكره الخلق لا يمكن أحد يعارضه لقوته، وهو غير حكيم؛ كيف يعارض الخالق الذي كل أفعاله واقعة على وفق الحكمة، وهذا أقوى الأقوياء. السابع: أن الأغلب في الكون اليوم وقوع المعاصي على الطاعات. فإذا كان إبليس متصرفا في الأغلب منه كان متصرفا في الأكثر من العالم وكان للبارئ الجزء الأقل منه، وهذا لو كان لرئيس قرية مثله لم يرض بذلك واستنكف منه، فكيف بملك الممالك والملوك ومالكها. الثامن: أن المعاصي إذا كانت واقعة بإرادة الشيطان وجب كفر المعتقد ذلك لإثبات الربوبية لغير الله تعالى. ونضرب لذلك مثلا في قتل الحسين رضي الله عنه، وكل معصية مثله، فنقول: إن الله تعالى أراد حياة الحسين رضي الله عنه وأراد الشيطان قتله، فتنازعت إرادة الله وإرادة الشيطان فيه،

وقد قتل وكمل مراد الشيطان دون مراد الله تعالى. وحينئذ فيلزم إثبات الربوبية للشيطان دونه تعالى، لأنه على هذا التقدير الأقوى فيستحق الربوبية دون العاجز. فتعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا. التاسع: لا خلاف أن الله تعالى خلق إبليس مريدا لخلقه غير مكره عليه وهو عالم بما يصدر منه. وإبليس من أكبر العصاة. فلا دليل أظهر منه على أن المعاصي واقعة بقدر الله تعالى وإرادته. العاشر: أن الطاعة والمعصية تتعلق بموافقة الأمر ومخالفته لا بموافقة الإرادة ومخالفتها، كما قال الله تعالى: {أفعصيت أمري} ولم يقل: "أفعصيت إرادتي"، وقال تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} ولم يقل: "يعصون ما أراد منهم ويفعلون ما يراد منهم". فإذا خالف الإنسان الأمر ووافق الإرادة في المعصية استحق العذاب لمخالفة الأمر، ولا لوم على المعاقب لموافقة العاصي إرادته. فانتفى الظلم لما عرفت من معنى القرآن في الآيتين المذكورتين. قالوا: كيف يؤمر بما لا يراد، وهو عبث. قلنا: بحسب عقولكم الفاسدة، لأن مثل ذلك واقع من الله تعالى

(أن أفعال العباد مخلوقة لهم وليست مخلوقة لله)

وأفعاله صادرة بالحكمة، كما أمر الخليل بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام. الحادي عشر: أن الله تعالى نهى عن أذى العباد. ومن الأذى ما هو واقع من الله تعالى وحده في العالم الخالي من المعصية كالأطفال والأولياء، وفي المعاصي وليس للمخلوق فيه علم ولا إرادة قطعا كالأمراض من السقم والعمى والصمم والخرس والعرج ونقيضه الخلق في الأجسام ونحوها، وكالحوادث الواقعة من الحرق والغرق والسقوط من علو والهدم المزهق ونحو ذلك، ومن ذلك الموت الذي لا أذى أعظم منه. وبالإجماع العام ما على الله تعالى في شيء من ذلك لوم لا ينسب إليه به ظلم، فكيف ينسب إليه ظلم فيما يريده وهو مكتسب لغيره. (أن أفعال العباد مخلوقة لهم وليست مخلوقة لله) ومنها أن أفعال العباد مخلوقة لهم وليست مخلوقة لله، فإذا فعل المخلوق من قيام أو قعود أو غيرهما كان بإرادته وحده.

ورُد من وجوه: الأول: أن من المخلوقات ما يصدر من حركته لطيف الصنائع ولا إرادة له، كدود الإبريسم ونحل العسل، فانتقض قولهم وثبت أن خالق أفعال المخلوق هو الله تعالى. الثاني: أن من العباد من يقع الفعل منه وهو يريد عدمه، كحركة المرتعش، أو لا اختيار له بوقوعه أو بعدمه، كحركة النفس؛ فالخالق هنا هو الله اتفاقا، فأطرد في الباقي قياسا. وحكي أن بعضهم قال لرافضي: إن كانت أفعالك بإرادتك ارفع رجلك اليمنى، فرفع، فقال: ارفع اليسرى ولا تضع اليمنى، فلم يستطع وانقطع. الثالث: قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} أي سواء عليكم أجهرتم أو أسررتم ألا يعلم أفعالكم من خلقها.

الرابع: قوله تعالى: {قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون} أي خلقكم وخلق أعمالكم. قالت المعتزلة: ليست "ما" هاهنا مصدرية وإنما هي موصولة، أي خلقكم وخلق الذي تعملونه يعني الأصنام استحقارا بها وتوبيخا لمن يعبدها، وهذا هو الغرض. قلنا: كونها مصدرية لا تنقض شيئا من هذا الغرض، بل هو أبلغ في المعنى، لأنه إذا كانت أفعال العباد مخلوقة لله تعالى والأصنام مخلوقة الأفعال كانت الأصنام مخلوقة لمخلوق الله، ولا شك أن ذلك أبلغ في تحقير الأصنام كونها مخلوقة المخلوق وفي توبيخ من يعبدها كونهم يعبدون مخلوق المخلوق.

الفصل الرابع فيما خالفوا فيه من مسائل الفروع

الفصل الرابع فيما خالفوا فيه من مسائل الفروع وسنذكر ما هو ظاهر التداول. (المسح على الرجلين في الوضوء) فمنها المسح على الرجلين في الوضوء، محتجين بقراءة الجر. ويرد بأن يقال ليس في الآية ما يدل على المسح صريحا، لأن عامل المسح هاهنا لفظا بيان الفعل وهو لفظ {امسحوا} والحرف الباء التي {برؤسكم} ولم يتكرر واحد منهما بعد واو العطف التي مع {أرجلكم}، فاحتمل العطف الغسل والمسح، ولذلك قرئت الأرجل بالنصب عطفا على اليدين المغسولتين وبالجر عطفا على الرأس الممسوح. لكن يترجح الغسل من وجوه:

الأول: أن يقال: الفرض في الأرجل الغسل، وإنما قرئت بالجر مناسبة، إذ فصل الرأس الذي فرضه المسح بين الأرجل وبين الأيدي اللواتي فرضهن الغسل، فقرئت بالجر لمجاورتها الرأس الذي هو مجرور، [و] الإعراب بالمجاورة واقع في كلام العرب، كقولهم جُحرُ ضبٍ خربٍ، بجر الخرب وهو صفة الجحر، وكقوله: {عذاب يوم أليم} على وجه، وهو صفة العذاب المرفوع. الثاني: أن يقال الآية أوجبت المسح السنة أوجبت قدرا زائدا عليه وهو الغسل.

ويؤيد ذلك إجماع الأمة عليه في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه بعده المسح. حتى أن أعرابيا ترك في وضوءه من رجله لمعة أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الصلاة فقال: «ارجع فصل فإنك لم تصل» «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار». الثالث: الواجب الغسل، وإنما جاء بلفظ المسح لما بينه وبين المسح من معنى البلل. ومثله واقع في كلام العرب، كما جاء التبن الذي يعلف والماء الذي يسقى بلفظ العلف لما بينهما من معنى الطعم في قوله:

علفتها تبنا وماء باردا والسيف الذي يتقلد والرمح الذي يعتقل بلفظ التقلد لما بينهما من معنى الحمل في: رأيت زوجك في الوغا ... ء مقلدا سيفا ورمحا الرابع: أن الغسل أعم من المسح، والعام داخل تحت الخاص وحاصل منه من غير عكس، فيقال: كل غسل مسح، ولا ينعكس، كما يقال: كل ثمرة حلاوة، ولا ينعكس. فإذا عرفت ذلك كان الصواب لازما لنا قطعا، ولزم الرافضة الخطأ من وجه لأنه إن كان الواجب الغسل كنا على الصواب وكان الرافضة على الخطإ لأن المسح لا يجزئ عنه، وإن كان الواجب المسح كنا على الصواب أيضا لأن الغسل يجزئ عنه. الخامس: أن فرض الرأس المسح اتفاقا، وفرض الرجلين المسح في قول الرافضة، والغسل فيهما يكفي عنه في الحدث الأكبر، ويندرج الأصغر تحته

ويحصل به الوضوء اتفاقا، وهذا دليل ظاهر على أن المسح يحصل بالغسل. فانتفى الخطأ عنها على كلا التقديرين. السادس: أن الرخصة أضعف من العزيمة، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترخص جواز المسح على الخف، وفي ترخص المسح على الخفين دليل على أن الغسل في الرجلين عزيمة إذ المسح أضعف من الغسل، ولو كانت العزيمة في الرجلين المسح لم يكف للخف لتساوي الرخصة والعزيمة فيهما، ومثله ممنوع. السابع: الفرض في الرجلين وقع محدودا مع عدم تعين جهة المسح في القدم لقوله تعالى: {إلى الكعبين} بلا تعين لا على القدمين أو أسفله أو جوانبه، والتحديد من خواص الغسل في المسح مع إطلاق الجهة في الوضوء من خواص المسح العام، وإذا عم المسح صار غسلا بلا خلاف،

(حل المتعة)

فتعين الغسل على الوجه في قراءة الجر أيضا. وإنما جاء الغسل هاهنا بلفظ المسح مع التعميم تنبيها على قلة النصب لترك السرف المعتاد في غسل الرجلين لكونهما قريبتين من الأرض التي هي محل النجاسة. (حل المتعة) ومنها حل المتعة. محتجين بدليلين: أحدهما: كانت زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورُد بأنها كانت من أحكام الجاهلية كالخمر

ونكاح الأختين وزوجة الأب ونحو ذلك، وطن الإسلام عليها فاستمرت إلى حين نزول الناسخ كما في غيرها من الأحكام كالخمر ونحوه. والناسخ في القرآن موضعان: الأول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} لم يبح الله

تعالى في الآية المذكورة غير الزوجة وملك اليمين. قالوا: المستمتع بها زوجة. قلنا: الزوجة يلحقها الطلاق، ولها نصف المهر المسمى قبل الدخول، وجميعه بالدخول، ويحرمها الطلاق ثلاث مرات، وتحتاج بالعود إلى الأول إلى محلل، ويحتاج بالفرقة إلى ذوي عدل عند

الرافضة، ويحتاج بالبائن إلى الإذن، وبالرجعى دون الإذن، وغير ذلك من الأحكام. والمستمتع بها ليست كذلك. فانتفى أن تكون زوجة. الموضع الثاني: قوله تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} وقوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وأمثال ذلك في القرآن. وهذا صريح في تحريم التمتع. فإن قيل: هذا ليس في هذا المعنى خاصة. قلنا: داخل في عمومه. الدليل الآخر: قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}

ورُد من وجوه: الأول: أن الآية فيها سين الاستفعال الدال على استيفاء المتعة، فيكون معناه: ما دخلتم به من النساء وحصل التمتع فآتوها أجرها وما لم تدخلوا ولم يحصل بها تمتع فآتوها نصف أجرها. وإلا لو كان مقصود الآية ما ذكرتم كان يقول تعالى: فما تمتعتم به منهم، لأن اسمها متعة، ما اسمها استمتاع. الثاني: أن الله تعالى ذكر المال بقوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وإذا ذكر المال وجب أداؤه سواء كان النكاح مؤبدا أو مؤقتا، فما فائدة تخصيص المؤقت بإيتاء الأجر دون المؤبد، ولو كان كذلك لخرج من مفهومه المؤبد عن إيتاء الأجر، وهو باطل. فتعين أن يكون المؤبد الحاصل به الاستمتاع بالدخول كونه لا خلاف في جوازه كما ذكر في الوجه قبله، [ولا يستقيم للرافضة في هذه الآية دليل على المؤقت لأنه نوى بالاستمتاع الدخول] ويجعل ذلك للمؤبد والمؤقت، ويعود الخلاف في المؤقت، وهو لا يجد دليلا غير الآية، فينقطع النزاع. الثالث: لو سلمنا أن الآية في المتعة، فالفاء إن جعلت تفريعا من قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ}، خرج الإحصان المؤبد، وخروجه ممتنع كما عرفت في الوجه قبله. وإن جعلت استئنافا كان مدلول الآية في المستمتع بها إيتاء الأجر فقط من غير دلالة على حلها، وإيتاء الأجر للشبهة والحرمة تعليم من قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} ومن تنصيص كثير من العلماء عليها.

الرابع: أن الله تعالى شرط في نكاح الإماء العجز عن طول الحرة، وأجر المتعة في الحرة أقل من مهر الأمة في المؤبد، لأنه قد يحصل بأقل ما يكون من الدراهم من نحو درهمين أو ثلاثة لقصر المدة وضرورة الحرة المحتاجة، ولا لعجز أحد عن مثلها. فلو كان نكاح المتعة جائزا لم يبح نكاح الأمة قطعا، لأن طول الأمة لمالكها وصحة نكاحها موقوف على إذنه، ولا يملك الإماء إلا أولو الثروة، وصاحب الثروة لا يرضى بالدرهمين والثلاثة. الخامس: أن الله تعالى منّ علينا بالتخفيف في نكاح الإماء لضعفنا بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} ولا شك أن طول الأمة في النكاح المؤبد أثقل من أجر الحرة في المؤقت. فلو كان المؤقت جائزا لكانت المنة به أخف. السادس: أن المتعة يستقبحها كل أحد من أولياء المرأة رافضيا كان أو سينا، ولا يسمح الرافضي نفسه -من الغيرة والنخوة والغضب- لو قال أحد: متعني ببنتك. ولم يجعل تعالى القبح والغضب في أمر أحله لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} قال الشارع - صلى الله عليه وسلم -: "رغم الشرع

أنف الغيرة"، فتبين فسادها. فإن قيل: ابن عباس نقل عنه إباحتها. قلنا: معارض من وجهين: أحدهما أنه نقل عنه رجوعه أيضا. الآخر تحريم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لها، وهو أعظم من ابن عباس أمرا ونهيا من غير منازع له في ذلك من الصحابة.

(حل وطء الدبر)

فإن قيل: مالك يبيحها أيضا. (¬1) قلنا: فهذه الأدلة رد على الرافضة وعليه أيضا. (حل وطء الدبر) ومنها حل وطء الدبر. محتجين بقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} يعني أي موضع شئتم من القبل أو من الدبر. ¬

(¬1) قال ابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام: ما حكاه بعض الحنفية عن مالك من الجواز خطأ قطعا.

وبقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} أي مثل ما للذكران، يعني الدبر. قلنا: لو عقلت الرافضة ما جعلت ذلك دليلا لهم وهو دليل عليهم. أما الآية الأولى فإن الله تعالى جعل النساء حرثا على وجه الاستعارة وأمر بإتيان الحرث موضعا يراد الحرث، ولا يراد الحرث إلا في منبت الزرع، والزرع هاهنا الولد، ولا يحصل الولد إلا من القبل، فتعين. وإنما قدرنا مفعول {شئتم} بالحرث لأن قاعدة فعل المشيئة في علم المعاني أن يقدر مفعول بما ذكر معه، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي لو شاء هدايتكم، وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} أي ولو شئنا هداية كل نفسه، وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} أي ولو شاء ربك إيمان من في الأرض. وأمثال ذلك في القرآن كثيرة. ولو ذهب الرافضي يقدر مفعول {أنى شئتم} غير المذكور معه أو لم يجعل له مفعولا ذهب إلى الخطإ في البلاغة، وعلى قول من يزعم أن {أنى} هاهنا بمعنى كيف، وأكثر ما جاءت {أنى} في القرآن هو بمعنى كيف. فلا دليل للرافضي في الآية. وأما الآية الثانية: فإن الله تعالى وبخ الواطئ في الدبر من بني آدم وأخرج سائر الحيوانات التي لا تعقل من التوبيح وجعلها أهدى منه بقوله:

(عدم وقوع الطلاق إذا لم يشهد)

{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} وبقوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} فإن سائر الحيوانات من البهائم لا يأتي في الدبر. أما من الذكران فظاهر. وأما من الإناث فإنه إذا نزع الذكر منها الأنثى لا يهتدي إلا إلى قبلها دون الدبر. فقبح الله الفقيه الرافضي كيف كانت البهائم أهدى منه، ولا يعي ولا ينزجر من توبيخ الله تعالى. ولو أراد الله تعالى بقوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} دبر الزوجة تشبيها بدبر الذكر لقال: وتذرون ما خلق ربكم من أزوجكم مثله، كما قال في الفلك الكبار: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} يعني الزوارق. (عدم وقوع الطلاق إذا لم يشهد) ومنها عدم وقوع الطلاق إذا لم يشهد. محتجين بقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}

ورد بأن يقال: الإشهاد هاهنا يتعلق بالنكاح، وهو قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} دون {أَوْ فَارِقُوهُنَّ} ويؤيد ذلك وجوه: الأول: أن المفارقة هاهنا ليست طلاقا، وإنما هي إطلاق أي عدم الإمساك، وإن الطلاق تقدم ذكره بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} والعدة انقضت بقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} لأن معنى الآية إذا بلغت المطلقة العدة وهي في مسكن الفراق: فإن أحدث الله أمر إعادتها في نفسك فأمسكها بمعنى أعد نكاحها وأشهد عليه ذوي عدل، وإن لم يحدث الله أمرا في إعادتها ففارقها، يعني ارفع الحجر الذي كان عليها من ملازمة مسكن الفراق. ولو لم تكن المفارقة هاهنا إطلاقا لكانت أمرا بطلاق [ثان] بعد الطلاق الأول وأن الإشهاد هو للإمساك لا للمفارقة. فإن قيل: المراد بالأجل هاهنا الطهر لا العدة، يعني إذا بلغن الطهر فأمسكوهن. قلنا: ذلك مردود من وجهين: أحدهما أن يقال ذلك سبق في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ولا فائدة لإعادته قريبا. الآخر: أن كلما جاء بلوغ الأجل في القرآن الغرض منه العدة، كقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقوله

تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. الوجه الثاني: أن النكاح يحتاج إلى الإشهاد دون الطلاق، لأن النكاح عقد تريد به تملك ما ليس لك في ملك الغير، فتحتاج به إلى ما يثبت الانتقال؛ والطلاق حل معناه تخلية ما هو لك، فلا يحتاج فيه إلا إلى النية فقط، فالإشهاد فيه وعدمه واحد. الوجه الثالث: أن الإشهاد المذكور معطوف على المفارقة لا يلزم أن يكون شرطا في صحة وقوع الطلاق، لأن مثله في القرآن كثير وليس بشرط، كقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وأكد ذلك بتكرير الأمر بالكتابة. ثانيا بقوله: {فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} وثالثا بقوله: {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ورابعا بقوله: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} وبالغ بقوله: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} وبقوله: {وَلَمْ

(نجاسة الكافر)

تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وكذلك أمر بالإشهاد على الدين بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وبالغ بقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ} وكذلك أمر بالإشهاد على البيع بقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وكل ذلك ليس بشرط في لزوم الدين ولزوم البيع، فكيف صار مثله شرطا في لزوم الطلاق وهل ذلك إلا تحكم ومكابرة لشرع الله تعالى وأحكامه. (نجاسة الكافر) ومنها نجاسة الكافر. محتجين بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} والجواب من وجهين: أحدهما أن الله تعالى أباح لنا طعام أهل الكتاب ومناكحتهم، وهذا نص في طهارة الكافر، لكن جاء النجس للكافر؛ فاحتجنا إلى التوفيق بين الآيتين، وإلا توجه التناقض. والتوفيق إما بوجود الناسخ من أحدهما.

ونجاسة عين الكافر فيها خلاف بين العلماء. وحل طعام أهل الكتاب ومناكحتهم لا خلاف فيها.

وأيضا نص المفسرون على أن سورة المائدة لم يدخلها ناسخ، وهي من آخر ما أنزل، فتعين النسخ للأول. وإما بوجود التأويل، ونجاسة الكافر تحتمل التأويل: قيل إنه نجس باطنا وظاهرا كالجنب، ولهذا منع من الحرم ومن اقتناء المصحف ومن قراءة القرآن. وقيل شبه بالنجس استعارة لا على الحقيقة في عينه. وقيل للمبالغة في ذمه، والجامع بينه وبين النجاسة ملابسته لها أو عدم احترازه منها، مثل أكل الميتة والدم والخنزير وشرب الخمر وغير ذلك. وحل طعام أهل الكتاب ومناكحتهم لا تحتمل التأويل، فتعين أن قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ليس على الحقيقة.

(الصوم في السفر)

ولو ذهب الرافضي إلى نجاسة الكافر ذهب إلى تناقض القرآن، وهو كفر. الآخر: أن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي} ولم يفرق بين كافر ومسلم، وقضية التكريم لا تقتضي نجاسة العين. (الصوم في السفر) ومنها عدم جواز الصوم في السفر ووجوب قضاء الفرض الذي يصام فيه. ورُد من وجهين: الأول: إن الصوم عزيمة في الإقامة، والفطر رخصة في السفر ومتى صحت العزيمة كانت مقدمة على الرخصة وأولى منها، كالماء والتراب في الوضوء، الماء عزيمة والتراب رخصة، فمتى حضر الماء كان مقدما. الثاني: أن الممهد في أصول الفقه أنه متى ارتفع الوجوب بقي الجواز،

(فساد الصوم في الجنابة)

كآية النجوى، فإن تقديم الصدقة بين يدي النجوى للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما نسخت لم يكن ممنوعا. (فساد الصوم في الجنابة) ومنها فساد الصوم في الجنابة قياسا على الصلاة. ورُد من وجهين: أولها: معنى الصوم هو الإمساك عن الأكل والشرب ونحوه، وليس هو عمل كالصلاة، فما معنى الطهارة والحدث فيه. ثانيها: أن الله تعالى أباح الأكل والشرب والجماع حتى يطلع الفحر بقوله تعالى: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} أي الفجر، وإذا أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر فلا شك أن الجزء الذي يقع فيه الاغتسال وطلب الاغتسال من الجنابة يقع في جزء من النهار بالضرورة. وهذا رد واضح. ثالثها: أن الوطء إذا أبيح إلى طلوع الفجر، كان الجزء منه وهو النزوع واقعا في الجزء من النهار قطعا. وهذا أبلغ من الدليل قبله. رابعها: إذا جاز الوطء إلى الفجر ووقوع جزء منه وهو النزوع في الفجر كان جواز الصوم حتما بالطريق الأولى. وذلك من باب القياس الجلي.

الفصل الخامس فيما ذكروه من مثالب الخلفاء الثلاثة

الفصل الخامس فيما ذكروه من مثالب الخلفاء الثلاثة (ما ذكروه عن الصديق) أما ما ذكروه عن الصديق رضي الله عنه: (قصة الغار) فمنها قوله تعالى في قصة الغار حكاية عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر رضي الله عنه: {لَا تَحْزَنْ}. وقد سبق الجواب عند ذكر نوم علي في الفراش.

(صلاة أبي بكر بالناس)

(صلاة أبي بكر بالناس) ومنها صلاة أبي بكر بالناس، قالوا ذلك بقول ابنته عائشة رضي الله عنها، لا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلنا: ذلك مردود من وجهين: أحدهما أنه وقع في كتب الأئمة المحدثين الثقات أنها بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك قوله: «مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصلي بالناس»، وما نص الأئمة العدول على صحته وجاء من وجوه شتى وطرق متعددة لا يقف قباله خصم ثبت حدوثه بمئات سنين وفسقه بالسب لصدر الأمة وخيارها مشاهدين نوزل الوحي مصاحبين النبي - صلى الله عليه وسلم - حضرا وسفرا. الآخر: هذه لم تكن صلاة واحدة يمكن فيها النصب والتلبيس، وإنما هي سبع عشرة صلاة اقتدى بها مجموع من كان من الآل والصحب، وقيل

تسعة أيام وحضر النبي عليه الصلاة والسلام صلاة منها، وهو الأصح.

(أن الإجماع لم يكن من كل الأمة)

لو كانت لأدنى من في الصحابة لترجح بها على الجميع كائنا من كان، فكيف وهي للصديق الذي هو بدونها أعظم. (أن الإجماع لم يكن من كل الأمة) ومنها الإجماع، قالوا لم يكن من كل الأمة. ورُد من وجوه: الأول: لو يتأخر أحد عن بيعته فإما أن يكون قليلا كافرا أرذل الناس، فلا عبرة به، وإما أن يكون كثيرا، وحينئذ فكان له حزب واشتهار وانفراد عن الجماعة بتقديم مطاع منهم ينقادون له ويقتدون به. ولم يُعهد ولم تطق الرافضة تثبت أحدا كان بعد بيعة الصديق كذلك إلا أهل الردة ومانع الزكاة، وهم رعايا ورعاع تبعوا مسيلمة وقتلهم الصديق بإجماع الآل والصحب على قتلهم. واستقر الحق على الصديق واستمر عليه من غير منازع بعد حتى كأن لم يكونوا. فتبين كذب الرافضة.

الثاني: الحزب الذي تأخر عن بيعة الصديق يحتاج إلى إمام يدّعون له استحقاق ذلك ويكون قائدا لهم منفردين به عن الجماعة بذلك الحزب بينهم وبين أبي بكر وحزبه. فإن ادعت الرافضة أنه علي رضي الله عنه كان كذبا أظهر من رؤية الشمس نهارا ليس دونها سحاب، إذ لك يكن لأبي بكر منازع اتفاقا. وإن ادعت أنه غير علي كان دعواهم حجة عليهم لعكس مقصودهم. الثالث: نسلم لهم تأخر أحد عن بيعته جدلا على سبب التقدير، فقد انقاد لعمر وعثمان وتبين كونه كان على باطل إذ لم يعهد لهما منازع، وهما منصوبان للصديق وإمامتهما فرع إمامته. فسحقا وبعدا للرافضة ما أشهدهم بالزور وأكثر خيالاتهم وبهتهم.

(الدفن)

(الدفن) ومنها الدفن. قالوا هو بقول ابنته عائشة، وهو خطأ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} والجواب من وجوه: الأول أن المراد ببيوت النبي بيوت نساء النبي. والدليل على أن البيوت للنساء قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} وقوله عن مطلق النساء: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}. والغرض من ذلك احترام نسائه كونهن لسن كأحد من النساء. وهذا النهي إنما كان حال حياته تعظيما له - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن الأمر بعد موته كذلك وليس في البيوت أحد من نسائه. وهذا لا

يخفى على عاقل، إلا أن يكون الله أضله عن الهدى وله هوى يتبعه. الثاني أن الله نهى عن الدخول إلا بإذن ممن له الإذن. وقد عرفت أن البيوت لنسائه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا بيت عائشة رضي الله عنها، وقد أذنت بدفن أبيها فيه وأذنت لعمر رضي الله عنه بعده. الثالث أن البيت إنما يسمى بيتا حال كونه مسكونا للأحياء أو يصلح لسكناهم، وإذا صار مدفنا عاد يسمى قبرا. ولم ينه الله تعالى عن دخول القبر، واستحال الإذن من الميت، فاستحال قصد الرافضي الأعمى. الرابع أن العراق فتوح عمر رضي الله عنه وملكته اشتراه من الغانمين وأوقف بعضه على المسلمين.

وعلي والحسين دفنا فيه بلا خلاف في ذلك. فإذا قال السني للرافضي: أنت شرطت الإذن في جواز الدفن وأعبت دفن أبي بكر وعمر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان الأمر كذلك فأي إذن صدر في دفن علي والحسين رضي الله عنهما في ملك عمر رضي الله عنه وقد مات واستحال الإذن؟ فينقطع الرافضي. وإن كان الأمر ليس كما قلت فقد دفنا في صدقة عمر رضي الله عنه، فيعظم الأمر على الرافضي وتقوم القيامة عليه ولا جواب له في ذلك. ولو كان الأمر بالعكس - أي يكونا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما مدفونين في العراق وعلي رضي الله عنه مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: جعل ذلك الرافضي تفاحة لم تزل في أيديهم يلعبون بها ولم يكن لسني معهم قرار وكان يكون الحق في أيديهم إذ لا فضيلة أعظم من ذلك. وحيث منح الله أبا بكر وعمر بها عادوا يتحيلون بها بحيلة ليجعلوه رذيله ويقمشون من هاهنا ومن هاهنا، والمصنوع لا يخفى. قاتلهم الله أنى يؤفكون.

(قتاله مانعي الزكاة)

(قتاله مانعي الزكاة) ومنها قتاله من منع دفع الزكاة إليه من مانعي الزكاة. والجواب أن المسلمين أجمعوا على قتل مانعي الزكاة، وقتلوهم وتبين فساد تأويلهم وبطلان منعهم إياها. وقد قيل للصديق حين عزم على قتالهم: كيف نقاتلهم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ودمه إلا بحق الإسلام وحسابه على الله تعالى» قال الصديق رضي الله عنه: الزكاة من حق الإسلام، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه. ثم أجمع المسلمون بعد ذلك على رأيه وقتلوهم من غير منازع. (فدك) ومنها رده دعوى فاطمة رضي الله عنه من فدك والعوالي قريتين من قرى خيبر.

والجواب عن ذلك أنها أولا ادعت الإرث فيهما، قال لها الصديق رضي الله عنه: الأنبياء لا تورث، وقد قال أبوك - صلى الله عليه وسلم -: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» قالوا: احتجت عليه بقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} وقوله تعالى عن زكريا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ}

قلنا: نقل الاحتجاج عنها بهاتين الآيتين كذب لأن الإرث المذكور فيها هو إرث العلم والنبوة، لا إرث المال؛ إذ لا يخص سليمان بميراث أبيه دون باقي أولاده ودون زوجاته، ويرث مال آل يعقوب أولادهم وورثتهم لا ابن زكريا. فقد تبين لك بطلان ذلك الاحتجاج. ثم إنها رضي الله عنه ادعتها ثانيا بالهبة. قالوا: الهبة تحتاج إلى القبض في التصرف بعد البينة. قالوا: أتت بعلي وأم أيمن شهدا بها لها. قلنا: فقد نقل أنه قال لها: إن كان أبوك لا يورث فخصمك في ذلك كل المسلمين، وإن كان أبوك يورث فخصمك فيه العباس وزوجاته. وعلى كلا التقديرين لا تقبل في ذلك شهادة رجل وامرأة. وحقيقة هذا الرد ظاهرة من كتاب الله تعالى. وحينئذ فلوا قال أحد: فاطمة ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أيجوز أن تطلب ما ليس لها بحق؟ كان قول القائل "إن أبا بكر رضي الله عنه ما منع يهوديا ولا نصرانيا حقه، فكيف يمنع حق بنت رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - " أولى وأرجح من ذلك القول. وقد ثبت أنها جاءت تطلب خادما من أبيها من سبي جاء له، فعلمها التسبيح عند دخول الفراش ولم يعطها بطلبها خادما. فكيف يعطيها أبو بكر رضي الله عنه بمجرد طلبها. قلنا: هذا تلبيس من الرافضة بين، فإنهم كانوا يقسمون له من الغنائم، حتى إنهم أعطوه قطعة من بساط كسرى باعها بعشرين ألفا، وكان في

أيامهم ذا ثروة مما تغنمه عساكرهم في خلافته، وأيضا لو كان الأمر كما قالوا لغيّر علي فعل أبي بكر وأعطى الحسنين ما ادعته فاطمة رضي الله عنها، والحال أنه لم يغير ما فعله ولم يعطهما شيئا كما ثبت عنه بالتواتر. قالوا: إنها غضبت رضي الله عنها بعد ذلك على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلى أن ماتت، ودفنها علي رضي الله عنه ليلا حتى لا يصلوا عليها، لأن من صلى عليها غفر له. قلنا: قبح الله الرافضة إذ ينسبون إلى علي رضي الله عنه منع الخير إليها وإلى أصحابه. أما إليها فإن الصلاة خير على الميت من دعاء المصلي له. وأما إليهم فإنه بحسب ما نقلوه كان يغفر لهم. وحاشا أن يكون أمير المؤمنين رضي الله عنه مناعا للخير. وأما دفنها ليلا: حتى لا يشرف على جنازتها أحد من الرجال احتراما لها كونها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي ينادي لها في القيامة على أهل

الموقف: "يا أهل الموقف غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - " وهي التي ينادى وأولادها وبينها يوم القيامة بالنسبة إليها، وكل أناس من أهل الموقف بآبائهم إظهارا لشرف ولديها الحسن والحسين بإضافتهما إليها رضي الله عنها. نقله بعض المفسرين. قالوا: آذوها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "فاطمة بضعة مني يريبها ما رابني ويؤذيها ما آذاني"

قلنا: ليس منعها بالحق أذى لها، وإن كان أذى كان ذلك حجة عليهم، لأن هذا الحديث ورد لعلي رضي الله عنه حين خطب بنت أبي جهل بن هشام، فقام - صلى الله عليه وسلم - خطيبا وقال: إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وقيل: ولم يسمه باسمه بل قال: ابن أبي طالب - وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يطلق فاطمة، فإنها بضعة مني يريبها ما رابني ويؤذيها ما آذاني، وإني لست بالمحرم حلالا ولا بالمحلل حراما، ولكن لا تجتمع بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت عدو الله في بيت واحد". وسبب الشيء أولى به من ذم أو مدح. وأيضا إن ذلك آذاها وآذى أباها بالأصالة إذ هما حيان، وهذا هو ما عناه النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلو احتج أحد بمفهومه وأخرج ما فعله أبو بكر رضي الله عنه لاحتمل ذلك. وأيضا بين الأذيتين، وقيل لدى الاثنين، فرق. إذ أذى علي بحق نفسها، وأذى أبي بكر لحقّ الغير، فلا لوم عليه به. وإذا وصل علمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته لا يتأذى به إذا منعها على وجه مشروع. وخطبة علي وإن كانت مباحة لكنها أبانت غضب فاطمة رضي الله عنها وغضب أبيها - صلى الله عليه وسلم -، فيكون ذلك من خصائصه. فانظر ما يحتال به الرافضة ولا يعقلون خطأه وجريرته عليهم.

(إنفاذ علي بالنداء بسورة براءة)

(إنفاذ علي بالنداء بسورة براءة) ومنها تنفيذ علي رضي الله عنه وراء الصديق رضي الله عنه بالنداء في ست آيات من سورة براءة بفسخ العقود التي كانت بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين الكفار ونقضوها. قالوا: لم يرتض أبا بكر لذلك. والجواب عنه من وجهين: أحدهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نفذ أبا بكر أميرا على الحج، ثم ألحقه بعلي بذلك الأمر؛ فأبو بكر الأمير العام، وعلي رضي الله عنه جاء في أمر خاص يدعو بذلك الأمر في إمرة أبي بكر ونيابته. وهذا مما يتضمن ترجيح أبي

(أن أبا بكر قال لست بخيركم)

بكر رضي الله عنه لا نقصانه. الآخر: أن النداء أمر صغير لا يليق بالأمراء مثله، فصرفه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي بكر رضي الله عنه كونه الأمير رفعا لدرجته عن مثله، وهو فضيلة لعلي رضي الله عنه كون فسخ العقود لا يكون إلا من العاقد أو قريبه الأدنى، وعلي رضي الله عنه من أقرب الأقارب له - صلى الله عليه وسلم - كونه ابن عمه من الأبوين، لأن أبا طالب أخ لعبد الله أبي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبيه وأمه. (أن أبا بكر قال لست بخيركم) ومنها قولهم إن أبا بكر قال حين بويع: أقيلوني لست بخيركم وعلي فيكم.

قلنا: كذب، وإن صح فهو على سبيل التواضع. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفضلوني على يونس بن متى"، ولا خلاف في أنه عليه الصلاة والسلام أفضل الأنبياء، من يونس من هو أعظم منه كإبراهيم وموسى وعيسى. وما ذاك إلا كرم وتواضع منه عليه أفضل الصلاة والسلام.

(دعواهم أن الله سلطهم على أبي بكر وعمر باللعن والسب)

(دعواهم أن الله سلطهم على أبي بكر وعمر باللعن والسب) ومنها دعواهم أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما سلطنا الله عليهم في اللعن والسب، وما ذاك إلا عن شيء. قلنا: أنتم كلاب لا اعتبار بسبكم خفيا، فعلي رضي الله عنه سُب من مخاديم الناس على المنابر ورؤوس الأشهاد، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما في حصن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأي لعنة تصل إليه عند هذا الحمى الأعظم. ولا شك أن لعنتكم تصل إليكم. (أن أبا بكر قال أعينوني وأقيموني وعلي قال سلوني) ومنها: قولهم بعدما بويع وهو يخطب على المنبر منبر المدينة: أعينوني وأقيموني، وعلي رضي الله عنه قال على منبر الكوفة: سلوني.

(ما ذكروه في عمر)

قلنا: إن صح ذلك فبين القولين فرق عظيم. وهو أن الصديق رضي الله عنه قال ذلك وتحت منبره ومن رعيته علماء الأمة وصدورها وساداتها وهداتها ومشاهدون نزول الوحي ومباشرون ومعاشرون من تشعب عيون العلم من ينابيع معينه - صلى الله عليه وسلم -، مثل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأهل بدر وكافة الآل والصحب على طبقاتهم، قال لهم مثل ذلك تواضعا لهم واستمالة لقلوبهم، لا لتعلم منهم، ولم يحتج إليهم ولم يخالفوه في شيء. وعلي رضي الله عنه قال ذلك لرعيته من عوام الكوفة ورعاتها يريد أن يعلمهم. ولا شك أنه إمامهم وأعلمهم وأنه صاحب العلم الغزير. (ما ذكروه في عمر) وأما ما ذكروه في عمر رضي الله عنه: (أنه منع كتاب رسول الله في مرض موته) فمنها قولهم إنه منع كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أراد أن يكتبه في مرض موته وقال: إن الرجل ليهجر.

والجواب عنه أن الكتاب هو كان في خلافة أبي بكر رضي الله عنه لا في حق غيره، كما ثبت في حال صحته حين قال لحفصة في قصة {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما يليان أمر أمتي من بعدي. ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مجهودا من مرضه وكثر اللغظ عنده فقال عمر رضي الله عنه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مجهود، وفينا كتاب الله تعالى فلن نضل. قال ذلك شفقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلمه أنه ما كان يريد أن يكتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بد وأن يكون، فاستوى عنده الكتابة وتركها، وحصل الشفقة والرفق للنبي - صلى الله عليه وسلم - بما فعله من قيامهم عنه وقطع اللغط والمشاجرة، وكان الأمر كا قال واعتقد: بويع أبو بكر رضي الله عنه ولم يختلف عليه اثنان. ولا أضل أحد إلا من كتب الله عليه الضلالة في آخر الدين من الرافضة.

وأما قوله إن الرجل ليهجر، يعني كلامه حينئذ، أي في مرضه، خارج عن حد الصحة، يعني من جهة الكثرة والقلة ونحو ذلك، لاحتمال السهو عليه من اشتغال القلب الذي هو وعاء الإيعاء، ومثل ذلك واقع للبشر في حال المرض، لحديث ذي اليدين في تسليمه في صلاة العصر على

(أنه قاد عليا ببند سيفه وحصر فاطمة في باب فأسقطت المحسن)

ركعتين. فالسهو في المرض أقرب احتمالا. (أنه قاد عليا ببند سيفه وحصر فاطمة في باب فأسقطت المحسن) ومنها قولهم إنه قاد عليا ببند سيفه وحصر فاطمة رضي الله عنها في باب فأسقطت ولدا اسمه المحسن. ورد ذلك بأن يقال: هذا كذب محض، ويؤيده وجوه: الأول أن ذلك فيه نسبة خساسة وعجز إلى علي رضي الله عنه وبني هاشم، لأن عليا الشجاع الأعظم من الآل والصحب ومعه عصبة القبيلة العظمى من قريش وهم أبطال بني هاشم قبيلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أهل الأنفة والنخوة، ولم يصبروا على ضيم. والعباس لم يصبر لأبي جهل وهو

حينئذ أمير قريش على قوله له حين رأت عاتكة بنت عبد المطلب الرؤيا: متى ظهرت منكم هذه النبية، إلى أن تعرض له ليكافئه. وحمزة لم يصبر له حين غلظ للنبي - صلى الله عليه وسلم - الكلام وهو يطوف حتى صرعه وشج رأسه بقوسه. فكيف يجوز أن يصبروا على إهانة مخدومهم وابن مخدومهم. ثم لا غيرة! وحيث لم ينقل تحقق الكذب. الثاني: أن عائشة رضي الله عنه لم تكن بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحين عقر جملها زهقت عنده الأرواح وتطايرت الكفوف وقتلت ألوف غيرة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كونها زوجته. فكيف بابنته التي هي بضعة منه؟ ولو كان ذلك صحيحا لحميت المسلمون وكان أعظم من يوم الجمل، إذ هي أعظم من عائشة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وحصرها وإسقاطها أعظم من عقر البعير. ووالله لو كان

ذلك لأمَتها لم يصبر المسلمون عليه ولغدا عمر رضي الله عنه قطعا بسيوف المسلمين. وإذ لم ينقل إلينا شيء من ذلك تبين كذبه. الثالث أن عمر رضي الله عنه قاد سوقيا من جبلة بن الأيهم ملك غسان بلطمة، فقال: يا أمير المؤمنين، أيلطم سوقي ملكا؟ قال: نعم ويرغم أنفك. ولم يحتمل مظلمة سوقي مسلم ولا إهانته. فكيف بمخدومته وابنة مخدومه. الرابع أن الولد الأولى أن يسمى في اليوم السابع، وهذا سقط. فكيف سماه علي رضي الله عنه وهو من أعلم الناس والأولى بفعل الأولى. وهل

(أن عمر قال لولا علي لهلك عمر)

هذا إلا كذب من الرافضة وتصوير. (أن عمر قال لولا علي لهلك عمر) ومنها قولهم إن عمر رضي الله عنه أتي بزانية حامل فأمر برجمها فقال له علي رضي الله عنه: إن كان لك عليه سبيل فليس لك على ما في بطنها، فقال: لولا علي لهلك عمر. قلنا: هذا كذب. وإن صح فعمر الحاكم وعلي شاهد يعرف حملها فشهد به. وليس في ذلك عتب على عمر رضي الله عنه إذ لم يعلم حملها، فهما كالقاضي والعدل. (ما ذكروه في عثمان) وأما ما ذكروه في عثمان رضي الله عنه: (تغيبه عن بدر وبيعة الرضوان وفراره يوم أحد) فمنها أنه لم يحضر بدرا. قلنا: كانت زوجته بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مريضة، فاستخلفه عليها، وقد ضرب له بسهم

من غنائم بدر وكان له بذلك حكم الحاضر. ومنها أنه لم يحضر بيعة الرضوان. قلنا: كان بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية إلى قريش. ولكن وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده للبيعة عنه، فكانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرا له من يده. ومنها أنه فر يوم أحد. قلنا: أخبر الله تعالى أنه عفى عنه وعن كل من فر ذلك اليوم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}

(أنه كتب بقتل محمد بن أبي بكر)

(أنه كتب بقتل محمد بن أبي بكر) ومنها أنه كتب إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح في مصر بقتل محمد بن أبي بكر وقتل من معه. قلنا: ذلك فعل مروان لا عثمان، ولقد حلف بالبراءة وهو صادق. (أن المسلمين أجمعوا على قتله وترك ثلاثة أيام لم يدفن) ومنها أنه أجمع المسلمون على قتله وترك ثلاثة أيام لم يدفن. قلنا: لو عقلت الرافضة ما عابوا عثمان بذلك وعليهم في الحسين مثله بل أعظم منه. (أنه ولى أقاربه) ومنها أنه ولّى اقاربه بني أمية أيام خلافته.

(عابوا على عائشة خروجها من المدينة)

قلنا: كثير من أمراء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمراء صاحبيه بعده كان من بني أمية، كمعاوية على الشام وعمرو بن العاص على مصر وغيرهما. (عابوا على عائشة خروجها من المدينة) وأما عائشة رضي الله عنها، فمن الذي عابوا عليها بخروجها من المدينة أنها لم تقر في بيتها وتبرجت تبرج الجاهلية. قلنا: جازى الله الرافضة شر الجزاء. ما أجرأهم على زوجه نبيهم، ولا يراعون له حرمة. أما التبرج الذي كان زمن الجاهلية فإن النساء كانت تلبس الثياب المشبوكة من اللؤلؤ ونحوها من الزينة ويتعرضن للرجال. وحاشا قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تفعله نساؤه مثل ذلك، ومن غيرة الله تعالى عليهن واحترام نبيه أمر بضرب

(ما ذكروه في أهل السنة)

الحجاب عليهن عند السؤال. وأما خروجها من بيتها فإنها لما وقعت فتنة عثمان رضي الله عنه وحوصر أياما وضربت بغلة أم حبيبة رضي الله عنها حتى سقطت أم حبيبة، وهي زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا، خافت عائشة من ازدياد الفتنة وانتشار التجري إليها، خرجت إلى الحج فارة من الفتنة. والفرار مما لا يطاق من سنن المرسلين. ثم رجعت فرأت عثمان رضي الله عنه قد قتل. فأمرت عليا رضي الله عنه بقتل من قاتل عثمان رضي الله عنه. فرأى علي رضي الله عنه تأخير قلتهم، فرحلت تريد البصرة. فخرج علي رضي الله عنه لإرضائها. فوقعت الفتنة بغير اختيار علي رضي الله عنه وغير اختيارها كما قدمنا البحث عند قتل عثمان فيه. (ما ذكروه في أهل السنة) وأما ما ذكروه في أهل السنة: (المذاهب الأربعة) فمن ذلك المذاهب الأربعة، قالوا إنها لم تكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والجواب عنه من وجوه:

الأول أن الرافضة أيضا لم تكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في زمن أصحابه ولا في زمن بني أمية ولا في ثلاثمائة سنة من خلافة بني العباس. فهم ومذهبهم أحق بالرد والحدوث والابتداع. الثاني أن الرافضة أنقص الناس عقلا، كيف يعيبون ما هو فيهم بل أعظم عيبا، لأن أهل السنة إن كانوا أربع فرق، فهم إحدى وثلاثون فرقة. وإن كان بين المذاهب الأربعة قولان أو ثلاثة، فأي مذهب قبضت من مذاهبهم وحده وجدت فيه أكثر من ذلك. الثالث أن الأنبياء والصحابة أعظم من العلماء، وقد وقع الخلاف بينهم بالاجتهاد. أما الأنبياء فداود وسليمان صلوات الله علهيما في الحرث الذي رعته الغنم ليلا، حكم داود بأن يُعطى الغنم بالحرث، وحكم سليمان أن يسلم الزرع إلى صاحب الغنم يتعهده من سقي ونحوه ويسلم الغنم إلى صاحب الزرع ينتفع بصوفها ولبنها حتى يقوم الزرع كما كان ويترادان. فأصاب سليمان كما قال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}

ولم يعتب على داود، بل مدح كليهما بقوله تعالى: {وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} وأما الصحابة فاختلافهم في صلاة العصر اجتهادا حين قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدركهم قرب فوات العصر قبل وصولهم، فقال قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - حسب أنا نصل بني قريظة قبل الفوات ولم يرد منا فوات العصر وصلى في الطريق، وقال قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن لا نصلي إلا في بني قريظة ففوت. فلما علم بحالهم لم يعتب على هؤلاء ولا على هؤلاء. وكذلك خلافهم في أشجار بني النضير حين حصارهم: قطع بعض الصحابة وترك بعضهم، ولم يعتب الله سبحانه وتعالى ولا الرسول على هؤلاء ولا على هؤلاء. بل قال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} وإذا جاز مثل ذلك للأنبياء والصحابة فلا لوم على العلماء. ومنها إعابتهم على أئمة المذاهب بقول شاعرهم: إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهبا ... وتعلم أن الناس في نقل أخبار فدع عنك قول الشافعي ومالك ... وأحمد والمروي عن كعب الأحبار

ووال أناسا قولهم وحديثهم ... روى جدنا عن جبرئيل عن الباري ورد من وجوه: الأول: أنه لا يشترط في قبول النقل أن يكون مرويا من فروع الأصل المروي عنه اتفاقا. وكثير من نقل الرافضة مروي من غير الذرية. وكذلك لا يشترط كون الإمام المتبع بعد الأصل أن يكون من ذريته بالاتفاق أيضا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مجموع الصحابة الأقارب والأباعد: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديم اهتديتم". الثاني: أن الرافضة يدعون أنهم أتباع علي رضي الله عنه وأنهم يتولونه دون كل أحد، وليس النبي - صلى الله عليه وسلم - جده. فانتقض قولهم. الثالث: أنه لم يكن حياةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذريته من يروي عنه غير الحسن والحسين رضي الله عنهما، ومات - صلى الله عليه وسلم - وهما صبيان لا رواية لهما. فمن أين جاءهم النقل عن جدهم إلا من غير الذرية ضرورة.

الرابع إذا كان الرافضة لا تقبل النقل إلا من ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من علي وحده ومن ذريته قل نقلهم وكان أكثر مذهبهم غير مقبول. أما الذرية فقد تبين لك أن حال حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من الذرية من ينقل عنه. وأما علي رضي الله عنه فهو واحد، ولم يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوقاته، فقل نقله بالضرورة. وأما أهل السنة فهم ينقلون من مجموع الصحابة وزوجاته، لا يخلو مجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحدهم على أنه لو غاب واحد حضر غيره. فظهر أن جميع مذاهبهم صادر نقلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومذهب الرافضة القليل منهم صادر وهو قسط الواحد، والكثير منه مردود على حسب تقريرهم. الخامس: أن كثيرا من ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم - كالزيدية والحسنية وغيرهما يسعهم أن يقولوا أيضا: روى جدنا عن جبرئيل عن الباري، وهم يخطئون هؤلاء الإمامية ويكفرونهم ويفسدون نقلهم. لم تكن الإمامية بأصح نقلا منهم بل هم أقرب إلى الصحة، إذ ليس في نقلهم من الأباطيل والضحكات ما في نقل هؤلاء على ما يأتي في بابه. السادس: أن عليا والحسن والحسين والعباس وابن العباس رضي الله عنهم بل سائر الناس كانوا يتولون ويتبعون أبا بكر وصاحبيه رضي الله عنهم أيام خلافتهم وهم ليسوا من ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم -. فانتقض تقرير الرافضة.

السابع: أن ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الفضل والعلم، لكن لم يكن لأحد منهم مذهب أو حزب انفرد به. أما الحسن والحسين رضي الله عنهما فظاهر. وأما هذا الذي يدعونه مهديا فأبين وأظهر. وباقيهم إما مفترى أو مختف. ولم يكن لأحد منهم ظهور إلا علي بن موسى الذي زوجه المأمون ابنته وكان يركب بحاشية وغاشيهة وعقد له الخلافة بعده فحميت بنو العباس وقالوا يريد المأمون يسوق الخلافة عنا إن دام على هذا خلعناه من الخلافة، فخشي عليه منهم فنفذه إلى خراسان ومات فيها. الثامن: أن الاتباع بحسب زيادة العلم وقوة الإمام فيه، ولم يكن أحد من الذرية أو من الآل أعلم من الأئمة الأربعة في زمنهم وكانوا أحق بالاتباع. أما الشافعي رضي الله عنه قرشي مطلبي صاحب اليد الطولى في العلم منقولا ومعقولا، وقد نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا

تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما" ولا وجد لقريش من انتشر علمه في أقطار الأرض غير الشافعي، وغدا إذا عرضت الأحكام في صحائف الأعمال تجد أكثرها على مذهبه ومن علمه وتقريره. وقد صنف العلماء في مناقبه كتبا لا يسع هذا البحث ذكرها. وأما مالك بن أنس رضي الله عنه فهو عالم المدينة، وقد شهد له إمام الحديث البخاري رحمه الله تعالى قال: "أصح الروايات رواية مالك عن نافع عن ابن عمر". ويكفيه فضلا ورجحانا أنه أستاذ الشافعي.

وأما أبو حنيفة فهو الإمام الأعظم الأقدم، أول من دون الفقه وجعله أبوابا وفصولا وأرباعا بعد ما كان إذا وقع مسألة ذهب الناس إلى القرآن والحديث يلتمسونها منه ووضع كل بحث من الفروع، فلله دره. وكان معاصر جعفر بن محمد الصادق وأحدهما مزوج أم الآخر وأحدهما أخذ العلم من الآخر، لكن لم أعلم حينئذ عين الزوج والمأخوذ منه. فعلى كل حال يكفي ذلك أبا حنيفة فضلا إن كان آخذا أو مأخوذا. وأما أحمد بن حنبل فهو من أعظم أئمة الحديث وأطولها باعا. ويكفيه فضلا صحة مذهبه أن أستاذه الشافعي أخذ العلم عنه. وكان من حلمه وفضله وتواضعه وإنصافه أنه يمشي في ركاب الشافعي فإذا عابه تلاميذه على ذلك يقول: من أراد العلم فليقبض ذنب هذه البغلة. فتبين لك فساد قول شاعر الرافضة: فدع عنك قول الشافعي إلى آخره بما عرضنا عليك من فضل هؤلاء الأئمة الأربعة.

(الدف والتولة والرقص)

وما للرافضي من النقل الصادق شيء إلا أنهم يزخرفون أقوالا وأشعارا غرورا لعوامهم، كما قال الله تعالى عن إخوان الشياطين: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}. (الدف والتولة والرقص) ومنها إعابتهم الدف والتولة والرقص. والجواب عنه: أما الدف فقد ضربته بنات النجار في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة ولم ينكر عليهن، وغنين شعرا:

طلع البدر علينا ... من ثينات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أتيت يا مرسل حقا ... جئت بالأمر المطاع جئتنا تسعى رويدا ... مرحبا يا خير ساع وأما الرقص فإن الحبشة رقصوا في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فظلل النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة لتتفرج عليهم. فالمسألتان من تقريره عليه الصلاة والسلام. وأما حكم التوله فإن الذي يفعلونه يدعون جنونا والمجنون لا لوم عليه حال ولهه.

(كفر أبوي النبي)

(كفر أبوي النبي) ومنها إعابتهم قول السنية بكفر أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذلك نقل حق لا إعابة على أهل السنة لوجوه: الأول أن نص القرآن والأحاديث والتواريخ عن مجموع الكفار مثل أبي لهب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي جهل وممن أسلم منهم مثل أبي سفيان وغيرهم أن محمد سفّه ما كان آباؤنا عليه من عبادة الأصنام ونحن لا نرغب عن ملة عبد المطلب. الثاني: أن الله تعالى يقول لمن عرف الإسلام به: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} فمن أين جاء الإيمان لأبويه؟ الثالث: أن الرافضة يزعمون أن عليا رضي الله عنه رمى أصنام قريش عن الكعبة، وعبد المطلب وعبد الله من رؤسائهم، فأي شيء أخرهما عن عبادتها؟

قالوا: نقل من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية. قلنا: معناه لم يكن من سفاح بل من عقود أنكحة. قالوا: كيف يمكن خروج نبي من كافر؟ قلنا: كثير من الأنبياء كذلك، كخروج إبراهيم بن آزر. قالوا: عمه أو خاله. قلنا: يكذب ذلك أن الله تعالى سماه أبوه بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ} وبقول إبراهيم لآزر: {يَا أَبَتِ} مرارا كثيرة. وأيضا العم ابن الجد لأب والخال ابن الجد لأم، وحينئد فيكون جده كافرا، ولا ينتفع الرافضي بشيء من هذه الدعوى. ودليل كفره شهادة عليه كقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وكقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} وأيضا فالابن يخلق من ماء الأب، ومن أولاد الأنبياء من كفر، ككعنان

بن نوح وابن لقمان، فصار بالأولى جواز نبي من كافر. قالوا: هو ليس ابنا لنوح لأن الله تعالى قال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} قلنا: هذا خطأ من وجهين: أحدهما أن نوحا عليه السلام ذكر شيئين أحدهما {إِنَّ ابْنِي} الثاني قوله {مِنْ أَهْلِي} فصدقه الله تعالى في البنوة بإعادته سبحانه الضمير إليه ونفي الأهلية عنه: إن ابنك ليس محسوبا من أهلك الذين استوجبوا النجاة لكفره. ولو لم يكن ابنا لقال له: ليس ابنك، لأنه كان يكون أوضح في العبارة وفي قطع الحجة. الآخر أنه لو لم يكن ابنا له لكانت زوجته زانية، وأجلّ الله الأنبياء أن يكون أحد منهم زوج زانية. وأما قوله تعالى عنها وعن امرأة لوط: {فَخَانَتَاهُمَا} هو في الدين،

(كفر أبي طالب)

لا في الفراش. (كفر أبي طالب) ومنها إعابتهم دعوى أهل السنة بكفر أبي طالب. قالوا هو مسلم، محتجين بقوله حين خشي النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشا على نفسه وشكى إلى أبي طالب فقال: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب رهينا فاصدع بأمرك ليس عليك غضاضة ... وأبشر وقر بذاك منك عيونا ودعوتني وعلمت أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت قبل أمينا وعرضت دينا لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا والجواب من وجوه:

الأول أن البيت الأخير يدل على كفره صريحا، والبيوت المتقدمة تدل على أن وجه الكفر كان خيفة العار. ووجوه الكفر تأتي خوف العار كما عرفت من كفر أبي طالب، وتأتي جهالة كما كان كفر أبي سفيان وأمية بن خلف ونحوهما، وتأتي حسدا ككفر أبي جهل، فإنه قال له أحد قريش: ما تقول أبا الحكم في محمد، أتراه كاذبا؟ قال: والله ما كذب محمد قط ولكن كنا وبنو هاشم كفرسي رهان إن أطعموا أطعمنا وإن كسوا كسونا حتى قالوا الآن: منا نبي، متى ندرك فضل هذه، والله لا نؤمن به أبدا.

الثاني: نقل المفسرون أن قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} في أبي طالب، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أبو طالب. الثالث: نقل أهل الحديث والتواريخ أن أبا طالب لما حضرته الوفاة حضر عنده أبو جهل وجماعة من كفار قريش وحضر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له: «يا عم، قل كلمة أحاج لك بها يوم القيامة» قال له أبو جهل: أترغب عن ملة الأشياخ وتجزع عند الموت؟ وكلما كرر النبي - صلى الله عليه وسلم - مقالته كرر عليه أبو جهل مقالته، وكان آخر كلمة قالها: هو على دين الأشياخ، هو على دين عبد المطلب، ومات. الرابع: أنه لم ينقل عنه صلاة، فأين إسلامه؟ الخامس: أن الصدر الأول من أولاد علي رضي الله عنه كانوا قائلين بكفر أبي طالب، ويدل عليه كتابهم إلى أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي مغايرة، كتبوا إليه: "إنا لم تلدنا الأعاجم ولا السراري -يعنون العباس رضي

(قولهم لم يكن للنبي بنات غير فاطمة)

الله عنه فإن أمه سرية أعجمية- وإن أبانا أخف أهل النار عذابا في قدميه نعلان يغلي منهما دماغه، وإن الإمامة لنا". فكتب إليهم المنصور: "إن قولكم لم تلدنا الأعاجم والسراري فهذا كذب وبهت، أنتم أولاد شاه زنان بنت كسرى وهو سيد الأعاجم أخذت قهرا وشراها الحسين رضي الله عنه، وأما قولكم إن أباكم أخف أهل النار عذابا، فليس في عذاب الله فخر، خف أو ثقل، وأما قولكم إن الإمامة لكم فإن صح فقد باعها الحسن رضي الله عنه على بني أمية بخرق ودراهم، ونحن أخذناها من بني أمية" وكتب شعرا: دعوا الأسد ترتع في غابها ... ولا تدخلوا بين أنيابها سلبنا أمية في دارها ... فنحن أحق بأسلابها (قولهم لم يكن للنبي بنات غير فاطمة) ومنها قولهم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له من البنات غير فاطمة رضي الله عنها. والجواب أن القائل بهذا كافر لتكذيبه القرآن. فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} قالوا: بنات زوجته خديجة.

قلنا: تسمى ربيبة لا بنتا، والإضافة إليه لا تكون إلا للصلب حقيقة، ولا امتناع للحقيقة هنا. قالوا: كيف زوج زينب أبا العاص بن الربيع وهو حينئذ كافر؟ قلنا: كان ذلك حكم الجاهلية قبل النبوة والنسخ، ونكاح الكفر على إجماع الفقهاء صحيح. وكذلك عقدها النبي - صلى الله عليه وسلم - على زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. والله أعلم.

الفصل السادس في تأويلاتهم الفاسدة وكذباتهم ومضحكاتهم

الفصل السادس في تأويلاتهم الفاسدة وكذباتهم ومضحكاتهم فمنها قولهم إن الحسن والحسين خير من الأنبياء لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»، وكل أهل الجنة شباب، الأنبياء وغيرهم. قلنا: هذا تأويل فاسد من وجهين: الأول أنه يستلزم أن يكونا خيرا من أبيهما ومن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا باطل بالاتفاق. وإنما معناه أنهما سيدا من مات شابا في الدنيا من أهل الجنة. وكذلك معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أبا بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة»، أي

سيدا من مات كهلا في الدنيا من أهل الجنة، وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم ماتوا كهولا. الثاني أن الدليل لا يكون تقمشا، وإنما الدليل ينبغي أن يكون قطعيا ظاهرا، كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} والحسن والحسين رضي الله عنهما لم ينفقوا ولم يقاتلوا لا قبل الفتح ولا بعده. فمن أردت من السابقين الأولين أفضل منهما، فضلا عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فضلا عن الأنبياء. ومنها قولهم إن قوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي في علي، وكانت في المصاحف فأسقطها أهل السنة. انظر إلى هذا الكفر، كيف يطعنون في القرآن، والله تعالى يقول: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} ومنها قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ} أي علي {أَمَّنْ لَا

يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} أي عمر. وهذا فسق ظاهر محض، لأن السابق على هذه الآية واللاحق في بحث الله تعالى والأصنام التي جعلوها شركاء له. فمن أين جاء ذكر علي وعمر رضي الله عنهما إلا من ضلال الرافضة وكذبهم. ومنها قولهم إن السنية يفسرون القرآن على غير معناه. وهذا بهت وزور. نحن كانت أئمتنا متلبسة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حين موته، وهذا تأويلنا وتفسيرنا. ثم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - تلبس بالحكم أئمتنا وهذا تأويلنا وتفسيرنا. ثم حكم علي خمس سنين وهذا تأويلنا وتفسيرنا، لم يغير شيئا من تأليف القرآن الذي ألفه عثمان رضي الله عنه ولا من تأويلنا. ثم حكمت بنو أمية إحدى وثمانين سنة وهذا تأويلنا وتفسيرنا. [ثم حكم بنو العباس خمسمائة سنة وهذا تأويلنا وتفسيرنا.] فمن أين جاء للرافضة صحة التأويل وقد حدثوا بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - لفوق أربعمائة سنة. فانظر أيها

المنصف إلى القول الفاسد، ومن أحق بصحة التأويل. ولو عددنا فساد تأويلهم لطال. وفي الجملة نحن قلنا وسمع، وضربت طبولنا شرقا وغربا اليوم فوق ثمانمائة سنة؛ وهم أذلاء محقورون تحت الحكم والقهر منا كاليهود والنصارى. إذا قلنا لعن الله الرافضة وأحد منهم حاضر ينافق ويخاف ويدعي أنه سني أو يلعن نفسه ويقول: نعم، لعن الله الرافضي. وفي القائم ليسوا بشيء. وفي هذا المعنى قيل شعر: يقولون هذا مذهب الحق عندنا ... ومن أنتم حتى يكون لكم عند وما هم في فشارهم هذا وقولهم إلا كالمثل المضروب، وهو: لو لم يعب الماشي على الراكب لانفطرت بطنه، وإن الساقط في الحفر لا بد وأن يصيح لعل أحدا يأخذ بيده وهو بعيد النجاة، والظاهر المرتفع لا يهمه صياح الهاوي في الأسفل. ومنها تسمية أنفسهم مؤمنين. ومن أين جاءهم الإيمان ولم يكن عندهم شيء من شروطه: الأول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ

فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وهم تاركون الجمعة. وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا} وهم لا يعتنون بالجهاد أصلا ويقولون حتى يظهر الإمام المعصوم. وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وهم إذا تليت عليهم الآيات زادتهم فسقا، ويقولون عن القرآن: هذا شعر عثمان. وأمثال ذلك كثير. الثاني أنهم لا يعرفون إلا باسم الرفض من حين ظهورهم. ولو ذكر أحد

لفظ الرافضي لم ينصرف الذهن إلا إليهم. سموا الرافضة لأنهم تركوا السنة، والرفض في اللغة الترك. وسُمينا سنية للزومنا السنة. فخذ قبحهم وحسننا من التسمية. وإن كان باعتبار أنهم أتباع علي رضي الله عنه، وعلي أمير المؤمنين، فأول من سمي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فأتباعه أحق بتسميتهم مؤمنين. وبالجملة ما هم إلا كالنفاطين. قالوا: نحن عصافير الجنة. وأنى لهم ذلك. ومنها قولهم: نحن مغلوبون في الدنيا منصورون في الآخرة. قلنا هذا دعوى باطلة يكذبها القرآن، لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} والسنية هم المنصورون في الدنيا. وكذلك هم المنصورون في الآخرة لما عرفت من الآية. ومنها قولهم إنهم يحشرون مع علي رضي الله عنه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال: "لو أحب أحدكم حجرا لحشر معه". قلنا: هذه أماني وطمع فاسد. إنما ذلك مع صحة الاعتقاد. فإن النصراني إذا أحب عيسى ويعتقد أنه إله ولم يكن من ذلك العيسويات إلها، لم يكن أحب عيسى فضلا عن الحشر معه. وكذلك الرافضي، فإنه إذا أحب عليا رضي الله عنه، الذي هو خير من الأنبياء ومن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويعلم الغيب، ولم يكن كذلك، لم يكن أحب عليا فضلا عن الحشر معه. لأنه يكون أحب واحدا موصوفا بهذه الصفات وهو معدوم، فلا حظ له من علي رضي الله عنه لأنه يخالف صفتهم. وبالجملة فإن السنية يحبون النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يريدون يحشرون مع أحد خير منه، ويحبون عليا أيضا باعتقاد صحيح، وفي تقديم أبي بكر هم أتباع علي، لأن عليا رضي الله عنه لم يعارض في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ولم يظهر نزاعا. وكذلك السنية. وأما الرافضة فقد خالفوا عليا في ذلك وعارضوا فلم يكونوا تبعا له. وناصر من لم ينصر نفسه فضولي. ومدعي حق لمن لم يدعه لنفسه كذاب. ولم يطلع من يدهم نصر لعلي غير صفق الحنك. فلو استحوا سكتوا. ولا أحد أحب لعلي من أبيه وهو في النار يغلي دماغه.

ومن كذباتهم أنهم يبيتون على صندوق الحسين رضي الله عنه عميانا وزمنى ينجسون ويقذرون على الصندوق، ومن حقه كان يلثم بالعيون. ويتفق أن يكون فرج الرجل قبل فرج المرأة الأجنبية وأخس من ذلك. ويزعمون أن العميان والزمنى يشفون بذلك. ويأمرونهم باللعن للصحابة. وهذا زور من وجوه: الأول مضادة لفعل الله تعالى من جهة أن الله تعالى يعمي ويقعد، والحسين يشفي. الثاني أن العراق فيه مئات ألوف. ولم نعهد نحن ولا آباؤنا أعمى أو مقعدا شفي على صندوقه.

الثالث أنهم يأمرونهم باللعن والسب للخلفاء والصحابة. وحاشا لله تعالى أن يعطى على الفعل المحرم كرامة. الرابع أن الشفاء من صنع الله تعالى. فإذا ادعوه للحسين جعلوه شريكا له. فيستلزم كفر الرافضة المعتقدين لمثل هذا. الخامس أن هذا إن صح يوقع في القلب إيهام النقص في قبر علي رضي الله عنه وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. إذ هما خير من الحسين ولم يحصل شيء من ذلك عند قبر أحدهما. فتعين تزوير الرافضة. ومن ضحكاتهم ومضحكاتهم أنهم يحرمون لحوم الحيوانات المأكولة أيام العشر حتى يقرأوا كتابا لهم يسمونه مصرعا، وفيه من المنكر والكذب ما لا يرضى الله تعالى به. فإذا فرغوا قالوا انطبق المصرع ويحللون اللحم. وهل إذا فتش من مخلوقات الله تعالى تلقى أحدا أقل عقلا منهم. إنسان قتل من نحو ثمانمائة سنة، ما معنى تحريم اللحم في يوم مثل يومه؟ فأي تشبه بين لحم الآدمي ولحم البقر والغنم. أجلَّ الله قدر الحسين عن مثل هذا التشبيه. وفي أي نص أن اللحم يحرم أو يكره في يوم أو قبل قراءة كتاب أو بعده؟ هل هذا إلا مذهب مبني على المضحكة. ومنها أنهم يعملون عزاء كل سنة في أيام العشر ويقيمون نائحات

ينشدن أشعار ويختلط بهن الأجانب من الرجال والنساء. فإذا رجعن رجعن باللطم والشموع المعلقة وأصوات النساء العاليات. ويقع فيه بين الرجال والنساء من الحرام ما فيه غليظ المعاصي. ويزعمون أن ذلك عبادة وأن الدرهم الذي تعطى النائحة بسبعين درهما. وأي عقل أو نقل يقبل هذا، وأي دين يعطى فيه بالفعل المحرم أجر؟ أجل الله تعالى دين الإسلام عن مثل هذه الضحكة. ومنها أنهم يستحسنون الشنيع المستقبح على أهل البيت، مثل قطع رأس ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتدويره في البلاد منصوبا على خشبة، وعري المصونات الشريفات من أهل البيت وركوبهم على أقتاب الجمال من العراق إلى الشام. ونحو ذلك مما يبغض الله تعالى ويستنكف عن ذكره ويستنكف منه أهل النخوة من عوام الناس، فكيف بمخاديم الناس من أهل

البيت رضوان الله عليهم. وهل عقل يستحسن هذا إلا من كان عقله من أنقص العقول، إذ هو المثل المضروب بين الناس بعينه: "أي ناصحي أي فاضحي". ومنها أن لهم يوما يسمونه يوم البَقْر، يعملون حلوى ويجعلون في جوفها دهنا ويزعمون أنه عمر رضي الله عنه، ثم يبقرون جوفه ويأكلونه. وحكي أنه جاء أعرابي فأكل منه وقال: رحم الله عمرا ما أطيبه حيا وميتا. فانظر إلى هذا العقل الناقص. ومنها أنها ينصبون أصبع الشهادة للسني ويجعلون الاستقامة علامة مذهب السنة، ويعوجونها ويجعلون علامة مذهبهم التعويج. ويشبهون التعويج بسجود الملائكة لآدم عليه السلام، والاستقامة بامتناع إبليس من السجود له.

فتفكر أيها العاقل لهذه السخرية والسخافة. ومنها لزوم عقد الإبهام بعقد الإبهام للمصافحة. ويسمون ذلك عقد علي ويجعلونه علامة على الرفض. والمصافحة مشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ببسط الراحتين، ويجعلون لعلي هيئة غير هيئة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قبحهم الله من طائفة. ومنها تعويجهم إلى الشق الأيسر في الهوي للسجود والقعود في التشهد، ويختلج الريح في بطنه وهو يريد خروجه. فهل لمن يجعل التعويج ويرجحه علامة لمذهبه على الاستقامة عقل. ومنها عمل السبح والقبل من الطين الذي ينسبونه إلى تربة الحسين رضي الله عنه يسجدون عليها، إذا سجدوا وضعوها وإذا قاموا أخذوها بأيديهم. ويبالغون في تفضيل ذلك الطين على غيره من تراب الأنبياء والأولياء. وهل هذا إلا من أكبر البدع. لأن هذه التربة الشريفة لم تكن زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما بعده بجملة سنين. والحادث من عمل السبح والقبل التي يبنونها على غير مدفون ويسمونها بأسامي الموتى ويزعمون أنهم ظهروا. وهذا كذب محض ومضحكة، لأن الله تعالى لا يبعث الأجسام إلى يوم القيامة.

ومن أقبح ما يصنعون التبرك بذلك المقام والتهسج به وتقبيل عتبته والنذر له. وهم يبنونه ويضعونه بأيديهم تشبيها بالأصنام للكفار. ومنها أنهم ينسبون إلى الحسن العسكري ولدا ويسمونه محمدا ويلقبونه بالمهدي وبالمنتظر وبالقائم وبصاحب الزمان. وإذا ذكر قاموا له. وهذا من الكذب المحض من وجوه:

الأول أن أهل التاريخ جميعا، مثل عبد الرزاق وابن قانع ومحمد بن إسحاق وابن الجوزي، مجمعون على أن الحسن العسكري مات ولا عقب له ولا نسل. الثاني أنهم يزعمون أنه انهزم من المأمون وهو ابن سنتين ودخل سرداب سامراء. وهذا بحسب زعمهم أنه دون البلوغ يجب الحجر عليه في بدنه وماله حتى يبلغ رشدا. فكيف له إمامة فضلا عن المهدية؟ الثالث أن هذا بحسب زعمهم يكون له اليوم نحوا من ثمانمائة سنة، وهلم جرا حتى ظهوره. ولم يعلم موته. ولم يعلم أن أحدا عاش من هذه

الأمة خمسمائة سنة أو فوقها حتى يقاس به. ولم يكن كذلك إلا الخضر عليه السلام، وفي بقائه خلاف، والعلماء المحدثون المحققون مجمعون على أنه مات، إذ لم ينقل أحد أنه اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ونقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لو كان أخي الخضر حيا لزارني" ولا كان يسعه لو كان حيا غير الوصول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعلى قول من يزعم بحياته، فليس هو من هذه الأمة. ولم يكن أحد منتظرا متفقا على بقائه غير إبليس لعنه الله. وحاشا أن يشبه أحد من المسلمين به فضلا عن أئمة أهل البيت.

الرابع الذي نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي» يعني يكون اسمه محمد بن عبد الله، وليس محمد بن الحسن. الخامس أن الرافضة على سبع فرق في هذا المسمى بالمهدي. ويخالفون هؤلاء هؤلاء إلا لغيرته. فالإسماعيلية

يدعونه لإسماعيل بن جعفر. والقرامطة يدعونه لمحمد بن إسماعيل.

والمحمدية ترى أن القائم محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن. والناووسية يدعونه لأبي جعفر.

والممطورية يدعونه لموسى بن جعفر. والكريبية يدعونه لمحمد بن الحنفية.

ومنهم كثير غزة، وهو القائل شعرا: ألا أن الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ما فيهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر ... وسبط غيبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الجيش يقدمها اللواء تغيب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء يزعمون أن محمد بن الحنفية هو المهدي المبشر به وهو في جبل رضوى عند عين عسل وعين ماء وعن يمينه أسد وعن شماله أسد يحفظانه حتى يظهر أمره.

وفرقة تدعي لغير هؤلاء. وكلهم أقرب إلى القبول لأنهم يدعون البقاء لمعدوم كل فرق المسلمين تخالف في خلقه، فكيف ببقائه، فكيف ببلوغه، فكيف برشده، فكيف بإيمانه، فكيف بإمامته، فكيف بعصمته، فكيف بمهديته. وهم لا يقدورن على إثبات واحدة منها على فرقهم؛ فكيف يقدرون على الإثبات علينا. وحينئذ فيسقط كل فرقة بتناقض الأخرى. السادس: من أكبر الفسوق تسمية هذا المفقود بصاحب الزمان. ولا صاحب للزمان غير الله. قبحهم الله تعالى. ومنها أنهم يدقون لمهديهم هذا طبلا ويسرجون له فرسا ليخرج إليهم فيركب. ومنها أنهم يدخرون له سيوفا. ومن أعظم المضحكات أنهم يجعلون له من أموالهم سهما ثم يحذفونها في المياه العميقة كالدجلة ويزعمون

أنه إذا ظهر يمشي المال إليه أو هو يجيء إلى المال. ومنها أنهم يجيئون إلى قباب الدور التي يبنونها ويندبونه إلى الخروج من تلك القباب. ماتت الآباء على ذلك وستموت الأولاد وأولاد الأولاء ولا يرون أحدا يخرج إليهم. ومنها أن كم ادعى واحد أنه المهدي أو نائبه ومات وتبين كذبه. وأمثال ذلك من المضحكات. ومنها أنهم يزعمون أنه ظهر في جزائر العرب، وأنه يرحل وينزل، وأنه حاضر في كل مكان ولو تشاور اثنان أو اجتمع جماعة كان معهم.

ومنها دعاويهم له ولسائر أئمتهم علم الغيب. ويحتجون بما قال الله تعالى عن اللوح المحفوظ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} أي علي وكل من أئمتهم. السابع أنه نقل الإمام الأعظم ابن تيمية الحنبلي رحمه الله تعالى أن

مهدي الرافضة لا خير فيه على قرارهم: أما هم فلا ينتفعون به لا في دين ولا في دنيا لغيبته عنهم، وأما السنية فإنهم كفار عندهم بسببه. ومن أكبر قلة عقول الرافضة أنهم يقولون غيبته لا من الله ولا من نفسه بل من قلة الناصر. وهذا سخف عظيم. فليموتوا بدائهم ولا يجدون لهم ناصرا ولذلتهم وقلتهم إلى يوم القيامة. ومنها أنهم وضعوا في صندوق هذا المشهد الذي نسبوه إلى علي رضي الله عنه واحدا من الجعدية في أيام بعض سلاطين المغول وكلم السلطان وشكى من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومن السنية حتى ترفض السلطان أياما وحمل رعيته على الرفض. فتوصل جمال الدين أو محيي الدين العاقولي، وهو من علماء السنية الكبار، وقد وضعوا ذلك الجعدي فيه مرة

أخرى وكلم السلطان أيضا، إلى أن كسر الصندوق وأخرج الجعدي. وتبين زورهم وصودروا بدراهم كثيرة. ومنها أنهم زوروا هذا المشهد الذي هو الآن وجعلوه لعلي رضي الله عنه. وقد قال ابن الجوزي رحمه الله: لو علمت الرافضة هذا قبر من لرجموه بالحجارة، هذا قبر المغيرة بن شعبة، وإنما قبره رضي الله عنه في جامع الكوفة بين القبلة وقصر الإمارة، وذلك موضع قتله. والسر في أن الله تعالى أظهر هذا المزور وأخفى قبره الحقيقي على الرافضة لعلمه سبحانه وتعالى بأنهم ينقلون موتاهم إليه، فأظهر هذا القبر المزور لهم حتى لا يكون لهم به اتصال لا في الحياة ولا في الممات. ومنها قولهم لعوام السنية: أنتم ما لكم قباب.

ويالله العجب ما أبهتهم بالزور. ألم ينظروا إلى أتباع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كالأولياء من أهل السنة مثل سيدي أحمد والهواري

والشنبكي وأبي الوفاء وعبد القادر الجيلاني وابن الهيتي وابن إدريس وأبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل. وأمثالهم أصحاب قباب كثيرة في العراق لو عددنا ذكرهم لطال. وهم ما لهم غير ثلاث

قباب ظاهرة في العراق: الحسين وموسى والجواد. وعلي رضي الله عنه، قبره هذا الذي في النجف مزور كما عرفت، وقباب صاحب زمانهم مزورة. وأما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبة يضرب عليها أكباد الإبل من مشارق الأرض ومغاربها كل سنة ستمائة ألف، وإن نقص القدر من البشر كمل من الملائكة. وقد سأل بعض الخلفاء بعض العلماء: أين مكان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من النبي - صلى الله عليه وسلم - حال حياته؟ قال: مكانهما منه حال مماته. ومن أي مثل هذا البخت الذي لا منقبة أكبر منه.

ومنها أنهم يفترون على السيد الجليل المجمع على جلالته بين علماء الظاهر والباطن الحسيب النسيب الذي تواترت كراماته الشيخ عبد القادر الجيلي بأنه أفتى بقتل موسى الكاظم بن جعفر الصادق. والشيخ عبد القادر ولد بعد موت موسى الكاظم بمائة وستين سنة. وهكذا دأبهم دائما إذا أرادوا أن يسبوا أحدا من الكبار يفترون عليه بأنواء الافتراءات حتى تتمكن العامة من سبهم، حتى أنهم افتروا على خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب بنحو سبعمائة شيء كما سيأتي بعضها. ومنها قولهم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للحسن: "أبعد الله مزارك".

فانظر إلى قول هذا العقل الناقص، أيه أبعد، مزار الذي في البقيع عند جده موضع وطنه الذي هو التخت، أو الذي في كربلاء أو النجف في العراق؟ ما هذا إلا سخف عظيم. ومنها تفيضلهم الحسين على الحسن رضي الله عنهما. والحسن هو الأكبر والأعلم وصاحب الشورى والرأي السديد، وهو الذي سمى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحسين قياسا عليه. وشكره النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب وجاء الحسن وهو صبي فعثر، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن منبره وحمله وصعد به ووضعه إلى جانبه على المنبر وقال: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين» وكان كذلك حين سلم الخلافة لمعاوية لحقن دماء المسلمين وانقطعت الفتنة. والحسين طلب الحكم حتى حصل ما عرفت من قبله. فانظر أي الاثنين أفضل وأعلم. ومنها أنهم يعلقون قنديلا ليلا في قبة من قبابهم المزورة ويتركونه حتى يطلع النهار عليه، ويضربون له طبلا. ويزعمون أن ذلك الظاهر أعلقه نهارا.

وهذا من تضييع المال المنهي عنه، كقول الناس: إعلاق الشمع بالشمس ضايع. حتى بمعرفتي فعلوا ذلك في قبة يسمونها ليحيى بن الحسين في واسط العراق وخرجوا عنه ليعلموا الناس ويضربوا له طبلا، فوقعت الشعلة التي زوروها على صندوق المشهد فأحرقته وأحرقت القبة ووقعت. وبنوها مجددا. ومنها أنه إذا كان سنيا في حبس أو مرض أو امرأة لا تحبل ولا يعيش لها ولد أو نحو ذلك، فيقولون له: أطع رافضيا حتى يزول ذلك عنك. فيخرجونه من حقه إلى باطلهم. وما يحصل غرضه. ومنها أنهم يقولون للسني: أطع رافضيا ونضمن لك الجنة. وهل أعظم من هذا تجرؤا على الله تعالى. ومن أين لك الجنة حتى تضمن لغيرك، والله تعالى يقول: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} ويقول عن نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} وهل قولهم هذا إلا كقوله تعالى عن الكفار:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ومنها قولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان يقدم عليا. وهو كقول اليهود والنصارى: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} ومنها أنهم يكتبون صفة زيارة وينقشونها بالحمرة والصفرة ويزعمون أن ثواب حملها يدخل الجنة. والعقل والنقل يدل على بدعتها. ومنها أنهم يجعلون أسماء الحسنى كلها لعلي ويزخرفون لها

معاني. والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} بطريق الحصر من تقديم الخبر على المبتدإ، أي لا لغيره. ويقول: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ومنها قولهم إن عليا أمير الله لأن اسمه المؤمن وعلي أمير المؤمنين. وهذا مما أعمى الله قلوبهم به، إذ اسم الله المؤمن ليس من الإيمان وإنما هو من الأمن، هو ضد الخوف، أي الله يؤمن الخائف. ومنها قولهم إن عليا كان يعلم أن ابن ملجم يقتله وسكت عنه. ونسبة مثل هذا إلى علي رضي الله عنه سفه من الرافضة. وهل يجوز لمسلم [أن] يلقي نفسه إلى التهلكة، فضلا عن مثل أمير المؤمنين العالم المدقق.

ومنها دعواهم أن سيف علي المسمى بذي الفقار نزل من السماء. وهو سيف من سيوف أبي جهل، غنمته المسلمون يوم بدر. سمي ذا الفقار لأنه كان في فقاره، أي ظهره، فلول. وهل تجد عقلا أنقص ممن يزعم أن القرآن غير منزل وأن سيف علي رضي الله عنه -قطعة من حديد- منزل. ومنهم من يقول للحسين: يا من كان الله حدادا لأبيه. ومنها أن عليا كان مواتيا على قتل عثمان. وفي ذلك جهل عظيم وخطأ على علي رضي الله عنه، لأنه حلف أني ما قتلت عثمان ولا مالئت على قتله وهو الصادق المصدوق. الثاني أنهم يجوزون بذلك مسبة علي رضي الله عنه للناصبي ولمن يرى صحة خلافة عثمان ويرفعون الخطأ عن معاوية في حربه له وعن بني أمية في سبهم لعلي على المنابر والمنائر على رؤوس الأشهاد، ويرفعون اللوم عند أهل الحكم عن بني أمية في قتلهم الحسين رضي الله عنه. ومنها نسبتهم قتل الحسين إلى يزيد.

والحسين في العراق ويزيد في الشام مسيرة شهر أو فوقه ذهابا وإيابا. والحسين رضي الله عنه لم يمهل ثلاثة أيام حتى قتلوه. فكيف يمكن. ومنها قولهم إن طوس تحولت إلى علي بن موسى رضي الله عنهما. ولا أكذب من هذا قول. ولم لا حوّل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة إلى المدينة وهو يريدها. فانظر إلى هذا الجهل والضحك. ومنها قولهم إن عليا دفع أبا لؤلؤة حين قتل إلى قم. ولا أكذب من هذا القول لأنه قتل في المسجد من ساعته كما عرفت. ومنها المد والجزر ينسبونه إلى علي رضي الله عنه. وهو بآلاف سنين

أصلي في البحر من حين خلقته. ومنها أنه إذا هب هواء الغرب قالوا يا شمال علي. ومنها أنهم يشدون في رصافة مشهد علي خرقة حرير ويسمونها غرزة لعلي ويزعمون أنها دائما منصوبة ممتدة إلى الغرب وأن الشمال لا يقلبها إلى الشرق. وقد سمعت بعض الرافضة يحلفون بها، يقول: "وحق من لا يكسر غرزته الشمال". ولا شك أن هذا كذب لأنها مشرقة مع الشمال مغربة مع الجنوب. ومنها أن عامة أيمانهم: "وحق ولاية علي" عوضا عن الحلف بالله، بل هي أبلغ منه عندهم. ومنها تسمية زيارة قبر الحسين عليه السلام بالحج الأكبر، ببقاء الحج إلى الكعبة هو الأصغر، وبعضهم يجعلها

بسبعين حجة. وينصبون عندها شعار الحج من الطواف والدعاء عند أركان الصندوق ونحو ذلك. وما معنى زيارة قبر رجل صالح بشعار الحج؟ وذلك بدعة يدفعها العقل والنقل. وأعظم بدعة من يعتاض عن أرض مكة والحرم وعرفة ومنى بأرض كربلاء، ويعتاض بالحسين عن جده، ويزعم أن ذلك أفضل وأعظم. ومنها أنهم يجيئون إلى زيارة قبر الحسين بالثياب الرثة والجربان المقطعة عفاة عراة شعثا غبرا لعلمهم أنهم محقورون مبغوضون من رآهم آذاهم وأخذ ما معهم ولعنهم وسبهم. ويحرفون جنائزهم المنقولة إلى قبر النجف.

فهذه صفة حجهم. ولا حاصل لهم في ذلك غير الإثم لاعتقادهم أن ذلك حج أكبر، وحج أهل السنة إلى مكة وإلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجمال المزينة والخيل والأموال والطبول والأعلام والعدد والعدد لا يهولهم عدو. فانظر أيها اللبيب أي الهيئتين أجل وأي الحجتين أفضل. ومنها نقلهم موتاهم من البلاد البعيدة إلى حول قبر النجف المنسوب إلى علي رضي الله عنه، يزعمون أنه يحميهم. والنقل حرام إلا إلى حرم مكة وحرم المدينة إن قرب. ويدعون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا جاه له ولا حماية على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهما معه في حجرته. ولا شك أن اعتقاد مثل هذا فسوق ونقيصة في العقل. ومنها قولهم إنه لا يكون أحد إماما أو صالحا إلا إذا كان من نسل علي رضي الله عنه. وذلك مثل قول اليهود: لا يكون أحد نبيا إلا إذا كان من نسل إسحاق عليه السلام. حتى رد الله عليهم بقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}

ومنها أن فيهم من يسمي جبريل عليه السلام المغلطن، ويزعم أن الله تعالى أعطاه النبوة لينفذها إلى علي فغلط فنفذها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. وفي ذلك قال شاعرهم: غلط الأمين فردها عن حيدر ... لكن ما كان الأمين أمينا وهل معتقد هذا إلا مسخرة كافر. وهلا استدرك الله غلط جبريل عليه السلام. قبحهم الله ما أجرأهم على الكذب. ومنها أنهم يشكرون القلة كونهم قليلين، ويتمثلون بقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وذلك تقميش وقلة حياء، كمن ضاع سبيله لا يجد إلى الاستقامة دليلا. لوجوه:

الأول أن هذا الدين موصوف بالعزة وقهر الأعداء وظهوره على الدين كله. والقليل يخالف حاله حال هذا الدين لمخالفته أوصافه. الثاني أن اليهود والنصارى، وكلا من فرق أعداء الإسلام، لو اتكل حاله إلى الرافضة لقهروا دين الإسلام وطمثوا آثاره من قديم العصر وظهروا عليه لقلة الرافضة وذلتهم. وهل مظهره وحاميه إلا فرق الجمهور لكثرتهم وظهورهم بالقهر والغلبة وإظهارهم أقسامه في الحج والغزو والمساجد والجمع والجماعات وغيرها مما لا يعتني به الرافضة. فانظر أيها العاقل أي الطائفتين أحق بالشكر. الثالث أن مفهوم الآية ليس كما زعمه الرافضة، لأن الله تعالى لم يقل: "وشكور من عبادي القليل"، بل قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فيكون المعنى: كل شكور قليل، ولا عكس. أي وقد يكون القليل غير شكور، من باب خصوصية الشكور وعمومية القليل. الرابع أن هذه الحجة منتقضة عليهم بكون أن من أردت من فرق الضلال أقل من الرافضة، سواء الفرق المخالفة للإسلام كاليهود

والنصارى والصابئة والمجوس، والمنتسبة إلى الإسلام كالجبرية والمعتزلة

والزنادقة وغيرهم. وهم على باطل اتفاقا. فيلزم أن تكون الرافضة [ضالة] على حسب تقريرهم في القلة لهم. وكفاهم ذلك خزيا. ومنها أنهم يرجحون الاحتجاج بالحديث والعمل به على الاحتجاج بالقرآن والعمل به. وما ذلك إلا لباطلهم وحيلهم ليكذبوا ويضعوا أحاديث على قدر هواهم وضيعة سبيلهم. أيضا لفقدهم ما يتمسكون به من القرآن الذي هو حبل الله المتين. الأول أن القرآن مقطوع المتن لا يحتمل زيادة ونقصانا في متنه ونظمه، بل تحتمل الزيادة في معناه لأنه يقذف المعاني شيئا شيئا يستخرج منه أهل كل عصر معاني مجددة إلى يوم القيامة، كالبحر في الجوهر والموج، وذلك على حسب التأويلات المحتملة. والحديث مظنون المتن يحتمل الزيادة

والنقصان به، والكذب المحض يجوز للخصم دفعه ودعواه الكذب له. فمن أين يجوز الاحتجاج به لأهل الأهواء فضلا عن الرجحان على القرآن. وهل ذلك إلا من ضيعة السبيل وفقده ما يتمسك به من القرآن القطعي. الثاني أن احتجاج الرافضة لا يجوز علينا قطعا. لأنه إن كان من نقل أئمتهم فلا يقوم علينا حجة، إذ هم عندنا ليسوا بعدول، وكذبهم وهواهم ثابت عندنا. وإن كان من نقل أئمتنا فكذلك لا يجوز علينا على حسب اعتقادهم وتقريرهم، بل نجوزه إن أجازوا جميع ما نقله ذلك الإمام. وجميع أئمتنا ينقلون فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتقديمهم على علي رضي الله عنه وهم يثبتون ذلك. فسقط احتجاجهم بالحديث قطعا. وإن قالوا: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} فلا يحتاجون إلى ذلك كما أن الله تعالى لم يجب الكفار إلى مثله وأوعدهم عليه الخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة بقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} ومنها قولهم إن جميع الصحابة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتدت إلا ستة: أبا الدرداء

وحذيفة بن اليمان والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وصهيب بن سنان الرومي.

وكذب ذلك وقبحه من وجوه: الأول إذا جعلت الرافضة فضلا لعلي رضي الله عنه ومنقصة لأبي بكر رضي الله عنه كون هذه الستة الذين أكثرهم من ضعفاء الصحابة وصعاليكهم اتبعوا عليا رضي الله عنه وتركوا أبا بكر، كان ذلك من أكبر الرد عليهم والنقص بهم. إذ مفهومه أن الباقي من الصحابة -وهم مائة وعشرون ألفا إلا ستة، وهم مخاديم الصحابة وأمراؤها وأهل غناها وكبارها كأهل بدر وأهل بيعة الرضوان وكافة المهاجرين والأنصار الذين نزل القرآن في مدحهم- تبعوا أبا بكر رضي الله عنه وتركوا عليا رضي الله عنه. وهذا من أكبر النقيض في حق أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على حسب تقرير الرافضة. وحاشاه من ذلك. الثاني أن عليا رضي الله عنه ليس بإمامته نص جلي من القرآن، بل كذبة كذبها الرافضة من حديث صنعوه في الوصية بالنص عليه لم يعرفه أحد من الصحابة الذين كانوا مشاهدي الوحي. فإذا جاز الارتداد بجحوده وهو مظنون مجحود المتن، كان الارتداد إلى من جحد إمامة أبي بكر رضي الله عنه التي قال بها مائة وعشرون ألفا، مخاديم الصحابة مشاهدو الوحي عدول زكاهم الله تعالى بقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أقرب وأقرب. وحاشا هذه الستة من مثل ذلك. فاللعنة إلى من نسبه إليهم.

الثالث: أن ادعاء أن هذه الستة لم يكونوا أتباعا لأبي بكر رضي الله عنه من جملة نصب الرافضة وتلبيسهم، لأنه لم يعهد لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما منازع في إمامتهما، لا هؤلاء ولا غيرهم. وهذا سلمان كان أميرا على مدائن كسرى من قبل عمر يدعو إلى إمامته وطاعته كما قدمنا. وهذا صهيب خصيص بعمر استخلفه حين ضرب، وفي أيام الشورى يصلي بالناس من الآل والصحب. وحين قعد مخاديم الصحابة وضعفاؤهم في باب عمر لإذن الدخول خرج الإذن لصهيب وبلال، فوجد أبو سفيان وقال لسهيل بن عمرو: ما هذا؟ قال: لا بأس فإنهم دعوا إلى الإسلام ودعينا فتقدموا وتأخرنا، فاستحقوا هذا بذلك [واستحقينا هذا بذلك]. وهذا حذيفة بن اليمان من مختصي عثمان رضي الله عنه، وهو المشير عليه بجمع القرآن. وهذا عمار كان أميرا من قبل عثمان رضي الله عنه على الكوفة. وهذا المقداد وأبو الدرداء والجميع منهم كانوا في عساكر الصحابة وغزواتهم، فكيف يمشي تلبيس الرافضة علينا. الرابع أن القرآن هو النص المقطوع. وقد نزل بمدح الصحابة رضي الله

عنهم ورضاهم عنه بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وأمثال ذلك في القرآن كثير. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان راضيا عنهم ومادحا ومحبا لهم، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وانقطع الوحي والأمر كذلك. فمن أين بعد ذلك علم ارتدادهم؟ وهل يعارض هذا المقطوعَ مظنونُ الوصية الذي نصبه الرافضة ولم يعرفه أحد من الصحابة. نعم، إن أتت الرافضة بقرآن نزل بعد القرآن ناسخ له أو نبي بعد محمد ناسخ شريعة المسلمين مقطوعين بهما، ونقل عن أحدهما ارتداد الصحابة إلا الستة أمكن ذلك. وهو محال. فثبت كذبهم. الخامس أن الرافضة يدعون أن عند بيعة أبي بكر رضي الله عنه كان مع علي رضي الله عنه سبعمائة من الصحابة ومن مخاديمهم مثل العباس وأبي سفيان وغيرهم رضي الله عنهم يريدون البيعة لعلي رضي الله عنه. وهم الآن يقولون ارتدت الصحابة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع أبي بكر رضي الله عنه إلا ستة. فانظر إلى هذا التناقض. السادس أن هذا الدين ثبت بشهادة الصحابة وبسيوفهم. فإذا ادعى الرافضة كفرهم لم يقم على أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم هذا الدين حجة وأمكنهم الطعن به. وحاشا هذا الدين القويم من مثل ذلك. فجازى الله الرافضة أشد الجزاء على ما يخبطون به ويعمهون. السابع أن القرآن يرد دعوى الرافضة بتكفير الصحابة رضي الله عنهم

بشهادة الله لهم بأنهم لا يكفرون، بقول الله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} ومنها دعواهم أن من السنية من يتشيع وليس من الرافضة من يتسنن. قلنا: هذا مما يدل على خساسة الرفض وبطلانه، لأن هذا الذي عليه الجمهور هو كان دين الإسلام من أوله، ودخل فيه الصحابة والآل ثم كل من ولد بعدهم من المسلمين ثم كل من أسلم من اليهود والنصارى. ثم لم يزل كذلك مستمرا قرنا بعد قرن حتى صار آخر الدين، فظهرت هذه الرافضة ورسموا مذهبهم على مخالفة أول الدين، من سب الصحب وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وبغضهم، الذي نطق القرآن بمدحهم ومحبتهم وانقطع الوحي وهو على ذلك، ومن ترك الجمعة والجماعة والاعتناء بالمساجد والحج والغزو وغير ذلك من القطعيات التي بني الإسلام عليها ونزل بها كلامه. ولا شك أن الخارج

عن ذلك الداخل في ضده خارج عن الإسلام. وهذا هو شأن كل الأديان المتقدمة: الداخل في أولها داخل فيها والخارج في آخرها خارج عنها حتى يعود الدين غريبا كما كان قبل البعثة حتى يبعث الله الرسول الثاني فيجددها. ولم يكن رسول بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - ليجددها وما يعقب محمدا غير الساعة، لا شك أنها تقوم بعد فساد الدين. ولم يفسد هذا الدين بعبادة الأصنام وإنما فساده بالرفض الذي حدث في آخره. وهذا أيضا مما يؤكد خسة المترفض لدخوله فيما يهدم قواعد الإسلام كما عرفت ولانتقاله من العز إلى الذل الذي ضربه الله على الرافضة من اختفائهم واختفاء مذهبهم من سائر بلاد المسلمين، كما قال الله تعالى عن اليهود والنصارى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} وأف لهمة عاقل يختار الباطل على الحق والاختفاء على الظهور والذل على العز بمجرد قول الرافضة كان الحق لعلي رضي الله عنه فأخذه أبو بكر. ولم يعلم لذلك ثبوت من قرآن أو غيره غير دعواهم، وهم أهل نصب وزور وأهواء. وأين قول من حدث بعد الوحي بمئات سنين من قول شاهدي الوحي ونزول جبريل عليه السلام الذين شهدوا لأبي بكر وقدموه، وكان المسلمون عليه بعد الوحي قرنا بعد قرن. ومنها تكفيرهم لأهل السنة واعتقادهم نجاستهم كاعتقادهم لنجاسة

الكافر، حتى إذا صافحت أحدا منهم مسالما له أدخل يده في رديه وسلم عليك وصافحك بثوبه حائل بين راحتك وراحته. وإذا أضافهم أحد من السنية غسلوا الفراش بعده. وأمثل ذلك بمجرد قولهم إن السنية خالفوا عليا رضي الله عنه. وفساد ذلك من وجوه: الأول أن المسلم يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يأمر به وينهى ولا يكفر، ويخالف الله تعالى فيما يأمر به وينهى أيضا ولا يكفر. وهما واجبا الطاعة. فكيف يكفر بمخالفة مظنون الطاعة متروك الإمامة قبل أصحابه المتقدمين عليه. الثاني أن الرافضة إذا وسمت بتكفير السنية وتنجيسهم بمخالفة علي رضي الله عنه الذي لم عثبت له إمامة قبل أصحابه وكان مكفوف اليد عن التصرف قبلهم. فقد رسمت السنية وجوزت لهم بالطريق الأولى تكفير الرافضة وتنجيسهم لمخالفة أبي بكر رضي الله عنه الذي ثبتت له الإمامة ووجوب الطاعة بشهادة مجموع الصحب والآل وكافة الأمة، وجهز العساكر وفتح البلاد ودانت له العباد وقسم الغنائم وتصرف بما كان يتصرف به النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير منكر ولا مخالف.

الثالث أنه إذا كان التكفير على حسب تقرير الرافضة بمخالفة المظنون المكذوب من قول الرافضة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص في علي رضي الله عنه يوم خم، وقد بينا لك كذبه وبطلانه فيما تقدم من وجوه عدة، فلا يلومون في ذلك إلا أنفسهم إذا كفرناهم ونجسناهم من وجوه قطعية ثابتة في القرآن لأنهم هم الذين جنوا على أنفسهم هذه الجناية وجروا عليهم هذه الجريرة. فمن ذلك أنهم يكفرون بمقابلة الحج الثابت في القرآن كفر {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} واغتنائهم عنه بزيارة قبر الحسين رضي الله عنه التي يسمونها باتة لزعمهم أنها تغفر الذنوب باتة، وتسميتهم لها بالحج الأكبر. ومن ذلك أنهم يكفرون بترك جهاد الكفار والغزو لهم الذي يزعمون أنه لا يجوز إلا بإمام معصوم، وهو غائب. وإذا خرجت الكفار ودخلت بلاد المسلمين أين نلقى هذا الغائب المفقود حتى يستنصر به؟ وهل ذلك إلا دمار الإسلام وبلاده. فانظر إلى رقاعتهم وترجيح كفرهم بمثل هذا الاعتقاد. ومن ذلك أنهم يكفرون بإعابتهم السنن المتواتر فعلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجماعة والضحى والوتر والرواتب قبل المكتوبات من الصلوات الخمس وبعدها وغير ذلك من السنن المؤكدات. ومن ذلك أنهم يكفرون لمخالفة الإجماع على الصديق رضي الله عنه الثابت الوعيد النار لمخالفته في قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ

مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} ومن ذلك أنهم يكفرون بقولهم في خلق القرآن الثابت في القرآن أنه كلام الله. وكلام الواحد صفته لأنه يخرج من ذاته. فالقائل بخلق القرآن قائل بأن صفاته مخلوقة، والصفات لوازم الذات، فتكون ذاته تعالى محلا للحوادث، وهو منزه عن مثل ذلك كونه قديما. فالقائل بمثله كافر لا محالة على حسب تقريرهم لأنه يخالف العقل والنقل. ومن ذلك أنهم يكفرون بقولهم إن المعاصي واقعة بإرادة إبليس غالبة إرادة الله تعالى للطاعة، وذلك ظاهر لأن الله تعالى يريد من الزاني ترك الزنا والشيطان يريد منه الزنا، فإذا زنى الزاني حصل مراد الشيطان دون مراد الله تعالى فيكون مراد الشيطان أقوى. ولا [شك] أن اعتقاد مثل ذلك كفر محض. ومن ذلك أنهم يكفرون بتكفير الصحابة الثابت عصمتهم وتعديلهم وتزكيتهم في القرآن، بقوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ولشهادة

الله تعالى لهم أنهم لا يكفرون بقوله تعالى لهم: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} ومن ذلك أنهم يكفرون بتكفير عائشة رضي الله عنها التي ثبت براءتها في القرآن وثبت أنها مغفور لها ولأمثالها، وأن لها ولأمثالها رزقا كريما وقصرا في الجنة وطعامها؛ بقوله تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وأنها محبوبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - بين سحرها ونحرها، وجمع الله بين ريقه وريقها عند خروج روحه الشريفة بالسواك الذي لينته له بريقها، وكانت الناس تؤخر الهدايا إلى نوبتها

وتهديها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلمهم بأنه يحبها، وجبريل عليه السلام لا ينزل في بيت غيرها من نسائه، ولم يغر الله تعالى كغيرته عليها حين رموها أهل الإفك حتى غلّظ عليهم بوعد العذاب الأليم في ست عشرة آية. وموسى عليه السلام لم ينزل في براءته غير آية واحدة بقوله تعالى: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى} وهو كليمه ورسوله. وأمر ضرب الحجاب عليها عند سؤالها متاعا، غيرةً عليها وصونا لها. وحرم نكاحها على الأمة.

وهي من أهل البيت المراد إذهاب الرجس عنهم. وأمثال ذلك. ومن ذلك أنهم يكفرون بمناقضة القرآن في حق الصحابة وحق الجمهور من أهل السنة. فإن الله تعالى أخبر أنه راض عنهم بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} والتابعون لهم هم أهل السنة بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وأمثال ذلك. ومن ذلك أنهم يكفرون ببغضهم الصحابة حيث يخالفون الله تعالى في محبتهم ويكذبون بها ويزعمون أن الله تعالى يبغضهم، وهم على خلاف ما أخبر به من محبتهم بقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ومن ذلك أنهم يكفرون بتكذيب المهاجرين في شهادتهم للصديق رضي الله عنه باستحقاقه الإمامة لأن الله تعالى أخبر بصدقهم في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ} إلى قوله {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وأكد صدقهم بالإشارة وضمير الفصل والجملة الاسمية. ومن ذلك أنهم يكفرون بدعواهم خسران الأنصار باتباعهم الصديق رضي الله عنه، والله تعالى أخبر بفلاحهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا

الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ومن ذلك أنهم يكفرون باتصافهم بصفة تخالف ما وصف الله تعالى به المؤمنين الذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار -من لعنهم ووجود الغل في قلوبهم- بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ومن ذلك أنهم يكفرون بانفعال أنفسهم وبغضهم عند ذكر الصحابة وغيظهم منهم لشدة الصحابة عليهم، كما ذهب إليه مالك رحمه الله مستدلا بقوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}

ومن ذلك أنهم يكفرون بمقالاتهم في علي رضي الله عنه بأن يجعلوه أفضل من الأنبياء أولي العزم من الرسل نحو نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وغير أولي العزم. وهذا جهل غليظ. وأين علي من نوح الذي آتاه الله السفينة آية وأهلك كل ساكني الأرض بسببه غيرة عليه وانتصارا له. وأين علي من إبراهيم الذي جعل النار المحمى عليها شهرا عليه بردا وسلاما، وآتاه في الدنيا ذكرا حسنا وفي الآخرة لسان صدق وأنه فيها من الصالحين، وغل يد الملك الذي همّ بزوجته سارة، وأهلك النمرود

وأجناده وكان ممن ملك الدنيا كلها بأجمعها، غيرة عليه وانتصار له. وأين علي من موسى الذي جعل الله عصاه آية تصلح لمآرب كثيرة وجعل خروج يده بيضاء آية، وأرسل على أعدائه {الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ}، وبرأه بالحجر الذي أخذ ثوبه حين رموه بالأدرة، وأهلك فرعون بدعوته، وفلق له البحر وأغرق فرعون وجنوده -وكان عدد عسكره ألف ألف وخمسمائة ألف، كل على حصان وعلى رأسه بيضة، وكانت كتيبته مائة ألف حصان أدهم- بسببه غيرة عليه وانتصارا له.

وأين علي من عيسى الذي نفخ الله فيه من روحه وجعله وأمه آية وكان يبرئ الأكمه والأبرض ويحيي الموتى ونزل عليه بطلبه المائدة وأيده بروح القدس ورفعه إليه حين طلب أعداؤه قتله انتصارا له. وعلي رضي الله عنه وإن كان صاحب المنزلة العالية والكرامات والولاية الحقة المقبولة عند الله تعالى لكن قتله خصماؤه ولم ينتصر له من معاوية حتى أخذ الحكم منه، ولم يكن كرامة واحدة تقابل شيئا من معجزات هؤلاء الأنبياء المذكورين. فانظر إلى فسق الرافضة وتجرئهم على رسل الله تعالى: كيف جعلوا عليا رضي الله عنه أفضل منهم عليهم الصلاة والسلام. وأين درجة النبوة من درجة الولاية. وأهل السنة يفضلون عثمان رضي الله عنه الذي مفضول الثلاثة على علي رضي الله عنه، والرافضة لا يقدرون أن يقيموا الحجة عليهم بمساواته له، فكيف ينطون إلى الأنبياء

الذين هم أعلى درجات المخلوقات. كان لهم من الله تعالى على هذا الاعتقاد أقبح الجزاء. ومن ذلك أنهم يكفرون بدعواهم لعلي رضي الله عنه ولسائر أئمتهم علم الغيب وعدد الرمال وأوراق الأشجار وقطر الغمام. وذلك من خواص الله تعالى لقوله عز وجل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ومن ذلك أنهم يكفرون بدعواهم لصاحب زمانهم المفقود حضوره في كل مكان وإن تناجى اثنان كان معهما. وذلك من خواص الله تعالى بقوله سبحانه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ومن ذلك أنهم كما كفرونا بمخالفة علي رضي الله عنه هم أيضا يكفرون بمخالفته، لأن عليا رضي الله عنه كان مقدِّما أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وكان لا يظهر منه بغض لهم ولا مسبة ولم ينازعهم في شيء، وكان يصلي الجمعة والجماعة والسنن وغير ذلك مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. والرافضة على خلاف ذلك كله.

ومن ذلك أنهم يكفرون بدعوى الحماية من علي رضي الله عنه لمن يدفن في البقاع الذي وراء قبته المنسوبة إليه [من] أمواتهم، ويعجّزون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحماية وينفونها عنه لمن يدفن عنده كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، يرمونهما باللعن ويزعمون أن ذلك يصل إليهما وهما في حجرته، بل في حجره وأنواره ونعيمه والرحمة عليه شاملة لهما. وهذا من أقبح الدعاوي الكبار عند الله تعالى. وهذا القدر كاف في تكفيره المقرر على رسمهم. ولو ذهبنا إلى حصره لطال ولا يحتمله هذه المختصر.

الفصل السابع في عدد فرق الرافضة وبيان ضلال فرقهم

الفصل السابع في عدد فرق الرافضة وبيان ضلال فرقهم وهم ثلاثة أقسام: الغالية والإمامية والزيدية. القسم الأول الغالية: وهي تفترق إلى إحدى عشرة فرقة: الطيارية والبنانية والمغيرية والمنصورية والخطابية والعمورية والبزيعية والمفضلية والشريعية والسبابية والمفوضية. والجميع من هذه الفرق الغالية مجمع على إبطال معاد الأشباح يوم القيامة وأن عليا رضي الله عنه إله. وتفترق كل فرقة بقول.

فالطيارية ترى أن الله تعالى إنما يحل في الأنبياء فقط. والبنانية ترى أن الله تعالى إنما يحل في أشباح الناس كلهم. والمغيرية تزعم أن الله تعالى إنما يحل في أشباح الناس فقط.

والخطابية ترى أن الأئمة أنبياء وأن الله يبعث في كل وقت صامتا وناطقا، وكان محمد ناطقا وعلي صامتا. والمعمورية كذلك، وترى معه ترك الصلاة. والبزيعية ترى أن الله تعالى ظهر في المسيح وفي علي وفي جعفر بن

محمد الصادق فقط وأن جعفرا لم ير وإنما رئي شبحه الذي ظهر فيه ونطق عنه وأن جميع الشيعة يأتيهم الوحي من الله تعالى. والمفضلية ترى أن الأئمة كلهم آلهة، وقولهم في كل واحد منهم كقول النصارى في المسيح عليه السلام. والشريعية ترى أن الله تعالى إنما أشرف في خمسة أشخاص فقط: محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.

والسبابية ترى أن عليا لم يمت وأنه يرجع قبل القيامة. والمفوضية ترى أن الله تعالى فوض تدبير الخلائق إلى الأئمة وأنه أقدر محمدا وعليا على خلق العالم وأن الله تعالى لم يخلق شيئا. القسم الثاني الإمامية،

وهي أربع عشرة فرقة: القطعية والكيسانية والكريبية والمغيرية والمحمدية والحسنية والناووسية والإسماعيلية والقرامطة والمباركية والشمطية والعمارية والممطورية والموسوية. والمجموع من هذه الفرق الإمامية متفقة على أن الإمامة نص وأن الأئمة معصومون وأنهم يعلمون كل شيء حتى عداد الحصا والقطر والرمال وورق الأشجار وأن كلهم لهم معجزات وأن إمامة المفضول لا تجوز وأن الصحابة ارتدت إلا ستة: سلمان وأبا ذر وعمارا وحذيفة والمقداد وصهيبا، كما مر. وتفترق كل فرقة بقول. فالقطيعية هم الاثنى عشرية الذين قطعوا على موت موسى بن

جعفر وأن الإمامة قد انتهت إلى القائم المنتظر وهو محمد بن الحسن العسكري. والكيسانية ترى أن الإمامة ارتدت بعد علي رضي الله عنه إلى محمد بن الحنفية دون الحسن والحسين. والكريبية ترى أن محمدا بن الحنفية حي في جبل رضوى. والمغيرية وقفت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر وزعمت أنه أوصى إلى أبي منصور دون بني هاشم كما أوصى موسى عليه السلام إلى يوشع بن نون دون ولده وولد أخيه هارون.

والحسينية ترى أن أبا منصور أوصى إلى الحسين بن أبي منصور وأنه الإمام بعده. والناووسية ترى أن أبا جعفر لم يمت وأنه القائم المهدي. والإسماعيلية ترى أن الإمامة بعد جعفر صارت في ولده إسماعيل وأنه فقد ولم يمت وأنه المنتظر. والقرامطة ترى أن جعفرا نص على ابن ابنه محمد بن إسماعيل وأنه لم يمت وأنه حي وهو المهدي. والمباركية ترى أن محمد بن إسماعيل مات وأن الإمامة في ولده.

والشمطية ترى أن الإمامة بعد جعفر في محمد ابنه ثم في ولده. والعمارية وهم الفطحية ترى أن الإمامة بعد جعفر صارت إلى ابنه عبد الله. والممطورية وقفت على موسى بن جعفر وأنه حي لم يمت وتفرقوا في الإمامة بعده. والموسوية.

القسم الثالث الزيدية. وهم ست فرق: الجارودية (¬1) ¬

(¬1) في الأصل هنا عبارة كتب على أولها "يقدم" وعلى آخرها "إلى مؤخر": "قالوا: لو نجا من الموت عزيز وعظيم لنجا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو صفي الأصفياء وحبيبه القريب ذو المعراج والإسراء ومختاره من الخلائق المقدم على الأنبياء، ولقد جاءه ملك الموت والأجل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

بالانقضاء فبلغه السلام من عالم السراء والضراء وخيره بين الحياة والممات فاختار القدوم على لقاء ربه وتوفته ملائكة الهناء وخير بين أن يدفن في الأرض أو في السماء فاختار أن يدفن مع أمته أسوة بالضعفاء، فودع الأهل والأصحاب وأعلن بالدعاء وأوصاهم بالتقى ولزم السنة البيضاء وقال: عليكم بسنتي وسنة الراشدين من بعدي من الخلفاء، فليبلغ الشاهد الغائب. فجزاكم الله تعالى عن نبيكم أحسن الجزاء. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

للغرباء» ثم تنفس الصعداء وقال: يا كرباه، فبكت عين الزهراء رضوان الله عليه، فضمها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره وبشرها باللحوق به وأنها سيدة نساء أهل الجنة وقضى نحبه علية أفضل الصلاة والسلام وهو متكئ على علي المرتضى، فيا شرف ذلك الاتكاء. وخرج من الدنيا خميصا واختار أن يدفن في الأرض أمانا لأمته من الزلازل والبلاء. فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل الفضل والوفاء، خصوصا على صاحبه وصديقه المتخلل بالعباء ورفيقه في الشدة والرخاء المخصوص بخير من طلعت عليه الشمس في حديث أبي الدرداء،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مخفي الشرك بعد الظهور ومظهر الإسلام بعد الاختفاء وعلى عثمان بن عفان مجهز جيش العسرة للقاء الأعداء ومسبل بئر رومة للأحرار والأرقاء الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقه: "ألا أستحي ممن استحت منه ملائكة السماء" وعلى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أشجع الشجعان وأفصح الفصحاء وأكرم الأصهار وأقرب القرباء الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حقه: "علي أعلمكم بالقضاء" رضوان الله عليه ما دامت الأرض والسماء".

والسليمانية والبترية والنعيمية واليعقوبية والبرائية. والجميع منهم متفق على أن الإمامة صارت من علي بن الحسين إلى ابنه زيد دون محمد، ثم من بعده إلى كل خارج ناصر للحق من ولد الحسين. وأجمعوا أيضا على إنكار الرجعة وترك التبرؤ من الشيخين إلا البرائية، فإنهم يتبرءون منهما.

وتفترق كل فرقة بقول: فالجارودية تزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على علي رضي الله عنه بصفته لا باسمه وأن عليا كرم الله وجهه هو الإمام بعده. والسليمانية تسوق

الأمة على ترتيب أئمتهم إلى علي بن الحسين ثم تجعلها بينهم فيمن خرج منهم. والبترية ترى أن عليا إنما صار إماما حين بويع، فأما قبل البيعة لم يكن إماما. والنعيمية ترى أن بيعة أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم تكن خطأ لأن عليا كرم الله وجهه تركها لهما.

واليعقوبية ترى مثل ذلك إلا أنها تتبرأ من عثمان رضي الله عنه وتكفره. والبرائية ترى التبرؤ من أبي بكر وعمر وتقول بالرجعة. فهذه الإحدى والثلاثون فرقة الرافضة. وهذا آخر ما تيسر في هذا المختصر من المناظرة بين السنة والرافضة. والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال الناسخ: وقد وقع التحرير في فراغه يوم الأحد تاسع عشر شهر رجب الفرد سنة أربعين وتسعمائة.

§1/1