الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير

عدنان زرزور

بين يدي الكتاب

بين يدي الكتاب ربّ يسّر وأعن بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. هذه كلمة سريعة أردت أن أضمنها- بين يدي طبع هذا البحث- طرفا من الأسباب الأساسية التي دعتني إلى اختيار هذا الموضوع، وطرفا آخر من الفكرة التي انتهيت إليها- بعد مراجعات ليست بالقصيرة- في موضوع الفرق والخلاف في تاريخ الإسلام. - 1 - قصدت من هذا البحث- أولا- إلى مزيد من التعرف والاطلاع على جوانب المكتبة العربية الإسلامية، وبخاصة ذلك الجانب البعيد الذي ما زال مجهولا حتى الآن، والذي قدّرت أنه يسهم في إغناء الفكر الإسلامي والإنساني المعاصر ... وذلك عن طريق دراسة كتاب خطي هام- تمهيدا لتحقيقه ونشره- وشخصية علمية بعيدة الأثر في أهم جانبين من جوانب الفكر الإسلامي: التفسير وعلم الكلام ... يقدم لنا كتاب الحاكم الجشمي في تفسير القرآن- كما سيرى القارئ

في هذه الرسالة- أجمع صورة وأدقها وأكثرها أمانة كذلك .. للطريقة التي تناول بها المعتزلة وأهل الرأي القرآن الكريم بالتفسير والشرح، كما يدلنا على مدى اعتماد المعتزلة على نصوص القرآن في آرائهم ومذاهبهم ... وعلى تفريقهم بين ما يدخله التأويل من الآيات، وما لا يدخله التأويل .. وعلى نظرتهم الدقيقة إلى المعارف ما يعرف منها من جهة الشرع، وما يعلم منها من جهة العقل، وما يصح أن يعلم منها من كل واحد من الطريقين. ويدلنا هذا الكتاب أيضا على ذلك التفاعل الحي بين التابعين ورجال السلف من جهة، وبين شيوخ المعتزلة الأوائل من جهة أخرى .. وعلى مدى الالتقاء بين أولئك وهؤلاء. ويؤكد لنا الفكرة التي ألمحنا إليها في مقدمة هذا البحث، وهي أن الخلاف بين المتكلمين ورجال الفرق إنما نشأ في الأصل هينا يدعو إليه الخلاف في الفهم وقواعد النظر، ولكن عمق فيما بعد على أيدي الأشياع المتأخرين بفعل التعصب والمغالاة .. بل بفعل التخلف والانحطاط الذي كان يقعد بهؤلاء عن فهم ما قدمه الأوائل في بعض الأحيان .. أو الذي كان يدع صدورهم تضيق بالخلاف الذي اتسعت له صدور الأوائل وعقولهم. وكأن هذا التفسير يشير إلى أن مشكلات الإنسان الأساسية- وهي في جوهرها واحدة على مدى العصور: ما وراء الطبيعة، الحرية الإنسانية، القضاء والقدر ... الخ، وإن اختلفت عناوينها وأساليب طرحها على الأزمان- إنما يطرحها الإنسان ويجيب عنها، أو يحاول الإجابة عنها، في أوقات رقيه وتقدمه، لا في أوقات تخلفه وانحطاطه وتدهوره المادي والمعنوي، التي يكون فيها مشغولا بالسعي على نفسه يدفع عنها غائلة الجوع والخوف.

- 2 -

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذ المبدأ الاجتماعي، عند ما أمر الله تعالى قريشا- في السورة المسماة باسمها- أن تتوجه إليه بالعبادة- المبنية على النظر ومعرفة الله تعالى- مذكرا إياهم أنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، قال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ فما الذي يقعد بهم إذن عن أن يتفكروا أن لهذا البيت ربا يستحق العبادة والتعظيم؟! ومن هنا- وهذا استطراد لا بدّ منه- تظهر واحدة من أهم مزايا رسالات الأنبياء حيث تحاول دائما أن تصل الإنسان بهذه المعاني الخالدة في الحياة حين لا يكون «مؤهلا» لطرح تلك الأسئلة، أو حين تكون أهليته- كما يثبت الواقع- ناقصة أو موهومة. وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نفهم لماذا ختمت الرسالات بمحمد صلّى الله عليه وسلم- بعد كل هذه التمهيدات والمحاولات- ونفهم كذلك لماذا ينحصر الصراع اليوم- حقيقة ومن وراء صور كثيرة- بين المنهج الإلهي متمثلا في الدين الخالد: الإسلام، وبين المناهج البشرية متمثلة في آراء الفلاسفة ومفكري النهضة. - 2 - هذه المشكلات الإنسانية هي إذن مشكلة كل عصر، ومنهج الإسلام فيها- أو جوابه عليها- يتمثل في نصوص القرآن الكريم، في المقام الأول. ولكن هذه الإجابة لم «تفهم» على الدوام على نحو واحد إلا في جيل واحد على وجه التقريب- وهذا أمر جدير بالدراسة على ضوء وقائع السياسة وحقائق الاجتماع، وإن كان أمر وجود «الصورة الكاملة

- 3 -

أو «الحل الأمثل» ومحاولة «الانسان» بعد ذلك وجهاده للوصول إلى «استيعابه» وتطبيقه .. جديرا بالاعتبار- ومن ثم اختلفت بعض أجزاء الصورة عند كل من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وبعض الفرق الأخرى في تاريخ الإسلام. وقد قدم لنا الحاكم في تفسيره هذا أجزاء كثيرة وهامة من هذه الصورة، وبخاصة حين جمع خلاصة ما قدمه السلف ورجال الاعتزال على مدى أربعة قرون تقريبا ... فكان لا بدّ لنا اليوم من أن نتقدم إليه، وإلى سائر كتب التراث الأصيلة لجميع الفرق الإسلامية؛ نجمع منها بعناية ودقة أجزاء تلك الصورة المبعثرة، لنعيد «تركيبها» وصياغتها من جديد- ما استطعنا إلى ذلك من سبيل- لندل اليوم، وفي زحمة المبادئ وصراع الأفكار، على «الصورة القرآنية» وعلى «عقيدة القرآن» التي «تمثلها» الجيل الأول، وعاشها آية آية ينزل بها الوحي على محمد صلّى الله عليه وسلم في آخر اتصال لعالم الغيب بعالم الشهادة! - 3 - إن سبيلنا اليوم إلى وحدة الفكر الإسلامي، وإثبات صلاحيته وشموله وأصالته لا يتم بغير هذا الرجوع، كما لا يتم بغير مراعاة جانب «الموضوعية» في دراسة أسباب الخلاف بين المفسرين والمتكلمين، وهذا هو الهدف الثاني الذي سعيت إليه في هذه الدراسة، أو سعيت إلى تعلمه والصبر عليه قبل الدعوة إليه. لقد خيّل إليّ أن هذا النوع من الدراسة أصلح ما يكون لتعلم الموضوعية، لأن هذه الدراسة لا يمكن أن توجد أصلا- فضلا عن أن تتم وتأتي صحيحة سليمة- إلا بهذه الطريقة من البحث، وللقارئ أن يلحظ مدى الأناة التي قادت هذا البحث، والتي خلت من

كل ضروب الأحكام المفتعلة أو المنقولة ... أو التي زالت أسبابها ودواعيها بزوال مخترعها وأصحاب المصلحة فيها ... إن القرن الخامس- الذي مهدت به لهذا البحث- قد حفل بأبشع صور الخلاف بين أرباب الكلام وأصحاب الفرق، وقضي فيه لأسباب سياسية واجتماعية على بعض الفرق لمصلحة الفرق الأخرى .. ومضى الحكم لازما- في عصور الانحطاط- عند المقلدين والتقليديين، وقابلا للتلفيق والتوفيق عند بعض المفكرين والباحثين ... فهل نبدأ اليوم من هنا وهناك ونفرض على البحث العلمي أن ينزل إلى سلحة لم يعد لها وجود ... أو يجيب على مسألة طرحت خطأ على كل الوجوه؟! وإذا كان لا مجال للارتياب في وجوب البدء بمرحلة الرجوع السابقة إلى الصورة القرآنية ... فهل نعود إليها من خلال الدراسة الموضوعية؟ أم من خلال غبار المعارك ومحاولة الانتصار لفرقة على أخرى، بالحق تارة، وبالباطل تارة أخرى؟! إن من حقنا اليوم، بل من واجبنا كذلك- على ضوء هذه الحقيقة- أن نعيد النظر في الأحكام التي أطلقت على بعض الفرق، أو على بعض آرائها ومبادئها التي اشتهرت عنها وعرفت بها. ولست هنا أدافع عن المعتزلة- كما قد يتوهم البعض- أو أنتصر لهم!! فإن شيئا من ذلك لا يهمني، كما لا يهمني أن أكون الحكم لهم أو عليهم .. ولكن الذي يهمني، ويجب أن يهم كل باحث، هو النظر الموضوعي إلى تراثهم وتراث سائر الفرق الإسلامية، وعدم الانطلاق في الحكم على الجميع من أحكام اجتهادية لا تقبل الطعن أو النقض!

- 4 -

- 4 - وإذا كنت في هذا البحث لم أتجاوز سبيل الدراسة «الوصفية» ومحاولة الوقوف على الآراء التي تضمنها كتاب الحاكم ... إلى تقرير كثير من «الأحكام» التي انتهيت إليها .. فلأنني لم أقصد في الأصل- فوق ما ذكرت- إلى أكثر من تبين معالم الطريق، وتعميق دراسة فكرة «المنهج» التي تعتبر الخطوة الأهم في موضوع هذه الدراسات الجامعية، وقد سبق لي أن وقفت على شيء من معالم «المناهج الكلامية» في تفسير القرآن حين حققت كتاب «متشابه القرآن» للقاضي عبد الجبار، وعالجت موضوع الآيات المتشابهة في القرآن بوجه عام، ومن ثمّ كان لا بدّ لي من متابعة الطريق في دراسة أطراف هذا المنهج، والتمكن من آثاره البعيدة والقريبة؛ تمهيدا لخطوة أخرى- تالية إن شاء الله- في موضوع المقارنة الموضوعية المفصلة بين سائر المناهج وطرق التفسير، حتى نتمكن من الإسهام في إعادة رسم الصورة القرآنية على النحو السابق. - 5 - على أن العناية بتحرير آراء كل فرقة من الفرق من كتبها ومصنفات شيوخها، يصلح وحده هدفا يسعى إليه الباحث، تحقيقا لأمانة العلم من ناحية، وفي سبيل الوصول إلى الحق في نقاط الخلاف من جهة أخرى، ومن المؤكد أننا سنقف بهذه الطريقة على عشرات النقول الموهومة أو المكذوبة، والتي كان بعضها يرتكب تشنيعا على الخصم وإساءة لسمعته عند العامة. والأمثلة على ذلك، في كتاب الحاكم وحده، كثيرة سيقف عليها القارئ، وبخاصة القارئ المطلع على ما ينسب إلى المعتزلة

من آراء في كتب المذاهب الأخرى. أذكر هنا من هذه الأمثلة ما نسبه الإمام الأشعري إلى المعتزلة من إنكارهم عذاب القبر، قال في كتابه «مقالات الإسلاميين 2/ 104»: «واختلفوا في عذاب القبر فمنهم من نفاه وهم المعتزلة والخوارج، ومنهم من أثبته وهم أكثر أهل الإسلام» في حين يقرأ المرء في تفسير الحاكم تأكيدا مستمرا لقول صاحبه وقول أبي علي الجبائي وشيوخ المعتزلة الآخرين بعذاب القبر، حتى إنني- ابتداء وقبل أن أتنبه إلى نقل الأشعري- «أخذت» على الجبائي ما وقع فيه من الإسراف في الاستدلال على هذا الأمر؛ كما أشرت إلى ذلك في موضعه من هذه الرسالة! فلما تنبهت لنقل الأشعري هالني ذلك مرتين!! ومن حق الباحث أن يفهم من قول الأشعري: قالت المعتزلة؛ أنه يعني بذلك أبا علي الجبائي، في المقام الأول، إن لم يكن على جهة الحصر؛ لأن الأشعري إنما تلقى الكلام- على مذهب المعتزلة- على أبي علي الذي كان أيضا زوجا لأمه. ولعل احتمالات الخطأ الكثيرة في نقل الأشعري، أو في النقل عنه، تنخفض نسبتها إذا وقفنا على تأكيد لهذا القول في كتاب «الإبانة» للأشعري، الذي ضمنه آراءه الكلامية الجديدة بعد تركه الاعتزال، فقال في مطلع الفقرة المقتضبة التي عقدها لهذه المسألة من مسائل الاعتقاد: «وأنكرت المعتزلة عذاب القبر» فأهمل هنا ذكر الخوارج، حتى لكأن هذا الإنكار وقف على المعتزلة .. ثم بدأ بالرد عليهم وبيان خطئهم. ولا أدري كم يبقى من احتمالات الخطأ السابقة إذا وقفنا في بعض كتب الحاكم على الخبر التالي: روى القاضي عبد الجبار أن «بعضهم سأل

أبا يعقوب الشحام عن عذاب القبر، فقال: ما منّا أحد ينكره- معشر المعتزلة- وإنما يحكى ذلك عن ضرار»! وضرار هذا هو ابن عمرو، الذي لم أجد له ذكرا في طبقات المعتزلة التي كتبها القاضى عبد الجبار، أو التي شارك في كتابتها، لأن طبقة أبي يعقوب الشحام (ت 267) كانت مدونة قبل القاضي في كتاب اطلع عليه الأشعري، على التحقيق!! وفي مثال آخر يقف الباحث في موضوع يعتبر من أهم الأبواب الكلامية التي ثار حولها جدل كبير، وهو موضوع الصفات الإلهية التي يقترن إنكارها بالمعتزلة على الدوام .. على رد الحاكم الدائب على منكريها من المعتزلة، وهم معتزلة بغداد- أو جمهورهم- دون معتزلة البصرة!! والعجيب في هذه الردود أنها تحمل طابع البساطة والقوة في وقت واحد (انظر فقرة: التوحيد، من الفصل الأول- الباب الثالث). وأحب أن أشير هنا، بهذه المناسبة، إلى أن تعميم النقل عن المعتزلة لا يصح قبل التدقيق والتحقيق، لأنهم ينتسبون إلى مدرستين أو فرعين كبيرين، وفي كل فرع آراء واجتهادات وردود ومناقشات؛ ولعل الردود بين المدرستين في بعض الأحيان أن تكون أقسى من ذلك النوع الذي كان بينهم وبين خصومهم. وفي مثال ثالث- في استطراد أخير- سيقف القارئ، في صفحات مطولة، على رد الحاكم والمدرسة الجبائية على فكرة «الصرفة» في إعجاز القرآن، التي قال بها النظام- بغض النظر عن الحامل له على هذا القول- والتي اعتاد بعض الباحثين على نسبتها إلى المعتزلة؛ علما بأن الإمام ابن حزم- مثلا- وبعض أعلام الفرق الأخرى، بتبنونها ويدافعون عنها بقوة!

- 6 -

والأمثلة على ذلك كثيرة ... ولكن بمثل هذه الطريقة من البحث في سبيل الوقوف الصحيح على آراء الفرق، يمكننا أن نقطع نصف الطريق إلى عصر الاتفاق والانطلاق ... أو إلى العصر الذي لم يؤد الخلاف اليسير الذي وقع فيه إلى تشويه الصورة، أو إلى رؤيتها رؤية «ذريّة» مفككة! - 6 - ولعل صفحات هذه المقدمة السريعة تتسع للإشارة إلى أن هذه الذرية في النظر إلى آيات القرآن الكريم، أو ذلك التجزي للصورة وأخذها تفاريق ... هو الذي دفع إلى تبني بعض المواقف والتفاسير الباطلة، ويفسر- من ثم- ذلك التشبث العجيب بمواقف لا يملك صاحبها حجة يدفع بها اعتراض الخصم ... حتى صارت المذهبية في العقيدة «دينا» يحرّف من أجله التنزيل بتأويلات سمجة باردة!. والواقع أن بناء الرأي أو الحكم على آية من الآيات وردت في سياق معين بدون النظر إلى هذا السياق، وإلى جميع الآيات التي وردت في موضوع تلك الآية ... وإلى «روح» النص القرآني، وصحة الأمر بالتكليف الذي جاء به القرآن ... كل ذلك قد دفع بأصحاب الفرق والمذاهب إلى محاولة التأويل والتلفيق ... والتهجم على الخصم الذي تمسك بآية أخرى، على هذا النحو كذلك. وهذا أمر لا تكاد تخلو منه فرقة من الفرق. ومن أراد شواهد على ذلك فلينظر تفسير مثل قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ... ) عند القاضي عبد الجبار. ولينظر عند أبي الحسن الأشعري تفسير قوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ)

- 7 -

وقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) وقوله: (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ... الخ هذه الشواهد التي حفلت بها كتب الفرقتين الكبيرتين: المعتزلة والأشاعرة، وكتب سائر الفرق الاسلامية. وربما كان إطلاق القول بأن نصوص القرآن الكريم ظنية الدلالة يعود في أحد أسبابه الرئيسية إلى هذا التجزي العجيب، والاعتساف في قطع النصوص لا عن سياقها وسباقها فحسب، بل عن «روحها» العامة، وأهدافها التربوية والأخلاقية، وبخاصة فيما عرف عند المفسرين والأصوليين بآيات الاحكام! وفي الوقت الذي ندعو فيه إلى إنكار «الدلالة الظنية» في آيات القرآن الكريم، واثبات أنها قطعية ... فليس من البعيد فيما يبدو أن تتكاتف الدراسات على تأكيد هذه الحقيقة في يوم من الأيام! - 7 - وبعد، فإن من أهم ميزات تفسير الحاكم- كما أوضحت- هو رده الدائب على المجبرة أو الجبرية الذين زينوا للناس القعود والتواكل من خلال فهمهم السقيم لبعض الآيات القرآنية. والذي أضيفه هنا: هو أن هذا الكتاب لو كتب له التوسع وسعة الانتشار؛ لساهم في محاربة التواكل والتخلف، والتبرير الكاذب للقعود عن السعي في طلب التغيير الذي أخذ بأطراف العالم الإسلامي. ولعل المشكلة هنا تعود إلى اندثار مدرسة الاعتزال بما قدمه رجالها الأوائل من دفاع مجيد عن الاسلام ... تجاه الثنوية والدهرية وأصناف الملاحدة ... وبما أثارته هذه المدرسة من مشكلات كان المسلمون في غنى

- 8 -

عنها، وعن ثمارها المرة. ويبدو أن من صواب الرأي أن يقال: إن المعتزلة أنفسهم يتحملون قسطا من وزر تلك الجبرية وهذا التواكل؛ لأنهم كما يقول بعض المؤرخين لعصر المأمون: على أنفسهم جنوا! - 8 - وأخيرا، فانني أقدم اليوم هذا البحث للطبع على النحو الذي أعددته من قبل، وتقدمت به إلى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، حيث تولت مناقشته والحكم عليه لجنة من الأساتذة: الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور مصطفى زيد، والشيخ عبد العظيم معاني، وأجازته بمرتبة الشرف الأولى بإجماع الآراء. غير أنني اختصرت منه بعض الأمثلة والشواهد من تفسير الحاكم- كما كنت أرغب من الأصل- وبعض الكتب الخطية الأخرى التي أعمل الآن في تحقيقها وإعدادها للنشر. وأحب أن أنبه القارئ إلى أن ما انتهيت اليه من الحكم على الزمخشري، وأنه قال في التاريخ مكانة لا يستحقها ... قد اعتبره أستاذنا الجليل الشيخ أبو زهرة «تهجما على الزمخشري بغير حق». ولعل من سوء الحظ أن المقارنات التي عقدتها بين كتابه وكتاب الحاكم قدر كنت في قسم منها إلى الشواهد التي كانت مبثوثة في هذه الرسالة، والتي أصاب بعضها الاختصار السابق؛ مما جعل هذه المقارنة- في صورتها الحالية- في حدود ضيقة. إلا أنني لم أجد حتى الآن ما يحملني على الرجوع عن موقفي السابق، بل لعل شيئا من عدم الحرص على تلك الشواهد يعود إلى اقتناعي بما انتهيت إليه. على أنني أرجو أن أعود إلى دراسة الزمخشري على نحو أشمل

في بحث آخر. وأرجو أن يتم ذلك بعد نشر الجزء الأول من تفسير الحاكم في وقت قريب إن شاء الله. ولله الحمد في الأولى والآخرة. اللهم ألهمنا توفيقا وسدادا في مصاحبة الحق ومجانبة الباطل. والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. عدنان زرزور دمشق في 28 رجب 1391 18 ايلول «سبتمبر» 1971

مقدمة

بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدّمة إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. والصلاة على سيدنا محمد الذي أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، وأوحى إليه هذا القرآن لينذر به الذين كفروا، وبشرى للمؤمنين. وبعد: 1 - هذا بحث في أحد أعلام التفسير وعلم الكلام في القرن الخامس، وقفت على ضرورته وأنا أعد دراستي السابقة في «الماجستير» عن القاضي عبد الجبار وكتابه «متشابه القرآن» ففي الوقت الذي أعانني فيه تفسير الحاكم على تحقيق كتاب القاضي، وجدت فيه كذلك صورة من أدق كتب التفسير وأغزرها مادة، وأجودها في الترتيب والتهذيب. والواقع انني أدركت في هذا الوقت أمرين: أولهما ضرورة الكتابة في «منهج المعتزلة في تفسير القرآن» نظرا لأهمية هذا الموضوع وتجدد البحث فيه على ضوء ما تم الوقوف عليه من تراث المعتزلة في اليمن، من جهة، ورفعا لظلامة ركبت المعتزلة قرونا متطاولة كانت آراؤهم فيها- في التفسير والحديث والكلام- تؤخذ من كتب خصومهم، من جهة

أخرى. أما الأمر الثاني فهو ضرورة دراسة الحاكم الجشمي، وتحقيق كتابه القيم: «التهذيب في التفسير». 2 - ثم خرجت من ذلك كله وأنا بسبيل اختيار موضوع لهذه الرسالة إلى الجمع بين هذين الأمرين في دراسة الحاكم ومنهجه في التفسير، تمهيدا لتحقيق كتابه إن شاء الله، بعد أن تبينت أن منهجه في هذا الكتاب يشير إلى خلاصة منهج المعتزلة في تفسير القرآن، في الوقت الذي لا أعفي فيه نفسي من دراسة الحاكم والكشف عن تراثه وبيان منزلته في الفكر والثقافة الاسلامية، بعد أن أتيحت لي فرصة الوقوف على أخباره من وراء القرون الطويلة التي طوي فيها وراء حدود اليمن. 3 - ولن أتحدث في هذه المقدمة عن قيمة كتاب الحاكم وأهميته وما يتمتع به من ميزات شكلية وموضوعية، فذلك ما سيوضحه هذا البحث، ولكنني أشير هنا إلى بعض جوانب الجدّة والأهمية في دراستنا هذه لكتاب الحاكم، التي تتلخص في أنها: - أول دراسة تتناول علما من أعلام التفسير في القرن الخامس. - وتقوّم- على الجملة- حركة التأليف في التفسير وعلم الكلام في هذا القرن. - كما أنها تحتوي للمرة الأولى عرضا لتفاسير المعتزلة الكبيرة قبل الحاكم، مع التعريف الدقيق بها وبمؤلفيها، وذكر بعض النماذج مما وصل إلينا من هذه التفاسير الخطية التي لم يتيسر للباحثين سبيل الاطلاع على أكثره بعد. وقد ركّزت هذه الدراسة على أهمية القاعدة الفكرية في دراسة منهج أي مفسر- في التفسير والتأويل- وفهم هذا المنهج حق الفهم.

- كما أنها قد تعقبت هذا الأثر في أطراف كتاب الحاكم. - يضاف إلى ذلك: الفرصة التي هيأتها هذه الدراسة لإعادة النظر في تقويم الزمخشري. وقد كشف هذا البحث عن بعض هذه المكانة عند الكلام على أثر الحاكم في المفسرين من بعده. وعلى الرغم من أن أكثر جوانب هذه الدراسة يكاد يكون جديدا على ميدان البحث، فإن وجهها الأول عندي أنها تمهد لي السبيل- إن شاء الله- إلى تحقيق تفسير الحاكم وبعض ما وقفت عليه من كتبه الأخرى، وهي كتب جديرة أن تتبوأ مكانها اللائق في المكتبة العربية الإسلامية. 4 - أما العقبات التي اعترضت سبيلي في هذا البحث فتعود إلى أن أكثر مصادره مخطوط أو مصوّر، كما أن المطبوع من هذه المصادر لم يكن الحصول عليه- وقد نشر أكثره في مواطن متفرقة- سهلا طول الوقت. وقد حاولت التغلب على مشكلة الكتب الخطية بالتوفر على ما صورته دار الكتب المصرية من مكتبة الجامع الكبير بصنعاء وبعض المكتبات اليمنية الخاصة، فاستنسخت بعض هذه الكتب وصورت بعضها الآخر- مكبّرا أو على شريط- عن صورته التي ما تزال على «الأفلام» أو الأشرطة، كما أدمت النطر في بعضها الآخر في دار الكتب. أما الكتب اليمنية الأخرى التي لم تصورها دار الكتب من الأصل- ومنها بعض كتب الحاكم- فقد تعذر عليّ تصويرها من تلك الديار، وقد

وافاني بما أريده منها بعض علماء اليمن الأفاضل، كما أشرت إلى ذلك في موضعه من هذه الرسالة. 5 - وقد سلكت في هذه الدراسة سبيل البحث العلمي المتجرد عن التعصب للحاكم، فأوردت من آرائه ما وقفت عليه مشفوعا ببعض الشواهد- التي كنت أرجو أن أجتزئ منها في بعض المواطن لو كان تفسير الحاكم بين يدى القارئ- وإن كان هذا لم يمنعني من بعض التعقيبات والتعليقات الموجزة. كما أنني لم أتعصب للمعتزلة وآرائهم، أو أتعصب عليهم، ولم أذكر شيئا من آرائهم مشفوعا بمحاولة التحسين أو التقبيح، على الرغم من أن الصورة التي يحملها أكثرنا للمعتزلة لا تزال سوداء أو كالسوداء، وقد تراءت هذه الصورة في نفسى في مواطن قليلة من تفسير الحاكم، ولكن هذا لم يمنعني من الإعجاب بهذا التفسير، والدعوة إلى الإفادة منه ومن سائر تراث المعتزلة في التفسير وعلم الكلام وأصول الفقه، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الإفادة من منهج المعتزلة العقلي- ومن سائر المناهج الكلامية الأخرى- في الدفاع عن الإسلام وشرح حقائقه أمام مناوئيه ومخالفيه من أتباعه والغرباء على حد سواء! وليس في تاريخ الإسلام فرقة واحدة تستطيع أن تزعم لنفسها حقّ فهم العقيدة الإسلامية على الوجه الأكمل حتى يكون كلّ من خالفها في شيء ضالا ومبتدعا أو من أهل الزيغ والأهواء! ولا تخلو فرقة واحدة من الغلو في جانب، والتفريط في جانب آخر. وليست مهمتنا اليوم: الانتصار لفرقة على أخرى، أو تعميق الخلاف بين هذه الفرق،

الذي نشأ في الأصل هينا ثم عمّق بفعل التعصب، ولكن مهمتنا هي التقريب بين مواطن الخلاف وقواعد النظر، والتأكيد على وحدة الفكر الإسلامي، ومحاولة الوصول إلى الحق على ضوء هذه الحقيقة، ومن خلال دراسة تراث جميع الفرق في ظلال القرآن. 6 - أما الطريقة التي اتبعتها في هذا البحث فقد حددتها على ضوء منهج الحاكم نفسه وطريقته في تفسيره، ويتلخص هذا المنهج في أنه منهج كلامي تصرف فيه العناية إلى آيات العدل والتوحيد دون آيات الفقه والشرائع وسائر الآيات، ولهذا عنيت في المقام الأول بالكشف عن هذا المنهج وبيان القاعدة الفكرية التي أسس عليها، والآثار التي خلّفها- دون غيره- في كتاب الحاكم وحاولت في هذا المجال- ما استطعت إلى ذلك سبيلا- رد الفروع إلى الأصول، والوقوف على القواعد العامة التي تحكم رأي الحاكم ومذهبه في نقاط كثيرة، دون محاولة الخوض في الجزئيات. كما أنني لم أحاول «التعديل» من طغيان جانب الكلام والرد على الخصوم وأهل الأهواء في تفسير الحاكم على جانب الفقه والتشريع، بالكلام عليهما على نحو متقارب، وإن كان الحاكم لم يهمل العناية بالفقه وآيات الأحكام، ولكن هذه العناية ليست هي الطابع المميز لكتابه حتى يسمح لنا بإدراجها في كلامنا على «المنهج» بمعناه العلمي أو الفكري الذي يحكم تفسيره، دون موضعها الصحيح في مكان آخر. 7 - وقد جعلت هذا البحث في تمهيد وخمسة أبواب: تحدثت في التمهيد عن عصر الحاكم، أو القرن الخامس. ورتبت الأبواب وما تشتمل عليه من الفصول على النحو التالي:

الباب الأول: حياة الحاكم وآثاره. ويشتمل على فصلين الفصل الأول: حياة الحاكم. الفصل الثاني: آثاره. الباب الثاني: مدخل إلى تفسير الحاكم. وتحته فصلان: الفصل الأول: تفاسير المعتزلة قبل الحاكم. الفصل الثاني: مصادر الحاكم في التفسير. الباب الثالث: منهج الحاكم في تفسير القرآن. ويشتمل على أربعة فصول: الفصل الأول: قاعدة الحاكم الفكرية ومحوره في تفسيره. الفصل الثاني: قواعده الأساسية في التفسير. الفصل الثالث: حدوده في التأويل. الفصل الرابع: أثر منهجه العقلي وثقافته الكلامية في تفسيره. الباب الرابع: طريقة الحاكم في تفسيره، وآراؤه في علوم القرآن. وتحته فصلان. الفصل الأول: طريقته في كتاب «التهذيب» الفصل الثاني: آراؤه في علوم القرآن الباب الخامس: مكانة الحاكم وأثره من التفسير. وتحته فصلان: الفصل الأول: مكانة الحاكم الفصل الثاني: أثره في المفسرين من بعده 8 - وبعد، فلست أرى ما أذكره في هذا الموطن خيرا من الكلمة التي كتبها أستاذنا العلامة الجليل الشيخ محمد أبو زهره في كتابه «تاريخ

المذاهب الاسلامية» وعقّب بها على آراء المعتزلة ومذهبهم ومواقفهم في الجملة. قال حفظه الله: «أولا: إن هؤلاء يعدون فلاسفة الإسلام حقا، لأنهم درسوا العقائد الإسلامية دراسة عقلية مقيدين أنفسهم بالحقائق الإسلامية غير منطلقين في غير ظلها، فهم يفهمون نصوص القرآن في العقائد فهما فلسفيا، ويغوصون في فهم الحقائق التي تدل عليها، غير خالعين للشريعة، ولا متحللين من النصوص. ثانيا: أنهم قاموا بحق الإسلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد كيد الزنادقة والملاحدة والكفار في نحورهم، وكان لا بدّ من وجودهم ليقفوا تيار الزندقة الذي طم في أول ظهور الدولة العباسية، ولذا كان الخلفاء الأول من هذه الدولة يشجعونهم، وقد ناوأهم الرشيد زمانا واعتقل بعضهم، ولكنه اضطر لإطلاقهم لما علم أنهم الذين يستطيعون منازلة الوثنيين من السّمنيّة وغيرهم. ثالثا: أن لهم شذوذا في الفكر، وشذوذا في الفعل. وذلك يحدث كثيرا ممن يطلق لعقله العنان ولو في ظلال النصوص» 9 - وأخيرا فإنني أتوجه بجزيل الشكر وجميل العرفان إلى أستاذي الجليل الشيخ محمد أبو زهرة الذي وجدت في علمه ورحابه صدره خير باعث لي على المضي في هذا العمل، والفراغ من مناقشته في أقرب وقت. كما أشكر الأستاذ المشرف الدكتور مصطفى زيد الذي قعد به المرض عن النظر في هذه الرسالة حين صح منه العزم على ذلك.

وأدعوا الله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وأن يجعله في عداد حسناتي يوم العرض عليه، وأن يوفقني لخدمة شريعته وإعلاء كلمته، إنه سميع قريب مجيب. القاهرة: 29 رمضان المبارك 1388 هـ 19 كانون الأول (ديسمبر) 1968 م عدنان محمد زرزور

تمهيد عصر الحاكم (القرن الخامس الهجري)

تمهيد عصر الحاكم

تقع حياة الحاكم في القرن الخامس الهجري، فقد ولد في إحدى قرى نيسابور سنة 413 وتوفي بمكة سنة 494، وقد شهدت الدولة الإسلامية في هذا القرن، وبخاصة في الجزء الشرقي الذي عاش فيه الحاكم أشد حالات الفوضى السياسية بسبب كثرة الدويلات والنزاع بين الأمراء والسلاطين من جهة، ولما جرى من الفتن والمصادمات بين أصحاب المذاهب والفرق من جهة أخرى، حتى إن شمس هذا القرن لم تغب عن العالم الإسلامي إلا وقد جردت عليه أوروبا أولى حملاتها الصليبية عام 491. ونصوّر في هذا التمهيد الموجز الحالة السياسية والدينية في هذا القرن وأثر ذلك في الحياة العامة، كما نعرض أيضا لحركة التأليف في التفسير وعلم الكلام، كلّ ذلك بالقدر الذي يلقي ضوءا كافيا على حياة الحاكم الذي كان رأسا في المفسرين والمتكلمين على حد سواء. أولا: الحالة السياسيّة كان الصراع السياسي في هذا القرن على أشده في بغداد عاصمة الخلافة، وفي الجزء الشرقي والشمال الشرقي في الدولة الإسلامية، وما تزال فارس وخراسان مسرحا للمزيد من حركات «الانفصال» والأسر المالكة الجديدة الوافدة، في الوقت الذي ينشط فيه الباطنية، ويتألق نجم العبيديين في مصر والشام واليمن وبلاد أخرى: 1 - البويهيون : لم يلبث البويهيون الذين بدءوا في الظهور عام 320 أن أسسوا

2 - الغزنويون

دولة لهم في فارس وخوزستان بعد ذلك بعامين على يد عماد الدولة «1»، وزادوا بذلك من عدد الدويلات المنفصلة عن الدولة العباسية، ولكنهم ما فتئوا يتوسعون من حولهم ويفرضون سيطرتهم على الدويلات المجاورة حتى استطاع معز الدولة أن يملك بغداد آخرا سنة 334 بعد أن رضى «الخليفة» بحماية «السلاطين» الجدد في وجه تهديدات سلاطين الدويلات الصغيرة الأخرى، ومنذ ذلك الحين أخذ البويهيون دور السلطان الفعلي في ظل «الخليفة» العباسي. واستمر بنو بويه يحكمون بغداد- بالرغم من انقسامهم بعد وتعاديهم- حتى منتصف القرن الخامس تقريبا عام 447 عند ما سقط آخر معاقلهم في بغداد على يد السلاجقة الوافدين من نيسابور «2». 2 - الغزنويون : وكان بنو سامان من قبل قد أسسوا دولتهم- بخراسان وأقاليم أخرى- من أوائل القرن الثالث، وقد استمرت هذه الدولة حتى أواخر القرن الرابع عند ما ثار عليهم أحد عمالهم بخراسان سنة 387 هو أبو القاسم محمود بن سبكتكين ناحلا نفسه لقب سيف الدولة «3»، وما لبث أن أضحى سيد نيسابور وغزنة، وأن فتح خوارزم وأصبهان، بل تمكن من أن يوسع دولته الغزنوية داخل الهند «4»، وعند ما

_ (1) راجع «معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي» لزامباور صفحة 322 - 323. (2) انظر «البداية والنهاية» لابن كثير 12/ 66 وزامباور 322. (3) راجع زامباور ص 306 و 416. (4) انظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 7/ 315 وانظر فيه خبر ملكه الري وبلاد الجبل أيضا: 7/ 335.

3 - السلاجقة

توفى سنة 421 خلفه ابنه مسعود- وهو الذي انتزع منه السلاجقة بعد بلاد خراسان «1» وتستمر الدولة الغزنوية على نزاع وحروب بينها وبين السلاجقة وبينها وبين بني بويه أيضا «2» شأن جميع هذه الدويلات بعضها مع بعض- حتى تسقط في مطلع الربع الأخير من القرن السادس «3». 3 - السلاجقة : وتظهر قبائل الغزّ التركية في خراسان- المسرح الأول- بقيادة آل سلجوق، ويستولي السلطان السلجوقي الأول «طغرلبك» على نيسابور سنة 429 «ويبعث أخاه داود إلى بلاد خراسان فيملكها وينتزعها من نواب الملك مسعود بن سبكتكين «4»» وفي العام التالي يلتقى طغرلبك وأخوه بالملك مسعود فيهزمهما، تم يتمكن طغرلبك عام 433 من ملك جرجان وطبرستان، وأن يعود إلى نيسابور «مؤيدا منصورا» وفي عام 437 يبعث أخاه إبراهيم إلى بلاد الجبل فيملكها، ثم يحاصر هو أصبهان عاما كاملا حتى يتمكن من «فتحها» عام 442 وقبل أن يولي وجهه شطر بغداد غزا عام 446 بلاد الروم، وفي العام التالي ملك بغداد وأسقط السلطان البويهي، وخطب له لأول مرة في رمضان سنة 447 «5». وخلف طغرلبك بعد وفاته سنة 455 ابن أخيه ألب أرسلان الذي مات مقتولا سنة 465 فخلفه ابنه ملكشاه

_ (1) دخل مسعود أيضا في حروب مع الروم وأضاف إلى ملكه بلادا كثيرة، راجع ابن الأثير 3/ 353. (2) انظر ابن الأثير: «الكامل» 7/ 335. (3) انظر زامباور ص: 418. (4) «البداية والنهاية» لابن كثير 12/ 43. (5) المصدر السابق ج 12 الصفحات: 49، 54، 61، 65، 66.

4 - الفاطميون

الذي حكم عشرين عاما حتى سنة 485 - وقد وزر نظام الملك لملكشاه وأبيه تسعا وعشرين سنة، وكان أبرز شخصية سياسية في هذا القرن، وأحد الوزراء العظام في التاريخ الإسلامي كله، وسوف نعرض للحديث عن أثره البعيد في العلم والثقافة في الفقرة التالية. «1» وكانت أهم الأحداث السياسية في هذه العهود الثلاثة أن أوغل السلاجقة في أربعين عاما إلى صميم دولة الروم في آسيا الصغرى حتى قونية ونيقية، ولكن أبناء ملكشاه ما لبثوا أن اقتتلوا قتالا شديدا حتى إن غياث الدين محمد أحد أبنائه ظل يحارب أخاه بركيارق منذ وفاة أبيه إلى أن توفي أخوه سنة 498 واستقام له من بعده أمر الملك، وكان لهذا النزاع أثره السيئ في الوقت الذي كانت فيه سيوف الصليبيين تلمع في سماء الشام. وكان آخر سلاطين السلاجقة في العراق طغرل بن أرسلان الذي قتل سنة 590 «2». 4 - الفاطميون : وفي هذا القرن تألق نجم العبيديين- الذين دعوا بالفاطميين «3» - وانتشر نفوذ «خلافتهم» التي ضارعوا فيها خلافة بغداد في آسيا أيضا، فكان يدعى للخليفة الفاطمي في الخطبة في سورية ودمشق

_ (1) انظر «أخبار الدولة السلجوقية» لصدر الدين أبي الفوارس ص 74 - 75. (2) المصدر السابق ص: 193. (3) انظر رسالة «من عبر التاريخ» للمرحوم الشيخ محمد زاهد الكوثري ص 5 - 14، ومقدمة «كشف أسرار الباطنية» للحمادي اليماني- للشيخ زاهد أيضا ص: 184 - 191 المطبوع مع كتاب «التبصير في الدين» للاسفراييني.

5 - الباطنية

وحلب «1». وفي البصرة في بعض الأحيان، واشتهر من خلفائهم الحاكم الذي اختفى عام 411 بعد أن أقام «الديانة» الدرزية، والمستنصر الذي توفي سنة 487، والمستعلي المتوفى سنة 495 «2». وفي العام الذي استولى فيه السلاجقة على بغداد، استولى علي بن محمد الصّليحي «أبو كامل» على أكثر أعمال اليمن، وخطب فيها للفاطميين وقطع الخطبة للعباسيين، ثم تمكن من الاستيلاء على مكة سنة 455، وقد قتل في اليمن آخر سنة 459، وانتقل الحكم في صنعاء إلى ابن الغشيم الهمداني عام 492 بعد موت آخر الصليحيين بها «3». 5 - الباطنية : وينشط الباطنية في النصف الثاني من هذا القرن- وهذا طبيعي بعد أن توسع نفوذ العبيديين- ويتمكن أحد دعاتهم وهو الحسن بن الصباح أن يستحوذ على قلاع كثيرة كان أولها قلعة «ألموت» بالديلم، استولى عليها سنة 483 وأقام فيها دولة الملاحدة، كما دعيت، ثم انتشرت دعوته عام 492 في أصبهان وأعمالها، وقويت شوكة الباطنية، ثم ازدادت خطورتهم عام 494 «فكثروا بالعراق والجبل ... وتملكوا القلاع وقطعوا السبيل، وأهمّ الناس شأنهم لاشتغال أولاد ملكشاه بنفوسهم ومقاتلة بعضهم بعضا!» «4» وفي هذا العام قتل

_ (1) راجع «الخطط» للمقريزي 2/ 357. (2) انظر زامباور ص: 144 - 145. (3) راجع ابن كثير 12/ 67 و 95 وزامباور ص 183، و «بلوغ المرام في شرح مسك الختام» للقاضي حسين العرشي ص: 24 - 27 تحقيق أنستاس الكرملي. (4) «مرآة الجنان» لليافعي 2/ 156 وزامباور 2/ 329.

6 - الزيدية

السلطان منهم خلقا كثيرا، وأبيحت ديارهم وأموالهم، ونودوا فيه أن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله «1». 6 - الزيدية : أما قوم صاحبنا الحاكم رحمه الله .. ونعرض هنا لجانبهم السياسي- فقد كانت لهم دولتان إحداهما في اليمن، والأخرى في جنوب بحر الخزر من جهات الديلم: قامت دولتهم في الديلم نحو سنة 250 واستمرت إلى سنة 520 وظهر فيها عشرون إماما «2» وتتحدث الكتب التي ترجمت للحاكم أنه كان معاصرا للإمام المرشد بالله، وأن هذا الإمام كان أكبر منه بسنتين- وأنه توفى قبله بنحوها تقريبا «3» - وتصفه بأنه «المجدّد للدين بعمله في القرن الخامس بالجبل والري «4»» أي أنه كان أحد أئمة دولة الديلم، وقد عرض له الحاكم في بعض كتبه ولم ينعته بالإمام وإنما قال فيه: «السيد المرشد بالله أبو الحسين يحيى بن

_ (1) انظر ابن كثير 12/ 159. (2). انظر «تاريخ الفرق» للدكتور يوسف العش، ص 22 و «تاريخ دول الإسلام» للصدفي 1/ 259 فما بعدها. وكان قد خرج من الزيدية بعد الإمام زيد كثير من الأئمة في خراسان والمدينة والبصرة وقتلوا جميعا، ولم ينتظم أمرهم بعد ذلك- كما يقول الشهرستاني- حق «ظهر بخراسان الناصر الأطروش فطلب مكانه ليقتل فاختفى واعتزل إلى بلاد الديلم والجبل وكانوا لم يتحلوا بدين الإسلام بعد فدعا الناس إلى الإسلام على مذهب زيد بن علي فدانوا بذلك ونشئوا عليه، وبقيت الزيدية في تلك البلاد ظاهرين، وكان يخرج واحد بعد واحد من الأئمة ويلي أمرهم». الملل والنحل 1/ 211. وانظر «شرح العيون» 1/ 28. (3) انظر «شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار» للجنداري؛ ص: 32. (4) اتحاف المسترشدين بذكر الأئمة المجددين لابن زبارة الصنعاني ص 35.

الحسين الحسني، وإليه تشد الرحال في طلب العلم، وهو غاية في الزهد، وعليه سيماء النبوة .. » «1» ويبدو أن الحاكم قد ألف كتابه هذا قبل خروج الإمام المرشد ودعوته لنفسه بالإمامة، لأن دعوته إنما كانت في حدود سنة 491. والواقع أننا لا نقف من أئمة الزيدية في هذا القرن- في الديلم- على غير الإمام المرشد بالله، والإمام أبي طالب يحيى بن الحسين المتوفى سنة 424 «2» وكما يجوز خلو عصر من الإمام عندهم- إذا انعدم الخروج- فإن من الراجح أن الأمر كان يخرج من أيديهم لأحد الدويلات حتى يصبح التأريخ لإقليم ما في بعض الأحيان تأريخا لكثير من الأسر الحاكمة «3»، على أن هناك دعاة عند الزيدية يسمون «المحتسبين» أو «المقتصدين» يهيئون الأمر للخروج ويدافعون عن الحق، وبهم تتم سلسلة الأئمة. والذي يبدو على كل حال أن زيدية الديلم في القرن الخامس كانوا من الناحية السياسية في حالة ضعف، مما مهد لانتهاء دولتهم بعد ذلك في وقت قريب. أما دولتهم في اليمن فتنتسب إلى الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي

_ (1) شرح «عيون المسائل» للحاكم، المجلد الأول، ص: 144 مخطوطة صنعاء رقم 212 علم كلام. (2) المصدر السابق ص 133 وكان معتزليا من طبقة القاضي عبد الجبار، قال الحاكم: «واجتمعت فيه شروط الإمامة» وقد بويع سنة 411 بعد وفاة أخيه الإمام أبي الحسين أحمد بن الحسين بن هارون الذي بويع بإمامة الزيدية سنة 380. قال الحاكم: «وكان جامعا لخصال الإمامة وبايعه الخلق وخرج بالديلم .. ولم يزل فيه يجري الأحكام على الشرع حتى توفي». (3) راجع زامباور ص: 293 - 294 و 319 - 320، وهذا مما جعلنا نتبع في هذا التمهيد التقسيم بحسب أشهر الدويلات.

(169 - 246) من أولاد الحسن بن علي بن أبي طالب «1»، الذي وضع أصول المذهب الزيدي كما عرف في هذه الدولة «2»، أما الذي استولى على اليمن فهو الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين أحد أحفاد الإمام القاسم، ولد بالمدينة المنورة سنة 245، وخرج إلى اليمن سنة 280 بطلب من أهله، ولكنهم خذلوه فعاد إلى الحجاز، ثم راجعوه فعاد إليهم ووصل «صعدة» سنة 284، وتمكن بعد حروب طويلة مع القرامطة وغيرهم أن يؤسس دولة الزيدية في اليمن، ويفيض الزيدية في الحديث عن بأسه وشجاعته وورعه وتصانيفه ... ويعدونه من معجزات جده رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويروون فيه بعض الآثار، ويقولون: ما من زيدي في اليمن إلا وله عليه حق «3». أسس الامام الهادي دولة الزيدية في اليمن، وكان أولاده من بعده يبايعون فيها بالإمامة بخروجهم أو بالقتال، وكثيرا ما خرج الأمر

_ (1) انظر ترجمته في «إتحاف المهتدين» لابن زبارة، ص: 41. والرسي نسبة إلى (الرس) وهو جبل أسود بالقرب من ذي الحليفة بالحجاز، فر إليه القاسم من الخليفة العباسى بعد أن خرج بالكوفة سنة 220. (2) وكان يذهب مذهب المعتزلة في أصول الاعتقاد كما سنرى عند الكلام على تفسيره، وهو مذهب جده الإمام زيد فيما يقال، أما أصول المذهب في الفقه فقد وضعها الإمام الهادي، وإليه ينسب المذهب «الهادوي»، وبعض الزيدية يقولون إنهم ينتسبون في أصول الاعتقاد إلى زيد بن علي، وفي الفقه إلى الإمام الهادي. راجع «نزهة النظار» ليحيى بن حميد ورقة 16 مخطوطة صنعاء رقم 90 مجاميع. (3) وقد توفي بصعدة في ذي الحجة سنة 298، راجع «بلوغ المرام» ص 31 - 32 و «إتحاف المهتدين» ص 42.

6 - ملوك الطوائف في الأندلس

من أيديهم إلى أحفاد القاسم الرسي نفسه، أو إلى غيرهم ممن ينتسب إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد رأينا أن أظهر الأحداث التي مرت ببلدهم في القرن الخامس هو استيلاء الصليحي على صنعاء وعلى أكثر مناطق اليمن، وبالرغم من أنهم لم يفقدوا وجود دولتهم في بعض بلاد اليمن إلا أن الصليحي قتل إمامهم الكبير فيها: أبا الفتح بن الناصر الديلمي الذي دعا سنة 430 وملك صعده والظاهر واختط «حصن ظفار»، ولم تزل المعارك بينه وبين الصليحي حتى تمكن هذا من قتله سنة 444 «1»، ويحدثنا صاحب «بلوغ المرام» أنه لما قتل «استقام الشريف الفاضل ابن جعفر العياني على الحسبة التي كان عليها» أي قبل وصول أبي الفتح من الديلم ودعوته إلى نفسه، ويبدو أنهم بقوا على هذه الطريقة حتى عام 532 حين قام بالدعوة واسترد صنعاء الإمام أحمد بن سليمان (500 - 566) «2». ويتبين من مراجعة تراجم أئمة الزيدية وعلمائهم أن الصلات بين دولتيهم في الديلم واليمن كانت دائمة، وإليها يعود الفضل في حفظ بقية صالحة من تراث المعتزلة في اليمن، كما سنتحدث عن ذلك فيما بعد. 6 - ملوك الطوائف في الأندلس : وفي الأندلس يستغل النصارى الخلافات الشديدة بين ملوك الطوائف- في عهدهم الأول في هذا القرن- ليظفروا ببعض البلاد من أيدي المسلمين، فيستولي ألفونس القشتالي

_ (1) راجع «بلوغ المرام» ص 36 - 37 «المقصد الحسن» لابن حابس الصعدي ورقة 185. (2) انظر «بلوغ المرام» ص 39 - 40، «طبقات الزيدية» لإبراهيم بن القاسم ورقة 33.

7 - الحروب الصليبية

على طليطلة سنة 478 بعد حصار دام سبع سنين. ويهب يوسف بن تاشفين من مراكش لنجدة المسلمين في الأندلس ويتمكن من أن يهزم الفونس السادس في موقعة الزّلاقة سنة 479. ويمضي هذا القرن على الأندلس موحدة تحت راية المرابطين لتنتظرها عام 515 فتنة ابن تومرت الذي زعم أنه المهدي، وليقوم في الأندلس بدور خطير «1». 7 - الحروب الصليبية : ومن أهم الأحداث السياسية التي وقعت لعامة المسلمين في هذا القرن مصابهم بالصليبيين، ففي جمادى الأولى من عام 491 «ملك الإفرنج مدينة أنطاكية بعد حصار شديد، ثم صاروا إلى معرّة النّعمان فأخذوها بعد حصار» «2» وفي ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان استولوا على بيت المقدس بعد حصار شهر ونصف، وقتلوا في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا، وجاسوا خلال الديار! وفي عام 494 - يوم عظم الخطب بالباطنية في نواح كثيرة، وكان أولاد ملكشاه ما يزالون في اقتتالهم- زحفوا على بلاد أخرى في أرض الشام فملكوا «سروج» و «قيسارية» و «أرسوف» أو كما قال اليافعي اليمني في أحداث هذه السنة: «وفيها أخذت الفرنج بلداننا بالشام» «3» نعم «بلداننا» بالشام، فقد كان مصاب المسلمين عاما في كل مكان. وبالرغم من مظاهر الفوضى السياسية التي كان يعيش فيها العالم الإسلامي إلا أنه لم يفقد وحدته الروحية بحال.

_ (1) راجع «صفة جزيرة الأندلس» ص 83 فما بعدها، وانظر زامباور صفحة 86 و 113. (2) «البداية والنهاية» لابن كثير 12/ 155. (3) «مرآة الجنان» 3/ 156 وانظر ابن كثير 12/ 156.

ثانيا: الحالة الدينية

ثانيا: الحالة الدينية وفي ظل هذه الأحداث السياسية المضطربة لم يكف أصحاب المذاهب والفرق عن المنازعة والجدل، بل إن هذه الأحداث زادت من حدّة هذا النزاع، ونقلته إلى حد التصادم والفتن الدامية التي لم يكد يخلو منها عام واحد من أعوام هذا القرن، وقد كان لتدخل «السلاطين» الجدد- أو الكثر المتجددين- أثره الكبير في هذا التصادم بعد أن مضى عهد الخلافة المذهبية الواحدة- كما يمكن أن يسمّى- التي كان السلطان فيها للخليفة الذي لم يكن الخارجون عليه بقادرين على إحداث مثل هذه الفتن التي نشهدها في هذا القرن، أو بعد أن دخل العالم الإسلامي في القرن الرابع في عصر الحكم الشيعي «1»، وأصبح لكلّ صاحب مذهب سند من حكم قائم يحميه، أو ذاهب قد مكّن له. وبالرغم من هذا الاشتهار والتمكن الذي أصابت منه أغلب الفرق، وبالرغم من تأثر معظمها بالفلسفة «2» إلا أننا نقتصر في هذا التمهيد على

_ (1) يقول المقريزي في أحداث هذا القرن: إن مذاهب الرافضة انتشرت في عامة بلاد المغرب ومصر والشام وديار بكر والكوفة والبصرة وبغداد وجميع العراق وبلاد خراسان وما وراء النهر، مع بلاد الحجاز واليمن والبحرين. وكان الحكم في أغلب هذه الأقاليم لهم كالفاطميين وبني بويه وغيرهم. انظر الخطط 2/ 357. (2) يقول المقريزي: «واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية حتى ملأت الأرض! وما منهم إلا من نظر في الفلسفة وسلك من طرقها ما وقع عليها اختياره». الخطط 2/ 357.

1 - المعتزلة

بيان حال الفرقتين الكبيرتين: المعتزلة والأشاعرة، مع الإلمام بحال الصوفية في هذا القرن، لما لهذا من إيضاح بعض الجوانب الهامة في الحياة الاجتماعية، ولإلقاء بعض الضوء على حياة مؤلفنا المعتزلي رحمه الله، والحالة الدينية في هذا القرن- كما نرجح- تصورها الفرق، لأنه كان عصر تعصّب مذهبي واضح. 1 - المعتزلة : كان البويهيون في بغداد قد أظهروا التشيع والاعتزال حتى قويت بهم الشيعة وفشا مذهب الاعتزال بالعراق وخراسان وماوراء النهر، وذهب إليه جماعة من مشاهير الفقهاء كما يقول المقريزي «1»، بل إن الاعتزال شهد على أيديهم نهضته الكبيرة على يد القاضي عبد الجبار والمدرسة الجبائية التي ينتسب إليها، وكان القاضي عبد الجبار أكبر قضاة بني بويه، وكان أشهر وزراء هذه الدولة وأعظمهم الصاحب بن عبّاد الذي حرّم القضاء والمناصب الكبرى على غير المعتزلة، وقد كان هو مشهورا بالاعتزال- والتشيع كذلك- حتى قال فيه القاضي: «مولانا الصاحب معتزلي الشعر، شيعي التصنيف»، وكان يذهب في تشيعه مذهب الزيدية كما يقول الحاكم نفسه رحمه الله «2». ولم يكن «الخليفة» - السني بالطبع- بقادر على أن يصنع شيئا تجاه «سلاطين» بني بويه وتعصبهم للشيعة والمعتزلة، ولكن اضطر في أوائل القرن الخامس سنة 408 إلى أن يتدخل «رسميا» لفض المنازعات المذهبية التي أثارها المعتزلة والشيعة الذين صعّروا خدودهم ببغداد، فأمر

_ (1) الخطط 2/ 358. (2) انظر شرح عيون المسائل للحاكم 1/ ورقة: 155.

المعتزلة في هذا العام بترك الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال «والمقالات المخالفة للإسلام»! وأنذرهم- إن خالفوا أمره- بحلول النكال والعقوبة «1» إلا أنهم لم يكفوا عن الجدل فيما يبدو، فما زال فقهاء أهل السنة به حتى صدر في بغداد سنة «433» كتاب آخر سمّى الاعتقاد القادري- نسبة إلى الخليفة القادر صاحب الأمر السابق- وقرئ في الدواوين، وكله نقض لآراء المعتزلة، «وكتب الفقهاء خطوطهم فيه أن هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر!» «2». ولم يلبث المعتزلة أن تعرضوا للسب والتضييق بعد زوال بني بويه، ففي سنة 456 «لعنت المعتزلة في جامع المنصور» وهجم قوم من الأشاعرة على مدرس معتزلي «فسبوه وشتموه لامتناعه عن الصلاة في الجامع، وتدريسه للناس بهذا المذهب، وأهانوه وجودوه» «3»، بل بلغ الأمر ببعضهم أن جلس ليلعن المعتزلة، كما قال ابن كثير عن بعض العلماء إنه «جلس وجعل يلعن المعتزلة» «4» وكأنّ ذلك ذكر أو قربة!! ولكن الاضطهاد الذي أصاب المعتزلة لم يكن في الواقع على أيدي

_ (1) انظر المنتظم لابن الجوزي في أحداث سنة 408. (2) الحضارة الاسلامية في القرن الرابع لآدم متز 1/ 289 ترجمة الأستاذ الدكتور عبد الهادي أبو ريده. (3) البداية والنهاية 12/ 91. (4) المصدر السابق. وانظر فيه أحداث سنة 478 (12/ 128 - 129).

السلاجقة- الذين قدموا الأشاعرة بعد- وإنما كان على يد محمود بن سبكتكين الذي سبقت الإشارة إليه، ففي سنة 430 انتزع الرّي من البويهيين فجمع من فيها من المعتزلة ونفاهم إلى خراسان «وأحرق كتب الفلسفة ومذاهب الاعتزال والنجوم» «1» واستخرج من بيت كتب الصاحب بن عباد كل ما كان في علم الكلام وأمر بحرقه- وكان فهرس كتبه يقع في عشر مجلدات «2» - وقد ذكر الحاكم أن السلطان المذكور بعث بكتاب إلى عامله بنيسابور بحمل المعتزلة إلى حضرته بغزنة فحمل إليه ثلاثة نفر هم رءوس القوم «فبعث بهم إلى غزدار فماتوا هناك» «3». ومع هذا فقد بقي الغالب على نيسابور- بيئة الحاكم- التشيع والاعتزال، ذكر الحاكم أن أبا رشيد النيسابوري المعتزلي أحد تلامذه القاضي عبد الجبار، كانت له حلقة بنيسابور يجتمع اليها المتكلمون بعد أن عاد إليها عقب وفاة القاضي عبد الجبار، وأنه لما لم يقاومه أحد من المخالفين خرج إلى الري «4» وذكر أنه شاهد بعض الوزراء في خوارزم يذهبون مذهب العدل، وأن أمراء خوارزم وأكثر فقهائها معتزلة «5».

_ (1) الكامل لابن الأثير 7/ 335. (2) الارشاد لياقوت 2/ 315 طبعة مارغوليوث. (3) انظر شرح عيون المسائل 1/ ورقة 136. وكان ابن سبكتكين على مذهب الكرامية المشبهة فيما يبدو، فقد جرت بين يديه مناظرة في مسألة العرش بين ابن الهضيم الكرامي وابن فورك، فمال إلى رأي ابن الهضيم «ونقم على ابن فورك كلامه وأمر بطرده لموافقته لرأي الجهمية!» ابن كثير: 12/ 30. (4) شرح عيون المسائل 1/ ورقة 135. (5) المصدر السابق الورقتين 154، 156.

2 - الأشاعرة

2 - الأشاعرة : أما الأشاعرة فإن مذهبهم أصلا لم يأخذ في الانتشار بالعراق إلا من نحو سنة 380 «1» وكان الماتريدية في أقصى المشرق ينافسوهم على الرغم من تشابه المذهبين في الأصل، كما أنه كان عليهم في نهاية القرن الرابع وأوائل الخامس أن يدرءوا هجمات الحنابلة الذين كان شيخهم ببغداد حوالي سنة 400 يطعن على أبي الحسن الأشعري أمام الملأ وينال من الأشاعرة «2» وأن يقاوموا أيضا هجمات الكرامية الذين تحزبوا عليهم ورموهم بالباطل عند ابن سبكتكين قائلين إن الأشاعرة يعتقدون أن رسالة النبي انقطعت بموته «3» ولم تكن حال الأشاعرة- في الواقع- في أول عهد السلاجقة بأحسن من حال المعتزلة، فقد تعصب طغرلبك ضدهم وطاردهم مع المعتزلة، وبخاصة قبل دخوله بغداد (ما بين سنة 443 وسنة 447) فقد نقل له عام 445 أن أبا الحسن الأشعري يقول في الدين بأمور لا تليق بالسنة فأمر بلعنه، وصرح أهل نيسابور بتكفير من يقول ذلك، واضطر علماء نيسابور كالجويني والقشيري إلى أن يغادروها إلى القدس أو مكة، وزادت محنة الأشاعرة بمنعهم من الخطابة والوعظ، وبلعنهم في الجمعة، وجرت فتن طويلة بالرغم من أن طغرلبك استدعى جماعة من الأشاعرة وسألهم عما أنهى إليه من ذلك فأنكروه، وأنكروا أن يكون الأشعري قاله، فقال السلطان: فنحن إنما لعنا من يقول هذا «4»!

_ (1) انظر المقريزي: الخطط 2/ 358. (2) راجع طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3/ 117. وكان الحنابلة يقولون إن الأشعري ظل على مذهب المعتزلة زمانا طويلا، ثم تركه وأتى بمقالة خبط بها عقائد الناس! (3) السبكي 3/ 54. (4) البداية 12/ 64.

واستمرت الحال بالأشاعرة كحال غيرهم في وقت ملىء بالفتن والمنازعات، حتى وزر للسلاجقة الوزير «نظام الملك» مدة تقرب من الثلاثين عاما استطاع خلالها أن يثبت حكم السلاجقة أنفسهم وأن يمكن للمذهب الأشعري لدى العامة والخاصة عن طريق الدرس والتنظيم، والواقع أن نظام الملك كان أفضل رجال السياسة من حماة العلوم، مثّل في الدولة السلجوقية دور الصاحب لدى البويهيين، ولم يكن يقل عنه ولعا بالعلم والمعرفة وحبا للعلماء وتقريبا لهم، إن لم يفقه في الأناة وسعة الصدر. ويفيض المؤرخون وكتاب التراجم في الثناء على نظام الملك، وعلى حنكته ودهائه وتدينه وورعه وعدله بين الناس «1» وقد لا يكونون مغالين في ذلك إذا ذكرنا إصلاحه الاجتماعي الذي تجلى في تأسيس القضاء على الفنن القائمة، والاحتيال على التخفيف من آثارها بالحكمة والدهاء. وقد رأى نظام الملك أن سبيل الاستقرار إنما يكون في التمكين للمذهب الأشعري في نفوس عامة المسلمين عن طريق العلم والمعرفة، فبنى المدارس «النظامية» في بغداد وبلخ ونيسابور وهراة واصبهان والبصرة ومرو وطبرستان والموصل «2» ودعا أئمة «أهل السنة» للتدريس في هذه المدارس، فكان أبو إسحاق الشيرازي على رأس مدرسة نيسابور «3» وقد تم افتتاح نظامية بغداد عاشر

_ (1) راجع البداية والنهاية: 12/ 140 والكامل 8/ 160 وطبقات الشافعية 3/ 135. (2) طبقات الشافعية 3/ 137. (3) توفي أبو إسحاق الشيرازي سنة: 476 فلما بلغ الخبر إلى نظام الملك قال يجب أن تغلق المدرسة سنة لأجله، وأمر أن يدرس مكانه الشيخ أبو نصر بن الصباغ. راجع ابن كثير 12/ 125 وتوفي إمام الحرمين سنة 478. المصدر السابق س 127.

3 - الصوفية

ذي القعدة سنة 459 وكتب على بابها أنها لأصحاب الأشعري «1». وبالرغم من هذا النجاح الذي تحقق للأشاعرة على يد نظام الملك «2» إلا أن اعتراف الخليفة- رسميا- بالمذهب الأشعري على أنه مذهب أهل السنة لم يكن إلا في عام 516 حين حضر الخليفة المسترشد بالله درسا بالنظامية ببغداد، وأضحى منذ ذلك اليوم مذهب الأشاعرة هو مذهب أهل السنة والجماعة «3» وإن كان اتفق له أيضا أسباب أخرى ساعدته على ذلك، كما ساعدته على التوسع وسعة الانتشار «4». 3 - الصوفية : أما الصوفية فقد كثر أتباعهم واعترى حالتهم بعض السوء عن القرن الماضي، مما دعا واحدا من أعلامهم المشهورين في هذا القرن هو أبو القاسم القشيري المتوفى سنة 465 إلى أن يكتب رسالته المشهورة سنة 437 إلى «جماعة الصوفية ببلاد الاسلام» يذكرهم فيها بسير شيوخ هذه الطريقة في أخلاقهم ومعاملاتهم وعقائدهم، لتكون عونا لهم على صلاح أمرهم بعد أن انقرض «أكثر شيوخ الصوفية المحققين وفسد حال كثير

_ (1) راجع ابن كثير 12/ 96 وتاريخ الإسلام للذهبي- مخطوطة دار الكتب، وقد قدم الغزالي من أصبهان إلى بغداد للتدريس في النظامية سنة 483 انظر ابن كثير 12/ 137. (2) مات رحمه الله سنة 485 مقتولا على يد «صبي من الباطنية» كما يقول ابن الأثير 8/ 161 وكما يحمل هذا الاغتيال طابع العصر، فإنه يحمل كذلك الدليل على نجاح نظام الملك في حربه المركزة ضد أصحاب الأهواء. (3) لم يكن من هم نظام الملك رحمه الله الاستعانة بالخليفة والشهادات الرسمية في سبيل نصرة المذهب الأشعري، ولكن جهوده الحقيقية في ذلك أنت أكلها في حياته وبعد موته. (4) راجع الخطط للمقريزي 2/ 358.

من الباقين» كما يقول «1». ويبدو أن عناية الصوفية بالمظاهر قد زادت في هذا القرن، يحدّثنا المقدسي عن مجالسهم في القرن الماضي وما كان يجري فيها من الغناء بقوله: «فكرة أزعق معهم، وتارة أقرأ لهم القصائد» «2» أما في هذا القرن فقد حفلت مجالسهم بالرقص حتى إن الهجويري «3» يقول إنه لقي طائفة من العوام يظنون أن مذهب التصوف ليس إلا الرقص «4» ولم يحملهم على هذا الاعتقاد- فيما يظهر- إلا كثرة ما يشاهدونه من شيوع هذه الطريقة لدى الصوفية. وزاد الصوفية أيضا في هذا القرن طبقات أوليائهم و «نظموها» على طريقة تقرب من الطرائق الكهنوتية- وكل هذا دخيل على التصوف الإسلامي الصحيح «5» - ففي القرن الرابع يذكر المؤرخون من طبقات الصوفية طبقة الأبدال «6» أما في القرن الخامس فيذكر الهجويري لهم

_ (1) انظر مقدمة الرسالة القشيرية، صفحة 2 - 3. (2) أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، صفحة 415 وكان قد لقيهم بمدينة السوس باقليم خوزستان. (3) من علماء الصوفية وأعلامهم في القرن الخامس، ورسالته «كشف المحجوب» وضعها في إصلاحهم كما فعل القشيري، وهي باللغة الفارسية، والنقول عنها هنا من كتاب الحضارة الإسلامية للأستاذ آدم متز. (4) كشف المحجوب صفحة 416 (آدم متز 2/ 19). (5) لعل ذلك أثر من أثار رسوخ عقيدة الجبر عند هؤلاء! (6) جمع بديل، ويقال إن عددهم سبعون: أربعون منهم في الشام، وثلاثون في سائر البلاد. انظر تفصيل القول في هذه الطبقة والخلاف في عددها: كتاب كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 1/ 210 - 213.

طبقات أخرى من الأولياء، فهناك ثلاثمائة يسمون الأخيار، وأربعون يسمون الأبدال، وسبعة يسمون الأبرار، وأربعة يسمون الأوتاد- وهم يطوفون العالم بجملته في كل ليلة- وثلاثة نقباء، وأخيرا يوجد القطب أو الغوث! قال: «والأولياء هم ولاة العالم، والحل والعقد منوط بهم، وتدبير العالم موصول بهمتهم» «1» ويبدو أن زيادة تعلقهم بالأولياء في هذا القرن زادت من عدد المتعصبين للحلاج والمنتظرين لخروجه كذلك- بعد أن تطاول العهد على قتله الشنيعة سنة 309 - يقول الهجويري إنه رأى بالعراق أربعة آلاف يسمون أنفسهم الحلّاجية «2» وكان في عصر أبي العلاء المعري (ت 449) قوم في بغداد ينتظرون خروج الحلاج، ويقفون بحيث صلب على دجلة يتوقعون ظهوره! ونستطيع أن ندرك مدى تأثر الصوفية بالحركات الباطنية التي انتشرت في هذا القرن من رد الهجويري على دعواهم- أو دعوى بعضهم- في هذا القرن بسقوط الشريعة إذا كشفت الحقيقة، بقوله: «هذه مقالة الزنادقة من القرامطة والشيعة ومن وسوسا إليهم من الأتباع» «3».

_ (1) كشف المحجوب صفحة 214 (آدم متز 2/ 21). (2) الكشف صفحة 60 (متز 2/ 43). (3) آدم متز 2/ 22، واذا فرقنا بين التصوف السني الصحيح- تصوف الحسن البصري- وهذا التصوف الباطني؛ أدركنا مدى ما جنته الفرق التي تحدث عنها الهجويري في إطلاق الحكم على الصوفية.

ثالثا: أثر الحالة السياسية والدينية في الحياة العامة

ثالثا: أثر الحالة السّياسيّة والدينيّة في الحياة العامة وكان لهذه الحالة السياسية والدينية- المضطربة والمتناحرة- أثرها السيئ على الحياة العامة، بما حملته من الفرقة والانقسام، وبما صاحبها من الفتن والمنازعات بين العساكر والأجناس، وبين أصحاب الفرق والمذاهب: 1 - الفتن السياسية : يذكر ابن الأثير في أحداث سنة 417 أنه كثر فيها تسلط الأتراك ببغداد فأكثروا مصادرات الناس وأخذوا الأموال، حتى إنهم قسّطوا على الكرج خاصة مائة ألف دينار، وعظم الخطب وزاد الشر وأحرقت المنازل والدروب والأسواق، «ودخل في الطمع العامة والعيّارون فكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره كما يفعل السلطان» ويذكر أن الحرب قد وقعت بين الجند والعامة فظفر الجند فنهبوا وقتلوا «1» ثم في عام 419 شغب الأتراك ببغداد على «جلال الدولة» حتى إنه باع فرشه وثيابه وخيمه وفرق ثمنها فيهم حتى سكتوا، ولم يلبث الخلاف أن وقع بالبصرة بين الديلم والأتراك واقتتلوا «2» وفي السنة التي استولى فيها طغرلبك على بغداد 447 كثر فساد الغزّ ووقعت الفتن بين الأتراك والعامة ونهبت بعض جوانب بغداد «3» وفيها اشتد الغلاء بمكة وعدمت الأقوات، وجرى نحو ذلك

_ (1) الكامل في التاريخ 7/ 325. (2) المصدر السابق: 7/ 334. (3) البداية والنهاية لابن كثير 12/ 66.

2 - فتن أرباب العقائد

في اليمن حين استولى عليها الصليحي في نفس العام «1». وجرت على مثل هذه الحال الشنيعة كثير من السنوات الأخرى. 2 - فتن أرباب العقائد : أما الفتن بين أرباب المذاهب- وبخاصة بين السنة والرافضة- فكانت لكثرتها جزءا من الحياة العامة، وربما من الحياة اليومية، حتى إن مؤرخا كابن كثير كان يقول مثلا: إن الفتنة حصلت عام كذا- وهو يؤرخ بحسب السنوات- «كالعادة» «2» أو يقول مثلا في بعض السنوات التي حصل فيها كوارث عامة كالزلازل والطاعون، وأن الفتن مع ذلك لم تنم: «ومع هذا كله وقعت فتنة عظيمة بين الرافضة والسنة قتل فيها خلق كثير» «3» وربما أشار في عبارات موجزة إلى ما طواه من الأمور الشنيعة التي ترتكب في هذه الفتن، كقوله في الفتن التي حصلت سنة 441 بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة: «إنها فتن لا تحصى حصل فيها قتل ونهب وسلب وسخف لا ينحصر ولا ينضبط!» «4» وكثيرا ما يعبر عن قيام الفتنة «بالتجدد» إشارة إلى استمرار الفتن وأنها ما تكاد تهدأ حتى تثور «5». وكان الخليفة- كما أشرنا- ربما تدخل لفض النزاع، ولكن الخلاف الذي تأصّل، وكان بحاجة ماسة إلى عمل طويل كالذي نهض لتأسيسه

_ (1) ابن كثير وانظر الكامل 8/ 69 - 73. (2) البداية 12/ 66. (3) المصدر السابق 12/ 127. (4) نفس المصدر 12/ 58. (5) المصدر السابق أيضا 12/ 62.

3 - منازعات الفقهاء

نظام الملك، لم يكن يحل عن طريق الإشارة بفضه إلى السلطان أو الوزير؛ حصل عام 420 أن خطيب مسجد الكرخ- وكانت بيئة شيعيّة اعتزالية- ذكر مذاهب فاحشة من مذاهب فاحشة من مذاهب الشيعة وغلا في علي رضي الله عنه، فأمر الخليفة بالقبض عليه وعين محله خطيبا آخر، فلما صعد المنبر دقه بعقب سيفه، والشيعة ينكرون هذا، وقصّر في الخطبة في ذكر عليّ، رضي الله عنه، عما كان يفعله من تقدمه، وقال: اللهم اغفر للمسلمين ومن زعم أن عليا مولاه! فرماه العامة بالآجرّ فوافاه كالمطر وخلع كتفه وكسر أنفه ... وأحفظ ذلك الخليفة فكتب في الشيعة كتابا شديدا للوزير، ولكن الوزير فيما يبدو لم يصنع شيئا- عجزا أو تواطؤا- ولم تنته الفتنة حتى توجه مشايخ الكرخ مع الشريف المرتضى إلى دار الخلافة، وأحالوا ما حصل على سفهاء الأحداث، وطلبوا إقامة خطيب عملت له نسخة يعتمدها فيما يخطب وتجنب ما يحفظ الشيعة «1». وفي عام 422 غلّق الشيعة الأسواق بمناسبة عاشوراء وعلقوا المسوح وخرجوا يبكون في الأزقة، فأقبل عليهم أهل السنة في الحديد واقتتلوا اقتتالا شديدا، وقوي عليهم أهل السنة فقتلوا منهم خلقا كثيرا ونهبوا الكرخ ودار الشريف المرتضى! ونهبت العامة دور اليهود بتهمة معاونتهم للروافض! وتعدّى النهب إلى دور كثيرة ... وانتشرت المحنة بأمر العيارين في أرجاء البلد «2». 3 - منازعات الفقهاء : وفي مثل هذا الجو الشنيع لم تكن الخلافات بين أصحاب المذاهب الفقهية بأقل أثرا من خلافات أرباب السياسة والكلام،

_ (1) المنتظم لابن الجوزي 8/ 41 - 42 في أحداث سنة 420. (2) الكامل لابن الأثير 7/ 353 والبداية لابن كثير 12/ 31.

رابعا: حركة التأليف في التفسير وعلم الكلام

وإن كان أكثر الحنابلة فيما يبدو تضيق صدورهم بمن عداهم من الشافعية والشيعة والأشاعرة والمعتزلة جميعا، ففي عام 447 قوي جانبهم على الأشاعرة «بحيث إنه كان ليس لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجمعة ولا الجماعات» «1» وحاولوا منع الشافعية من الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والترجيع في الأذان والقنوت، وكادت تحصل فتن كبيرة لولا أن حملوا على السكوت آخر الأمر. وفي عام 469 وقعت الفتنة بينهم وبين الأشاعرة لأن ابن القشيري قدم بغداد فجلس يتكلم في النظامية وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم «2» بل بلغ الأمر بالحنابلة أن نقموا سنة 461 على أحد كبرائهم وهو الشيخ أبو الوفا العقيلي لتردده على أبي علي بن الوليد المعتزلي «3» واتهموه بأنه تأثر ببعض آرائه في الكلام «وإنما كان يتردد عليه ليحيط علما بمذهبه»، كما قيل، حتى اضطر أن يحضر إلى الديوان ويكتب على نفسه كتابا يتضمن توبته من الاعتزال «4». رابعا: حركة التأليف في التفسير وعلم الكلام ولم ينقطع العلماء خلال هذه الرزايا عن الكتابة والتأليف، شأنهم في كل عصر، بل إن حركة التأليف- بعامة- قد نشطت في النصف

_ (1) البداية 12/ 66. (2) المصدر السابق ص 115. (3) قال ابن كثير في أحداث سنة 478: «وفيها توفي أبو علي ابن الوليد شيخ المعتزلة، كان مدرسا لهم فأنكر أهل السنة عليه، فلزم بيته خمسين سنة إلى أن توفي!» البداية 12/ 129. (4) انظر ابن كثير 12/ 98، 105.

الثاني من هذا القرن بفضل النهضة الثقافية الشاملة التي أحدثتها المدارس الكثيرة، كما أن عناية البويهيين بالكتب والتأليف كانت كبيرة أيضا في النصف الأول، وإن مما يستبعد أن تذهب عناية الصاحب بالكتب وتشجيعه للعلماء على الكتابة ويمحي أثرها في دولة بني بويه بمثل هذه السرعة أو البساطة، فدار الكتب التي أنشأها وزير «بهاء الدولة» ببغداد سنة 381 وجعل فيها أكثر من عشرة آلاف مجلد معظمها بخط أصحابها، أو من الكتب التي كان يملكها رجال مشهورون، بقيت إلى سنة 450 حين احترقت بعد مجيء طغرلبك إلى بغداد «1» ودور الكتب الأخرى برامهرمز والبصرة وغيرها بقيت تؤدي دورها إلى عصور لاحقة «2» وكان للشريف المرتضى دار سماها دار العلم فتحها لطلبة العلم «وعين لهم جميع ما يحتاجون إليه»، وقد اعتذر الصاحب بن عباد عن استدعاء الملك نوح بن منصور الساماني- آخر السامانيين- له ليوليه وزارته،

_ (1) راجع الكامل لابن الأثير 7/ 324، وقد كان بهذه المكتبة كذلك مائة نسخة من القرآن كتبت بأيدي أحسن النساخ، عدا الكتب الكثيرة التي اشتراها الوزير وجمعها. انظر المنتظم لابن الجوزي 7/ 172 وآدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع 1/ 311 - 312. (2) انظر أحسن التقاسيم للمقدسي صفحة 413 وقال إن الذي اتخذ دارى البصرة ورامهرمز ابن سوار، وإن فيهما إجراء على من قصدهما ولزم القراءة والنسخ، وقال عن دار رامهرمز إن فيها «أبدا شيخ يدرس الكلام على مذاهب المعتزلة». نفس الصفحة.

1 - التفسير

بأن عنده من كتب العلم خاصة ما يحمل على أربعمائة جمل أو أكثر «1» كما أن رعاية الصاحب للمعتزلة آتت أكلها، أو استمرت في ذلك العطاء، بعد أن تفرق تلامذة القاضي عبد الجبار- الذي حبا عصر الصاحب بخلاصة الفكر الاعتزالي- في الأقطار يدرّسون ويؤلفون، والذين تتلمذ على بعضهم مؤلفنا الحاكم الجشمي رحمه الله. وقد شهد هذا القرن نهضة أدبية كبيرة على أيدي اللغويين والشراح، كما شهد حركة كبيرة في التأليف في علم الكلام، وبخاصة في الملل والنحل بحيث يمكن اعتباره أزهى عصور التأليف في هذا النوع من فروع الدراسات المقارنة. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أهم المؤلفات التي كتبت في التفسير وعلم الكلام، وإلى ميزاتها الرئيسية أو المشتركة، في حين ندع الحديث عن تفاسير المعتزلة قبل الحاكم إلى موضعه من هذا البحث. 1 - التفسير : وأول ما يلاحظ على مؤلفات التفسير وعلوم القرآن- بعامة- في هذا القرن هو التنوع والكثرة، وبالرغم من أنه قد وصلنا منها عدد وافر إلا أن تفسيرا واحدا منها- وبخاصة المطولات- لم يظفر بنشر أو تحقيق «2» وبقيت الهوة شاسعة بين الطبري المتوفى سنة 310 والرازي المتوفى سنة 606، وحتى لو أخذنا بعين الاعتبار تفسير

_ (1) كان هذا من جملة اعتذاره. انظر إرشاد الأريب لياقوت الحموي 2/ 315 طبعة مارغوليوث. وقد دخل أبو يوسف القزويني المعتزلى (ت 488) - صاحب التفسير الكبير الذي سنتحدث عنه- بغداد ومعه عشرة جمال عليها كتب. انظر طبقات الشافعية الكبرى 4/ 230. (2) طبع للواحدي (ت 468) من تفاسيره الثلاثة: المبسوط والوسيط والوجيز، تفسيره الوجيز فقط.

البغوي (ت 516) والنسفي (ت 537) والزمخشري (ت 538) - وكلها تفاسير قصيرة لا تقاس بالطبري أو الرازي أو القرطبي- فإن الهوة تبقى شاسعة، وتبقى تفاسير القرنين الرابع والخامس- على وجه التقريب- بحاجة إلى عناية الدارسين. ونشير هنا إلى فروع الدراسات القرآنية الأخرى قبل أن نبحث في تفاسير هذا القرن. تطالعنا في مجال القراءات ونظائر القرآن وإعرابه كتب كثيرة وكان من أعلام هذا القرن الذين عنوا بهذا النوع من الدراسة أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444) الذي سبق في هذا المجال «1» وأبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437) «2» وأحمد بن محمد المعافري (ت 429) أول من أدخل علم القراءات إلى الأندلس، وصاحب التفسير الكبير أيضا «3»، وغيرهم. وفي مجال العناية بنوع معين من آيات الكتاب نجد كتب المتشابه اللفظي- الوثيق الصلة بالنظائر- وكتب أحكام القرآن المتصلة بالتفسير والفقه. ولدينا اليوم من كتب المتشابه كتاب «البرهان في متشابه

_ (1) راجع (بروكلمان) الأصل 1/ 516 والملحق 1/ 719 وفهرس القراءات والتجويد في مصورات معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية الذي يحوي أكثر من عشرة كتب للداني. (2) راجع فهرس التيمورية 3/ 288 وفهرس الجامعة السابق والأعلام 8/ 214. (3) انظر غاية النهاية لابن الجزري 1/ 120 والديباج المذهب لابن فرحون صفحة 39.

أما أهم التفاسير المطولة التي وصلتنا فهي:

القرآن) لمحمود بن حمزة الكرماني (ت حوالي 500) «1» وكتاب (درة التأويل في متشابه التنزيل) للراغب الأصفهاني (ت 502) «2» اللذين أفادا فيهما من كتاب «درة التنزيل» للخطيب الإسكافي (ت 420). ولدينا من كتب أحكام القرآن كتابا البيهقي (أحمد بن الحسين ت 458) «3» والكيا الهراسي (علي بن محمد ت 504) «4» وهما شافعيان. وفي ميدان البلاغة والإعجاز يظفر هذا القرن بالكتاب القيم الذي صنف في تشبيهات القرآن، وهو كتاب (الجمان في تشبيهات القرآن) لابن ناقيا البغدادي (ت 485) «5». أما أهم التفاسير المطولة التي وصلتنا فهي: 1) تفسير القرآن لمنصور بن محمد بن عبد الجبار المروزي المتوفى

_ (1) وله أيضا تفسير كبير أسماه عجائب التفسير ينقل عنه السيوطي في الإتقان. وانظر ابن الجزري: غاية النهاية 2/ 291 وبروكلمان 1/ 412 والملحق 1/ 732. (2) انظر روضات الجنات صفحة 429 ويوجد من كتابه وكتاب الكرماني نسخ خطية كثيرة بدار الكتب والأزهر والجامعة العربية، ويبدو أن الدراسات المتصلة بالقرآن الكريم من ناحية الشكل كانت كثيرة في هذا القرن. (3) انظر تبين كذب المفتري لابن عساكر، صفحة 265. (4) المصدر السابق صفحة 288. ولدينا من كتب النسخ كتاب لأبي منصور البغدادي (ت 429) المتكلم المشهور. (5) انظر إنباه الرواة للقفطي 2/ 33 وقد طبع هذا الكتاب أخيرا في الكويت في سلسلة إحياء التراث الإسلامي التي تصدرها وزارة الأوقاف.

سنة 489 وهو تفسير كامل يقع في ثلاث مجلدات كبار، انتصر فيه صاحبه لمذهب أهل السنة «1». 2) وتفسير (الكشف والبيان) لأبي إسحاق النيسابوري الثعلبي (أحمد بن محمد ت 427) «2» الذي كان من أشهر تفاسير هذا القرن فيما يبدو «3»، والذي عني فيه الثعلبي بالحديث وبآثار الصحابة والتابعين، كما عني فيه باللغة والقراءات والأحكام الفقهية- التي ربما عقد لها بعض الفصول الخاصة- بالإضافة إلى العناية بأقوال الصوفية وتفسيرهم في بعض الأحيان. ومن أهم ميزات هذا التفسير العناية بالسند في نقل الأخبار والآثار «4». 3) وتفسير (البرهان في علوم القرآن) لأبي الحسن الحوفي (علي ابن إبراهيم ت 430) وهو تفسير كبير أكثر فيه صاحبه من الإعراب

_ (1) انظر مخطوطة دار الكتب المصرية رقم 136 تفسير وانظر إنباه الرواة 1/ 119. (2) انظر مخطوطة المكتبة الأزهرية رقم (136) 2056 تفسير ومخطوطة دار الكتب رقم 797 تفسير، ومنه أكثر من عشر مجلدات. (3) تلقى الواحدي (ت 468) عن الثعلبي، وبعد أن أفاض في الثناء على أستاذه قال: «وله التفسير الملقب بالكشف والبيان ... الذي دفعت به المطايا في السهل والأوعار، وسارت به الفلك في البحار، وهبت هبوب الريح في الأقطار ... وأصفقت عليه كافة الأمة على اختلاف نحلهم وأقروا له بالفضيلة في تصنيف ما لم يسبق إلى مثله». انظر مخطوطة دار الكتب رقم 53 تفسير ورقة. (4) ولهذا- وبغض النظر عن رأي الواحدي في تفسير استاذه- فإننا لا نرى الطعن على هذا التفسير والتشهير بمؤلفه رحمه الله. انظر مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية، ص 76 - 77، مع تعليقنا هناك.

واختلافات النحاة- بحكم الاختصاص- واعتنى فيه باللغة والنظائر والأضداد، وبالوقف والابتداء الذي أفرد له فقرة خاصة ينهى بها وجوه القول في تفسير الآية وبيان أحكامها. وبالرغم من معارضته الشديدة للمعتزلة في الوعيد وخلق القرآن ومسائل أخرى، ومناقشته الموضوعية المركزة لهم في ذلك، فإنه قد تأثر بقول بعضهم بالصّرفة في موضوع الإعجاز، وبما أجمعوا عليه في مسألة خلق الأفعال، فيما يبدو «1». 4) والتفسير البسيط للواحدي (علي بن محمد ت 468) صاحب التفاسير الثلاثة. وقد نازل فيه المعتزلة والقدرية وانتصر للأشعري، ويبدو أنه لم يفد من التطور الذي أصاب بعض آراء الأشعري على أيدي كبار رجال المذهب «2» وكان له في هذا التفسير عناية زائدة بالإعراب والقراءات والمشاكل اللغوية- على عادة هذا العصر- كما أنه أكثر فيه من النقل عن تفسير أستاذه الثعلبي «3».

_ (1) انظر مخطوطة دار الكتب رقم 59 تفسير، وراجع في المجلد الثاني منها الأوراق: (3/ 18/ 19/ 122/ 126/ 128/ 129) وقد كان للحوفي عناية خاصة بآراء ابن جرير الطبري. وانظر ترجمته وكتبه في بروكلمان 1/ 523 والمحق 1/ 729. (2) قال في مسألة الختم: «وأعلم أن الختم يمنع الدخول فيه والخروج منه، كذلك الختم على قلوب الكفار يمنع دخول الإيمان فيها وخروج الكفر منها، وإنما يكون كذلك بأن يخلق الله الكفر فيها ويصدهم عن الهدى، ولا يدخل الهدى في قلوبهم .. ) وهذا معنى ما في كتاب «الإبانة» للأشعري ص 57 - 58، وللكسب عند الباقلاني والجويني تفسير آخر مغاير لهذا القول الذي يمكن عده جبرا محضا. راجع البسيط مخطوطة دار الكتب المشار إليها. (3) قال الواحدي في مقدمة كتابه: «وقرأت عليه مصنفاته أكثر من-

5) وتفسير الراغب الأصفهاني (الحسين بن محمد ت 502) الذي جرى فيه على منهج أشعري معتدل، وأفاد منه بعض مفسري أهل السنة فيما بعد، منهم البيضاوي المتوفى سنة 791 «1». 6) وتفسير أبي جعفر الطوسي (محمد بن الحسن ت 460) فقيه الشيعة ومصنفهم، الذي عنى به الزيدية في اليمن أيضا كما يذكر صاحب نزهة الأنظار «2». 7) وتفسير أبي القاسم القشيري (ت 465) المسمى «لطائف الإشارات» الذي كان يظن أنه سيضع يدنا على مدى الصلة بين الأشاعرة والصوفية، أو بين المنهجين في تفسير القرآن، فقد كان القشيري مقدّما في الأشاعرة، ورأسا من رءوس الصوفية في القرن الخامس، وهو القرن الذي يؤرخ به بعض العلماء وجود من ينتمي إلى التصوف من الأشاعرة «3»؛

_ - خمسمائة جزء، وتفسيره الكبير، وكتابه المعنون بالكامل في علم القرآن» وغالبا ما يقول في النقل عنه: قال أبو إسحاق. وللواحدي بعد «أسباب النزول» وكتب أخرى في الأدب. راجع سير أعلام النبلاء للذهبي المجلد 15 مخطوط دار الكتب رقم 12195 ج، وإنباه الرواة 2/ 223. (1) يوجد جزء من تفسير الراغب في المكتبة المتوكلية بالجامع الكبير بصنعاء يقع في 600 صفحة، وجزءان مصوران بالجامعة العربية يشتملان على نصف القرآن تقريبا (انظر رقم 98 و 99 تفسير) وانظر كشف الظنون 1/ 36 والأعلام 2/ 278. (2) ورقة 28 وقد أسماه «البلاغة» وسماه غيره التبيان الجامع لعلوم القرآن، وهو الصواب. انظر السبكي 3/ 51 وسير أعلام النبلاء المجلد 15 وبروكلمان 1/ 512 والملحق 1/ 706، وطبعت بعض أجزاء هذا الكتاب بالنجف الأشرف، وبعضها الآخر في بيروت. (3) انظر مقدمة تبيين كذب المفتري للشيخ زاهد الكوثري، ص 19.

ولكن الكتاب- وقد نشر بعضه بعد اطلاعنا على قطعة خطية صغيرة منه «1» - يسجل نوعا من المنهج «المتميز»، أو بعبارة أخرى: يسجل نوعا من «المغايرة» والاختلاف بين المنهجين- ولتفصيل القول في ذلك موضع آخر- يدل على ذلك أن القشيري فرغ من تأليف كتاب اللطائف سنة 434 بعد أن أخذ طريقه إلى التصوف، مخلفا وراءه تفسيره الكبير، الذي لم يصلنا، والذي فرغ منه سنة 410. ولعل مما يلقي بعض الضوء على حديثنا السابق عن الحالة التي آل إليها أمر بعض الصوفية: الإشارة إلى تفسير صوفي آخر- صغير الحجم- هو «حقائق التفسير» «2» - الذي كان يجب أن يسمى أباطيل التفسير- لأبي عبد الرحمن السّلمي الأزدي (محمد بن الحسين ت 412)، والذي قال فيه الذهبي بحق: «إنه تحريف وقرمطة»! حتى إن السبكي يستغرب من شيخه الذهبي أن يصف السلمي «بالجلالة» مع علمه بما في كتابه من التحريف «3»!! 8) هذا بالإضافة إلى تفسير أبي الفتح الديلمي (ت 444) وتفسير الماوردي: (ت 450) وتفسير مؤلفنا الحاكم، التي سنتحدث عنها بالتفصيل مع تفاسير المعتزلة في الباب الثاني. أما التفاسير التي لم تصلنا فإنها أكثر من هذه بكثير، كما نجد ذلك في الفهارس وفي كتب التراجم والطبقات، وإن كان يبدو أن من أهم

_ (1) مصورة بمعهد المخطوطات، وتقع في سبع وثلاثين ورقة. (2) منه نسختان خطيتان بدار الكتب: 150 و 481 تفسير ومصورتان أخريان بمعهد المخطوطات: 130 و 131 تفسير. (3) طبقات الشافعية الكبرى 3/ 60. وانظر مقدمة ابن قيمية في أصول التفسير ص 92 - 93 مع تعليقنا هناك.

هذه الكتب (التفسير الكبير) لأبي القاسم القشيري «1» والتفسير الكبير أيضا لأبي محمد الجويني والد إمام الحرمين (ت 438) «2» والذي أثنى عليه ابن عساكر في تبيين كذب المفتري وقال «انه اشتمل على عشرة أنواع في كل آية» «3» ويعني بذلك فيما يبدو استيفاء وجوه الإعراب والقراءة واللغة والنظم وأسباب النزول والأحكام ونحو ذلك. والكلمة التي نختم بها هذه الجولة في تفاسير هذا القرن هي أننا نلاحظ كثرة تفاسير الأشاعرة وأصالتها، وقد كان أكثر أصحابها على المذهب الشافعي في الفروع، وإن كان التفسير الاعتزالي لم يفقد أصالته في التجديد والجمع كما يوضح كتابنا «التهذيب» وكما يفهم في ثناء العلماء على تفسير القزويني وإعجابهم به، ولكن المعتزلة الذين آل تراثهم وفكرهم إلى الزيدية فقدوا هذه الأصالة في القرون التالية- وليس كذلك حال مجموع أهل السنة- فقد قنع الزيدية في اليمن بالحواشي والتعليقات، وبخاصة على تفسير الكشاف للزمخشري المتوفى سنة 358 هـ، وإذا اعتبرنا الزمخشري من أعلام القرن التالي فإن الزيدية أنفسهم لا يعفونه من هذا الحكم لأن بعضهم يتهمه- كما سنرى- بأنه لم يعد في تفسيره أن لخص تفسير مؤلفنا الحاكم رحمه الله. أما تفاسير أهل السنة فقد جاءت في القرن الخامس على درجة عالية من النضج بعد تطور مذهب الأشعري واستقراره تقريبا على يد الباقلاني

_ (1) راجع تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص 273. (2) يضاف إليهما تفسير أبي يوسف القزويني (ت 488) الذي بعد من أهم تفاسير المعتزلة، والذي لم نقف على شيء منه. (3) تبيين كذب المفتري ص 258.

2 - علم الكلام

(ت 403) والجويني (ت 478)، كما نجد ذلك في التفاسير السابقة وبخاصة تفسير الراغب الأصفهاني. ويفترض الباحث تأثر المفسرين الذين أتوا من بعد بجهود أهل السنة في هذا القرن وأواخر القرن الرابع- وإن كنا لم نلحظ تفاسيره بدقة- إلا أن الدليل على صحة هذا الفرض تحتاج إلى بحث آخر. 2 - علم الكلام : وفي علم الكلام نجد الأشاعرة الذين أصبحوا يمثلون عقيدة أهل السنة يقدمون على التصنيف الغزير بعد ما أصابهم من «تحدي» المعتزلة في دولة بني بويه، وما أصابوه من الحظوة لدى السلاجقة، والمتتبع لتصانيفهم في هذا القرن يدرك مدى ما فرغوا أنفسهم له من التصنيف في (أصول الدين) كما سموا بذلك كثيرا من كتبهم التي بسطوا فيها عقيدة أهل السنة، وبينوا فيها موقفهم من أهم آراء الفرق الأخرى، وبخاصة المعتزلة الذين كانوا غالبا ما يناقشونهم مناقشة جزئية. ومن هذه الكتب كتاب (أصول الدين) لأبي منصور البغدادي (ت 429) و (أصول الدين) «1» للكيا الهراسي الشافعي (ت 504) و (الشامل في أصول الدين) «2» للجويني (ت 478) و (المغني في أصول الدين) «3» لأبي سعيد المتولي الشافعي (ت 478) و (أصول الدين) «4» للقاضي أبي اليسر البزدوي (ت 493) - الذي شرح فيه عقيدة الماتريدية التي كانت تعبر عن رأي أهل السنة في سمرقند وبخارى- وكتاب

_ (1) مخطوطة دار الكتب رقم 290 علم الكلام. (2) مخطوطة دار الكتب رقم 1290 علم الكلام. (3) مخطوط مكتبة الاسكندرية رقم 2014/ أد. (4) طبع الكتاب في القاهرة سنة 1963 بتصحيح الدكتور هانز بيترلنس.

(الإشارة إلى مذهب أهل الحق) «1» لأبي إسحاق الفيروزآبادي (ت 476) و (التمهيد لقواعد التوحيد) «2» لأبي المعين النسفي (ت 508) وغيرها من الكتب الكثيرة الأخرى التي ذكرت في تراجم الأشاعرة وعامة أهل السنة في (تبيين كذب المفتري) وطبقات السبكي وكتب التراجم والأعلام الأخرى «3» هذا عدا ما وصلنا من كتب إمام الحرمين «4» والإمام أبي حامد الغزالي الذي يعد وحده، بعبقريته وإنتاجه الغني عن التعريف، أشهر معالم هذا القرن، وأكبر فيلسوف متكلم في تاريخ الإسلام. وقد استتبع ذلك: التصنيف في نوعين آخرين من كتب الكلام: الأول في عقائد سائر الفرق الإسلامية لبيان رجحان مذهب أهل السنة عليها، وتعرض هنا مذاهب الفرق الإسلامية بالتفصيل، كما تصدّر هذه المصنفات أو تختتم بخلاصة عقيدة أهل الحق أو أهل السنة والجماعة. والنوع الثاني في (الملل والنحل) بعامة. وقد صنف في هذين النوعين البغداديّ،- بالإضافة إلى كتابه السابق في أصول الدين- والأسفراييني (ت 471) الذي كان يديم النظر في كتب البغدادي فيما يبدو!. كتب البغداديّ (الفرق بين الفرق) و (الملل والنحل) «5» وكتب

_ (1) مخطوط مكتبة الاسكندرية رقم 2014 توحيد. (2) مخطوطة دار الكتب رقم 172 علم الكلام. (3) راجع أيضا التبصير للاسفراييني صفحة 174 - 176. (4) انظر ثبت أسماء كتبه في كتاب الدكتورة فوقيه حسين محمود: (الجويني إمام الحرمين) في سلسلة أعلام العرب، صفحة: 66 - 88. (5) منه نسخة بمكتبة عاشر أفندي بالآستانة (انظر مقدمة الشيخ زاهد الكوثري لكتاب تبيين كذب المفتري ص: 20).

الأسفراييني (التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين) و (الملل والنحل) «1» أيضا. ثم جاء ابن حزم (ت 456) فألف كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) على منهجه الخاص الشامل، وألف الشهرستاني (ت 548) فيما بعد كتابه الموضوعي القيم في الملل والنحل. ويرى الأستاذ آدم متز أن علم مقارنة الملل قد نشأ من قبل، ولكن في هذا القرن أقبل على البحث فيه «بعض المتكلمين الميالين إلى معرفة ما غاب منهم» «2» ويكتفي بهذا التعليل بعد أن ردّ نشأة هذا العلم إلى تسامح المسلمين في حياتهم مع اليهود والنصارى. والواقع أن توسع البحث في الملل في هذا القرن أمر طبيعي بعد أن كثرت الكتب في أصول الدين والفرق الإسلامية، وفي الوقت الذي يرى فيه أهل السنة أن كثيرا من آراء هذه الفرق كان متأثرا بالملل القديمة. ويلاحظ آدم متز أن أبا الرّيحان البيروني (ت 440) الذي ألف كتابه (تحقيق

_ (1) ومنه نسخة بمكتبة علي باشا الشهيد بالآستانة (انظر المقدمة المذكورة). (2) يرى آدم متز أن نشأة هذا العلم لم تكن من جانب المتكلمين، أو على أيديهم، لأن أول من ألف كتابا ذا شأن في (الآراء والديانات) هو النوبختي، وقد كان «من نقلة كتب اليونان إلى لسان العرب» كما وصفه متز، وكذلك المسعودي الذي ألف كتابين في الديانات لم يكن متكلما. وقد لا يصح هذا من الاستاذ متز لأن النوبختي الذي ولد في حوالي منتصف القرن الثالث كان من المتكلمين، وقد كتب في التوحيد والإمامة والرد على كثير من فرق المعتزلة وسائر الفرق ما يزيد على ثلاثين كتابا، كما أن المسعودي (ت 346) كانت له عناية بالفرق والكلام إلى جانب كونه مؤرخا. راجع كتاب فرق الشيعة للنوبختي بتحقيق ريتر، الفقرات: 4 - 6 من المقدمة، وانظر كتاب الحضارة الاسلامية لمتز 1/ 291.

اهم مصنفات المعتزلة في علم الكلام

ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) في أول القرن الخامس، قد جعله حكاية لمذاهب الهند على وجهها لا كتاب حجاج وجدل، وأنه لذلك لم يناقش الخصوم ولم يتحرج من حكاية كلامهم، ويرى أن هذا مما جعل عقيدة مؤرخي النحل موضعا للشك «1». [اهم مصنفات المعتزلة في علم الكلام] أما مصنفات المعتزلة في علم الكلام، فإذا استثنينا منها مصنفات مؤلفنا الحاكم فإننا نجد أن النصف الثاني من هذا القرن يكاد يخلو من أي مصنف لهم فيما وصل إلينا، كما نجد أن أكثر مصنفاتهم يقع في أواخر القرن الرابع وأوائل هذا القرن، أو إلى عام 430 تقريبا حيث انقرض تلامذة القاضي عبد الجبار (ت 415) الذين توزعوا في الأقطار «2» وقد كان القاضي لسان المدرسة الجبائية وقلمها ومن أصحاب أبي هاشم بخاصة- ولم يكن القاضي مبتكرا في الكلام أو صاحب مذهب خاص- وقد ورث تلامذة القاضي عن شيخهم عنايته بآراء أبي هاشم، فانتشر على أيديهم مذهبه في الكلام، ومن هنا جاء قول البغدادي إن أكثر معتزلة عصره على مذهب أبي هاشم «3» وكان أبو هاشم بعد أن انقسم المعتزلة في القرن الثالث إلى فرعين كبيرين- من معتزلة البصرة، وكان أصحاب هذه المدرسة يديمون النظر والبحث في الصفات الإلهية وما يدور حولها، وقد نلحظ أثر ذلك في كتب القاضي وفي كتب تلامذته على حد

_ (1) انظر آدم متز 1/ 292. (2) نقل الحاكم عن بعض العلماء أنه قال «دوخت البلاد فما دخلت بلدا وناحية إلا وفيها من أخذ عن قاضي القضاة وتلمذ له». انظر شرح عيون المسائل 1/ ورقة 135 وهذا يدل على سعة انتشار كتب الاعتزال في هذه الفترة. (3) الفرق بين الفرق صفحة 184.

سواء. وقد وصلنا من كتب هؤلاء التلاميذ كتاب (التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض) «1» و (التذكرة في علم الكلام) «2» لأبي محمد الحسن بن أحمد بن متويه، وكتاب (ديوان الأصول) «3» لأبي رشيد النيسابوري الذي انتهت إليه الرئاسة بعد وفاة القاضي، وقد ابتدأ في هذا الكتاب (بالجواهر والأعراض ثم بالتوحيد والعدل) كما يقول الحاكم «4» وكتاب (البحث عن أدلة التكفير والتفسيق) لأبي القاسم إسماعيل بن أحمد البستي (ت 420) وأمالي الشريف المرتضى (علي بن الحسين ت 436) التي مزج فيها بين التفسير والكلام والأدب. وقد أشار الحاكم في تراجمه لتلاميذ القاضي إلى كتب أخرى لم يصلنا منها شيء، كما أنه كان يكتفي في بعض الأحيان بالقول إن لهم بعض التصانيف «5». وخلاصة القول في الكتب الاعتزالية الكلامية في هذا القرن أنها كانت آخر خلاصة المدرسة الجبائية- أو البهشمية- التي لم تلحقها مدرسة أخرى بعد، ويمكن عد مؤلفنا الحاكم- كما سنرى- آخر رجالات هذه المدرسة.

_ (1) مصور دار الكتب عن مكتبة صنعاء، ورقمه بالدار 27977 ب و 27984 ب. (2) مصور الدار أيضا عن المكتبة المذكورة، ورقمه 27980 ب و 27801 ب. (3) من مصورات اليمن وقد حققه الأستاذ الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة. وقد كان يظن أن الكتاب أحد أجزاء المغنى للقاضي عبد الجبار. (4) شرح عيون المسائل 1/ 135. (5) المصدر السابق، الورقات: 135 - 137.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما يراه آدم متز أن علم الكلام- بعامة- قد وقف عن التطور في هذا القرن منذ أن كتب الفقهاء في (الاعتقاد القادري) أن هذا اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد فسق وكفر «1» على الرغم من كثرة كتب أهل السنة- لأنها تكاد تكون نسخا مكررة- فإن هذا القرن يكون قد شهد بحق نهاية تطور علم الكلام.

_ (1) الحضارة الاسلامية 1/ 289.

الباب الأول حياة الحاكم وآثاره

الباب الأول حياة الحاكم وآثاره

الفصل الأوّل حياة الحاكم اولا: اسمه ونسبته 1) هو الإمام الحاكم أبو سعد المحسّن بن محمد بن كرّامة الجشمي البيهقي، ينتهي نسبه إلى محمد بن الحنفية بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه «1». ولا تنص بعض المصادر على تشديد اسمه

_ (1) انظر تاريخ بيهق لابن فندق ص 212. وجشم من قرى بيهق (معجم البلدان 2/ 84 الطبعة الأوربية) و (بيهق) ناحية كبيرة وكورة واسعة كثيرة البلدان والعمران، من نواحي نيسابور تشتمل على ثلاثمائة وإحدى وعشرين قرية، قال ياقوت: «وقد أخرجت هذه الكورة من لا يحصى من الفضلاء والعلماء والفقهاء والأدباء» وذكر أن الغالب على أهلها مذهب الرافضة. وقال السمعاني: البيهقي: نسبة إلى (بيهق): قرى مجتمعة بنواحي نيسابور (راجع معجم البلدان 1/ 804 والأنساب صفحة 101). ولم تذكر المصادر التي ترجمت للحاكم نسبة أخرى له، ولكن أكثر آثاره الخطية زيد عليها- على صفحة الغلاف- (البروقي) أو (البروقني) - وربما قرئت الروقني في حالة واحدة- بخط الناسخ أو مالك النسخة، وغالبا ما يكون من العلماء أو القضاة، وليس في المعجم غير (بروقان) قرية من نواحي بلخ. والصواب في هذه النسبة- فيما نرجح- (الروقني) نسبة-

(المحسّن) كما لا ينص بعضها الآخر على تشديد اسم جده (كرّامة) وهذا وإن كان مما لا يحتج به فإن ما رجحناه هو ما ذهب إليه أصحاب المصادر المتقدمة التي ترجمت له، بالإضافة إلى أن اسم جده ضبط على هذا الوجه على نسخة من تفسيره (التهذيب) كتبت بخط قديم يرجع إلى عصر المؤلف، وعلى نسخة أخرى منه كتبت للفقيه حميد المحلّي الشهيد (ت 652) من كبار علماء الزيدية، ومن أقدم المؤرخين وكتاب التراجم عندهم «1».

_ - إلى (دوقن) قرية من قرى خراسان، كما وجدناها مضبوطة بالحروف ومعرفة في مكان آخر من طبقات الزيدية (لإبراهيم بن القاسم الشهارى، ورقة 162 - مصورة دار الكتب رقم 99. 29 ب). ولعل الحاكم قد انتقل إلى هذه البلدة في نفس الإقليم الذي كان يقيم فيه، ولقيه فيها بعض التلاميذ فأضافوا هذه التسمية على كتبه التي حملها إلى اليمن مع كتب اعتزالية أخرى- كما سنعرض لذلك- أحد علماء الزيدية بهذه البلدة. أما كنيته فهي (أبو سعد) على الأرجح، وقيل إنها (أبو سعيد). و (الحاكم) لقب غلب عليه فيما يبدو لأنه لم يهمله أحد ممن ترجم له، ولا ندري هل لهذا اللقب صلة بمكانته الحديثية عندهم، وفي اصطلاح المشتغلين بالحديث أن لقب (الحاكم) يطلق على من أحاط بجميع الأحاديث المروية متنا وإسنادا، وجرحا وتعديلا، وتاريخا، وبعض قوم الحاكم من الزيدية يقول فيه إنه ليس بذاك في الحديث! راجع حاشية لقط الدرر بشرح متن نخبة الفكر لعبد الله بن حسين العدوي (ص 5/ طبع مصطفى الحلبي سنة 1356 هـ وانظر تعريفنا القادم بكتب الحاكم (كتاب جلاء الأبصار)، كما أن أكثرهم ينعته بالإمام لنسبه ولتقدمه ورئاسته في العلم وإن لم يكن إماما بالمعنى الاصطلاحي عند قومه من الزيدية. (1) انظر ترجمة الفقيه حميد في مقدمة كتابه (الحدائق الوردية في تراجم الأئمة الزيدية) بقلم مؤرخ اليمن محمد بن زبارة الحسني، صفحة: 9 - 12.

وتجعل بعض المصادر (كرامة) أباه لا جده، فتقول: (المحسن ابن كرامة) أو «المحسن بن محمد كرامة» والسبب في ذلك فيما يبدو يعود إلى نسبته الكثيرة إلى جده، حتى إن بعض الذين أشاروا إلى كتبه بإيجاز قالوا إنها للحاكم بن كرامة، أو لأبي سعد بن كرامة. وعمادنا في بيان نسبه المذكور على كل حال إنما هو على (تاريخ بيهق) لابن فندق الذي ترجم فيه لأعيان بيهق، والذي ألفه بعد وفاة الحاكم بأقل من سبعين عاما فقط. 2) وتضطرب الكتب التي ترجمت للحاكم في نسبته إلى (جشم) أهي نسبة إلى بلدة أم قبيلة؟ فابن فندق (ت 565) ينص على أنها نسبة إلى بلدة، فيقول في الحاكم: (المولود بجشم) ويذكر صاحب شرح الأزهار (ت 840) - بعد أن قال في نسبته (الجشمي البيهقي) - أن (جشم بلدة من خراسان)، وجرى ياقوت وصاحب القاموس على أن جشم بلدة ببيهق أو من قراها. ولكن يحيى بن حميد (من أعلام القرن العاشر) ويحيى بن الحسين (ت سنة 1100 تقريبا) يقولان إن جشم قبيلة الحاكم وأن بلده (من نواحي بيهق) أو في نواحيها. ويذهب إبراهيم بن القاسم (المتوفى سنة 1150) إلى أن (جشم قبيلة من خراسان). ويكاد هذا القول الأخير أن يكون تصحيفا سببه الاختصار والتلفيق، لأن المصادر السابقة التي اعتمد عليها ابن القاسم لا تزيد على القول بأن جشم قبيلته دون البحث في أصل هذه القبيلة أو النص على أنها من خراسان، ثم إن (جشم) من قبائل العرب، وقد سمّي به حي من جرهم درجوا، وبطن من سعد العشيرة من مذحج، وبطن من جرم قضاعة- من القحطانية- وجشم أيضا بطن من العدنانية،

ثانيا: ولادته ونشأته:

وفخذ منهم ... الخ، وقد ذكر السمعاني أن (جشم نسبة إلى قبائل منهم جشم الخزرج) - راجع معجم قبائل العرب لكحالة 1/ 187 - 190 والأنساب صفحة 130 - ولا يبعد أن تكون قبيلة من هذه القبائل العربية سكنت خراسان. وربما كان من الراجح أن تكون قد نزلت قرية من قرى (بيهق) فسميت باسمها، فنص ابن القاسم على أن جشم قبيلة من خراسان تحكّم لا لزوم له، ومهما يكن من أمر فلا شك في أن الحاكم من أصل عربي، وأن نسبه يتصل بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ذكر ابن فندق، وأن نسبته إلى (بلدة) جشم التي ولد بها، ولذلك نسب إليها وإلى بيهق لأنها الناحية الكبيرة التي تتبع لها جشم- على عادتهم في ذلك- «1». ثانيا: ولادته ونشأته: 1) ولد الحاكم في بلدة (جشم) في شهر رمضان سنة (413)، ونشأ بإقليم خراسان. وبالرغم من أن المصادر التي بين أيدينا لا تذكر لنا شيئا عن هذه النشأة إلا أن من الراجح أنه نشأ نشأة كريمة تليق بنسبة ومكانة أسرته، وبخاصة في هذا الإقليم الذي يغلب على أهله

_ (1) راجع تاريخ البيهقي ترجمة الدكتور يحيى الخشاب، وتاريخ طبرستان 1/ 101 وتاريخ بيهق لابن فندق ص 212 ومعالم العلماء لابن شهراشوب (ت 588) صفحة 83 وشرح الأزهار للجنداري، ص 32، ونزهة الأنظار ليحيى بن حميد ورقة 21، ونضد الإيضاح لعلم الهدى، الذي رتب فيه كتاب ابن المطهر الحلي (ت 726): إيضاح الاشتباه، صفحة 260 وانظر مجمع البحور للصنعاني (ت 1092) 4/ 413 - 414 (دار الكتب رقم 4322 تاريخ)، وطبقات الزيدية ليحيى بن الحسين ورقة 34، وطبقات الزيدية لابن القاسم ورقة 173، والذريعة إلى تصانيف الشيعة لمحمد محسن 5/ 122.

التشيع. ولم يحدثنا هو في ثبت شيوخه أن تلقى شيئا عن أبيه محمد، كما أنه لم ينقل عنه أو يعرض له فيما اطلعنا عليه من كتبه، ولعله لم يصحبه أو صحبه مدة قصيرة، وكتب التراجم على كل حال لا تذكر لنا شيئا عن حال أبيه العلمية سواء صحبه ابنه وتلقى عنه أم لا، في حين تحدثنا عن (محمد) ابن الحاكم، وتذكر أنه روى عن أبيه وعن غيره من العلماء، وأن (سماعه على أبيه) كان سنة (452) «1» وفي هذا ما يشير إلى أن الحاكم لم يتأخر في الزواج عن الخامسة والعشرين من عمره. 2) وقد انتقل الحاكم من بلده جشم وانزعج عن إقليم خراسان كله، لأنه مات بمكة سنة (494)، ولكننا لا ندري شيئا عن تاريخ هذا الانتقال وعن الظروف المحيطة به، كما أننا لا ندري هل انتقل إلى غير مكة قبل أن يأوي إليها أم لا؟ ومن المحتمل أن يكون ترك نيسابور في أواسط القرن الخامس عند ما تركها كثير من أعلام المذاهب الأخرى كالجويني والقشيري نتيجة للفتن الشديدة التي حصلت بين الشيعة وأهل السنة هناك «2»، وأنه لم يعد إليها كما عاد الأشاعرة بعد أن قرّبهم نظام الملك وبنى لهم المدارس الكثيرة في نيسابور- التي وضع على رأسها الجوينى- وغيرها، وأنه فضل البقاء في مكة مجاورا وبعيدا عن الفتن، وبخاصة أن مكة كان فيها كثير من الشرفاء الزيدية- منهم بنو سليمان بن حسن من أهل مكة، الذين ينتسب إليهم ابن وهّاس

_ (1) طبقات ابن القاسم ورقة: 173. (2) انظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3/ 254 - 255.

(إمام الزيدية بمكة) المتوفى سنة (556) «1» - ولكن الذي يبعد هذا سكوت كتب التاريخ وكتب التراجم عنه دون غيره من الأعلام! أو سكوتها عن مجاورته بمكة على الأقل، وبخاصة كتاب (العقد الثمين في أخبار البلد الأمين) الذي ترجم فيه الفاسي (ت 832) لأعلام مكة والوافدين عليها والمجاورين بها، ولكل من زارها أو توفي فيها من العلماء والأعلام على مدى ثمانية قرون تقريبا، في الوقت الذي أفاض فيه في ترجمة الزمخشري «2» - تلميذ الحاكم- وابن وهاس تلميذ الزمخشري. ثم إن من المستبعد أن يقيم الحاكم بمكة كل هذه المدة الطويلة ثم يموت فيها مقتولا- كما سنرى- ويسكت عنه مثل هذا السكوت! كما أن شهرته في الزيدية لا تبيح لابن وهاس أن يتتلمذ على الزمخشري دونه، حتى ولو كانت شهرة ابن وهاس كإمام للزيدية بمكة إنما كانت بعد وفاة الحاكم، اللهم إلا أن يكون الحاكم قد دخل مكة خفية- لأن أيدي الجناة كانت وراءه- وهذا يدل على أنه دخل مكة في أواخر حياته لا في أواسط القرن الخامس، وهو احتمال سنعرض له عند الحديث على موته رحمه الله. والذي نرجحه أنه لم ينزعج عن بلده إلا في أواخر حياته، سواء أقام بغير مكة أم لم يقيم، والدليل على ذلك أن الزمخشري قد تلقى عنه- كما سنرى في ثبت تلاميذه- والزمخشري ولد سنة (467) ولم يجاور بمكة إلا بعد وفاة الحاكم- على الأرجح- لأن صاحب العقد الثمين يقول في ترجمة الزمخشري: «ودخل بغداد قبل سنة خمسمائة،

_ (1) العقد الثمين للفاسي 6/ 217 - 220. (2) المصدر السابق 7/ 137 - 150.

وسمع فيها من أبي الخطاب نصر بن البطر وغيره، وتوجه إلى الحجاز فأقام هنا لك مدة مجاورا بمكة يفيد ويستفيد» «1»، فقوله «قبل سنة خمسمائة» يدل على أن دخوله بغداد كان على أبعد الفروض ما بين (495 - 500) كما تدل باقي عبارته على أنه مكث مدة ببغداد سمع فيها من بعض العلماء ثم توجه الى مكة- وإن لم تكن الواو تقتضي الترتيب- وربما لم يدخلها، لذلك، إلا على رأس الخمسمائة. ومما يؤكد أن سفره إلى مكة كان بعد دخوله بغداد، أنه أقام بمكة «مدة مديدة يفيد ويستفيد» - وكل هذا بعيد عن طالب يدخل البلاد للسماع على العلماء- وأن رجوعه بعد ذلك إلى خوارزم- بلده- إنما كان من مكة ولم يكن من بغداد «2». وكل هذا يدل على أن الزمخشري دخل مكة بعد وفاة الحاكم بها، وإذن فقد كانت تلمذته عليه في غير مكة، والراجح أنها كانت في جشم أو بيهق أو حيث كان يقيم الحاكم في إقليم نيسابور ويسعى إليه الطلاب، ومثل هذه الرحلة التي يقوم بها الزمخشري من قريته بخوارزم إلى بيهق ليست مما يلفت نظر المؤرخ، وبخاصة أن الزمخشري كان لا يزال طالبا صغيرا يسعى على طلب العلم في إقليمه الغني الواسع، فلو فرضنا أنه رحل- أو انتقل بتعبير أدق- وقد بلغ الخامسة عشرة من عمره- مثلا- لكان قد لقي الحاكم سنة (482) وقرأ عليه مدة تبيح للمؤرخ أن يقول في ترجمة الحاكم: «وهو أستاذ العلامة الزمخشري» «3»

_ (1) المصدر السابق. (2) راجع ترجمة الزمخشري في وفيات الأعيان 2/ 81 (طبع مصر سنة 1310) وأزهار الرياض للمقري 3/ 295 وإنباء الرواة للقفطي 3/ 265. (3) طبقات الزيدية لابن القاسم (ورقة 173) وفيها ينقل عن القاضي الحافظ (ولعله القاضي أحمد بن أبي الحسن الكنى المتوفي سنة 560 تقريبا. راجع الطبقات ورقة 10 - 11).

ثالثا: وفاته

ومما يرجح هذا الانتقال للزمخشري- الطالب الخوارزمي- أننا نجد في ثبت تلامذة الحاكم بعض الخوارزميين الآخرين. ويرجح ما ذهبنا إليه أيضا أن أحد القضاة باليمن- قاضي بلدة صعدة- قد رحل إلى الحاكم ليتلقى عنه في سنة (481) «1» ويكتفي مؤرخو الزيدية ببيان موطن الحاكم في بيهق، وأن قاضي صعدة قد رحل إليه، ولو أن قاضيهم رحل إلى الحاكم في عير بلده أو موطنه لما جهلوا ذلك- على الأرجح- ولما امتنعوا عن ذكره، وفي هذا ما يدل- من جهة أخرى- على أن قصد الحاكم من (خوارزم) جدّ طبيعي، وأنه قد بعد صوته وكثر تلامذته والراحلون إليه في موطنه الذي نرجح- لهذا كله- أنه لم ينزعج عنه إلا في أواخر حياته، والحديث- مرة أخرى- في أسباب إهمال ذكره لدى أكثر المؤرخين، وفي أي عام كانت رحلته إلى مكة على وجه التقريب، يفضي بنا للحديث عن موته وعن الظروف التي أحاطت به. ثالثا: وفاته مات رحمه الله مقتولا بمكة المكرمة في الثالث من شهر رجب سنة (494) «2» وله من العمر واحد وثمانون عاما، وقد حدد صاحب

_ (1) ذكر صاحب شرح الأزهار أن القاضي المذكور رحل إليه سنة 441 قال: «وارتحل اليه القاضي إسحاق بن عبد الباعث سنة 441 وأخذ عنه». وهذا خطا فيما يبدو لأن مما يبعد أن يرحل (قاض) من صعدة ليتلقى العلم في نيسابور عن رجل لا يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره). شرح الأزهار، صفحة 32. (2) انفرد صاحب شرح الأزهار بذكر اليوم، واشترك مع يحيى بن الحسين ويحيى بن حميد وابن القاسم (والقاضي الحافظ) وغيرهم في ذكر الشهر والسنة.

نزهة الأنظار عمره حين قتل- في حساب طريف لا مجال فيه للتصحيف- بإحدى وستين سنة، فقال فيه: «المقتول بمكة في شهر رجب سنة 494 وكان مبلغ عمره إحدى وستين، وكان مولده في شهر رمضان الكريم سنة 413» «1» وذهب إلى هذا التحديد أيضا أبو الرجال الصنعاني، إلا أن أبا الرجال يحدد تاريخ وفاته سنة (545) «2» - وقد أهمل بالطبع تاريخ ميلاده- وهو التاريخ الذي حكاه ابن القاسم عن بعضهم وحكم بخطئه، والواقع أنه وهم محض لأنه تاريخ وفاة رجل آخر يدعى (الفضل بن الحاكم) حتى إن بعضهم قد توهم أيضا فجعله تاريخ (محمد ابن الحاكم) الذي أشرنا إليه، وإن كان الوهم هنا أقرب، وقد توفي محمد المذكور سنة (518) كما سيأتي تحقيقه. وكل المصادر مجمعة على أنه «قتل بمكة غيلة» أو قتل فيها شهيدا، ويدور سبب قتله- فيما ترويه هذه المصادر- حول رسالة له طعن فيها على المجبّرة وجعلهم فيها من أتباع إبليس، قال صاحب نزهة الأنظار: «وكان قتله بسبب ما قاله في العدل والتوحيد وحب أهل البيت في رسالته الموسومة: من أبي مرة إلى إخوانه المجبرة» وقال صاحب مطلع البدور: «واتهم بقتله أخواله وجماعة من الجبرية بسبب رسالته المسماة برسالة الشيخ أبي مرة» «3» وكأن يحيى بن حميد يجعل سبب قتله اعتزاله،

_ (1) النزهة ورقة 21 (مصورة دار الكتب رقم 358). (2) راجع مطلع البدور 4/ 414. (3) وقال ابن القاسم: «وله رسالة تسمى برسالة الشيخ كانت السبب في قتله» الورقة: 173 وانظر يحيى بن حميد: النزهة ورقة 21 ومطلع البدور 4/ 414.

أو مغالاته في الاعتزال وحب أهل البيت الذي أودعه في رسالته عن الجبرية، والواقع أن الاعتزال وحب أهل البيت مهما اشتط فيهما المرء ما عرفا سببا لانتقام فردي أو خاص وإن أثارا من الفتن العامة ما أثارا. ثم إن ما قاله الحاكم في العدل والتوحيد وحب أهل البيت قاله في سائر كتبه المطولة فلا معنى للحديث عنهما في هذه الرسالة، أو تخصيصها بهما وجعلها إطارا لموضوعاته العامة الأخرى، بل إن الذي يدل عليه عنوان الرسالة- التي سميت أيضا برسالة إبليس إلى المجبرة- هو أنه جعلها إطارا لموضوع رئيسي خاص على خلاف قول ابن حميد- هو الرد على الجبرية في مسألة خلق الأفعال أولا، وما يتبع ذلك- أو يتقدمه- من أن صحة التكليف مرهونة بالاختيار، وأن الحساب والعقاب منوطان به أيضا ... إلى ما هنالك من هذه الأمور، وهذا لا يمنع أنه كان يصدر في هذه الردود والمناقشات عن مذهبه في العدل والتوحيد الذي بثه في كل كتبه، بل هو الباعث له على التأليف في الحقيقة، ولكنه لم يكن الباعث على قتله أو السبب المباشر له، ومن هنا كانت عبارة أبي الرجال الصنعاني أدق وان يكن قد أضاف الى المجبرة أخواله أيضا، وجعل الباعث للجميع على قتله الرسالة المذكورة، وهذا يدل على أن أخواله كانوا من المجبرة أو من المنتصرين لهم، وان مما يبعد أن يقدموا على قتله لحبه أهل البيت وهم يمتون اليهم بسبب! ويتردد الباحث في قبول مثل هذا السبب للإقدام على قتل شيخ جاوز الثمانين مهما قيل في مغالاته في عداء الجبرية أو لدده في خصومته التي لا ننكر ظهورها في كتبه مع أعدائه ومخالفيه، وبخاصة الجبرية «1» وقد

_ (1) يورد في الصفحات الأولى من تفسيره شرحه لقوله تعالى (ختم الله-

بحثت طويلا عن أسباب أخرى، وبخاصة الأسباب السياسية ولكنني لم أقف على شيء، وقد وجدت أن ثناءه على الامام المرشد بالله كان عظيما كما أشرت الى ذلك في الحديث عن الزيدية، وأن من الراجح ألا يمتنع عن مبايعته عند خروجه سنة 491 ودعوته لنفسه، أو عن عدّه في «الأئمة» في كتابه (السفينة) الذي جعل قسما منه لأئمة الزيدية، واختلف فيه مع كثير من مؤرخيهم في عد بعض دعاتهم من الأئمة. ويبقى السبب الذي أشارت اليه المصادر السابقة قائما معتبرا، وله ما يدعمه من شدته- رحمه الله- على المخالفين، وإن من المؤسف حقا أن الرسالة المذكورة لم تصلنا، ولقد كان من الممكن أن توضح قيمة هذا السبب ومدى أهميته- أو جديته- في هذه الواقعة المؤلمة، كما أنها ربما ألقت ضوءا كافيا على انتقاله الى مكة، وبخاصة اذا كانت من أواخر ما كتب أو آخر ما كتب، ولعلها كذلك، لأنه لم يشر اليها فيما اطلعنا عليه من كتبه الكثيرة الهامة، ولأنه قد قتل بسببها فكأنه لم يمهل حتى يكتب أو يؤلف! وإذن فمن الممكن أن يكون جمع فيها خلاصة طعونه المتفرقة والشديدة على المجبرة بعامة، وسلكهم في الفئات الطاغية الكفرية، وجعلهم من

_ - على قلوبهم ... الآية) مصدرا بقوله: «وقال بعض من لا شبهة في جهله» وقد تنبه علماء الزيدية إلى أن من مزايا تفسيره الهامة أنه «أودع فيه الحجج الواضحة الباهرة في الرد على الفئة المجبرة وغيرها من سائر الفرق الكفرية!» - راجع نزهة الأنظار- ويبدو على كل حال أنه كان حاد الطبع، وأن هذه الحدة قد زادت ولم تنقص عند تقدمه في السن- على عادة بعض الناس- وأنه كان فيه جرأة وميل الى الصدع بما يعتقد أنه الحق. راجع مطلع البدور وطبقات ابن القاسم. وانظر فيما يلي كلامنا على محوره في تفسيره.

رابعا: شيوخه:

أتباع إبليس ومن تلامذته، ووضع على هذه الرسالة ذلك العنوان الصارخ فأثار ثائرتهم فطلبوه فانزعج إلى مكة، ولذلك لم يدخلها دخولا يتناسب مع شهرته وكثرة تلامذته فوافوه بها فاغتالوه! وكانت الأحداث السياسية في مكة وغيرها في هذا العام- 494 - أبعد من أن تحفظ ذكر شيخ يتجاوز الثمانين يغتال في طرف من أطراف مكة، أو أن تحفظ له قبرا مع قبور المقدمين والرؤساء «1». رابعا: شيوخه: تتلمذ الحاكم على رءوس العلماء المشهورين في عصره، وأكثر من الأخذ عن المعتزلة تلامذة القاضي عبد الجبار ومن أخذ عنهم، أو «عن أهل العدل» كما يسميهم دائما. وبالرغم من كثرة شيوخه الذين تلقى عنهم وتعرضه لأكثرهم في الفصل الذي عقده في كتابه (شرح عيون المسائل) لمن أدركه من أهل العدل- وتعرض كتب الطبقات لسائرهم- فإن من الواضح أن المقدمين من هؤلاء الشيوخ كانوا ثلاثة هم: 1) الشيخ أبو حامد أحمد بن محمد بن إسحاق النجاري النيسابوري

_ (1) بلغ من دقة صاحب العقد الثمين أنه كان يتحرى الأعلام الذين توفوا بمكة ويكشف عن تواريخ وفاتهم من حجارة قبورهم بها. [والذي نضيفه الآن أن أستاذنا الجليل الشيخ محمد أبو زهرة، في مناقشته لهذه الرسالة، لم يرتح لهذه «الجرجرة» للرجل ومحاولة إظهار دخوله مكة واغتياله بها على هذا النحو من الفرض والتقدير. ويفترض أستاذنا حفظه الله أن ذكر أخوال الحاكم في نص سابق يشير إلى أن سبب «اشتراكهم» في قتله، أو اقدامهم هم على هذا الأمر، يعود إلى مسألة الميراث في المقام الأول. وهذا- في الواقع- أمر جدير بالنظر والاعتبار، ولعله يغنينا عن الكثير من تحليلنا السابق].

المتوفى سنة 433 «1» وهو أول شيوخه وأبعدهم أثرا في ثقافته وفكره، قرأ عليه الكلام وأصول الفقه، وقد اختلف إليه في أول عهده بطلب العلم في سن مبكرة لأن صاحب شرح الأزهار يقول: «وقد أكثر من الرواية عن الشيخ أبي حامد» «2» ولم يكن عمره مع ذلك يتجاوز العشرين حين مات شيخه. قال الحاكم: «أول من لقيناه من مشايخ أهل العدل وأخذنا عنه شيخنا أبو حامد أحمد بن محمد بن إسحاق رحمه الله، وكان قرأ على قاضي القضاة، فقرأت عليه صدرا من لطيف الكلام وجليله ومن أصول الفقه .. وكان يجمع بين كلام المعتزلة وفقه أبي حنيفة ورواية الحديث ومعرفة التفسير والقرآن، وكان زاهدا لم يحظ من الدنيا بشيء» «3» ويبدو أنه لم يختلف طيلة حياة شيخه أبي حامد إلى أحد سواه. 2) الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الله، نيسابوري الأصل بيهقي الوطن، المتوفى سنة 457 وقد اختلف إليه الحاكم بعد وفاة شيخه أبي حامد سنة 433، وكان أبو الحسن قرأ على السيد أبي طالب يحيى ابن الحسين المتوفى سنة 424 - من تلامذة القاضي عبد الجبار- فقرأ عليه الحاكم «شيئا من الكلام وأصول الفقه والتفسير» وكان من المعجبين

_ (1) راجع شرح العيون 1/ 137 و 162. وقد ترجم لشيخه أيضا في الطبقة الثانية عشرة من طبقات المعتزلة، وجعله في آخرها، وأكثر رجالات هذه الطبقة ممن أخذ عن قاضي القضاة. (2) صفحة: 32. (3) شرح عيون المسائل 1/ 162.

بفضله وخطابته «1». 3) الشيخ الامام أبو محمد عبد الله بن الحسين الناصحي قاضي القضاة المتوفى 447، قال الحاكم: «واختلفت إليه سنة أربع وثلاثين وأربعمائة» أي بعد وفاة شيخه أبي حامد، وكأنه اختلف إلى مجلس شيخيه أبي الحسن وأبي محمد في وقت واحد. وكان الامام أبو محمد من أئمة أصحاب أبي حنيفة «وكان لا يخالف أهل العدل إلا في الوعيد» قال الحاكم: «فقرأت عليه أصول محمد بن الحسن والجامع والزيادات ومسائل الحساب» «2». أما سائر شيوخه فكان أخذه عنهم دون هؤلاء الثلاثة، وفي الفصل الذي عقده لمن «أدركه من أهل العدل» ذكر كثيرا من الشيوخ الآخرين ولكنه لم يصرح بأنه اختلف إليهم أو أخذ عنهم، وإنما اكتفى بالقول بأنه قد لقيهم وإن كان قد روى عن بعضهم في كتبه، كما أن ابن القاسم في طبقات الزيدية عد بعضهم الآخر ممن قرأ عليهم، وأضاف إليهم بعض الشيوخ الآخرين. ويبدو أنه لا نزاع في أنه قرأ على اثنين من الشرفاء هما:

_ (1) أنظر المصدر السابق. وقد قال صاحب شرح الأزهار: إن الحاكم روى عن الإمام أبي طالب بوساطة رجل، وربما كان هذا الرجل شيخه أبا الحسن، وقال ابن القاسم إنه «روى عنه بالإجازة من غير واسطة» وهذا غير صحيح لأن الحاكم لم يذكره، ولأن عمره عند وفاة أبي طالب كان أحد عشر عاما فقط. (2) راجع شرح العيون 1/ 163 وانظر الجواهر المضيئة للقرشي 1/ 274 طبع الهند.

4) أبو القاسم محمد بن أحمد بن مهدي الحسني، وكان زيديا ممن أخذ عن السيد الامام أبي طالب أيضا. 5) وأبو البركات هبة الله بن محمد الحسني الذي كان يميل إلى الزيدية. كما أن من الراجح أن يكون قد قرأ أيضا على: 6) الشيخ أبي الحسن علي بن الحسن الذي وصفه بأنه «حسنة خراسان، وفرد العصر، وإمام زمانه، والمبرّز في العلوم، والمقدّم في أصحاب أبي حنيفة، والداعي إلى التوحيد والعدل بالقول والفعل» وعلى: 7) الشيخ أبي حازم سعد بن الحسين. 8) والقاضي أبي عبد الله اسماعيل بن منصور الحرفي. 9) وأبي الحسن عبد الغافر بن محمد الفارسي في نيسابور. 10) وأبي محمد عبد الله بن حامد الأصفهاني «1». والحاكم، بعد، يجري على سنن القاضي عبد الجبار في نعت كل من أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم، بشيخه- أي في المذهب- فيقول: قال شيخنا أبو علي، وقال شيخنا أبو هاشم، أو يقول: اختلف شيخانا ... وكثيرا ما ينقل آراء أبي هاشم عن القاضي مباشرة معرضا عن أي سند فيقول: قال القاضي قال أبو هاشم «2».

_ (1) راجع شرح العيون 1/ 163 وطبقات الزيدية لإبراهيم بن القاسم (ورقة 173) وذكر ابن القاسم أيضا أنه سمع أبا الفضل الأمير عبد الله ابن أحمد الميكالي، وأبا الحسن إسماعيل بن صاعد، وأبا عبد الله محمد بن عميرة، وغيرهم. وذكر الحاكم أنه لقي من رواة الأخبار أبا علي الحسن بن علي الوحشي الحافظ من بلخ، وعده ابن القاسم من شيوخه في الحديث، وعد معه أبا يعلى الحسين بن محمد الترمذي، وأبا يوسف يعقوب بن أحمد. (2) راجع «شرح العيون» 1/ 285 و 166 فما بعدها.

خامسا: تلامذته:

خامسا: تلامذته: قال ابن القاسم: «وتلامذته كثير»، ولكنه لم يذكر منهم سوى: 1) أحمد بن محمد بن إسحاق الخوارزمي. 2) وعلي بن زيد الروقني «3». 3) ومحمد بن المحسن- ولد الحاكم- الذي سمع عن أبيه سنة اثنين وخمسين وأربعمائة «1». 4) وجار الله الزمخشري، كما ينقل ذلك عن القاضي الحافظ. والواقع أننا لا نظفر هنا بمعلومات كبيرة عن تلامذة الحاكم، بخلاف شيوخه، لأنه هو- كما سنرى- مؤرخ الزيدية والمعتزلة وكاتب طبقاتهم، وقد انقضى من بعده وقت طويل حتى كتب الزيدية تراجم أئمتهم وعلمائهم، في حين بقيت طبقات المعتزلة كما تركها الحاكم- أو كما أكملها- لم يعرض لها أحد، وإن كان الذي يبدو أن ابنه محمدا والإمام الزمخشري

_ (3) قدم إلى اليمن من خراسان سنة 541 رجل يدعى زيد بن الحسن ابن علي البيهقي الروقني. وقال بعضهم إنه قرأ على الحاكم، وقال آخرون إنه قرأ على ولده المفضل، وذلك وهم فيما يبدو، لأن كتب الطبقات لم تعرض لغير محمد بن الحاكم (ت 518) كما أن أباه توفى سنة 494، وسبب الاشتباه أن هناك رجلا آخر يدعى الحاكم الحسكاني سعيد بن كرامة ورد ذكره عرضا في الطبقات ولم نعثر له على ترجمة، ولعله الذي قرأ عليه زيد بن الحسن، ولعل المفضل ابنه وليس ابن الحاكم الجشمي. (انظر طبقات ابن القاسم ورقة 163 ونزهة الأنظار ورقة 21). (1) وقد روى عنه أحمد بن محمد الخوارزمي تلميذ والده، وقال (أخيرنا الحاكم الإمام شيخ القضاة والحرمين محمد بن المحسن، وقال أخبرني أبي .. ) طبقات ابن القاسم صفحة 413.

سادسا: عقيدته ومذهبه

كان لهما دور كبير في نشر كتبه وإجازة الطلبة بها، جاء في طبقات الزيدية أن «محمد بن المحسن بن كرامة الجشمي، العلامة، قرأ على أبيه تفسيره المعروف بتهذيب الحاكم جميعه، وكتاب جلاء الأبصار وغير ذلك، وأخذ عنه التفسير أبو جعفر الديلمي مناولة للجزء الثاني وإجازة لسائر الأجزاء، وأحمد بن محمد الخوارزمي تلميذ والده .. » «1» كما أن القاضي شمس الدين جعفر بن عبد السلام (ت 573) سمع كتاب (التهذيب في التفسير) للحاكم علي الديلمي وأخذ منه إجازة ببقية كتب الحاكم، وسمع (جلاء الأبصار) للحاكم- مع كتب أخرى له- على ابن وهاس تلميذ الزمخشري «2». سادسا: عقيدته ومذهبه 1) لا يختلف المترجمون له في أنه كان حنفيا ثم انتقل إلى مذهب الزيدية وإن لم يحدّد أحد منهم تاريخ هذا الانتقال، وقد رأينا في ثبت شيوخه أن أولهم- أبا حامد- كان حنفي المذهب، وأنه اختلف من بعده- وقد جاوز العشرين من عمره- إلى الإمام أبي محمد قاضي

_ (1) ابن القاسم، الصفحة السابقة. (2) المصدر السابق ص 93. وذكر ابن القاسم في موضع آخر من الطبقات في ترجمة السيد العلامة الصدر الحسين بن علي بن أحمد المعروف بالجويني أنه «روى كتب الحاكم الجشمي: تنبيه الغافلين، وجلاء الأبصار، والسفينة، وغيرها .. عن مشايخ عدة متصلة بالمؤلفين» ويصفه الزيدية بأنه من حفاظ العترة، وبدور الأسناد المشرقة. انظر طبقات ابن القاسم ورقم 39.

قضاة الحنفية، وأنه قرأ عليه كتب ظاهر الرواية، ولا شك أن قراءتها يحتاج إلى زمن غير قليل، فانتقاله عن المذهب الحنفي- فيما يبدو- لم يكن في سن مبكرة أو في سن الطلب على الأقل. بل لعل ذلك إنما كان بعد أن اشتهر وعرفت آراؤه في المذهب، نظرا لشهرة هذا الانتقال بين الفقهاء، ولتعرضهم له في بعض مسائل الفقه، قال الفقيه العلامة سليمان الصعدي، في كتاب له اسمه «التذكرة» في باب الأطعمة والأشربة، عند ذكر المثلّث من الخمر: «وكان المحسّن بن كرامة الجشمي حنفي المذهب عدليّ الاعتقاد، ثم إنه رجع إلى مذهب الزيدية والشيعة، روى ذلك عنه صاحب التمهيد من بني خنش رحمه الله تعالى، ورواه أيضا محمد بن أحمد القرشي ... » «1» ولكن شهرته في الزيدية بعد قد غطت على «أصله» الحنفي، وبخاصة بعد أن كتب في فقه الزيدية- فيما يبدو- كثيرا من الكتب، والحنفية على كل حال لم يترجموا له في طبقاتهم على أي اعتبار. 2) أما في أصول الاعتقاد فهو معتزلي لم يزل، وقد كان شيوخه ممن أخذ عن القاضي عبد الجبار أو من هو في طبقته، وكان القاضي- كما أشرنا- من أتباع المدرسة الجبائية ومن أشياع أبي هاشم بخاصة، ومن هنا جاء انتساب الحاكم إلى معتزلة البصرة- الفرع الذي بقي أقوى أثرا وأبعد صوتا- ولأبي هاشم الذي أكثر من النقل عنه بعبارة «قال شيخنا أبو هاشم» وللقاضي عبد الجبار الذي كان شديد الاعجاب به وبعلمه وكتبه وطريقته في التدريس حتى قال فيه: «وليس تحضرني عبارة

_ (1) طبقات الزيدية (الطبقات الزهر) ليحيى بن الحسين، ورقة 34.

تنبئ عن محله في الفضل وعلوّ منزلته في العلم فإنه الذي فتق الكلام ونشره، ووضع فيه الكتب الكثيرة الجليلة التي سارت بها الركبان وبلغت المشرق والمغرب، وضمنها من دقيق الكلام وجليله ما لم يتفق لأحد مثله ... » «1» فإذا علمنا أن كتب القاضي رحمه الله إنما حوت آراء أبي علي وأبي هاشم، وأن انتصار القاضي في الأغلب كان لأبي هاشم أدركنا منزع قول الحاكم: «وقد صار العدد والعلم والانتساب إلى الاعتزال لأصحاب أبي هاشم، وصار كالأصل لكثرة أصحابه ووفور علمه وصحة مذاهبه» «2» ورجحنا بذلك انتسابه لأبي هاشم. بل يمكننا أن نرجح هنا أنه كان من أشهر رجالات المدرسة الجبائية بعد القاضي عبد الجبار بما خلفه من تراث كبير، وبما تركه هذا التراث من أثر واضح في الزيدية المعتزلة الذين بقوا يحكمون اليمن، وبقوا على صلتهم بكتبه إلى العهد الحاضر، ولعله- فوق ذلك- خاتمة هذه المدرسة كما يشير إلى ذلك مؤرخو الزيدية حيث يختمون به (طبقات المعتزلة) - التي شارك هو في كتابتها- فيقول يحيى بن حميد- من أعلام القرن العاشر- بعد أن استعرض هذه الطبقات: «ولنختم ذكر العدلية برأسهم

_ (1) شرح عيون المسائل 1/ ورقة 129. (2) المصدر السابق ورقة 50 وقال ابن النديم في ترجمة أبي هاشم: «وكان ذكيا حسن الفهم ثاقب الفطنة، صانعا للكلام مقتدرا عليه قيما به» الفهرست ص 247 طبع التجارية.

وناصر مذاهبهم بما هو القاطع القاصم المحسن الحاكم بن كرامة ... » «1». 3) وبعد، فإن مذهب الزيدية الكلامي هو الاعتزال، ولا يختلف الزيدية عن المعتزلة في الأصول إلا في مسألة الامامة «2» - وهي في الأصل مسألة فقهية يشيرون إليها في الأصول لأهميتها- قال الحاكم: «ومن أصحابنا البغدادية من يقول: نحن الزيدية، لأنهم كانوا مع أئمة الزيدية والمبايعين لهم والمجاهدين تحت راياتهم، ولاختلاطهم قديما وحديثا، ولاتفاقهم في المذهب» «3» وقد ارتقى أيضا بسند المعتزلة من شيوخه حتى انتهى به إلى علي بن أبي طالب «4» ونقل عن أبي علي الجبائي أنه همّ أن يجمع

_ (1) نزهة الأنظار ورقة 17 وقد أورد يحيى بن حميد تعريفا للعدلية ينطبق على المعتزلة تماما، ثم قال: وكل المعتزلة عدليون إلا من شذ منهم فبشيء لا يخل بالعدل! وقال الحاكم من جهة أخرى: «واعلم أن اسم الاعتزال وإن كان وقع أولا على من يقول بالوعيد والمنزلة بين المنزلتين، فقد صار في العرف اسما لمن يقول بالتوحيد والعدل وينفى التشبيه والجبر سواء وافق في الوعيد أو خالف، وسواء خالف في مسائل الإمامة أو وافق وكذلك في فروع الكلام» شرح عيون المسائل 1/ ورقة 67. (2) بعد أن تحدث الحاكم عن فرق الزيدية السابقة على عصره- الجارودية والأبترية- قال: «والزيدية يومنا هذا فرقتان: قاسمية ينتسبون إلى الإمام أبي محمد القاسم بن إبراهيم، والناصرية ينتسبون إلى الناصر إلى الحق الحسن بن علي عليه السلام» ثم قال: «ولا خلاف بين الفريقين في التوحيد والعدل والنبوات، وإنما خلافهم في فروع الفقه» شرح العيون 1/ 23. (3) شرح العيون 1/ ورقة 50. (4) شرح العيون 1/ 52.

بين المعتزلة والشيعة بالعسكر، وقال قد وافقونا في التوحيد والعدل وإنما خلافنا في الإمامة «1». بل إن الحاكم يطلق القول بأن جميع أهل العترة عدليون إلا القليل، وبأنه «لا شبهة أن المعتزلة هم الشيعة لا تباعهم أمير المؤمنين وأهل بيته في كل عصر وحين، واتفاقهم في مذاهبهم» «2». وقد جعل أبو الحسين الملطي الفرقة الرابعة من الزيدية (معتزلة بغداد) «3» وذكر أن المعتزلة «كانوا من أصحاب علي» وأن هذه التسمية- معتزلة- لزمتهم لاعتزالهم الحسن ومعاوية وجميع الناس احتجاجا على مبايعة الحسن لمعاوية «4» الذي أجمعوا على البراءة منه ومن عمرو بن العاص ومن كان في شقهما «5». وليس هذا بغريب إذا كان الاعتزال- أو العدل- إنما ظهر على يد «فضلاء العترة»، وأن «واصلا» أخذه عنهم، كما يقول مصنفنا الحاكم رحمه الله «6»، والنصوص في ذلك كثيرة، وتاريخ المعتزلة مع

_ (1) المصدر السابق ورقة 109 والعسكر بإقليم خوزستان، وكان جميع أهله من المعتزلة كما أن أكثر الإقليم كان كذلك أيضا. انظر أحسن التقاسيم للمقدسي ص 415. (2) شرح العيون 1/ 50. (3) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، صفحة 39. (4) المصدر السابق، صفحة 41. (5) الانتصار للخياط، صفحة 98. (6) شرح العيون 1/ 138 وانظر الورقة 52.

رأي الزيدية في الإمامة

الشيعة عموما شديد التداخل، وذلك يعود إلى أسباب كثيرة وقديمة لا مجال هنا لاستعراضها «1» مع تلك النصوص. رأي الزيدية في الإمامة والذي نود أن نعرض له هنا: الإشارة إلى رأي الزيدية في الإمامة وبعض المسائل الهامة المتصلة بها، في سبيل توضيح بعض الجوانب في عقيدة الحاكم، وبيان مدى اعتداله في آرائه وأحكامه: يرى الزيدية أن الإمام بعد النبي صلّى الله عليه وسلم: علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم زيد بن علي، ثم من سار بسيرتهم من أولاد فاطمة عليها السلام لا فرق في ذلك بين أولاد الحسن وأولاد الحسين، ولكنهم لم يجوزوا ثبوت إمامة في غيرهم «2» والطريق إلى الإمامة عندهم (النص) في الأئمة الثلاثة الأول، والدعوة والخروج في الباقي «3» ولذلك فإنهم لم يعتقدوا إمامة علي زين العابدين لأنه لم يشهر سيفه في منابذة الظلمة. وهم بذلك يختلفون عن الشيعة الامامية الذين نصوا على إمامة علي زين العابدين

_ (1) ليس منها على كل حال قلة اعتداد المعتزلة بالأخبار المأثورة كما يرى آدم متز (الحضارة الإسلامية 1/ 106 ط 3) ولا المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة ونحو ذلك كما زعم غيره (المعتزلة لزهدي جار الله صفحة 206) والأمر ليس بمثل هذه البساطة على كل حال. ونرجو أن نفرد هذا الموضوع ببحث مستقل إن شاء الله تعالى. (2) راجع الملل والنحل للشهرستاني 1/ 207 - 208 بهامش الفصل، وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، ص 757. (3) انظر شرح الأصول الخمسة، صفحة 754 وشرح عيون المسائل 1/ 22 - 23.

وجعلوا الامامة بعده في جعفر الصادق إلى اثني عشر إماما «1» ويختلفون كذلك عن المعتزلة الذين جعلوا الطريق إلى الامامة «العقد والاختيار» ونصوا على أن الامام بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي «ثم من اختارته الأمة وعقدت له ممن تخلّق بأخلاقهم وسار بسيرتهم» قال معلق شرح الأصول: «ولهذا تراهم يعتقدون إمامة عمر بن عبد العزيز لما سلك طريقهم» «2». وهناك نقطتان رئيسيتان في موضوع الإمامة عند الزيدية: الأولى: أنهم جوزوا خروج إمامين في قطرين يجمع كل منهما خصال الإمامة ويكون واجب الطاعة. والثانية: أنهم جوزوا إمامة المفضول مع وجود الأفضل «3» وهذا فيما يبدو أثر من آثار إنكارهم وجود النص على الإمام في غير الأئمة الثلاثة، وورع من الإمام زيد رضي الله عنه في الشيخين، وموقف عملي سبق إليه

_ (1) انظر غاية الاختصار لابن حمزة الحسيني صفحة 83 ويقول الإمام زيد رضي الله عنه: «إن الإمام منا أهل البيت المفترض الطاعة على المسلمين: الذي شهر سيفه ودعا إلى كتاب ربه وسنة نبيه، وجرت بذلك أحكامه، وعرف بذلك قيامه، فذلك الذي لا تسع جهالته. فأما عبد جالس في بيته مرخى عليه ستره. تجرى عليه أحكام أهل الظلمة لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر فلن يكون إماما» راجع سيرة الإمام الهادي ورقة 22 مخطوطة الدار. (2) شرح الأصول الخمسة ص 758 ومعلقه أحد تلامذة القاضي، وممن يذهب مذهب الزيدية. (3) انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/ 207 - 208.

جدّه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؛ فحين سئل الإمام زيد ممن رأيه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، من قبل الخارجين معه بالكوفة حين اشتد القتال مع عامل هشام بن عبد الملك، أثنى عليهما خيرا وقال: أثنى عليهما جدّي وقال فيهما حسنا، وإنما خروجي على بني أمية الذين قاتلوا جدي عليا وقتلوا جدي حسينا، فانفضوا عنه ورفضوه لهذا القول فسموا رافضة، وقاتل بمن بقي معه منهم، الذين دعوا بالزيدية، حتى أتى القتل عليهم جميعا «1» وبالرغم من أن بعض فرق الزيدية بعد قد ادعت النص، وخاض منهم من خاض في الشيخين رضي الله عنهما، وشوّهوا آراء الامام زيد- وبقوا مع ذلك ينتسبون إلى الزيدية أو ينسبون إليهم «2» - فإن

_ (1) راجع التبصير في الدين للاسفراييني صفحة 34. وقال الحاكم إن الإمام زيد لما خرج جاءه قوم وسألوه عما يذهب إليه فكان يقول: أبرأ من المارقة الذين كفروا أمير المؤمنين، والرافضة الذين رفضوا أبا بكر وعمر، فتبعه بعضهم وتركه بعضهم، فمن تبعه سموا زيدية ومن خالفه سميت رافضة. (شرح العيون 1/ 22). والعجيب بعد ذلك أن يعد الملطي الزيدية إحدى فرق الإمامية (التنبيه والرد ص: 25، 38) وأن يعدها البغدادي إحدى فرق الروافض (الفرق بين الفرق ص 29) وأن يقول الأسفراييني إن الروافض يجمعهم ثلاث فرق: الزيدية، والامامية، والكيسانية. (التبصير ص 32)!! (2) راجع الفرق للبغدادي صفحة 30 وفرق الشيعة للنوبختي صفحة 21 وقال الشهرستاني: «ومالت أكثر الزيدية بعد ذلك عن القول بإمامة المفضول، وطعنت في الصحابة طعن الامامية» - الملل والنحل بهامش ابن حزم 1/ 211 - وفي مسألة النص يقول الحاكم رحمه الله: «فأما ادعاء النص فهو أمر حادث لم يقل به أحد من الصحابة والتابعين، وإنما أظهر هشام وجوب الامام على-

مصنفنا الحاكم رحمه الله لم يتجاوز آراء الامام زيد، فأفاض في احترام الشيخين والثناء عليهما «1» وأنكر أن يعدّ من الزيدية أصلا من يقول بالرجعة

_ - ما تقوله الامامية، وعلى الصفة التي يقولونها، وكان متهما في دينه، ولا سلف لهم في ذلك!» شرح عيون المسائل مجلد 1/ ورقة 51، وانظر نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام للأستاذ الدكتور علي سامي النشار 2/ 178 - 179. (1) انظر تعريفنا القادم بكتابه (جلاء الأبصار) وانظر شرح العيون 1/ 51، وقد جرت عادته بالترضي عن الشيخين حيث ورد ذكرهما في تفسيره، وقد أفاض في هذا التفسير في الثناء على الصحابة جميعا رضوان الله عليهم، وبخاصة على الخلفاء الراشدين، في أحكامه التي يستنبطها من الآيات، وبمناسبة الكثير من أسباب النزول. وقد حكم على الرافضة والمارقة الذين وقعوا في الصحابة واتهموهم بالنفاق، بأنهم كفرة فجرة- انظر ما وقف عليه من الأحكام الكثيرة في تفسيره لقوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) في سورة الحشر/ ورقة 92/. وقال في قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ» من سورة الحديد، إنها نزلت في أبي بكر فيما رواه الكلبي، قال الحاكم: «وذلك لأنه من السابقين إلى الانفاق فانتظم أولا وأظهر الاسلام ودعا إليه وقاتل على الاسلام، وأول من أنفق ماله في سبيل الله، ودامت صحبته، وكثر في باب الدين تأثيره حتى أقر القوم له بالتقديم والسبق، وقدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وصاهره على أم المؤمنين، وقدمه على أصحابه، وجعله وزيره وصاحب سره وأنيسه سفرا وحضرا، ومدحه في مقاماته وشكر له سعيه في الاسلام» التهذيب ورقة 85/ و. وقال في قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ- الشَّجَرَةِ

أو بأي رأي ثنوي آخر «1». ونجده في كتابه «التأثير والمؤثر» يعقد فصلا خاصا لموضوع الامامة، تحت عنوان: «فصل في الامام» يبين فيه عن رأيه في

_ ) «إنها تدل على أنهم جميعا كانوا من أهل الرضا، لذلك أطلق المدح والرضا. وتدل على أن ظاهرهم كان كباطنهم بخلاف ما تقوله الرافضة المارقة إن أكثرهم كانوا منافقين، عن جابر: بايعنا رسول الله على أن لا نفر وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وبايع عثمان بإحدى يديه على الأخرى، وقال الناس: هنيئا لأبي عبد الله» - التهذيب في تفسير سورة الفتح ورقة 58/ ظ. وقال في قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) إن أكثر المفسرين علي أن الداعي أبو بكر وعمر، والمدعو إليهم فارس والروم وهوازن وثقيف، لأنهم كانوا بهذه الصفة. ثم قال: «فوجب أن يكون نصا على إمامتهما. قلنا: نص على الوصف لأنه لم يبين من الداعي، فلما اختاروه علمنا بالآية وجوب طاعته، ودل ذلك على صحة الاختيار، وكون الامامة على هذا الترتيب، هكذا ذكره مشايخ أهل العدل. وتدل الآية على وجوب طاعته فيما دعا إليه ووعيد من تخلف عنه» التهذيب ورقة 58/ ظ. وانظر الورقة: 27، 28 في تفسيره لسورة (فصلت) ومواضع أخرى. (1) راجع شرح العيون 1/ 22، ولا بد- على كل حال- من إعادة النظر في تاريخ الزيدية وآرائهم في الدين والامامة على ضوء كتب الحاكم الذي عد الجارودية والأبترية- أصحاب سليمان بن جرير- من فرق الزيدية التاريخية ونص على أن الزيدية في عصره فرقتان: قاسمية ينتسبون إلى الامام أبي محمد القاسم ابن إبراهيم، وناصرية ينتسبون إلى الامام الناصر للحق الحسن بن علي عليهم السلام. (راجع شرح العيون 1/ 22 - 23).

هذا الموضوع الهام، قال: «الامامة رئاسة عامة. ولا يجب إقامته- أي الامام- عقلا وإنما هو من فروض الكفايات لإجماع الصحابة على ذلك، ولإقامة الحدود التي أوجبها الله تعالى، ولا يقوم بها كل أحد. وقد يجب نصب الرئيس إذا غلب على ظنهم أن الضرر لا يندفع إلا به، ولا يجب نصبه لمعرفة شكر نعمة الله تعالى، ولا يحتاج إليه ليعلم الدين من أصول التوحيد والعدل والشرائع، ولا حفظها، لأن كل ذلك محفوظ مع عدم الامام، وإنما يحتاج إليه لأمور شرعية، كإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، وجباية الأموال ووضعها في مصارفها، ونصب القضاة والأمراء ونحو ذلك. وتجب إقامته إذا أمكن. ولا بد للإمامة من طريق، ولم يوجد نص من الله تعالى ولا من رسوله على أحد فليس النص بطريق لها، وكذلك المعجز ليس طريق الامامة، وكذلك الخروج بالسيف أو الدعاء إلى النفس، وكذلك الوراثة، وإنما طريقها الاختيار. «ولما كانت الامامة أمرا شرعيا كانت شرائطها مأخوذة من الشرع، فمن شرائطه- الإمام- العلم بالشرع حتى يمكنه تنفيذ الأحكام، والعلم بتدبير الحروب ونحوه ليمكنه القيام به ومنها الأمانة فيكون عدلا مؤتمنا على الأموال والفروج. ومنها أن يكون أفضل أو كالأفضل، ولا يجوز إمامة المفضول إلا لعذر، وعند الأعذار يجوز. ولا يجب أن يكون معصوما ولا أن يعلم جميع علوم الدين والدنيا كما لا يجب ذلك في القضاء ... ولا يجب أن يكون أعلم أهل زمانه، ويجوز أن يحتاج إلى غيره في العلوم؛ ألا ترى أنه يرجع إلى أهل الصناعات في قيم وأروش الجنايات! ...

«والذي لأجله بويع المفضول وجوه: منها أن يكون أعلم بوجوه السياسة، أو يكون في الفاضل علة تقعده عن القيام بالامامة بأن يكون عبدا أو مريضا مرضا ينفر أو بخيلا أو جبانا، أو يكون المفضول أشد اشتهارا في العامة والخاصة، أو يكون انقياد الناس له أكثر، أو يكون- الفاضل- له عذره في حال العقد كغيبته وحضور المفضول في البلد الذي مات فيه الإمام أو يكون قريبا ... «ويجب أن يكون الإمام واحدا، فإن بويع لاثنين فالأول هو الإمام، فإن لم نعلم السابق، قال أبو علي: نستعمل القرعة، وقال أبو هاشم: لا يجوز استعمال القرعة، ولكن يبطل العقدان ويستأنف العقد لأحدهما ... » «1» ولا يذكّرنا هذا النص الهام بآراء المعتزلة في الإمامة فحسب، بل يذكرنا كذلك بشيء من فلسفة الحكم في الإسلام، وفي أحدث النظم والقوانين الدستورية.

_ (1) التأثير والمؤثر للحاكم ورقة 105.

الفصل الثاني آثاره

الفصل الثاني آثاره تتبين لنا منزلة الحاكم رحمه الله في الفكر الاسلامي بعامة من خلال آثاره ومصنفاته الكثيرة في التفسير والحديث والكلام والفقه والتاريخ، على قلة ما وصلنا منها، ولهذا فإننا لم نبعد حين عددناه أشهر رجالات المدرسة الجبائية بعد القاضي عبد الجبار، بل إننا نجد فيه الحلقة المفقودة من حلقات الاعتزال بين القاضي والزمخشري. وسوف نرى من خلال كتبه مدى الدور الهام الذي قام به في حفظ بقية صالحة من تراث المعتزلة، وبخاصة في تفسيره (التهذيب) الذي وضع بين أيدينا- للمرة الأولى- خلاصة تفاسير المعتزلة قبله، والتي نفقدها جميعا على وجه التقريب، هذا إلى جانب ما أضافه من آراء وأفكار في التفسير وعلم الكلام. وقد فطن مؤرخو الزيدية- المعتزلة- إلى هذه المكانة التي يحتلها الحاكم فوصفه يحيى بن حميد- كما رأينا- بأنه «رأس العدلية وناصر مذاهبهم بما هو القاطع القاصم» ووصفه أبو الرجال الصنعاني وإبراهيم بن القاسم بأنه كان «إماما عالما مصنفا صادعا بالحق» «1» وقال فيه يحيى بن الحسين إن

_ (1) مطلع البدور 4/ 414 وطبقات الزيدية ورقم 173.

اولا: في تفسير القرآن

«شهرته ظاهرة، وكتبه شاهدة له بالتبريز» «1» وأثنى صاحب شرح الأزهار على اطلاعه الواسع على علوم كثيرة، فقال إنه «كان علّامة في فنون كثيرة» «2» وخصه يحيى بن الحسين بالتفوق من هذه العلوم في التفسير وعلم الكلام، فقال إنه «علامة عصره وفريد دهره في علم التفسير وعلم العدل والتوحيد» «3» وقد بلغت مصنفاته نيفا وأربعين كتابا، ذكرت كتب التراجم والطبقات من أسمائها ما يقارب الثلاثين، نوردها فيما يلي مرتبة بحسب العلوم، مع التعريف بما وصل إلينا منها، وذكر بعض الملاحظات الضرورية- إن وجدت- لجلاء هذا التعريف. اولا: في تفسير القرآن 1) التهذيب في التفسير 2) تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين ذكرهما يحيى بن حميد، والجنداري، وأبو الرجال الصنعاني، ويحيى ابن الحسين، وابن القاسم. 3) التفسير المبسوط 4) التفسير الموجز ذكرها يحيى بن حميد، والصنعاني، وابن الحسين، وابن القاسم.

_ (1) الطبقات الزهر ورقة 34. (2) صفحة 32. (3) الطبقات الزهر ورقة 34.

1 - و (التهذيب)

وقد وصلنا من هذه الكتب كتابا التهذيب، وتنبيه الغافلين، وقد نصت كتب التراجم على أن تفسيريه: المبسوط والموجز، باللغة الفارسية. ولعلهما مما ألفه بهذه اللغة، لأنني قد وقفت في بعض الإجازات على أن للحاكم «مصنفات عدة منها موضوع بالفارسية» «1» والأرجح أن يكون قد كتبهما بعد (التهذيب) لأنه لم يذكرهما أو يعرض لهما في محل واحد من هذا الكتاب، ومن الراجح أيضا أن يكون قد أفاد في وضعهما منه سواء كتبهما بالعربية أو الفارسية. 1 - و (التهذيب) هو موضوع هذه الرسالة، ويوجد منه بمكتبة الجامع الكبير بصنعاء اليمن بضعة عشر مجلدا كتب أكثرها بخط قديم يرجع إلى حوالي عصر المؤلف «2» وتشتمل هذه المجلدات على تفسير كامل للقرآن، مع وجود أكثر من نسخة من تفسير بعض السور والأجزاء، وقد صورت دار الكتب المصرية من هذه المجلدات سبعا فقط كانت عمادنا في هذا البحث. 2 - تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين: أما كتابه (تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين) فقد خصه بالآيات التي نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسائر أهل البيت، أوردها مرتبة بحسب ترتيبها في السور، وعقبها بذكر الآثار والأخبار الدالة على أنها نزلت فيهم، وقد قال فيه صاحب شرح الأزهار إنه «لا نظير له في

_ (1) طبقات ابن القاسم، ص 93. (2) راجع فهرس المكتبة المذكورة صفحة 18.

الآيات الواردة في أمير المؤمنين وأولاده وغيرهما» «1» وقد تحدث الحاكم عن موضوع هذا الكتاب في المقدمة التي صدره بها فقال: «وقد جمعت في كتابي هذا ما نزل فيهم- آل البيت- من الآيات مما ذكرها أهل التفسير وصحت بالروايات الصحيحة، وألحقت بكل آية ما يؤيدها من الآثار بحذف الأسانيد طلبا للتخفيف وإيثارا للإيجاز، وبينت في كل آية ما تتضمن من الدلالة على الفضيلة والامامة، من غير تطويل: لتكون تذكرة للمهتدي! وتنبيها للمبتدي، ولتكون ذخيرة ليوم الحشر رجاء أن أحشر في زمرتهم وأعد في جملة شيعتهم، وسميته: تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين» «2» وقبل أن يشرع في كتابه على هذا المنهج استهله بالحديث عن (فضل أهل البيت على الجملة عليهم السلام) في فصل مختصر قال فيه: «المروي عن ابن عباس أنه قال: ما أنزل الله تعالى في القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلا وعليّ أميرها وشريفها» وقال إن الله تعالى عاتب أصحاب محمد في غير آية وما ذكر عليا إلا بخير، قال الحاكم: «ولا شبهة أن كل ما ورد في القرآن من آية تتضمن مدحا وتعظيما وإكراما وتشريفا أن أمير المؤمنين معني بها داخل فيها، ولا وعد برحمة في العقبى ولا نصرة في الدنيا إلا وهو مراد بها، نحو قوله: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)

_ (1) صفحة 32. (2) تنبيه الغافلين ورقة 2 مصور دار الكتب رقم 27622 ب، عن مكتبة صنعاء 159 (علم كلام).

ثانيا: في علم الكلام

(وَالصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ) (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) ... الخ» «1». ثانيا: في علم الكلام 1) كتاب عيون المسائل: ذكره الجنداري ويحيى بن حميد وأبو الرجال الصنعاني ويحيى ابن الحسين وإبراهيم بن القاسم «2». 2) شرح عيون المسائل: ذكره الجنداري ويحيى بن حميد والصنعاني ويحيى بن الحسين وابن القاسم. 3) رسالة إبليس إلى المجبرة: ذكره ابن شهراشوب وابن المطهّر الحلّي والجنداري وابن حميد والصنعاني ويحيى بن الحسين وابن القاسم «3». 4) الرد على المجبرة: ذكره الجنداري «4».

_ (1) تنبيه الغافلين ورقة 4. [وقد طوينا بضع صفحات تضمنت نموذجا من هذا الكتاب، وملاحظاتنا العامة حوله، طلبا للاختصار، ورجاء العودة للكلام عليه بعد الفراغ من تحقيقه]. (2) قال فيه يحيى بن الحسين: «كتاب العيون: مجلد، وهو الذي اختصر منه الإمام المهدي كتاب القلائد». (3) هكذا سمى الرسالة ابن شهراشوب (معالم العلماء ص 83) وصاحب نضد الإيضاح الذي رتب فيه كتاب شيخه الحلي، الموسوم بإيضاح الاشتباه في أسماء الرواة (انظر نضد الايضاح المطبوع بهامش فهرس الطوسي: ص 260) وانفرد الجنداري بتسميتها برسالة الشيخ إبليس إلى إخوانه المناحيس، وسماها الصنعاني برسالة الشيخ أبي مرة فقط، وسماها ابن حميد ويحيى بن الحسين رسالة أبي مرة إلى إخوانه المجبرة، واكتفى ابن القاسم بتسميتها برسالة الشيخ. (4) لعلها نفس رسالته السابقة الذي وضع لها الجنداري العنوان السابق البعيد عن لفظ المجبرة انظر الهامش السابق.

5) كتاب المؤثرات: ذكره الجنداري. 6) كتاب الامامة: ذكره يحيى بن حميد، والصنعاني ويحيى بن الحسين «1». 7) تنزيه الأنبياء والأئمة: ذكره ابن حميد والصنعاني وابن الحسين وابن القاسم «2». 8) تحكيم العقول في الأصول: ذكره ابن حميد والصنعاني وابن الحسين وابن القاسم «3». 9) كتاب العقل: ذكره ابن حميد والصنعاني وابن القاسم. 10) التأثير والمؤثر: ذكره ابن حميد والصنعاني وابن الحسين «وزاد: في أصول الدين» وابن القاسم. ولعل كتاب المؤثرات السابق هو هذا. 11) الأسماء والصفات: ذكره ابن حميد والصنعاني وابن الحسين وابن القاسم. 12) الانتصار لسادات المهاجرين والأنصار: ذكره ابن حميد والصنعاني وابن الحسين وابن القاسم «4».

_ (1) قال يحيى بن الحسين: الإمامة على مذهب الهدوية، وقالا: على مذهب الزيدية. (2) ابن حميد وابن الحسين لم يضيفا (الأئمة) إلى عنوان الكتاب. (3) انفرد ابن الحسين بتسميته: تحكيم العقول في علم الأصول. ويبدو أن هذه الإضافة خطأ ظاهر. (4) سماه ابن القاسم: (الانتصار) فقط.

1 - التأثير والمؤثر:

13) الرسالة الباهرة في الفرقة الخاسرة: ذكره يحيى بن الحسين، قال: «يعني الباطنية». 14) الرسالة الغرّاء: ذكرها ابن حميد والصنعاني ويحيى بن الحسين وابن القاسم. 15) الحقائق في الدقائق: كذا ذكره ابن حميد وابن الحسين، وقال الصنعاني وابن القاسم: (الحقائق والوثائق). وليس لدينا اليوم من هذه الكتب سوى كتابي (التأثير والمؤثر) و (شرح عيون المسائل). 1 - التأثير والمؤثر: أما التأثير والمؤثر فقد أشار المؤلف فيه- وبهذه التسمية الدقيقة- إلى موضوع الكتاب الرئيسي، وهو البحث في علل الأشياء من الخلق والإبداع وحدوث الأفعال، وفي كيفية الخلق والإيجاد، وهل كان ذلك لعلة أو لمؤثر، وهل العالم قديم أم محدث .. مع الكلام في صفات القديم تعالى، من القدرة والعلم والحياة، ومدى تأثيره تعالى- الذي أبدع الكون وخلقه من العدم- في الكون، وأنه تعالى هو خالق الأعراض المؤثرة ... الخ، وقد قال المؤلف في خطبة الكتاب: «أما بعد فإني وجدت مبنى الديانات كلها أصولها وفروعها على معرفة ما يؤثر وما لا يؤثر، وكيفية التأثير، وصفات المؤثر وما يؤثر فيه، حتى ضلت بالجهل بذلك أقوام جمة وتحيرت أمم كثيرة، فأنكر بعضهم الاختراع، وأحالوا حدوث شيء لا من شيء، ونفوا الصانع المبدع، وقالوا بقدم العالم، ولما رأوا حوادث تحدث ألجأهم ذلك إلى تعليلها بمؤثر فأضافوها إلى ما لا

يعقل، وطلبوا لكل حادثة علة، وقطعوا الأحداث عن القديم المبدع الحكيم، وأثبتوا هيولى قديمة، وزعموا أن المركبات منها حصلت، جهلا منهم بالحقائق وقلة تأمل في الدلائل ... ». ثم عرض لمن نفى الأعراض المؤثرة التي هي علل الصفات، والذين أحالوا بالأحوال على ما لا تأثير له، أو على ما لا يعقل من الطبائع والجمادات، ثم أشار «لمن ذهب في الفساد كل مذهب» من الذين أضافوا الحوادث إلى الكواكب أو الجمادات، أو الذين زعموا قدم العالم، أو أثبتوا صانعين قديمين، أو أخطئوا في فهم الصفات الإلهية .. ورد جميع أخطائهم إلى عدم فهم التأثير والمؤثر وصفاته .. ثم قال: «ووفق الله تعالى مشايخ التوحيد والعدل الذين هم فرسان الكلام وحرّاس الاسلام، وعلماء الأمة والذابّون عن الملة .. حتى بينوا الصحيح من الفاسد، والحق من الباطل، وأثبتوا العالم فعلا محدثا، وأثبتوا له صانعا ومبدعا، وأثبتوا له- للصانع- صفات ككونه قادرا عالما حيا، وأحالوا حدوث شيء من الأجسام من شيء، وأبطلوا التأثير إلا من قادر حي، وقالوا إن جميع أجسام العالم وأكثر أعراضها مخترعة، وأثبتوا الأعراض من جهة الحي القادر، وأحالوا تأثير الطباع والجمادات وما يزعمه أهل النجوم .. ». وختم مقدمة الكتاب ببيان ما جمعه من الكلام في موضوع التأثير والمؤثر، وذكر مشايخه الذين جمع ذلك عن كتبهم، فقال: «فرأيت جملا وجوامع من الكلام فيما يؤثر وما لا يؤثر وكيفية التأثير وصفات المؤثر، من غير بسط لتكون مجموعا سهل التناول قريب المأخذ» قال: «وجميع ذلك مما بلغني عن المشايخ المتقدمين والمتأخرين مما رأيناه في

2 - شرح عيون المسائل

كتبهم أو قرأناه في مصنفاتهم ورسائلهم، خصوصا من كتب الشيوخ الأربعة: الشيخ أبي علي محمد بن عبد الوهاب، والشيخ أبي هاشم عبد السلام بن محمد، والشيخ أبي عبد الله الحسين بن علي البصري، وقاضي القضاة عماد الدين أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد رضي الله عنهم ... ». ثم بدأ كتابه بالحديث عن القديم تعالى لأن التأثيرات كلها تنتهي إليه، ثم أوجز الكلام في موضوعات كثيرة عقد لها فصولا خاصة: «فصل في التكليف- الثواب- الوعد والوعيد، الأسماء والأحكام، أحكام الآخرة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإمام، الأسماء والصفات والأحكام .. » وهو آخر فصول الكتاب، أو الموجود منه، لأن آخر ما لا ندري مقداره قد أصاب نهاية هذه النسخة الوحيدة «1». والقسم الموجود يقع في سبع ومائة ورقة. وقد نقلنا من الكتاب رأي المؤلف في موضوع الإمامة، ونجتزئ به عن تكرار مثال آخر. ومنهج المؤلف واضح على كل حال، وقد ذكر بنفسه الكتب التي نقل عنها، وهو يؤيد ما رجحناه من نسبته إلى المدرسة الجبائية، وعنايته بآراء القاضي رحمه الله. 2 - شرح عيون المسائل أما شرح العيون فهو من أهم كتب الحاكم بإطلاق، ولعله أهم كتبه في علم الكلام، وقد استجاب فيه المؤلف- كما ذكر في المقدمة- إلى طلب بعض إخوانه في الدين شرح كتابه (عيون المسائل) «على طريقة الإيجاز

_ (1) نرجو أن نتمكن من العثور على نسخة أخرى منه في وقت قريب.

والاختصار» «1» وإن كان قد جاء هذا الشرح وافيا كبيرا في الواقع، وقد جرت عادته على ذكر (المتن) باسم: الأصل، يورده ثم يقول بعد ذلك: الشرح، ويبدو من نصوص هذا «الأصل» أنه صغير الحجم، كما أنه لا ذكر له في بعض أقسام الكتاب «2». وقد جعل المؤلف هذا الشرح الجامع في سبعة أقسام: القسم الأول في ذكر الفرق الخارجة عن الإسلام، والثاني في الكلام في فرق أهل القبلة، والثالث في «ذكر المعتزلة ورجالهم وأخبارهم وما أجمعوا عليه من المذهب وذكر فرقهم» والقسم الرابع في الكلام على التوحيد، والخامس في التعديل والتجوير، والسادس في الكلام في النبوات، والقسم الأخير في أدلة الشرع. ويبدو اعتماد المؤلف على كتب القاضي عبد الجبار واضحا في هذا الكتاب، بل إنه في القسم الثالث منه، وهو المتصل برجال المعتزلة، يعتمد اعتمادا كاملا على كتاب القاضي (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة) «3» الذي تحدث القاضي فيه في قسمه المتصل بفضل الاعتزال عن أسماء المعتزلة وألقابهم، وعن فضل الاعتزال وسند المعتزلة، وناقش فيه من يتهم المعتزلة بأنهم القدرية، ومن يحرم الخوض في الكلام، وأن المعتزلة أبدعوا في

_ (1) مقدمة شرح العيون ورقة 2. (2) راجع الأقسام الثلاثة الأولى، وهي الخاصة بالمذاهب والفرق ورجال الاعتزال. وقد وقعنا أخيرا على هذا الأصل عن طريق بعض رجالات اليمن الأفاضل. (3) مخطوطة أصلية وحيدة، وضعها بين أيدينا الأستاذ فؤاد سيد.

الإسلام حدثا جديدا ... إلى أمور كثيرة أخرى عقد لها فصولا موجزة، والذي رتب المعتزلة في قسمه الثاني في عشر طبقات أولها طبقة الصحابة، كعلي وأبي بكر وعمر وأبي ذر الغفاري، وآخرها طبقة الذين أخذوا عن أبي هاشم وعمن هو في طبقته «مع اختلاف درجاتهم وتفاوت أحوالهم». وقد ضمّن الحاكم القسم المذكور من كتابه جميع ما كتبه القاضي في كتابه (فضل الاعتزال ... ) فأخذ الطبقات العشر المذكورة فوضعها في هذا القسم مع تصرف يسير في العبارة وعدم الالتزام بالإشارة إلى النقل عن القاضي- بقوله المعهود قال قاضي القضاة- حتى حين يكون الكلام بحروفه من كتاب القاضي رحمه الله، كما أخذ القسم الأول المتصل بفضل الاعتزال فقدم به- فعل القاضي- لهذه الطبقات وإن كان قد اختصر منه بعض الفصول الهامة في الواقع، والتي تتجاوز ثلث هذه الفصول الفريدة «1». والجديد الذي قدمه الحاكم في هذا القسم، أو في موضوع طبقات المعتزلة، هو ما أضافه إلى طبقات القاضي العشر السابقة، وهي إضافات هامة في الواقع بما أكملت من حلقات الاعتزال إلى عصره، وبما أضافت وأوضحت من أعلام الأدب والشعر والفقه والقضاء الذين ذهبوا إلى الاعتزال، أضاف الحاكم أولا طبقتين أخريين: الطبقة الحادية عشرة والطبقة الثانية عشرة، وقد جعل على رأس الطبقة الأولى قاضي القضاة عبد الجبار ابن أحمد ومن هو في منزلته، وخص الثانية «بأصحاب قاضي القضاة» وهم تلامذته ومن أخذ عنه، ومنهم بعض شيوخ الحاكم نفسه كما رأينا.

_ (1) وربما قاربت النصف، وسيتبين ذلك عند ما تنشر طبقات القاضي رحمه الله.

ثم عقد فصولا كثيرة فيمن ذهب مذهب العدل من العترة، وممن بويع له بالخلافة، وممن كان من الأمراء والرؤساء، وفصولا أخرى فيمن ذهب مذهب العدل من الفقهاء ورواة الأخبار والزهاد «1» أعقبها بذكر من أدركه من أهل العدل، وذكر من ذهب إلى الاعتزال من الشعراء وأئمة اللغة. وختم هذه الفصول بالحديث عن خروج أهل العدل، متى خرجوا ومع من من الأئمة والدعاة، ويبين هذا الفصل الموجز الهام مدى صلة المعتزلة بالشيعة، ومدى مشاركة المعتزلة في الحياة العامة، وأنهم لم يسموا معتزلة لاعتزالهم الناس كما يرى بعضهم. ويقرب هذا القسم الذي أضافه الحاكم في الطبقات من أربعين ورقة في حين لا تزيد طبقات القاضي خاصة عن ستين. ومما تجدر الإشارة إليه بعد ذلك أن ابن المرتضى (المتوفى سنة 840) قد أخذ طبقات المعتزلة على هذه الصفة التي تركها عليها الحاكم، وجعلها

_ (1) ويعتمد الحاكم في هذه الفصول أيضا على القاضي، وإن كان لا أثر لها في كتابه «فضل الاعتزال». وربما ضمنها بعض كتبه الأخرى، كما يعتمد على مقالات أبي القاسم البلخي ومحمد بن يزداد وأبي بكر بن الإخشيد وأبي الحسن ابن فرزويه وأبي عبيد الله المرزباني وغيرهم، وهؤلاء ممن اعتمد عليهم القاضي نفسه- وكلهم ممن تقدمه- في طبقاته ونقل عنهم، وفي مقدمة التحقيق التي كنا بدأنا بإعدادها لطبقات القاضي [مشاركين في تحقيقه الأستاذ فؤاد سيد رحمه الله] تفصيل واف لقصة الطبقات، ودور كل من العلماء السابقين في كتابتها ودور ابن المرتضى فيها بعد ذلك. [ونرجو أن ننشر ذلك الآن في بعض المقالات والأبحاث].

في صدر كتابه (المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل) وأسقط منها بعض الفصول الأخيرة، واختصر بعضها الآخر اختصارا مخلا، وقدم وأخر في بعض الفصول والتراجم، كما أضاف إلى بعض التراجم إضافات قليلة لا تكاد تذكر. وقد جرى على سنّة الحاكم في طبقات القاضي حيث لم يلتزم الإشارة إلى الحاكم فيما ينقله عنه، ولو كان الكلام بحروفه من كلام الحاكم رحمه الله، والراجح أن يكون اطلاعه على جميع الطبقات إنما كان من كتاب الحاكم على الرغم من قوله في آخر الطبقة العاشرة إنه لما فرغ من الطبقات التي ذكرها القاضي ذكر طبقتين أخريين ذكرهما الحاكم، وذلك لنقله عنه في طبقات القاضي بعبارة قال الحاكم، ولأن ما ورد عنده من كلام القاضي- مما تصرف فيه الحاكم في بعض الأحيان- وصدره بقوله: قال القاضي، موافق لما في شرح عيون المسائل لا لما في فضل الاعتزال للقاضي رحمه الله، ولأسباب أخرى لا مجال للحديث عنها في هذه العجالة «1».

_ (1) نشرت طبقات ابن المرتضى أولا سنة 1316 بحيدرآباد الدكن بالهند بتصحيح توما أرنلد باسم (باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل) في سبعين صفحة فقط، ثم نشرت في بيروت على يد المستشرقة سوسنة فلزر سنة 1380 باسم طبقات المعتزلة بزيادة من ذهب إلى الاعتزال من أهل العترة وطوائف أخري آخرهم رواة الأخبار. ولم تكتف المحققة المذكورة بالنقص الذي ألحقه ابن المرتضى في هذه الفصول وفي سائر الطبقات، حتى أدخلت الحيف الشديد على الطبقات كلها بما وقعت فيه من تخبط عجيب في قراءة الأسماء والأعلام، وبالتصحيفات الكثيرة التي تملأ صفحات الكتاب، حتى جعلت العلم علمين، والنسبة نسبتين، والكتاب كتابين، فابن يزداد يصير مرة ومرات ابن أبي دؤاد، وأبو سلمة الخلال يصير أبا سلمة الحذاء،-

وقد رجعنا إلى «شرح عيون المسائل» في مواطن كثيرة من هذا

_ - والأرجاني إلا رجائي (من الارجاء)، وكتاب المغني للقاضي عبد الجبار يصبح كتابين! المغني، والمغنى ببركاته، لأن القاضي تحدث عنه في ترجمة أبي العباس الرامهرمزي، فقال إن لشيخه الرامهرمزي مسجدا كبيرا كان يقعد فيه القاضي كثيرا. وفيه ابتدأ إملاء المغني ببركاته- أي ببركات شيخه أو مسجده- فصار «المغنى ببركاته» كتابا آخر! عدا التصحيفات التي لا تحصى في النص. «فاللطف» وهو من مبادئ المعتزلة الهامة- يكتب «اللطيف» والمناظرات «المدونة» تصبح «الممدودة» و «الأسباط» الأوساط، إلى أمور أخرى سنوضحها في مناسبة أخرى إن شاء الله. وإن كان من ألطف هذه الأمور أنها جعلت مصنفنا الحاكم الجشمي: الحاكم النيسابوري! وقالت: لعله أضاف الطبقات الأخيرة في كتابه المفقود «تاريخ نيسابور» وإذا سلم بأن الحاكم النيسابوري- الفقيه المحدث- أهمه شأن المعتزلة فجأة! بل صار واحدا من أشياعهم وأتباعهم- لأن الذي كتب ترجمة القاضي عبد الجبار لا يمكن أن يكون غير معتزلي، والذي يقول في أحد رجال الطبقة الثانية عشرة: إنه قد تلقى عليه العدل والتوحيد لا يمكن أن يكون غير معتزلي أيضا- فإن الذي لا يجوز أن يغفل عنه أن الحاكم النيسابوري توفي سنة 405. وأول رجال الطبقة الحادية عشرة وفاة هو القاضي عبد الجبار الذي توفي سنة 415 كما نص كاتب هذه الطبقة والطبقة التالية ... وقد لاحظت المحققة المذكورة أن الطبقات التي أضافها الحاكم- أي حاكم- موجزة بعض الشيء، أو أن أسلوبها يختلف الى حد ما عن طبقات القاضي، ولم تجد تعليلا- علميا- لهذا الاختلاف إلا أن أصحاب هذه الطبقات الأخيرة كانوا فيما يبدو مشهورين معروفين في زمان ابن المرتضى الذي توفي سنة 840 ولا ندري هل تعتقد أو تظن أنهم كانوا معاصرين له كذلك حتى استغنى عن-

ثالثا: في الحديث

البحث، ونقلنا منه أكثر من نص بما يغنينا عن ذكر نموذج منه هنا في ختام التعريف به. ثالثا: في الحديث وله في الحديث كتاب «جلاء الأبصار في متون الأخبار» ذكره ابن شهراشوب والاسفندياري وابن المطهّر الحلّي «1» والجنداري ويحيى بن الحسين وإبراهيم بن القاسم. ووصفه الجنداري بأنه «مسند» وقال في الحاكم إنه «ليس بذاك في الحديث» والكتاب بين أيدينا اليوم وليس «مسندا» كما قال الجنداري، كما أن الحاكم لم يتعقب فيه الأحاديث بالنقد والترجيح وذكر الروايات وطرق الحديث حتى يمكن للجنداري أن يحكم عليه أيضا. والكتاب موضوعي مرتب بحسب الأبواب وإن كان ترتيبا خاصا لم يراع فيه المؤلف أبواب الفقه، أو الأبواب التي درج عليها المحدّثون. وقد قسمه إلى ستة وعشرين بابا أولها في الإيمان وفضله، وآخرها في ذكر الجنة والنار وما يتصل بذلك. وقد جعل الباب الثاني في فضل الدعاء والثناء على الله عز وجل والفزع اليه عند النوائب. والباب الثالث في فضل العلم والعلماء، والرابع في القرآن وفضله وما يتصل به، وخص الباب السادس

_ - الافاضة في ترجماتهم!! ومثل هذه الملاحظة لا يصعب أن يهتدى إليها أو يومئ إليها من يهتدي إلى الحاكم النيسابوري وتاريخه المفقود!!! راجع طبقات المعتزلة نشرة سوزانا فلزر، الصفحات: 126/ 150/ 44/ 64/ 119/ 120/ 178، وانظر مقدمة المحققة: الصفحات: يد/ يه/ يو. (1) انظر معالم العلماء صفحة 83. والذريعة إلى تصانيف الشيعة 5/ 122، ونضد الايضاح ص 260.

بالحديث عن فضل أمير المؤمنين علي عليه السلام وسائر أهل البيت. وتحدث في أبواب أخرى عن التوبة، والصلاة، والصيام، والزهد، والحج، والسفر، والجهاد، والشعر، والخطب والمواعظ، وأمور أخرى. وقد صدر الحاكم الباب الأول- وهذا من الأمور الهامة- بإسناده إلى علي بن موسى الرضا عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح» قال الحاكم رضي الله عنه: معنى هذا الخبر أن المؤمن من اجتمعت فيه هذه الخصال. وهذا مذهب أهل العدل ... الخ. وهو في كتابه هذا كثير الاستطراد، وبخاصة إلى مسائل التفسير والكلام وهو بسبيل الشرح والتعليق على بعض الأحاديث، ففي الباب الثاني مثلا يتعرض للحديث عن أنواع العلم وفنونه، ويستفيض في الكلام على حديث العرض، وعلى حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ويشير إلى صحة العمل بالقياس، ويناقش مسألة الرؤية بكلام طويل، يضارعه بحث آخر في القدر والصفات ... إلى أبحاث أخرى كثيرة. وفي الباب الخامس الذي خصه للكلام على فضل النبي صلّى الله عليه وسلم وذكر أشياء من معجزاته وأخباره، يبدأ الكلام بتفسير قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) مع بيان سبب النزول، ثم يتكلم عن حديث انشقاق القمر، يتبع ذلك بسرد النسب الشريف، والوقوف عند كل فرد من أفراده بتعريف عابر، ثم يذكر الأحاديث المتعلقة بالسيرة الشريفة من المولد إلى الوفاة.

وقد قال قاضي اليمن العالم المعاصر الشيخ حسين السياغي في هذا الكتاب: «إنه يتضمن فصولا ثقافية قيمة تشتمل على تفسير كثير من آيات الله من كتابه العزيز، وعلى تفسير جمل من الأحاديث من السنة النبوية، وعلى جمل من أقوال العلماء والزهاد مع الاستشهاد بكثير من أقوال الأدباء والشعراء، ويتعرض مؤلفه في كل مناسبة لمذهب الاعتزال كمثل القدر وخلق القرآن والصفات ونحو ذلك، ويذكر المختار بصورة وجيزة» «1» وقال في موضع آخر: «والمؤلف يؤيد الاعتزال في كل مناسبة، وهو شيعي إلا أنه لا يتعدى مذهب أهل السنة والجماعة في شأن الصحابة رضي الله عنهم، وآخر كلام له في كتابه يدل على ذلك، حيث يقول: وبإسناده إلى أبي سعيد الخدرى، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أهل عليين ليراهم من هو أسفل منهم كما ترون الكواكب في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم. وفي رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أهل الدرجات العلى ليراهم من هو أسفل منهم كما ترون الكواكب في الدنيا من أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم. قال الحاكم الإمام رضي الله عنه: الخبر يدل على فضل أبي بكر وعمر وأنهما من أهل الجنة، وهذا مثل، وأراد بعد المنازل في الثواب لا بعد المكان» «1». ويذكّر كتاب الحاكم بكتاب القاضي عبد الجبار في الحديث: (نظام الفوائد وتقريب المراد للرائد) الذي جاراه الحاكم في ترتيب أكثر أبوابه فيما يبدو، أو الذي رتب على قريب من كتاب الحاكم، لأن كتاب

_ (1) من تعريف بالكتاب للقاضي السياغي وافانا به- جزاه الله خيرا- في رسالة خاصة.

رابعا: في التاريخ

إمامته ومن اختلف فيه، وفيها فنون أخر) «1» وقال ابن الحسين إنها القاضي عبد الجبار- الذي وضعه بطريقة الإملاء- إنما رتبه من بعد القاضي شمس الدين جعفر بن أحمد بن عبد السلام المتوفى سنة 573. وأياما كان الأمر فان عناية الحاكم بالحديث لم تكن بأفضل من عناية القاضي أو غيره من شيوخ الاعتزال. والنسخة التي بين أيدينا اليوم من «جلاء الأبصار» منسوخة سنة سبع وخمسين وألف هجرية برسم مالكها القاضي العلامة صفي الدين أحمد ابن صالح بن أبي الرجال، وتقع في خمسين وأربعمائة صفحة. وفي طبقات الزيدية لابن القاسم، في ترجمة أحمد بن سعد الدين بن الحسين المسوري المتوفى سنة 1079، أن له مختصرا لجلاء الأبصار للحاكم «2» ولكننا لم نقف عليه. رابعا: في التاريخ وله في التاريخ أكثر من مؤلف كما ذكر صاحب شرح الأزهار، ولكن كتب التراجم مجمعة على أن له في التاريخ كتابا كبيرا يبلغ أربعة مجلدات، أسماه: (السفينة) فقد ذكره الجنداري ويحيى بن حميد وأبو الرجال الصنعاني ويحيى بن الحسين وإبراهيم بن القاسم، ووصف اكثرهم هذه (السفينة) بأنها مشهورة. وقد تحدث كل من الجنداري وابن الحسين عن مضمون هذا الكتاب، فقال الجنداري: (وليس مثله في كتب الأصحاب، جمع سيرة الأنبياء وسيرة النبي صلّى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة والعترة إلى زمانه، وذكر من اتفق على

_ (1) شرح الأزهار صفحة 32. (2) انظر الطبقات صفحة 30.

«جمعت بين الزهد والفقه والتاريخ للأئمة السابقين إلى عصره، وللأنبياء منذ آدم الى نبينا صلّى الله عليه وسلم، لكنه في التاريخ باختصار وهو من أجلّ الكتب» «1» وقال كل منهما إنها تقع في أربعة مجلدات «2». ويبدو أن أثر هذه السفينة عند الزيدية كان كبيرا، وقد أكثروا من النقل عنها، وبخاصة فيما يتصل بتراجم الأئمة والدعاة التي عنى فيها الحاكم فيما يبدو عناية كبيرة، وهو ما أشار إليه الجنداري كما رأينا، وفي كتاب (المقصد الحسن والمسلك الواضح السنن لأحمد بن يحيى بن حابس الصعدي) أحد مشاهير علماء الزيدية (المتوفى سنة 1067) نقول كثيرة عن هذه السفينة، حتى إن ترجمة واحدة من تراجم المشهورين الذين ذكرهم ابن حابس لا تخلو من النقل عن الحاكم، وإن كان ابن حابس يختلف معه في عد بعضهم في الدعاة أو الأئمة، قال في ترجمة محمد بن القاسم صاحب الطالقان، ينقل عن الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة: إنه معدود في الزيدية الجارودية، وان له وقعات كثيرة مع جنود المعتصم، وانه قتل بواسط الكوفة، ثم قال: «قال الحاكم: ولم يوقف منه على قتال مشهور كان قتله فيه، وقد قيل انه مات، وقيل هرب» ثم نقل عن المهدي- ابن المرتضى- قوله: والصحيح أنه دعا

_ (1) الطبقات، ورقة 34. (2) [كان وقوفي على نسخة خطية مصورة من هذا الكتاب القيم- في أربع مجلدات- قبل الفراغ من إعداد هذه الرسالة، كما أشرت إلى ذلك في الباب الأخير منها. وأمضي الآن في تحقيقه آملا العثور على مخطوطة أخرى- أو أكثر- في مكتبات اليمن الخاصة].

خامسا: في الفقه

وقتل. قال ابن حابس: وعده الحاكم في الدعاة، والصحيح أنه من الأئمة ... » «1» وتبين نقوله عن الحاكم مدى وضوح عبارته ودقته في تراجم الأئمة والدعاة وسائر السير، ومدى اعتداده برأيه واجتهاده، نقل عنه في ترجمة الامام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين قوله: «وكان جامعا لشروط الامامة، ويضرب به المثل في الشجاعة، وابتلي بحرب القرامطة، وكان له معهم ثلاث وسبعون وقعة. ومات عليه السلام مسموما بصعدة،- ومشهده في مسجده الجامع فيها مشهور- سنة ثمان وتسعين ومائتين عشية الأحد لعشر بقين من ذي الحجة، وكانت مدة خلافته ثماني عشرة سنة، وعمره ثلاث وخمسون سنة» «2» خامسا: في الفقه وله في الفقه على المذهب الزيدي كتاب كبير لعل اسمه «المنتخب» أو «المنتخب في الفقه» على طريقته في تسمية كتابه في تفسير القرآن: التهذيب في التفسير، لأن يحيى بن حميد يقول: «وله كتاب في فقه الزيدية» «3» ويقول الصنعاني: ومن كتبه: «المنتخب في كتب الزيدية «4»»، وعد يحيى بن الحسين من كتبه «كتابا في فقه الهدوية «5»»

_ (1) انظر المقصد الحسن ورقة 183/ و. (2) المصدر السابق. (3) نزهة الانظار ورقة 21. (4) مطلع البدور 4/ 414. (5) الطبقات ورقة 34.

سادسا: في العلوم الأخرى

وقال ابن القاسم: «وله المنتخب» «1» ولعل صواب عبارة الصنعاني: المنتخب في فقه الزيدية، بدليل التسميات الأخرى، ولأنه لو كان مجموعا من كتب الزيدية- أي كتاب من أي لون، لو صح ذلك- لأسماه: المنتخب «من» كتب الزيدية. فالراجح أن الكتاب اسمه «المنتخب» كما ذكر ابن القاسم، وأنه في فقه الزيدية. وأيا ما كان الأمر فإننا لم نقف من هذا الكتاب على شىء! سادسا: في العلوم الأخرى 1 - ترغيب المهتدي 2 - تذكرة المنتهى ذكرهما يحيى بن حميد والصنعاني وابن الحسين وابن القاسم. 3 - الشروط والمحاضرة: ذكره هكذا ابن حميد وابن الحسين وابن القاسم، وأسماه الصنعاني: (الشروط والمحاضر) 4 - بستان الشرف: ذكره ابن حميد وابن الحسين. 5 - نصيحة العامة: ذكره ابن حميد والصنعاني وابن الحسين. وربما كان بعض هذه الكتب في الفقه أو في علم الكلام، ولكن من كتب التراجم لم تشر الى موضوع أي كتاب منها، ولم نقف من هذه الكتب على شيء!

_ (1) الطبقات صفحة 345.

سابعا: تعقيب عام حول ما وصل الينا من كتب الحاكم رحمه الله

سابعا: تعقيب عام حول ما وصل الينا من كتب الحاكم رحمه الله ونختم هذا الفصل بكلمة سريعة حول كيفية وصول بعض كتب الحاكم وسائر كتب الاعتزال الينا عن طريق حفظها في اليمن، وهي غير البيئة التي عاش فيها الحاكم والقاضي عبد الجبار وتلامذته الذين وصل الينا طرف من تراثهم. ولعل من حقنا أن نذكر هذه الكلمة هنا بعد أن بقي الحاكم نفسه- بالاضافة الى كتبه- مجهولا تماما في ميدان الدراسات القرآنية والكلامية، على الرغم من جهوده في حفظ خلاصة قيمة لتفاسير المعتزلة في تفسيره- كما سنرى- وعنايته بطبقات المعتزلة واكمالها الى عصره: «1» يعود السبب في حفظ هذه الكتب كما ألمحنا في التمهيد عند الكلام على دولتي الزيدية في اليمن والديلم، الى الصلات التي كانت بين هاتين الدولتين، وإلى تبادل العلماء وهجرتهم بينهما لدواع كثيرة وقد ذكرنا سابقا أن اليمن بعد أن قتل فيها الامام أبو الفتح الديلمي سنة 444، استولى الصليحي على صنعاء، وخرج الأمر من أيدي الزيدية للصليحيين والهمدانيين حتى سنة 532 حين قام ودعا لنفسه الامام أحمد بن سليمان واسترد صنعاء، وكان لهذه المدة الطويلة التي غاب فيها الزيدية وفكرهم، أثرها الكبير في سعة انتشار المذاهب الباطنية والمنحرفة التي أدخلها الصليحي، فلما عاد الزيدية إلى صنعاء بعد خروج الإمام أحمد بن سليمان ودعوته لنفسه بالإمامة كان لا بد لهم من العمل على إعادة سلطان المذهب

_ (1) وحين وقع الباحثون على اسمه في طبقات ابن المرتضى، جعلوه الحاكم النيسابوري رحمهما الله. راجع طبقات المعتزلة تحقيق سوزانا فلزر. ومجلة تراث الانسانية- مقال الأستاذ سعد زائد- المجلد الأول ص 982.

الزيدي ودعمه بالكتب والمصنفات والعلماء الأعلام، ومن هنا تبدأ القصة فيما يبدو: 1) ذكر إبراهيم بن القاسم في طبقاته أن الشريف الزيدي علي بن عيسى السليماني استدعى من خراسان الشيخ زيد بن الحسن بن علي البيهقي الروقني- بلد الحاكم- «لما ظهر مذهب البطريق باليمن» «1» قال: «فخرج أنفة للشرع وحمية له وغضبا لله جل وعلا» «1» فوصل بعض بلاد اليمن في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقدّم الشريف السليماني للإمام أحمد بن سليمان كتابا يخبره فيه بقدوم الشيخ وبالثناء عليه وأن مقدمه من خراسان، فسر به الإمام وتلقاه بالبشر والاتحاف، قال ابن القاسم: «وكان معه كتب غريبة وعلوم عجيبة»، وذكر أنه لقى في طريقه بعض الشدائد وأن «أكثر كتبه قد نهب ما بين مكة والمدينة» «2». 2) كما ذكر في ترجمته أيضا أنه لما قدم الري سنة أربعين وخمسمائة «أخذ عنه القاضي أحمد بن أبي الحسن الكنّي» الأردستاني، الذي وصفه بعض الأئمة- فيما ينقله ابن القاسم في محل آخر في الطبقات- بأنه كان «من أساطين الملة، وسلاطين الأدلة، وأنه الغاية في حفظ المذهب، وأن بعض شيوخ اليمن قد لقيه بمكة» «3».

_ (1) طبقات الزيدية، صفحة 164. (2) المصدر السابق، نفس الصفحة. (3) طبقات ابن القاسم، صفحة 18 - 19.

3) ونقل ابن القاسم أيضا في ترجمة زيد بن الحسن البيهقي عن السيد صارم الدين، قال: «هو شرف الأمة، حافظ الآثار، ناقل علوم الأئمة الأطهار، وهو الذي يذكر في أسناد مجموع الإمام زيد بن علي عليه السلام» ونقل عنه أنه كان يجلس للإملاء في المشهد المقدس بصعده- قبر الإمام الهادي- وأنه كان يملي في كل خميس وجمعة مدة سنتين ونصف، قال: وهو الذي يذكر في التعاليق في صفة صلاة التسابيح، وليس بالبيهقي الشافعي كما توهم بعض الناس «1». 4) كان من الذين تلقوا عن زيد بن الحسن في اليمن بعد وصوله إليها القاضي شمس الدين جعفر بن أحمد بن عبد السلام المتوفى سنة 573، وكان القاضي جعفر يرى رأي التطريف- كان من شيوخ المطرفيّة- حتى قرأ على الشيخ زيد بن الحسن فرجع إلى «مذهب الزيدية العترية» ولما أراد زيد الرجوع إلى خراسان رحل معه القاضي جعفر «لتمام سماع» فمات زيد بن الحسن بتهامة راجعا من اليمن، فرحل القاضي إلى العراق إلى حضرة العلامة أحمد بن أبي الحسن الكني- الذي تقدمت الاشارة إليه- «فقرأ عليه كتب الأئمة ومنصوصاتهم، من جملة ذلك «الزيادات» للمؤيد بالله، ومجموع زيد بن علي، ونظام الفوائد للقاضي عبد الجبار، وأمالي السيد أبي طالب ... » وكتبا أخرى كثيرة «2»، ثم سمع على الشيخ العدل المحسن بن علي الأسدي كتبا أخرى كثيرة ذكرها ابن القاسم «3»

_ (1) طبقات ابن القاسم، صفحة 163. (2) نفس المصدر، صفحة 92، وانظر شرح الأزهار ص 9 - 10. (3) طبقات ابن القاسم، صفحة 93.

قال: «وسمع جلاء الأبصار للحاكم المحسن بن كرامة، وغيره من كتبه على السيد علي بن الحسن بن وهاس، وأجازه إجازة عامة، من جملة ذلك الكشاف لجار الله الزمخشري، وسمع كتاب التهذيب للحاكم بن كرامة أيضا على أبي جعفر الديلمي عن ولد الحاكم عن أبيه، وأجازه في بقية كتب الحاكم المذكور، كالسفينة، والتهذيب، وتنبيه الغافلين، ومصنفات عدة منها موضوع بالفارسية» «1» ثم سمع على بعض العلماء الآخرين في العراق ومكه وغيرهما، رجع بعدها إلى اليمن، ووصلها- كما يقول الامام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (ت 614) - «بالعلوم التي لم يصل بها سواه من الأصول والفروع، والمعقول والمسموع، وعلوم القرآن العظيم، والأخبار الجمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن فضلاء الأئمة من العترة الطاهرة وسائر العلماء» قال ابن القاسم: «ارتحل إلى العراق وهو أعلم من باليمن، ثم انقلب عنه وليس فيه أعلم منه» فأكمل بذلك المهمة التي بدأها شيخه زيد بن الحسن، حتى عده الزيدية أشهر رجالات اليمن بعد الإمام الهادي يحيى بن الحسين، فقالوا: على أهل اليمن نعمتان في الإسلام والإرشاد إلى مذهب الأئمة: الأولى للهادي عليه السلام، والثانية للقاضي جعفر «فإن الهادي استنقذهم من الباطنية والجبر والتشبيه، والقاضي له العناية العظمى في إبطال مذهب البطريق، ونصرة البيت النبوي الشريف»، وقد وصف بأنه «كان من أعضاد الإمام أحمد بن سليمان وأنصاره» «2».

_ (1) المصدر السابق، نفس الصفحة. (2) راجع طبقات القاسم، ص 93 - 95.

5) وهكذا يحمل القاضي جعفر من كتب القاضي عبد الجبار والحاكم وأبي طالب وغيرهم ما سمعه وأجيز فيه- على الأقل- مما عساه أن يكون فقد من زيد بن الحسن في رحلته إلى اليمن، أو أن يكون لم يحدّث به أثناء مقامه الطويل في اليمن، وإن كان الفضل في الحالين للعلامة زيد بن الحسن البيهقي الروقني الذي ترك القاضي جعفر على يديه مذهب التطريف، وللشريف علي السليماني، وللظروف السياسية والفكرية التي كانت قائمة في اليمن. 6) ويبدو أن القاضي جعفر رحمه الله قد عكف على الكتب التي حملها معه في هذه الرحلة العجيبة- كما وصفت- يرتب بعضها ويعلق على بعضها الآخر- عدا ما صنفه من الكتب الكثيرة التي كانت عماد الزيدية في وقته كما قال ابن القاسم- فرتب أمالي الإمام أبي طالب على هذا الترتيب المعروف، وسماه تيسير المطالب إلى أمالي أبي طالب «1» ورتب أمالي القاضي عبد الجبار في الحديث- الفوائد- وأسماه: نظم الفوائد وتقريب المراد للرائد «2» كما أتاح للعلماء والنساخ فرصة الإفادة من هذه الكتب. وقد وقفت على نسخة من كتاب (متشابه القرآن) للقاضي عبد الجبار في إحدى مكتبات اليمن الخاصة- وهي إحدى النسختين التي حققت عنهما هذا الكتاب- عورضت على نسخة فرغ من كتابتها سنة

_ (1) المصدر السابق، وانظر مصورة دار الكتب رقم 35827 ب. (2) انظر النسخة المصورة منه بدار الكتب، رقم 28086 ب.

(478) قال المقابل: «وهي نسخة القاضي شمس الدين رحمة الله عليه» ولعلها مما احتمله معه من كتب العراق، لأنها نسخت قبل رحلته هذه بنحو خمس وسبعين سنة. وذكر صاحب نزهة الأنظار في ترجمة الإمام شرف الدين (ت 965) الذي كان معاصرا له «1» أنه قد صح له رواية كتب كثيرة، عد منها للحاكم: تفسيره كله، وجلاء الأبصار، وتنزيه الأنبياء، وكتاب السفينة، كما عد منها كتبا أخرى للطوسي والإمام المرشد بالله يحيى بن الموفق، والمنصور بالله عبد الله بن حمزة، وغيرهم «2»، ثم قال: قال الامام شرف الدين: «فهذه الكتب صح لي روايتها من الفقيه عفيف الدين عبد الله بن علي الأكوع من خزانة والده إلا تفسير الحاكم فعينه لي أنه كتاب القاضي شمس الدين جعفر بن أحمد، تسعة أجزاء، في خزانة الامام المتوكل على الله المطهر بن يحيى، وهو- أي الفقيه عفيف الدين- يرويها عن والده بطريق القراءة والمناولة وغيرها» «3». ومن الجدير بالذكر أن الامام أحمد بن سليمان، الذي نقلت هذه الكتب والعلوم في عصره، درس الفقه وأصول الاعتقاد على الفقيه زيد بن الحسن البيهقي الوارد إلى اليمن، وله منه إجازة، كما درس على الفقيه عبد الله بن علي العنسي «الواصل من جهة الجبل والديلم بكتب آل محمد

_ (1) انظر الورقة 20 من نزهة الأنظار، وكتاب أئمة اليمن لابن زبارة 1/ 370. (2) نزهة الانظار، ورقة 28. (3) المصدر السابق، ورقة 28.

عليهم السلام سنة إحدى وخمسمائة» «1» وكأن هذا الفقيه أقام باليمن أو أطال فيه المكث، لأن الامام ابن سليمان ولد سنة (500) وكانت دعوته سنة 532، ووفاته سنة 566، وهذا يدل على أن «رحلة» هذه الكتب القيمة بدأت في أوائل القرن السادس- بحكم الصلات بين زيدية اليمن وزيدية الديلم- واستوت على سوقها في منتصف هذا القرن، وآتت أكلها على يد القاضي شمس الدين، الذي تذكّر رحلته العلمية القيمة بالبعثات العلمية وبعثات دور الكتب في العالم. ...

_ (1) طبقات ابن القاسم ص 33 وانظر ائمة اليمن لابن زبارة ص 95.

الباب الثاني مدخل الى تفسير الحاكم

الباب الثاني مدخل إلى تفسير الحاكم

الفصل الأوّل تفاسير المعتزلة قبل الحاكم حفل القرنان الثالث والرابع السابقان لعصر الحاكم بتفاسير اعتزالية كثيرة، ولا سيما القرن الرابع الذي شهد عدة «موسوعات» اعتزالية في التفسير، وقد عني المعتزلة بتفسير القرآن في وقت مبكر نوعا بعد اكتمال نشأتهم وأصول مذهبهم، وإن كان المتقدمون منهم إنما عنوا في المقام الأول بتفسير الآيات المتشابهة بخاصة حتى أفردوها بالتصنيف وقدّموا القول في تأويلها على القول في سائر آيات الكتاب الكريم، ويبدو أن الذي حملهم على هذا أن الخلاف في فهمها وتأويلها هو أساس الخلاف بينهم وبين سائر الفرق الأخرى- التي كانوا يتعرضون لجدالها بصورة دائمة- إلى جانب ما عرفوا به من الدفاع عن الاسلام «إزاء الدهريين ومنكري النبوة والنصارى واليهود والصابئة وأصناف الملاحدة» «1» الذين كانوا يرمون الكتاب بالاختلاف، ويتتبعون المتشابه طلبا للفتنة وابتغاء التأويل بالباطل، ومن هنا

_ (1) من مقدمة الشيخ زاهد الكوثري رحمه الله لكتاب تبيين كذب المفتري لابن عساكر، في حديثه عن دفاع متقدمي المعتزلة عن الإسلام إزاء هؤلاء. انظر مقدمة الكتاب المذكور صفحة 18.

نجد أن مؤلّفا اعتزاليا قديما في تفسير المتشابه- لعله أقدمها كذلك- يحمل في عنوانه طابع الرد على هؤلاء المنكرين، وهو كتاب: (الرد على الملحدين في متشابه القرآن) لمحمد بن المستنير النحوي، الشهير بقطرب المتوفى سنة 206 «1». وأيا ما كان دافع المعتزلة إلى الكتابة في هذا الباب الذي سبقوا إليه فيما يبدو، فقد قدموا التصنيف فيه- ولو لوقت قصير- على التصنيف في التفاسير الكاملة والمطولة، فكتب فيه بشر بن المعتمر رئيس معتزلة بغداد المتوفى في حدود سنة 210 «2»، ومحمود بن حسن الورّاق، الذي عده الحاكم فيمن ذهب إلى العدل من الشعراء وأئمة اللغة، والذي توفي في حدود سنة 230 «3» وأبو الهذيل العلاف رأس الطبقة السادسة من طبقات المعتزلة المتوفى سنة 235 «4» وجعفر بن حرب المتوفى سنة 236 «5»،

_ (1) انظر الفهرست لابن النديم صفحة 38 الطبعة الأوربية، وإنباه الرواة للقفطي 3/ 219 - 220 وبغية الوعاة للسيوطي 1/ 242، وفيه أنه «كان يرى رأي المعتزلة النظامية». وقد ولد واصل بن عطاء، شيخ المعتزلة الأول وقديمها كما يقول المسعودي سنة 81 وتوفي سنة 131. مروج الذهب 3/ 54. (2) راجع الفهرست ص 38 والتبصير في الدين للأسفراييني ص 71 وشرح العيون 1/ ورقة 93. (3) انظر شرح عيون المسائل 1/ ورقة 164 - 165 وفوات الوفيات 2/ 562. (4) انظر شرح العيون 1/ ورقة 87 - 92 وأمالي المرتضى 1/ 178. (5) انظر شرح العيون 1/ ورقة 103 - 105 وتاريخ بغداد 76/ 162 - 163.

كما أفرده بالتصنيف فيما بعد أبو علي الجبائي (ت 303) والقاضي أبو بكر ابن الخلّال من رجال أواخر القرن الرابع «1» والقاضي عبد الجبار (ت 415) وغيرهم. ولكن المعتزلة من متأخري رجال طبقة أبي الهذيل نفسه لم يلبثوا أن أقدموا على وضع المصنفات المطولة في تفسير القرآن، كما فعل أبو بكر الأصم وموسى الأسواري وعمرو بن فائد، تبعهم بعد ذلك عدد كبير من رجالهم في هذا القرن والقرن الذي يليه. ونذكر في هذا الفصل أهم مصنفات المعتزلة في التفسير قبل الحاكم، ونعرّف بإيجاز بما وصل إلينا منها، وهو عدد خطي لا بأس به، بل لعله على جانب كبير من الأهمية في الواقع، وبخاصة وأنه لما يسبق الحديث عنه. وسوف ندرك من وقوفنا على تفاسير أخرى قيمة لم تصل إلينا، مدى قيمة كتاب مصنفنا الحاكم رحمه الله، الذي كان يديم النقل عنها، كما سنفصل ذلك عند الكلام على مصادره في الفصل التالي. 1 - تفسير الامام القاسم بن إبراهيم الرّمّي (169 - 246)، واضع أسس الدولة الزيدية باليمن كما تقدم، وقد نعته الحاكم بنجم آل رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمبرّز في أصناف العلوم «2» وينعته الزيدية بأمير المؤمنين والامام الأعظم المجدد للدين بعلمه الجم «3» وله كتاب في تفسير القرآن، وآخر في الناسخ والمنسوخ، وكتب أخرى في الفقه وعلم الكلام ورسائل

_ (1) انظر الفهرست ص 36 و 87. (2) انظر شرح عيون المسائل 1/ ورقة 140. (3) انظر إتحاف المهتدين بذكر أئمة اليمن المسترشدين للمؤرخ ابن زبارة ص 41.

كثيرة في الرد على المجبرة والنصارى، وفي تفسير العرش والكرسي، وفي الامامة وسياسة النفس وغير ذلك «1» قال الحاكم: «وكتبه مشحونة بالتوحيد والعدل، وكذلك أولاده كلهم قائلون بالعدل والتوحيد، فمنهم محمد بن القاسم، وله كتب في التوحيد ككتاب البساط وكتاب الأصول ... ) «2». 2 - تفسير الإمام محمد بن القاسم المذكور، وسوف نتحدث عنه وعن تفسير أبيه القاسم مع تفاسير ثلاثة من الأئمة الآخرين، نذكرها الآن، لأنه قد وصلنا من هذه التفاسير الخمسة (مجموع) واحد على هيئة ملخص دقيق، قام بعمله بعض العلماء المتقدمين. 3 - تفسير الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (245 - 298) أحد أحفاد الإمام القاسم، ويذكر بعض المؤرخين أن الإمام الهادي كتب تفسيرين: «استكمل في أحدهما القرآن، وبدأ فيه بسورة الحمد، ثم بسورة الناس، والثاني في مجلد ضخم!» إلى جانب تفسير كامل لغريب القرآن «3» والمجموع الذي بين أيدينا اليوم من كلام الإمام الهادي في التفسير، يدل على أن صاحبه ينقل من تفسيره الكامل. والإمام الهادي في اليمن أشهر من نار على علم كما يقولون، وهو الملقب بصاحب اليمن، قال الحاكم: «وكان موصوفا من أيام صباه بفضل القوة والاشتغال بالعلم

_ (1) انظر أفلام دار الكتب رقم 357، 318، 324، 349 313 ب. (2) شرح العيون 1/ 141. (3) انظر كتاب أئمة اليمن لمحمد بن زبارة 1/ 6.

والتوفر عليه، وكان بمحل عظيم من الزهد» «1» وله مصنفات كثيرة بلغت- كما أحصاها الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة- نيفا وأربعين مصنفا، وكان له مع القرامطة في اليمن أكثر من تسعين وقعة «2» وقد جمع بعض العلماء سيرته الخاصة من أعيان أصحابه وأعاظم رجاله وقواده، في مجلد كبير «3» وقد غلب أتباعه على الزيدية- بعد ظهوره- في الأصول والفروع، قال يحيى بن الحسين: «والهادي له مذهب مستقل لنفسه ... وحصل الزيدية على مقتضى مذهبه ونصوصه، ولم يبق لمذهب زيد بن علي الأول في الأصول والفروع منهم متابع أصلا» «4» ثم يقدم لنا يحيى بن الحسين هذا النص الهام فيقول: «وكان شيخ الهادي في الأصول أبا القاسم البلخي المعتزلى، فعليه أخذ الأصول وعلم الكلام، فلذلك ترى أقواله في الأصول متابعة لأبي القاسم في الغالب. وأما الفروع فاستقل باجتهاده فخالف زيد بن علي في مذهبه ولم يتقيد لأقواله التي تضمنها مجموع الفقه الكبير لزيد بن علي» «5». 4 - تفسير الإمام المرتضى لدين الله أبو القاسم محمد بن الإمام الهادي يحيى بن الحسين (278 - 310) ويقع في سبعة أجزاء، نقل منها كثيرا

_ (1) شرح العيون 1/ 141. (2) انظر إتحاف المهتدين ص 42. (3) انظر فيلم دار الكتب رقم 124 ح. (4) الطبقات الزهر لوحة 4. (5) المصدر السابق.

حول هذه التفاسير الخمسة:

السيد أبو عبد الله الشرفي- أحد علماء الزيدية- في تفسيره المصابيح «1» وكان الإمام محمد من أزهد أهل زمانه، وله من الكتب: كتاب الرد على الروافض، وكتاب الإرادة والمشيئة، وكتاب الرد على القرامطة «2» قال الحاكم: وله كتاب الأصول في العدل والتوحيد «3». 5 - تفسير الإمام الناصر لدين الله أحمد ابن الإمام الهادي أيضا ويبدو أن له في علوم القرآن أكثر من كتاب، وله من الكتب أيضا كتاب النجاة في الأصول، ثلاثة عشر مجلدا، وكتاب الرد على القدرية، وكتاب التوحيد «4». حول هذه التفاسير الخمسة: ولدينا اليوم من هذه التفاسير الخمسة، أو من كلام هؤلاء الأئمة في تفسير القرآن بعامة مجموع هام يقع في حوالي أربعمائة ورقة خطية، قام بعمله أبو العباس منصور بن موسى الخطاب رحمه الله. والنسخة التي بين أيدينا من هذا المجموع تبدأ هكذا: « ... بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. ثم أمر العباد بطاعتهم فقال سبحانه: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ... » إلى آخر

_ (1) انظر أئمة اليمن لابن زبارة، صفحة 52 - 53. (2) المصدر السابق وإتحاف المهتدين صفحة 45. (3) شرح العيون 1/ 142. (4) شرح العيون والمصدرين السابقين. وفي كتاب الأئمة أن له في علوم القرآن العزيز ما يشهد له بالإصابة والتبريز ص 60.

الكلام عن فضل أهل البيت، وما لهم من الحق على عامة المسلمين. وهذه الخطبة التي سقط بعضها بسقوط الورقة الأولى من الكتاب، واحدة من رسائل الإمام الهادي نفسه، قدمها جامع الكتاب بين يدي عمله فيه كما ذكر بعد ذلك. وقد اختارها فيما يبدو لما تحمله من خطوط منهج الإمام الهادي وسائر أهل البيت في تفسير القرآن «1»، فقد جاء فيها بعد الكلام السابق على أهل البيت: «فرأينا عند ما خصنا الله به وأعطانا، وفضلنا على أهل دهرنا وأولانا: أن نشرح فضائل الحكمة التي أوليناها، وأن نبين علامات الإمامة التي أعطانا الله [إياها] لنخلع حجته من رقابنا، ونثبتها لله على غيرنا، كما نظهر مما أمرنا الله بإظهاره من شرح غامض الكتاب، وتبيين تفسيره في كل الأسباب، حتى نبين بذلك الحق المبين، ونثبت فيه الصدق واليقين، وننفي عنه تأويل الفاسقين، ونميط عنه تفسير الجاهلين، الذين حملوا تأويله على تنزيله، وحكموا على محكمه بمتشابهه. وردوا معاني الآيات المحكمات البينات، من الآيات اللواتي هن الأمهات، على معاني غيرهن من المتشابهات. واستشهدوا لمتشابهه على المحكم، فأهلكوا بذلك جميع الأمم. وشبهوا تأويلهم وتفسيرهم ربّهم بخلقه، فأبطلوا ما نفاه من بعد الشّبه بهم عن نفسه. فمثلوه تمثيلا، ونقلوه في الصور تنقيلا. وجعلوه بذلك صورة مصورة محدودة، عندهم معدودة. فعبدوا ما وصفوا، ودانوا لهذه الصورة التي ذكروا. فكانوا بالله غير عارفين ولا مقرين

_ (1) لعلها مقدمة كتاب الهادي في تفسير القرآن.

ولا مثبتين، بل كانوا عنه غائبين ربه في كل الأمور جاهلين ... فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) «1». ثم قال أبو العباس: «هذا كتاب جمعته، فيه من تفسير القرآن مما فسره الإمام القاسم بن إبراهيم، ومحمد بن القاسم بن إبراهيم، والهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم، ومحمد ابن الهادي، وأحمد ابن الهادي» «2» تحدث بعد ذلك عن طريقته في جمع هذا التفسير واختياره بعض الآيات مما يشكل تفسيره ويشتبه على العلماء، وكيف أنه كان يذكر في رأس كل آية أو سورة اسم الإمام الذي تفرد بشرحها وتفسيرها، أو الذي نقلها عنه، ثم قال: «ولقد وجدت في الأصل من هذه الآيات التي ذكروها شيئا مكررا شرحه، فأخذت ما هو المعنى الذي يراد وإليه المعاد، وأسقطت ما ليس لإعادته معنى إليه يؤول، ولا وجه تقبله العقول. وما كان بإسقاطه يقع خلل، أو يبين هنالك زلل، ويسقط معنى جلىّ معلوم، أو تأويل خفي مفهوم، لم أسقطه عن محله ولا أنزعه عن موضعه. وكذلك ما كان من التفسير المكرر أوفى كلاما وأبلغ شرحا اخترته على ضده وأثبته في مكانه. وربما أخذت الكلمة أو الكلمتين من الذي أسقطه فأثبتها مع أخواتها في موضعها إذا وجدت لها في التأويل معنى صحيحا، أو كانت مما تزيد الحق وضوحا» ثم قال: «مع أني ما زدت في ذلك شيئا افتريته، وانتحلت تأويله وادعيته، ولا نقصت من ذلك ما هو معروف

_ (1) ورقة 3 - 4. (2) ورقة 4.

وجهلته، ولا بدلت ما هو حسن وكرهته. ومعاذ الله! ولو فعلت ذلك لكنت من المفترين». 6 - التفسير السادس من تفاسير المعتزلة قبل الحاكم- وهو أحد مصادره الرئيسية كما سنرى- هو تفسير أبي بكر الأصم (عبد الرحمن بن كيسان من رجال الطبقة السادسة التي وضع القاضي على رأسها أبا الهذيل العلاف ت 235) وكان الأصم من أفصح الناس وأفقههم وأورعهم، كما وصفه القاضي عبد الجبار، وكان لأبي الهذيل معه مناظرات. وقد وصف القاضي تفسيره بأنه «تفسير عجيب حسن» وذكر أن أبا علي الجبائي كان لا يذكر غيره وإذا ذكره قال: لو أخذ في فقهه ولغته لكان خيرا له! ونقل الحاكم أنه لما انتهى أبو علي في تفسيره إلى قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ .. ) قال: ما ترى الأصم قال في ذلك؟ «1» وهذا يدل على مكانه هذا التفسير، ومدى اعتماد أبي علي الجبائي عليه في تفسيره. 7 - تفسير عمرو بن فائد- من رجال الطبقة السادسة أيضا- وقد وصف القاضي هذا التفسير بأنه «تفسير كبير» قال: ومنه في قوله تعالى: (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) قال: هو مشيئة القهر، فأما مشيئة غير القهر فقد فعل، قال الحاكم: وقد تأوله مشايخنا أنه أراد: وما تشاءون من الاستقامة إلا أن يشاء الله. وذكر القاضي أن سليمان بن علي بلغه عن عمرو بن فائد أنه لا يقول: لا حول ولا قوة

_ (1) انظر شرح عيون المسائل للحاكم 1/ ورقة 95.

إلا بالله فدعاه، فلما دخل عليه كان يرتقى إليه درجة درجة، وهو شيخ، فكلما وضع قدمه على درجة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وسليمان يسمع، فلما صعد إذا بين يديه سيف مسلول ومصحف منشور، فقال سليمان: اخرج من هذه الآية: (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)! فقال عمرو: قال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً فَآمِنُوا بِاللَّهِ .. ) فأيّ إذن أكبر من هذا؟ فقال له سلمان: أكانت في كمّك؟ قال: لا، ولكن بتأييد الله «1». 8 - وآخر تفاسير رجال هذه الطبقة تفسير موسى الاسواري، قال القاضي: فسّر القرآن ثلاثين سنة ولم يتم تفسيره. ويقال: كان في مجلسه العرب والموالى، فيجعل العرب في ناحية، والموالى في ناحية ويفسر لكل بلغته، فما يدرى بأي لسان كان أفصح «2»! 9 - تفسير أبي يعقوب الشحام من معتزلة البصرة المتوفى سنة (267) ومن الطبقة السابعة، واسمه يوسف بن عبيد الله بن الشحام، كان من رؤساء أصحاب أبي الهذيل وفقهائهم، وإليه انتهت رئاسة المعتزلة بالبصرة في وقته وعنه أخذ أبو علي الجبائي، الشيخ الأثير عند صاحبنا الحاكم رحمه الله. ولا ندري من أخبار تفسيره غير ما نقله القاضي عبد الجبار، قال: «وله كتاب في تفسير القرآن» «3» ولعله كان صغير الحجم، وأحد مآخذ أبي علي الجبائي.

_ (1) شرح العيون 1/ 96. (2) المصدر السابق. (3) شرح العيون 1/ 102 وإنما ذكرنا هذا التفسير لمكانة مؤلفه عند زعيم المدرسة الجبائية ولاحتمال إفادته منه، وقد أفاد من كتب أبي علي فيما بعد أبو هاشم والقاضي والحاكم جميعا.

10 - تفسير أبي علي الجبائي رأس الطبقة الثامنة (ت 303) ومن أشهر معتزلة البصرة وسائر المعتزلة في جميع الطبقات، ذكر القاضي أنه هو الذي فتق الكلام ونشره وذلّله ووضع فيه الكتب الكثيرة الجليلة، وأنه كان فقيها ورعا زاهدا جليلا نبيلا، قال: وإليه انتهت الرئاسة في المعتزلة حتى صار شيخها وعالمها غير مدافع، ولم يتفق لأحد من إذعان سائر طبقات المعتزلة بالتقدم والرئاسة بعد أبي الهذيل ما اتفق له «1». قال الملطي الشافعي: «ووضع أربعين ألف ورقة في الكلام، ووضع تفسير القرآن في مائة جزء، وشيئا لم يسبق أحد بمثله، وسهّل الجدال على الناس» «2». وقد تحدث أبو الحسن الأشعري، التلميذ السابق للجبائي، عن تفسير أستاذه، واشتد في الحملة عليه فقال: «ورأيت الجبائي ألّف في تفسير القرآن كتابا أوّله على خلاف ما أنزل الله عز وجل، وعلى لغة أهل قريته المعروفة بجبّى- بين البصرة والأهواز- وليس من أهل اللسان الذي نزل به القرآن. وما روى في كتابه حرفا واحدا عن أحد من المفسرين، وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه ... » «3» وقد وضع الأشعري تفسيره الكبير ردا على تفسير شيخه وتصحيحا له ونقضا عليه، على عادته في الرد على من يصفهم بأهل الزيغ والبدع، وأسماه: (تفسير القرآن والرد على من حالف الإفك والبهتان) ثم اشتهر من بعد باسم «الخازن»

_ (1) شرح العيون 1/ 107. (2) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع صفحة 44. (3) تبيين كذب المفتري لابن عساكر، صفحة 139.

أو «المختزن» «1». ولم نقف من تفسير أبي علي الجبائي على شيء، سوى النقول. 11 - تفسير أبي القاسم البلخي الكعبي (عبد الله بن أحمد بن محمود) من رجال الطبقة الثامنة المتوفي سنة 319. أخذ عن أبي الحسين الخياط ودأب على نصرة مذهب البغداديين، ووصفه الحاكم نقلا عن بعضهم بأنه رئيس نبيل غزير العلم، وأن له في الذّب عن الدين وفي وصف مذاهب المخالفين وفي غير ذلك من صنوف العلم كتبا جليلة كثيرة الفوائد. قال القاضي عبد الجبار: وله كتاب التفسير وقد أحسن، وهو متقن في علم الكلام وفي علم الفقه أيضا، فأما الأدب فناهيك به! «2» ومن كتبه المشهورة التي وصلت الينا: (المقالات) في علم الكلام، وهو الذي اعتمد عليه الأشعري في وضع كتابه المعروف بمقالات الإسلاميين. وكتاب (قبول الأخبار ومعرفة الروايات) في الحديث «3». أما تفسيره الهام فيما يبدو، والذي كان أحد مآخذ أبي يوسف القزويني في تفسيره الكبير، فلم يصلنا منه أي جزء، وتدل نقول مصنفنا الحاكم عنه، أنه كان تفسيرا كاملا شمل جميع القرآن. 12 - تفسير أبي بكر النقاش (محمد بن الحسن بن محمد) من معتزلة بغداد المتوفى سنة 351 ولم يذكره القاضي في الطبقات، وكان مقدما في

_ (1) انظر العواصم والقواصم لابن العربي ورقة 26/ ب مخطوطة دار الكتب. (2) شرح عيون المسائل للحاكم 1/ 112. (3) راجع مخطوطة دار الكتب رقم 24743 ب أما مقالاته فقد أطلعنا عليها الأستاذ فؤاد سيد رحمه الله.

التفسير والقراءات «1»، ومن تفسيره جزء كبير بدار الكتب وجزء آخر في المتحف البريطاني «2» وتذكر بعض المصادر أن تفسيره يقع في اثني عشر ألف ورقة «3»! في حين أن مجلد دار الكتب، على ضخامته وسعة أوراقه، يقع في خمس وسبعين ومائتي ورقة فقط ويشتمل على تفسير نصف القرآن تقريبا لأنه يبدأ بتفسير قوله تعالى: (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) من سورة مريم وينتهي بسورة الناس، وإن كان به بعض الخروم. ومن المؤسف أن كثيرا من أوراقه فسدت بسبب الرطوبة «4». ويغلب على هذا التفسير عدم المجاهرة الشديدة بالاعتزال، وقلة العناية بآراء الخصوم، والقصد إلى الشرح على مذهب المصنف بعبارة موجزة، مع عناية ملحوظة باللغة والبلاغة والقراءات. 13 - تفسير أبي مسلم الأصفهاني محمد بن بحر، من رجال الطبقة الثامنة المتوفى سنة 370. واسم كتابه (جامع التأويل لمحكم التنزيل) ويقع في أربعة عشر مجلدا «5» وهو من أهم التفاسير الاعتزالية،- ولعله أيضا من أخطر التفاسير بإطلاق- أكثر من الاعتماد عليه كل من الشريف المرتضى

_ (1) انظر إرشاد الأريب 6/ 496 وسير أعلام النبلاء رقم 12195 ح. (2) انظر بروكلمان: الملحق 1/ 334. (3) راجع الإرشاد لياقوت والفهرست ص 33 الطبعة الأوربية. (4) انظر مخطوطة الدار رقم 140 تفسير، وقد سمي هذا التفسير: شفاء الصدور. (5) انظر لسان الميزان لابن حجر 5/ 89 وشرح العيون 1/ 113 والفهرست ص 51 طبع التجارية.

في أماليه وأبي جعفر الطوسي في تفسيره التبيان، وإن كان أخذ عليه الإطالة. كما نقل عنه القاضي والحاكم، وكان الرازي من بعد كلفا بالرد عليه، على ما في كتاب الرازي من النقل الكثير عنه، وبلغ من شهرة تفسير أبي مسلم أن القاضي عرفه به، فقال: «ومنهم- أي رجال الطبقة الثامنة- أبو مسلم محمد بن بحر صاحب التفسير والعلم الكثير» «1» وقد جرد بعضهم ما في تفسير الرازي من النقول الصريحة عن أبي مسلم، وجعلها في كتاب صغير 103 صفحات، أسماه: ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل «2»، ولم نقع على أي قطعة من تفسير أبي مسلم نفسه بالرغم من أننا وجدنا السيوطي في كتابه (معترك الأقران في إعجاز القرآن) «3» ينقل عنه نصا مطولا هاما في رأي أبي مسلم في وجوه إعجاز القرآن «4»، فلا ندري أوقع على شيء منه كما قد توحي بذلك عبارته في النقل (قال الأصفهاني في تفسيره) أم إنه نقل عنه بطريق غير مباشر! 14 - تفسير أبي الحسن الرماني، علي بن عيسى من رجال الطبقة العاشرة المتوفى سنة 384. وكان يقال للرماني (علي الجامع) لأنه جمع- كما يقول الحاكم- «بين علوم يدرس فيها الكلام والفقه والقرآن والنحو واللغة» «5»

_ (1) شرح العيون 1/ 113. (2) جمعه ورتبه سعيد الأنصاري في مدينة أعظم كده بالهند وطبع بكلكته سنة 1340 هـ. (3) مصور دار الكتب المصرية رقم 20347 ب. (4) المعترك ورقة 2 - 3. (5) شرح عيون المسائل 1/ ورقة 128.

وكان مع قلة ذات يده وشدة فقره يسلك طريق المروءة وكان يقول: من قلّت مئونته سهل أمره. وعرّفه القاضي بقوله «صاحب التفسير والعلم الكثير» «1». وقد أشار إلى تفسيره أيضا القفطي في إنباء الرواة، مع كتب أخرى له في علوم القرآن، وذكر أن اسمه (الجامع في علم القرآن) «2» كما أشار اليه الرماني نفسه في كتابه (النكت في إعجاز القرآن) فقال في باب التضمين: «وقد بينا ذلك بعد انقضاء كل آية في كتاب: الجامع لعلم القرآن» وهذا نص في اسم الكتاب. ويبدو أن هذا التفسير على درجة كبيرة من القيمة والأهمية، وأنه كان كبيرا و «جامعا» حتى قال فيه الرماني نفسه: تفسيري بستان يجتنى [منه] ما يشتهى. وقد قيل للصاحب بن عباد: هلّا تصنف تفسيرا؟ فقال: وهل بقىّ لنا علي بن عيسى شيئا «3» وقد أثنى عليه أبو جعفر الطوسي (ت 460) في مقدمة كتابه: التبيان في تفسير القرآن- كما أثنى على أبي مسلم الأصفهاني- وإن كان أخذ عليهما الإطالة «4». وقال فيه ابن قاضي شهبة: (وهو تفسير كبير وفيه فوائد جليلة) «5».

_ (1) شرح عيون المسائل 1/ ورقة 128 وانظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة 4/ 276. (2) إنباه الرواة 2/ 294 وذكر القفطي من كتبه: المتشابه في علم القرآن وكتبا أخرى. (3) شرح العيون 1/ 128. (4) التبيان: 1/ 2. (5) طبقات النحاة واللغويين 2/ 175 مخطوطة دار الكتب رقم 2146 تاريخ تيمور.

ولدينا اليوم من تفسير الرماني الجزء السابع «1»، وقطعة من الجزء الثاني عشر تقع في خمسين ومائة ورقة مصورة بمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية عن مكتبة المسجد الأقصى بالقدس رقم (29). وتبدأ بالكلام على قوله تعالى: (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) - الآية 17 من سورة إبراهيم- وتنتهي بتفسير قوله تعالى: (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) - الآية 37 من سورة الكهف- أي أنها تشتمل على تفسير جزءين. بتجزئة القرآن الكريم «2» نموذج من الكتاب: «القول في قوله عز وجل: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) - سورة إبراهيم 40 - يقال: ما الدعاء؟ الجواب: طلب الفعل بدلالة القول، وما دعا الله إليه فقد أمر به ورغّب فيه، وما دعا العبد به ربه فالعبد راغب فيه، ولذلك لا يجوز أن يدعو بلعنه أو عقابه، ويجوز أن يدعو [على] غيره به. «ويقال: ما التقبل؟ الجواب أخذ العمل على طريق إيجاب الحق به، مقابلة عليه، ولذلك لا تتقبل طاعات الفاسق لأنها محبطة لا يستحق بها الثواب. (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) - إبراهيم 41 - يقال: لم لا يجوز الدعاء بالمغفرة للفاسق؟ الجواب: لأنه لا يجوز أن يسأل الله عز وجل ما ليس من حكمه أن يفعله، لما في ذلك من

_ (1) ذكر برولكمان أنه موجود بباريس برقم 26523. وانظر بروكلمان: الملحق 1/ 175. (2) راجع ميكروفلم معهد المخطوطات رقم 16.

التحكم بالدعاء إلى فعل ما قد دل أنه لا يفعله ولا يريده، وليس كالدعاء بما في معلومه أنه يفعله لا محالة، لما في هذا من موقف الخاضع الراضي بحكمه. «ويقال لم وجب أن الايمان هو الاسلام؟ الجواب: لقوله جل وعز: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) - آل عمران 85 - فلو كان الايمان غير الاسلام لكان من ابتغى الايمان دينا لا يقبل منه! «ويقال: لم جاز أن يدعو لأبيه مع كفره؟ الجواب: لأنه على شرائط الحكمة بأنه إن كان ممن [له] لطف يفعل معه التوبة، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله: (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) - التوبة 114 - وقد قال (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) - الشعراء 86 - وقد قال أبو علي: إنما دعا لوالديه من المؤمنين، وهذا عدول عن الظاهر لا يسوغ مع ما بينا من قبل. «وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه طلب المغفرة على شرائط الحكمة من الاجابة واليأس مع الاقامة على الكبيرة، لتوعد الظالم بما يصير إليه من العذاب الدائم». وقد جرى في سائر تفسيره، كما يدل عليه هذا الجزء الذي بين أيدينا، على هذه الطريقة من السؤال والجواب بعبارة فائقة، ولعله لم يسبق في التفسير إلى مثل هذا العدد الكبير الذي لا يحصى من التعاريف اللغوية الدقيقة التي مزجها بفكر المعتزلة ومصطلحاتهم.

15 - تفسير أبي القاسم الأسدي، عبيد الله بن محمد النحوي الموصلي من معتزلة بغداد المتوفى سنة 387، أخذ عن الفارسي والرماني وغيرهما، وكان عارفا بالقراءات والعربية. صنف (تفسير القرآن) وذكر في «بسم الله الرحمن الرحيم» - كما قيل- مائة وعشرين وجها «1» ولم نقف من تفسيره على شيء. 16 - تفسير القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني، عماد الدين أبي الحسن المتوفى 415 من معتزلة البصرة ومن أصحاب أبي هاشم الجبائي، جعله الحاكم «أول رجال الطبقة الحادية عشرة من المعتزلة وأقدمهم فضلا» وقال فيه: «وليس تحضرني عبارة تنبئ عن محله في الفضل وعلو منزلته في العلم، فإنه الذي فتق الكلام ونشره، ووضع فيه الكتب الكثيرة الجليلة التي سارت بها الركبان وبلغت المشرق والمغرب، وضمّنها من دقيق الكلام وجليله ما لم يتفق لأحد مثله، وظلّ عمره مواظبا على التدريس والاملاء حتى طبق الأرض بكتبه وأصحابه، وبعد صوته وعظم قدره وإليه انتهت الرئاسة في المعتزلة حتى صار شيخها وعالمها غير مدافع، وصار الاعتماد على كتبه ومسائله حتى نسخ كتب من تقدم من المشايخ» «2» وقد عد الحاكم من كتبه في علوم القرآن: التنزيه، والمتشابه والمحيط، والأدلة «3» وقد وصل إلينا الكتابان الأولان، وما زلنا نفتقد

_ (1) انظر إرشاد الأريب 5/ 5 طبعة مارغوليوث، وبغية الوعاة للسيوطي 2/ 127. (2) شرح العيون 1/ 129. (3) المصدر السابق ورقة 130 وقد عد له عشرات الكتب في علم الكلام والفقه والأصول والحديث.

الآخرين. وحديثنا هنا عن تفسيره الكبير الموسوم بالمحيط الذي أشار اليه كذلك ابن العربي وابن تيمية والداودي وغيرهم «1» وقد ذكر ابن العربي أنه يقع في مائة مجلد وأنه قرأه في خزانة المدرسة النظامية ببغداد، وعرّفه ابن تيمية ب «التفسير الكبير». وسنعرض لهذا التفسير عند الكلام على مدى إفادة الحاكم من آراء القاضي عبد الجبار في تفسير القرآن. 17 - التفسير الكبير لأبي الفتح الديلمى: الامام الشهيد الناصر بن الحسين من أولاد الحسن بن علي بن أبي طالب، آخر أئمة الزيدية باليمن في القرن الخامس، الذي قتله الصليحي سنة 444 كما قدمنا. كان خروجه من الديلم سنة 430 ودعا بها في اليمن وحارب الصّليحي في بلاد مذحج وكان في الجهاد حتى قتل. وفي الحدائق الوردية أن تفسيره في أربعة أجزاء «أورد فيها من الغرائب المستحسنة والعلوم العجيبة النفيسة». وله كذلك: البرهان في تفسير غريب القرآن. ورسالة في الرد على المطرفية، وكتب أخرى «2».

_ (1) انظر العواصم والقواصم لابن العربي ورقة 26 ب مخطوطة دار الكتب ومقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص 37، وطبقات المفسرين للداودي مخطوطة الدار قال الداودي: «وله التصانيف السائرة منها التفسير» وانظر لسان الميزان لابن حجر 3/ 387. وربما خلط بعضهم بين تفسيره المحيط وكتابه تنزيه القرآن عن المطاعن: انظر طبقات المفسرين للسيوطي ص 16. (2) انظر الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية لحميد بن أحمد المحلي (ت 652)، مخطوطة الدار، وإتحاف المهتدين لابن زبارة ص 51، وأئمة اليمن له أيضا 1/ 90 ولذريعة إلى تصانيف الشيعة 4/ 255.

والذي بين أيدينا اليوم من تراثه في التفسير! جزء واحد يقع في ثمان وثلاثين ومائتي ورقة، عرض فيه لجميع سور القرآن، واقفا عند كل سورة أمام ما يرى أنه بحاجة إلى شرح وتفسير، قال في سورة المعراج: «بسم الله الرحمن الرحيم: قوله تعالى: (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ) يعني: طلب طالب بعذاب واقع، وهذا الطالب كان النضر بن الحارث، وكان صاحب لواء المشركين يوم بدر، سأل ذلك في قوله: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» وإنما طلب تعجيل عذاب الآخرة في دار الدنيا فقتل يوم بدر أسيرا. (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ) يعني ذي النعم والفواضل ودرجات الخير. (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ) أي تصعد الملائكة إلى أمره وإلى مواضعهم ومقاماتهم المرتبة لهم. والروح عنى به جبريل عليه السلام، وخصه بالذكر تشريفا. (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) يعني يوم القيامة لأن طوله خمسون ألف سنة من سنيّ الدنيا، وهو ضياء يستديم إلى أن يجاب الخلق فيستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار» «1». وختم هذا التفسير في آخر سورة الناس، بقوله: «وروينا عن آبائنا عليهم السلام أن سيدنا رسول الله كان يعوّذ الحسن والحسين عليهما السلام فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامه». ونحن نستعيذ بالله مما عوذ ... وفقنا الله وقارئه لتدبر ما فيه،

_ (1) البرهان في تفسير القرآن ورقة 215/ و.

وتفهم معانيه، فيه توفيقنا، وعليه توكلنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير «1». وقد تم نسخ هذه النسخة رابع عشر رمضان سنة ست وأربعين وألف. 18 - تفسير الماوردي: أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب المتوفى سنة 450 «2». وقد أسماه (النكت والعيون) وقال في مقدمته: « ... ولما كان الظاهر الجليّ مفهوما بالتلاوة، وكان الغامض الخفي لا يعلم إلا من وجهين، نقل أو اجتهاد، جعلت كتابي هذا مقصورا على تأويل ما خفى علمه، وتفسير ما غمض تصوره وفهمه، جامعا بين أقاويل السلف والخلف، وموضحا عن المؤتلف والمختلف، وذاكرا ما سنح به الخاطر من معنى محتمل، وعدلت عما ظهر معناه من فحواه اكتفاء بفهم قارئه وتصور تاليه، ليكون أقرب مأخذا وأظهر مطلبا .. » «3» وهذا ما حمله فيما يبدو على تسميته بالنكت والعيون، ليدل على أنه أقرب إلى تفسير المشكل والمتشابه، وأنه جمع فيه من عيون أقاويل السلف والخلف، وإن كان هذا لم يمنعه في الواقع من الشرح والتعليق السريع على سائر آيات الكتاب الكريم تقريبا. والناظر في هذا التفسير قد لا يقف فيه سريعا على أثر واضح لمذهب المصنف الذي كان لا يجاهر بالاعتزال فيما يبدو، ولكنه كان ينتصر

_ (1) البرهان، ورقة 238. (2) راجع طبقات الشافعية للسبكي 3/ 304 - 305. (3) ورقة 2 من النكت والعيون (الجزء الأول) مخطوطة المكتبة المتوكلية بصنعاء اليمن.

فيه لمذهب المعتزلة على التحقيق، مرة بالإشارة العابرة، وأخرى بوضع القارئ أمام وجوه كثيرة في تفسير الآية الواحدة، يوردها موجزة ملخصة وليس من بينها ما يناقض مذهب المعتزلة بحال، قال في قوله تعالى: (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) - البقرة 2 - «وفي المتقين ثلاثة تأويلات: أحدها: الذين اتقوا ما حرم الله عليهم وأدوا ما افترض عليهم، وهذا قول الحسن البصري. والثاني: أنهم الذين يحذرون من الله العقوبة ويرجون رحمته، وهذا قول ابن عباس. والثالث: أنهم الذين اتقوا الشرك وبرءوا من النفاق، وهذا فاسد لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق. وإنما خص به المتقين وإن كان هدى لجميع الناس لأنهم آمنوا به وصدّقوا بما فيه» «1» وقال في قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) - البقرة 7 - «والختم: الطبع، ومنه ختم الكتاب. وفيه أربع تأويلات: أحدهما- وهو قول مجاهد- أن القلب مثل الكف فاذا أذنب العبد ينضم جميعه ثم يطبع عليه بطابع. والثاني: أنها سمة تكون علامة فيهم تعرفهم الملائكة بها من بين المؤمنين. والثالث: أنه إخبار من الله تعالى عن كفرهم وإعراضهم عن سماع ما دعو إليه من الحق، تشبيها بما قد سدّ وختم عليه فلا يدخله خير. والرابع: أنها شهادة من الله على قلوبهم بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحق، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إليه. والغشاوة: تعاميهم عن الحق. وسمي القلب قلبا لتقلبه بالخواطر، قال الشاعر:

_ (1) ورقة: 9.

ما سمّي القلب إلا من تقلّبه والرأي يصرف والإنسان أطوار والغشاوة: الغطاء الشامل» «1» وقد عقد السبكي في ترجمته للماوردي فصلا مقتضبا حول تفسيره، نقل فيه عن ابن الصلاح قوله: «هذا الماوردي عفا الله عنه يتهم بالاعتزال، وقد كنت لا أتحقق ذلك عليه وأتأول له وأعتذر عنه، في كونه يورد في تفسيره في الآيات التي يختلف فيها أهل التفسير، تفسير أهل السنة وتفسير المعتزلة غير متعرض لبيان ما هو الحق منها، وأقول: لعل قصيده إيراد كلّ ما قيل من حق أو باطل، ولهذا يورد من أقوال المشبهة أشياء مثل هذا الإيراد!! حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة وما بنوه على أصولهم الفاسدة ومن ذلك مصيره في «الأعراف» إلى أن الله لا يشاء عبادة الأوثان. وقال في قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) - الأنعام 112 - وجهان في «جعلنا» أحدهما معناه حكمنا بأنهم أعداء، والثاني: تركناهم على العداوة فلم نمنعهم منها» «2» ثم حمل على تفسيره حملة شديدة فقال: «وتفسيره عظيم الضرر لكونه مشحونا بتأويلات أهل الباطل تلبيسا وتدسيسا على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق، مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة!! بل يجتهد في كتمان موافقهم فيما هو لهم فيه موافق» «3» وختم

_ (1) ورقة: 10. (2) طبقات الشافعية الكبرى 3/ 304. (3) المصدر السابق: 3/ 304 - 305.

كلامه بقوله إن الماوردي ليس معتزليا مطلقا! لأنه لا يوافق المعتزلة في جميع أصولهم مثل خلق القرآن، ويوافقهم في القدر، قال: «وهي البلية التي غلبت على البصريين وعيبوا بها قديما». وأيا ما كان الأمر فإن الماوردي وضع تفسيره على أصول المعتزلة ومنهجهم في التفسير، سواء أخالفهم في بعض المسائل أم لا، وسواء أجاهر فيه بالاعتزال أم لا، وإن كنا لا ندري ما هو «حد» الجهر عند ابن الصلاح «1»! ولدينا اليوم من هذا التفسير أكثره: 1 - جزء يبدأ من أول القرآن، مع مقدمة المؤلف وفصول أخرى صدر بها الكتاب، منها فصل في مسألة نزول القرآن على سبعة أحرف، وفصل في اعجاز القرآن، وينتهي هذا الجزء بانتهاء سورة الأنعام «2». 2 - جزء آخر من نسخة أخرى ناقص من أوله، ويبدأ بالكلام على قوله تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) - البقرة 36 - وينتهي بآخر سورة الكهف «3» 3 - جزء ثالث من نسخة ثالثة

_ (1) أما اتهام الماوردي بإيراد أقوال المشبهة، فإننا وإن لم نقف منها على شيء فإن كان ابن الصلاح يقصد اعتماد الماوردي لها فهو تقول عجيب غريب قال في تفسير قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) فيه تأويلان: أحدهما معناه: إلا أن يأتيهم الله بظل من الغمام والملائكة. والثاني: معناه إلا أن يأتيهم أمر الله في ظلل من الغمام. ورقة 74/ و. (2) وهو الذي رجعنا إليه، انظر مخطوط صنعاء رقم 111 تفسير. (3) نسخة دار الكتاب رقم 19693 ب وبه تلويث وأكل الأرضة.

أيضا، كتب عليه أنه الجزء الخامس من تفسير القرآن للماوردي، ويبدأ بسورة لقمان وينتهي بآخر سورة ق «1» 4 - جزء رابع من أول سورة السجدة إلى آخر القرآن من نسخة كتبت سنة 1070 هـ، ويقع في واحد وثمانين ومائتي ورقة، وهذا الجزء من مصورات معهد إحياء المخطوطات بجامعة الدول العربية (فلم رقم 154 تفسير). 19 - تفسير أبي يوسف القزويني: عبد السلام بن محمد بن يوسف المتوفى سنة 488 عن ست وتسعين سنة «2»، وهو يعد في الطبقة الثانية عشرة من المعتزلة لأنه ممن قرأ على القاضي عبد الجبار ومن هو في طبقته «3». وهو أقرب مفسري المعتزلة وفاة من مصنفنا الحاكم «4»، وأشهر رءوس المعتزلة في النصف الثاني من هذا القرن، وكان يدعو إلى الاعتزال ويفتخر به ويتظاهر به حتى على باب نظام الملك- كما ذكر السبكي- فيقول لمن يستأذن عليه: قل أبو يوسف القزويني المعتزلي. «5»

_ (1) موجود بالبصرة بالعراق: انظر ص 165 (المجلد الأول ج 2) من مجلة معهد المخطوطات العربية، مقال كور كيس عواد. (2) راجع النجوم الزاهرة 5/ 156 ولسان الميزان 4/ 11 وطبقات المفسرين للسيوطي ص 18. (3) انظر شرح عيون المسائل 1/ 134. (4) وعاش كلاهما أحداث القرن الخامس السياسية والاجتماعية، وكان كلاهما زيدي المذهب في الفروع كذلك، قال السبكي في ترجمة أبي يوسف: «وقيل إنه كان زيدي المذهب في الفروع» وقد وقفت له على ترجمة ضافية في طبقات الزيدية ليحيى بن الحسين، ورقة 34 - 35. (5) طبقات الشافعية 3/ 230.

وكان يقول: لم يبق من ينصر هذا المذهب غيري «1». قال السمعاني: «وكان أحد المعمرين والفضلاء المتقدمين، جمع التفسير الكبير الذي لم ير في التفاسير أكبر منه ولا أجمع للفوائد، لولا أنه مزجه بكلام المعتزلة وبث فيه معتقده، وهو في ثلاثمائة مجلد، منها سبع مجلدات في الفاتحة» «2» وقال ابن النجار: «كان طويل اللسان، ولم يكن محققا إلا في التفسير فإنه لهج بالتفاسير حتى جمع كتابا بلغ خمسمائة مجلد حشا فيه العجائب حتى رأيت منه مجلدا في آية واحدة، وهي قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ... ) «3» - الآية 102 سورة البقرة- والذي أخذه عليه ابن النجار عبر السبكى بقوله: «وكان عنده قوة نفس، وربما نال من بعض أهل العلم بلسانه» «4». ويبدو أنه كان كثير الاعتماد على تفاسير المعتزلة قبله، حتى لكأنه احتواها في تفسيره الكبير، كما أشار إلى ذلك ابن النجار في عبارته عنه «إنه لهج بالتفاسير» وكما أوضح السبكي فيما نقله عن القزويني نفسه أنه كان يقول: ملكت أشياء نفيسة منها تفسير ابن جرير الطبري في أربعين مجلدا، وتفسير أبي القاسم البلخي، وأبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم

_ (1) طبقات المفسرين الداودي- مخطوط. (2) طبقات المفسرين للداودي. (3) المصدر السابق وانظر المنتظم لابن الجوزي (أحداث سنة 488) والبداية لابن كثير 12/ 150. (4) انظر طبقات الشافعية 3/ 230.

وأبي مسلم بن بحر وغيرهم. وقد كان لأبي يوسف القزويني عناية فائقة بكتب العلم بعامة حتى إنه دخل بغداد بعد أن رجع إليها من مصر- التي أقام فيها أربعين سنة- «ومما معه عشرة جمال عليها كتب بالخطوط المنسوبة في فنون العلم» وقد أهدى لنظام الملك بعض هذه النفائس. وقد سمى تفسيره: حدائق ذات بهجة. ولم نقف من هذا التفسير على شيء. 20 - يضاف إلى كل هذه التفاسير: أمالي المرتضى علي بن الحسين المتوفى سنة 436. التي اشتملت على مجالس كثيرة في تأويل عدد من الآيات المشكلة والمتشابهة «1»، وهي التي يظهر فيها بوضوح أثر اختلاف المناهج بين المفسرين، وقد كان الشريف المرتضى من أصحاب قاضي

_ (1) وهنالك تفاسير أخرى تعتبر مجهولة الأهمية، وتكاد تكون مهملة الذكر، مثل تفسير أبي الحسن الاسفندياني من رجال الطبقة التاسعة، وتفسير أبي أحمد بن علان من رجال الطبقة الحادية عشرة، وتفسير أبي بكر بن الاخشيد (ت 326) الذي لخص فيه تفسير الطبري، وتفسير ضرار بن عمرو الذي وصفه ابن النديم بأنه من «بدعية المعتزلة» وذكره القاضي عرضا عند الكلام على أبي يعقوب الشحام، فقد روى القاضي أن بعضهم سأل الشحام عن عذاب القبر، فقال: ما منا أحد ينكره، وإنما يحكى ذلك عن ضرار. ولعل القاضي تعمد إهماله في الطبقات. انظر شرح العيون 1/ ورقة 117 و 134. وانظر الفهرست لابن النديم ص 51 طبع التجارية بمصر. وانظر حول ضرار كتاب «أرمغان علمي طبع لاهور سنة 1955، وهو مجموع مقالات أهديت لمحمد شفيع نشر فيها فصلة نتعلق بالمعتزلة كانت قد سقطت من كتاب ابن النديم في طبعته الأوربية: انظر منه ص 54، وانظر أيضا شرح العيون 1/ ورقة 102.

القضاة درس عليه ببغداد، وعده الحاكم من رجال الطبقة الثانية عشرة من المعتزلة، وكان إماميا يميل إلى الإرجاء «1»، ونقل الذهبي أن ابن حزم جعل الشريف المرتضى ثاني اثنين من الإمامية ليس على إيمانهما مطعن، لذهابهما إلى أن القرآن لم يدخله زيادة أو نقصان أو تحريف، وقال إنهما وافقا في ذلك عامة المسلمين في حين حكم على باقي الإمامية بالكفر لهذه البدعة «2» وللشريف في التفسير غير أماليه القيمة: تفسير سورة الحمد وقطعة من البقرة، ويبدو أنه شرع في تفسير القرآن ولكنه لم يكمله. وبعد، فهذا عرض لمصنفات المعتزلة في التفسير قبل الحاكم، أتينا فيه على أهم هذه المصنفات وأبعدها ذكرا عند المؤرخين وكتاب التراجم «3»، وسوف نجد أثر هذا العرض- الذي حددنا فيه ما وصل إلينا من هذه التفاسير- عند الكلام على مصادر الحاكم في الفصل التالي. والكلمة التي نختم بها هذا الفصل هي أن للمعتزلة في علوم القرآن بعامة كتبا أخرى كثيرة لم يكن من شأننا الوقوف عندها، مثل كتب النظم والإعجاز، وكتب معاني القرآن، وكتب المجاز والمشكل والغريب ونحو ذلك.

_ (1) انظر شرح العيون 1/ 135. (2) انظر سير أعلام النبلاء، مصورة دار الكتب رقم 12195 ح الجزء الحادي عشر/ المجلد الثاني. (3) هنالك بعض التفاسير الأخرى الهامة، وقفنا عليها بعد، ونرجو أن نعود للكلام عليها، مع هذه التفاسير- التي اختصرنا منها بعض التفاصيل وأكثر النماذج- في الجانب التاريخي من منهج المعتزلة في التفسير الذي ضمناه ثلاثة جوانب: التاريخي والموضوعي المنهجي والنقدي. بعد مراجعات كثيرة.

الفصل الثاني مصادر الحاكم في التفسير

الفصل الثاني مصادر الحاكم في التفسير أولا: الحاكم وتفاسير المتقدمين أشرنا إلى أن من أهم مزايا كتاب الحاكم نقوله الكثيرة من تفاسير اعتزالية لم تصل إلينا، ولكنه في الواقع لم يقتصر في تفسيره على أقوال شيوخ الاعتزال، بل احتفى فيه- إلى حد كبير- بآراء أئمة التفسير من السلف المتقدمين. وقد جعل لهؤلاء جميعا «فضل السبق وتأسيس الأمر» كما قال في صدر كتابه. وقال إن «للآخرين حسن الترتيب وجودة التهذيب وزيادة الفوائد» «1» وقد جرى في كتابه على تلخيص آراء السابقين وتقديمها على أحسن وجوه الترتيب، قال: «وقد جمعت في كتابي هذا جملا وجوامع في علم القرآن، من غير تطويل ممل وإيجاز مخل، أرجو أن تكون تبصرة للمبتدي وتذكرة للمنتهي» ولعل هذا هو ما حمله على تسمية كتابه ب «التهذيب في التفسير». ونشير في هذا الفصل إلى هؤلاء «المتقدمين» أو «الأولين» الذين

_ (1) الورقة الأولى من التهذيب.

ثانيا: مصادره السلفية

كان ينقل عنهم ويلخص آراءهم، سواء أكانوا من السلف أم من شيوخ الاعتزال، كما نبين كيفية إفادته من كتبهم وعرضه لآرائهم. وسوف نحدد بذلك موقفه من تفاسير المعتزلة التي تحدثنا عنها آنفا، ومن تفاسير أخرى لعله انفرد بذكرها والإفادة منها. أما أساس ترجيحه بين الآراء وطريقته في النقد وسائر ما يتصل بمنهجه ويكشف عن شخصيته في التفسير، فندعه لمحله من هذا البحث وكل ما نود الإشارة إليه هنا: هو أنه درج في شرح الآية أو الآيات على أن يفصل فيها القول على الترتيب التالي: القراءة، اللغة، الإعراب، النزول، المعنى، الأحكام. مع زيادة بعض الفقرات في بعض المواطن. وتظهر لنا «مصادره في التفسير» في حديثه عن «المعنى» في المقام الأول، ثم عن «الأحكام» في مواطن كثيرة، ويكشف لنا كلامه على «المعنى» أيضا عن طريقته في التهذيب والعرض. ثانيا: مصادره السلفية تطالعنا في مجال نقوله الكثير عن السلف الأسماء التالية: ابن عباس، وابن مسعود، وعلى بن أبي طالب، وزيد بن أسلم، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والكلبى، وسعيد بن المسيب، وعطية العوفي، والضحاك، والسدّي، والشعبي، وابن زيد، والربيع، وابن كيسان، والمؤرج، ومقاتل. كما ينقل في مجال الشرح والتفسير أيضا عن الزجاج، والفراء، وأبي عبيدة، وابن قتيبة. وهو بذلك ينقل عن جميع أئمة التفسير من الصحابة والسلف ورجال القرون الأولى.

1 - عمده من هذه المصادر:

ولعل من غير المبالغ فيه أن نقول إنه يكاد يكون قد احتوى خلاصة وافية لتفسير الطبري، الذي عنى كما نعلم، بلم شعث التفسير بالمأثور من جميع الروايات والطرق، وأثبته بإسناده إلى أصحابه، وإن كان صاحبنا الحاكم لم يسند من الآراء- فيما وراء أسباب النزول غالبا- إلا ما لا يذكر، كما أنه لم يعرض لذكر الطبري، فيما ينقله الطبري أو يراه، إلا في مواضع قليلة من الكتاب يقع أكثرها في سور القرآن الأولى «1». 1 - عمده من هذه المصادر: وجل نقله في مجال التفسير بالمأثور عن أربعة، هم: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والحسن البصري، وتكاد نقوله عنهم تضارع نقوله عن شيوخ الاعتزال، وإن كان الحاكم والقاضي وغيرهما من المعتزلة يذهبون إلى عد هؤلاء المفسرين الأربعة مع القائلين بالعدل والتوحيد، ويسلكونهم في طبقات المعتزلة: أ- أما ابن عباس فتفسيره مشهور، ومكانته في التأويل والتفسير معروفة، وقد عده القاضي في الطبقة الأولى من طبقات المعتزلة، وقال فيه إنه «كان يذهب إلى التوحيد والعدل» وإن مناظراته مع مجبرة الشام مشهورة «2» ويكاد الحاكم ألا يصحح من رواياته إلا ما يوافق مذهب أهل العدل، فقد ذكر أنه روي عنه وعن محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ

_ (1) انظر الجزء الأول من التهذيب ورقة 193. والأوراق التالية. (2) انظر شرح عيون المسائل 1/ ورقة 70.

أَصْحابِ الْجَحِيمِ) «1» أنها نزلت في أبوي الرسول صلّى الله عليه وسلم حين قال: ليت شعري ما فعل أبواي؟! قال: فنزلت الآية، قال الحاكم: وهذا الخبر من أخبار الآحاد، ويبعد أن يصح ذلك عن ابن عباس! «2» ب- ومجاهد بن جبر عدّه الحاكم ممن ذهب إلى العدل من رواة أهل مكة «3»، وتفسيره مشهور «4» وهو أحد مآخذ الطبري الرئيسية. ح- وقتادة بن دعامة السّدوسي، عده القاضي من رجال الطبقة الرابعة من طبقات المعتزلة، وقال: «لم يختلف فيه أنه من أهل العدل» أخذ عن الحسن البصري وكان له مناظرات بالبصرة والكوفة، قال بعضهم: قتادة كان قدريا، قال القاضي: «وهكذا المخالفون يسمون أصحابنا بالقدري وهم أولى بهذا الاسم» «5» د- أما الحسن بن أبي الحسن البصري فهو من رجال الطبقة الثالثة، وله رسالة في العدل والتوحيد بعث بها إلى عبد الملك بن مروان حين كتب إليه عبد الملك يقول: بلغنا عنك في القدر شيء فاكتب إلينا بقولك، وقد أورد القاضي طرفا من هذه الرسالة في الطبقات، ووصف الحسن بأنه سيد التابعين، وأن محله في الفضل والعلم والزهد ودعاء

_ (1) الآية 119 سورة البقرة. (2) انظر التهذيب المجلد الأول، ورقة 150. (3) شرح العيون 1/ ورقة 160. (4) انظر مخطوطة دار الكتب رقم 1075 تفسير، ومنه أيضا نسخة أخرى بالدار مصورة من اليمن ورقمها 28672 ب. (5) انظر شرح العيون 1/ ورقة 86.

الناس إلى الدين مشهور «1» وقال بعض المجبرة: لا نعلم أحدا ممن ينسب إلى القدر أجلّ من الحسن ومكحول «2» وذكر ابن النديم في ترجمته أن له «كتاب تفسير القرآن» قال رواه عنه جماعة «3» وذكر في ترجمة عمرو بن عبيد أن له من الكتب «كتاب التفسير عن الحسن» «4» وهذا يدل على أن عمروا كان من رواة هذا التفسير، وأنه لم يكتب لنفسه تفسيرا خاصا. هؤلاء هم المقدّمون من مفسّري السلف عند الحاكم، الذين يديم النقل عنهم وقد عدهم القاضي جميعا من رجال الاعتزال كما رأينا، وطبقات الاعتزال الأولى و «رجالات» المعتزلة قبل واصل بن عطاء موضع نظر، ويقول القاضي نفسه في صدر الطبقات «واعلم أن اسم الاعتزال وإن كان وقع أولا على من يقول بالوعيد والمنزلة بين المنزلتين، فقد صار في العرف اسما لمن يقول بالتوحيد والعدل وينفي التشبيه والجبر، سواء وافق في الوعيد أو خالف، وسواء خالف في مسائل الإمامة أو وافق وكذلك في فروع الكلام ... » «5» وقد لا يكون لهؤلاء المفسرين من

_ (1) انظر شرح العيون 1/ ورقة 71 - 75. (2) انظر طبقات المعتزلة صفحة 41. (3) انظر الفصلة من كتاب الفهرست المطبوعة مع كتاب «أرمغان علمي» ص 54. (4) الطبقات صفحة 56. (5) شرح العيون 1/ ورقة 67.

2 - أمثلة وشواهد:

الاعتزال إلا القول بقدرة العبد وأنها هي التي توجد الفعل، أو بعبارة أخرى: ليس لهم إلا رفض مذهب الجبر والنقض على المجبرة- ولذلك وسم بعضهم بالقدري- وهو الاسم الذي أطلق على المعتزلة أولا- ولهذا تغاضينا عن عد تفاسيرهم مع تفاسير المعتزلة في الفصل السابق. والذي يفسّر اعتماد الحاكم لآراء هؤلاء المفسرين الاربعة، فيما نرى، ولعه الشديد بالرد على المجبرة، ومحاولته الدائبة استنباط الأحكام الدالة على فساد مذهبهم من آيات جدّ كثيرة، كما سنرى عند الكلام على منهجه في التفسير. 2 - أمثلة وشواهد: ونورد فيما يلي فقرة واحدة من تفسيره توضح عنايته بآراء السلف، وتمهد للحديث عن مصادره الأخرى، وطريقته في الإفادة منها. قال في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) «1»: «المعنى: لما بين تعالى دين الحق «2» حثّ على إظهاره ونهى عن كتمانه فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ): قيل أهل الكتاب من اليهود والنصارى عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن والربيع والسدي والأصم وأبي علي، وقيل إنه كلام مستأنف في كل من كتم ما أنزل الله، عن أبي القاسم وأبي مسلم والقاضي، قال: ونزوله على سبب لا يوجب قصره عليه، ولا

_ (1) الآية 159 من سورة البقرة. (2) راجع الآيات السابقة.

مانع من حمله على العموم، وروى عن عائشة وأبي هريرة ما يدل على أنهما حملاه على العموم قال أبو هريرة: لولا آيتان من كتاب الله تعالى ما حدثتكم، وتلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ... (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) قيل: من الحجج المنزلة في الكتب، والهدى: الدلائل والأول علوم الشرع، والثاني أدلة العقل، فعم الوعيد في كتمان جميعها. (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) قيل: في التوراة والانجيل من صفته صلّى الله عليه وسلم من الأحكام، وقيل: في كل كتاب أنزله الله. وقيل: أراد بالمنزل الأول ما في كتب المتقدمين، وبالثاني ما في القرآن. (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ) يعني يبعدهم من رحمته (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) قيل: الملائكة والمؤمنون، عن قتادة والربيع وأبي علي، وقيل: دواب الأرض وهوامها يقولون: منعنا القطر لمعاصي ابن آدم، عن مجاهد وعكرمة وإنما عبر عنهم بعبارة ما يعقل لأنه أضيف اليهم فعل ما يعقل فعبر عنهم بعبارتهم، كقوله: (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ). وقيل: كل شيء سوى الثقلين الجن والإنس، عن ابن عباس. وقيل: من آمن به، عن الأصم وأبي مسلم. وقيل إن أهل النار يلعنونهم أيضا حيث كتموهم الدين، فهو على العموم. وعن ابن مسعود: إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق، فإن لم يكن مستحق حقت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله. وروي عن ابن عباس أن لهم لعنتين لعنة الله ولعنة الخلائق، قال: وذلك إذا وضع الرّجل في قبره فيسأل: ما دينك ومن ربك؟ فيقول ما أدري!

ثالثا: مصادره الاعتزالية

فيضرب ضربة فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين، ولا يسمع شيء إلا لعنه، ويقول له الملك: لا دريت! كذلك كنت في الدنيا. ومتى قيل: كيف يصح هذا وما روى عن مجاهد وعكرمة؟ قلنا: لا وجه له إلا أن يحمل على وجهين: أحدهما أنه يكون في الآخرة فيكمل عقولهم حتى يلعنوهم. والثاني: أن يحمل على أنه يلهمهم اللعنة، عن القاضي، وفيه تعسف. والصحيح الوجه الأول «1». ثالثا: مصادره الاعتزالية أما مصادره الاعتزالية- التي ذكر قسم كبير منها في هذا النص- فما تزال ترد في سائر الكتاب، ونقف في كتابه من أسماء شيوخ الاعتزال على الأسماء التالية: أبو علي الجبائي، أبو هاشم الجبائي، علي بن عيسى الرماني، أبو بكر الزبيري، محمد بن المستنير، أبو بكر الأصم، أبو مسلم الأصفهاني، أبو بكر أحمد بن علي، الجاحظ، أبو القاسم البلخي، القاضي عبد الجبار، أبو حامد النجاري، أبو بكر الأخشيد، أبو جعفر بن مبشر، كما ينقل عن عمرو بن عبيد، وغالبا ما يذكره مع الحسن البصري، ولعل هذا يرجح ما ذكره ابن النديم أن لعمرو بن عبيد «كتاب التفسير عن الحسن» فقد رواه عنه وذهب إلى موافقته فيما يبدو. 1) بين هذه التفاسير والتفاسير السابقة: وبمقارنة هذه الأسماء بأسماء أصحاب التفاسير الاعتزالية التي ذكرناها

_ (1) ورقة 189.

في الفصل السابق، تتضح عناية الحاكم بالنقل عن أهم تفاسير المعتزلة، من جهة، كما تتضح لنا- من جهة أخرى- الملاحظات الهامة التالية: أ- ينقل الحاكم عن تفسيرين يبدو أنهما من أهم تفاسير المعتزلة وإن لم يرد لهما ذكر في الطبقات وفي كتب التراجم، وهما تفسير أبي بكر الرازي، وتفسير أبي بكر الزبيري: أما الرازي فهو أحمد بن علي ترجم له الحاكم فيمن ذهب إلى الاعتزال من الفقهاء، وقال فيه «إنه لم يكن قبله ولا بعده من الفقهاء مثله علما وورعا وتصنيفا وزهدا» «1» والزبيري هو محمد بن إبراهيم من ولد الزبير بن العوام، عده القاضي في الطبقة الثامنة، وذكر أن له ثلاثة وثلاثين كتابا في الدقيق والجليل، وأنه أخذ المذاهب عن يحيى بن بشير الأرجاني، وإن كان يميل دائما إلى آراء أبي الهذيل العلاف بخاصة «2». ونقول الحاكم الكثيرة عنهما ترجح أن كلا منها كان له كتاب في التفسير، وإن لم يصرح الحاكم بالنقل عنه، لأنه جرى على عدم الإشارة إلى اسم أي تفسير، وإنما كان يكتفي بذكر الرأي وبذكر قائله فقط، على أن نقوله عن أبي بكر الزبيري أكثر، وقد نسب الحاكم إليه في تفسير فواتح السور قوله إن الله تعالى علم أن أناسا من هذه الأمة

_ (1) شرح عيون المسائل 1/ ورقة 157 وقد ذكره الحاكم أيضا في رجال الطبقة الثانية عشرة، وقال إنه توفي في حياة قاضي القضاة (شرح العيون 1/ 138). (2) شرح العيون 1/ 113.

سيقولون بقدم القرآن، أو سوف لا يقرّون بحدوثه فأنزل هذه الفواتح ليعلمهم أن القرآن مؤلف من هذه الحروف التي تواضع عليها العرب، وليدل بذلك على حدثه! وليس وراء هذه الحدة مغالاة متعصب!! ب- نقول الحاكم الكثيرة عن محمد بن المستنير (الشهير بقطرب) ترجح أنه كان ينقل عنه بطريق مباشر، وأنه كان ينقل عنه من كتابه (معاني القرآن) الذي ذكره ابن النديم «1». ح- نقوله القليلة والنادرة عن شيخه أبي حامد وعن الجاحظ، تدل على سماعه تفسير بعض الآيات من شيخه، أو الوقوف على تفسيرها في بعض كتبه وكتب الجاحظ، وجلّ نقله عن الجاحظ في مسائل البلاغة والكلام. وليس هناك ما يدل على أن أحدهما ألّف في تفسير القرآن. د- نقوله الكثيرة عن أبي هاشم الجبائي ترجح أن له كتابا كبيرا في التفسير وإن لم يذكره القاضي في ترجمته في الطبقات، وقد مرت الإشارة إلى تفسير أبي هاشم فيما نقله السبكي عن أبي يوسف القزويني أنه ملك أشياء نفسية عد منها «تفسير أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم» «2» حتى ليمكننا إضافته إلى التفاسير الاعتزالية السابقة، وإن كان من المؤكد أنه كان في وضعه يديم النظر في كتاب أبيه. هـ- لم يرد في كتاب الحاكم ما يدل على أنه اطلع على أي من تفاسير الأئمة السالفة أو أفاد منه، وإن كان ينقل كثيرا عن الإمام

_ (1) انظر الفهرست صفحة 52 طبع التجارية. (2) طبقات الشافعية الكبرى 3/ 230.

2 - عمده الرئيسية من هذه التفاسير، وموقفه من تفسير القاضي:

الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين في مسائل الفقه. وإذا اعتبرنا القاضي عبد الجبار المتوفى سنة 415 - والذي عمّر حتى جاوز التسعين- من أعلام القرن الرابع، فإن الحاكم لم يحفل بتفسير أحد من أعلام الاعتزال في القرن الخامس، وليس في كتانة ذكر لأبي الفتح الديلمي أو الماوردي أو القزويني، ولعل طريقة هؤلاء في التفسير طريقة الحاكم نفسه، وإن كان كتاب الحاكم أغنى من كتابي الديلمي والماوردي، وأقرب ما يكون- من حيث القدر ومن حيث الجمع والتهذيب- إلى تفسير القزويني، وقد مرّ ما ذكره ابن النجار أنه رأى من تفسير القزوينى مجلدا- من خمسمائة- في آية واحدة «1» وهي من قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) «2» ويبدو أن موافقة الحاكم له في المنهج- الاعتزالي- والطريقة جعلته أيضا يطيل الوقوف أمام هذه الآية، ويتبع الكلام عليها ب «الكلام في أحكام السحر» الذي اشتمل على ستة فصول «3». 2 - عمده الرئيسية من هذه التفاسير، وموقفه من تفسير القاضي: أ- ويعتمد الحاكم من هذه التفاسير بالدرجة الأولى، على تفاسير أبي علي الجبائي، وأبي مسلم الاصفهاني، وأبي القاسم البلخي «4»، وأبي

_ (1) انظره الفقرة 19 من الفصل السابق. والمجلدات التي يشار إليها عادة في مثل هذه العبارات: مجلدات حديثية، كالملازم والكراكيس. (2) الآية 102 من سورة البقرة. (3) انظر الورقات: 130 - 136 من التهذيب: المجلد الأول. (4) غالب نقل الحاكم عنه بعبارة: أبي القاسم.

بكر الأصم، بحيث يمكن عد هذه التفاسير الأربعة عمده الأساسية ومصادره التي لم يغفل عن النقل عنها في الأعم الأغلب. وقد تحدثنا عن كلف الجبائي بتفسير الأصم وعنايته بالوقوف على آرائه في التفسير، ولكن يبدو أن الجبائي كان كثير المخالفة له كما تدل نقول الحاكم عنهما، بحيث يصبح الاعتماد عليهما اعتمادا على مصدرين كبيرين غنيين، لا على مصدر واحد مكرر كما هي الحال في كتب بعض المعتمدين على المتقدمين والمعاصرين، وقد كان بين الرجلين مناظرات طويلة، على كل حال، كما ذكر القاضي عبد الجبار. وكما أشرنا إلى ذلك عند الكلام على تفسير الأصم. أما أبو مسلم الأصفهاني فقد كانت عناية الحاكم بالنقل عنه تفوق عناية الشريف المرتضى وأبي جعفر الطوسي والقاضي عبد الجبار، وإن كانت شهرة أبي مسلم عند القاضي تحمله دائما عند النقل عنه على الاكتفاء بقوله: قال أبو مسلم، أو قال أبو مسلم في تفسيره «1» ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن تفسير أبي مسلم كان أبعد التفاسير أثرا عند الحاكم وعند كثير من المفسرين، وإن وجوه التأويل الكثيرة التي كان يذكرها أبو مسلم لقيت أوسع الصدى عندهم. ويلمح المتتبع لآرائه في تفسير الحاكم بعض الخطوط الخاصة لمنهجه في التفسير- الذي كان متفقا مع منهج المعتزلة في خطوطه العامة بالطبع- ولعل هذا، إلى جانب ما ذكرناه، هو ما جعله من أهم مصادر الحاكم.

_ (1) انظر متشابه القرآن للقاضي بتحقيق المؤلف، ص 102 و 568.

ب- ويعترضنا هنا إشكال لا يسعنا التغاضي عنه، هو قلة نقول الحاكم عن تفسير القاضي عبد الجبار إذا قيست بنقوله عن التفاسير الثلاثة السابقة، في حين كان من المتوقع أو المفروض أن يكون دائم النقل عنه كثير الاستشهاد بآراء القاضي فيه وتأويلاته، نظرا لمكانة القاضي عنده، وأخذه عن تلامذته، واعتداده بآرائه في كثير من مسائل الفقه والكلام. والجواب عن ذلك: أن القاضي نفسه إنما اعتمد في تفسيره على تفسير شيخه أبي علي الجبائي، ولم يخالفه فيما يبدو مخالفة تذكر، يدل على ذلك- بعد أن افتقدنا تفسير القاضي- ما نجده في كتابه «اعجاز القرآن» - أحد أجزاء المغنى- من النقول عن مقدمة تفسير أبي علي، وإحالته فيه على كتب شيخه في علوم القرآن، منها كتابه: نقض الدامغ «1»، الذي رد فيه أبو علي على ابن الراوندي طعنه على القرآن بالتناقض، قال القاضي: «وقد تقصّى شيخنا أبو علي القول في ذلك- أي في بيان فساد ما يتعلقون به من التناقض في القرآن- في نقض كتاب الدامغ، وشفى الصدر رحمه الله بما أورده، وقد نبهنا على الأصل في ذلك، ولولا أن الكلام يطول لذكرنا بعضه ... » ثم قال: «ونحن نورد اليسير مما أورده ابن الراوندي وادعى به المناقضة، ليعرف به

_ (1) جاء اسم كتاب ابن الراوندي في مقدمة التحقيق القيمة التي صدر بها المحقق الفاضل الأستاذ السيد أحمد صقر كتاب «إعجاز القرآن للباقلاني»: «الدافع» ولم ينبه الأستاذ المحقق إلى هذا السهو في جدول التصويب، تاركا لبعضهم فيما يبدو مجالا «للبحث» ...

سخفه فيما ادعاه، وتمرده وتجرؤه، فالقليل يدل على الكثير. ونحيل في الباقي على ما نقض به شيخنا أبو علي رحمه الله كلامه ... » «1» هذا إلى جانب نقول القاضي الكثيرة عن تفسير شيخه أبي علي في كتابه المتشابه «2»، وعنايته الفائقة والمعروفة بكتب شيخيه- كما يحب أن يدعوهما- أبي علي وأبي هاشم رحمهما الله. وأوضح من هذا في الدلالة على إفادة القاضي من كتاب أبي علي واعتماده له- حتى إن الحاكم لم يجد في تفسير القاضي ما يركن إليه من آرائه الخاصة إلا القليل- اتهام أبي بكر بن العربي القاضي عبد الجبار أنه أخذ كتابه في التفسير من تفسير أبي الحسن الأشعري!! قال ابن العربي: «وانتدب أبو الحسن الأشعري إلى كتاب الله فشرحه في خمسمائة مجلد، وسماه بالمختزن، فمنه أخذ الناس كتبهم، ومنه أخذ عبد الجبار الهمذاني كتابه في تفسير القرآن، الذي أسماه «المحيط» في مائة سفر، قرأته في خزانة المدرسة النظامية بمدينة السلام» «3» وهذا اتهام باطل سبق لنا أن ناقشناه مطولا في دراستنا السابقة لكتاب القاضي عبد الجبار «متشابه القرآن» ولكن دلالته على اعتماد القاضي لتفسير شيخه أبي علي صحيح فيما نرجح، لأن الأشعري إنما وضع تفسيره

_ (1) إعجاز القرآن- الجزء 16 من المغني- ص 390. (2) نقل عنه في أكثر من أربعين موضعا، انظر الكتاب، وراجع إعجاز القرآن أيضا ص 158 وصفحة 397. (3) العواصم والقواصم لابن العربي ورقة 26 مخطوطة دار الكتب.

- أصلا- للرد على تفسير شيخه أبي علي والنقض عليه، وذلك بعد أن اعتزل الاعتزال- وكما أشرنا إلى ذلك عند الكلام على تفسير الجبائي. ويبدو أن الأشعري قد تتبع تفسير شيخه في المواضع التي اعتقد أنه أوّلها على رأيه أو على ما وسوس له به شيطانه- على حد قوله- قال ابن عساكر: «ثم ذكر- أي الأشعري- بعض المواضع التي أخطا فيها الجبائي في تفسيره وبين ما أخطا فيه من تأويل القرآن» «1» ولا بد أن هذه المواضع هي الآيات المشكلة والمتشابهة التي أقامها الأشعري على مذهبه الجديد، في حين ترك القول في سائر الآيات إلى ما ينقله أبو على فيها من وجوه اللغة والإعراب والنزول والقراءة .. أو لما يقارب كلامه في تفسيرها، حتى إن بعض المؤرخين يذكر أن الأشعري قد ألف تفسيره على طريقة المعتزلة!! وبهذا فإن تفسير الأشعري يقارب- على وجه- تفسير شيخه أبي علي، فإذا صح ما ذكره ابن العربي من تشابه تفسير القاضي لتفسير الأشعري- وهو صحيح وإن لم يكن القاضي فيه عالة على أبي الحسن- صح لنا القول إن القاضي اعتمد في تفسيره على كتاب شيخه أبي علي- فعل الأشعري، وإن كان اعتماد كل منهما كان على وجه مغاير للآخر- ونستطيع بعد ذلك أن «نتهم» الحاكم بأنه لم يعرض لذكر القاضي أو للنقل عنه إلا حين وجده ينفرد بوجه من وجوه التأويل أو الترجيح، أو حين يرغب الحاكم نفسه في «مظاهرة» رأي ذهب هو إلى

_ (1) تبيين كذب المفتري صفحة 139.

رابعا: نقوله العامة أو المبهمة

ترجيحه، فتجده يقرن القاضي بأبي علي في أغلب المواطن، فيقول: «عن أبي علي والقاضي» أو «عن أبي علي، واختاره القاضي»، أو «وهو قول الحسن وأبي علي واختيار القاضي» ... الخ «1» رابعا: نقوله العامة أو المبهمة والحاكم، بعد، يورد كثيرا من الأقوال دون أن ينسبها إلى أحد، وإنما يكتفي بذكرها مسبوقة بكلمة «قيل»، كما اعتاد أن ينسب بعض الأقوال الى «أهل التفسير» أو الى «علماء التفسير». وأن يقول في بعض الأحيان: «قال علماؤنا» أو قال علماؤنا وعلماء التفسير، وهؤلاء

_ (1) قال في تفسيره لقوله تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ... ) الآيات من سورة الفتح: «والصحيح أن هذه الآيات كلها في تبوك والمخلفين فيه- يرد على من ذهب إلى غير ذلك- ثم قال: «وهو قول الحسن وأبي علي واختيار القاضي». وقال في الأقسام الواردة في القرآن: إن المقسم به هو الله تعالى رب هذه الأشياء والمخلوقات- والآراء في هذه الأقسام كثيرة- قال «عن أبي علي والقاضي» - انظر مثلا سورة الصافات ورقة 156/ و. وقال في تزيين الشهوات- من جملة آراء- إن المعنى أن الله تعالى زين منها ما يحسن، وزين الشيطان ما يقبح، ثم قال: «عن أبي علي، واختاره القاضي» سورة آل عمران الآية 14/ ورقة 10. هذا عدا عن الأمور الكلامية الكثيرة التي تملا تفسير الحاكم، والتي لا يخلو أن يكون فيها رأي للقاضي، يرجح به قولا لأبي هاشم أو لأبي علي في الأعم الأغلب، كما سنرى ذلك في الفصول القادمة.

خامسا: حول طريقته في الافادة من المصادر

هم الذين ينسب إليهم أيضا كثيرا من الأقوال ويسميهم «أهل العدل» أو مشايخه أو «مشايخ العدليين» - كما سنجد كل ذلك في شواهده التي ننقلها عنه- وغالبا ما تكون المواطن التي ينقل فيها عن أهل التفسير أو أهل العدل- جملة- موطن اتفاق بين أولئك، أو بين هؤلاء. خامسا: حول طريقته في الافادة من المصادر وطريقة الحاكم التي جرى عليها في وضع كتابه، والتي ألمح إليها في مقدمته حين قال إن للأولين فضل السبق، وللآخرين جودة التهذيب وزيادة الفوائد، وإنه قد جمع في كتابه جملا وجوامع من علوم القرآن قد أعفي معها- إلى حد بعيد- من ذكر أدلة الأقوال التي يوردها، وبخاصة أقوال مفسري المعتزلة الذين يأتي على رأسهم: الثلاثة الذين تحدثنا عنهم، وفي مقدمتهم أبو مسلم الذي انفرد بكثير من الآراء ووجوه التأويل، وبعض الأدلة الموجزة العارضة التي كان يذكرها لبعض الأقوال لا يمكنها أن تثبت للمناقشة والجدل، سواء أكان ذلك من الحاكم نفسه- كما كان يفعل في بعض الأحيان- أم من غيره. وبالرغم من أننا خسرنا بذلك الكثير، إلا أن حشد مثل هذا العدد الكبير من «التفاسير» على صعيد واحد، والموازنة بين آراء أصحابها والترجيح بين أدلتهم، لم يكن من هم الحاكم في شيء، بل لعله لو فعل ذلك لزاد حجم تفسيره على حجم كتاب الرازي، ولصعب علينا الوقوف على معالم شخصيته في التفسير والتأويل من وراء ركام الردود والمناقشات. ونورد فيما يلي- في سبيل إيضاح مدى طريقته في التهذيب والاختصار- بعض الشواهد، مقارنة بنقول بعض المفسرين الآخرين في نفس الآيات:

قال الحاكم في تفسير قوله تعالى: (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً ... ) «1»: «قيل: هي جنة الخلد، عن جماعة من المفسرين، وهو قول الحسن وواصل وعمرو وأبي علي. وقيل هي جنة من جنان السماء غير جنة الخلد لأن جنة الخلد أكلها دائم ولا تكليف فيها، عن أبي هاشم. وقيل: جنة من جنان الدنيا في الأرض، وقوله (اهبطوا) لا يقتضي أن تكون في السماء، كقوله (اهبطوا مصرا) عن أبي مسلم، وليس بالوجه لظهور الأمر أنه كان في السماء، ولقوله (اهبطوا)، وما ذكر مجاز فلا يقاس عليه غيره» «2» فلم يزد في النقل عن أبي مسلم على ذكر قوله إن الجنة كانت في الأرض، وإن قوله (اهبطوا) لا يقتضي نقيضه، ثم رد عليه ذلك، في حين أن الرازي ينقل أبي مسلم في التدليل على ما ذهب إليه كلاما طويلا نثبته فيما يلي: قال: «تأويل الآية: هذه الجنة كانت في الأرض، والإهباط: الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى (اهْبِطُوا مِصْراً) واحتج عليه بوجوه: أحدها: أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد، ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله: (هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) ولما صح قوله:

_ (1) الآية 35 من سورة البقرة. (2) التهذيب، المجلد الأول، ورقة 60/ ظ.

(ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ). وثانيهما: أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى: (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ). وثالثها: أن إبليس لما امتنع من السجود لعن، فما كان يقدر مع غضب الله على أن يصل إلى جنة الخلد! ورابعها: أن الجنة التي هي دار الثواب لا يفنى نعيمها لقوله تعالى: (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) ولقوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) إلى أن قال (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع، فهذه الجنة لو كانت هي التي دخلها آدم عليه السّلام لما فنيت لكنها تفنى لقوله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ولما خرج منها آدم عليه السلام، لكنه خرج منها، وانقطعت تلك الراحات. وخامسها: أنه لا يجوز في حكمته تعالى أن يبتدئ الخلق في جنة يخلّدهم فيها ولا تكليف، لأنه تعالى لا يعطي جزاء العاملين من ليس بعامل، ولأنه لا يهمل عباده، بل لا بد من ترغيب وترهيب ووعد ووعيد. وسادسها: لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان ذلك أولى بالذكر، لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم، فدل ذلك على أنه لم يحصل. وذلك يوجب أن المراد من الجنة التي قال الله تعالى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) جنة أخرى غير جنة الخلد» «1». وبالرغم من أن الحاكم قد يجزئ النقل عن المفسرين والاستشهاد

_ (1) ملتقط جامع التأويل، ص 2 - 3 (التفسير الكبير 3/ 3).

بتأويلاتهم في الآية الواحدة- أو الآيات- تبعا لتقسيمه لها إلى جمل ومقاطع «تفسيرية» حتى يظن أنه أسرف في الاختصار والتلخيص، أو أنه- على العكس من ذلك- لم يصل في اختصاره إلى الحد الذي ألمحنا اليه، فإنه في الواقع لم يخالف طريقته المعهودة في «التهذيب» في جميع الأحوال، ولنا أن نضرب على ذلك مثالا آخر من نقوله عن أبي مسلم أيضا، وهو تفسيره لآية (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ ... ) «1» التي ألمحنا إلى اطالته القول فيها فيما تقدم، فنقوله المبعثرة فيها عن أبي مسلم قد تتجاوز ما نقله الرازي عنه في نفس الآية، ولكن الحاكم لم يزد في النقل عنه في تفسير قوله تعالى: (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) على القول: قال أبو مسلم: «أي لم ينزل السحر على الملكين- وكان الحاكم قد قدم في إعراب الآية أن أبا مسلم يذهب إلى أن «ما» نافية- لأن ما ينزل عليهما ينزله الله تعالى، والسحر لا يضاف اليه، ولهذا أضافه إليهم وكفّرهم به، ويعلمون الشياطين دون الملكين» «2». في حين أن الرازي ينقل عن أبي مسلم في إنكاره أن يكون السحر نازلا عليهما الوجوه الآتية: «الأول: أن السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزله هو الله، وذلك غير جائز لأن السحر كفر وعبث، ولا يليق بالله

_ (1) الآية 102 من سورة البقرة. (2) التهذيب ورقة 132.

تعالى إنزال ذلك. الثاني: أن قوله: (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) يدل على أن تعليم السحر كفر، فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر، وذلك باطل. الثالث: كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فكذلك في الملائكة بطريق الأولى. الرابع: أن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة، فكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب؟ وهل السحر إلا الباطل المموّه؟! وقد جرت عادة الله تعالى بإبطاله كما قال في قصة موسى عليه السلام: (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) «1». وبعد، فإن في نقول الحاكم والرازي عن أبي القاسم وأبي مسلم والقاضي مزيدا من الأمثلة «2»، وفي نقول الشريف المرتضى عنهما وعن الجبائيين والرماني وأبي القاسم، ما يصلح لمزيد من المقارنات والشواهد، وإن كانت طريقة الشريف المرتضى في الأعم هل طريقة الحاكم نفسه.

_ (1) ملتقط جامع التأويل، ص 8 والآية 81 من سورة يونس. (2) أورد الحاكم رأي أبي مسلم في تفسير قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ثم أورده أدلته الكثيرة على رأيه، ويبدو أنه رأى أنها ما تزال مطولة بالرغم مما أورده، فختمها بقوله: (ذكر جميع ذلك أبو مسلم وطول الكلام فيه) التهذيب ورقة 32.

الباب الثالث منهج الحاكم في تفسير القرآن

الباب الثالث منهج الحاكم في تفسير القرآن

الفصل الأوّل قاعدة الحاكم الفكريّة ومحوره في تفسيره أولا: قاعدته الفكرية العامة يتصل منهج الحاكم في تفسير القرآن بمذهبه في التوحيد والعدل، بل إنه في أسسه وقواعده ينبني على هذا المذهب وينطلق منه، وهذه هي حال جميع المعتزلة على حد سواء، ولو جاز لأحد غيرهم أن يهمل النظر في أصوله الفكرية وهو يشرع في تفسير كتاب الله تعالى، لما قدر واحد من المعتزلة على ذلك، لأن تقديم القول بالعدل والتوحيد عندهم ليس ضروريا للتفسير فحسب، بل لا بد منه لمعرفة النبوات والشرائع جميعا، قال الحاكم: «يجب أولا أن يعرف الله تعالى بصفاته وعدله، ثم تعلم النبوات، ثم يعلم الفقه والشرائع والحديث والتفسير، لأن معرفة الشرع لا تتم إلا بمعرفة الكتاب والسنن. فعلى هذا الترتيب تجب هذه العلوم» «1». وهذا معنى قوله أيضا: «وشيء من العلوم لا يصح إلا بعد معرفة الله وتوحيده وعدله» «2» وإلى ذلك أشار القاضي عبد الجبار من قبل، وهو يتحدث عن

_ (1) شرح عيون المسائل، المجلد الأول، ورقة 57/ ظ. (2) المصدر السابق، ورقة 56/ و.

ضرورة علم المفسر لكتاب الله باللغة والنحو وأصول الفقه، فقال: «ولن يكون- أي المفسر- عالما بهذه الأحوال إلا وهو عالم بتوحيد الله وعدله وما يجب له من الصفات وما يصح وما يستحيل، وما يحسن منه فعله وما لا يحسن» «1». ومن هنا جاء نعي الحاكم على الذين يقدمون على تفسير كتاب الله تعالى من غير معرفة عندهم بصفاته وعدله، ومن غير تحصيلهم علم الكلام الذي عده بمثابة الأصل، فقال فيهم «إنهم اشتغلوا بالفرع من غير إحكام الأصل فكانوا كالقابضين على الماء» وإنهم «قنعوا بالاسم وطلبوا الرئاسة ورضوا بأن يكونوا متبوعين» وقد حكم على عملهم هذا بأنه ضرب من المحال! في حين جعل المرجع في التفسير إلى قومه من المعتزلة، ووصفهم بأنهم «في الحقيقة الفقهاء المفسرون» «2» وأشار إليهم ببراعة في آخر صفحة في تفسيره فقال: «وأسأل كل من نظر في كتابي هذا من إخواني من أهل العدل والتوحيد إصلاح ما يجدونه فيه من غلط، فالعبد لا يخلو منه، وأوصيهم بالدعاء والاستغفار لمصنفه وتقديم ما ينفعه، فالأخوة في الدين فوق الأخوة في النسب» «3» فكأنه بذلك لم يعتد بتخطئة من يخطئه من غيرهم ممن يتهمه بأنه يضيع الأصل ويصرف عنايته إلى الفرع! بل إن الحاكم ليرى في هذا المنهج الذي يقدّم فيه القول بالتوحيد

_ (1) شرح الأصول الخمسة، صفحة 606. (2) شرح العيون 1/ 57. (3) التهذيب، المجلد الأخير، ورقة 161/ و.

والعدل على أي شيء آخر أنه منهج الأنبياء في دعوتهم إلى الله، كما استدل على ذلك بآيات كثيرة من كتاب الله الكريم، قال في قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) «1»: إن الآية تدل على أن القوم كانوا كفارا، فلذلك بدأ بالتوحيد والدعاء إليه. ثم قال: «وهذا دأب الرسل يدعون إلى أهم الأمور، وهو التوحيد الذي لا يصح شيء من العلوم إلا بعده، ثم بعد قبوله يبينون الشرائع». وقال في قوله تعالى: (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً). إنها تدل على وجوب تعظيم الله وإثبات توحيده وعدله، ثم عبادته. وقال في قوله تعالى: (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) «2» «إن دعوة الأنبياء- عليهم السلام- على نسق واحد، تبدأ بالتوحيد والعدل والنبوات، ثم يأمر بالتقوى وينهى عن المنكرات، ثم يبين الشرائع»، ولهذا استدل الحاكم بهذه الآيات على «أن الأهم الذي يبدأ به: الدعاء إلى التوحيد والعدل».

_ (1) الآيات 1 - 4 سورة نوح، التهذيب ورقة 115/ و. (2) الآيات 123 - 127 سورة الشعراء، التهذيب ورقة 17.

وفسر تصديق القرآن للذي بين يديه، في قوله تعالى: (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) «1» بأنه موافق لما تقدمه من الكتب المنزلة في التوحيد والعدل، وإن خالفها في الشرائع. وقد عد الحاكم المنع من إظهار التوحيد والعدل من أعظم الذنب، فقال في قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها ... ) «2»: «وإذا كان المنع من المساجد ظلما عظيما، فالمنع من إظهار التوحيد والعدل ودين الحق أعظم!». ولا ينازع الحاكم في أن العدل والتوحيد منهج الأنبياء، ولكنه هو وقومه قد فلسفوا هذا الأصل فلسفة خاصة امتازوا بها من سائر الفرق. ونكتفي هنا في بيان هذا الأصل بالوقوف على المعنى الاجمالي لكل من «التوحيد» و «العدل» وما يندرج تحتهما من سائر الأصول الاعتزالية التي تحكم تفسير الحاكم! كلّ ذلك بالقدر الذي يمهد لنا السبيل لفهم أهم المسائل التي أثارها في تفسيره، ولنقف- بالدرجة الأولى- على الأساس الذي يركن اليه باستمرار في «التأويل» والحمل على المجاز، وفي التفريق بين المحكم والمتشابه، كما سنرى ذلك في الفصول القادمة. 1 - التوحيد: قال الحاكم: إن المعتزلة أجمعوا في مقدمات التوحيد على أن العالم وكلّ موجود سواه تعالى محدث، وأنه تعالى يعرف بالنظر والدليل، وأن دليل إثباته فعله الذي لا يدخل تحت مقدور العباد ... وأن

_ (1) الآية 97 من سورة البقرة، التهذيب ورقة 127. (2) الآية 114 من سورة البقرة، التهذيب ورقة 146.

صنع العالم لا يجوز كونه بالطباع، ولا من تأثير النجوم، ولا من تأثير شيء من الأشياء. كما أجمعوا في «التوحيد» - كما ينص الحاكم- على أنه تعالى «واحد في صفاته التي لا يشاركه فيها غيره، نحو كونه قديما قادرا عالما حيا غنيا» قال: وبالقدم باين المحدثات من الأجسام والأعراض، وبكونه قادرا لذاته، باين سائر القادرين العالمين الأحياء- وأجمعوا على أنه تعالى «لا نظير له ولا شبيه، وليس بجسم ولا عرض، ولا يجوز عليه المكان والحركة والسكون والجوارح والأعضاء» - قال: وبهذه الجملة باينوا الثنوية والنصارى والمشبهة والصفاتية «1». وقد عرّف القاضي «التوحيد» بقوله: «العلم بأن الله تعالى واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفيا وإثباتا، على الحد الذي يستحقه، والإقرار به» «2». وذهب الحاكم في دعواه إجماع المعتزلة على تفسيره السابق للتوحيد- الذي يمكن اعتباره شرحا لتعريف القاضي- إلى نفي أن يكون رأى ثمامة في المتولد، ومعمر في الطباع، وقول البغدادية- في الصفات- «إنه ليس بسميع ولا بصير» ينقضه أو ينقصه، على الرغم من رده الدائب- في تفسيره- على البغدادية في مسألة السمع والبصر، قال في قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى) «3» إنه يدل على أنه تعالى «يرى الأشياء،

_ (1) انظر شرح عيون المسائل، المجلد 1/ ورقة 67 - 68. (2) شرح الأصول الخمسة ص 128. (3) الآية 14 سورة العلق، التهذيب ورقة 151/ و.

وحقيقته جائز فلا معنى للعدول عن الظاهر، خلاف ما تقوله البغدادية بأن معناه يعلم». وقال في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) «1» إنه يدل على «أن السمع صفة زائدة على العلم، خلاف ما تقوله البغدادية». وقال في قوله تعالى: (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) «2» إن قوله «يراك» يدل على أنه تعالى يرى الأشياء، ويدل قوله «السميع العليم» على أنه سميع، إذ لو أن السميع معناه العالم لكان تكرارا، وذلك يبطل قول البغدادية. 2 - العدل: ويعني المعتزلة بقولهم إن الله عدل- كما يذكر القاضي- أن أفعاله تعالى كلها حسنة، وأنه لا يفعل القبيح، ولا يخل بما أوجبه على نفسه «3». وذكر الحاكم أن قومه أجمعوا في باب العدل على أنه تعالى منزه من كل قبيح، وأن كل قبيح فهو من فعل غيره من العباد،

_ (1) الآية 1 سورة الحجرات، التهذيب ورقة 60/ ظ. (2) الآيات 218 - 220 سورة الشعراء، ورقة 21/ ظ. (3) شرح الأصول الخمسة صفحة 132، وعبارة القاضى: «ولا يخل بما هو واجب عليه» وقد عدلنا عنها إلى ما ذكرنا لأنهم يقولون- كما ينقل الشريف المرتضى تلميذ القاضي- «إنه لا يجب على الله تعالى شيء ابتداء، وإنما يجب عليه ما أوجبه على نفسه، فالثواب مما كان أوجبه على نفسه بالتكليف، وكذلك التمكين والألطاف ... ولولا إيجابه له على نفسه بالتكليف لما وجب» ولا يخلو قولهم بالوجوب على الله جل ثناؤه، بأي عبارة كان، من سوء الأدب. وأستاذنا أبو زهرة يرى أن تكون: «بما هو واجب له سبحانه». راجع أمالي المرتضى 1/ 344.

وأنه لا يريد القبيح ولا يرضاه، وأن أفعال العباد حادثة من جهتهم، وأنه يكلف العباد لنفعهم لأنه عرّضهم للثواب، وأنه أزاح عللهم بإعطاء الآلة والقدرة قبل الفعل، وأنه لا يكلف العباد ما لا يطيقون، وأنه يثيب من أطاعه ويعذب من عصاه- ولا يعذب من غير ذنب- وأن القرآن كلامه، وهو المتلو السور والآيات بلغة العرب، وأنه محدث غير قديم «1». ولقد تفرع على هذين الأصلين الكبيرين اللذين أصبحا عنوانا على مذهب المعتزلة- أو على أحدهما- سائر أصولهم الخمس المعروفة، وهي: «الوعد والوعيد» و «المنزلة بين المنزلتين» و «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وقد قال بعضهم إن الذي حملهم على هذا التفصيل، على الرغم من دخول هذه الأصول الثلاثة في باب «العدل»، هو «ظهور الخلاف بين الناس في كل واحد من هذه الأصول» «2» وإن كانت مسألة «المنزلة بين المنزلتين» في الواقع هي أول المسائل ظهورا، ومن أكثرها أهمية كذلك. ونعرض فيما يلي لرأي الحاكم في هذه الأصول الثلاثة، مشفوعة ببعض الأمثلة والشواهد القرآنية التي استدل بها على صحة مذهبه في هذه الأصول، أما شواهده التي لا تكاد تحصى على صحة مذهبه في «العدل والتوحيد» فسوف تعرض عند الكلام على محوره في تفسيره في الفقرة التالية، لأن العدل والتوحيد- بحدهما السابق- وإن كانا يشكلان القاعدة الفكرية.

_ (1) انظر شرح العيون 1/ 67 وراجع شرح الأصول ص 133. (2) انظر شرح الأصول، ص 123.

العامة للحاكم، إلا أنه أقام من خصومته مع المجبرة- كما سنرى- الذين ناقضوا العدل والتوحيد، محور تفسيره الكبير، والآيات الدالة عنده على العدل والتوحيد هي بعينها الدالة على نقض الجبر والتشبيه، ولهذا آثرنا عرض هذه الآيات بالتفصيل من الوجهة الأخرى من خلال الكلام على نقضه على المجبرة، ومن خلال أمور أخرى رأينا أنها تشكل محور تفسيره، وربما تفكيره كذلك. على أنه كان يستدل على هذين الأصلين في مواطن أخرى ظاهرة، وإن كان لا يزيد في استدلاله هذا على كلماته السابقة التي قدمها في شرحهما، قال في قوله تعالى: (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) «1» إن هذه الآيات تدل على صانع حكيم، قال: «ووجه الدلالة من وجهين: أحدهما: ما يختلف من الأحوال ويتجدد ولا يقدر عليها الواحد منا، فلا بد من صانع حكيم، والثاني: أن هذه الأشياء محدثة لأنه لا تخلو من المحدثات وما يتقدمها، وإذا كان محدثا فلا بد له من محدث قادر عالم حي سميع بصير قديم، ليس بجسم ولا عرض، ولا يشبهه شيء، ولا يجوز عليه ما يختص الجسم كالجوارح والأعضاء، ولا يدرك بشيء من الحواس، وأنه واحد ليس معه قديم. وأنه حكيم لا يفعل إلا الحسن، ولا يفعل القبيح،

_ (1) الآيات 3 - 5 سورة الجائية ورقة 46/ و.

خلق القرآن:

فيعلم أن القبيح فعل غيره، وإذا كلّف فلا بد أن يجازي، وإذا علم أن الشريعة لطف فلا بد أن يبين. فأفعاله بما ذكر تدل على جميع صفاته إما بنفسه أو بواسطة، وتفصيل ذلك يطول، وهو مذكور في كتب المشايخ». خلق القرآن: ولعل المسألة الوحيدة من مسائل العدل التي نأى بها عن جو المناقشة والجدل- ولم يكثر من الوقوف عندها- والتي يحسن تقديمها هنا قبل أن نورد آراءه في الأصول الثلاثة الأخرى السابقة، هي مسألة خلق القرآن: قال في قوله تعالى: (حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) «1»: يدل قوله «تنزيل» على حدوث القرآن من وجهين: أحدهما: أن الإنزال على القديم لا يجوز. والثاني: أن قوله «من الله» يقتضي الفعلية، كقولهم: الإحسان والنعم منه. وقال في قوله تعالى: (حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيراً وَنَذِيراً) «2» إنه يدل على حدوث القرآن من حيث وصفه بأنه «فصلت» وبالآيات، وبالقرآن، وبأنه عربي، وبأنه بشير ونذير، قال: «وكل ذلك دلالة على حدوثه». واستدل على ذلك أيضا بقوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ

_ (1) الآيتان 1 - 2 سورة الأحقاف، ورقة 48/ ظ. (2) الآيات 1 - 4 سورة فصلت، ورقة 24/ ظ.

مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) «1» «لأن كل هذا لا يليق بالقديم لا حقيقة ولا مجازا». وذكر في قوله تعالى: (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها .. ) «2» أن الآية تدل على حدوث النداء «لأن ظاهره يقتضي أن النداء بعد المجيء، فإذا كان النداء كلامه وهو محدث بطل قول من قال إنه قديم. ولعل الحاكم لم يقف أمام الآيات الدالة على مذهبه في خلق القرآن بأكثر مما فعل شيخه القاضي عبد الجبار الذي صنف هذه الآيات في بعض القواعد الجامعة، منها قوله: «وكل ما ورد في كتاب الله عز وجل مما يدل على أن الله تعالى يغيّر القرآن أو بعضه، أو يقدر عليه، أو يبدله بغيره، أو يقدر على مثله، أو يأتي بمثله، أو يجتزئ منه، يدل على حدوثه ... » «3». 3 - الوعد والوعيد: الوعد هو كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه في المستقبل. والوعيد هو كل خبر يتضمن إيصال ضرر إلى الغير أو تفويت نفع عنه في المستقبل. وقد وعد الله تعالى المطيعين بالثواب، وتوعد العصاة بالعقاب، فلا بد أن يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف «4».

_ (1) الآيات 77 - 79 سورة الواقعة، ورقة 84/ و. (2) الآية 8 سورة النمل، ورقة 24/ و. (3) انظر تفصيل ذلك مع قواعد أخرى هامة، في المغني 7/ 89 فما بعدها. (4) انظر شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار صفحة 134 - 136.

ولهذا ذهب جمهور المعتزلة إلى أن مرتكب الكبيرة من أهل النار أبدا، ونقض الحاكم على جماعة منهم ذهبوا إلى الارجاء لأنه- كما يقول الحاكم- لا يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط واستثناء لم يبينه الله تعالى، لأن الحكيم لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب لا يريد به ظاهره، تم لا يبين مراده «1» قال الحاكم في تفسيره قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ، وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) «2»: إن الفجار العصاة المرتكبين للكبائر في النار، والفجور اسم للعصيان، ولهذا يقال للزاني: فاجر ومعنى «يصلونها» أي يلازمونها للتعذيب، وقال أبو مسلم: يصيرون صلاءها، أي حطبها. قال الحاكم: «وتدل الآية على قولنا في الوعيد من جهات: أحدها أنه فصل بين البر والفاجر، فدل على أن الفجار ليسوا من الأبرار، بخلاف قول المرجئة. ومنها: أنه عم جميع الفجار ولم يخص، فلا فاجر إلا ويدخل تحت الآية، خلاف قولهم. ومنها قوله (لَفِي جَحِيمٍ) فلم يثبت لهم مكانا غيره. ومنها قوله (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) فدل على الدوام» ثم قال: «ومتى قيل: أراد بالفجار الكفار! قلنا: عنه أجوبة، أحدها: أنه لو صح لدخل بعض الفجار الجنة ولكانوا من الأبرار، وهذا خلاف الآية. وثانيها: أن الآية عامة. وثالثها: أن أهل القبلة مخاطبون بالاتفاق، ولو تناول الكفار لما كانوا مخاطبين لأن الفجور اسم لجميع المعاصي». وذكر أبو مسلم أن

_ (1) انظر شرح العيون 1/ 68. (2) الآيات 13 - 16 سورة الانفطار، التهذيب ورقة 137/ و.

من يدعي التخصيص في مثل هذا لا يبعد قوله، لأن ما تقدم كلام في المكذبين، وإن كان الأصل هو العموم، قال الحاكم: «وجوابنا أن المعتبر عموم اللفظ لا ما تقدم». وقال في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) «1» أنه يدل على أن كل مجرم في عذاب جهنم، والفاسق مجرم، ويدل على أن الفساق يكونون في النار. قال: «ومتى قيل: أراد به الكفار، لذلك قال: (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) وقال: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) قلنا: اللفظ عام، والفاسق يكره الحق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والفاسق يكيد المؤمنين أيضا، فلا مانع من حمل الآية على عمومها». وذكر في تفسير قوله تعالى: (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ، ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) «2» أن وعده ووعيده لا يتبدل، وأنه تعالى لا يعاقب بغير ذنب ولا يجازي بالحسنة سيئة، ولا يمنع الثواب من استحقه. ثم قال: «ويدل قوله (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أن وعيده لا خلف فيه، خلاف قول بعض المرجئة. وبهذه الآية احتج عمرو بن عبيد على أبي عمرو بن العلاء بمكة لما ناظره في الوعيد» قال الحاكم: «ومتى قيل: من أوعد غيره ثم خالف يعد إحسانا، قلنا: فينا ذلك، لأنا نعلم العواقب فنخبر عن عزمنا، والله تعالى عالم

_ (1) الآيتان 74 - 75 سورة الزخرف، ورقة 42/ و. (2) الآيتان 28 - 29 سورة ق، ورقة 64/ ظ.

بالعواقب فيخبر عنه كما يكون، وإلا كان كاذبا! تعالى الله عن ذلك». وقال في قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) «1» إنها تدل على أن العصاة يخلدون في النار خلاف قول المرجئة. ولا يستثنى من عمومات الوعيد عند الحاكم إلا التائب وصاحب الصغيرة، لأن القديم تعالى إذا توعد العصاة فإنما يتوعدهم بالعقاب الحسن، ولا يحسن معاقبة التائب ومرتكب الصغيرة، وقد قال تعالى في شأن التائب: (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) «2» قال الحاكم إن الآية تدل على أمور، منها: زوال الوعيد والعقاب بالتوبة. ومنها: أن التوبة لا تتكامل في نيل الثواب إلا بانضمام فعل الواجبات اليها واتقاء المعاصي ... ومنها: دلالة قوله (أتوب) على أنه تعالى يقبل التوبة. قال الحاكم: «ومتى قيل: هل يجب قبولها أم لا؟ قلنا: عندنا واجب!! وعند بعضهم تفضل. والأول الوجه لأنه بمنزلة العذر، ولأنه أتى بما في وسعه، ولأنه لولا ذلك لما كان له طريق إلى إزالة العقوبة عن نفسه مع بقاء التكليف، وهذا لا يجوز»!! أما انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، فقد أشير إليه بقوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) «3» قال الحاكم:

_ (1) الآية 23 سورة الجن، ورقة 118. (2) الآية 160 سورة البقرة، ورقة 190. (3) من الآيتين 31 - 32 سورة النساء، ورقة 145.

«تدل الآية أن في الذنوب صغائر وكبائر، ولولا السمع لجوزنا أن تكون كلها كبائر إلا ذنوب الأنبياء، فالكبائر لا تجوز عليهم. وتدل على أن الصغائر تصير مكفّرة عند اجتناب الكبائر. وتدل على أنه إذا لم يجتنب الكبائر يعاقب عليها، فلهذا قلنا: الكافر والفاسق يعاقب على جميع ذنوبهم». وقال في قوله تعالى: (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) «1»: «والصحيح عندنا أن الكبير ما يزيد عقابه على ثواب صاحبه، كالقتل والزنا ونحو ذلك. وقيل: ما لا يكفره إلا التوبة. والفواحش: كل قبيح فاحشة، وهو الوجه» وعرف الصغير بأنه ما يصغر عقابه عن ثواب صاحبه، وقال إن الذي عليه مشايخه في تفسير «اللمم» إنه الصغائر من الذنوب عمدا أو سهوا، وان هذه الآية نظير الآية السابقة، قال: وهو قول أبي علي وأبي مسلم والقاضي. وذكر أن قوله تعالى: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) «2» يدل على أن في الذنوب صغيرا وكبيرا، وأن جميع ذلك مكتوب محفوظ للجزاء، خلاف ما قاله قوم إن الصغائر لا تثبت. قال الحاكم: «ومتى قيل: أليس الصغائر مغفورة؟ قلنا: لا صغير للكافر والفاسق- لأن استحقاق الثواب مرهون باجتناب الكبائر «3» - وانما الصغائر للمؤمن، فتثبت للموازنة».

_ (1) من الآيتين 31 - 32 سورة النجم، ورقة 73/ و. (2) الآية 53 سورة القمر، ورقة 78/ و. (3) انظر ورقة 35/ ومن التهذيب الجزء السابق.

ولعل هذا لا ينافي عند الحاكم أن يحط عن الكافر والفاسق من سيئاته بمقدار ما له من الحسنات، فتثبت فيه نوع من الموازنة، وإن كان ذلك لا يجعله من أهل الثواب، أو يسقط عنه العقوبة. وإلا فان مذهبه في الموازنة- التي تابع فيها أبا هاشم وخالف أبا علي- لا يخلو من اضطراب، قال في قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) «1» قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر إلا أراه الله عمله، فأما المؤمن فيريه حسناته وسيئاته فيغفر له سيئاته ويثيبه على حسناته، وأما الكافر فيحبط حسناته ويعذبه بسيئاته. ونقل عن بعض المعتزلة أن معنى قوله: «خَيْراً يَرَهُ» أنه يجد جزاء ما عمل من الخير وإن قلّ على الرؤية لا على الجزاء، لأن المحبط والمكفر لا يجازى عليه، فأما «المؤمن والتائب فيرى السيئات مكفرة، ويثاب على الحسنات من غير بخس! وأما الكافر فيرى حسناته محبطة، وذنوبه يعاقب عليها أجمع!» قال الحاكم: «فأما عند مشايخنا فيجازى على جميع أفعاله لا يضيع شيء، فإن كان مؤمنا يجازى على حسناته، وما كان من سيئاته فيحبط بقدره من ثوابه. وإن كان كافرا يعاقب على ذنوبه، وما كان من سيئاته فيحبط بقدره من عقابه بقدره، فيكون قد وجد جزاء جميع أفعاله» ثم قال: «وهذه هي الموازنة التي ذهب إليها شيخنا أبو هاشم وأصحابه، وعليه يدل الظاهر». وقال في قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ... ) الآية، إنها تدل على صحة الموازنة كما يقوله أبو هاشم «2».

_ (1) الآيتان 7 - 8 سورة الزلزلة، ورقة 153/ و. (2) التهذيب، ورقة 154/ وانظر شرح الأصول للقاضي صفحه 628 - 629.

ولعل أهم مسألة تتصل بباب الوعيد هي الشفاعة التي طعن بها المرجئة على المعتزلة قولهم بدوام عقاب الفاسق، وقد عرّف الحاكم الشفاعة بأنها «مسألة الطالب الحاجة لغيره» قال: «وهي على وجهين: عفو عن ذنب، وتبليغ منزلة أجلّ من منزلته» ولا خلاف عند المعتزلة أن النبي صلّى الله عليه وسلم يسفع لأمته على هذين الوجهين، ولكنهم إنما يثبتونها للتائبين من المؤمنين وأصحاب الصغائر، وعند المرجئة أنها للفساق من أهل الصلاة. قال القاضي: إن المشفوع إليه إذا أجاب الشفيع يكون مكرما له، فكما تقبح الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصد للآخر حتى يقتله، تقبح الشفاعة للفاسق الذي مات على الفسق ولم يتب «1» . قال الحاكم في قوله تعالى: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟) «2» إن الآية تدل على أنه صلّى الله عليه وسلم لا يشفع لمن في النار، فيبطل قول المرجئة في الشفاعة. وتدل على أنه تعالى لا يخلف الوعد والوعيد. وقال في قولة تعالى: (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) «3» إن الآية تدل على أن أهل النار لا ناصر لهم، فلو كان يشفع النبي صلّى الله عليه وسلم لكان ذلك أعظم نصرة. قال: «فيبطل قول المرجئة في الشفاعة لأهل الكبائر». ولمح الحاكم هذا المعنى أيضا فى قوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ

_ (1) انظر شرح الأصول للقاضي، ص 688. (2) الآية 19 سورة الزمر، ورقة 10/ ظ. (3) الآية 41 سورة الدخان، ورقة 45/ و.

أَوْلِياءُ بَعْضٍ) «1» فذكر أنه يدل على أنه لا ناصر لهم ولا شفيع. وقال في قوله تعالى: (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) «2» إن من يستحق العذاب في ذلك اليوم لا شفيع له ولا ناصر، ثم قال: «ولا يمكن دفعه بوجه!». 4 - المنزلة بين المنزلتين: أما المنزلة بين المنزلتين فتعرف بمسألة الأسماء والأحكام، لأن معناها أن لصاحب الكبيرة- الفاسق- اسما بين الاسمين، وحكما بين الحكمين «3» فهو ليس بمؤمن ولا كافر، ولا تجري عليه أحكام المؤمنين ولا أحكام الكفار، وإذا خرج من الدنيا على كبيرته من غير توبة فهو من أهل النار أبدا، كما تقدم في الوعيد، وإن كان عقابه دون عقاب الكافر، وهذا لأن «الإيمان» - والإسلام- عند المعتزلة اسم لجميع الطاعات كما يقول الحاكم «4» وقد قال الشيخان- أبو علي وأبو هاشم- إن الإيمان عبارة عن أداء الطاعات، الفرائض دون النوافل، واجتناب المقبّحات «5» قال الحاكم: ويدل قوله تعالى: (لِيَزْدادُوا إِيماناً) «6» أن الإيمان يصح فيه الزيادة والنقصان، ولا يكون كذلك إلا والطاعات من الإيمان، والإيمان اسم مدح فلا يستحقه الفاسق.

_ (1) الآية 19 سورة الجائية، ورقة 47/ و. (2) الآية 10 سورة الطارق، ورقة 141/ ظ. (3) راجع شرح الأصول الخمسة للقاضي صفحة 137. (4) انظر شرح عيون المسائل 1/ ورقة 68. (5) انظر شرح الأصول، ص 707. (6) الآية 4 سورة الفتح، ورقة 56/ ظ.

وقد ذهب الخوارج إلى عدّ مرتكب الكبيرة كافرا، واعتبره الأشاعرة وسائر أهل السنة من المؤمنين الفاسقين. وقد انطلق الحاكم في تفسيره لهذه الكلمات والأسماء- الإيمان، الإسلام، الكفر، الفسق، النفاق- التي أثارت جدلا طويلا في تاريخ الإسلام، من مصطلحه الاعتزالي السابق، واستدل له بكثير من الآيات، رادا على من زعم غير ذلك، قال في قوله تعالى: (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) «1» إنه يدل على «أن الفسق اسم ذم، والإيمان اسم مدح، وأنهما لا يجتمعان» قال: «فيدل على قولنا في انهما من أسماء الشرع، وعلى قولنا في المنزلة بين المنزلتين». وقال في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) «2» إن الآيات تدل على أن اسم الفسق اسم ذم ولا يجمع مع اسم الإيمان. قال: «فيصحح قولنا في المنزلة بين المنزلتين». وتدل أن الفوز للمتقين، وأن الفاسق ليس بفائز، فيبطل قول المرجئة. وقوله تعالى: (وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) «3» يدل عند الحاكم على

_ (1) الآية 11 سورة الحجرات، ورقة 62/ و. (2) الآيات 18 - 20 سورة الحشر، ورقة 92/ ظ. (3) الآية 7 سورة الحجرات، ورقة 61/ ظ.

أمور كثيرة، منها أن المعاصي التي هي مخالفة للإيمان ثلاث، وأن لها رتبا، فالكفر أعظمها، والفسق: هو الكبائر الذي ليس بكفر، والعصيان: الصغائر قال: «فيبطل قول الخوارج إن جميعها كفر، وقول بعضهم إن الفسق هو الكفر وكل ذنب فسق. ولولا أن الأمر كما قلنا لم يكن للتمييز على هذا الترتيب معنى!» وكذلك قوله تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)؟ «1» يدل عنده على أمور كثيرة منها «أن الجنة تنال بالتقوى، خلاف قول المرجئة. ومنها أن المسلم والمجرم اسمان شرعيان يمدح بأحدهما ويذم بالآخر. ومنها أن هذين الوصفين كالمتنافيين. ومنها أنهما لا يستويان خلاف قول المرجئة .. ومنها أن الوعيد يتناول المجرم، وهو الفاسق خلاف قول بعضهم. ومنها أن عذابه دائم، إذ لو انقطع لصار في بعض الأوقات كالمتقي! 5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أجمعت المعتزلة- إلا الأصم- على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «2» قال الحاكم: «وهو واجب بحسب الإمكان» «3» باللسان واليد والسيف. واختلفوا في طريق

_ (1) الآيات 34 - 36 سورة القلم، ورقة 110/ و. (2) انظر مقالات الإسلاميين 1/ 278. ويقول القاضي: إنه لا خلاف بين الأمة في وجوبه إلا ما يحكى عن شرذمة من الإمامية لا يقع بهم ولا بكلامهم اعتداد. انظر شرح الأصول الخمسة، صفحة 741. (3) شرح العيون 1/ ورقة 68/ ظ.

وجوب هذا الأصل، فذهب أبو علي إلى أنه العقل والسمع جميعا، وقصّره أبو هاشم على السمع، وليس في استدلال الحاكم على وجوبه ببعض الآيات الكريمة، ما يدل على ترجيحه لأحد الرأيين، لاتفاق الشيخين على وجوبه بطريق السمع. ولم يطل الحاكم الوقوف أمام هذا الأصل في تفسيره، كما أن أثره فيه مما لا يمتاز به عن سائر المفسرين، نظرا لاتفاق أغلب الطوائف والفرق الإسلامية على هذا الأصل العملي الهام. وقد استدل على وجوبه بقوله تعالى في سورة العصر: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) «1»، وقوله تعالى: (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ) «2» وقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) «3» - الذي أعاد فيه الكلام على الخلاف بين الشيخين. وقال في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) «4»: «إن الآية تدل على عظيم حال من يأمر بالمعروف وعظيم ذنب من قتله، وأنه بمنزلة من قتل نبيا، ولذلك قرنه به. وتدل على أن الأمر

_ (1) الآية 3 التهذيب ورقة 154/ ظ. (2) الآية 9 سورة الحجرات، ورقة 61/ ظ. (3) الآية 104 سورة آل عمران، ورقة 216. (4) الآية 21 سورة آل عمران، ورقة 14/ ظ.

المنهج وهذه الأصول

بالمعروف يحسن وإن خاف القتل لأنه أطلق، فتدل على صحة ما يقوله مشايخنا إنه إذا خاف على نفسه فالأولى أن يقوم بذلك لما فيه من إعزاز الدين، وقد روى الحسن عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر يقتل عليه)، وقال عمرو بن عبيد: لا نعلم عملا من أعمال البرّ أفضل من القيام بالقسط يقتل عليه!». المنهج وهذه الأصول وقد مضى الحاكم في تفسيره معتمدا على هذه الأصول فلم ينقضها في تفسير آية أو تأويلها، وسوف يظهر ذلك جليا عند الكلام على حدوده في التأويل- بصورة عامة-. ولعل مما تجدر الإشارة إليه أنه فسر الاستقامة في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا .. ) «1» بما يوضح فهمه الدقيق للمنهج، والتزامه به في صورة دائمة، فنقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه تفسيرها بعدم الشرك بالله، ثم قال- أي الحاكم- «ومعنى هذا: أن يستقيم على الدين ولا ينقض أصله بفرع، فإذا قالوا لا شبيه له لم يثبتوا له مكانا وجهة، ولم يصفوه بالأعضاء الحسيّة. وإذا قالوا إنه واحد لم يثبتوا معه قديما آخر. وإذا قالوا إنه عدل حكيم لم يضيفوا إليه القبائح. وإذا قالوا إنه صادق لم يجوّزوا عليه الخلف في الوعد والوعيد!». وأشار إلى هذا المعنى أيضا في تفسيره لقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) «2» قال: لئن سألتهم الملائكة

_ (1) الآية 30 سورة فصلت، ورقة 27/ و. (2) الآية 87 سورة الزخرف، ورقة 42/ ظ.

ثانيا: محوره في تفسيره

من خلقهم؟ اعترفوا بأن الله خلقهم، فكيف صرفوا مع ذلك إلى عبادة غيره وهو خالقهم؟! قال الحاكم: «فأشار تعالى إلى أنهم نقضوا الجملة بالتفصيل» ثم قال: «وهكذا حال كل مبطل ومبتدع» «1». ثانيا: محوره في تفسيره القاعدة الأساسية التي ركن إليها الحاكم، وهي مبدأ العدل والتوحيد، أقام عليها محورا هاما أدار عليه تفسيره الكبير. وهذا المحور وإن كان يعدّ جزءا من تلك القاعدة الفكرية، وأحد وجوهها كذلك، إلا أنه لهج به بصورة دائبة حتى ليجد القارئ أثره في كل صفحة من صفحات الكتاب. وهذا المحور عبارة عن أمرين: أولهما: إثبات أن المعارف مكتسبة.- وهو أقلهما شأنا- والثاني: النقض على المجبرة، وهو أبعد الأمور أثرا وأخطرها شأنا في تفسير الحاكم. ولعل الباحث لا يخطئ الحكم على الحاكم- بعامة- إذا قال فيه: إنه أغرى بشيئين: القول بأن المعارف مكتسبة، والكلام على المجبرة. كما أغرى الجاحظ من قبله بشيئين: إثبات أن المعارف ضرورة، والكلام على الرافضة. كما يقول أبو علي.

_ (1) ولهذا وصف قومه بأنهم لزموا الحجة والسنة ولم يكونوا من المبتدعين! قال في شرحه اللغوي لكلمة «اعتزلوكم» في قوله تعالى: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ) - في سورة النساء- «وسميت المعتزلة معتزلة لاعتزالهم عن البدع والأهواء، ولزومهم الحجة والسنة» التهذيب ورقة 188.

1 - اكتساب المعارف

1 - اكتساب المعارف أما اكتساب المعارف فقد بناه الحاكم على مذهبه في وجوب النظر، وتحريم التقليد، وصحة الحجاج في الدين. أ- وجوب النظر وأنه تعالى إنما يعرف باكتساب: أول ما يجب على المكلف عند المعتزلة: النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى، لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة فيجب أن يعرف بالتفكير والنظر، قال الحاكم في قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) «1» إن الآية تدل على وجوب نظر الإنسان في نفسه وتراكيبه وصغورته وتنقله من حال إلى حال ليعلم أن له صانعا ومدبرا. ثم قال: «ومتى قيل: ما أول ما يجب عليه؟ قلنا: النظر في طريق معرفته تعالى، لأنه لا شيء من العلم والعمل إلا وصحته موقوفة على معرفة الله تعالى». وقد حكم الحاكم أيضا بوجوب النظر من الآيات الكثيرة التي تأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان والحيوان، وتلفت النظر إلى السنن الكونية ومظاهر قدرة الله تعالى في الكون ... وقال في هذه الآيات إنها كما توجب النظر في الأدلة، فإنها تدل على النعمة، وتدل على «صانع عالم قادر منعم» «2».

_ (1) الآية 5 سورة الطارق، ورقة 141/ ظ. (2) انظر تفسيره للآيات 60 - 65 من سورة النمل، ورقة 33، وللآية 17 من سورة الغاشية، ورقة 144/ و، والآية 24 من سورة عبس، ورقة 135/ و.

والذي يود الحاكم تأكيده من وقوفه الدائب أمام هذه الآيات هو أن يثبت أن الله تعالى إنما يعرف بأفعاله، وأن هذه الأفعال دالة عليه وعلى صفاته، «إما بنفسه ككونه قادرا عالما، أو بواسطة ككونه حيا سميعا بصيرا» كما قال في تفسيره لقوله تعالى: (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) «1» وقال في قوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) «2» إن الآية تدل على وجوب النظر وفساد التقليد، وأنه تعالى يعرف بأفعاله. ب- فساد التقليد: ولما قال الحاكم بوجوب النظر، حكم بفساد التقليد لأنه قد يؤدي إلى جحد الضرورة، لأن تقليد من يقول بقدم العالم مثلا ليس بأولى من تقليد من يقول بحدوثه- والقول بهما أو بغيرهما محال- إلا أنّ الحاكم هنا يشتد على الذين يذهبون إلى التقليد ويحمل عليهم حملة شعواء لا يزيد عليها إلا حملته على المجبرة، ويقف في كلا الحالتين أمام آيات كثيرة قد لا يجد غيره من المفسرين فيها ما يجده هو من الرد على هؤلاء. ونبدأ معه بتفسيره لقوله تعالى- في مطلع سورة الجن- (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً)، فبعد أن شرح

_ (1) الآيات 9 - 12 سورة فصلت، ورقة 25/ و. (2) الآية 20 سورة الذاريات، ورقة 67/ و.

معنى «الظن» وأجمل معنى الآية: قال: والآية تدل على أنهم كانوا مقلّدة قلّدوا على ظن حتى سمعوا القرآن والحجة، وانكشف لهم الحق وصحة ما قالوا، فرجعوا متعجبين مما كانوا عليه. ثم قال: «وهذا كرجل يرى شيخا على كرسي متطيلسا متعمما متحنكا! وحوله القيام من الناس وهو يبكي ويتضرع ويعلم الناس الجبر والتشبيه، فظن أنه على شيء وأنه لا يكذب على الله، فإذا ظهر له بالدليل كذبه وبهته يتعجب ويقول: ما ظننت أن مثل هذا يكذب على الله! كذلك هؤلاء» ثم قال: «وفي هذا إشارة إلى بطلان التقليد، ووجوب اتباع الحجة» «1». وقال في قوله تعالى: (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً) - وهي الآية التي تلي الآية السابقة بآية واحدة- «إنها تدل على أن اعتقادات المبطلين تبنى على الظنون دون العلم اليقين». ثم إنه يرى في جميع الآيات التي تنعى على الكفار وأهل الجاهلية تقليد آبائهم واتباع ما وجدوهم عليه، ما يدل على ذم التقليد وتحريمه، وأنه مفزع الجهّال من الحجة، وأنه- على الدوام- عادة الكفار وأهل البدع، قال في قوله تعالى: (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) «2» إن الآيات تدل «على

_ (1) التهذيب، ورقة 117/ و. (2) الآيات 22 - 24 سورة الزخرف، التهذيب، ورقة 38/ و.

ذم التقليد وبطلانه، وأن الواجب اتباع الدليل، لأن التقليد لا يميز الحق من الباطل. وتدل على أن الواجب التفكر ليعلم الهدى فيتبعه». وقال في قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)؟! «1» إن الآية تدل على فساد التقليد، لأنه تعالى بين أن اتباع الآباء بمنزلة اتباع الشيطان. قال الحاكم: «وهذا الذي يقوله المتكلمون: لو كان التقليد صحيحا لم يكن تقليد واحد أولى من تقليد آخر!». وقال في قوله تعالى: (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) «2» إنهم لما أعجزتهم الحجة فزعوا إلى تقليد الآباء. قال: «وتدل الآية على ذم التقليد وأن ذلك عادة الكفار وأهل البدع. وتدل على صحة الحجاج في الدين، والتحاكم إلى ما في العقول، وطريق معرفة الحق في الأدلة». ج- ضرورة البرهان وصحة الحجاج في الدين: وقوله بضرورة البرهان هو الوجه الآخر لتحريمه التقليد، حتى إنه قد استدل عليه بكثير من الآيات التي استدل بها على تحريم التقليد، كما في بعض الشواهد السابقة. ولكنه ذكره في مناسبات أخرى كثيرة أيضا، وذكر أن قبول المخاريق ليس من عادة العلماء، ولكنه عادة العوام؛ قال في قوله تعالى:

_ (1) الآية 21 سورة لقمان، ورقة 87/ و. (2) الآية 43 سورة سبأ، ورقة 133/ ظ.

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) «1» إنه يدل على أن كل مذهب لا دليل عليه فهو باطل. وفسر قوله تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) «2» بأنهم قبلوا من فرعون مخاريقه، ولم يقبلوا من موسى حقائقه، ثم قال: «وهكذا حال العوام والجهال في كل زمان». وقال في قوله تعالى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) «3» إن الآية تدل على جواز المحاجة في الدين- وبطلان التقليد- لأن الله تعالى أمر عند محاجة القوم بالجواب. وشرح وجه دلالتها على ذلك بقوله: «ووجه الاحتجاج في (أسلمت) من وجهين: أحدهما: ذكر الأصل الذي يلزم الكل الإقرار به من حيث دلت الحجج عليه. والثاني: إلزامهم ما أقروا به من أن الله تعالى خالقهم فيلزمهم اتباع أمره، فلذلك قال: أسلمت وانقدت لأمره في إخلاص التوحيد له». ويقف الباحث على الضيق الذي كان يستبد بالحاكم بسبب تلبيس أهل الباطل والبدع وتمويههم على العوام، حين يعوزهم الدليل والبرهان، ففي قصة موسى مع فرعون- في سورة الشعراء- حين دعي موسى إلى منازلة السحرة: (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. يَأْتُوكَ

_ (1) الآية 64 سورة النمل، ورقة 34/ و. (2) الآية 54 سورة الزخرف، ورقة 40/ ظ. (3) الآية 20 سورة آل عمران، ورقة 12/ ظ.

بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ. فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ... ) «1» يقول الحاكم: وقيل إن فرعون انقطع عن الحجة فموّه على قومه بأنه- موسى- ساحر يريد الملك والمال وإخراجهم فأغرى العامة به، ثم قال: «وهكذا فعل كل مبطل، إذا أعيتهم الشبه عدلوا إلى اغراء العامة بأهل الحق». وقال في قوله تعالى: (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) «2» - في قصة إبراهيم عليه السلام- إنهم لما أعجزتهم الحجة عدلوا الى الوعيد بالقتل والحريق. ثم قال: «وهكذا حال الجاهلية والمبتدعة اذا أعيتهم الحجة عدلوا إلى السفاهة والوعيد». ومن هنا تراه يقول في تفسير الموقف في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) «3» إن موسى لما أظهر معجزاته، وهي اليد والعصا ضحكوا استهزاء واستخفافا، ثم يقول: «وهذا فعلوه بعد غيبة موسى تلبيسا على العوام وإلا ففي حال ما رأوا لحقهم من الخوف والدهش ما لم يمكنهم معه الاستهزاء!». د- اكتساب المعارف: وقد جعل الحاكم قوله باكتساب المعارف مبنيا على وجوب النظر وتحريم التقليد وضرورة البرهان، ولعل من فضول القول أن يذكر أنه أكثر من الحديث عن هذه المسألة في أكثر هذه المواضع وفي مواضع أخرى من كتابه، ولم يعف نفسه من الإشارة

_ (1) الآيات 36 - 38، وانظر الآيات التالية، التهذيب، ورقة 6/ ظ. (2) الآية 24 سورة العنكبوت، التهذيب ورقة 49/ و. (3) الآية 47، سورة الزخرف.

إليها في المواضع المتماثلة والمتشابهة على الرغم من قلة المخالفين لرأي الحاكم- أو الموافقين لرأي الجاحظ- فيما نعلم. ولولع الجاحظ بالحديث عن ضرورة المعارف وجه معقول إذا ثبت أنه أول من ذهب الى هذا القول، في حين أن الذين ذهبوا الى نقض «نظرية» الجاحظ قبل الحاكم كثيرون، إلا أن يقال: إن الحاكم أخذ على نفسه «استقصاء» الردود عليها حيثما وجد الى ذلك سبيلا من كتاب الله تعالى. انظر مثلا الى تعقيبه على الآيات الأولى من سورة القمر: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ، حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) بعد أن ذكر أن الآيات تدل على ذم المعرض عن الأدلة، ووجوب التفكر، حيث قال: «وتدل أن اتباع الهوى في الدين مذموم، وليس بعده الا اتباع الأدلة، وذلك يدل أن المعارف مكتسبة!» «1» فقد وصل إلى تحقيق رأيه في كسب المعارف من وجوب اتباع الأدلة- وهذا من رأيه على الدوام- ووصل إلى وجوب اتباع الأدلة من دلالة الآية على أن اتباع الهوى مذموم! أما النصوص القرآنية الدالة على الله تعالى وعلى حكمته، والتي نصبت أدلة ليتفكر بها، فدلالتها عنده على أن المعارف غير ضرورية كدلالتها على وجوب النظر، كلاهما لا يقبل الجدل «2»، «لأنها لو كانت

_ (1) ورقة 75/ ومن التهذيب. (2) انظر تفسيره لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) - الآية 13 سورة غافر- في التهذيب ورقة 19/ وو انظر في هذا الجزء الأوراق 83/ ظ، 46/ و، 22/ ظ.

ضرورة لكان نصب الدليل عبثا!» كما عقّب على الآيات الخمس الأولى من سورة الجاثية. وقبل أن نمضي معه في بعض «النماذج» القرآنية الأخرى التي «يحقق» فيها مذهبه في اكتساب المعارف، نودر فيما يلي نصين هامين يوضحان مذهب الجاحظ في ضرورتها، أحدهما أورده الشريف المرتضى نقلا عن مقالات الكعبي. والثاني أورده الحاكم نفسه وهو بسبيل التفريق بين «أصحاب المعارف وأهل التجاهل». قال البلخي: «تفرّد الجاحظ بالقول بأن المعرفة طباع، وهي مع ذلك فعل للعباد على الحقيقة. وكان يقول في سائر الأفعال إنها تنسب إلى العباد على أنها وقعت منهم طباعا وإنها وجبت بإرادتهم. وليس بجائز أن يبلغ أحد فلا يعرف الله تعالى. والكفار عنده بين معاند وبين عارف قد استغرقه حبّه لمذهبه وشغفه به وإلفه وعصبيته، فهو لا يشعر بما عنده من المعرفة بخلافه» «1». وقال الحاكم: «فأما من يقول: جميع المعارف ضرورة مع إقرارهم بالتوحيد والنبوات والشرائع، كالجاحظ وأصحابه، فإنهم يثبتون النظر في الأدلة، ويزعمون أن المكلّف لا يكلّف المعرفة، ولكن يكلف النظر، ثم تقع المعارف عند النظر طباعا، فهذا وإن كان فاسدا فليس بداخل في حد التجاهل، وإنما هو بمنزلة سائر المسائل المختلف فيها، كاختلافهم في التولدات ونحوها .. » «2».

_ (1) أمالي المرتضى 1/ 195. (2) شرح العيون 1/ ورقة 3.

والذي يعنينا هنا من هذين النصين: أن القول بأن المعرفة طباع لا يناقض القول بحرية الإرادة عند المكلف، وهو الأمر الذي لا يتصور الحاكم خلافه. كما يعنينا أيضا أن نظرية الجاحظ لا تناقض النظر، أو تمنعه، بل توجبه كما يقرر ذلك الحاكم نفسه، ولهذا كان اعتماد الحاكم على الآيات التي توجب النظر وتنهى عن التقليد، في الدلالة على مذهبه في المعارف وفي الزراية برأي الجاحظ، أمرا يحتاج إلى المراجعة، بغض النظر عن «طريق» حصول المعرفة بعد ذلك! ولهذا ترى أن الآيات القرآنية الكثيرة التي أسندت إلى العباد الشك والجهل والظن وعدم الفهم هي التي «حققت» للحاكم رأيه الذي دأب عليه في اكتساب المعارف، ولو كان الأمر على ما يقول الجاحظ لما جاز نسبتهم إلى غير الانكار والتكذيب والمعاندة واللجاجة. ولم يفت الحاكم بالطبع الوقوف عند هذا النوع من الآيات والتعليق عليها بإيجاز، قال في قوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) «1» إن قوله «تمترون» يدل على بطلان قول من يقول إن لمعارف ضرورية. وقال في قوله تعالى: (وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) «2» إن أبا علي قال إن قوله «اشمأزت» يدل على أن المعارف مكتسبة.

_ (1) الآيتان 49 - 50 سورة الدخان وانظر التهذيب 45/ و. (2) الآية 45 سورة الزمر. وانظر التهذيب ورقة 13/ و.

وحقق الحاكم ذلك في موضعين من قوله تعالى: (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ، وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) «1» في قوله: «وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» وقوله: «إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ». وقال في قوله تعالى: (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا، بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) «2» إن قوله «يَفْقَهُونَ» يدل أن المعارف مكتسبة، وقال ذلك أيضا في قوله تعالى: (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) «3» وقوله: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ) «4» وقوله (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) «5». وقد قال في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) «6» إن الآية تدل على بطلان قول أصحاب المعارف «لأنه بين أنهم لا يعلمون الكتاب إلا قراءة وتلاوة! ثم حقق؟؟؟ ذلك بقوله (يظنون)، ولو عرفوا الحق ضرورة لما صح وصفهم بذلك». ويبدو أن وقوفه الدائب أمام الآيات التي ورد فيها نسبة الظن إلى المكلفين هو الذي أوحى له بمثل التعقيب التالي على هذه الآيات:

_ (1) الآية 24 سورة الجاثية. وانظر التهذيب ورقة 47/ ظ. (2) الآية 15 سورة الفتح. وانظر التهذيب ورقة 57/ ظ. (3) من الآية 47 سورة الطور. وانظر التهذيب ورقة 71/ و. وراجعه أيضا ورقة 22/ ظ. (4) الآية 66 سورة النمل. التهذيب ورقة. (5) من الآية 23 سورة النجم. التهذيب ورقة 72/ ظ. (6) الآية 78 سورة البقرة. التهذيب ورقة 105.

2 - الرد على المجبرة

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ ... ) إلى قوله: (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) «1» قال: «وتدل الآيات أن القوم كانوا جاهلين بالله وصفاته، ولولا ذلك لما ظنوا به هذا الظن، فتدل على أن المعارف مكتسبة». ثم قال: «ومتى قيل: أليس قد روي في حسن الظن بالله؟ قلنا: ذلك ينبني على العلم، فإن من علمه رحيما كريما ظن لعله يرحمه». 2 - الرد على المجبرة أما المحور الآخر لتفسير الحاكم- وهو المحور الأهم- فهو نقضه على المجبرة، ورده الدائب عليهم، وتصديه لخصومتهم في كل ما يذهبون اليه في «المحلوق والاستطاعة والإرادة» وسائر آرائهم، حتى ليخيل للقارئ أن هذ التفسير يكاد يكون وقفا على إثبات فساد مذهب لجبر ومناقضته للقرآن! في الوقت الذي لم ينس فيه مؤلفه الرد على الفرق الأخرى، لكن موقفه من هذه الفرق ليس فيه ما يستحق الإشارة الخاصة أو الوقوف الطويل. ولعل هذا هو ما تنبه اليه من قبل يحيى بن حميد- من أعلام الزيدية في القرن السادس- حين قال في تفسير الحاكم: «وقد أودع فيه الحجج الواضحة الباهرة في الرد على الفئة المجبرة وغيرها من سائر الفرق الكفرية!» «2». ونستطيع أن ندرك مدى أهمية هذا المحور وخطورته بالنسبة للحاكم، إذا لاحظنا أنه يرى أن مذهب الجبر هو المذهب المقابل لمذهب العدل على

_ (1) أنظر الآيات 19 - 23 سورة فصلت. التهذيب ورقة 26. (2) نزهة الأنظار- مخطوط- ورقة 21.

الدوام في فلسفته وفكرته العامة، وفي فروعه وجزئياته الكثيرة. فمذهب الحاكم وإن كان يقابله في أصوله وفروعه آراء ومذاهب متعددة إلا أن الذي لا يغيب عن ذهن الحاكم بحال- وكما يبدو ذلك جليا في تفسيره- أن المناقض الأكبر للعدل والتوحيد إنما هو مذهب الجبر، ولهذا تجد مقابلته الرئيسية في كتابه بين هذين المذهبين- ويذكرنا هذا في الواقع بما قيل من أسباب قتله رحمه الله- وربما حفل بالرد على المرجئة والخوارج وسائر الفرق الأخرى- كما قدمنا- في بعض الآيات، ولكنه لا ينتقل عن ذلك إلى المقابلة بينها وبين المعتزلة، وقد تكون هذه الآيات مما كثرت الإشارة اليه من علماء العدل السابقين، ولكن الحال ليست كذلك فى الآيات الدالة على فساد مذهب الجبر إن لم نقل: على التحقيق، فعلى الرأي الأرجح. لأن الإسراف الذي وقع فيه الحاكم في هذا الباب، قلما يقع من غير دارس متبرم بمذهب الخصم، حانق عليه، ساع إلى ابطاله بكل ما يستطيع، شاعر فوق ذلك أن هذا المذهب المشوه المناقض لآيات الكتاب هو الخطر الذي يتهدد مذهبه الصحيح في العدل والتوحيد، إن لم يكن- في نظره وفي الواقع- هو المذهب الذي يهدد حياة المسلمين وحركتهم في الجهاد والحضارة بالشلل والموت. ولهذا فإن الحاكم كان، فيما نرى، يستقرئ النصوص- كلّ النصوص- أن تنطق برد مذهب الجبر! وإذا كان من التجني على الحاكم أن ندّعي أنه لم يجد في المئات من هذه النصوص ما ينقض هذا المذهب، وما يدل في بعضها على مذهبه في العدل والتوحيد- على بعض وجوه التأويل- فإن من التجني على الحقيقة: الحكم بصحة الطريقة التي سلكها إلى هذا الغرض، وإن كان لا يصعب

علينا فهم نوازعه النفسية الى سلوك هذه الطريق يوم هاله انتصار مذهب المجبرة في عصره، كما أشرنا إلى ذلك في التمهيد لهذه الرسالة. ومعلوم أن الحاكم والقاضي عبد الجبار لا يرون في كسب الأشعري غير صورة من صور الجبر، وقد أفاض القاضي في بيان أن هذه الصورة شديدة التشويه وأنها لا يصح لها معنى من الأصل!! «1» قال الحاكم: «وما تقوله المجبرة في الكسب لا يعقل، لأن عندهم أنه تعالى أحدث أفعالهم وأوجدها بجميع صفاتها، فما الكسب وما تأثير العبد؟!» «2». وبهذا نستطيع أن نؤيد ما ذهبنا الى ترجيحه من انفراده من بين سائر المعتزلة الذين سبقوه، بظاهرة منازلة المجبرة بعنف، ومحاولة «استقصاء» الردود عليهم في جميع القرآن الكريم. أما نوازعه النفسية الى ذلك فنستطيع تأكيدها- فوق ما ذكرنا- ببعض مواقفه وتعليقاته العابرة في عدة مواضع من تفسيره: قال في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ... ) «3» إن الآية تدل على أن الواجب على المرء، بعد إصلاح نفسه، النصيحة في الدين، والدعاء إلى الله، وأن يبدأ بأقاربه وأهاليه. وذكر أن ذلك يتضمن تعليم أصول الدين وفروعه، والأمر بالطاعة والنهي عن المعصية. ثم قال: «ومتى قيل: إذا كان في زمان الجبر والتشبيه، فلا يمكنه أن يعلمهم

_ (1) انظر شرح الأصول الخمسة، ص 363 فما بعدها. (2) التهذيب، المجلد الأول، ورقة 168. (3) الآية 6 سورة التحريم، التهذيب ورقة 106/ و.

العدل والتوحيد، ولا يأمن النشوء على الجبر، فما الواجب؟ قلنا: الانتقال من تلك الديار!». وبعد أن شرح قوله تعالى: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً) «1» وبين أن هؤلاء كانوا مقلّدة قلّدوا على ظن حتى سمعوا القرآن والحجة فرجعوا متعجبين مما كانوا عليه؛ ذكر هذه الصورة التي نقلناها في الفقرة السابقة، وهي صورة شاخصة موحية، قال: «وهذا كرجل يرى شيخا على كرسي، متطيلسا متعمما متحنكا وحوله القيام من الناس وهو يبكي ويتضرّع ويعلم الناس التشبيه والجبر!! فظن أنه على شيء، وأنه لا يكذب على الله!». وقال في قوله تعالى: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) «2» إن الآية تدل على عظيم موقع العلم في زمان يكثر فيه الجهال! ثم قال: «ومتى قيل: لماذا يعظم موقعه عند كثرة الجهال؟ قلنا: لقلة الدواعي إلى العلم، ومشقة العلم، وصرف الجهال إياه عنه». وهو في تفسيره دائم الحملة على «علماء السوء ورؤساء الضلالة» إذ لا ضرر أعظم من ضررهم «3» وكما أكفر المشبّهة، فقد حكم أيضا بأن الجبر والإرجاء من دين اليهود كما ذكر ذلك في تفسيره لقوله تعالى:

_ (1) الآية 5 سورة الجن. ورقة 117/ و. (2) الآية 63 سورة العنكبوت. ورقة 70/ ظ. (3) راجع التهذيب، المجلد الأخير: الأوراق 39/ و، 55/ و، 64/ ظ، 161/ و.

خلقهم للكفر، فيبطل قول المجبرة في هذه الوجوه. وجميع الآيات الدالة على أن الثواب والعقاب جزاء على الأعمال، نحو قوله تعالى: (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) «2» تدل عنده على أن أفعال العباد حادثة من جهتهم «ليصح الجزاء». ويكاد الحاكم يبطل أهم آراء المجبرة بقوله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) «3» فقد قال إن دلالتها على أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ولا ينتفع أحد بعمل غيره يبطل قول المجبرة- من وجوه- في هذه المسائل: قولهم إن أطفال المشركين يعذبون بذنوب آبائهم. قولهم إنه يعذب العباد على فعل خلقه فيهم واضطرهم إليه. قولهم إنه يثيب المطيع بطاعة هو الخالق لها والفاعل لها.

_ (1) الآية 40 سورة العنكبوت: التهذيب ورقة 65/ و. (2) الآية 22 الجاثية: ورقة 47/ ظ. (3) الآيات 36 - 39 سورة النجم: التهذيب ورقة 74/ و.

قولهم إنه يحمل ذنوب بعض العباد على بعض فيعذب الكفار بذنوب المسلمين، ويثيب المؤمنين بأعمال الملائكة! قول بعضهم إنه يجوز أن يعذب الأنبياء ويثيب الفراعنة! قولهم إن طاعات الظلمة تدفع الى خصومهم، فإن بقي شيء حمل عليهم من ذنوب خصومهم. ب- الآيات الدالة على أن الكفار والعصاة يتمنون الرجوع إلى دار الدنيا، وأن أعذارهم يوم القيامة لا تقبل، قال تعالى: (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) «1» قال الحاكم: أي لا يسمع لهم عذر حتى يعتذروا إذ ليس لهم عذر صحيح، أو: لا يؤذن لهم في الاعتذار لما علم من حالهم أنه لا عذر لهم، ولو أتوا بعذر صحيح لقبل منهم، والمعنى أنه ليس لهم عذر، قال الشاعر: فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكنّ الرماح أجرّت «2» وتدل الآية أنه لا عذر لأحد في معصية الله ولا حجة، قال الحاكم: «وذلك يبطل مذهب المجبرة إذ لا عذر أوضح على مذهبهم من قولهم: خلقت فينا العصيان والقدرة الموجبة له، ولم تعطنا قدرة الإيمان ولا مشيئته، بل منعتنا منه بكل منع فكيف تؤاخذنا بعد ذلك. فأما على مذهب العدل فالعبد مزاح العلة أتي في استحقاق العقاب من جهته فلا عذر له

_ (1) الآية 35 سورة المرسلات: التهذيب ورقة 129/ ظ. (2) البيت لعمرو بن معديكرب. انظر الأصمعيات ص 122. دار المعارف بمصر 1964.

ولا حجة» أما على مذهب المجبرة فله أعظم الحجة «1». وقال تعالى: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) «2» فدلت الآية على أنهم يتمنون الرجوع الى الدنيا وقت معاينة العذاب ليطيعوا، قال الحاكم: «ولو كانت أفعال العباد من خلق الله تعالى لما صح هذا التمني، وكذلك لو لم يقدروا عليه. فيبطل قول المجبرة في المخلوق والاستطاعة». وقال تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) «3» قال الحاكم: «ويدل قوله (فأصدق) على أشياء منها أن الفعل فعلهم لأنه لو كان خلقا لله تعالى لما كان لسؤالهم الرجوع ليتصدقوا معنى. ومنها: أنهم يقدرون على ذلك، ولولا ذلك لتمنوا القدرة، وكيف يسألون الرجعة ليفعلوا ما فرّطوا وليس اليهم شيء من ذلك، ولا قدروا عليه؟». وقريب من هذه الآيات: تلك التي تنعى على الكفار إعراضهم عن التذكر، وتعجب من عدم إيمانهم مع ارتفاع الموانع، فقوله تعالى: (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) «4» يدل- مما يدل عليه- على أن الإعراض فعلهم ولذلك ذمهم عليه، وعلى أنهم قادرون على التدبر، قال

_ (1) التهذيب ورقة 36/ ظ. (2) الآية 44 سورة الشورى: التهذيب ورقة 35/ ظ. (3) الآية 10 سورة المنافقين: التهذيب ورقة 101/ ظ. (4) الآية 49 سورة المدثر: التهذيب ورقة 121/ و.

الحاكم: «ولو كان الأمر كما تزعمه المجبرة في خلق الإعراض فيهم وسلبهم قدرة التدبر، وخلق القدرة الموجبة للإعراض لما صح قوله «فما لهم» لأن معناه: ما الذي منعهم؟! والعجب أنه تعالى يقول متعجّبا: ما الذي منعهم من الإيمان، وإنما أراد نفيا للمنع، والمجبرة تزعم أن هناك موانع كثيرة منها: خلق الكفر والإعراض فيه، ومنها: القدرة الموجبة له، ومنها: الإرادة الموجبة له، ومنها: عدم القدرة على التدبر، وعدم خلق التدبر، وعدم إرادة التدبر، ومنها: كراهية التدبر منهم، وكل واحد منها مانع! فقد خالفوا كتاب الله في هذا مع مخالفتهم لكتاب الله وأوامره ونواهيه». والآيات في هذا الباب كثيرة، نحو قوله تعالى: (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) «1»؟ وقوله: (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ... ) «2» فلو كان هو الذي خلق الكفر لم يكن للتعجيب معنى!! ج- جميع الآيات التي تضيف الفعل إلى الناس، والتي تأمرهم بفعل وتنهاهم عن فعل، وتعدهم الثواب وتتوعدهم بالعقاب، لأن كل ذلك لا يصح إلا والأفعال حادثة من جهتهم. والآيات من هذا النوع كثيرة جدا ولكن الحاكم لم يعف نفسه من الاستدلال بها والوقوف عند أكثرها للنقض على المجبرة، فقوله تعالى: (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً وَمَكَرُوا مَكْراً

_ (1) الآية 20 سورة الانشقاق، ورقة 140/ و. (2) الآية 9 سورة فصلت، ورقة 25/ و.

كُبَّاراً ... ) «1» يدل عنده على بطلان مذهب المجبرة من وجوه: «أحدها: قوله (عصوني). وثانيها قوله (واتبعوا). وثالثها قوله (ومكروا) ... الخ». وكذلك قوله تعالى: (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ .. ) «2» يبطل مذهب المجبرة لأنه دل على أن القتال فعلهم، وكذلك التولي، «اذ لو كان من خلقه تعالى لكان تقدير الكلام: لو خلقت فيهم القتال لخلقت الهزيمة!!» ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) «3» لأن ذلك لو كان خلقا له لم يكن للأمر والنهي معنى، لأن الأمر موقوف على خلقه! وربما شعر الحاكم بأن الاستدلال بهذا النوع من الآيات قد يطول- مع تكراره- في بعض الأحيان، فيدعه للقارئ المتأمل، كما ذكر ذلك في التعقيب على قصة قارون: (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) - الآيات 76 - 83 من سورة القصص- فقال إنها تدل على أن أفعال العباد حادثة من جهتهم «من وجوه كثيرة، وهي ظاهرة إن تأملتها» «4».

_ (1) الآيتان 21 - 22 سورة نوح: التهذيب ورقة 116/ و. (2) الآية 22 سورة الفتح: التهذيب ورقة 59/ و. (3) الآية 18 سورة الجاثية، ورقة 47/ و. (4) التهذيب ورقة 60/ و.

وقال أيضا في قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ... ) - الآيات 8 - 11 من سورة العنكبوت- إنها تدل على بطلان قول المخالف في المخلوق، وتدل على أن أفعال العباد حادثة من جهتهم «من وجوه كثيرة ظاهرة لمن تأملها» «1». هذا عدا آيات أخرى كثيرة يجد فيها الحاكم ما ينقض أقوال المجبرة وبخاصة مما هو معروف كآيات المشيئة، والآيات التي تنتهي بنحو قوله تعالى «لعلكم تعقلون» و «لعلهم يهتدون»، والآيات التي تضيف القبائح إلى النفس وإلى الشيطان ... الخ. ونختم هذه الفقرة بهذه الدلالات الكثيرة- والدقيقة- التي حشدها الحاكم في التعقيب على الآيات التالية- والتي تتصل بالنوع الأخير وبالأنواع الأخرى السابقة- قال تعالى: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ،

_ (1) التهذيب ورقة 63/ و.

وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الآيات 53 - 61 من سورة الزمر. قال الحاكم: « ... فأما دلالات الآيات على المجبرة في المخلوق والاستطاعة والإرادة، فمن وجوه كثيرة، وتفصيلها يطول، وجملتها: دلالة قوله «لا تسرفوا» ولا يقال: أسرف، إلا وله فعل وهو يقدر على تركه! ومنها: أنه منّ على عباده بغفران ذنوبهم، ولو كان هو الخالق لجميع القبائح فما معنى الامتنان؟! ومنها قوله: «وأنيبوا» فكيف ينيبوا وقد خلق فيهم الإصرار، وقدرته، ومنعهم قدرة التوبة، وأراد الإصرار ولم يرد التوبة؟! ومنها قوله: «وأسلموا» وكيف يأمر به وبالمسابقة مع عدم القدرة، وخلق ضده فيه؟ ومنها قوله: «واتبعوا» ودلالته كدلالة قوله: أنيبوا، وأسلموا. ومنها قوله: «يا حسرتا على ما فرطت» وكيف يتحسر وليس اليه شيء ولا له قدرة؟ وإنما يصح التحسر على التفريط إذا كان التفريط منه، وهو يقدر على تركه. ومنها قوله: «لو أن لي كرة» ولو رد ألف مرة ولم يخلق فيه الإيمان وقدرة الإيمان، لما أمكنه أن يؤمن، فما معنى سؤال الرجعة؟ ومنها قوله: «فرطت» وأي تفريط من جهته، والتفريط من قبل من خلق فيه الكفر وقدرته، ومنع قدرة الإيمان، وخلق فيه التفريط! ومنها قوله: «وإن كنت لمن الساخرين» فكيف والسخرية خلق فيه؟

ومنها قوله: «لكنت من المتقين» فكيف ولو لم يخلق فيه لما صح منه؟ ومنها قوله: «بلى قد جاءتك آياتي» تنبيها على إزاحة العلة. ولو كان الأمر على ما زعموا لم يكن للآيات معنى، ولا كان التكذيب من جهتهم، بل جميع ذلك من خلقه، فما بال هذا التوبيخ. ومنها قوله: «كذبوا على الله» وكيف ونجهم وعندهم أنه الخالق لذلك الكذب والمريد له؟ قال الحاكم: «وكل ذلك يزيد صحة مذهب التوحيد والعدل» «1».

_ (1) التهذيب ورقة 14/ ظ.

الفصل الثاني قواعده الأساسية في التفسير

الفصل الثاني قواعده الأساسيّة في التفسير تمهيد: بين التفسير والتأويل نبدأ أولا بكلمة موجزة نوضح فيها الفرق بين التفسير والتأويل، أو الفرق الذي جرينا على اعتماده ونحن نفصل في حديثنا عن منهج الحاكم في تفسير القرآن بين منهجه في التفسير ومنهجه في التأويل، أو بين قواعده التي يعتمدها أساسا لتناوله جميع الآيات بالشرح، وحدوده التي رسمها لنفسه لا يتجاوزها وهو يأبى الأخذ بالظاهر في بعض الآيات، وإن كان «المنهج» في الحالين متفقا غير مختلف كما سنتبين ذلك من خلال هذا الفصل والفصل الذي يليه، ولم يحملنا على الأخذ بهذا التقسيم، أو الفصل بين التفسير والتأويل، إلا الرغبة في زيادة إيضاح هذا المنهج، وإظهار مدى تأثر الحاكم فيه بنزعته الكلامية المعروفة. 1) التفسير في اللغة: الاستبانة والكشف «1»، وفسّر الشيء يفسره،

_ (1) قال ابن دريد: ومنه يقال للماء الذي ينظر فيه الطبيب «تفسرة» وكأنه تسمية بالمصدر، لأن مصدر «فعل» جاء أيضا على «تفعلة» نحو جرب تجربة، وإن كان القياس من «فعل»: التفعيل، كما جاء في الآية التالية. انظر البحر المحيط لأبي حيان 1/ 13.

وفسره: أبانه، قال تعالى: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) «1» أي بيانا. ولم ترد لفظة «تفسير» في القرآن في غير هذا الموضع. ولم يختلف المفسرون أن المراد من «تفسير القرآن» - على تعدد تعريفاتهم للتفسير اصطلاحا- بيان معانيه على أي وجه من وجوه البيان، قال الحاكم: «والتفسير هو علم بمعاني القرآن، وناسخه ومنسوخه، ومجمله ومبينه، ومتشابهه ومحكمه»! «2». 2) والتأويل في اللغة: مصدر: أوّل يؤول تأويلا، وهو من آل الشيء إلى كذا، أي رجع إليه، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: «التأويل: التفسير والمرجع والمصير» «3» وقال أبو جعفر الطبري: «وأما معنى التأويل في كلام العرب فإنه التفسير والمرجع والمصير ... وقد قيل إن قوله تعالى (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي جزاء، وذلك أن الجزاء هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه» «4». فالتأويل في اللغة يراد به- إذن- «التفسير» كما يراد به «الرجوع والمصير» - لأن أحدهما مغاير للآخر- وإن كان اشتقاق الكلمة يرجح أن يراد من التفسير ما يحتاج منه إلى النظر والفكر ليصح معنى الرجوع، ولهذا ورد لفظ التأويل في القرآن الكريم في مواطن دقيقة يحتاج فيها المعنى إلى مثل ذلك، كما في آية المتشابه، وكما في الآيات الواردة في «تأويل الأحاديث» في سورة

_ (1) الآية 33 من سورة الفرقان. (2) شرح عيون المسائل 1/ ورقة 56. (3) مجاز القرآن 1/ 87 طبع الخانجي بمصر. (4) تفسير الطبري 3/ 184 وانظر الاتقان للسيوطي 2/ 294.

يوسف «1»، وكقوله تعالى في نفس السورة على لسان الملأ: (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) «2» وكقوله حاكيا عن يوسف عليه السلام: (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) «3» وكقوله في سورة الكهف: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) «4» - سواء في ذلك استعملت في تأويل الكلام والمعنى كما في آية المتشابه، أم في تأويل الرؤى والأحلام كما في قصة يوسف عليه السلام، أو تأويل الأعمال كما في قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح. وعلى هذا المعنى اللغوي جرى استعمال العلماء الأولين للتأويل، فالإمام الشافعي رحمه الله سمّى حمل اللفظ على معنى من المعاني التي يحتملها تأويلا، فالتأويل في هذه الحالة إرجاع اللفظ وتصييره إلى واحد من هذه المعاني المحتملة «5». والنظر والفكر هنا في صرف اللفظ إلى أحد المعاني التي يحتملها دون سائر المعاني، لقيام دليل على ذلك. أما التأويل في الاصطلاح فهو «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو حقه أو مقارنه .. أو غير ذلك من

_ (1) انظر الآيات رقم 6، 21، 101. (2) الآية 44. (3) الآية 100. (4) الآية 78. (5) انظر تفسير النصوص في الفقه الإسلامي للدكتور أديب صالح ص 252.

الأشياء الى تعورفت في أصناف الكلام المجازي» «1». ويقرب من هذا التعريف الذي ذكره ابن رشد ما قاله الغزالي رحمه الله من أن التأويل «عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الطاهر «2»». وهذا التأويل الاصطلاحي هو ما قصدنا اليه حين فصلنا بين التفسير والتأويل في دراسة منهج الحاكم، وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر- أو الحقيقي- إلى معنى مجازي، لأن الغزالي يقول بعد أن أورد تعريفه السابق: «ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز» «3». 3) وكأن الحاجة إلى التأويل تظهر بعد «تفسير» الألفاظ الواردة في النص لمعرفة ما يدل عليه ظاهره، فيحمل دليل ما، كدليل العقل أو الإجماع أو غير ذلك- وهنا يبدو أثر اختلاف المناهج- على التأويل، وبذلك يكون التأويل خطوة تالية لخطوة التفسير كما عبّر بعضهم «4»، وقد جعل الراغب الأصفهاني التفسير أعم من التأويل لأن أكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل في المعاني «5». وقد أوضح أبو طالب الثعلبي هذا الفرق بين التفسير والتأويل، فقال: «التفسير: بيان وضع اللفظ إما حقيقة

_ (1) فصل المقال لابن رشد صفحة 14. (2) المستصفى 1/ 157. (3) المستصفى 1/ 157. (4) انظر نشأة التفسير للدكتور السيد أحمد خليل ص 30. (5) مقدمة التفسير ص 403 المطبعة الجمالية.

أو مجازا، كتفسير الصراط بالطريق، والصيب بالمطر. والتأويل: تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الأمر، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد، لأن اللفظ يكشف عن المراد، والكاشف دليل. ومثاله قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) تفسيره: أنه من الرصد، يقال: رصدته: رقبته، والمرصاد مفعال منه، وتأويله: التحذير من التهاون بأمر الله والغفلة عن الأهبة، والاستعداد للعرض عليه. ثم قال: «وقواطع الأدلة تقتضي بيان المراد منه على خلاف وضع اللفظ في اللغة» «1». ...

_ (1) الاتقان للسيوطي 2/ 294، وانظر فيه فروقا أخرى كثيرة بين التفسير والتأويل معظمها لا يستند إلى أساس.

أولا: الأصل الجامع لقواعده في التفسير

أولا: الأصل الجامع لقواعده في التفسير أما القواعد الأساسية للتفسير عند الحاكم فيمكن إرجاعها الى أصل واحد جامع، دافع عنه الحاكم، وأشار إليه في مواضع ومناسبات كثيرة في تفسيره، وهو أن القرآن مأخذ تفسيره من اللغة، أو أن اللغة طريق معرفة القرآن، ولم يجعل الحاكم لطالب فهم الكتاب من شرط سوى «أن يعلم الله تعالى، وأنه صادق لا يجوز عليه الكذب والقبيح» - وهذا من قاعدته الفكرية العامة كما أشرنا إلى ذلك- «وأن يقف على اللغة»، فكأن اللغة هنا هي الشرط الأساسي أو الكافي لفهم خطاب الله تعالى، قال الله تعالى: (حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) «1» قال الحاكم: «تدل الآيات على أن العالم باللغة محجوج به، ويدل قوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أن التفسير لمن عرف اللغة جائز، ولا يحتاج إلى سماع معناه من غيره، بخلاف قول من يقول لا بد فيه من سماع. ويدل على أنه يستقل بنفسه في باب الدلالة. ويدل على وجوب التفكر فيه وذم المعرض عنه». وقال في قوله تعالى في سورة الجن (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) «2» إن القرآن مستقل بنفسه في الدلالة.

_ (1) الآيات 1 - 3 سورة فصلت: التهذيب ورقة 24/ ظ. (2) التهذيب ورقة 116/ ظ.

وقال في قوله تعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) «1» انه يدل على أن القرآن يمكن معرفة المراد به بظاهره أو بقرينة ليصح أن يقع به الإنذار. وقال نحوا من ذلك في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) «2»، وقوله: (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) «3» فالبرهان ما دل على غيره به، والنور ما يبصر به سواه، ولا يكون القرآن كذلك الا وهو دال بنفسه، معروف بلفظه، وقد علم أن القرآن انما نزل بلغة العرب، فلا بد أن يعرف تفسيره من عرف هذه اللغة، والا لما صح وصفه بأنه نور وبرهان!. ثم إن دلالة الكلام إنما تعتبر بأمرين: المواضعة، وحال المتكلم، فبالمواضعة يصير للكلام معنى وإلا كان في حكم الحركات وسائر الأفعال، وفي حكم الكلام المهمل. ولا بد كذلك من اعتبار حال المتكلم لأنه لو تكلم به وهو لا يعرف المواضعة، أو عرفها ونطق بها على سبيل ما يؤديه الحافظ، أو يحكيه الحاكي، أو يتلقنه المتلقن، أو تكلم به من غير مقصد، لم يدل. فإذا تكلم به وقصد وجه المواضعة فلا بد من كونه دالا «إذا علم من حاله أنه يبين مقاصده، ولا يريد القبيح ولا يفعله» «4»

_ (1) الآية 7 سورة الشورى: التهذيب ورقة 30/ و. (2) الآية 51 سورة العنكبوت. (3) الآية 174 سورة النساء. (4) المغني للقاضي عبد الجبار 16/ 347.

وهذه هي حال القرآن في دلالته على المراد، لنزوله بلغة العرب وما تواضعوا عليه من الكلام، ولصدوره من حكيم عليم بهذه المواضعة. ولا يقال: إن الكلام قد يقع منه تعالى ويعلم بدليل العقل أن مراده غير ظاهره، لأن دليل العقل كالقرينة، كما لو قارنه كلام متصل يدل على الوجه الذي يقتضيه مجموعه. فإن قيل: إذا جاز في أحدنا أن يبتدئ بالمواضعة على مثل كلام قد تقدم، فهلا جاز مثله في القديم تعالى؟ فالجواب أن ذلك قد وقع في الأسماء الشرعية لما دلّ عليها، فأما مع فقد الدلالة وكونه مخاطبا باللغة المخصوصة فلا بد من أن يريد ما وضع له، وإلا حل المخاطب للعربي بالزنجية ومعرفة المراد به متعذر عليه. 1 - ليس في القرآن ما هو غير عربي: ولا يصح أن يقال إن في القرآن ما ليس بعربي لأن الله تعالى يقول فيه (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) «1» ويقول: (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) «2» إلى آيات أخرى كثيرة تؤكد عربية القرآن، ولأنه صلّى الله عليه وسلم كان يتلو عليهم هذه الآيات فلو كان فيه لغة غريبة لردوا عليه. قال الحاكم: «وما يروون في قوله (القسطاس) أنه رومي، و (سجّيل) عجمي، فالمراد أنه وافق لغة العرب لغة الروم، أو كان في الاصل روميا فأدخلته العرب في لغتها فصارت لغة لهم، يبين ذلك أن «سجيل» ليس في لغة العجم وإنما في لغتهم «سنك وكل» وهذا

_ (1) الآية 195 سورة الشعراء. (2) الآية 3 سورة الزخرف.

غير سجيل، فكأن تلك لغة معربة، ولا فرق بين الموضوعين في أنها لغة عربية» «1» وقد وصف الحاكم الذين يزعمون أن في القرآن ما ليس بعربي بأنهم من أهل الحشو «2» وغالبا ما يرد رأيهم عند شرحه اللغوي للكلمات التي زعموا أنها ليست بعربية، فقد قال في شرح «الإستبرق» بأنه: الديباج، قيل له الإستبرق لشدة بريقه. قال: «وقيل اسم معرب. ولا يقال إنه فارسي لأنه ليس في القرآن غير العربي» «3» وعلّق على كلمة «غساق» بقوله: «ومن زعم أن «غساق» ليس بعربي فقد أخطا، لان القرآن نزل بلغة العرب، ولهذه اللفظة تصرّف واشتقاق، ووردت به الأشعار» «4» 2 - مكانة اللغة في تفسير الحاكم: وقد جرت عادة الحاكم- كما سنفصل القول في ذلك عند الكلام على طريقته في تفسيره- على إفراد الكلام على «اللغة» في الآية أو الآيات موضع الشرح، في فقرة خاصة يظهر فيها أثر اطلاعه الواسع على اللغة العربية وقواعدها وآدابها، مما ساعده على إحكام وجوه القول في شرح الآية عند الكلام فيها على

_ (1) شرح العيون ورقة 265، وانظر التهذيب المجلد الأول ورقة 2 والمجلد السادس ورقة 161. (2) التهذيب ورقة 30/ و. (3) انظر تفسير الآية 53 من سورة الدخان: ورقة 45/ و. (4) التهذيب ورقة 7/ وفي تفسير قوله تعالى: (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) وانظر التفسير أيضا ورقة 30/ و.

«المعنى»، وحتى عند ما كان يدع الأخذ بالظاهر في بعض الأحيان، ويلجأ إلى التأويل- على أسسه الخاصة- فإن اعتماده على اللغة لا يتخلف كذلك، بل ربما بدا هنا أكثر دقة ووضوحا لكثرة ما يضطر إلى إيراده من اللغة والشعر وأصول الاشتقاق في الكلمات في سبيل تأييد رأيه ومذهبه، ونلمح إلى ذلك هنا ببعض الأمثلة والشواهد لنؤكد أن قاعدته في أن مأخذ تفسير القرآن من اللغة- كقاعدة عامة- لم يدعه على أي اعتبار، وندع الحديث عن طريقة الحاكم في إيراد اللغويات في تفسيره، وعن أسسه في التأويل إلى محله من هذا البحث. قال في «اللغة» في شرح قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) «1» إن الملاقاة: مصادفة الشيء للشيء، قال «وكل شيء صادف شيئا أو استقبله فقد لقيه، تقول: لقيت فلانا لقيا ولقيانا. والملقاة: المرة الواحدة، واللقية مثله. وليس اللقاء من الرؤية في شيء، وإنما يستعمل فيه مجازا، تقول: لقيت جهدا، ولاقيت شدة. وهاهنا الخطاب للمؤمنين والكفار، والكافر لا يرى ربه بالاتفاق!» ثم قال في «المعنى» في شرح «إنك كادح إلى ربك» قيل: عامل لله من خير أو شر، و «إلى» بمعنى اللام. وقيل معناه: إنك تعمل عملا في مشقة لتحمله إلى الله وتوصله اليه للجزاء. وقيل صائر بكسبك إلى ربك. وشرح الملاقاة هنا بأنك صائر إلى حكمه حيث لا حكم الا لله. أو بمعنى ملاقاة جزائه، فذكر السعي وأراد الجزاء.

_ (1) الآية 6 سورة الانشقاق: ورقة 139/ و.

وقال في قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) «1» إن الفراغ في اللغة على وجهين: أحدهما الفراغ من شغل. والثاني القصد إلى شيء، وأصل الفراغ منه أن ينقطع عنه بعد ملامسته، والفراغ له هو التوفر عليه، ثم قال- وهو بعد في شرحه اللغوي- «والفراغ والشغل لا يجوز حقيقتهما على الله تعالى لأن ذلك من صفات الأجسام التي تحلّها الأضداد، فهو في صفته تعالى توسع بمعنى القصد أو التهديد على ما نذكره .. ». وذكر أن «الجعل» في اللغة يستعمل على أربعة أوجه، قبل أن بشرح «معنى» قوله تعالى (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ... ) «2» منها: إحداث الشيء كقوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وثانيهما: تغييره من حال إلى حال كما جعل النطفة علقة، وجعل الطين خزفا، وثالثها: الحكم به، كما يقال: جعله عدلا وجعله فاسقا، وجعلهم رؤساء الضلالة- وهذا هو معنى الآية عنده كما شرحها بعد- ورابعها: جعله باعتقاده أنه كذلك، كقولهم: جعله مريبا.

_ (1) الآية 31 سورة الرحمن: ورقة 79/ ظ. (2) الآية 41 سورة القصص: ورقة 47/ و.

ثانيا: قواعده الأساسية في التفسير

ثانيا: قواعده الأساسيّة في التفسير أما قواعده الأساسية التي يمكن إرجاعها إلى أصله اللغوي السابق، فهي: القاعدة الأولى: ليس في القرآن ما لا معنى له، أو ما لا يفهم معناه ونقل الحاكم أن هذا هو قول أصحابه المعتزلة، ونسب إلى «الحشوية» قولهم إن فيه «ما لا معنى له وإنما أنزل ليتلى» «1» ورد الحاكم هذا القول بأن الغرض بالخطاب الإفادة ومعرفة المعاني، فلا يجوز أن يخاطب ولا يريد الإفادة! ولأنه لو جاز أن يخاطب تعالى بمثل ذلك لم يكن بأن يخاطب العرب بلغتهم أولى من العجمي، ولا بالعربية أولى من الزنجية أو أي لغة أخرى! ولو جاز على الله تعالى ألا يريد بكلامه الفائدة لكان لا فرق بينه وبين التصويت، وإيراد ما لم تقع عليه المواضعة البتة، وكان لا وجه لانقسامه إلى كونه أمرا وخبرا ووعدا ووعيدا!. وقد ذكر أبو هاشم أنه لا يمكن الادعاء أن وجه حسنه التعبد بالتلاوة، لأنه كان لا ينفصل- لو كان هذا هو الغرض- حاله وهو عربي من حاله وهو بالزنجية «2» وقال الحاكم في قوله تعالى:

_ (1) شرح عيون المسائل ورقة 264/ و. (2) انظر المغني للقاضي عبد الجبار 16/ 356.

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) «1» إنها تدل على أن الاعتماد يجب أن يكون على معرفة معاني الكتاب لا تلاوته. وقال في قوله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ، وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ، كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) «2» إن الآية تدل على ذنب من لا يعمل بكتاب الله مع تلاوته. ثم قال: «وهذا سبيل علماء السوء من هذه الأمة، وبين أن حالهم كحال الجهال في أن كل واحد لا ينتفع بذلك». وذكر الحاكم كذلك أن من مذهبه صحة معرفة معاني القرآن خلافا «لبعضهم» ممن يقولون إن في القرآن أشياء «لا طريق لنا إلى معرفتها» «3» أو إن في القرآن ما لا يفهم معناه. وردّ هذا أيضا بأن المقصود من الخطاب معرفة مراد المخاطب، فوجب أن يكون له طريق إلى معرفة مراده وإلا كان عبثا! ولأنه إذا كان له فائدة بالمواضعة فإذا خاطب به فلا يخلو إما أن يريد به ما وضع له فلنا طريق الى معرفته، أو غير ما وضع له فلا بد أن يدل عليه، وإلا كان ملبّسا أو معمّيا أو ملغزا، وهذا لا يجوز! ولأنه قد ثبت عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنهم كانوا يستدلون بالقرآن ويرجعون اليه ويفسرونه من غير انكار لتفسير بعض الآيات، فدل على أن جميعه مما يعرف «4».

_ (1) الآية 78 سورة البقرة: ورقة 105. (2) الآية 113 سورة البقرة: ورقة 145. (3) شرح العيون ورقة 264. (4) المصدر السابق، نفس الورقة.

والذي نحسبه أن محل الخلاف بين الحاكم- وسائر المعتزلة- وبين الحشوية أو بعض المفسرين: إنما هو في هذا الشق من المسألة، وهو جواز أن يكون في القرآن ما لا سبيل إلى معرفته، أما الزعم بأن في القرآن ما ليس له معنى فهو كلام فاسد لا يلتفت إليه، ولا يصح تصوير المسألة على أساسه، سواء وجد من حشوية المسلمين وسخفائهم من يقول بهذا- كما ينقل القاضي والحاكم وغيرهما- أم لم يوجد، لأن الفرق شاسع بين عدم إدراك المعنى من المخاطب، ونفى المعنى عن كلام المتكلم! ولا يصح الالتفات إلى ما نقله الحاكم من زعم هؤلاء أنه لو أراد الإفادة لما جعل فيه متشابها!! لأنه سواء قيل إن المتشابه مما يعلم المراد به أو مما لا يعلم؛ فإن الخلاف فيه فرع على الخلاف بأن في القرآن ما لا يفهم معناه، وليس فرعا عن الزعم بأن في القرآن ما ليس له معنى، فهذه مسألة لا تصح ولا يتفرع عنها شيء!. يرى الحاكم، إذن، أنه ليس في القرآن شيء لا يعرف معناه- لأن المقصود من الكلام إفهام المعنى- فإن كان للفظ معنى واحد فلا بد أن يحمل عليه، كما يقول الحاكم، وإن كان يحتمل أكثر من معنى وكله مما يجوز؛ حمل على الكل على وجه يصح «1» قال الحاكم: «ويقال: إذا كان للفظ معان ولا دليل، وكله مما يجوز، كيف تقطعون؟ قلنا: نقطع بأن الجميع مراد» «2». وهذا يفسر كثرة التفسير بالمأثور عند الحاكم، وعدم ترجيحه بين

_ (1) مقدمة التهذيب ورقة 2. (2) التهذيب، المجلد الأخير ورقة 161.

رواياته المختلفة- اختلاف تنوّع لا اختلاف تضاد- في أغلب الأحيان، لأن جميعه مما يحتمله اللفظ. فإن احتمل اللفظ عدة معان ودل دليل على أن بعضه مراد وبعضه ليس بمراد عمل بمقتضى الدليل، والدليل عنده تابع لأصوله في التأويل كما سنراه فيما بعد «1». ومن الألفاظ كذلك ما له معنى في اللغة ومعنى في الشرع، وحمله على الشرعي أولى لأنه منقول، قال الحاكم في قوله تعالى: (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) «2» إن الآية تدل على أن البغي اسم ذم في الشرع، ولذلك يقال للخارج على الإمام: باغ، ولقومه أهل البغي، ولذلك قال تعالى (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) وإن كان أصله في اللغة الطلب، فكأنه منقول في الشرع إلى من طلب شيئا ليس له! وقال في قوله تعالى: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) «3» - في شرحه اللغوي للإيمان والإسلام-: الإيمان في اللغة: التصديق، ومنه: (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) وليس باسم مدح، ولذلك يصح أن يقال لليهودي: مؤمن

_ (1) وكذلك الحال عنده في الحمل على المجاز، لأن من الألفاظ ما هو حقيقة ومنها ما هو مجاز، والأصل عنده: الحمل على الظاهر إلا أن يدل الدليل على أن حمله على المجاز أولى فيحمل عليه (التهذيب ورقة 2 من المقدمة) وقد أفردنا لرأية في إثبات المجاز في القرآن فقرة خاصة؛ لأهميته وصلته الوثيقة بمبحث التأويل. (2) الآية 76 سورة القصص ورقة 59/ و. (3) الآية 14 سورة الحجرات ورقة 62/ ظ.

فروع هذه القاعدة

بموسى، أي مصدق له، ويقال لقوم فرعون: آمنوا بفرعون، أي صدقوه. ثم قال: «ونقل في الشرع فجعل قولنا «مؤمن» اسم مدح، وقولنا «إيمان» اسم أداء الطاعات المفروضة واجتناب القبائح من الكبائر، ولذلك لا يطلق على الكفار والفساق، ولذلك قال تعالى: (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) بعد ذكر الطاعات، وقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ثم بين صفاتهم». فأما الإسلام ففي اللغة الانقياد والاستسلام، وفي الشرع هو والإيمان سواء، ولذلك يقال: رجل مسلم، ويراد به المدح، كما يقال رجل مؤمن وديّن، وقال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) وقال سبحانه: (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فذكر مرة بالإسلام، ومرة بالإيمان». فروع هذه القاعدة وأهم ما يتفرع على هذه القاعدة الأولى، وهي أن جميع القرآن معلوم المعنى، موقف الحاكم من المحكم والمتشابه، وموقفه من فواتح السور: 1 - المحكم والمتشابه: عرّف الحاكم المحكم بأنه ما أحكم المراد به فيستغنى عن البيان لوضوحه، والمتشابه ما يحتاج إلى بيان لاشتباه المراد. وهذا أول التعريفات التي ذكرها في تفسير آية آل عمران، ثم قال في الترجيح بين هذه التعاريف: «وأقرب الأقاويل ما ذكرناه أولا، وهو الذي اختاره القاضي أن المحكم ما يدل على المراد بنفسه، والمتشابه ما يحتمل الوجهين» «1». وعنده أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، وقد

_ (1) التهذيب- المجلد الثاني ورقة 5.

فسر الراسخين في العلم بأنهم الثابتون فيه الضابطون له المتفنون فيه، وقال إن الواو في قوله تعالى: (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) واو العطف، يعني لا يعلم تأويله إلا الله- فإنه يعلمه- والراسخون في العلم يعلمونه، ومع ذلك يقولون آمنا به، يعني يعلمونه ويقولون آمنا، فأضمر «يقولون». «وقيل تقديره: والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا به، عن ابن عباس ومجاهد والربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير وأبي مسلم، وقوله «يقولون» يكون حالا .. » «1» ثم قال: «ولولا ذلك لم يكن لذكره الراسخين معنى! ويدل على صحة هذا أن الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن، وعن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين في العلم، وعن مجاهد نحوه. ولأن الغرض بالخطاب الإفهام» «1». أما الذين ذهبوا إلى أن الواو في الآية واو الاستئناف، وأن الكلام ثم عند قوله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ثم ابتدأ: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) - وهو القول الذي نسبه إلى عائشة ومالك والكسائي والفراء وأبي علي الجبائي- فلا يصح عنده إلا إذا فسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه من المغيبات، نحو وقت قيام الساعة وخروج الدجال ودابّة الأرض، ويكون معنى تأويل هذه الأمور: العلم بوقت وقوعها، وذلك إلى الله تعالى لا يماري في ذلك أحد «2»!

_ (1) المصدر السابق. (2) انظر كتاب: متشابه القرآن: دراسة موضوعية للمؤلف ص 140 فما بعدها. طبع دمشق 1389.

أما طريق بيان المتشابه عند الحاكم فهي بأن «يرد إلى المحكم ويرتّب عليه وعلى أدلة العقول» «1» وقد أكد هذا المعنى في آخر تفسيره فقال: إن المراد بالمحكم يعرف بظاهره «والمتشابه يحمل على أدلة العقول والمحكم» «2» ويعني بذلك بالطبع أنه يؤول ليطابق المحكم وأدلة العقل- وسوف نشرح ذلك عند الكلام على التأويل- والذي يجدر تأكيده هنا هو: أن الحاكم لا يرى في وجود المتشابه في القرآن ما ينقض قاعدته في أن جميع القرآن معلوم المعنى، لأن المتشابه- بحسب حدّه المختار- مما يعلم معناه بحمله على المحكم- كما لا يرى فيه كذلك ما يخل بمسألة أن القرآن هدى وبيان بنفسه، وأنه يجب أن يتدبر ويعلم ولا يكتفي فيه بالتلاوة بحجة أن المتشابه ليس ببيان بل يحتاج إلى بيان كما زعم بعضهم، وذلك لأن البيان قد وقع بحمله على المحكم، وليس البيان في اللغة مقصورا على الظاهر، بل هو كذلك في المجاز. وقد أوضح القاضي عبد الجبار من قبل أن الخطاب بالمتشابه يخالف خطاب العرب بالفارسية- في زعم من زعم- لأن هذا الخطاب ليس في العقل ما يعلم معه المراد فيكون عبثا، وليس كذلك حال المتشابه لأنه لا بدّ من أن يدل على المراد به إما العقل وإما المحكم، قال القاضي:

_ (1) من تفسيره لقوله تعالى: (رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) الآية 11 سورة الطلاق ورقة 104/ و. (2) ورقة: 161.

«وكلاهما ثابت لمن ينظر في المتشابه» «1». بل إن مجيء القرآن مشتملا على المحكم والمتشابه يقتضي من الناظر فيه والمتأمل له إذا وقف على ما يدل بظاهره على الجبر والتشبيه، وما يدل على العدل والتوحيد أن ينظر في أدلة العقول وفي سائر ما نبه عليه تعالى في كتابه، ليعلم به أن ما يدل ظاهره على العدل فهو المحكم دون الآخر، فلا تهمل بذلك أدلة العقول، ولهذا كان كون القرآن كذلك ملجئا إلى العدول عن طريقة التقليد إلى طريقة النظر- وهو ما يحب الحاكم تأكيده على الدوام- لأنه إذا وجد القرآن مختلفا- بظاهره- لم يكن بأن يقلّد المحكم أولى من المتشابه، فيضطر إلى الرجوع الى الأدلة وتأملها، ولو كان جميع القرآن محكما لكان أقرب الى الاتكال على ظاهره وطريقة التقليد فيه! ثم انه لا يجب في القرآن أن يبلغ في «البيان» أعلى الرتب! لأن ذلك لو وجب لوجب في المعارف أن تكون ضرورية، لأن ذلك أبلغ من تكليف النظر والمعارف، لامتناع السّفه فيها وتأتيه في المكتسب! فإذا لم يجب ذلك فغير واجب في البيان أن يبلغ نهايته في الوضوح. بل لا يمتنع في المتشابه أن يكون أولى في البيان لأن أحدنا إذا خاطب غيره على عهد تقدم لا يكون ملبّسا وإن كان ظاهر الكلام منه، لو تجرد عن العهد، لم يدل على المراد، لكنه مع العهد دل على المراد لمكان التقييد والاتصال. وما مهده الله تعالى في العقول من المعارف والأدلة أوكد من العهد في هذا الباب، فيجب خروج الخطاب لأجله من أن

_ (1) المغنى الجزء 16 صفحة 376.

يكون تعميها وتلبيسا وعدولا عن البيان «1». 2 - فواتح السور: أما فواتح السور فليست داخلة في حد المتشابه عند الحاكم وإن كانت كذلك عند غيره، وهي عنده مما يصح أن يوقف على معناها، وقد أورد في كتابه أهم الآراء التي قيلت في تفسيرها، وعقب على بعضها بالنقد، وذهب إلى ترجيح رأي الحسن البصري وزيد ابن أسلم والقاضي عبد الجبار وأبي علي الجبائي- في أحد روايتيه عنه- أنها أسماء للسور، لأنه قال في التعقيب على هذا الرأي وعلى رأي قتادة أنها أسماء للقرآن: «وهذا جائز لأن أسماء الأعلام منقولة للتفرقة بين المسميات، فمتى لم يرد بها معنى الأصل فهي على جهة النقل، وقد جاء في أسمائهم حارثة بن أوس بن لام» ثم قال: «ولا خلاف بين النحويين أن كل كلمة لم تكن على معنى الأصل فهي منقولة، كقولك «زيد» إذا لم ترد به الزيادة كان منقولا إلى العلم. ولا يقال: لو أريد به التسمية لم يسمّ بها سورا كثيرة، لأن هذا موجود في أسماء الألقاب فيسمى خلق زيدا ثم يتميز بشيء آخر يتصل به، كذلك هذا يتميز بما ينضم إليه فيقال: «الم ذلك» و «الم الله» قال الحسن: سمعت السلف يقولون إنها أسماء السور ومفاتيحها» «2» وقال في تفسيره لمطلع سورة «ق»: «والصحيح أنها اسم للسورة» «3».

_ (1) راجع المغني 16/ 373 - 374. (2) التهذيب من تفسيره للآية الأولى من سورة البقرة، ورقة 11. (3) التهذيب، ورقة 63/ و.

أما الرأي القائل بأن هذه الفواتح سر لا يعلم المراد منه، فقد رده بقوله: «وهذا لا يصح لأن الغرض من الخطاب الإفهام، ولأن الصحابة والتابعين، والعلماء بعدهم تكلموا في معنى هذه الحروف، فقوله يخالف إجماعهم» وعلق على الرأي القائل بأنها حروف مقطعة ولو وصلت صارت اسما من أسماء الله تعالى كقولك: الرحمن، فهو: «الر» «حم» «ن»، بأن هذا إنما يتأتى في بعض الحروف دون جميعها. أما أهم الآراء الأخرى التي ذكرها ولم يعقب عليها، فهي: 1 - رأي المبرد وأبي مسلم الأصفهاني وجماعة أنها إشارة إلى حروف المعجم، وتنبيه على أنه تعالى أنزل كتابه من هذه الحروف وأنتم تتكلمون بها، فإذا عجزتم عن الاتيان بمثله دل على أنه كلام الله تعالى وأنه معجز. 2 - رأى أبي بكر الزبيري- الذي سبقت الإشارة إليه عند الكلام على مصادر الحاكم في التفسير- أنه تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة سوف تقول بقدم القرآن، فأشار تعالى بهذه الحروف إلى أن كلامه من جنسها، ليدل بذلك على أنه مسموع محدث غير قديم! .. 3 - رأى الأخفش أنها قسم أقسم الله بها لشرفها ولأنها مباني الكتب المنزلة والألسن المختلفة وأسمائه الحسنى، وأصول كلام الأمم بها يتعارفون. 4 - وأخيرا رأى قطرب وأبي علي- في روايته الأخرى عنه- أن الكفار لما تواطئوا على عدم سماع القرآن، وعلى أن يلغوا فيه، أحدث الله تعالى هذه الحروف التي لم يكن لهم بها عهد ليستمعوا ثم يأتي الكلام بعدها فيكون حجة عليهم، فكأنها مرادة لإثارة الدهشة والاستغراب، وما يلازم ذلك من السماع والإصغاء،

القاعدة الثانية: لا يختص بتفسير القرآن الرسول أو السلف

فيكون ذلك طريقا لسكوت اللغو وإقبالهم على سماع القرآن «1». القاعدة الثانية: لا يختص بتفسير القرآن الرسول أو السلف قال الحاكم: قال أصحابنا: لا يختص الرسول بمعرفة معاني القرآن، بل غيره يمكنه ذلك خلافا لبعضهم. ثم قال: «لنا في ذلك وجوه: منها: أن الكلام هو الدال على المراد إذا تكاملت شرائطه، فمن عرف المواضعات يمكنه أن يعرف المراد، كمن له عقل يمكنه أن يستدل بالعقليات. ولأن الرسول لا بدّ أن يبين المراد بكلام، فإذا صح أن يعرف المراد بكلامه فكلام الله تعالى كذلك. ولأن الأمة أجمعت على الرجوع إلى القرآن في الأحكام ولو كان كما قالوا لما حسن. ولأنه تعالى قال: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) ووصفه بأنه بيان» «2». والوجه الأول هو الذي ذكره القاضي عبد الجبار- وهو أول المقصودين عند حديث الحاكم عن أصحابه- وبناه على أن الكلام نفسه هو الدال على المراد به إذا تكاملت شرائطه من المواضعة واعتبار حال المتكلم، قال القاضي: «فإذا كان غير الرسول قد عرفه على شرائطه، فيجب أن يمكنه أن يستدل بذلك على مراده تعالى كما يمكنه صلى الله عليه، وإلّا لزم من ذلك أن يصح اختصاصه- صلى الله عليه- بأن يستدل

_ (1) راجع التهذيب في مطلع سورة البقرة وفي مطلع سورة الشعراء (طسم) ورقة 2/ وو مطلع الشورى (حم عسق) ورقة 29/ ظ. (2) شرح العيون ورقة 264.

بالعقليات دون سائر المكلفين!» «1». وهذا الوجه هو الذي يوجب كذلك أن يكون حكم أهل سائر الأعصار كحكم الصحابة والتابعين، إذا عرفوا اللغة ووجه دلالة الكلام، وأن لا يكون لابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم مزية الاختصاص في صحة الاستدلال، وفي جواز تفسير القرآن وتأويله، وقد يكون لهم مزية أخرى بالطبع، قال القاضي: «وإنما يتقدم البعض على البعض من حيث يتقدم في معرفة اللغة ويبرّز فيها، فيكون بهذه الطريقة أعرف. وهذا إنما يتفاوت حال العلماء فيه إذا كان الكلام في المتشابه وما يلتبس، فأما مثل قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)، و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) وقوله: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) فلا يجوز أن تتفاوت أحوال أهل اللغة والعلماء بها في معرفته «2»!». وما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: «أي أرض تقلني وأيّ سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله برأيي»، لا ينقض ذلك بل يدل عليه، لأنه نبه بذلك على أن الواجب أن يقال في كتاب الله بما يدل ظاهره عليه ولا يرجع فيه إلى الرأي؛ لأن هذه اللفظة- الرأي- إذا أطلقت فالمراد بها ما يرجع إلى الاجتهاد وغالب الظن، فإن صح الخبر فهذا مراده؛ لأنه قد ثبت أنه استدل بالقرآن في أشياء كثيرة، وإلا فإن ذلك ينقض القول بأن لأهل التفسير من السلف أن يفسروا القرآن،

_ (1) المغني 16/ 361. (2) المصدر السابق.

1 - موقفه من تفسير السلف

كابن عباس وغيره، ولكان الواجب عليه أن ينكر على ابن عباس وغيره التفسير والاستدلال بكتاب الله تعالى، وأن يوجب الاقتصار في ذلك على المأثور عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، والمعلوم عنه خلافه. والسؤال الآن: ما الذي يقبله الحاكم من الأخبار والأحاديث في التفسير وأسباب النزول؟ وإلى أي حد كان اعتماده على تفسير الصحابة والتابعين و «أهل التفسير» كما يسميهم في بعض الأحيان؟ 1 - موقفه من تفسير السلف : أما موقفه من تفسير السلف فقد قدمنا القول عند الكلام على مصادره في التفسير: أن تفسيره قائم على تفسير الصحابة والتابعين، وعلى تفاسير المعتزلة قبله، وأنه أكثر من إيراد آراء السلف حتى كاد كتابه أن يكون تلخيصا لروايات الطبري، والأمثلة على ذلك- التي استشهدنا ببعضها- تملأ الكتاب، ولم يكن من عادة الحاكم أن يرجّح بين هذه الآراء حيثما كان اللفظ محتملا لها جميعا، على مذهبه في حمل المعنى علي الجميع على وجه يصح، وإلا فهي عنده على حد سواء؛ لأن الاختلاف بينها في معظم الأحيان إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، باعتبار أن مأخذها من ظاهر اللغة. وعند ما كان يرجح بين هذه الآراء «المتنوعة» فإن ترجيحاته تعود إلى أمور لا صلة لها بالمنهج، سوف نعرض لها عند الكلام على طريقته في ترتيب كتابه، ومعالجة كل فقرة من فقرات التفسير في الآية عنده. ولكن موقفه من تفسير السلف يتحدد بصورة أوضح فيما فسروه- أو تأوّلوه- على وجه لا يدل الظاهر عليه، دون أن يحملهم على ذلك حمل على المحكم أو دليل العقل، وهنا نجده يفرق بين رأي قال به

بعضهم: واحد أو اثنان منهم، ورأي ذهب إليه أكثرهم أو جماعتهم، فإن كان تفسيرا للبعض تركه وقدم الظاهر، أو التمس له وجها من الوجوه المحتملة أو المقبولة، قال في قوله تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ .. ) «1» إنهم اختلفوا في تفسير التين والزيتون فقيل: والتين الذي يؤكل، والزيتون الذي يعصر؛ عن الحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وقتادة وأبي علي وأبي مسلم. وقيل: التين مسجد نوح، والزيتون مسجد بيت المقدس، عن ابن عباس. وقيل هما مسجدان بالشام؛ عن الضحاك. وقيل: التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيليا، عن محمد بن كعب. ثم قال إن الصحيح «هو الأول لأنه الظاهر فلا يترك ذلك من غير دليل» وحمل الروايات الأخرى على أن التقدير فيها: منابت التين والزيتون! وقال في قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) «2»: في الميزان قولان: قيل هو على جهة المثل، أي قبلت حسناته وكثرت، عن مجاهد. وقيل: ميزان له كفتان كموازين أهل الدنيا، عن الحسن وأكثر أهل العلم. ثم قال: إن الآية تدل على إثبات الميزان لأجل الظاهر، ولا مانع منه. وإن كان ذكر اختلاف القائلين بهذا الرأي في الموزون، وأنه لا يصح أن يكون هو الأعمال لأنها انقضت ولأنها أعراض، ولم يرجح واحدا من آرائهم.

_ (1) الآيتان 1 - 2 سورة التين: التهذيب ورقة 150/ و. (2) الآية 6 سورة القارعة: التهذيب ورقة 154/ و.

وبالرغم من أن موقفه من آراء بعض السلف هذه ورواياتهم المنفردة يحدد بصورة أوضح موقفه من تفسير السلف بعامة، إلا أنه مع هذا يكاد يكون جزءا من منهجه الفكري العام، ومن موقفه من تقديم الظاهر على المجاز الذي سنتولى بيانه في القاعدة الرابعة من قواعده في التفسير. ولعل موقفه الحقيقي من السلف أو أهل التفسير إنما يظهر فيما ذهب اليه أكثرهم أو جماعتهم مخالفين فيه الظاهر، فقد ذهب الحاكم إلى الاخذ برأيهم وترك الظاهر، ولم يسمح لنفسه أن يخالف ما أجمع عليه أهل التفسير، كما فعل بعض مفسّري المعتزلة قبله، مثل أبي مسلم، قال في قوله تعالى: (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ، رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) «1» إن سليمان صلّى صلاة الأولى ثم قعد على كرسيه تعرض عليه ألف فرس صارت إليه حتى غابت الشمس وفاتته صلاة العصر؛ عن أمير المؤمنين وقتادة والسدي، قال الحسن: لا زال يعرض عليه حتى فاتته صلاة العصر، قال أبو علي: كانت صلاة العصر لم تكن مفروضة اشتغل عنها بالخيل والنظر اليها، قال القاضي: ويحتمل أن تكون صلاة العصر لم تكن مفروضة في شريعته، فقال سليمان (ردّوها عليّ) أي الشمس، يعني سأل الله أن يردها عليه فردت عليه حتى صلى العصر. (فطفق مسحا) أي أخذ يمسح وما زال يمسح (بالسوق

_ (1) الآيات 30 - 33 سورة ص: التهذيب ورقة 5/ و.

والأعناق)، قال الحاكم: قيل أخذ يمسح سوقها وأعناقها بالسيف، وقال لا تشغلني عن عبادة ربي مرة أخرى، عن الحسن. وقيل: جعل يمسح أعناق الأفراس وعراقيبها حبا لها، عن ابن عباس والزهري وابن كيسان. وقيل: أخذ يمسح ليعلم حالها كما يفعل أرباب الخيل، عن أبي مسلم. وقيل: مسح أعناقها وشرّفها وجعلها مسبلة في سبيل الله. قال الحاكم: وسئل ثعلب عن هذا التفسير الأخير وقيل له إن قطرب يقول يمسحها ويبارك عليها؟ فأنكر أبو العباس قوله، وقال: القول ما قال الفراء يضرب أعناقها وسوقها. وقيل: المسح لا يفيد القطع وضرب العنق ولا قطع العراقيب إلا أن أكثر المفسرين عليه! قال الحاكم: تدل الآية على مدح سليمان، وأنه فعل فعلا يستحق به المدح، لذلك قال: نعم العبد، ثم وصفه بما ذكر. وهذا ضد ما تقوله الحشوية انه اشتغل بالخيل حتى فاتته صلاة العصر وهو فرض، ثم أمر بقتل الأفراس من غير ذنب! «ولولا أن أكثر المفسرين وأصحاب النقل وأكثر العلماء على أنه ضرب أعناقها وسوقها لكان الأليق بالظاهر ما يقوله أبو مسلم أنه عرض عليه الخيل فما زالت تعرض عليه حتى غابت عن عينه، ثم أمر بردها فمسح سوقها وأعناقها كما هو العادة من أرباب الخيل» «1» ويكون معنى قوله تعالى (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) - كما ذكره أبو مسلم وجرى فيه على الظاهر الذي لم يذهب الحاكم إلى ترجيحه- إني أحببت الخيل عن كتاب الله، التوراة

_ (1) التهذيب ورقة 5/ و.

أو غيره، فإن ذكر الله كتابه، وكما أن ارتباط الخيل في كتابنا ممدوح، كذلك كان في كتابهم. واتخذ الحاكم كذلك نفس الموقف من قصة داود نفسه مع الخصم الذين تسوروا المحراب، قال تعالى: (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ، قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ، وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ، فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) «1» فظاهر الآيات أن خصمين من البشر دخلوا على داود عليه السلام من سور محرابه- مجلسه أو مصلّاه- على هذه الصورة الغريبة المفزعة من دون استئذان وتحاكموا اليه في نعاج وأغنام، ولم يراعوا في طلب الحكم حق الأدب أو حق النبوة في الخطاب، فسألوه الحكم بالحق وعدم الجور واتباع الهوى! فلما سمع داود الدعوى من أحدهما استعجل بالحكم على صاحبه- صاحب النعاج الكثيرة- بأنه ظالم لأخيه، في النسب أو الدين، من قبل أن يسمع من الخصم الآخر المدعى عليه، فكان ذلك من جملة الصغائر التي تقع من الأنبياء، فتاب ورجع إلى مرضاة الله، فغفر الله

_ (1) الآيات 21 - 25 سورة ص: التهذيب ورقة 4.

تعالى له، وللأنبياء سؤال المغفرة من الصغائر وإن كانت إنما تقع مكفّرة، كما قال تعالى: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) «1» هذا الظاهر هو ما أخذ به وفسره أبو مسلم، وقد ود الحاكم أن يأخذ بهذا الظاهر لو لم يجمع أهل التفسير على خلافه، وأن الخصمين إنما كانا ملكين على صورة الإنس بعثهما الله تعالى إلى داود امتحانا لما سلف منه، وإلا فلو كانوا بشرا لم يتجاسروا على الدخول عليه تسورا للمحراب ولما قالوا له: لا تخف! واهدنا، ولا تشطط!، وأما قولهم: (خصمان بغى بعضنا .. ) فمعناه: نحن كخصمين لأنهما لم يكونا خصمين! والنعاج على هذا التفسير كناية عن النساء، والمعنى: عنده تسع وتسعون امرأة وعندي امرأة واحدة- أو: طلبت امرأة فمنعني عنها وتزوجها مع كثرة نسائه، كما قال أبو علي- (فقال أكفلنيها) قيل: أنزلنى عليها، عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد، يعني: تحول عنها حتى تصير في نصيبي. وقيل: ضمها إلى جنبي أكفلها، عن أبي العالية. وقيل اجعلها كفلي أي نصيبي، عن ابن كيسان ... وروى السدي أنه لما قال هذا قال داود للآخر: ما تقول؟ قال هو كذلك، فقال إذن لقد ظلمك، إلا أنه حذف الاعتراف لدلالة الكلام عليه، فقال: يا داود أنت أحق بهذا! لك تسع وتسعون امرأة، ولأوريا امرأة فرمتها! ونظر داود فلم ير شيئا، فعلم أنهما ملكان.

_ (1) الآية 82 سورة الشعراء.

ثم ذكر الحاكم عدة وجوه قالها «مشايخ العدليين» في مسألة داود مع أوريا وخطبته لخطيبته أو زوجته بعد وفاته، وردّ رواية بل روايات إسرائيلية قال إنها من دسيس الملحدة، ولا تصح على بعض الفساق فضلا عن الأنبياء! ولكنه قال إن ظاهر الآيات يدل على مواقعة ذنب، وأن الروايات تؤيد ذلك، وقال إن الصحيح في ذلك ما ذكره شيخه أبو علي: أن داود خطب على خطبة أوريا بعد أن أظهر أهل المرأة لأوريا رغبتهم فيه وإرادتهم أن يزوجوها منه، فبلغ داود عنها ما رغّبه فيها فخطبها فزوجوها من داود ولم يزوجوها من أوريا، فعاتبه الله على ذلك. ثم قال الحاكم أخيرا: «ولولا النقل المستفيض وإجماع أهل التفسير لكان الأليق بالظاهر ما حكيناه عن أبي مسلم، وهو الظاهر ولا مانع منه، ولأنه يجوز أن يقال للحاكم اقض بيننا بالحق- والصحيح أنهما قالا ذلك لكونهما ملكين كما ذكر المفسرون- وقد يجوز مثله في الحكام، فأما في الأنبياء فلا يجوز لأحد من أمتهم أن يخاطبهم بمثل ذلك». ويكاد هذا الموقف الذي اتخذه الحاكم مما ذهب إليه أكثر السلف أو أجمعوا عليه، لا يختلف عن موقف شيخه القاضي عبد الجبار في ذلك فبعد أن أنكر القاضي اختصاص السلف بمعرفة القرآن، أورد هذا الاعتراض فقال: «أفليس في التفسير يرجع اليهم في هذا الباب؟» ثم أجاب بقوله: «لا يمتنع فيما تأولوه على وجه مما لا يدل الظاهر عليه أن يجعل اجماعهم حجة فيه. وهذا انما يكون فيما لا يعرف بظاهر التنزيل، ويصير كالمذاهب المأخوذة من الإجماع» «1»

_ (1) المغني 16/ 362.

2 - موقفه من الأحاديث والأخبار المرفوعة:

2 - موقفه من الأحاديث والأخبار المرفوعة: الأخبار المرفوعة الى النبي صلّى الله عليه وسلم في التفسير تعتبر قليلة إلى جانب المأثور عن الصحابة والتابعين، وربما تفاوت المفسرون في الحكم على بعض الروايات المأثورة بأنها موقوفة أو مرفوعة، أو في النص على ذلك في كتبهم، وقد جرت عادة الحاكم في تفسيره على الإشارة الى الأحاديث المروية والأخبار المرفوعة بعبارات متعددة، كقوله: روي عن رسول الله صلى الله عليه، أو قال رسول الله صلّى الله عليه، وكقوله: ذكره فلان في خبر مرفوع. أو روي مرفوعا .. الخ، ونحاول من خلال هذه الروايات أن نقف على مدى اعتماد الحاكم على الحديث في تفسير القرآن واحتفائه به، وعلى قاعدته الأساسية في رفض الخبر أو قبوله. ويمكن تلخيص موقفه من الحديث في النقاط الآتية: أ) أكثر الحاكم من الاستشهاد بالحديث في الشرح، ومن التدليل به على الأحكام التي يقف عليها في الآية أو النص القرآني: قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) «1» قال الحاكم في شرح معنى الغيبة: «أن تذكر أخاك بما يكره- رواه أبو هريرة مرفوعا- فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته».

_ (1) الآيتان 12 - 13 سورة الحجرات: التهذيب ورقة 62/ و.

وقال في شرح معنى قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ): «أي: أكرمكم على الله أتقاكم لا أعظمكم، عن ابن عباس وعطاء، وروى ذلك في خبر مرفوع، وعن النبي صلى الله عليه: من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله». وقال في أحكام هذه الآيات: إنها تدل على قبح الظن بالمؤمنين، ثم قال: «ومتى قيل: ما الذي يجب أن يجتنب من الظنون؟ قلنا: أن يظن المرء بأخيه في الأمر المحتمل لوجه يحسن وجه القبح، بل يجب أن يظن ما يليق بستره وصلاحه. «ومتى قيل: أفي الجميع يجب ذلك، أم فيمن ظاهره الصلاح؟ قلنا في الكل ما دام طالبا لطريق الستر، فإذا أعلن بالفسق فقد خرج من أن يكون له حرمة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه: لا غيبة لفاسق ... ومعنى التجسس قريب من الظن الشرّ فنهوا عن ذلك، وبيّن أن الواجب أن يجري على ظاهر السلامة، والمروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا) وقال في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ ... ) الآية إنها تدل على أمور منها: «أن الفضل بالتقوى لا بالأنساب، وفي الخبر أن مناديا ينادي يوم القيامة إني جعلت لكم نسبا، وجعلتكم لأنفسكم نسبا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليقم المتقون، فلا يقوم إلا من كان كذلك»! ولهذا كان الحاكم كثيرا ما يصرح بترجيح أحد وجوه التفسير

الكثيرة التي ينقلها في الآية منسوبة إلى أهل التفسير، بخبر مرفوع يؤيد أحد هذه الوجوه، قال في تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) «1»: أي اتقى معاصيه وتمسك بطاعته (يجعل له مخرجا) قال الحاكم: «قيل فرجا. وقيل: من يطلّق للسنة يجعل له مخرجا إلى الرجعة، ويرزقه من حيث لا يحتسب، عن عكرمة والشعبي والضحاك. وقيل: هو عام: من يتق الله يلطف له فيوسع في رزقه ويخلصه من محن الدنيا. وقيل: من يتق الله يجعل له مخرجا من عذاب الآخرة وهموم الدنيا، ويرزقه في الجنة من حيث لا يحتسب. وقيل: من يتق الله يجعل له مخرجا من الأمور التي يشتد في الدنيا على العاقل الخروج منها ويشتبه في أمور الديانات، ويكون ذلك بألطافه». ثم قال الحاكم: «والأولى حمله على ثواب الجنة وعذاب الآخرة؛ لأن ذلك جزاء من الله تعالى، دون أرزاق الدنيا لأنها لا تختص بالمتقين وليس بجزاء، يدل عليه ما روي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «يجعل له مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت وشدائد يوم القيامة ... » أما شواهد استدلاله بالحديث في «أحكامه» التي يراها في الآيات، فلا تقل عن شواهده في المعنى والشرح، وقد أشرنا إلى بعضها في هذه الفقرة، ونضيف اليها بعض الشواهد الأخرى الموجزة: قال في قوله تعالى: (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) «2» إنه يدل

_ (1) من الآيتين 2 - 3 سورة الطلاق، ورقة 103/ ظ. (2) الآيتان 20 - 21 سورة الانشقاق، ورقة 140/ و.

ب) اعتمد الحاكم على الحديث في بيان المجملات والأمور الإخبارية وفي تفصيلات الأمور الغيبية.

أن هاهنا سجدة واجبة، قال: وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه السورة وسجد. ومما تدل عليه سورة التكاثر عنده أن كل إنسان يسأل عن عمله، وان ذلك لطف للمكلف، قال: «وروى عن النبي عليه السلام: لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن عمله ماذا عمل به» قال الحاكم «فإذا تصور العبد ذلك صرفه عن المعاصي» «1». وقال في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) «2» انها تدل على كراهة النجوى فيما يؤذي مسلما، وقد روي في خبر مرفوع: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه. قال الحاكم: فكيف بمن ساءه وتقوّل عليه؟!. ب) اعتمد الحاكم على الحديث في بيان المجملات والأمور الإخبارية وفي تفصيلات الأمور الغيبية. وقد نص هو في تفسيره على أن المجمل في كتاب الله يعرف ببيان الرسول عليه السلام، ونص في موضع آخر على أن في القرآن مجملا يحتاج إلى بيان، ثم قال: «فإذا بينه الله تعالى في مواضع أخرى وبينه الرسول كفى» «3» والشواهد والأمثلة هنا كثيرة أيضا، نورد منها ما يلي:

_ (1) التهذيب ورقة 154/ ظ. (2) الآية 8 سورة المجادلة، ورقة 89/ و. (3) التهذيب، ورقة 104/ ظ من الجزء الأخير.

قال في قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) «1» إنهم اختلفوا في المستثنى- بعد أن فسر الصور بأنه قرن ينفخ فيه إسرافيل كما دلّ على ذلك بخبر مرفوع عن السدّي- فقيل: صاحب الصور اسرافيل. وقيل: جبريل وميكائيل واسرافيل وملك الموت، عن السدي في خبر مرفوع. وقيل هم الشهداء مقلدون أسيافهم حول العرش، روي مرفوعا. وفي قصة سليمان في تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) «2» لم يلتفت الحاكم الى روايات كثيرة وصفها بأنها فاسدة، وبأن فيها ما لا يجوز على أنبياء الله، وبأن فيها ما لا يجوز على الله، بل إن فيها ما يقرب من الكفر! وبعد أن أوجز القول في هذه الروايات الفاسدة حكم بتنزيه سليمان عليه السلام بخبر مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم في تفسير الآية، قال الحاكم: «فأما ما يقوله علماؤنا وعلماء التفسير فرووا عن النبي صلّى الله عليه وسلم أن سليمان قال: أطوف الليلة على مائة امرأة فتلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله، فطاف فلم تلد إلا واحدة ولدت نصف غلام فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه بين يديه، ولو قال إن شاء الله لكان كما قال» والجسد هو نصف الولد، أو الولد المشوّه الميت كما في رواية أخرى. وفسر الروح في قوله تعالى (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) «3» - في

_ (1) الآية 68 سورة الزمر، ورقة 15/ ظ. (2) الآية 34 سورة ص، التهذيب ورقة 5/ ظ. (3) الآية 4 سورة القدر، ورقة 151/ ظ.

سورة القدر- بأنه جبريل، قال: «وعليه أكثر المفسرين، وذكر مرفوعا، وهو قول أبي علي» وفي كلامه على شرف ليلة القدر- التي هي خير من ألف شهر- ووقتها، أورد طائفة كبيرة من الأحاديث، ورجح ما صرّحت به، وهو قول جمهور المفسرين، قال في حديثه عن وقت هذه الليلة: «قيل: كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم رفعت» لأن الفضل كان لنزول القرآن فيها وقد انقطع. وقيل بل هو ثابت بعده، وهو قول جمهور العلماء، ثم اختلفوا على قولين- وروي عن أبي الدرداء قلت: يا رسول الله ليلة القدر تكون على عهد الأنبياء؟ قال لا، بل هي إلى يوم القيامة- وقال بعضهم هي في السنة كلها، عن ابن مسعود، وروي نحوه عن أبي حنيفة. وقيل بل هي في شهر رمضان، وعليه الأكثر والمروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو قول ابن عمر والحسن وجماعة من العلماء، ثم اختلف هؤلاء أي ليلة هي على ثلاثة أقوال، فقيل أول ليلة، عن أبي رزين، وقيل ليلة سبعة عشر وهي التي صبحتها كانت وقعة بدر، عن الحسن. وقيل هي في العشر الأواخر من شهر رمضان، وعليه الاكثر، والمروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم التمسوها في العشر الأواخر .. ». ثم أورد بضعة أحاديث في تحديد بعض أيام هذا العشر، ذهب إلى القول به بعض العلماء، فقال: روى بلال عن النبي صلى الله عليه أنها ليلة أربع وعشرين، وروي عن أنس عن النبي أنه قال: التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة، وعن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: من كان متحريا فليتحرّها في ليلة سبع وعشرين. وروى أبيّ عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال ليلة القدر ليلة سبع وعشرين. قال الحاكم: «ولعله أخفى ذلك في العشر الأواخر ولم

يطلع عليها أحدا بعينها ليتعبد الناس في جميعها ليستدركوا فضلها ... وربما أخفاها لنوع من المصلحة كما أخفى الصلاة الوسطى بين الصلوات، واسمه الأعظم في الأسماء، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، وقيام الساعة؛ حكمة منه ورحمة .. ». والدخان في قوله تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) «1» معروف المعنى، ولكن ترجيح كونه من علامات الساعة إنما يكون بالخبر، وقد قال بعض المفسرين في الآية: إن الدخان هو الظلمة التي كانت تغشى المشركين لشدة الجوع حين دعا عليهم النبي وقال: اللهم سنين كسنيّ يوسف! ذكر ذلك عن ابن مسعود والضحاك، وقال ابن عباس وابن عمر والحسن وزيد بن علي: إنه الدخان المعروف، وهو من أشراط الساعة يدخل في مسامع الكفار والمنافقين. قال الحاكم: «والوجه أن يكون يوم القيامة أو يكون من علامات الساعة لقوله صلى الله عليه وآله: (أول الآيات الدخان ونزول عيسى) ولأنه تعالى أخبر أن دخانا يأتيهم وهو عذاب، وفي سنين القحط ما كان هناك دخان في الحقيقة ولا غشيهم، وإنما كان يتراءى لهم الغبار دخانا لشدة الجوع. وبدل عليه قوله تعالى: (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) «2» واليقين يحصل يوم القيامة لا في الدنيا». ج) وأخطر مواقف الحاكم من الحديث يتجلّى في تفريقه بين الآحاد والمتواتر فيما يتصل بموضوعات العدل والتوحيد، فما كان في هذا الباب

_ (1) الآية 10 سورة الدخان، التهذيب ورقة 43/ ظ. (2) الآية 12 سورة الدخان.

متواترا قبله، وما كان آحادا رفضه أو أوّله ليطابق ظاهر الآية أو دليل العقل. ويذكرنا تشدد الحاكم هنا بحدته في الرد على المجبرة والمشبهة؛ قال في قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) «1» إنها تدل- فيما تدل عليه- على أنه لا يجوز قبول كل رواية، بل يجب التمييز بين الحق والباطل، فتدل من هذا الوجه على أنه لا يجوز قبول أخبار الآحاد التي يرويها المبتدعة والمشبّهة لرئاسة أو جرّ نفع». وقال في قوله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) «2» إن الآيات تدل على أحكام عقلية وشرعية، أما العقليات فتدل على أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ولا ينتفع أحد بعمل غيره. قال: فيبطل قول المجبرة في مسائل: أولها قولهم إن أطفال المشركين يعذبون بذنوب آبائهم ... وعد بعد ذلك ست مسائل تبطلها هذه الآية، ثم قال: «ومتى قيل: أليس روي عن ابن عباس أن الآية منسوخة، وأن الأبناء يدخلون الجنة بصلاح آبائهم؟ وعن عكرمة أن ذلك في ملة إبراهيم وموسى، وأما في ملتنا فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم، أو ليس النبي عليه السلام أمر الخثعمية أن تحج عن أبيها، وحديث سعد قال: هل لأمي إن تطوعت عنها؟ قال نعم!

_ (1) الآية 79 سورة البقرة، ورقة 106/ و. (2) الآيات 36 - 39 سورة النجم، ورقة 74/ و.

«قلنا: ظاهر القرآن لا يترك لخبر واحد لا تعلم صحته، خصوصا إذا دل العقل على ما دل عليه القرآن، وذلك أن الثواب نعم مع التعظيم، والتعظيم لا يجوز إلا للاستحقاق، والاستحقاق بفعله، والعقاب آلام تقبح إذا فعل به لفعل غيره، وكما لا يقطع أحد إلا السارق ولا يجلد إلا الزاني، كذلك لا يعاقب إلا من أذنب!». وقال في قوله تعالى: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) «1» بعد أن أورد في معنى الزنيم آراء كثيرة: «فأما الزنيم فالأكثر على أنه الدعىّ، ولا شبهة أنه وان كان عيبا فيه فلا عقوبة له بذلك. ثم قال: «ومتى قيل: أليس روى في الخبر: لا يدخل الجنة ولد زنا ولا ولد ولده، وروي: لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا. وروي أنه قال في ولد الزنا: هو شر البلية؟ قلنا: هذه أخبار آحاد لا يعترض بها على ما ثبت بالعقل والقرآن، وقد ثبت أن الأخذ بذنب الغير يقبح، وقد قال تعالى: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فهذا نص. وإن ثبت الخبر الأول فمحمول على ولد بعينه، وكذلك الثالث، فأما الثاني فمعناه أن ولد الزنا يكثر لكثرة الفساد»! وذكر الحاكم أن عبد الله بن عمر روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال لما نزل قوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) «2»: «إذا لا أرضى وواحد من أمتى في النار» قال الحاكم: وهذا من أخبار الآحاد، وقد

_ (1) الآية 13 سورة القلم، ورقة 109/ و. (2) الآية 5 سورة الضحى، ورقة 149/ و.

قال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) وقال: (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ). ومن شواهد الحاكم البارزة في باب التوحيد- وهي شواهد ليست بالقليلة- هذان الشاهدان: قال في قوله تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) «1» إن في قوله «هل امتلأت» ثلاثة تفاسير: قيل: خطاب لأصحاب النار فإنه أخبرهم بأنه يملؤها بقوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) بحيث لا مزيد، فيقول يومئذ (هل امتلأت) ليقرّوا بصدق رسوله، وقيل: بل خطاب لخزنة جهنم بأنها هل امتلأت، فيقولون بلى لم يبق موضع لمزيد ليعلم الخلق صدق وعده- وهو قول الحسن- وقيل بل هو إخبار عن امتلاء جهنم بحيث لا مزيد عليه لا أن هناك خطابا. أما قوله تعالى: (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) فقد أورد فيه الحاكم أيضا بضعة تفاسير، منها أن معناه: لا مزيد، قال الحاكم: «وهو قول أكثر المفسرين، وقول أبي علي، وهو الوجه لقوله تعالى: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) ثم قال: «فأما ما ترويه الحشويّة والمشبّهة أنه لا تمتلئ حتى يضع الجبار قدمه فيها فتقول قط قط! - ويروى رجله- فلا يصح من وجوه: منها أن فيه إثبات عضو لله تعالى. ومنها أنه تعالى وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس لا من رجله!! ومنها أنه يوجب كون رجله في النار أبدا» ثم قال: «وقد تأوله بعضهم وقال: المراد قدمه يعني: من قدّمه الله تعالى

_ (1) الآية 30 سورة ق، التهذيب ورقة 65/ و.

إلى النار، قال، والمراد برجله جماعة من الناس. وفيه نوع تعسف!». «1» وقال في قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) «2» إن المراد بالزيادة ما كان من جنس الحسنى المتقدمة، وهو النعيم لأن إطلاق هذه الكلمة بعد تقدم ذكر بعض الأمور يقتضي أن الزيادة من ذلك الباب بالتعارف، قال: «وأما من حمل الزيادة على الرؤية فقد اخطأ لوجوه: منها: أن حجج العقل والسمع دلت على أنه تعالى لا يجوز عليه الرؤية. ومنها: أنه ليس في الآية من ذكر الرؤية شيء. ومنها: أنه لو كان المراد بالزيادة الرؤية لكانت هي الأصل لا الزيادة! وما يروونه من أحاديث الرؤية من أخبار الآحاد فلا يصح قبول ذلك فيما طريقه العلم، وخبر تفسير الزيادة بالرؤية لا يثبت عند الرواة، وقد روي عن علي عليه السلام في تفسير الزيادة انها تضعيف الحسنات» «3». وهكذا يمضي الحاكم في سائر السور والآيات في موقفه من أحاديث الرؤية، وسائر الأحاديث التي تخل بمبدإ العدل والتوحيد، سواء سلكها المحدّثون في الأحاديث الصحاح أم الحسان أم غير ذلك، لأن جميع

_ (1) ليس كل من روى الحديث- وهو في الصحاح- مشبه أو حشوي، وفي تأويله- ولم يوصد الحاكم فيه هذا الباب- وجوه أخرى ليس فيها تعسف. راجع فتح الباري 8/ 483. (2) الآية 26 سورة يونس. (3) التهذيب ورقة 65.

أخبار الآحاد عنده لا توجب العلم ولا يقضى بها على ما ثبت بالقرآن والعقل. د) خبر الواحد وأسباب النزول: وقد اتخذ الحاكم هذا الموقف من خبر الواحد في «أسباب النزول» فلم يقبل منها ما يخالف أصلا من أصول العدل والتوحيد. وقد سبقت الإشارة في الأمثلة السابقة إلى بعض أسباب النزول، إلا أننا نقف هنا على بعض المسائل الهامة التي آثارها الحاكم في تفسيره، والتي لا يخلو نظره فيها من الفائدة والاعتبار: حول سحر الرسول: قيل في سبب نزول المعوذتين إن لبيد بن أعصم اليهودي سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى مرض فجاءه ملك وهو بين النائم واليقظان فأخبره بذلك وأنه في بئر، وبعث عليا والزبير وعمارا فنزحوا ماء البئر فوجدوا صخرة فرفعوها وأخرجوا منها شيئا عقدوا عليها وغرزوا بالإبرة- فأنزل الله تعالى السورتين- فقرئ عليه فوجد خفة كأنما نشط من عقال، وجعل جبريل يعوده. قال الحاكم: ورووا ذلك عن عائشة وابن عباس. ورووا أن بنات لبيد بن أعصم سحرنه ... وقد عقب الحاكم على هذه الروايات بقوله: «ونحن لا ننكر أن يكونوا سحروه وعقدوا له تلك العقد واعتقدوا أنهم يؤثرون فيه كما يعتقده كثير من جهال الناس الآن!! ولكن الذي ننكره أن يكون المرض منهم ومن تأثيرهم، ولو قدروا على ذلك لقتلوه وقتلوا كثيرا من المؤمنين لشدة عداوتهم لهم، ولأن القادر بقدرة لا يصح أن يفعل إلا بمماسة ولم توجد! ولأن المرض على ما يصفونه ليس بمقدور للبشر.» قال الحاكم: «ويجوز أنهم فعلوا ذلك على حسب اعتقادهم، وأخبر به رسول

الله صلّى الله عليه وسلم فأمر من يخرجه فكانت معجزا له، وقد قال تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ): (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى)، فكيف تنفذ حيلهم مع هذا؟» «1» وهذا آخر ما انتهى إليه رأي الحاكم في مسألة سحر النبي صلّى الله عليه وسلم، أو في رواية لبيد هذه. وقد عرض للموضوع عند كلامه على السحر في قصة هاروت وماروت، فقال: وما روي أن النبي سحر حتى كان لا يدري ما يقول فغلط عظيم! ... وهذا القول يشبه قول الكفار حيث قالوا: (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) ونعوذ بالله من الخذلان. وقال أيضا: «ورووا أكثر من هذا، قالوا: سحر النبي فمرض، وقال: إني ليخيل إلي أني أقول الشيء وأفعله ولم أقل ولم أفعله! وهذا كله أباطيل وترهات لا يجوز على الله ولا على رسوله لأنه يبطل المعجزات .. » «2». إيمان أبي طالب: قال الحاكم في قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) «3»: قيل نزلت في أبي طالب، وذلك أن رسول الله صلى لله عليه أحب إسلامه وإسلام أهل بيته، وكان يغمه كفرهم، ففي ذلك نزلت الآية. وروي عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد أنه كان يحب إسلام أبي طالب فنزلت هذه الآية، وكان يكره إسلام وحشي قاتل حمزة فنزلت هذه: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)

_ (1) التهذيب ورقة 160. (2) التهذيب ورقة 133. (3) الآية 56 سورة القصص ورقة 54/ و.

وذكروا أن أبا طالب لم يسلم وأسلم وحشي، قال الحاكم: «وهذه رواية غير صحيحة لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يحب إيمانه، والله تعالى كان يحب إيمانه، لأن رسول الله لا يخالف في إرادة الله كما لا يخالف في أوامر الله، وكان لأبي طالب عند النبي صلّى الله عليه وسلم أيادي مشكورة عند الله تعالى، وقد روي أنه أسلم، وفي إسلامه إجماع أهل البيت عليهم السلام، وهم أعلم بأحواله، ومن حديث الاستسقاء أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لله درّ أبي طالب لو كان حيا لقرت عيناه) ولا يجوز لكافر: لله دره! وكيف تقر عينا كافر بمعجز رسول الله صلى الله عليه وآله؟. وقد روى أن النبي دعاه فأسلم. وما يروون أن عليا قال: إن عمك الضال قد مات، وقال النبي: فواره! فإنه لا يليق بكلام النبي فيه، ولا بكلام علي في أبيه! فهو من روايات النواصب.» قال الحاكم: «فالقوم يقولون إنه لم يرد إيمان أبي طالب وأراد كفره، والنبي عليه السلام أراد إيمانه- وهذا مخالفة بين الرسول والمرسل- فنزلت الآية، فعلى روايتهم واعتقادهم الفاسد كأنه تعالى يقول: إنه يحيل إيمانه ... مع محبته لك وعظم نعمته عليك، وتكره إيمان وحشي لقتله عمك حمزة، ولكن خلقت فيه الإيمان! وهذا نوع مغالطة واستخفاف لا يليق بالرسول» فإذا بطل أن يكون هذا سببا لنزول هذه الآية فالصحيح أنها نزلت في جميع المكلفين، «كأنه صلّى الله عليه وسلم كان يحب هدايتهم جميعا، وكان حريصا على إيمانهم، ويغمه كفرهم، فنزلت الآية». حول تأخر نزول الوحي: ذكر الحاكم في سبب نزول سورة الضحى عدة روايات جوّز بعضها ومنع بعضها الآخر، قال ابن عباس

وقتادة والضحاك وجماعة من المفسرين: إن الوحي تأخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مدة فاغتم لذلك وقال قوم من المشركين إن رب محمد قد قلاه، فأنزل الله تعالى هذه السورة. وذكر الأصم أن المشركين تجمعوا عليه عند تأخر الوحي وهو في الكعبة فتناولوه فأكب أبو بكر عليه وقال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ .. ) فأنزل الله تعالى هذه السورة، قال الحاكم في التعقيب على هاتين الروايتين: «وهذا وإن كان من أخبار الآحاد فلا مانع منه لأن الوحي إنما ينزل للمصلحة فقد تكون المصلحة في تأخيره». وذكر بعد ذلك روايتين أخريين كذبهما ونسبهما إلى المشركين والملاحدة، قال: «وروى أنه لما تأخر الوحي شكا إلى خديجة وقال: ودّعني ربي وقلاني، فنزلت السورة» قال: «وهذا لا يصح لأنه صلّى الله عليه وسلم أعلم بالله وبنفسه من أن يظن هذا الظن، لأنه خصه بالنبوة فلا يجوز أن يودعه ويقليه، ولأنه يعلم أن الوحي قد يتقدم ويتأخر» قال الحاكم: «وما روي أيضا أنه قال لخديجة: خشيت أن أكون كاهنا! فهذا من دسيس الملحدة حيث رووا أنه كان في شك من أمره ليشككوا الناس، فلا ينبغي أن يقبل ذلك». أما سبب تأخير الوحي فقد ذكر فيه الحاكم أيضا عدة روايات، ثم عقب عليها، قال: «واختلفوا في سبب تأخير الوحي، فقيل: لتركه الاستثناء لما سئل عن حديث أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، فقال: سأخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله- وهذا هو معنى الاستثناء- عن جماعة. وقيل: قال ليلة المعراج: سخّرت الحديد لداود، والنار لإبراهيم، فأنزل الله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى .. ) إلى آخر السورة. وروى عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال:

القاعدة الثالثة: رفض"التفسير الباطني" وأن الإمام طريق معرفة القرآن.

سألت ربي منزلة وددت أني لم أكن سألته! قلت يا رب آتيت سليمان ملكا عظيما، وفلانا كذا، وفلانا كذا، فأنزل الله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) فقلت بلى يا رب، فقال (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) فقلت: بلى يا رب. فقال: (وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى) فقلت بلى يا رب. وبعد أن ذكر الحاكم اختلافهم في مدة التأخير، وأنها وصلت إلى أربعين يوما في بعض الروايات، قال: «والصحيح إن ثبت التأخير، أن يقال: إنه تأخر للمصلحة، فأما ترك الاستثناء وإن كان تأديبا من الله وتعليما لعباده؛ فلا يجوز أن تتأخر مصالح العباد لتركه الاستثناء. وأما ما ذكروه من سؤاله ليلة المعراج وبعده فغير صحيح، لأنه صلّى الله عليه وسلم لا يسأل إلا باذن، وإذا سأل باذن لا بد أن يجاب، لأنه لو سأل بغير إذن وهو لا يعرف المصالح فلعل ما سأل يكون مفسدة، فإذا لم يفعل يكون فيه نقرة! وهذا لا يجوز». القاعدة الثالثة: رفض «التفسير الباطني» وأن الإمام طريق معرفة القرآن. وهذه القاعدة أيضا تتفرع على قاعدته الأساسية أن القرآن مأخذ تفسيره من اللغة، والرد على من زعم غير ذلك، ومنهم الباطنية الذين زعموا أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وأن معرفة الباطن إلى الإمام. ومن هنا جاء رد الحاكم في تفسيره- في بعض المواطن- لمزاعم الباطنية وأباطيلهم في «التنزيل» و «التأويل» والظاهر والباطن، وإنكاره أن يكون الإمام طريق معرفة القرآن. وقد اعتمد الحاكم في ذلك على ما ذكرناه عند

الكلام على قاعدته الأساسية من أن الكلام إنما يدل بالمواضعة، وأن المتكلم إذا كان حكيما فلا بد- متى تجرّد الكلام- من أن يريد ما يقتضيه ظاهره، وإلا كان ملبّسا ومعميا أو فاعلا للقبيح! وقد بينا أن هذه الطريقة تقتضي في جميع الكلام أن يدل على حد واحد، وأن الأصل في التفسير أن يجري على ظاهر اللغة، وأن يستوي في معرفة القرآن جميع الذين يعرفون طريقة اللغة، فيبطل قول من قال إن له ظاهرا وباطنا، أو أن يختص بتفسيره بعضهم، سواء أكان إماما أو حجة، أم لم يكن كذلك! قال الحاكم: «معاني القرآن ما يدل عليه لفظه إن كان مبيّنا، وبيانه إن كان مجملا. وقالت الباطنية له تأويل باطن غير الظاهر، لنا: أن الكلام يدل على المراد بالمواضعة، فإن أراد ما وضع له فهو ظاهر، ويستحيل أن يقال: يدل على ما لم يوضع له!! لأنه لو أراد غير ما يقتضيه ظاهره لكان ملغزا ومعمّيا، ولأنه إذا قالوا له باطن، فليس باطنهم أولى من باطن غيرهم، فيتسع الخرق!!» «1» 1 - والنقطة الهامة التي ينطلق منها الحاكم في الرد على مزاعم الباطنية في التفسير، هي سؤالهم عن هذا الباطن الذي هو الواجب عندهم: هل يدل الظاهر عليه أو لا يدل؟ فإن قالوا: لا يدل عليه، جعلوا القرآن عبثا!! وإن قالوا يدل، قيل لهم: فهل يمكن لأهل اللغة أن يعرفوا هذه الدلالة أم لا؟ فإن قالوا يمكن ذلك، جعلوا الباطن ظاهرا،- لأن كل أهل اللغة يمكنهم معرفته- وإن قالوا لا يمكن ذلك، نقضوا قولهم

_ (1) شرح عيون المسائل، ورقة 264/ ظ.

إن الظاهر يدل عليه! لأنه إذا دل عليه فلا بد لأهل اللغة معرفته. فإن زعموا أنه لا يمكنهم مع المعرفة باللغة وبحكمة الحكيم أن يستدلوا بذلك، فقد ناقضوا. «1» 2 - والنقطة الثانية في رد الحاكم عليهم هي في الإمام أو الحجة الذي جعلوا إليه علم الباطن، أو علم التأويل!!، يقول الحاكم- متابعا القاضي عبد الجبار- إن طريق الإمام إلى معرفة الباطن لا تكون إلا بواحد من هذه الأمور: آ- أن يعرفه بالظاهر. ب- أو من قبل الرسول ج- أو بوحي وإلهام. فإن قالوا يعلمه بظاهر الكتاب فلا طريق يصح أن يعرف به ذلك إلا ويصح من العلماء معرفته، ولا بد! وإن قالوا يعرفه من قبل الرسول، وقد ثبت أن الرسول يبلغ الجميع؛ فيجب أن تمكن الجميع معرفته، ومتى خصوا الحجة أو الإمام بذلك، فكأنهم أخرجوا الرسول من أن يكون مبعوثا ومبينا لسائر الناس، وقد علم ضرورة بطلان ذلك! وإن قالوا يعرفه بالإلهام والوحي فقد جعلوه رسولا، وأوجبوا أنه أعظم حالا من محمد صلّى الله عليه وسلم! لأنه عرف الباطن دونه، ولأنه- أي الباطن- هو المعتمد في الدين دون الظاهر! ومن وجه آخر، فإن قول الإمام في التفسير كلام! - كما يقول الحاكم- «فإن صح أن يعرف مراده بكلامه، فكلام الله أولى!» ثم ماذا تكون الحال في أيام غيبة الإمام؟ «2»

_ (1) المصدر السابق، وانظر المغني للقاضي عبد الجبار 16/ 365. (2) انظر المصدرين السابقين.

3 - وتلح طريقة اللغة على الحاكم في نقطة ثالثة ناقش فيها الباطنية طويلا، وهي أن القرآن- الذي ثبت أنه بلغة العرب- إن أريد به الباطن الذي لا يعقل منه، فما الفرق بين أن يكون عربيا وبين أن يكون بلغة الزنج؟ ولم صار بأن يدل على شيء أولى من أن يدل على غيره، ما دامت المواضعة لا تشهد لباطن دون باطن؟ وبم ينفصل الباطنية ممن جعل باطنهم «ظاهرا» لباطن آخر! فما معنى أن يكون القرآن- إذن- (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) وأن يقول تعالى فيه: (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)؟ قال الحاكم في قوله تعالى: (طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) «1» «ان الآية تدل على أن القرآن بنفسه بيان خلاف ما تقوله الحشوية والإمامية». وقال في قوله تعالى: (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) «2» انها تدل على أنه «يجب أن يكون البيان ظاهرا، فيبطل قول الرافضة والباطنية انه يختص بالتأويل بعضهم». قال الحاكم: «وبعد، فان غرض هؤلاء الباطنية إبطال النبوات وهدم الإسلام، إلا أنهم جعلوا هذه المسائل سببا الى ذلك وشبهة للعوام» قال القاضي رحمه الله: «ولو أنهم بنوا الأمر على طريقة النظر لما أقدموا على هذا القول مع وضوح فساده، ولكنهم توصلوا بذلك الى الاحتيال على الناس فقالوا ان القرآن له ظاهر وباطن، وتنزيل وتأويل، وان

_ (1) الآيتان 1 - 2 سورة القصص، التهذيب ورقة 2/ ظ. (2) الآية 18 سورة العنكبوت، التهذيب ورقة 64/ ظ.

القاعدة الرابعة: إثبات المجاز في القرآن، ومنع الحمل عليه إلا إذا تعذرت الحقيقة

الأثر قد ورد بأن تنزيله مفوض الى النبي صلّى الله عليه وسلم، وتأويله الى علي رضي الله عنه، ثم الى سائر الحجج، وأنه لا بد من معرفتهم ليصح أن يعرف مراد الله تعالى، فجعلوا ذلك طريقا الى القدح في الإسلام والدين لأنه مبني على القرآن والسنة، وجعلوهما ظاهرين، وجعلوا المرجع إلى الباطن الذي لا يعلم إلا من جهة الحجة ... فسدّوا باب معرفة الإسلام، وطعنوا فيه أعظم ما يمكن، عظمت مضرتهم لأنهم يتسترون بالإسلام ويظهرون الانقياد له، فاذا أوردوا على الضعفاء هذه الطريقة كان الضرر بقولهم أعظم من الضرر بالملحدة وسائر أعداء الدين، الذين ظاهر أحوالهم ينفّر عن قولهم». «1» القاعدة الرابعة: إثبات المجاز في القرآن، ومنع الحمل عليه إلا إذا تعذرت الحقيقة وأخيرا فان من أهم ما يتفرع على الأصل اللغوي في التفسير عند الحاكم، إثباته المجاز والتوسع في القرآن، قال في قوله تعالى: (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) «2» إنه «يدل على أن اليد تذكر ولا يراد بها الجارحة. ويدل على أن في القرآن توسعا ومجازا». وقال في قوله تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) «3» إنه- كذلك- يدل على إثبات المجاز في القرآن، لأن القرية لا تكون ظالمة ولا مقصومة، والمراد أهلها. قال «وهذا هو المجاز لأنه على ضروب، إما أن يقيد بزيادة أو بنقصان أو بشبيه»

_ (1) المغني 16/ 363 - 364. (2) الآية 1 سورة الملك، ورقة 107/ و. (3) الآية 11 سورة الأنبياء، ورقة 15.

وقد أثبت الحاكم أولا أن في اللغة مجازا، ثم أثبت وجوده في القرآن «خلاف ما يقوله أهل الظاهر» «1»، قال: إن أهل اللغة نصوا على أن الكلام على ضربين، منه ما قد استعمل فيما وضع له، ومنه ما استعمل في غير ما وضع له، وأنهم سموا الأول: حقيقة لا مجاز لها، ولا يجوز أن يكون مجاز لا حقيقة له. ثم إن استعمال المجاز إنما يكون بنقل أو زيادة أو نقصان. أما أهم الوجوه التي تفصل بين الحقيقة والمجاز، كما قدمها الحاكم بين يدي حديثه عن المجاز في القرآن، فهي: 1) نص أهل اللغة أن هذه اللفظة حقيقة في شيء، مجاز في آخر، فكما أنا نعرف بنقلهم اللغة، كذلك الحقيقة والمجاز «2» 2) الاطراد، وهو أن يطرد اللفظ في معنى ولا يطرد في معنى آخر، إلا أن يكون هناك مانع، فبذلك يعلم أن اطرادها لكونها حقيقة، واذا لم يطرد من غير مانع علمنا أنه مجاز إذ لو كان حقيقة لاطرّد، فالأول كالدار والرأس والفرس ونحوه، والثاني كالحمار للبليد، والأسد للشجاع، وكقوله: (واسأل القرية)، ويدل عليه أنه يصح نفيه مع بقاء اللغة، بخلاف الحقيقة، فتقول: هذا رجل وليس بحمار! 3) أن يكون للفظ اشتقاق وتصرّف، ثم يحصل ذلك في أحد المعنيين دون الآخر، فيحكم بأنه في الأول حقيقة، وفي الثاني مجاز،

_ (1) شرح العيون، ورقة 267. (2) المصدر السابق.

لأن تصرفه يدل على تمكنه من ذلك المعنى، قال الحاكم: «وهذا نحو ما قاله مشايخنا أن الأمر حقيقة في القول، مجاز في الفعل، لأن لهذا اللفظ تصرفا، ثم تصرفه اختص بالقول، حتى قالوا: أمر يأمر أمرا فهو آمر، وذلك مأمور، وأمر يؤمر، فتصرف فيه دون الفعل. ولا يقال: فمن الحقائق ما لا تصرف له أصلا، كالرائحة ونحوها، لأنا لم نقل: كل ما لا تصرف له فهو مجاز، بل قلنا: إذا كان للفظ تصرف ثم وجد ذلك التصرف في موضع ومعنى، ولم يوجد في موضع آخر، علم أنه حقيقة في الأول، مجاز في الثاني، فأما عدم التصرف فقد تكون ألفاظ لا تصرف لها وإن كانت حقيقة» «1». 4) أن يعلم أن معنى اللفظ لا يصح فيما علق به فيعلم أنه مجاز، وذلك نحو قوله: (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) و (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) لأن الإرادة والسؤال لا تصح على الجماد، فعلمنا أن استعماله فيه مجاز. أ) أما إثبات المجاز في القرآن، فدليله عند الحاكم «أنه تعالى خاطب بلغة العرب فجاز أن يخاطب بضروب كلامهم، يبين ذلك أنه خاطب بالعموم والخصوص، والمجمل والمبيّن، ثم من كلامهم الحقيقة والمجاز فجاز أن يخاطبهم بكل واحد منهما .. ولأنه تعالى قال: (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) والإرادة لا يصح تعلقها بالجدار، ولأنه تعالى قال: (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) وكل ذلك اتساع في الكلام».

_ (1) المصدر السابق.

ولا يصح الالتفات إلى ما احتج به أهل الظاهر من أن استعمال المجاز إنما يكون للحاجة، أو يوقع في اللبس، لأن المجاز باب من أبواب البلاغة والتصرف في الكلام «وكل ما كان للاتساع أكثر كان أفصح وأحسن، وربما يكون أبلغ في المعنى»، ولأن اللّبس المزعوم يزول بالقرائن المتصلة به الدالة على المراد. كما لا يصح أيضا الالتفات إلى قولهم إن القرآن كله حق فوجب أن يكون كله حقيقة! وإنه لا يحسن العدول عن الحقيقة مع القدرة عليها، وذلك لأن استعمال المجاز حق وصدق وإن كان استعمالا للكلام في غير ما وضع له في الأصل، وقد استعمله على ذلك أهل اللغة، ولا يمتنع أن يكون حقا ودلالة مع كونه مجازا! يدل عليه ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: يا أنجشة رفقا بالقوارير، قال الحاكم: فهذا من أفصح الكلام وأدلّه على المراد، وهو حق وإن لم يكن حقيقة! كما أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يحسن إذا كان فيه غرض صحيح من اختصار، أو رشاقة لفظ وعذوبة، أو مبالغة في الوصف ونحوها، قال الحاكم: «وإنما لا يوصف تعالى بأنه «متجوز» - من المجاز- لما فيه من إيهام الخطا، كما لا يسمى معلّما، ولا يسمى بأسماء كثيرة للإيهام، وإن كان صحيحا». «1» ب) والواجب عند الحاكم- في الوقوف على معاني الكلام- أن يحمل الكلام على ظاهره وحقيقته في أصل اللغة، إلا إذا قامت الدلالة على نقله

_ (1) شرح العيون، ورقة 267.

عن الحقيقة إلى المجاز، ويجب في هذه الحالة أن تكون الدلالة ظاهرة غير خفية لأن الكلام لا يحتمل الحذف والزيادة والنقل لدلالة غامضة، كما سنفصل ذلك عند الكلام على التأويل في الفصل التالي. ونكتفي هنا بذكر عدد من الأمثلة والشواهد التي توضح مدى حرص الحاكم على الحقيقة والظاهر، وأنه كان لا يرى معنى للعدول عنهما إلى المجاز «1» - وهنا قد يخالف كثيرا من مفسري المعتزلة قبله- إلا في نطاق محدود سنتولى الحديث عنه والإفاضة في شواهده في مبحث التأويل. قال في قوله تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا

_ (1) أما إرادة الحقيقة والمجاز معا بلفظ واحد فقد أجازه فيما يبدو، وإن كان شيوخه قد اختلفوا في ذلك، قال في قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قيل: سبح لله أي نزه إما قولا واعتقادا، وإما دلالة. (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يدل جميع ذلك على وحدانيته وكونه قادرا عالما سميعا بصيرا حكيما عدلا فلا شيء ينظر إليه إلا ويعرف به، عن أبي علي وأبي مسلم. وقيل: التسبيح عند المكلفين. بتنزيهه عما لا يليق به، ومن الجماد على وجهين: أحدهما: الدلالة على تنزيهه. والثاني: إذعانها لما يريد إنفاذه فيها، وخضوع كل شيء لقدرته. ثم قال الحاكم: «ومتى قيل: التسبيح الأول حقيقة، والثاني مجاز، فكيف يراد بلفظ واحد؟ قلنا: أما عند شيخنا أبي على والقاضي فيجوز لأنه لا تنافي بينهما وبين إرادتيهما، وأما عند أبي هاشم وأبي عبد الله فلا يجوز أن يريدهما بلفظ واحد، ولكن إذا ثبت أن كل واحد منهما مراد فلا بد أنه تكلم به مرتين أراد في كل مرة واحدا!». 95/ ظ سورة الصف.

آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) «1» قيل: تنظرون أي ترونه وتعاينونه، عن أكثر المفسرين. وقيل: ليس هو الرؤية، وإنما هو كقولك: ضربت وأهلك ينظرون فما أتوك، عن الفراء. قال الحاكم: «وليس بالوجه لأنهم عاينوا فرق البحر والتطام الماء، وغرق آل فرعون، وإذا صح حمله على ظاهره فلا معنى للعدول عنه .. ». وقال في قوله تعالى: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) «2» إن الآية تدل أن أبا إبراهيم، وهو آزر، كان كافرا، قال الحاكم: «ولا مانع منه فلا يصلح العدول عنه إلى أنه كان عمه، وقد نطق القرآن بذكر الأب في مواضع، ولا يحمل على المجاز إلا بدليل». وقال في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... ) «3» إن الكلام على الملائكة، قيل هم صنفان: صنف حملة العرش، وصنف يطوفون به ... وقيل: أراد بحملة العرش: الذين يعبدون الله حوله، كما يقال: حملة القرآن، لمن تعبّد الله به، لا أنه حمله على الحقيقة قال الحاكم: «والأول الوجه لأنه الحقيقة، ويجوز أن يكونوا متعبّدين بحمله وبالتسبيح ... ». وأورد في تفسير قوله تعالى: (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) «4» هذه الأقوال:

_ (1) الآية 50 سورة البقرة، ورقة 77/ ظ. (2) الآية 26 سورة الزخرف، ورقة 38/ ظ. (3) الآية 7 سورة غافر، ورقة 18/ و. (4) الآية 4 سورة المدثر، ورقة 121/ و.

قيل طهرها للصلاة، عن أبي علي. وقيل: طهرها من لبسها على معصية أو عذرة، يعنى طهر الأعمال، عن ابن عباس، وأنشد: فإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من عذرة أتقنع والعرب تقول لمن صدق ووفّى: طاهر الثياب، ولمن غدر ومكر: دنس الثياب، وقال أبي بن كعب: لا تلبسها على غدر ولا ظلم ولا على إثم، ولكن البسها وأنت طاهر. وقيل: ثيابك فطهر من الذنوب، عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة والضحاك والشعبي والزهري. وقيل: أراد طهر نفسك عن المعاصي، فكنى عن النفس بالثياب لأنها تشتمل عليه، وقيل «عملك فأصلح، عن مجاهد والضحاك. وقيل: قلبك فطهر. وقيل: خلقك فحسّن، عن الحسن ومحمد بن كعب .... قال الحاكم: «وكل ذلك خلاف الظاهر، والظاهر ما ذهب اليه شيخنا أبو علي» وقال في الأحكام: إن الآية تدل على وجوب تطهير الثياب عند الصلاة «وإذا أمكن حمله على حقيقته فلا معنى للعدول عنه إلا بتوسع أو تعسف!». وذكر في تفسير قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) «1» - في مسألة تبديل الجلود- أربعة أقوال: الأول: أنه يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت- على ظاهر التلاوة- عن قتادة وجماعة من المفسرين، قال الحاكم: «وهو الوجه» ودافع عن هذا التفسير بقوله: «ولا يقال

_ (1) الآية 56 سورة النساء، ورقة 166.

إن الجلد المجدّد لم يذنب فكيف يعذب؟ لأن المعذب هو الحيّ فلا اعتبار بالأطراف والجلود!». الثاني: أنها تجدّد بأن يزيل ما بها من الاحتراق ويعيدها إلى ما كان، وقد يقال مثله: غيّر وبدّل، عن الحسن وأبي علي وأبي مسلم، قال القاضي: وهذا أقرب الوجوه، وقوّى أبو علي ذلك بأنه لو أعاد جلدا آخر لعظم جسم المعاقب على مرور الأوقات! قال الحاكم: «وهذا لا يلزم لجواز أن يزيد شيئا وينقص مثله، فلا يؤدى إلى ما قال». الثالث: أن الجلود تبدل من لحم الكافر، فيخرج من لحمه جلد آخر، عن السدي. الرابع: أن التبديل إنما هو للسراويل، وسميت بذلك للزومها جلودهم على المجاورة! قال الحاكم: «وهذا ترك للظاهر من غير دليل». ونختم هذا الفصل بموقف آخر للحاكم من مسألة تمسكه بعدم العدول عن الظاهر، ردّ فيه على أبي مسلم أيضا، وعلى الأصم وأبي القاسم من مفسري المعتزلة، قال تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) «1» أي قربت القيامة بخروج خاتم الأنبياء وآخر الأمم، قال الحاكم: «وهذا هو الوجه وعليه جماعة المفسرين» وقيل: اقتربت ساعتهم يوم بدر فإنهم يهلكون بالسيف! (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قيل: انشق القمر بمكة فلقتين فلقة فوق الجبل، والأخرى أسفل من الجبال، فقال صلى الله عليه: اللهم فاشهد! وقال أيضا: اشهدوا، عن ابن مسعود، قال الحاكم: «وروى انشقاق القمر ابن مسعود وابن عمر وأنس وحذيفة وابن عباس، وجبير بن مطعم،

_ (1) الآية الأولى من سورة القمر، التهذيب ورقة 75/ و.

ومجاهد، وإبراهيم. وهو قول أبي علي وجماعة». وقيل: إنه ماض بمعنى المستقبل أي سينشق عند قرب الساعة، قالوا: ولو انشق لرآه كل أحد ولاشتهر، عن الحسن وعطاء والأصم وأبي القاسم. قال الحاكم: «وهذا لا يصح لأنه خلاف الظاهر، ولأنه اشتهرت الرواية فيه». قال: «ومتى قيل: فهلا رآه أهل البلدان؟ قلنا: القمر قد يستره الغيم ويرى في موضع دون موضع، ولأنه كان بالليل وقت نوم وغفلة فلم يشتهر ولم يره كل أحد، ولأنه لم يلبث وقت الانشقاق، بل كانت ساعة؛ لذلك لم يشتهر، على أنه كان مشهورا بينهم لأنه صلى الله عليه كان يقرا عليهم هذه السورة ولا ينكره منكر ولا يكذبه أحد مع كثرة الأعداء وحرصهم على تكذيبه!». وقال أبو مسلم في قوله تعالى: (انْشَقَّ الْقَمَرُ) أي اتضح الأمر، قال: وهكذا عادة العرب إذا وصفوا الأمر بالظهور قالوا: هو كالشمس، ولأنه تعالى قال: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ .. ) «1» ولم يقل: رأوا! قال الحاكم: «وهذا لا يصح لأن ما ذكره مجاز فلا يعدل عن الحقيقة، ولا مانع من حمله عليهم». وبعد، فإن الحاكم قد صرح في كتابه في مواطن لا تحصى برفض التفسير المجازي لعدم وجود ما يمنع من الحمل على الحقيقة. والسؤال الآن: ما الذي يمنع من الحمل على الحقيقة والظاهر، ويحمل على العدول إلى المجاز؟ وأين يقف الحاكم من المعتزلة وسائر المفسرين، في هذا الباب؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الفصل التالي.

_ (1) الآية الثانية من السورة: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).

الفصل الثالث حدوده في التأويل

الفصل الثالث حدوده في التأويل أشرنا في التفريق بين التفسير والتأويل إلى أن التأويل يشبه أن يكون دائما صرفا للّفظ عن الحقيقة إلى المجاز، كما عبر الإمام الغزالي رحمه الله، وانتهينا من الفصل السابق ببيان رأي الحاكم أن الأصل في التفسير هو وجوب الحمل على الحقيقة إلا إذا تعذرت فيصار حينئذ إلى المجاز، وتعذّر الحقيقة والظاهر عند الحاكم مرتبط بنظرته إلى المعارف «الاكتسابية»، ما يعلم منها بأدلة العقل، وما يعلم منها من جهة الشرع، لأنه قد بنى على هذه النظرة رأيه في الآيات التي يدخلها التأويل، وما حكم به على بعض التأويلات بالصحة أو الفساد. ولا بد أولا من الوقوف على نظرته هذه إلى المعارف. أولا: أقسام المعارف المعارف عند الحاكم على ثلاثة أضرب: ضرب يعلم بأدلة العقل ولا يعلم من جهة الشرع. وضرب يعلم من جهة الشرع ولا يعلم بأدلة العقل- وضرب يصح أن يعلم بكل منهما.

فأما ما لا يعلم إلا من جهة العقل فهو كل علم لو لم يحصل للمكلف لما أمكنه معرفة الشرائع من جهة الرسول عليه السلام، وما لا يتم هذا العلم إلا به، وذلك نحو العلم بحدوث الأجسام، وأن لها محدثا قادرا عالما حيا قديما غير مشبه للأجسام والأعراض، غنيا لا يجوز عليه الحاجة، وأنه لا يحتاج في كونه على هذه الصفات إلى من جعله عليها، ولا إلى معنى سوى ذاته، وأنه لا يفعل إلا الحسن ولا يجوز أن يفعل القبيح. فإذا علم المكلف هذه الجملة صح أن يعلم أنه تعالى لم يظهر المعجزة على من يدعي النبوة إلا قصدا إلى تصديقه، وأنه بعثه ليعرف الناس مصالحهم فحينئذ يمكن معرفة الشرائع، ومتى لم يحصل عالما بذلك لم يأمن أنه- تعالى- أظهر المعجزة على كذاب، وأن ما يأمر به من الشرائع استفساد، وأن أخباره كذب، وأوامره أوامر بباطل! فلا يوثق بشيء من أمر الدين!!. وأما ما لا يعلم إلا من جهة الشرع فنوعان: أوامر وأخبار، فالأوامر هي الأمور الشرعية من العبادات والأحكام التي لا مجال للعقل فيها. والأخبار: ما ورد في القرآن من الحديث عن الأمور الماضية، والأمور المستقبلة التي لا طريق إلى معرفتها بالعقل أيضا. وأما ما يصح أن يعلم بكل من العقل والشرع، فنحو قبح الظلم وحسن رد الوديعة- وما جرى هذا المجرى- وأن الله تعالى لا يجوز أن يدرك ويرى، وأشباه ذلك، مما يمكن لنا تعريفه بأنه الذي يدركه العقل ولكن لا تتوقف عليه صحة السمع «1».

_ (1) راجع التهذيب، الجزء الأول، ورقة 174 وشرح الأصول الخمسة للقاضي، ص 401.

ثانيا: ميزان التأويل

ثانيا: ميزان التأويل والقاعدة الأساسية في التأويل- بعد هذا- عند الحاكم: أن كل ما يعلم بالعقل لا يجوز أن يرد الكتاب بخلافه وإن أوهم في «الظاهر» أنه خلافه، وأنه لا بدّ له من تأويل موافق للعقل، جار على سنن اللغة، لأن العقل وأدلته لا يتداخلها الاحتمال، والألفاظ والجمل والتراكيب يتداخلها ذلك. والسؤال الذي لا بدّ منه هنا: والآيات التي جاءت في القرآن دالة على التوحيد- وسائر الأمور التي يستقل بإدراكها العقل- ما دورها إذن؟ يجيب الحاكم بأنها وردت «مؤكدة» لما في العقول، وباعثة على النظر في الكتاب- وقد صرح في أول تفسيره بأن في القرآن ما ورد «مؤكدا» كأدلة التوحيد، ومنه ما ورد «مبينا» كأدلة الشرائع «1» - أما إن دل ظاهرها على خلاف ما يحكم به العقل أوّلت. وهذا- فيما نقدر- هو الذي حمل الحاكم على اعتبار جميع الآيات التي دلت- في باب التوحيد- على ما دل عليه العقل، هي المحكمات، واعتبار ما يوهم «ظاهرها» خلاف ذلك هى المتشابهات، والحكم عليها بالتأويل لتطابق «المحكم وأدلة العقل» أو بتعبير أوجز وأصرح: لتطابق أدلة العقل!. ولا بد هنا من أن نعطف الحاكم في حديثه عن المعارف- الذي بثّه في تفسيره وأوجزنا القول فيه- على قاعدته الفكرية التي بدأنا بها الكلام على منهجه في التفسير، فالذي ثبت عنده بالعقل، أو الذي لا يعلم إلا من

_ (1) مقدمة التهذيب 1/ ورقة 2/ و.

ثالثا: التأويل واللغة وأنواع المجاز

أدلته، إنما هو باختصار قضايا العدل والتوحيد، ولا بد أن كلام الحاكم هنا في تقسيم المعارف يعيد إلى الذهن ما عرضنا له من كلامه في التوحيد والعدل، وضرورتهما لمعرفة الشرائع والأحكام، حتى ليمكننا القول: إن ميدان التأويل الحقيقي في تفسير الحاكم إنما هو الآيات التي تدل بظاهرها على خلاف العدل والتوحيد وما يتفرع عنهما من قواعد وأصول. على أن الحاكم لم يهمل النظر في آيات التشريع والأحكام في تفسيره- كما سنبين عند الكلام على فقهه وطريقته في كتابه- بل وقف أمام دلالات الآيات على الأحكام، وما يراه في ذلك أصحاب المذاهب الفقهية، غير أن وقوفه من مسائل حمل العام على الخاص، وحمل المطلق على المقيّد، وحمل المشترك على أحد معنييه أو معانيه ... وسائر مسائل التأويل في أصول الفقه «1»، كان عابرا وبعيدا عما رسمه لنفسه من حدود التأويل، كما أنه لا يعطي صورة ما عن أي منهج مستقل أو متميز في هذا الباب، وما يزال الطابع الكلامي الواضح هو الذي يميز تفسير الحاكم ويحدد منهجه في التفسير والتأويل. ثالثا: التأويل واللغة وأنواع المجاز وقد قدمنا الكلام على عناية الحاكم الكبيرة باللغة في التفسير والتأويل، وأشرنا إلى أن هذه العناية ربما كانت ألزم له في باب التأويل منها في باب التفسير، لأن التفسير بظاهر اللفظ لا يحتاج إلى الكثير من الأدلة والشواهد اللغوية- اللهم إلا حين ينازع الخصم بهذا الظاهر- في حين أن العدول

_ (1) انظر تفسير النصوص في الفقه الإسلامي للدكتور محمد أديب صالح، ص 266.

عن الحقيقة إلى المجاز قد يحتاج إلى ذلك، لأن من شرطه ألّا يخل بعادة العرب في التجوز كما يقول ابن رشد، ولهذا كان نقل الكلام على جهة العبارة بطريقة لا تشهد لها المواضعة ولا عادة العرب في المجاز- على طريقة الباطنية مثلا- لا يحتاج إلى شيء من تلك العناية، كما أنه لا يمكن عده من التأويل في شيء لأنه مردود بظاهر اللفظ، ولهذا آثرنا بحثه في الفصل السابق دون هذا الفصل. وأنواع المجاز التي ركن إليها الحاكم في التأويل، هي الأقسام الثلاث المشهورة: مجاز الزيادة، ومجاز الحذف، ومجاز التشبيه والتمثيل والوضع في غير موضعه «1»، واختلافه مع خصومه في الآيات التي يدخلها التأويل يعود إلى هذه الأقسام الثلاثة، حيث يذهب هو مثلا إلى أن في الآية مجاز حذف أو زيادة أو تمثيل .. ويذهب الخصم إلى التمسك بالظاهر. ولهذا اشتد حرص الحاكم في مناقشته للخصوم على إبطال دعوى تمسكهم بالظاهر في كثير من الأحيان، وإثبات أن ما يفسرون به الآية إنما هو ضرب من ضروب التأويل، تمهيدا لإثبات أن تأويلهم ليس بأولى من تأوله الذي يجري فيه- كما أسلفنا- على قاعدته في التوحيد والعدل. ونورد فيما يلي- من تفسير الحاكم- بعض الشواهد الدالة على ذلك، والمبينة لضروب المجاز في تأويله، ولعنايته الفائقة باللغة، وذلك قبل أن نستعرض طرفا من تأويلاته الهامة في باب العدل والتوحيد، التي نؤثر عرضها بحسب أبوابها الكلامية- دون أنواع المجاز فيها- والتي ستؤكد كلامنا عن الطريقة اللغوية عند الحاكم رحمه الله.

_ (1) راجع الفقرة الأخيرة من الفصل السابق.

آ) استدل المجبرة- خصوم الحاكم- بقوله تعالى: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) «1» على مذهبهم في أنه تعالى يصرف عن الإيمان، نقل الحاكم عن شيخه القاضي عبد الجبار أن تأويلهم هذا باطل لا يلتفت إليه، لأن «الظاهر» يقتضي أنه صرف قلوبهم! وليس في الآية أنه صرفهم عن إيمان أو عن غيره من الأفعال، فإذا ادعوا «أن في الكلام أمرا محذوفا فقد تعدوا الظاهر ودخلوا تحت التأويل» وليس أدل على فساد تأويلهم من أن الله تعالى لو أراد بذلك- كما زعموا- الكفر والمنع من الإيمان، لما جاز أن يجعله كالجزاء على انصرافهم! ثم إن من مذهبهم أنه تعالى هو المبتدئ بالكفر، وأنه صرف قلوبهم عن الإيمان سواء أعرضوا عن سماع القرآن أم لم يعرضوا ... الخ. ووجه التأويل عند الحاكم أنهم لما انصرفوا «عاقبهم الله على انصرافهم» فسمى العقوبة على الانصراف باسمه، من باب تسمية الشيء بسببه أو مقارنه، كما قال تعالى: (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وكما جاء في أقوال العرب: الجزاء بالجزاء، وليس الأول بجزاء .. إلى غير ذلك من الشواهد. وقال الحاكم في قوله تعالى: (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) إن فيه مجاز الزيادة، ومعناه: ويبقى ربك، فذكر الوجه تأكيدا، كما يقال: وجه الرأي، وليس ثمة جارحة، وأراد: حقيقته وصوابه. وتمسّك المشبّهة بظاهر الآية لا يصح، لأن معناه: يبقى الوجه دونه!!

_ (1) الآية 127 سورة التوبة.

وذلك ليس بقول لأحد! «1». ب) ومن مجاز التشبيه والتمثيل عند الحاكم: أخذ الميثاق في قوله تعالى: (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) «2»، قال الحاكم: أخذ ميثاقكم بما ركب في العقول، وأقام من الحجج الداعية إلى الإيمان «فكأنه أخذ العهد والميثاق». وقيل: الفطرة الدالة على الصانع كالميثاق الموثق. والمعنى: ما لكم لا تؤمنون والرسول يدعوكم إلى ما ركب الله في عقولكم من معرفة الصانع وصفاته؟ (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي: إن كنتم ممن يرغب في الإيمان، أو إن كنتم بحيث لو اتضحت الأدلة آمنتم. وقيل: إن كنتم تؤمنون يوما من الأيام فآمنوا اليوم مع ظهور المعجز! ونقل الحاكم، في تفسير قوله تعالى: (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) «3»، وجوها كثيرة، ثم ذكر رأي أبي مسلم أن معناه: أزلنا عنك همومك التي ثقلت عليك من أذى الكفار بأن نصرناك عليهم، فشبّه الهموم بالحمل، والعرب تجعل الهمّ ثقلا، قال الحاكم: «وهذا أحسن ما قيل فيه». ج) وقال في قوله تعالى: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) «4»

_ (1) الآيتان 26 - 27 سورة الرحمن، ورقة 79/ ظ. (2) الآية 8 سورة الحديد، ورقة 85/ و. (3) الآية 2 سورة الشرح، ورقة 149/ ظ. (4) الآية 11 سورة التغابن، التهذيب ورقة 102/ ظ.

إن معناه أن ما يصيب المرء من الآلام والأمراض والقحط والموت ونحوها مما هو من جهته تعالى، إنما هو (بِإِذْنِ اللَّهِ) أي بأمره، قال: «وهذا توسع، والمراد: أنه بفعله وخلقه» ليعلم الإنسان أن ما يصيبه من جهته تعالى يجب عليه الرضا بقضائه. د) وفي قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) «1» رفض الحاكم الأخذ بالظاهر- فعل أكثر المفسرين- وذكر فيها عدة أنواع من المجاز قال بها بعض المفسرين، ورجح هو مجاز الحذف- الذي رفضه في مثالنا الأول السابق- قال الحاكم: «واختلفوا في معنى الآية، قيل: إنا عرضنا الأمانة، أي العبادات والتكاليف بما في أدائها من الثواب وفي تضييعها من العقاب. على السموات: أي أهل السموات والأرض والجبال، كقوله: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي أهل القرية. وأهل السماء: الملائكة. وأهل الارض والجبال: الانس والجن. (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها): أي امتنعوا أن يخونوا فيها، والمراد: يحملن تضييع الأمانة، وأشفقن من ذلك، وحملها الإنسان بالتضييع فتركها وخانها. وقال الأزهري: يقال حمل الأمانة أي خانها، وحملها: خيانتها، وكأن من أثم في شيء فقد «حمل» الإثم فيه». قال الحاكم: وقيل- في تفسير: وحملها الإنسان- أي حمل المأثم فيها، كقوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي: خطاياهم.

_ (1) الآية 72 سورة الأحزاب، التهذيب ورقة 117 - 118.

وقال أبو مسلم الاصفهاني رحمه الله: إن معنا (عرضنا) قابلنا ووازنّا، فإن عرض الشيء على الشيء ومعارضته سواء، والمعارضة والموازنة والمقابلة سواء. و (الأمانة): جميع ما عهد الله إلى عباده من أمره ونهيه وما بعث به الرسل وأنزلت فيه الكتب وأخذ عليه الميثاق. قال أبو مسلم: فأخبر تعالى أن هذه الأمانة مع جلالة من بيّنها وعظم شأنها إذا قيست بالسماوات والأرض والجبال ووزنت بها وعرضت عليها، كانت هذه أثقل وأرزح. ومعنى (فأبين) أي ضعفن، يقال: أبى أن يحمل، أي: ضعف عن حمله. (وأشفقن منها) لأن الشفقة ضعف، وذلك يعتريه من الخوف. فهذه الأمانة التي من شأنها أنها أعظم من السموات والأرض، تقلدها الإنسان ثم لم يحفظها، بل خان فيها لجهله بمواقع الثواب والعقاب، ومن عادته الظلم على نفسه! وقال بعضهم: الكلام في الآية على التقدير، أي: لو كانت السموات والأرض والجبال مع عظمها حية قادرة عالمة، ثم عرضت عليها هذه الأمانة بما قبلها من الوعد والوعيد، عرض تخيير، لخافت حملها لما فيه من الوعيد، وحملها الإنسان ولم يخف الوعيد لجهله وظلمه، قال: ونظيره: (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، «وأخرجه مخرج الواقع لأنه أبلغ في التقدير». قال الحاكم: وعندنا أن عرض الأمانة إنما كان على أهل السموات والأرض، وأن المراد بالعرض التكليف وبيان الحال، أي أنه بيّن الحسن والقبيح، وكلّف بالفعل والترك. وليس المراد به التخيير؛ لأنه تعالى إذا رأى أنه مصلحة تلزم العبد لا يخيره. وأما قوله تعالى:

(فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) فلا يجوز أن يحمل على ما ذكره بعضهم أنه عدم القبول «لأن رد أمر الله كفر فلا يمدح عليه!» والمراد به ما بيناه: أنهم خافوا فيها إذا حملوا وزرها. «وقد قال بعضهم إنه عرض تخيير وأنهم سألوا التخفيف خوفا من الوعيد!. وما قدمناه أولى لأن المصالح لا تقف على اختيارهم!». هـ) وأخيرا فإن الحاكم قد يعتمد على اللغة في بعض الصيغ الخاصة لتسعفه في التأويل، مثل اعتماده على بناء الفعل للمجهول في التدليل على أن الذهاب الى أن الفاعل هو الله، تحكّم، وعلى أن الواجب ان ينسب إلى الله تعالى منه ما يصح عليه تعالى دون ما لا يصح- بحسب قواعده في العدل-، قال الحاكم في تفسير قوله تعالى: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ. قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) «1» إن معناه أنهم اشربوا حب العجل، كما ذكر ذلك قتادة وأكثر أهل العلم. قال: «فإن قيل: من أشرب ذلك قلوبهم؟ قلنا: لم يرد أن غيرهم فعل ذلك بهم، لكن لفرط ولوعهم به وإلفهم لعبادته أشربوا قلوبهم محبته، فألزموا ذلك، فذكر على ما لم يسمّ فاعله، كما يقال: فلان معجب بنفسه! وقيل: أشرب من زيّنه عندهم ودعا اليه، كالسامري وإبليس وشياطين الإنس والجن» ثم رد على من زعم أن هذا العمل من بني إسرائيل كان بتزيين الله تعالى، فقال: «ولا يجوز ان يقال إن الله تعالى فعل ذلك، لأنه ذمهم

_ (1) الآية 93 سورة البقرة، الورقة 93/ و.

به وو نجهم، ولو كان ذلك فعله لما صح ذلك، ولأن تزيين عبادة الصنم قبيح قد نهى عنه وأوعد عليه فلا يجوز ان يفعله، ولأنه لو جاز أن يفعل ذلك بنفسه جاز أن يبعث رسولا يدعو اليه! وهذا فاسد». وفسّر قوله تعالى: (بِكُفْرِهِمْ): بأنهم «لاعتقادهم التشبيه وجهلهم بالله وتجويزهم العبادة لغيره، أشربوا في قلوبهم حب العجل؛ لأنهم صاروا إلى ذلك، لهذه المعاني التي هي كفر. فأما من قال: فعل الله بهم ذلك بكفرهم مجازاة لهم فذلك غلط عظيم، لأن حب العجل ليس من العقوبة في شيء ولا ضرر فيه، ولا يجوز أن يخلق حب العجل لأنه قبيح يتعالى الله عن ذلك!». وعنده في مسألة تزيين الاعمال أن المزين للأعمال القبيحة هو النفس والشيطان، وأن قول من يقول إنه تعالى زيّن لكل إنسان عمله من خير أو شر، باطل، يدل على ذلك أن أكثر ما ورد التزيين في القرآن منسوبا إلى الشيطان او مبنيا للمجهول، فلا يجوز إضافته إلى الله تعالى، قال الحاكم في قوله تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً .. ) «1» إن معناه: موّه عليه فرأى سوء عمله حسنا. ثم قال: «فإن قيل: من زين له؟ قلنا: نفسه والشيطان وأقرانه، لأنه ليس في الظاهر أن المزين هو الله تعالى، أما نفسه فتميله إلى الشهوات والشبهات واتباع المألوف والإعراض عن النظر. وأما الشيطان فبإغرائه ووسوسته، وأما أقرانه فبالدعاء إلى اللذات والشهوات»

_ (1) الآية 8 سورة فاطر، ورقة 138/ و.

رابعا: من تأويلاته في باب التوحيد والعدل

واكّد ذلك أيضا بذم مثل هذا التزيين في قوله تعالى: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) «1» قال الحاكم: «إن قوله (وَزَيَّنَ) يدل على أنه تعالى لم يزين ذلك، لذلك ذم من زينه». كما أكده بقوله تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) «2» خلاف قول المجبرة إن المزين هو الله تعالى. وقال في قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ ... ) «3» الآية. إن المراد بالشهوات: الشيء المشتهى «فالله تعالى زين منه ما يحسن، وزيّن الشيطان ما يقبح، على ما ذكره أبو علي واختاره القاضي». رابعا: من تأويلاته في باب التوحيد والعدل ونضيف من شواهده الدالة على منهجه العقلي في التأويل، بعض الأمثلة والشواهد الأخرى من آيات الصفات، والآيات التي قد تدل بظاهرها على خلاف مذهب الحاكم في «العدل» كلّ ذلك بالقدر الموجز الذي يومئ إلى منهج الحاكم في سائر آيات هذا الباب. 1 - في التوحيد وآيات الصفات أ) الآيات التي توهم على الله تعالى المكان: قال تعالى:

_ (1) الآية 12 سورة الفتح، ورقة 57/ ظ. (2) الآية 24 سورة النمل، ورقة 26/ ظ. (3) الآية 14 سورة آل عمران، ورقة 9.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ ... ) «1» قال الحاكم: أي أأمنتم عذاب من في السماء، عن جماعة ثم اختلفوا فقيل: كانت العرب تزعم أن الإله في السماء فقال: أامنتم من في السماء، على زعمكم!. وقيل: أأمنتم من في السماء سلطانه وتدبيره، فإن تدابيره تكون في السماء ثم تنزل الى الأرض. وقيل: أأمنتم من في السماء عذابه، عن ابي علي. وإليه ذهب الحاكم. وقال في قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) «2» إن معناه «تعبده الملائكة في السموات، ويعبده في الأرض المؤمنون .. » وانه كرر «إله» تأكيدا، او لاختلاف العبادة والعباد في السماء والأرض. قال: «وتدل الآية على نفي المكان!!». وفسر «العندية» في قوله تعالى: (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) «3» بالكرامة والمنزلة. وقال في قوله تعالى: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) «4» أي: موضع قعود صدق، قيل: مجلس حق لا لغو فيه، وهو الجنة. وقيل: وصف المكان بالصدق لكونه يدوم وغيره يزول. ومعنى (عند مليك) أي في علم الله صائرون إلى ذلك الموضع، كما قال أبو علي. وقيل: ذلك المقعد مقعد صدق عنده لما هو عليه من دوام النعم. قال الحاكم: «وقد فسرت المشبهة الكاذبة على الله هذه الآية بتفسير لا يشهد له ظاهرها ولا لهم عليه دليل في العقل والشرع، فذكروا

_ (1) الآية 16 سورة الملك ورقة 107/ ظ. (2) الآية 84 سورة الزخرف، ورقة 42/ ظ. (3) الآية 38 سورة فصلت، ورقة 27/ ظ. (4) الآية 55 سورة القمر، ورقة 78/ و.

في قوله (عند مليك مقتدر) أنهم يحيون مع الجبار، وأنه يقعدهم معه على سريره، ورووا أن أهل الجنة يدخلون عليه كل يوم مرتين يقرءون عليه القرآن ثم ينصرفوا إلى رحالهم ناعمين .. إلى غير ذلك من الصورة والأعضاء والذهاب والمجيء، وأنه يحتجب أحيانا ويظهر أحيانا بصورة ملك، تعالى الله عن ذلك. وقد بينا أنه ليس بجسم، وأنه لا يجوز عليه المكان ولا شيء من صفات الأجسام!»، ب) الآيات التي توهم عليه تعالى الجارحة «والجسمية»: قال الحاكم في قوله تعالى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) «1» «أي: لئلا تقول يوم القيامة يا حسرتا على ما فرطت في طاعة الله، أو في حقه وأمره. وقال أبو مسلم: في الجانب الذي يؤدي إلى رضى الله وثوابه، المجانب للسبيل المضلة، قال: والعرب تسمى الجانب جنبا، قال الشاعر: الناس جنب والأمير جنب أي: الناس في جانب والأمير في جانب.» وقال في قوله تعالى: (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) «2» قيل: خلقت من غير واسطة، عن أبي علي، قال الحاكم: نحو قوله تعالى: (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا). وقيل خلقته بقدرتي، عن أبي مسلم. قال مجاهد: اليد هاهنا بمعنى التأكيد والصلة كقوله: (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ).

_ (1) الآية 56 سورة الزمر، ورقة 14/ ظ. (2) الآية 75 سورة ص، ورقة 8/ و.

وقال الحاكم: «ومتى قيل: هلا حملتموه على الجارحة كما تزعمه المشبهة؟ قلنا: الله تعالى ليس بجسم ولا يجوز عليه النقص، ولو أوجبت هذه الآية إثبات يدين، لوجب بقوله (أَيْدِينا) إثبات أيد!. ومتى قيل: يده لا تشبه أيدينا! قلنا: فذلك ليس بيد معقولة!». وذكر في قوله تعالى: (اللَّهُ الصَّمَدُ) «1» تفسير ابن عباس أنه تعالى السيد المعظّم، أو الذي ليس فوقه أحد. وذكر أيضا تفسير أبي علي وأبي مسلم أنه «الذي يقصد إليه في الحوائج والرغائب، والمستعان به عند المصائب» وقال: «فأما ما قال بعضهم: الذي لا جوف له، فإن أراد أنه يستحيل ذلك عليه فهو صحيح، وإن أراد أنه جسم مصمت فيتعالى الله عن ذلك». ج) الآيات التي تدل بظاهرها على المجيء والاستقرار وسائر صفات الأجسام: قال في قوله تعالى: (وَجاءَ رَبُّكَ) «2» قيل: أمره وقضاؤه ومحاسبته، عن الحسن وأبي علي، وقيل: جلائل آياته، فجعل مجيئها مجيئه تفخيما لها، وقيل: جاء أمره الذي لا أمر لغيره معه، قال أبو مسلم: وذلك يكون يوم القيامة بخلاف حال الدنيا. قال الحاكم: «ولا يجوز حمله على مجيء ذاته لأنه ليس بجسم فلا يجوز عليه المجيء والذهاب». وقال في قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) «3» قيل: العرش

_ (1) الآية 2 سورة الإخلاص، ورقة 160/ و. (2) الآية 22 سورة الفجر، ورقة 145/ ظ. (3) الآية 4 سورة السجدة، ورقة 84/ ظ.

2 - في العدل

هو العرش المعروف في السماء. وقيل العرش: الملك. وقيل العرش البناء. قال الحاكم: «فمن قال العرش هو المعروف جماعة منهم أبو علي: اختلفوا في معنى الآية، قيل معنى الاستواء عليه: كونه قادرا عليه وعلى خلقه وإفنائه وتصريفه، قال البغيث: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق وقال آخر: فلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى ... وكاسر! أي: استولى، والمعنى: ثم رفع العرش إلى السماء وهو مستول عليه، أي قادر مالك، عن أبي علي، وقيل: «على» بمعنى «إلى» يعني: لما خلق السموات والأرض استوى إلى العرش فخلقه، والاستواء بمعنى القصد كقوله: (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ). وأما من قال: العرش الملك، قال: يقال عرشه أي ملكه، والمعنى أنه بعد خلق الأشياء قادر عليها يصرّفها كما شاء، مالك لجميعها خلاف قول المجوس، عن أبي القاسم البلخي. وأما من قال: العرش البناء، قال: ومنه (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) أي يبنون، والمعنى: ثم قدر على بناء ما خلق كما أراد، عن أبي مسلم. قال الحاكم: «ولا يجوز حمله على أنه استقر على العرش لأن ذلك من صفات الأجسام». 2 - في العدل أما تأويلاته في باب العدل فكثيرة جدا تبعا لكثرة آياته وموضوعاته، وإن كانت المبادئ والقواعد التي تخرّج عليها تكاد تكون ثابتة معروفة.

وقد اخترنا الحديث عن تأويلاته في هذه الموضوعات الثلاثة: المشيئة، الختم والطبع، الهداية والضلال- التي تتصل بمسألة حرية الإرادة عند الإنسان ونفى القبيح عن الله تعالى- إلى جانب بعض مسائل الوعيد. ونقدم لذلك أولا ببعض تأويلاته العامة الموجزة في هذا الباب: قال في قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) «1»: إن من أعرض عن ذكر الله تعالى يخلي الله تعالى بينه وبين الشيطان، فيصير قرينه عوضا عن ذكر الله. «وإنما جاز التخلية لما علم أنه لا يفلح، وإن لم يكن الشيطان له قرينا. وقيل: يقرنه في الآخرة ليذهب به إلى النار؛ عن قتادة، كما أن المؤمن يصير قرينه ملك يذهب به إلى الجنة». وقال في قوله تعالى: (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) «2» إنهم بعد أن أقدموا على إبراهيم عليه السلام منكرين: (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) حملوه إلى بيت أصنامهم وقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟! فأجابهم على وجه الحجاج: أتعبدون ما تنحتون؟ يعنى كيف ترضون لأنفسكم أن تنحتوا أصناما من خشب ثم تعبدونها وتتركون عبادة خالق الأشياء، والله خلقكم أيها القوم وما تعلمون؟ أي: ما تعملون فيه وهي الأصنام. قال الحاكم: «ولم يرد أعمالهم لأن المعبود هو الخشب دون عملهم، ولأنه احتج عليهم فلا يجوز أن يورد الحجة لهم!!

_ (1) الآية 36 سورة الزخرف، ورقة 39/ و. (2) الآيتان 95 - 96 سورة الصافات، ورقة 163/ و.

ولأنه أضاف إليهم عملا، ويقال: فلان يعمل بابا والمراد يعمل فيه، وعلى هذا (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) وإنما تلقف المصنوع!». أ) المشيئة: تابع الحاكم شيخه أبا هاشم في حمل الآيات الدالة على أن الله تعالى لو شاء لآمن جميع من في الأرض أو لاهتدوا وذكروا، وتأويليها على أن المراد بها مشيئة الجبر والإلجاء، قال في قوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) «1» إنه تعالى لو شاء لآتاهم الهدى جبرا وإلجاء «إلا أن فيه إبطال التكليف وفساد التدبير، فاختار أن يخيرهم ويخلى بينهم وبين أفعالهم ليدخل المؤمن الجنة، وتمتلئ النار من المستحقين للعذاب». وقال في قوله تعالى: (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) «2» بأن من شاء ذكره واتعظ به، ولكن لا يتدبرون فيه إلا أن يشاء الله! قال الحاكم: «وهذه المشيئة غير الأولى إذ لو كانتا واحدة لتناقض! فالأولى مشيئة اختيار، والثانية مشيئة إكراه وإجبار، يعني: هؤلاء الكفار لا يجبرون إلا أن يجبرهم الله تعالى على ذلك. وقيل: لا يذكرون الله ذكرا يستحقون به الثواب، والله تعالى لا يشاء الثواب للكافر إذا لم يشأ الكافر لنفسه، إذ لو شاء لأطاع، فإن الثواب بنفس المشيئة لا يحصل، وإنما يكون بالطاعة، فإذا لم يطيعوا لم يشأ الله ثوابهم».

_ (1) الآية 13 سورة السجدة، ورقة 92/ و. (2) الآيتان 55 - 56 سورة المدثر، ورقة 121/ و.

ب) الختم والطبع: وقال في الختم والطبع على القلب بأنه سمة وعلامة جعلها الله في قلوب الكفار، وأنه- أي الختم- لا يمنع من الأيمان، أو يسلب القدرة عليه التي أعطاها الله تعالى لجميع المكلفين، قال في قوله تعالى: (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) «1» بأنه وسم عليها سمة الكفر بأنهم لا يؤمنون أبدا لتعرف الملائكة حالهم عقوبة لهم، كما قال أبو علي. وقيل: لما ألفوا الكفر والعناد واعتادوا التكذيب ولم يصغوا إلى الحق ولم يفكروا في العواقب، خلّاهم واختيارهم وخذلهم، فصار ذلك طبعا على قلوبهم، قال أبو مسلم: وهو إلفهم ما اعتادوه من الكفر. وقال الحاكم في قوله تعالى: (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) «2» إنه يدل على أنه تعالى جعل في قلوب الكفار سمة وعلامة. قال: «ولا يقال إنه يمنع من الإيمان لأنه بمنزلة الخبر أنه لا يؤمن، ولأنه- أي المكلف- قادر على الإيمان، ولأنه جعل الطبع عقوبة على الكفر، فدل على أنه غير الكفر!». وحمل «الغشاوة» في قوله تعالى: (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) «3» على التشبيه، وفسر الغشاء بالغطاء، قال «يعني: يصير كأنه كذلك من حيث لا يبصر الخير، تشبيها، على ما ذكره أبو علي».

_ (1) الآية 3 سورة المنافقين، ورقة 100. (2) الآية 35 سورة غافر، ورقة 20/ ظ. (3) الآية 23 سورة الجاثية، ورقة 47/ و.

وقال في قوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) «1» إن معناه أن من لا يبصر الحق بمنزلة الأعمى والأصم، فكما يتعذر إدراك الأعمى وإسماع الأصم، كذلك يتعذر عليك إهداء هؤلاء لأنهم لا يتفكرون ولا ينظرون ولا يسمعون». ج) الهداية والضلال: أما موضوع الهداية فمن أخطر مسائل العدل، وقد اختلف حوله المفسرون والمتكلمون كثيرا، واشتد تعصب بعضهم لتأويله هذا النوع من الآيات في القرآن على نحو واحد، حتى زعم أبو الحسن الأشعري- مثلا- أن قوله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) إنما يقصد به المؤمنين من ثمود وحدهم، وأنه لم يهد ثمود أجمعين «2»! والحاكم- رحمه الله- يميز في القرآن بين أنواع عدة من «الهداية» تمهيدا لمذهبه في تأويل طائفة معينة من هذه الآيات. 1) فهناك هداية التقدير والدلالة، وهي عامة، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) «3». أي قدّر الخلق على ما خلقهم من الصور والهيئات، وأجرى لهم من أسباب المعاش، وهدى بذلك إلى معرفة توحيده. وقيل: قدر الآجال والأرزاق وهدى إلى التوحيد بإظهار الآيات. 2) وهداية التكليف، قال تعالى:

_ (1) الآية 40 سورة الزخرف، ورقة 39/ ظ. (2) راجع الإبانة عن أصول الديانة للأشعري، ص 57. (3) الآية 3 سورة الأعلى، ورقة 142/ ظ.

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) «1» أي بينا له الطريق بنصب الأدلة وإزاحة العلة، حتى يتمكن من معرفة الحق والباطل ويصح الابتلاء. قال الحاكم: «ومتى قيل: ما هذه الهداية؟ قلنا: أدلة العقل والشرع عم بها جميع المكلفين، و «السبيل» هو طريق معرفة الدين، الذي يتوصل به إلى ثواب الأبد، ويلزم كل مكلف سلوكه». 3) وتأتي الهداية بمعنى الثواب والأخذ بالعبد إلى طريق الجنة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) «2» لأن بعد القتل لا تكون الهداية إلا كذلك. 4) وربما جاءت الهداية بمعنى الجزاء على اهتدائهم بأنفسهم، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) «3» والمعنى: أنه يزيدهم تعالى أدلة يشرح بها صدورهم، ويقوّي بصيرتهم، ويثبتهم على الدين. فاذا كانت الهداية في القرآن تنصرف إلى هذه الوجوه، وكان معناها في اللغة: الدلالة والبيان لا خلق الإيمان في قلب المؤمن كما زعم بعضهم، فالحاكم يجد في ذلك مجالا لتأويل الآيات التي تدل بظاهرها على أن الله تعالى هو الخالق للإيمان في قلب المؤمن، والخالق للضلال في قلب الكافر، أو التي تدل على أنه اختص بهذه الهداية مكلّفا دون آخر، قال في قوله تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، وَمَنْ يَهْدِ

_ (1) الآية 3 سورة الإنسان، ورقة 126/ ظ. (2) الآيتان 4 - 5 سورة محمد، ورقة 53/ و. (3) الآية 17 سورة محمد ورقة 53/ ظ.

اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) «1»: إن من يجده ضالا فما له من هاد ما لم يهتد بنفسه. وقيل: من يضلل الله عن طريق الجنة والثواب لا يهديه إليها أحد. وقيل: من يحكم بضلاله ويصفه بأنه ضال لا يصفه أحد بأنه هاد. وكذلك من اهتدى بهدي الله تعالى لا يضله أحد. أو من حكم تعالى بهداه أو الأخذ به إلى طريق الجنة والثواب، لا يضله عن ذلك أحد. قال الحاكم: «ولا يجوز حمله على أنه يضل عن الدين لأنه يقبح ولا يجوز عليه تعالى، وقد أضاف الله تعالى الضلال إلى الكفار والشياطين، فقال: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) وقال: (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) وقال: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) فأضاف الضلال إلى هؤلاء». والتأويلات التي ذكرها الحاكم في آيات الهدى لا تخرج عن الحمل على: اللطف والهداية إلى الجنة، والحكم بها على طريق المدح، أو أنهم لما انتفعوا بالهداية صارت الهداية كأنها لهم دون غيرهم، نحو قوله تعالى: (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) و (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ)، كما أنه حمل مسألة الضلال على: التخلية وسوء الاختيار، والمنع من الألطاف، ووصفهم بالضلال على طريق الحكم، أو الأخذ بهم عن طريق الجنة ونيل الثواب. وذكر في الهداية- في قوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) «2» وجها آخر: هو أن النبي لا يقدر على أن يجبرهم على الهداية، وأن ذلك ليس في وسعه أو مما كلف به. ولا يمكن أن تكون الهداية

_ (1) من الآيتين 36 - 37 سورة الزمر، ورقة 12/ ظ. (2) الآية 56 سورة القصص، ورقة 54/ ظ.

عين الإيمان والله تعالى يقول: (أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ). «1» على أن أكثر هذه التأويلات دورانا في تفسير الحاكم- ولعله ما يرجحه- إنما هو الحمل على الألطاف والتوفيق، وقد قال في غير موضع إن إضافة الهدى إليه تعالى «من حيث كان بتوفيقه وألطافه وآلائه وأمره» جل وعلا. قال: «وذلك يدل على صحة مذهب العدل، وبطلان الجبر!!» «2». د) في الوعيد: ومن تأويلاته الهامة في الوعيد- أحد مسائل العدل التي سلكت في الأصول كما قدمنا- ما ذكره في قوله تعالى: (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) «3» قال: قيل: لا يدخلها ولا يعذّب بها، عن أبي علي. وقيل: لا يصير صلاءها أي وقودها؛ عن أبي مسلم. (إِلَّا الْأَشْقَى) أي: هو موضعه والمعذب فيه. أما المراد بالاشقى فقد قيل: الشقي، قال الشاعر: تمنّى رجال أن أموت فان أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد أي بواحد. وقيل: المراد أشقى العصاة، وهو الكافر الذي كذب بالله ورسوله وتولى وأعرض عن طاعة الله وطاعة رسوله. قال الحاكم: «ومتى قيل: يجب أن تكون النار موضع الكفار دون غيرهم من الفساق لأنه إثبات ونفي، فلو دخلها غيرهم لم يكن للإثبات والنفي معنى! قلنا: عن هذا أجوبة:

_ (1) الآية 17 سورة الحجرات، ورقة 62/ ظ. (2) التهذيب، ورقة 135/ ظ. (3) الآيتان 14 - 15 سورة الليل، ورقة 148/ ظ وانظر الآيات التالية من السورة.

أولها: أن قوله (ناراً) نكرة في الإثبات، والنيران دركات فيجوز أن يكون أراد نارا يختص بعذابها الكفار، عن أبي علي، وقد قال تعالى: (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وقال: (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ). وثانيها: أن النار أضيفت إليهم لأنهم أكثر أهلها وأولاهم بها، وهم المقصودون بها، كقوله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ). وثالثها: أن فيه بيان أن الأشقى يدخلها، أما غيره فموقوف على الدليل، ولا يمتنع دخول غيره كقوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى)، ثم إن الفاسق ليس بأتقى ويتجنبها عنده! ولأنه لو كان استثناء حقيقة- على ما يزعمه- لوجب القطع على أن الفاسق لا يدخل النار، وفيه خلاف الإجماع، وإغراء بالمعاصي، بل إباحتها، وذلك لا يصح، ولأن البخيل والعاصي يخوف بالنار، فإما أن يقال هم كفار، وذلك لا يصح، أو يقال: غير مخوفين، وذلك خلاف الإجماع ... ». قال الحاكم: «وأحسن الوجوه هو الأول». وقال في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) «1» إنه لا يدل على نفي ثالث، وهو الفاسق، بل هو مسكوت عنه، وإنما الغرض بالآية ذكر الطرفين على ما ذكره أبو علي. وقيل: أراد: فمنكم جاحد ومنكم مقر، عن الأصم. وحكى عن الحسين: ومنكم منافق إلا أنه داخل في قوله: (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) قال الحاكم: والوجه ما قاله أبو علي.

_ (1) الآية 2 سورة التغابن، ورقة 101/ ظ.

خامسا: منهج الحاكم في التأويل بين اللغة والعقل

وقال في قوله تعالى: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) «1» انه تعالى يغفر بشرط التوبة والإيمان- على ما علم من آيات أخرى- ويعذب من يشاء بترك الإيمان والطاعة والإصرار على الكبائر. وقيل: أراد بهذا بيان قدرته، أي هو قادر على أن يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ولكن لا يفعل إلا الحكمة، فيغفر للمؤمنين ويعذّب الكافرين. خامسا: منهج الحاكم في التأويل بين اللغة والعقل هذا طرف من شواهد الحاكم في التأويل في ميدانه الحقيقي عنده، وتلك هي عنايته الكبيرة باللغة واعتماده عليها في التأويل والتفسير جميعا- كما أوضحنا ذلك في هذا الفصل والفصل السابق- ولا بد لنا هنا من كلمة نصف بها هذا المنهج قبل أن نقف على آثاره في كتاب الحاكم: يلتقي الحاكم مع أسلافه من مفسّري المعتزلة في أصوله الفكرية التي يصدر عنها في التأويل، وربما لا يختلف معهم في ذلك إلا في بعض النقاط والأمور الفرعية، أو في تشدده في بعض المسائل. كما يلتقي معهم أيضا في عنايته الكبيرة بموضوع اللغة في تفسير القرآن. والوصف الجامع الذي ينطبق على منهجه في التفسير والتأويل- وإن شئت قلت: التأويل، حيث يبدو أثر المناهج أكثر وضوحا- ينطبق عليهم كذلك. ونستطيع أن نصف هذا المنهج الذي يتخذ فيه العقل والمقدمات العقلية- كما رأينا- أساسا للتأويل بأنه «المنهج العقلي في التفسير». وربما وصف بعضهم هذا المنهج بأنه: المنهج اللغوي في التفسير، لما يجده من عناية المعتزلة الفائقة باللغة في التفسير والتأويل.

_ (1) الآية 14 سورة الفتح، ورقة 57/ ظ.

والذي نراه أن «اللغة» لا تعدو أن تكون «الأداة» التي أعانت المعتزلة على تأويلاتهم، كما رأينا ذلك في تفسير الحاكم، ولكنها لم تكن- على أي تقدير- الحامل لهم على هذا التأويل أو الباعث عليه، وهم في عنايتهم هذه باللغة يلتقون مع كثير من مفسري الأشاعرة وأهل السنة، كالراغب الأصفهاني وأبي منصور الماتريدي، ومع ذلك فإن اختلاف المناهج يبقى ظاهرا بينهم وبين هؤلاء، على تفاوتهم في سلوك التقادير البعيدة والمجازات المعقدة في كثير من الأحيان. وعندنا أن اختلاف المناهج وتمييز منهج الحاكم وسائر المعتزلة لا يمكن الوقوف عليه من خلال ثقافة المعتزلة اللغوية الكبيرة، وحسن إفادتهم من هذه الثقافة في التفسير والتأويل، سواء في ذلك إحاطتهم بفقه اللغة، وقواعد النحو والاعراب، ووقوفهم على شواهد لا تحصى من شعر العرب «1» .. وإنما يمكن الوقوف عليه من خلال مجموعة الأصول والقواعد التي يسير عليها المفسر، والتي كشفنا عنها عند الحاكم. ولعل منهج المعتزلة في التفسير- بعامة- تفسره وتبين مدى اختلافه

_ (1) قال المبرد: «ما رأيت أفصح من أبي الهذيل والجاحظ، وكان أبو الهذيل أحسن مناظرة، شهدته في مجلس وقد استشهد في جملة كلامه بثلاثمائة بيت» شرح العيون للحاكم. وقد عقد الحاكم في هذا الكتاب- كما قدمنا- فصلا ذكر فيه «من ذهب إلى العدل من الشعراء وأئمة اللغة» قال في أوله: «أكثر نحاة البصرة وكثير من أهل اللغة وجملة من الشعراء وأئمة الأدب يذهبون مذهب العدل» انظر الأوراق 163 - 166.

عن مناهج كثيرة أخرى، مثل هذه الكلمة العابرة التي نقلها الحاكم في ترجمته لجعفر بن مبشّر من رجال الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة، «قال الخياط: سألت جعفر بن مبشر عن قوله تعالى: (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)، وعن الختم والطبع، فقال: أنا الآن مبادر إلى حاجة! ولكني ألقي إليك جملة تعمل عليها: اعلم أنه لا يجوز على أحكم الحاكمين أن يأمر بمكرمة ثم يحول دونها، ولا أن ينهى عن قاذورة ثم يدخل فيها! ثم تأوّل الآيات بعد هذا كيف شئت!» «1». ولهذا يمكننا القول: إن الخلاف في التأويل بين المعتزلة، كما رأينا صورة ذلك في كتاب الحاكم، إنما كان اختلاف تنوع، كل يحمل الآية على وجه أو مبدأ يوافق أصولهم المشتركة، بعد أن يخرج بها من الظاهر إلى المجاز، وربما اكتنف الغموض هنا شخصية الحاكم المفسر حين نراه يذهب في هذه الوجوه العديدة- في مواطن كثيرة- إلى القول بأن الكل محتمل! على أن ما أسعفت به اللغة الحاكم وشيوخ الاعتزال من قبله، في التفسير والتأويل- كما نطالع ذلك جليا في كتاب الحاكم وكتب شيخه القاضي عبد الجبار- بدون تعسف أو شطط في أكثر الأحيان، يمكن أن يسهم في الحكم على منهجهم بأنه لم يكن قولا بالهوى، أو تأويلا بالباطل، كما يحاول خصومهم أن يزعموا ذلك. وأقرب ما يمكن أن نصف به هذا المنهج بأنه منهج متكامل لا ينقض فيه أصل بفرع. أما الحكم عليه بالصحة

_ (1) شرح العيون 1/ 76.

أو الفساد فذلك فرع عن الحكم على آرائهم في أمور كثيرة، أهمها نظرتهم الخاصة- المتقدمة- إلى معرفة الله تعالى وصفاته، أو نظريتهم في «المعارف» بعامة، وإن كنا نشك في سلامة «استقلال» العقل بمعرفة الله تعالى وصفاته على النحو الذي لا بد منه ابتداء عند المعتزلة! - والموضوع جدير بأن يفرد بالبحث «1» - كما أن هذا المنهج لا يخلو من بعض الثغرات الكبيرة، كالإفراط في قياس الغائب على الشاهد، وتطبيق الاعتبارات الإنسانية في الأمور الإلهية- مما يؤخذ على المعتزلة في الغالب- إلى جانب عدم تفريق كثير من أصحاب هذا المنهج بين ما يقضي العقل ببطلانه، ولو بحسب قوانين عالم الشهادة، مثل مسألة الرؤية، وبين ما لا سبيل له إلى الحكم عليه، لأنه مما لا يدخل تحت الحواس، ونتوقف معرفته على الخبر، مثل عذاب القبر والمعراج ونزول عيسى، مما أنكره بعضهم! حتى أنكر عليهم ذلك مفسرنا الحاكم الذي كان فيما يبدو شديد التفريق بين هذين الأمرين. وبعد، فإن هذا المنهج العقلي، وما يلازمه من ثقافة كلامية واسعة قد تركا في تفسير الحاكم أثرا واضحا، كما سنتحدث عن ذلك في الفصل التالي.

_ (1) تعرضنا لهذا الموضوع بالتفصيل في دراستنا لمنهج المعتزلة في تفسير القرآن، التي أشرنا إليها في صفحة سابقة.

الفصل الرابع أثر منهجه العقلي وثقافته الكلامية في تفسيره

الفصل الرّابع أثر منهجه العقلي وثقافته الكلامية في تفسيره ولقد ترك هذا المنهج الكلامي العقلي أثره البارز في تفسير الحاكم، لا من حيث العناية الخاصة بآيات العدل والتوحيد- دلالة وتأويلا- فحسب، بل من حيث العناية بكثير من المصطلحات الفلسفية والتعريفات الكلامية، إلى جانب التركيز على بعض المبادئ الهامة التي يركن إليها في التأويل، ويستشرف دائبا إلى تلمس الدلائل عليها من آي الكتاب، ويعنينا هنا أن نتبين آراء الحاكم في مسائل الغيب وفي بعض الأمور والمسائل الأخرى مما انشعبت حوله كلمة المعتزلة وتباينت تفاسيرهم، لنتبين مدى استقلال الحاكم في الرأي، على نحو ما رأينا عند الكلام على موقفه من تفسير السلف، ومن مسألة الأخذ بالظاهر، وما رده- في جميع ذلك- من آراء بعض مفسري المعتزلة قبله. وقد رأينا أن نعرض باختصار لأهم آثار هذا المنهج من خلال النقاط التالية: اللطف، النبوة والأنبياء، عالم الغيب، الأرزاق والآجال، تعريفات وأمور فلسفية. أولا: مبدأ اللطف عرّف الحاكم اللطف بأنه «ما يختار عنده المكلف ما كلّف من أخذ

أو ترك، ولولاه لكان لا يختار، أو ما يكون أقرب إلى هذا الاختيار». قال الحاكم: «فكأنه إذا كلّف فلا بد من أمرين: أحدهما ما يتمكن به من الفعل، والثاني: ما عنده يختار أو يقوى اختياره، فسمينا الأول «تمكينا» وهو الذي لا بد منه في فعل ما كلف، نحو القدرة والآلات، وسمينا الثاني «لطفا» لأن الفعل يصح على الوجه الذي كلف، دونه، لكنه إذا كان وحصل يصير حاله في دواعيه بخلاف ما لو لم يكن، أو كان ذلك خلقا لله تعالى، والقدرة الحاصلة قدرة على شيء واحد، وهي موجبة له، فالفعل موقوف على الخلق والقدرة، ولا معنى للطف ولا اختيار للعبد» «1». ومن هنا جاء استدلاله بكثير من الآيات على هذا المبدأ في وجه المخالفين فيه من المعتزلة- الذين يسميهم أصحاب اللطف «2» - دون خصومه من المجبرة الذين لم يعرض لهم هنا في محل واحد، إذ لا معنى لمكالمتهم في اللطف وعندهم أن الفعل خلق لله تعالى ولا اختيار للعبد!

_ (1) شرح العيون، ورقة 238. (2) ذهب هؤلاء- وعلى رأسهم بشر بن المعتمر- إلى إنكار هذا المبدأ لأنه تعالى قد مكن العبد من الإيمان وأزاح علله، قالوا: ولا يلزمه تعالى أكثر من ذلك!! ولأنه لا منزلة يبلغها العبد في اللطف إلا ويقدر تعالى على أبلغ منها، وإذن لوجب ألا يقع من واحد معصية. وقالوا: لا كافر إلا وله لطف لو فعله لآمن! وقد سموا أصحاب اللطف لقولهم هذا في الكافر! راجع شرح العيون ورقة 238.

قال في قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) «1» إن الآيات تدل على أن الدنيا لا تنال بالاستحقاق، وإنما هي قسمة على حسب الصلاح. وتدل على اللطف لأنه تعالى بين أنه قصد بما قسم الإصلاح. وتدل على أنه لا يفعل المفسدة وما يدعو إلى الكفر. قال الحاكم: «ومتى قيل: إذا قلتم إنه لا يفعل ما عنده يكفر لأنه مفسدة! أو ليس قد أعطى القدرة والآلة التي عندها يكفرون؟ قلنا: ذلك تمكين به يتمكن من الإيمان أيضا وليس بمفسدة. «ومتى قيل: فهلا فعل اللطف ليؤمنوا؟ قلنا: لأنه لا لطف لهم. ومتى قيل: أليس هو تعالى قادر على كل شيء فكيف لا يلطف؟ قلنا بلى، ولكن هذا الكافر لا لطف له، ولو كان له لطف في المعلوم لفعل. «ومتى قيل: أليس أصحاب اللطف يزعمون ذلك؟ قلنا: بينا بطلان قولهم إنه لو كان لطفا لهم «2» ولم يفعله لقبح منه، ولكان نقضا للغرض، ولكان بمنزلة منع التمكين والآلات!!». وقال في قوله تعالى:

_ (1) الآيات 33 - 35 من سورة الزخرف، ورقة 39/ و. (2) أي: لو كان لهم لطف.

(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) «1» «إنه يدل على قولنا في اللطف لأنه بين أنه يفعل بكل واحد ما هو أصلح». 1 - ويرى الحاكم في الآيات الدالة على الحساب وأن أعمال الإنسان مكتوبة عليه، وفي الآيات الدالة على الوعد والوعيد: أنه تعالى إنما ذكرها لطفا للمكلف حتى يحمله على الطاعة، وينأى به عن المعصية، كما يرى ذلك فيما يبدو في جميع الآيات التي عرضت لمشاهد القيامة في القرآن. قال في قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) «2» انه يدل على أن للعباد حفظة يكتبون أعمالهم. قال: «وفيه لطف للمكلفين يمنع عن المعاصي».

_ (1) الآية 62 سورة العنكبوت، ورقة 70/ و. وقد ذهب الحاكم- فعل القاضي والشيخين- إلى أن من المكلفين من لا لطف له. ومسائل اللطف عندهم كثيرة بسطها القاضي في المغني وفي المحيط بالتكليف، وعرض لها الحاكم وابن المرتضى وغيرهما من أعلام الزيدية. وأشار الحاكم إلى بعضها في تفسيره، ومن أهم ما أشار إليه فيه أن اللطف لا يجوز أن يتقدم على التكليف بزمن، قال في قوله تعالى: (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) إن قوله «على الإنسان» يدل على أنه يسمى إنسانا إذا كان مصورا وإن لم يكن فيه حياة. ويدل أنه كان مدة شيئا غير مذكور» فالفائدة فيه لطفا للمكلفين. ثم قال: «ومتى قيل: هلا قلتم إنه يكون لطفا له؟ قلنا: [لا] لأن اللطف لا يجوز أن يتقدم على التكليف بأوقات لأنه يصير في حكم المنسى، وإنما اختلفوا هل يتقدم الفعل أم لا؟ فعند أبي هاشم يجوز إذا لم يكن في حكم المنسي، وعند أبي علي لا يجوز». انظر التهذيب، ورقة 126/ و. (2) الآية 11 سورة الانفطار، ورقة 137/ و.

وقال في قوله تعالى: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) «1» إن فيها كذلك لطفا للمكلف لأنه إذا «تصور ذلك امتنع عن القبيح». وقال ذلك أيضا في قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ... ) «2» الآيات، وسائر الآيات المشابهة لها. ومما يدخل عنده في هذا الباب أيضا: الآيات التي تعرض لأحوال بعض الأمم والأشخاص المتقدمين، وتذكّر بأحوالهم، قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ... ) «3» قال الحاكم: «تدل الآية على أن العلم بأحوال من تقدم لطف للمكلفين». وقال في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) «4» إن قوله «بخالصة» يدل على أنه تعالى يلطف بعباده في أمور دينهم حتى يصيروا مخلصين، وإن ذكر الدار لمن الألطاف، لأن المكلف إذا تصورها رغب في فعل الطاعات واجتناب المعاصي. 2 - والأمر الهام في موضوع اللطف في تفسير الحاكم: أنه يحمل عليه آيات التوفيق والسكينة والنصر وشرح الصدر والتثبيت «5» وآيات أخرى

_ (1) الآية 4 سورة الطارق، ورقة 141/ ظ. (2) الآية 19 سورة الحاقة- وانظر الآيات التالية- ورقة 112/ و. (3) الآية 10 سورة التحريم، ورقة 106/ ظ. (4) الآيتان 45 - 46 سورة ص ورقة 7/ ظ. (5) وقال في قوله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) إنه يدل على أن الاستغفار يكون في حكم اللطف. ورقة 115/ ظ.

كثيرة في باب العدل كما رأينا عند الكلام على التأويل. قال في معنى «السكينة» في قوله تعالى: (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) «1» إنها اللطف المقوّي لقلوبهم والطمأنينة. وفسّر شرح الصدر في قوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) بأنه «الألطاف التي ترد عليه من الله من تقوية قلبه ونصرته ووعده ... » «2». وقد خرّج عليه أيضا قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ... ) «3» كما فعل شيخه القاضي، فقال: إن من يرد الله أن يهديه إلى الثواب في الآخرة يلطف له في الدنيا بضروب من الألطاف فينشرح صدره للإسلام، ومن يرد عقابه يفعل فيه ما يقتضي ضيق صدره بما هو فيه من ورود الشبه والشكوك، وهذا لا يخرجه من أن يكون تعالى قد أراد منه الإيمان؛ لأن شرح صدر المؤمن يثبته على إيمانه، وضيقه على الكافر يجعله أقرب إلى ترك الكفر، لأن من ضاق بشيء وتحير فيه طلب التخلص منه!!. وفسر «التوفيق» بأنه اللطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة. ونعى على المجبرة هذه المرة قولهم إن التوفيق هو خلق الطاعة «4»، لأنه إنما سمى توفيقا لوقوع الطاعة بسبب اللطف وتأثيره؛ من قولهم: وافق فلان فلانا

_ (1) الآية 18 سورة الفتح، ورقة 58/ و. (2) التهذيب، ورقة 149/ ظ. (3) الآية 12 سورة الأنعام، ورقة 183. (4) راجع شرح العيون، ورقة 239/ ظ.

إذا ساواه في مذهبه، وقد قال تعالى: (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ). وقال في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) «1» ان معناه: ينصركم ويثبت أقدامكم بألطافه- في الدنيا والآخرة لعموم الكلام- بتقوية قلوبكم. وقد استقصى في قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) «2» معاني النصر والخذلان، ولكنه لم يذهب الى القول بأنه تعالى يوصف من حيث لم يفعل اللطف في المؤمن بأنه خاذل له، لأن الخذلان عقوبة. ومنع اللطف لا يكون عقوبة لجواز أن يكون مؤمن لا لطف له!، قال: «وأما الخذلان فعند جماعة من أهل العدل: أنه منع اللطف ممن المعلوم أنه لا لطف له. فأما عند شيخينا رحمهما الله فهو عبارة عن لعن الكفار وذمهم والأمر بذلك، كما أنه تعالى ناصر المؤمنين بمدحهم وتعظيمهم فخاذل الكفار بلعنهم وذمهم. والخذلان يجري مجرى العقوبة، ولذلك يذم الانسان بأنه مخذول. ووقوع الغلبة على الكفار خذلان من حيث يجري مجرى العقوبة، وإن كان وقوع الغلبة على المؤمن لا يسمى بذلك وإنما يسمى محنة وابتلاء. فأما منع اللطف فلا يكون عقوبة لجواز أن يكون مؤمنا لا لطف له!».

_ (1) الآية 7 سورة محمد، ورقة 53/ و. (2) الآية 160 سورة آل عمران، ورقة 117.

وقد دقق ابن المرتضى رحمه الله النظر في هذا الكلام للحاكم، ثم نقضه ورده على القائلين به من أهل العدل، ولكنه أطلق القول- متجوزا بعض الشيء- بأن الحاكم يقول: بأنّ منع اللطف إنما يكون عقوبة، وناقشه في ذلك! ثم عقب على الموضوع بكلمة عامة حول تأويلات الحاكم لبعض الآيات على مبدأ اللطف، وهو تعقيب حسن نرى أن نختم به هذه الفقرة. ولكننا نورد قبل ذلك «نقده» لكلام الحاكم السابق، نظرا لصلته الوثيقة بهذا التعقيب. قال ابن المرتضى: «والخذلان هو منع اللطف ممن لا يلتطف، قال الحاكم: وإنما يمنع عقوبة!! قلت: فيه نظر من وجوه ثلاثة: الأول تسميته خذلانا، والخذلان في اللغة: ترك النصرة مع القدرة، وهذا ليس كذلك، فإن من لا لطف له نصرته باللطف غير مقدورة، فكيف يسمى عدم اللطف في حقه خذلانا ولا مشابهة بينهما؟. الوجه الثاني في قوله: منع اللطف، والمنع في اللغة إنما هو حبس الموجود المتمكن منه ومن ليس له لطف فكيف يسمى تخلفه منعا. الوجه الثالث، وهو أعظمها: تسميته ذلك عقوبة!! والعقوبة إنما هي إضرار بالمعاقب أو تفويت نفع يمكن وصوله، ومن لا لطف له لم يفته بتخلف اللطف نفع يمكن إيصاله إليه، أو لا لطف له في المقدور». ثم قال: «واعلم أن الزمخشري والحاكم والإمام المنصور بالله كثيرا ما يطلقون هذه العبارة في تأويل كثير من الآيات، كقوله تعالى: (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) قالوا: أي سلبهم اللطف عقوبة لهم! وكقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) قالوا:

أي يسلبه الألطاف حتى يشق عليه الإيمان ولا ينشرح به صدره. وكقوله تعالى: (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) أي سلبتني من اللطف حتى لا أهتدي إلى مصلحتي .. ونظائر ذلك كثيرة. «ونحن نقول: إن أرادوا سلب لطف من لا لطف له فهو ضعيف من هذه الوجوه. وإن أرادوا سلب لطف من له لطف لأجل معصية فعلها وكونه من جملة العقوبة، فهذا يخالف قاعدتهم، لأن ذلك يستلزم جواز تخلف الألطاف كلها عن المكلفين من البشر إذ لم يخل أحد منهم من معصية حتى الأنبياء، ولو جوزنا ذلك للحق فعل اللطف بغير الواجبات» وذكر بعد ذلك ما يؤكد أنه كان يعقب على نصنا السابق من كلام الحاكم. فقال: «وقد حكى الحاكم عن الشيخين أبي علي وأبي هاشم أنهما لا يسميان تخلف اللطف خذلانا لأجل ما ذكرناه آنفا!! ولم يعترض حجتهما!». ثم ختم هذا التعقيب بالتماس وجه مقبول من وجوه التأويل لأصحابه هؤلاء فيما ذهبوا إليه، فقال: «لكن يمكن التأويل لهؤلاء، فإنهم أكابرنا ويقال: لعلهم بنوا ذلك على أن ظواهر بعض الآي يقتضي ذلك كما حكينا، فلا بد من تقرير ما اقتضته بأن نقول: إنه يجوز أن يكون لبعض المكلفين لطف، لكن ثبوت لطفه مشروط باجتناب معصية مخصوصة، فان اجتنبها فله لطف وإن ارتكبها بطل كون ذلك لطفا له داعيا، فحينئذ لا يجب فعله له، وجرى ذلك مجرى العقوبة لمّا كان سببه مواقعة المعصية، وكان خذلانا لأنه كان ممكنا غير متعذر وامتنع القادر عليه حينئذ من أن يفعله أولا» «1».

_ (1) الدرر الفرائد في شرح كتاب القلائد لوحة 5.

ثانيا: النبوة والأنبياء

ثانيا: النبوة والأنبياء تردد موضوع النبوة والأنبياء والمعجزات في تفسير الحاكم في مناسبات عدة، وآراؤه في هذا الباب لا تكاد تخرج عن آراء شيخيه أبي علي وأبي هاشم كما أوردها القاضي عبد الجبار في أحد أجزاء المغني، وكما لخصها هو نفسه في كتابه شرح عيون المسائل، ورتبها فيه على نحو جيد. والذي يعنينا هنا هو الوقوف على أهم آرائه في هذا الباب من خلال تفسيره لبعض الآيات، لنتبين مدى تأثره بنزعته وثقافته الكلامية في تفسيره: 1 - النبوة اختيار وليست بجزاء: قال في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ)، إنه يدل على أن النبوة ليست باستحقاق وجزاء لأنه علقه بالمشيئة مطلقا «1» وإنما هي بمشيئته واختياره. ولا بد عنده في كل رسول ونبي من وحي ومعجزة وشريعة وذكر أن بعضهم يقول: قد يكون نبيا من غير هذه المعاني، ويفرقون بين النبي والرسول. قال: «والأصل فيه أن كل نبي بعث فلا بد أن يجب القبول منه وتصديقه، وذلك لا يعلم إلا بمعجز يجري مجرى التصديق. ولا بد أن يعرف من جهته ما لولاه لم يعرف وإلا كان عبثا. ولا بد أن يعلم هو ما حمّل من الرسالة، فلذلك قلنا: لا بد من هذه المعاني. وما يروونه

_ (1) قارن هذا بما ذكره القاضي في المغني: ج 15 صفحة 12 - 13، 16 بتحقيق الأستاذ الدكتور محمود قاسم.

أن النبي كذا، والمرسل كذا، وأن بعضهم كان يرى في المنام مما لا يقبل» وقال في تفسير قوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) «1» أي اصبر يا محمد على أذاهم وأداء الرسالة كما صبر أولو العزم من الرسل. قال: «ومن هذه للتأكيد والبيان لا للتبعيض، فجميع الرسل أولوا العزم- عن ابن زيد وأبي علي وجماعة- لأنهم عزموا على أداء الرسالة والصبر فيه وتحمل الشدائد وأداء ما أمروا به. وهذا هو الوجه». 2 - المعجزة وعدم تقدمها على النبوة: ودليل النبوة عنده المعجزة، «ولا شيء يدل على ذلك سواها». ولم يعرض في تفسيره لأدلته على هذا القول ولا لصفة المعجزة وشروطها «2»، ولكنه أكّد في مناسبات كثيرة رأيه في أن تقديم المعجزة على النبوة لا يصح عنده- كما لا يصح عند شيوخه البصريين- على خلاف ما ذهب إليه الجاحظ وأبو القاسم البلخي وسائر البغداديين، قال في قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ «3» ... ) الآيات: إنها دالة على معجزات كثيرة. ثم قال: «وقيل كانت معجزة لنبي في ذلك العصر، وقيل بل إرهاصا لنبوة موسى. والأول قول مشايخنا البصرية، والثاني قول مشايخنا البغدادية» وقال في تفسير سورة الفيل إن هذه الحادثة معجزة، لأن ما ظهر من الطير ورميها بالأحجار وإهلاك ذلك العدد الكثير، نقض للعادة، فلا بد

_ (1) الآية 3 سورة الأحقاف، ورقم 52/ و. (2) راجع شرح عيون المسائل، ورقة 255 - 256، والمغني للقاضي عبد الجبار 15/ 199 فما بعدها. (3) الآية 7 - فما بعدها- سورة القصص، ورقة 40/ و.

من كونه معجزة لنبي، قال: «ثم اختلفوا فقيل كان إرهاصا لنبينا عليه السلام، وكذلك حديث الغمامة، وهو قول مشايخنا البغداديين. وقيل كانت معجزة لبعض الأنبياء في ذلك الزمان، وهو قول شيوخنا» ثم دافع عن هذا الرأي فقال: «ومتى قيل: لو كان ثمّ نبي لظهر أمره وتواتر خبره! قلنا: يجوز أن يكون مبعوثا إلى طائفة ولم يكن ثم متعبّدين بشرعه فجائر أن يخفى عنا خبره، نحو كثير من الأنبياء» ثم قال: «ولا بد عندنا في المعجز أن يتعلق بالدعوى، فإذا لم يكن عقيب دعواه- النبي- لا يتعلق به» «1» ولهذا حملوه على أنه معجزة لنبي آخر. 3 - حفظ النبي: وعنده أن الله تعالى يعصم رسوله من قومه ويحفظه حتى يبلّغ، وأن ذلك لا بد منه في بعض المواضع، قال في قوله تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) «2» إنه يدل على أنه تعالى تضمن حفظه وحياطته حتى يبلّغ. قال: «ومتى قيل: هل يجوز أن يخلّي بينه وبين أعدائه فيقتل؟ قلنا: قبل الأداء: لا، لما فيه من تفويت المصالح، وبعد الأداء يجوز ويصير بمنزلة موته». وقال في قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) إنه يدل على أنه تعالى عاقب الامم عند تكذيبهم الرسل بضروب من العقاب

_ (1) التهذيب ورقة 155/ و. وانظر القاضي، المرجع السابق ص 213 فما بعدها. (2) الآية 48 سورة الطور، ورقة 71/ و.

فإن فيها عبرة لذلك قال (قُلْ سِيرُوا) «1» فيدل على أنه تعالى يعصم رسوله من قومه. قال: وقد قال مشايخنا إن الواجب «حفظ الرسول في موضعين: أحدهما: حتى يبلّغ الرسالة. وثانيهما: إذا كان في بقائه لطف ومصلحة، فإذا لم يكن هذان الوجهان جاز أن يخلى». وقال في قوله تعالى: (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ. قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ... ) «2» الآيات إلى قوله: (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) «2» إن الآيات تدل على جواز الخوف على الأنبياء- وتدل على حسن طلب المعونة مع العصمة- قال الحاكم: «ومتى قيل: أليس يجب تبقيته إلى أن يؤدي فكيف خاف القتل؟ وإن قلتم لم يعلم هو! فلا يجوز لأنه من أجلى المسائل. وإن قلتم علم فهو إغراء! وقوله: (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) كأنه استعفاء من الرسالة، وذلك لا يجوز! «قلنا: أما الأول فعند البغدادية: كلّفه بشرط التبقية فلا يكون إغراء، فأما عند مشايخنا البصرية فلا يصح التكليف بشرط، ولكن إذا

_ (1) الآيتان 69 - 70 سورة النمل، ورقة 34/ ظ. (2) الآيات 10 - 20 سورة الشعراء، ورقة 4/ و.

أرسله فلا بد من تبقيته حتى يؤدى، ولا بدّ أن يعلم النبي ذلك، ولكن لا يكون إغراء لأنه تعالى علم من حالهم أنهم لا يعصونه، بخلاف غيرهم. «ومتى قيل: إذا علم التبقية فلم خاف القتل؟ قلنا: خاف القتل بعد أداء الرسالة. «والجواب عن الثاني: أنه طلب تقوية لنفسه، وليكون الوصول إلى البغية أقرب، ويكون أقوى على الأمر، فأما الاستعفاء فلا يجوز البتة على الأنبياء، ولا بدّ أن يكون في هذا السؤال إذن من جهته تعالى، وإذا أذن لا بدّ أن يجيب. ولأنه لا يعلم المصالح فلا بد في السؤال أن يكون صادرا عن أمر». ثم قال: «ويدل قوله: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) أن في الذنوب ما يبقى، وهو الكبائر وبعض الصغائر. ويدل على أنه تعالى وعدهم النصرة والمعونة، فأيدهما بالمعجزة والدلالة، وأمّنهما من الخوف والمضرّة. وكل ذلك يدل على أن الواجب العصمة حتى يؤدي الرسالة». 4 - عصمة النبيّ عن الكبائر، وتنزيهه عما ينفّر: وللحاكم في تفسيره في هذا الموضوع مواقف ولفتات طيبة، وقد ذهب إلى القول بعصمة الأنبياء عن الكبائر قبل البعثة وبعدها، وإلى تنزيههم عن أمور شنيعة وردت في بعض القصص والأخبار، بغض النظر عن درجة هذه الأخبار ومصدر تلك القصص، ويبدو أن أخبار أهل الحشو والإسرائيليات عنده على حد سواء! أ) أما العصمة عن الكبائر فلقوله تعالى- على لسان رسوله-

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) «1» وقوله: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) «2» قال الحاكم: فدلت هذه الآيات على أنه يتبع الوحي في جميع ما يفعل، فتدل على عصمته. والمهم هنا أنه حكم بهذه العصمة أمام الآيات التي قد تدل على خلاف ذلك على بعض الوجوه، قال في تفسير قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) «3» فيه قولان: أولهما: أنه أراد الضلال والهداية في الدين. والثاني: أنه أراد في الدنيا. قال: «فأما من قال بالأول اختلفوا، فقيل: وجدك ضالا عما أنت عليه من الوحي والنبوة ومعالم الشريعة والأحكام، فلم تكن تعرفه بل كنت غافلا عنه فهداك الله إلى ذلك؛ عن الحسن والضحاك وشهر بن حوشب وابن كيسان وأبي علي. وقال أبو علي: وضلاله عن ذلك لم يكن معصية لأن الله تعالى لم يكن آتاه ذلك، ونظيره: (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) والضلال على هذا: الذهاب عن العلم، قال الله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) وقال تعالى: (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) «4» أي لم أعلم.»

_ (1) الآية 50 سورة الأنعام. (2) الآية 9 سورة الأحقاف. راجع التهذيب ورقة 49/ و. (3) الآية 7 سورة الضحى، ورقة 149/ و. (4) الآية 20 سورة الشعراء، وهي على لسان موسى عليه السلام في كلامه عن قتله للرجل، والمعنى أنه كان من الضالين عن العلم أن ذلك يؤدي إلى قتله-

وبعد أن ذكر الآراء الأخرى الكثيرة في تفسير الآية قال: «وأحسن ما قيل فيه ما قاله أبو علي، وما عداه إما تعسف أو تخصيص بغير دليل». ثم قال: «ومتى قيل: أليس قد قال بعضهم إنه كان على دين قومه فهداه إلى الحق، حتى روى عن السدى أنه قال: كان على أمر قومه أربعين عاما! قلنا: هذا من الخطأ العظيم لأن الكفر لا يجوز على الأنبياء قبل البعثة وبعدها، ولأنه يؤدي إلى التنفير، ولا بدّ في النبي من أن يكون معصوما قبل البعثة وبعدها من كل كبيرة». وقال في حادثة طلاق زينب بنت جحش من زيد بن حارثة وزواج النبي صلّى الله عليه وسلم بها- في تفسير قوله تعالى (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ... ) الآية «1» إن الكلام يقتضي وقوع مشاجرة بين زيد وزينب حتى وعظه الرسول وأمره بالإمساك، وأن يتقي الله في مضارتها- وقيل هو إباحة وإرشاد وليس بإيجاب- قال الحاكم: «ومتى قيل: أليس كان- الرسول- يجب أن يفارقها، فكيف أمره بالإمساك؟ قلنا: معاذ الله أن يقول خلاف ما في قلبه، فإن ذلك

_ - كما قال أبو علي، أي أن قتله من غير قصد. وقيل: (من الجاهلين) كما ورد في حرف ابن مسعود. قال الحاكم: «ولا يجوز حمله على الضلال في الدين لأن ذلك لا يجوز على الأنبياء لأنه يقطع الولاية ويوجب الكفر والعقوبة العداوة، فلا يجوز على الأنبياء» التهذيب ورقة 4/ و. (1) رقم 37 سورة الأحزاب، ورقة 107 - 108.

لا يجوز عليه، وإنما قال ما أحب وما كان في قلبة، وهو إمساكها بإحسان. «ومتى قيل: أليس كان يحبها ويريد التزوج بها، وأنه جاء إلى باب زيد فوقع بصره عليها فهويها .. في حديث طويل ترويه الحشوية؟ «قلنا: شيء من ذلك لا يجوز على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والله تعالى يعصم رسوله من كل منفر وكل كبيرة. وكيف يصح ما قالوا وكانت زينب إنما زوجها محمد من زيد .. ولم يرغب فيها، فكيف يصح ذلك بعد أن صارت ذات زوج؟! وكيف يجوز أن ينظر في دار إنسان مع أن ذلك كبيرة؛ فليس ذلك إلا من دسيس الملحدة». وأما قوله تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) فالراجح عند الحاكم أن الخطاب فيه للنبي- وليس لزيد كما قال بعضهم- وذكر أنهم اختلفوا في معنى الآية، فقيل: أخفى في نفسه إن طلقها زيد تزوج بها لأنها ابنة عمته، فأحب ضمها إليه بعد فراق زيد لكي لا يصيبها ضعة، كما يفعل الرجل بأقاربه؛ عن أبي علي. (وتخشى) إظهار ذلك خشية قالة الناس، ولأن تترك إظهاره خشية الله أولى لأنه فعل ذلك بأمر الله تعالى!. وقيل: كان الله تعالى أخبره بأن يزوجها منه، فلما أراد زيد طلاقها قال له: أمسك عليك زوجك، فكيف وقد أعلمتك أنها تكون من أزواجك؟ عن علي بن الحسين وزيد بن علي. قال الحاكم: «وهذا التأويل مطابق للآية لأنه عوتب على قوله «أمسك»، مع علمه أنها ستكون زوجة له، خشية الناس.».

وذكر بعد ذلك تأويلا آخر لأبي مسلم، ثم قال: «ومتى قيل: إذا كان الله أخبره بأنه يزوج زينب منه، فلماذا أخفى ذلك؟ قلنا: لأنه لو أظهر ذلك لكان زيد يطلقها لأجله لا لسوء عشرتها، وكان ذلك يورث وحشة بينهما.» وختم حديثه عن الآية بالقول إنها تدل على «تنزيه الرسول عن أن يخفي شيئا ولا يبديه كيلا يقع التنفير، فتدل على عصمته .. ». وفي قصة يونس عليه السلام حين أبق إلى الفلك، في قوله تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ .. ) الآيات «1» قال الحاكم: إن يونس فرعن قومه، وكانوا أضجروه، وقد أوعدهم بالعذاب فظن نزوله بهم فخرج من غير إذن، وكان يجب أن يستمر على الدعوة إلى أن يأمره الله تعالى بالخروج. قال: «ومتى قيل: هل يجوز العمل في هذا بالظن؟ قلنا: لكي يخرج من أن يكون متعمدا لمعصيته. ولا يجوز أن يقال أبق من الله! لأنه ذلك لا يتصور، ولأنه يكون معصية لا تجوز على الأنبياء. وقيل: أمر بلزوم ذلك الموضع فلما خرج كان كالفارّ عن مولاه! وهذا لا يجوز، وإنما فر من قومه لما آذوه وكذبوه وظن نزول العذاب بهم، ولم يؤمر باللّبث ولا بالخروج، فخرج على أنه مباح».

_ (1) الآيات 139 - 142 - وانظر الآيات التالية- من سورة الصافات، التهذيب ورقة 166.

وفسر قوله «مليم» بأن يونس كان يلوم نفسه على خروجه من بين قومه من غير أمر ربه. وقال مجاهد وابن زيد: إن معناه مذنب، وقيل: مستحق للوم. قال الحاكم: ومن قال إنه كان مذنبا يقول إنه كان صغيرة. ب) وقد جوز الحاكم على الأنبياء وقوع الصغائر منهم، خلاف قول الإمامية- في الرسول والإمام- وكما دلت على ذلك بعض الآيات، قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) «1» وقد قال الحاكم في هذا الذنب: إنه صغيرة تقدمت من موسى عليه السلام، وانما يكلف الأنبياء التوبة من الصغائر- وكلما ذكروها أيضا حتى يخرجوا من حد الإصرار- لعظم نعمه تعالى عليهم. وقيل: إن ذنبه كان أنه حدث نفسه أن الظفر كان بقوته. وقيل: استعجال النصر قبل وقته. وقال تعالى في سورة محمد: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) «2» قال الحاكم: يدل قوله (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) على وقوع ذنب منه، ويدل على جواز وقوع الصغائر على الأنبياء خلاف قول الإمامية. وقد فصل الحاكم القول في مذهبه في جواز الصغائر على الأنبياء عند كلامه على قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ... ) في مطلع سورة الفتح، فقال إن قوله (ليغفر)

_ (1) الآية 55 سورة غافر، ورقة 22. (2) الآية 19، ورقة 54/ و.

يدل على جواز الصغائر على الأنبياء قبل النبوة وبعدها. ويدل على أنها مغفورة. قال: «ومتى قيل: كيف تكون مغفورة؟ قلنا: بإيجاب ما يجبر نقصا دخل في ثوابه بتلك الصغيرة. «ومتى قيل: كيف يجوز ذلك عليهم؟ قلنا: ما يتعلق بالرسالة ومصالح الأمة لا يجوز عليه فيه الصغيرة والكبيرة، ولا السهو ولا الغلط ولا النسيان، لأن في ذلك فوت المصالح. فأما ما يتعلق بحاله فلا يجوز الكبيرة أصلا، والصغير: ما كان مسخفا ومنفرا لا يجوز عليه، وما عدا ذلك لا مانع منه فيجوز» «1». ج) أما المنفّر والمستكره- ولو لم يكن من باب المعصية أصلا- فلم يجوزه الحاكم على الأنبياء على أي وجه، قال في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) «2» إن معناه أنهم آذوه من حيث نسبوه إلى السحر والجنون والكذب بعد ما رأوا الآيات، كعادة الكفار مع الأنبياء. ثم قال: «وأما ما ترويه الحشوية أنهم رموه بأنه آدر- آفة في عورته- فوضع ثوبه على حجر ليغتسل فبعد الحجر حتى رآه بنو اسرائيل! فليس بصحيح؛ لأن فيه هتك الستر وكشف العورة وما يؤدي إلى التنفير» «3».

_ (1) التهذيب، ورقة 56/ ظ. (2) الآية 69 سورة الأحزاب، ورقة 117/ ظ. (3) الحديث الذي يشير إليه الحاكم في البخاري، وفي تفسيره تأويلات كثيرة ذكرها ابن حجر رحمه الله. ولموقف المعتزلة من حديث الآحاد مناقشة طويلة في دراستنا عن منهج المعتزلة في تفسير القرآن، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

وقال في تفسير قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ... ) «1» إنه أصيب بتعب ومشقة وعذاب، وقيل: أصابه الشيطان بوسوسته، واختلفوا فقيل في جسده، يعني: يقول طال مرضك ولا يرحمك ربك. وقيل في نفسه وماله، يقول: نالك الفقر وذهب المال والأهل، فذكر صحته وأهله ومصائبه فيها وقد مرض وافتقر، فضاق صدره بهذه الوساوس فشكا إلى الله تعالى. قال الحاكم: وقيل اشتد مرضه وطال حتى تجنبه الناس استقذارا، وذهب ماله، فذكره الشيطان أحواله، ووسوس إلى الناس استقذاره، فضاق صدره بما ناله من الشيطان ولم يشك الألم لأنه كان منه تعالى. ثم قال: «ولا يجوز أن يبلغ حالا يستقذره الناس لأن فيه تنفيرا!! فأما المرض والفقر وذهاب الأهل فيجوز امتحانا» وقال: إن الآية تدل على أن أيوب صبر على ما نزل به من جهة الله تعالى، على ما هو الواجب في الدين. 5 - عدم معرفة الأنبياء الغيب: وهذه من أهم النقاط في باب النبوة في تفسير الحاكم، نظرا لاعتماده الدائم عليها في الرد على الإمامية أن الإمام يعلم الغيب، لأنه إذا ثبت أن الرسول لا يعرفه، بنصوص القرآن، فالإمام في ذلك أولى، قال الحاكم في قوله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ .. ) «2» إن الآية تدل على أنه تعالى المختص بعلم الغيب، فيبطل قول الإمامية إن الإمام يعلم الغيب.

_ (1) الآية 41 سورة ص، ورقة 6/ و. (2) الآية 65 سورة النمل، ورقة 34/ ظ.

ثالثا: الأرزاق والآجال

وقال ذلك أيضا في قوله تعالى: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) «1». وقوله: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) «2» لأنه يعلم بالوحي لا بالغيب. ووقف على هذا المعنى أيضا في قوله تعالى (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) «3» وقوله (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) «4»، قال في الآية الأولى إنها تدل على إن إبراهيم عليه السلام كان غير عالم بحال الملائكة «فيدل أن الأنبياء لا يعلمون الغيب، فالأئمة أولى خلاف ما تقوله الإمامية» وقال في الآية الثانية إنها تدل على عظم محل العلم، وأن الأنبياء لا يعلمون كل شيء، ولا الغيب، حتى خفي على سليمان علم سبأ. قال: «فإذا لم يجب ذلك في الأنبياء ففي الأئمة أولى» وقد خفي عليه خبرها مع قرب الدار ليعلم أن المحيط بالأشياء إنما هو الله تعالى. ثالثا: الأرزاق والآجال وأكثر الأمور دورانا من هاتين المسألتين- اللتين لا تعدان من أمهات المسائل- في تفسير الحاكم، شيئان: أولهما إثبات أن الحرام لا يكون رزقا. والثاني إبطال القول بالأجلين الذي ذهب إليه معتزلة بغداد. وقد

_ (1) الآية 26 سورة الجن، ورقة 118/ ظ. (2) الآيات 67 - 70 سورة ص، ورقة 68/ و. (3) الآية 28 سورة الذاريات، ورقة 67/ ظ. (4) الآية 22 سورة النمل، ورقة 26/ ظ.

حملنا تأكيده الدائب عليهما على إجمال القول في موضوع الارزاق والآجال. 1) عرّف الحاكم الرزق بأنه «ما له أن ينتفع به وليس لأحد منعه» «1» ونسب إلى الحشوية- كما يسميهم- القول بأن كل ما أكله فهو رزق له حلالا كان أو حراما. قال: والاصل في هذا أن الرزق لا بدّ أن يكون مضافا أو في حكم المضاف؛ فإذا أضيف إلى جملة العباد فالمراد أن لهم أن ينتفعوا به من غير تخصيص. وأما إذا أضيف إلى معين- فيقال رزق له- فهو أن يختص به حتى لا يصح للغير أن ينتفع به إلا بإذنه، وله هو أن ينتفع به وليس لاحد منعه، فما هذا حاله وصف بأنه رزق له: قال الله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) «2» قال الحاكم: تدل الآية على أن الله تعالى الرزاق لجميع الحيوانات. «ولا شبهة أن الارزاق كلها من جهة الله تعالى لأنها أجسام وأعراض لا يقدر عليها غيره. وما دام يبقى على أصل الإباحة فهو رزق للجميع، فإذا اختص به بعضهم وملكه كان رزقا له». ولهذا فإن الحرام لا يعد رزقا لانه يعاقب على التصرف فيه، ولانه تعالى مدح الإنفاق في الرزق! قال تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ .. ) «3» قال الحاكم: تدل الآية أن الرزق لا يكون حراما لان الإنفاق من الحرام محظور. وقال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) «4»

_ (1) شرح العيون، ورقة 222. (2) الآية 60 سورة العنكبوت، ورقة 68/ ظ. (3) الآية 10 سورة المنافقون، ورقة 101/ ظ. (4) الآية 38 سورة الشورى، ورقة 35/ و.

وقال: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) «1»، والآيات التي تحث على الإنفاق من الرزق كثيرة، وقد قال الحاكم في جميعها إنها تدل على أن الحرام لا يكون رزقا. 2) وقال الحاكم في قوله تعالى: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) «2» إنه يدل على أن الأجل واحد لا يتقدم ولا يتأخر. ثم عرّف الأجل بقوله: «وهو ما علم الله تعالى أن المرء يموت فيه أو يقتل». وعن بعض البغدادية أن الاجل أجلان: مقدور ومسمّى. فالمقدور: الذي يقتل أو يموت فيه، والمسمى الذي لو لم يقتل لبقي إلى ذلك الوقت. قال الحاكم: والاصل فيه أن أجل الشيء وقته، والوقت هو الحادث الذي تعلق حدوث غيره به. فإذا ثبت أن الأجل هو الوقت، فكل وقت نزل به الموت فهو أجل موته، ولا شبهة أنه ينزل به مرة واحدة، فاستحال أن يقال أجلان. ولا تعلق للبغدادية بقوله تعالى ( .. يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) «3» «لانه تعالى إذا علم أنهم إذا آمنوا أبقاهم إلى مدة كذا، وإذا لم يؤمنوا أهلكهم، علم مع ذلك أنهم يؤمنون أو لا يؤمنون، فعلى المعلوم منهم يضرب مدة آجالهم فلا يكون الاجل إلا واحدا. وتسميته لذلك الوقت أجلا توسع ومجاز». وقال في المقتول إنه لو لم يقتل كان يجوز أن يعيش ويجوز أن

_ (1) الآية 16 سورة السجدة، ورقة 93/ و. (2) الآية 11 سورة المنافقون، ورقة 101/ ظ. (3) الآية 4 سورة نوح، ورقة 115/ و.

يموت «فأما بعد أن قتل فنقطع أن أجله وقت قتله لما علم الله تعالى من ذلك» يدل عليه أنه غير ممتنع أن يكون الصلاح في زيد لو لم يقتله القاتل أن يعيش إلى وقت مسمى، كما لا يمتنع أن يكون الصلاح إماتته في تلك الحال، وإذا لم يكن دلالة على ذلك وجب تجويز كلا الأمرين. ولأنه تعالى قادر على خلق الموت والحياة في تلك الحالة لو لم يقتل فلا معنى لإنكار أحدهما- كما فعلت البغدادية بإنكار الموت، والمجبرة بإنكار الحياة- ولا يقال إذا علم أنه يقتل في تلك الحالة فكيف يجوز خلافه! لأنه تعالى يقدر على خلافه، ولكن لا يكون خلافه لان العلم بالشيء يتعلق على ما هو به، وإنما يعلم بعد القتل أنه تعالى علم قتله في هذه الحالة، قال تعالى: (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) «1» قال الحاكم: تدل الآية على الترغيب في الجهاد وأنه لا يصرف عنه خوف الموت؛ لأنه نازل في حينه وإن لم يكن جهاد كما ينزل في الجهاد. وتدل على أن لكل واحد أجلا معلوما لا يتقدم ولا يتأخر. وتدل على أن هذه الآجال مكتوبة لتعتبر بها الملائكة ولطفا لنا. وتدل على أن المقتول مات بأجله. قال: «ومتى قيل: لو لم يقتل فكيف تكون حاله؟ فجوابنا: كان يجوز أن يموت ويعيش، لانه تعالى قادر عليهما، إلا أنه إذا قتل قطعنا أنه أجله، وأنه كان لا يجوز غيره لانه كان المعلوم» قال: وتدل الآية على أن من أراد بالعبادة نصيب الدنيا لا حظ له في الآخرة. وتدل

_ (1) الآية 145 سورة آل عمران، ورقة 82.

رابعا: حول عالم الغيب

على أن الموت لا يقدر عليه غيره تعالى لانه قال: «بإذنه»، عن أبي علي. وتدل على أن أجل الإنسان إنما هو أجل واحد خلاف قول البغدادية. رابعا: حول عالم الغيب قال الحاكم في تعريف الغيب في الصفحات الأولى من تفسيره: «والغيب نقيض الشهادة، وهو مصدر وضع موضع الاسم، يقال للغائب: غيب، ومنه (عالم الغيب). والغيب: ما غاب عن الحاسة، أي خفي. ويقال: غاب عني، إذا خفي عن الأبصار» ونقل عن أبي علي أن الغيب على ضربين: منه ما لا دليل عليه فلا يعلمه إلا الله، ومنه ما عليه دليل فنعلمه، إلا أن «عالم الغيب» لا يطلق إلا على الله تعالى لأنه يوهم العلم بالجميع. وعن أبي هاشم أن الغيب ما لا طريق إلى معرفته ضرورة واستدلالا. قال الحاكم: «وربما مر في كلامه ما قدمناه!» «1» وأيا ما كان رأي الحاكم بين هذين الرأيين اللذين لا يبدو أن الفرق بينهما كبير، فإن الذي نودّ الوقوف عنده من عالم الغيب إنما هو رأي الحاكم في الموضوعات الهامة التالية: 1) إبليس: ونبتدئ بإبليس- عليه لعنة الله- لنقف على رأي الحاكم في مسألة وسوسته، ومسألة إنظاره إلى يوم الدين، وهما أبرز «مشاكله» في تفسير الحاكم، وقد عرّضت لهما جميعا الآيات التالية من من سورة ص: قال تعالى، في قصة إبليس حين أمر بالسجود لآدم: (قال فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين. قال

_ (1) التهذيب ج 1 ورقة 13/ و.

رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ .. ) «1» قال الحاكم في تفسير يوم الوقت المعلوم إنه يوم القيامة كما قال بذلك جماعة منهم أبو مسلم وأبو علي، قال: ولذلك قال تعالى: (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) «2» فهو خطاب لبني آدم إلى يوم القيامة.- وقيل أنظره إلى يوم الوقت الذي علمه الله تعالى أنه يبقيه إليه وليس هو يوم القيامة! - قال الحاكم: «ومتى قيل: هل أجيب دعاؤه؟ قلنا لا، وكان منظرا؛ عن أبي علي. وقيل بل استصلاحا- أي أجيب استصلاحا له- عن أبي بكر أحمد بن علي» ولم يفصّل الحاكم الوجه في اختلاف هذين الجوابين، وإن كانت النتيجة واحدة، لأن محله كتب علم الكلام، وإنما اكتفى بالإشارة إلى أصل الخلاف بينهما، فقال: «وهو مبني على إجابة الكفار والفساق». ثم تساءل عن فائدة بقاء إبليس مع أنه يغوي الخلق؟ وأجاب على ذلك بالوجوه الآتية: قال: «أما إغواؤه عند أبي علي فإنهم يضلون وإن لم يكن هو. وعند أبي هاشم يجوز أن يضل بوسوسته، فيكون زيادة تكليف. «فأما فائدة إنظاره فالله أعلم بتفصيل المصالح، ولا بد فيه مصلحة.

_ (1) الآيات 77 - 83 سورة ص- وانظر الآيات التالية- التهذيب. ورقة 8/ ظ. (2) الآية 27 سورة الأعراف.

وقيل: أراد بإنظاره أن يبقى الجهاد في الدين، ولما فيه من البعث على التفكير في العلوم وحل الشبه. «فأما من يقول: أنظره جزاء على أعماله فلا يصح، لأن تلك الطاعات أبطلها بالكفر ... «فأما ما تقول المجبرة إنه أنظره ليغوي فلا يصح لأنه قبيح. وبعد، فإن من مذاهبهم أن الغواية خلق الله فسواء كان إبليس أو لم يكن! كذلك الإيمان خلقه، فسواء كان نبيّ أو لم يكن!؟ «ومتى قيل: لولا التبقية لما أمكنه الوسوسة! قلنا: إنما أبقاه للتكليف، ومكّنه بالقدرة والآلات ليعمل الطاعة، فهو في عصيانه بمنزلة سائر الكفار، والتمكين لا يصح إلا من الأمرين جميعا، وذلك لا يقتضي أنه يريد المعصية، كما أن الشهادة لا تصح إلا بعد الإنكار، ولا تقتضي أن القاضي يريد الإنكار»! أما كيفية إغوائه ووسوسته في الصدور (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) قال الحاكم: يكون ذلك بكلام خفي يصل إلى قلبه. قال: «فأما من يقول يدخل القلب، أو له خرطوم يدخل القلب فبعيد!». «1» 2) الجن والملائكة: قال الحاكم في مطلع تفسيره لسورة الجن: «والجن جنس من المخلوقين. والمكلفون ثلاثة: الملك والإنس والجن «2».

_ (1) من تفسيره لسورة الناس، ورقة 161/ و. (2) وما ورد في القرآن من تسبيح ما لا يعقل فقد حمله الحاكم على وجهين: أحدهما: بما فيه من الدلالة على تنزيهه. والثاني: دلالة الانقياد له فيصرفه كيف شاء (مطلع سورة الحديد ورقة 84/ ظ. والآية 6 من سورة الرحمن ورقة 78/ ظ). وقال في تسخير الجبال والطير تسبح مع داود: إن معناه أنها-

فالملك خلق من النور، والإنس من التراب، والجن من النار». أ) أما الملائكة فقد قال في صفتهم في موضع آخر من تفسيره بأنهم حيوانات معروفة متميزة على سائر الخلق بالصورة، وبأنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، وبأن لهم أجنحة. قال: «ولا نراهم للطافة التي فيهم إلا أن يقوّي الله تعالى شعاعنا فنراهم كما يراهم المعاين، أو يحصل فيهم كثافة، كما في زمن الأنبياء» «1». وأكد في عدة مواضع أنهم مكلّفون مختارون، على ما ذهب إليه أصحابه، قال تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ... ) «2» قال الحاكم: الذين يحملون العرش ومن حوله، يعني من الملائكة، قيل: هم صنفان: صنف هم حملة العرش، وصنف يطوفون به. وقد كشّف الله أجسامهم حتى حملوا العرش. وقيل: بل أعطاهم من القوة ما يحملونه وهم على هيئة

_ - كانت تسير معه إذا أراد، فلما كان سيرها دالا على توحيد الله ومعجزة لنبيه أضاف التسبيح إليها. واستدل بقوله تعالى (لأعذبنه) - في قصة الهدهد مع سليمان عليه السلام- على جواز تأديب غير المكلف، كما يؤمر الصبي بالصلاة ويضرب عليها، قال: «لأنهم أجمعوا على أن ذلك الطير لم يكن مكلفا، ولولا الإجماع لجوزنا كونه كذلك، ولكن صار كالمراهق يعلم ما يفعل به وما لأجله يفعل» ورقة 26/ ظ. (1) التهذيب، الجزء الأول ورقة 51/ و. (2) الآية 7 سورة المؤمن، ورقة 18/ و.

الملائكة. قال: «وتدل الآية أن الملائكة مكلفون وأن تكليف هؤلاء- في هذه الآيات- يتعلق بالعرش، فمنهم من يحله ومنهم من يطوف به كما نطوف بالبيت» «1» وقد تابع أصحابه في الحكم للملائكة بالعصمة بقوله تعالى: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)، وبأنهم أفضل من جميع الأنبياء لقوله تعالى: (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) وقوله: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) وآيات أخرى. «2». ب) وأما الجن فخلاصة مذهبه فيهم، كما أوضحه في تفسير الآيات الأولى من السورة التي تسمى باسمهم، أنهم مكلفون- كما تقدم- وأن النبي صلّى الله عليه وسلم مبعوث إليهم، وأن فيهم مؤمنا وكافرا، ومن يعرف لغة العرب. وقد استدل بقوله تعالى (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ) «3» على أن في الجن رجالا كما في الإنس، وأنهم يتناسلون على خلاف ما ذهب إليه البلخي. واستدل به أيضا على أن في الإنس من كان يميل إلى الجن ويلوذ بهم. قال: «وذلك باطل، ومن هنا وقع بين العامة الاعتصام بالجن في باب الحب والبغض، وطلب الأشياء وعلم الغيب وتغيير الصور» ثم قال:

_ (1) الورقة السابقة/ ظ. (2) انظر التهذيب 1/ ورقة 51. وانظر لنقض مذهب المعتزلة في مسألة التفضيل والاستشهاد على مذهبهم بهذه الآية: فتح الباري لابن حجر 13/ 330 وانظر تعليقنا على «متشابه القرآن» للقاضي عبد الجبار. ص 214 (3) الآية 6 سورة الجن، التهذيب ورقة 118/ و.

«ومن جوز أن يقدر غير الله تعالى على الأجسام والصور والحياة والموت يكفر!». وقد بين في موضع آخر سبب هذا الحكم في تعقيبه على آيات تسخير الجن لسليمان في سورة سبأ «1»، فقال: «ومتى قيل: من يزعم أن الجن تعلم الغيب أو تقدر على تلك الأعمال العظيمة أو تغير الصور هل يكفر؟ قلنا: نعم؛ لأنه يسد على نفسه طريق معرفة النبوات». وفيما وراء ذلك: فالجن عنده أمة مكلفة لا تكاد تختلف عن الإنس، حتى إنه جعلهم قائلين بالعدل والتوحيد، ويرون الثواب والعقاب جزاء الأعمال لأنهم نفوا عن الله تعالى الظلم وقالوا: (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) «2» على خلاف ما تقوله المجبرة من هذه الأمة!!، ولكنه لم يبحث السبب في عدم ظهورهم وأنهم لا يرون، كما أنه اكتفى من الحديث عن «طبيعتهم» بالقول إنهم خلقوا من نار، وإن كان لاحظ أنهم «ركّبوا تركيبا تضرهم النار، ولذلك خافوا الشهب» ومسألة استراقهم السمع الذي أشارت اليه الآية الكريمة: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) «3» أهم نقطة في هذا الباب يبدو فيها أثر منهج الحاكم الكلامي وأسلوبه الجدلي في التفسير: قال في تفسير قوله تعالى:

_ (1) الآية 12 فما بعدها، ورقة 123/ و. (2) الآية 13 سورة الجن، ورقة 117. (3) الآية 9 سورة الجن.

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) «1» قيل: التمسنا قربها لاستراق السمع، فوجدناها ملئت حفظة شدادا من الملائكة، وشهبا من النجوم. (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ... ) أي لاستراق السمع، يعني: كان يتهيأ لنا قبل هذا: القعود في مواضع الاستماع إلى الملائكة، فنعرف ما نسمع من الغيب، فمن يستمع الآن يجد له نارا تحفظ أمر السماء. وقيل: إن هذه الشهب كثرت في هذه الأيام وانتقضت العادة بها فكانت معجزة، ومنعت الجن عن الاستماع من الملائكة ليسمعوا من النبي صلّى الله عليه وسلم فإنه كان مبعوثا إليهم! قال الحاكم: «ومتى قيل: كيف توصّلوا إلى استراق السمع؟ قلنا: يحتمل أنهم صاروا بآلات أعطاهم الله تعالى إلى مواضع تكون الملائكة فيها فيتكلمون ويستمعون ويلقون إلى غيرهم. «ومتى قيل: فأيّ مفسدة في استراق السمع حتى منعوا منه؟ قلنا: وجوه، منها: إيهامهم ضعفة الجن أنهم يعلمون الغيب؛ لأنهم إذا وجدوا الأمر كما قالوا انقادوا لهم. ومنها: أنهم يجعلونه طعنا في النبوات والمعجزات. ومنها: أنهم يلقون ذلك إلى الإنس بالوسوسة فيصير شبهة. ومنها: أن نزول الملائكة وصعودهم يكثر أيام البعثة، وإذا التقى البعض وذكروا من الأمور الغائبة ويستمع الشياطين فيسبقون إلى العلم به النبيّ صلّى الله عليه وسلم فيفسدون على الضعفة أمر النبوات. ومنها: أنه كان مبعوثا إليهم فلا يجوز أن يستمعوا الرسالة إلا منه. ومنها: أنه معجزة له ولطف لهم حثهم على التدبر والفحص.

_ (1) الآية 8 سورة الجن.

«ومتى قيل: إذا كان الشهاب قبل المبعث كما في حال المبعث، فكيف صارت- الشهب- معجزة؟ قلنا: كثرت في أيامه حتى دخلت في حد الإعجاز. وهذا كما نقول: المطر ليس بمعجز لجريان العادة به، فإذا كثر وزاد على المعتاد دخل في حد الإعجاز، كالطوفان، كما روي في أيام النبي صلّى الله عليه وسلم. «ومتى قيل: كانت معجزة له صلّى الله عليه وسلم؟ قلنا: نعم، كثرة الشهب ومنع الجن. «ومتى قيل: فإذا علموا المنع والهلاك عند الاستراق فكيف عادوا؟ قلنا: لم يقع ذلك في كل مرة، وإنما في بعض الأحايين إذا صادف حديث الملك، وإذا كان مرة هلاكا ومرة سلامة جاز أن يتقحموا كراكب السفينة. «ومتى قيل: كانوا يصعدون السماء أم يقفون في الهواء؟ قلنا: كلا الوجهين جائز، وقد منعوا من الجميع». 3 - عذاب القبر: تابع الحاكم شيخه أبا علي في القول بعذاب القبر، على خلاف بعض من المعتزلة لا يذكر. وقد بسط الحاكم مذهبه في هذا الموضوع عند تفسيره لقوله تعالى: (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ .. ) «1» كما أشار إليه وأيّده في تفسيره لقوله تعالى- في نفس السورة- العذاب، النّار يعرضون عليها غدوّا وعشيّا، ويوم تقوم الساعة أدخلوا

_ (1) الآية 11 سورة غافر.

(وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) «1» وتفسيره لقوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) «2»، وفي مواضع أخرى من تفسيره لا يمكن اعتبار أحدها قاطعا فيما استدل به الحاكم، لاحتمالها جميعا لوجوه أخرى من التفسير نقلها هو نفسه، ولا مجال هنا للإشارة إليها، على أنه لم يبلغ مبلغ أبي علي في اسرافه في الاستدلال على عذاب القبر بآيات كثيرة يبدو انها لا تدل على ما حملها عليه، نحو قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) «3» فقد فسر الذي قرب منهم وأنه سيأتيهم بأنه شدة الموت وعذاب القبر، وليس هو الأسر والقتل الذي نالهم يوم بدر. وقوله تعالى- في سورة يس- (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) «4» قال أبو علي: وتدل الآية على صحة ما نقوله في عذاب القبر وسؤاله!!. وقال في قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) «5» أي: «ما لبثوا بعد انقطاع عذاب القبر» - وقال الكلبي: ما لبثوا في القبور أو في الدنيا- قال أبو علي: «واستدل بعضهم بالآية على نفي عذاب القبر، وليس بشيء، لأنهم أرادوا لبثهم بعد انقطاع العذاب»!.

_ (1) الآيتان 45 - 46 سورة غافر، ورقة 22. (2) الآية 28 سورة البقرة، ورقة 46/ و. (3) الآيتان 71 - 72 سورة النمل، ورقة 35/ و. (4) الآيتان 26 - 27 ورقة 149/ ظ. (5) الآية 55 سورة الروم، ورقة 81/ و.

وتبقى طريقة الحاكم- الذي لم يعقّب بشيء على هذه الاستدلالات- في الدلالة على هذا المذهب أقرب على كل حال، مع قيام الاحتمال الذي قدمناه، قال في الآية المتقدمة (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ .. ) إن المراد بالإماتة الأولى: التي تكون في الدنيا بعد الحياة، والثانية التي تكون في القبر قبل البعث. والمراد بالحياة الأولى في القبر، والثانية في الحشر. وذكر وجوها أخرى لم يقبل منها رأي من قال إن المراد بالموتة الأولى حيث كانوا نطفا فأحياهم في الدنيا، ثم أماتهم الموتة الثانية، ثم أحياهم للبعث،- فهما حياتان وموتتان- وذلك لأن إطلاق اسم الموت على النطقة مجاز! ثم قال في الأحكام: «يدل قوله (ربنا أمتنا) على صحة ما نقوله في عذاب القبر. ومتى قيل: فالإحياء يجب أن يكون ثلاثا! قلنا: إثبات حياتين لا يمنع اثبات ثالث! «ومتى قيل: فمتى يكون عذاب القبر؟ قلنا: اختلفوا فيه، فمنهم من قال أول ما يدفن. وقيل: ما بين النفختين، فأما مشايخنا فيقولون: نقطع بكونه، وأما وقته فلا نقطع فيجوز أن يتقدم ويتأخر. «ومتى قيل: هلّا قلتم إن الميت يعذب أو الروح؟ قلنا أما الميت فيستحيل أن يألم، وأما الروح فهو النفس، وليس هو المكلف «1». ومتى قيل: فما الفائدة فيه؟ قلنا: الله أعلم بوجه المصلحة، ويجوز أن يكون لطفا للملائكة، والخبر عنه لطف لنا، فأما الميت فيستحيل أن يكون لطفا له لانقطاع التكليف!

_ (1) واستدل بقوله تعالى (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) على أن البعث يكون «لهذه البنية لأنها في الأجداث بأن يحييها الله تعالى فتخرج، فيبطل قول من يقول إن البعثة على الأرواح» ورقة 75/ ظ.

«ومتى قيل: فهل يعاد عاقلا؟ قلنا: لا بد أن يحييه تعالى ويجعله عاقلا ليعلم أنه يعذب جزاء. «ومتى قيل: فمن يعذّب؟ قلنا: المستحق للعذاب، فأما المؤمن فيثاب ولا يعذب. «ومتى قيل: فما تقولون في السؤال، وفي قصة منكر ونكير؟ قلنا: أما السؤال فنقطع به، فأما منكر ونكير فيجوز ذلك لورود الخبر به، وإن لم يظهر كظهور عذاب القبر» «1» 4 - الجنّة: يؤكد الحاكم دوما أن أبواب الجنة مفتحة للمؤمنين فقط، وأن استحقاق نعيمها وثوابها إنما يكون بالتقوى، على خلاف ما يذهب إليه المرجئة في ذلك. وقد تقدم أن هذا من مذهبه في الوعد والوعيد. ولكنه في حديثه عن الجنة ذاتها وصفة نعيمها- وهو ما نبحثه هنا- يؤكد الأمور الثلاثة الآتية، وهي: دوامها، وأنها لمّا تخلق، وأن فيها المأكول والمشروب ونعيم الأجساد، على خلاف رأي «جهم» في الأمر الأول، ورأي الباطنية في الأمر الأخير. قال تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) «2» وقال: (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) «3» أي إقامة لا تفنى. وقد وصف الله تعالى الجنة بالخلود وأن الاقامة فيها لا تفنى في مواضع كثيرة

_ (1) التهذيب، ورقة 19/ و. (2) الآية 76 سورة طه. (3) الآية 12 سورة الصف، ورقة 18/ و.

أخرى، قال الحاكم: فدل على دوام الجنة خلاف قول جهم «1». وقال في قوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ، فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) «2» انها تدل على أن في الجنة مأكولا ومشروبا «وذلك يعلم ضرورة من دين الرسول خلاف قول الباطنية، لذلك نكفّرهم بإنكار ذلك». وقال في قوله تعالى: (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) «3» وقوله: (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ... ) «4» إن الآيات تدل على دوام الجنة فيبطل قول جهم. «وتدل على أنها لم تخلق بعد، وإنما يخلقها الله تعالى يوم القيامة، إذ لو كانت مخلوقة وقد ثبت أن الموجودات كلها تفنى لانقطعت، وذلك بخلاف قوله تعالى (أُكُلُها دائِمٌ)». وهذا هو رأيه في مسألة خلق الجنة بالرغم من أنه قال: إن الأكثر على أنها مخلوقة الآن. وإن الحسن البصري قال إنها مخلوقة بعينها، «ثم يعيدها الله تعالى يوم القيامة ويزيد فيها عرضا وطولا» «5». ورأيه السابق

_ (1) راجع التهذيب، المجلد الأخير ورقة 69/ ظ. وانظر المجلد الأول- سورة البقرة- ورقة 41/ ظ. (2) الآيتان 17 - 18 سورة الطور وانظر الآيات التالية، التهذيب، ورقة 69. (3) الآية 25 سورة البقرة، ورقة 41. (4) الآيتان 17 - 18 سورة الطور- وانظر الآيات التالية- ورقة 69. (5) انظر التهذيب- في تفسير سورة الحديد- ورقة 86/ ظ.

خامسا: تعريفات وأمور فلسفية

الذي صرح به في موضع أو موضعين اعتاذ على نسبته في سائر المواضع إلى أبي هاشم، وإلى أبي علي وأبي هاشم، دون أن يعقب عليه «1». خامسا: تعريفات وأمور فلسفية وأخيرا فإن من أبرز آثار منهج الحاكم الكلامي في تفسيره، عنايته بكثير من التعريفات الكلامية والفلسفية بمناسبة شرحه اللغوي لبعض الألفاظ، أو محاولته الوقوف على ما تدل عليه الآية من أحكام- وتذكّر طريقته هذه بطريقة الرماني في تفسيره الذي أشرنا اليه- كما نجد ذلك في تعريفه «للنظر» والظن، والعلم، والفناء، والخلق، والحياة، وأمور أخرى كثيرة. ونكتفي هنا ببعض شواهده الهامة البارزة. 1 - الموت والحياة: قال في شرحه لقوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ... ) «2» في بيان المفردات: الموت ضد الحياة،

_ (1) وقال في قوله تعالى- في سورة النجم- (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) إن الآيات تدل على تحقيق ما رأى وأنه لم يكن تخيلا ولا في المنام- وقد دافع الحاكم عن قول جمهور المسلمين بالمعراج، وأنه كان بالجسد والروح، وشنع على بعض من أنكره منهم. وعنده أن المعراج أكبر معجزة للرسول بعد القرآن- وتدل على أن «الجنة عند السدرة في السماء السابعة» ثم لم يزد على للقول: «وقيل إنها جنة الخلد، وقيل هي الجنة التي كان فيها آدم!!» ورقة 72/ ظ. وقال في تفسير سورة الكوثر: «ورووا أنه- صلى الله عليه- رأى الكوثر ليلة المعراج» ثم قال: ولا يقال أليس يفني بالفناء؟ وذلك لأنه يجوز وجوده في الحال وإن فني ثم يعاد. 157/ ظ. (2) الآية 28 سورة البقرة، ورقة 18/ ظ. وانظر أيضا الآية 2 من سورة الملك، ورقة 106/ ظ.

وهما يتعاقبان على الجملة. ولا خلاف أن الحياة عرض يحيا به الإنسان وسائر الحيوانات، ولا يقدر عليه إلا الله تعالى، ومن خاصة الحياة الإدراك. فأما الموت فالأكثر على أنه معنى يضاد الحياة، ولذلك قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) وقيل: ليس بمعنى، عن أبي هاشم. 2 - الفناء والبقاء: قال في تفسير قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) «1» «اللغة: الفناء: انتفاء الجسم، فنى يفنى فناء. والفناء: معنى يضاد الجواهر، وذلك لأن الجوهر باق فلا ينتفي إلا بضد أو ما يجري مجرى الضد، وضده الفناء. «واختلف المتكلمون في فناء العالم، فذهب بعضهم إلى أنه لا يفنى، والباقون إلى أنه يفنى، ثم اختلفوا: قيل: يخلق الفناء معنى، عن أبي علي وأبي هاشم. وقيل بأن لا يخلق فيه البقاء فيفنى، عن أبي القاسم وقيل بأن يعدمها، عن أبي الحسين الخياط. وقيل بأن يخلق فيها كونا لا يبقى، فإذا فنى الكون فنيت الجواهر. «واختلفوا في البقاء والفناء، فقيل: البقاء ليس بمعنى، والفناء معنى، عن شيخينا. وقيل: البقاء معنى، والفناء ليس بمعنى، عن أبي القاسم. وقيل كلاهما ليس بمعنى، والباقي هو مستمر الوجود، والبقاء استمراره. والفناء إعدام الموجود، والفاني الذي عدم بعد الوجود، عن أبي الحسين الخياط، وقيل هما معنى، عن بعضهم». ثم قال في الأحكام التي تدل عليها هذه الآية: إنها تدل على أن الخلق

_ (1) الآيتان 26 - 27 سورة الرحمن، ورقة 79/ و.

يفنى «على ما نقوله». قال: «وإذا كان الفناء ضد الجواهر فلا اختصاص له ببعض الجواهر دون بعض فيفنى الجميع، خلاف ما قاله أبو علي إنه يختص بجهة! إذ لو اختص بجهة لكان مثلا للجواهر لاشتراكها في التحيز». قال: «وقد شنع على شيخنا أبي هاشم قوم من الجهلة بهذه المسألة وقالوا: عنده أنه تعالى لو أراد أن يفنى بعض الجواهر دون بعض لا يقدر عليه! وهذا جهل لأنه تعالى لا يريد ذلك، فإما أن يريد فناء الجميع، أو لا يريد فناء بعضه دون بعض لأنه ليس بمقدور. «ثم يقال للقوم: لو خلق الله تعالى عشرة أجزاء من البياض في محل، فلو خلق فيه جزءا من السواد يبقى الجميع؟ فلو قيل: فلو أراد فناء بعضها دون بعض كيف كان يكون؟ فكلّ جواب لهم هو جوابنا ... الخ «1». «ومتى قيل: فما الفناء؟ قلنا: عرض لا يقدر عليه غيره تعالى، ويضاد الجواهر، وليس بمتحيز، ولا يكون في جهة، ومن حقه ألا يبقى. وهل هو مدرك؟ منهم من قال بلى، ومنهم من قال لا، وتوقف القاضي» «2». وقد فرع الحاكم على اختلاف رأي شيخيه في مسألة فناء الأجسام، استقامة بعض التأويلات على مذهب أحدهما دون الآخر، قال في قوله تعالى- في مسألة حضور عرش بلقيس عند سليمان بلمح البصر- (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ... ) «3» إن مشايخه ذكروا في تفسير إحضار العرش

_ (1) راجع مقالات الإسلاميين للأشعري 2/ 51. (2) التهذيب، ورقة 79/ ظ. (3) الآية 40 سورة النمل، ورقة 29/ ظ.

بسرعة أربعة وجوه: أحدها: أن تحمله الملائكة بأمره تعالى. وثانيها: أن تحمله الريح. وثالثها: أن يخلق الله تعالى فيه حركات متواليات. والرابع: أنه أعدمه في ذلك الوقت وأعاده عند سليمان في مجلسه. قال الحاكم: «وهذا صحيح على مذهب أبي علي حيث يجوز فناء بعض الأجسام دون بعض. فأما عند أبي هاشم فلا يجوز». 3 - الاعادة: أما الإعادة فقد «أعاد» مصطلحاتهم فيها وخلافاتهم في مواضع كثيرة، فعله في المسألة السابقة، ولكنه هنا يكاد لا يضل طريقه إلى عرضها بنفس التلخيص والترتيب، كما فعل عند الكلام على قوله تعالى: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) «1» وقوله: (اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) «2» ولولا أن قوله تعالى: (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) «3» من السورة التي وردت فيها الآية الأولى السابقة، إذن لما عرض فيها موضوع الإعادة بشيء من زيادة التلخيص! قال في هذه الآيات: إنها تدل على البعث، وأن الله تعالى قادر على إعادة الخلق يوم الدين. ثم قال: «ومتى قيل: فما شرط الإعادة؟ قلنا: ثلاثة أشياء: كون الشيء مما يبقى. وأن يكون من مقدور قادر للذات. وأن لا يكون متولدا، عن القاضي. وقيل: أن يكون مما يبقى، ومقدور قادر للذات، وأن لا يكون جنسه مقدورا لقدره، عن أبي علي. وقيل: مما يبقى،

_ (1) الآيتان 2 - 3 سورة ق، ورقة 63/ ظ. (2) الآية 11 سورة الروم، ورقة 72. (3) الآية 42 سورة ق، التهذيب، ورقة 66/ و.

ويكون فعل قادر لذاته، ولا يكون متولدا عن سبب لا يبقى، عن أبي هاشم». «ومتى قيل: فما الذي تعتبر إعادته؟ قلنا: فيه خلاف! قيل: الأجزاء التي بها يكون زيد زيدا، عن القاضي. وقيل: الأجزاء والتأليف، عن أبي هاشم. ثم رجع وقال: الأجزاء والحياة، وهو قول أبي عبد الله البصري. وقيل: بل جميع الأجزاء التي هي الإنسان، وهو قول أبي القاسم، ويحكى ذلك عن أبي علي، ويحكى خلافه. «ومتى قيل: من يجب إعادته؟ قلنا: في العقل: من له حق الثواب، أو عوض. والشرع ورد بإعادة جميع الأحياء. «ومتى قيل: بماذا نبه تعالى على الإعادة؟ قلنا: بكونه قادرا على الأجسام التي لا يقدر عليها غير القادر للذات، وبكونه عالما بالأجزاء» «1». 4 - دليل التمانع: وأخيرا نختم هذه الفقرة بتعريف الحاكم لدليل التمانع، كما ورد في تفسيره لقوله تعالى: (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) «2» وهو من الأدلة التي عوّل عليها المتكلمون في إثبات وحدانية الله تعالى، على خلاف بينهم في عده من البراهين الخطابية أو القاطعة. وإن كان هو في الواقع من الأدلة والبراهين القاطعة، وكما يدل عليه كلام الحاكم في فهمه للآية الكريمة. قال الحاكم: «فأما دلالة التمانع فهو أن يقال: لو كان معه إله لكانا قديمين، والقدم من صفات الخاص. والاشتراك فيه يوجب التماثل فيجب كونهما قادرين عالمين حيين، ومن حق كل قادرين أن يصح أن يريد أحدهما

_ (1) التهذيب، ورقة 63/ و. (2) الآية 42 سورة الإسراء، التهذيب ورقة 19.

ضد ما يريده الآخر، من إماتة وإحياء أو تحريك أو تسكين أو اجتماع أو افتراق. [و] لا يخلو إما أن يحصل مرادهما، وذلك محال، أو لا يحصل وفيه نفيهما، أو يحصل مراد أحدهما وفيه نفي للثاني». ثم دافع عن هذا الدليل، فقال: «ولا يقال إن عند الدّيصانيّة هما قديمان ولكن أحدهما قادر عالم حي، والآخر عاجز جاهل ميت يقع الفعل منه طباعا، لأنا قد بينا أن الاشتراك في القدم يوجب التماثل في سائر صفات النفس، ولأنه لو وجب مخالفتهما، لاختلاف ما يقع منهما، لما جاز أن يكونا قديمين باقيين! «ولا يقال إن كل واحد منهما يريد ما يريده الآخر، لأنه يريد بإرادة لا في محل، وذلك لأنا نعني هذا في الارادة، فيفضل هذا إرادة التحريك والآخر التسكين، ولأن هذا يؤدي إلى التباس القادر بالقادرين! «ولا يقال إنهما لا يتمانعان لأن ما يريد أحدهما يكون حكمه، لأن كلامنا يجري بصحة التمانع لا بوقوع التمانع، وصحة التمانع تدل على أن أحدهما متناهي المقدور فلا يكون إلها! «ولا يقال: أليس صحة الظلم عندكم لا يدل على الجهل والحاجة، ووقوعه يدل، كذلك هاهنا! قلنا: صحة التمانع [و] وجوده سواء في دلالة أن أحدهما أقدر، وصحة الظلم لا يدل على الجهل والحاجة». ... وبعد، فهذه صورة عامة عن الآثار التي خلّفها منهج الحاكم العقلي، وثقافته الكلامية الجدلية في تفسيره، أتينا فيها على أهم هذه الآثار وأكثرها دورانا في هذا التفسير.

الباب الرابع طريقة الحاكم في تفسيره وآراؤه في علوم القرآن

الباب الرابع طريقة الحاكم في تفسيره وآراؤه في علوم القرآن

الفصل الأوّل طريقته في كتابه «التهذيب» تمهيد: بين المنهج والطريقة درج الحاكم، من أول كتابه «التهذيب في التفسير» إلى آخره، على تفصيل القول في الآية أو مجموعة الآيات التي يتناولها بالتفسير جملة- كمقطع أو وحدة تفسيرية- ضمن هذه النقاط الأساسية الثابتة، وهي: القراءة اللغة، الإعراب، المعنى، الأحكام. مرتبة على هذا الشكل، يضاف اليها في بعض الأحيان: النزول، إذا كان للآية سبب نزول خاص، ونقاط أخرى يراها ضرورية في بيان بعض الآيات دون بعض، وهي: النظم، إذا كان وجه ارتباط الآية بما قبلها مشكلا أو يحتاج إلى بيان. والفقه، إذا كانت الآية تتناول بعض الأحكام الفقهية في باب العبادات أو المعاملات. والقصة، إذا كان موضوع الآيات خبرا من أخبار الأمم السابقة، وكان في بعض الروايات تفاصيل زائدة عما يدل عليه الظاهر، كما سنفصل القول في ذلك في هذا الفصل. وترتيب هذه الفقرات جميعا عنده، على النحو

التالي: القراءة، اللغة، الإعراب، النزول، النظم، المعنى، الأحكام، القصة، الفقه. هذا الترتيب الذي جرى عليه الحاكم في تفسيره سميناه ب «طريقته» في التفسير أو كتابه التهذيب، ونعني بالطريقة هنا «خطته» في البحث، أو «الشكل» الذي اتبعه في تفسير الآية أو الآيات، والكتاب مرتب أصلا- ككل كتاب تفسير معروف- بحسب ترتيب السور في المصحف، مبتدئا بالفاتحة ومختتما بسورة الناس. فيبقى أن ما يمتاز به في الترتيب إنما هو طريقته أو خطته في تقسيم فقرات التفسير في الآية الواحدة، أو السورة الواحدة- في السور القصار- أو مجموعة الآيات من السورة. وسوف نبحث في هذا الفصل «طريقته» في عرض كل من هذه الفقرات، وما يذهب إليه في شأن الترجيح بين الأقوال والآراء في كل واحدة منها. ومعلوم أن بعض هذه المسائل أو الفقرات- أو جلها الذي يعنينا إطالة الوقوف عنده- داخل فيما اصطلح العلماء على تسميته بعلوم القرآن، ولكننا آثرنا بحثها هنا مستقلة في فصل خاص، لنضع بين يدي القارئ صورة كاملة ومتميزة عن كتاب الحاكم كما أراد له صاحبه رحمه الله، وتركنا الحديث عما عداها من مسائل علوم القرآن الأخرى- مما عرض له الحاكم في تفسيره- كنزول القرآن وإعجازه والمكي والمدني ... إلى الفصل القادم. والنقطة الهامة التي نود الإشارة اليها قبل المضي مع الحاكم في فقرات كتابه تلك، هي أن هذا التحديد الذي ذكرناه لمعنى «الطريقة» في دراستنا هذه، يقطع الطريق على التباسها بالمنهج الذي انتهينا من بحثه في

أولا: القراءة

الباب السابق، فالطريقة هنا لا تعدو أن تكون خطة بحث، أو خطة بحث تتناول بالدرجة الأولى معلومات شكلية وتنظيمية دقيقة، إلى جانب بعض المعلومات في أهم فقرات علوم القرآن عند الحاكم. وهذه لا صلة لها بالمنهج، أو لا صلة لها بمنهج الحاكم الكلامي الذي وجدناه يحكم تفسيره وتنعكس آثاره- أولا- على كلامه على «المعنى» و «الأحكام» وهما الفقرتان اللتان سنقف أمامهما هنا من ناحية «الطريقة» أو من وجهة شكلية بحتة. وبالرغم من أن بعض الفقرات الأخرى لا يصعب على الباحث التماس ما يؤيدها من منهج الحاكم- بمفهومه العام لا بقواعده التي تحدثنا عنها آنفا- فإننا نرجو أن نخرج في هذا الباب من أبواب الرسالة عن كل لون من ألوان التكرار! أولا: القراءة 1 - قال ابن الجزري في حد القراءة الصحيحة: «كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها .. ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها: ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عمن هو أكبر منهم» «1» وقال أبو عمرو الداني في بيان الركن الأول: «وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية،

_ (1) النشر في القراءات العشر 1/ 9.

بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشوّ لغة، لان القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها» «1» 2 - وذهب المعتزلة إلى اشتراط التواتر في القراءة، مع تسليمهم بعدم الالتزام بالافشى في اللغة، فإذا ثبت في الآية الواحدة عدة قراءات، جميعها مستفيضة قبلوها جميعا، في حين رفضوا جميع القراءات الشاذة وروايات الآحاد، وقالوا إن القرآن لا يثبت بمثلها، قال القاضي عبد الجبار: «على أن القراءات المختلفة معلومة عندنا باضطرار، ولذلك نستجهل من يرويها من جهة الآحاد» «2» 3 - وذهب الزيدية إلى اعتماد قراءة أهل المدينة وهي قراءة نافع، قال يحيى بن حميد: «ومعتمد أئمتنا قراءة أهل المدينة، وهي قراءة نافع والهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم، وقراءة ولده المرتضى محمد، اللذان أظهراها في بلاد الزيدية باليمن» «3» 4 - أما صاحبنا الحاكم فلم يشر في كتابه إلى اعتماده قراءة واحد بعينه، وإنما صرح بقبول كل قراءة متواترة، على ما ذكره شيخه القاضي عبد الجبار، قال في مقدمة كتابه التهذيب: «وإنما تجوز القراءة بالمستفيض المتواتر دون الشاد والنادر. وكما لا يجوز إثبات القرآن إلا بنقل مستفيض كذلك القراءة! وما تواتر نقله فلا يجوز رد شىء منها لان كلها منزلة

_ (1) المصدر السابق، ص 10 - 11. (2) المغني 16/ 162. (3) نزهة الأنظار، ورقة 24/ ظ.

ثابتة» «1» وهذا هو ما جرى عليه في كتابه وتشدد فيه. أ) قال في قوله تعالى: (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) «2». القراءة الظاهرة: (لقوا) بغير ألف، وعن بعضهم: لاقوا، قال: «ولا يجوز أن يقرأ به وإن جاز ذلك في العربية؛ لان القراءة سنة متبعة لا تثبت إلا بالنقل المستفيض» وقال في الصفحات الاولى من كتابه أيضا في تفسير الفاتحة- قوله تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) - «قرأ أبو عاصم والكسائي ويعقوب «مالك» بالالف. وهي قراءة الخلفاء الاربعة وجماعة من الصحابة والتابعين وقرأ الباقون بغير ألف». ثم قال: «وكلاهما مرويان عن النبي صلّى الله عليه وسلم قراءتان مشهورتان» وبين بعد ذلك اختلافهم في أي القراءتين أمدح، ولم يصرح مع ذلك بترجيح واحدة على الاخرى- على عادته- وإنما ختم هذه الفقرة برد بعض القراءات الأخرى في الآية، قال: «فأما ما روى في (مالك) من القراءات الشاذة، نحو: ملك بجزم اللام. ومالك، بنصب الكاف على النداء ورفعها، وإن كان جائزا في العربية فلا يجوز القراءة به لما بيناه» «3» ب) فإذا كانت القراءة غير مستفيضة، ومخالفة مع ذلك للعربية،

_ (1) التهذيب المجلد الأول، ورقة 1/ و. (2) الآية 76 سورة البقرة، ورقة 102 - 103. (3) ورقة 7/ و. وذكر في قوله تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) إنها في حرف ابن مسعود مرة واحدة غير متكررة! قال: «وهذا لا يصح الاعتماد عليه لأنه من الآحاد» ورقة 149/ ظ.

فإنه يعنف في ردها، وإنكار أن تكون مضافة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال في قوله تعالى: (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) «1» إن القراءة المجمع عليها: «رفرف» قال: وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قرأ: رفارف، على الجمع، وعباقرى بالألف ثم قال: «ولا يصح هذا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا تجوز القراءة به، والقرآن لا يثبت إلا بالنقل المستفيض، وقد ذكر أهل العربية أن من قرأ «عباقرى» فقد غلط ... » «2» ج) وربما التمس لبعض القراءات المفردة أو الشاذة بعض وجوه التأويل، كأن يحملها على أنها تفسير، أو أن من قرأ بها إنما قصد إلى بيان جوازها في المعنى لا أنها قراءة، ونحو ذلك. ويبدو أنه إنما يذكر هذه القراءات- أصلا- لمثل هذا التوجيه، أو لبيان شذوذها وأنها مما يجب أن يرفض، قال في قوله تعالى: (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) «3»: إنه روى عن زيد بن علي عليهما السلام: يضرهم، بضم الياء وكسر الضاد، قال: «ويحمل على أنه بيّن أنه لو قرئ به لكان صحيحا لا أنه قراءة» وذكر في قوله تعالى: (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) «4» أن قراءة العامة «طلح» بالطاء. قال: «وعن علي: طلع، بالعين، رواه عنه ابنه الحسن عليهما السلام. وعن قيس

_ (1) الآية 76 سورة الرحمن، ورقة 81/ و. (2) راجع الطبري 27/ 165 والقرطبي 17/ 193. (3) من الآية 102 سورة البقرة، ورقة 31/ و. (4) الآيات 27 - 29 سورة الواقعة، ورقة 82/ و.

ثانيا: اللغة

ابن سعد قال: قرأ رجل عند علي: (وطلح منضود) فقال علي: ما شأن الطلح؟ إنما هو: وطلع، ثم قرأ (طلعها هضيم) فقلت: إنها في المصحف بالحاء أفلا نحوّلها؟ فقال: (إن القرآن لا يهاج اليوم ولا يحوّل!) قال الحاكم: «وهذه أخبار آحاد لا يصح بمثلها إثبات القرآن. وكيف يقول علي هذا وجميع المصاحف على الحاء؟ ومصحف علي بالحاء! وعليه إجماع القراء في الآية. فنقطع أنه لا يصح عن الحسن وعن علي عليهما السلام. وعلى بعد يمكن أن يتأول أنه بين جوازه لو قرئ!!». وأكثر القراءات التي عدها تفسيرية من مصحف ابن مسعود- وقسم كبير من التي حكم بردها لأنها آحاد، منه أيضا- قال في قوله تعالى: (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) «1» إنه ذكر أنه في مصحف ابن مسعود: (وفي الكلام غير مبين) قال: «ويحمل على أنه فسر به». وقال في تعالى: (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) «2» إن القراء اجمعوا على (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) وعن ابن مسعود: قالوا سل ربك، قال: «وهذا محمول على أنه فسر الدعاء به لا أنه قرأه!». ولهذا فإنه يورد بعض هذه القراءات في بند «المعنى» لا في «القراءة» ليشير إلى أنها من قبيل التفسير. ثانيا: اللغة أما شرحه للمفردات اللغوية فهو شرح فائق وغنيّ إلى درجة كبيرة،

_ (1) الآية 18 سورة الزخرف، ورقة 37/ ظ. (2) الآية 70 سورة البقرة، ورقة 95/ و،

وهذا فيما يظهر من أهم ميزات كتاب الحاكم، وإن كان مما لا شك فيه أن لقاعدته الأساسية التي قدمنا الكلام فيها- وهي أن مأخذ تفسير القرآن من اللغة- أثرها الكبير في سلوكه هذا الطريق. 1 - والأمر الذي لا يكاد يتخلف في هذا الشرح، هو إيراده أولا مترادفات الكلمة أو نظائرها- كما يسميها دائما- وغالبا ما تكون هذه النظائر ثلاث مفردات، يعرّف الكلمة بعدها بالضد أو النقيض، ثم يبحث فيها عن التصريف وأصل الاشتقاق. ويورد بعدها معنى الكلمة في لسان العرب. 2 - ولا يخلو في ذلك كله- في الغالب- من الاستشهاد بالحديث والشعر والأمثال وأقوال أئمة اللغة، حتى ليظن القارئ في بعض الأحيان أنه يراجع مادة في أحد المعاجم! 3 - يضاف إلى ذلك أيضا إيراده في بعض الأحيان كثيرا من التعاريف الكلامية الاعتزالية- كما قدمنا- إلى جانب بعض التعاريف الاصطلاحية أو الشرعية، والأمور الفقهية. 4 - والنقطة التي يلاحظها القارئ بعد أن يمضي قليلا في تفسير الحاكم هي أنه رحمه الله قد ألزم نفسه شرح الكلمة الواحدة في كل مرة ترد فيها، سواء في السورة الواحدة، أو في سائر السور، مع شيء من التفاوت في الإيجاز والاطناب. بل إن هذه هي طريقة الحاكم في بيان معنى الآيات عامة، يذكر فيها في كل موضع ما لا بد منه، فتراه مثلا يورد جملة ما قيل في فواتح السور عند كل فاتحة منها، وجملة ما قيل في أسلوب القسم في القرآن حيث ورد أي قسم، وكذلك تجده يكرر

المصطلحات والأمور الخلافية، ولا يحيل على ما تقدم في تفسيره إلا في أحوال جد نادرة.- وإن كان من الغريب نوعا أن يفصّل في بعض المواطن اللاحقة كالسور المكية ما أوجز فيه القول في المواطن المتقدمة! - 5 - ونورد فيما يلي بعض النماذج اللغوية من تفسير الحاكم، تظهر فيها «جملة» هذه الطريقة التي تحدثنا عنها: أ- قال في شرح معنى «الخديعة» في تفسيره لقوله تعالى (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) «1»: الخديعة والغرور والتمويه: نظائر، وخلاف الخديعة النصيحة، وأصله الاحتماء، ومنه المخدع لأنه تخفى فيه الأشياء. وحقيقته: الإيهام بخلاف الحق بالتمويه والتزوير، ويقال: الحرب خدعة- بفتح الخاء- لغة النبي صلّى الله عليه وآله، والضم لغة، والأول أفصح. والخداع: الفساد، والخادع: الفاسد من الطعام، قال الشاعر: أبيض اللون لذيذ طعمه ... طيّب الريق إذا الريق خدع أي فسد. وعرّف «الصبر» بأنه حبس النفس عما تنازع اليه قال: ونقيضه الجزع، قال الشاعر: فإن تصبروا فالصبر خير مغبة ... وإن تجزعا فالأمر ما تريان والصبور: الكثير الصبر. ومنه: نهى أن يقتل شيء من الحيوان مصبورا، وهو أن يحبس حيا ثم يرمى فيقتل، ومنه: قتل فلان صبرا «2».

_ (1) الآية 9 سورة البقرة، ورقة 21/ و. (2) التهذيب 1/ ورقة 141/ ظ.

وقال في تعريف «الحسرة»: «والحسرة والتندم والتأسف من النظائر، وهو الاغتمام بما فات وقته. وأصل الحسرة: شدة الندم ... وأصل الباب هو الانقطاع، يقال: حسرت الناقة: انقطع سيرها كلالا، ومنه: (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) أي منقطع، فكأن النادم يحسر كما يحسر الذي تنقطع به دابته في السفر البعيد». وقال في شرح معنى «الطارق» في قوله تعالى: (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ). الطارق: الآتي ليلا، يقال: طرقني فلان، أي أتاني ليلا. وأصل الطرق: الدق. ومنه المطرقة لأنه يدق بها، والطريق لأن المارة تدقه بأرجلها، والطارق يأتي في وقت يحتاج فيه إلى الدق للتنبيه، وفي الدعاء: نعوذ بالله من طوارق الليل إلا طارق يطرق بخير، وقال الشاعر: ألا طرقتنا بعد ما هجعوا هند «1» وقال في «السّفرة» في قوله تعالى: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ): «والسفرة: الكتبة لأسفار الحكمة، واحدها سافر، كقوله: كاتب وكتبة، وساحر وسحرة، وكافر وكفرة، وعامل وعملة، وفاجر وفجرة. وقيل: السفير الرسول، وسفير القوم: الذي يسعى بينهم بالصلح، قال أبو مسلم: السافر حامل الكتاب، والجمع سفرة، وسفرت بينهم: أصلحت، قال الشاعر: وما أدع السفارة بين قومي ... وما أمشي بغش إن مشيت وأصل الباب: الكشف عن الأمر، يقال: سفرت المرأة وجهها، إذا

_ (1) المصدر السابق، ورقة 134/ و.

كشفته، وأسفر الصبح: أضاء فكأنه يكشف عما في النفس. والأسفار: الكتب لأنها تكشف عن المعنى، والواحد: سفر. ب- وعرّف الرهبة في قوله تعالى (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) بأنها الخوف والخشية، قال: ومنه: الراهب، ومنه: رهبوت خير من رحموت، يعني أن ترهب خير من أن ترحم. ثم قال: «والرهبة قيل جنس برأسه من أجناس الأعراض. وعندنا أنه يرجع إلى الاعتقادات، فمن اعتقد في شيء ضررا دعاه إلى اجتنابه فهو رهبة! ومن اعتقد فيه نفعا دعاه إلى فعله فهو رغبة». «1» وفي شرحه اللغوي أيضا لكلمة «أسباب» في قوله تعالى: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) قال: «والسبب: كل ما يتوصل به إلى الشيء الذي يبعد عنك، وجمعه أسباب، يقال للطريق: سبب، والحبل سبب. والفرق بين السبب والعلة أن السبب يوجب الذوات، كالضرب يوجب الألم، والكون يوجب التأليف. والعلة توجب الصفات، كالحركة توجب كونه متحركا، وغير ذلك مما قيل فيه». «2» وقال في «الهبة» في قوله تعالى: (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً): «والهبة والصلة والعطية من النظائر، وهب فهو واهب. والهبة عقد جائز في الشرع، صحتها بالإيجاب والقبول بالاتفاق، ثم اختلفوا فقيل: وفي القبض والتسليم، عند أكثر الفقهاء. وقال الهادي: تصح من

_ (1) التهذيب، ورقة 67/ و. (2) المصدر السابق، ورقة 21/ و.

ثالثا: الاعراب

غير قبض!» «1» وقال في «الشّفق» في قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ): الشفق أصله الرقة، ومنه: أشفق على كذا فهو شفيق. وأشفق عليه: خاف هلاكه، وأشفق منه: خاف إذا رق بالخوف. وثوب شفق: رقيق. والشّفق: البقية الضعيفة من أثر الشمس إذا غابت، سميت بذلك لرقتها، وبعضهم يقول: الشفق الحمرة، وهو قول الخليل والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي ومالك. ومنهم من يقول: البياض، وهو قول أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء، وقول ثعلب وجماعة من أهل اللغة. وقال الفراء سمعت بعض العرب يقول لثوب أحمر: كأنه الشفق! قال الشاعر: أحمر اللون كحمر الشفق وقال آخر: قم يا غلام أعنّي، غير محتشم ... على الزمان، بكأس حشوها شفق! «2» ثالثا: الاعراب وأما طريقته في هذه الفقرة من فقرات تفسيره، فيمكن تلخيصها فيما يلي: 1 - لم يعرض الحاكم بالطبع إلى إعراب جميع آيات القرآن، ولكن قلما تخلو واحدة من مجموعة الآيات التي يفسرها مع بعض من موطن أو أكثر يحتاج إلى إعراب، ولهذا فإن فقرة الإعراب تبدو للقارئ فقرة ثابتة في تفسير الحاكم لا تكاد تتخلف، اللهم إلا بمقدار ما تتخلف

_ (1) نفس المصدر 4/ ظ. (2) ورقة 139/ ظ. والشواهد تملأ كل صفحات الكتاب.

«القراءة» مثلا، وذلك في أحوال نادرة على وجه العموم. 2 - المواطن التي عرض الحاكم لإعرابها في القرآن، هي في الواقع ما يشكل على طالب العلم الذي شدا طرفا من علم النحو، وإن كان لا ينكر أهمية هذا الإعراب باعتباره طريقا إلى التفسير وبيان معنى الآية، كما لا ينكر أنه قد يورد هنا في كثير من الأحيان أمورا دقيقة، وشيئا من فلسفة النحو، مما يطلبه آخرون. 3 - استطرادات الحاكم في «الإعراب» كثيرة جدا، وبخاصة في الأجزاء الأولى من الكتاب، وموضوع هذه الاستطرادات في الغالب هو قواعد النحو ذاتها، فتراه مثلا يخرج من إعراب «إنّ» إلى ذكر أخواتها جميعا، وذكر المواضع التي تكسر فيها همزتها وجوبا! كل ذلك مع الأمثلة والشواهد. كما تراه مثلا بمناسبة إعراب واو بأنها واو القسم يخرج إلى الحديث عن حروف القسم والتمثيل لها جميعا. ويستطرد من إعرابه لاسم الاستفهام «كيف» وعن أي شيء يسأل به عنه، إلى ذكر سائر أدوات الاستفهام وعم يسأل بها، الخ هذا عدا إسرافه الزائد في ذكر وجوه الإعراب في الكلمة الواحدة أو الحرف الواحد، مع أن سبيله إلى الترجيح واضحة في بعض الأحيان، وربما يكون قد أشار هو نفسه إليها في نفس الموضع أو في موضع آخر. وما تزال عين القارئ تقع في كتاب الحاكم على عبارة «ويقال» ضمن فقراته «الإعرابية» يفرّع بها ويتساءل، وعلى عبارة: «قلنا» يجيب بها على هذا التساؤل! «1»

_ (1) أما عبارته الجدلية المفضلة في «المعنى» و «الاحكام» فهي: «ومتى قيل ... قلنا».

وقد تحملنا كثرة استطراداته تلك على الظن بأنه كان له هدف تعليمي في تفسيره من خلال إعراب القرآن، حيث يضع طالب العلم أمام نصوص العربية الخالدة وجها لوجه. ولا يبعد هذا الظن ما رجحناه من قبل من أنه قد وضع تفسيره المطول هذا بالعربية، قبل أن يكتب تفسيريه الآخرين بالفارسية، فلعله كان ينوي تلخيصهما عنه، وليست حاجة العرب- على كل حال- تقل كثيرا حاجة الفرس في القرن الخامس والقرون التالية إلى تذكّر قواعد اللغة وهم يقرءون التفسير، أو يقفون على وجوه الإعراب والتأويل. على أن العناية الزائدة بالإعراب في التفاسير المطولة كانت من طابع هذا العصر، كما أشرنا إلى ذلك في التمهيد لهذه الرسالة. 4 - وغني عن البيان أن إعراب الآية عند الحاكم طريق وتمهيد لتفسيرها وبيان «معناها» في الفقرة التالية، ولكنه ربما قدم القول هنا في حل إشكال سوف يعترضه عند الكلام على «المعنى» لأن ظاهر المعنى مما لا يجوز عنده، أو مما لا يقول به أحد، قال في قوله تعالى: (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) «1» «الاعراب: يقال: ما حكم الاستثناء في قوله (إلا من ظلم)؟ قلنا: فيه وجوه: أولها إلا من ظلم فيما فعل من صغيرة، فيكون الاستثناء في هذا متصلا، في معنى قول الحسن. وثانيها: لكنه من ظلم العباد فهذا

_ (1) الآيتان 10 - 11 سورة النمل، ورقة 23 وانظر كذلك الورقة 49 من تفسيره لسورة البقرة.

أمره، فيكون استثناء منقطعا. وثالثها: تقديره: لا يخاف لدي المرسلون إنما الخوف على من سواهم إلا من ظلم، فمن بدل حسنا بعد سوء. وقيل: «إلا» معنى الواو، كقوله (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) تقديره: فلا على من ظلم ثم تاب. وقيل: «إلا» بمعنى «أما» يعني: أما من ظلم ثم بدل حسنا فلا خوف عليه أيضا». 5 - أفاد الحاكم في موضوع «الإعراب» من مصادر خاصة بإعراب القرآن ومعانيه وكتب أخرى، فوق مصادره العامة التي تحدثنا عنها فيما تقدم، وما تزال أسماء الزجاج والفراء وأبي عبيدة والأخفش وابن السراج تتردد في أكثر هذه الفقرات، كما تتردد أسماء الكسائي وقطرب وسيبويه، إلى جانب الاحتجاج الدائب بمذهب الكوفيين والبصريين. 6 - ونكتفي فيما يلى ببعض الشواهد الموجزة التي تولى فيها- رحمه الله- حل بعض الإشكالات: قال في قوله تعالى (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) «1»: «ومتى قيل: كيف قال إنا رسول وهما اثنان؟ فجوابنا: فيه وجوه: أحدها معناه: كل واحد رسول. وثانيها أنه مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، كأنه قيل: ذو رسالة، قال الشاعر: لقد كذب الواشون ما بحث عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول أي برسالة، عن الفراء. وذكر أن الرسول يكون في معنى

_ (1) الآية 16 سورة الشعراء، ورقة 3/ و.

الواحد والاثنين والجمع، يقولون: هؤلاء رسولي، وهذان رسولي، وهذا رسولي، وإلى هذا الوجه ذهب أبو عبيدة». وقال في قوله تعالى: (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) «1»: في قوله (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) قولان: قيل تقديره: وما أنتم بمعجزين، ولا من في السماء بمعجز. قال: وهو من غامض العربية للضمير الذي في الثاني، ونظيره قول حسّان: فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء أى: ومن يمدحه، فأضمر؛ عن الفراء وأبي زيد. «وقيل: لا يعجزه أمرنا في الأرض ولا في السماء». وقال في قوله تعالى (وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها، وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها، وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها، وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) «2»، قال: «الأعراب: الواو في قوله (وَالشَّمْسِ) ونظائرها واو القسم، ولذلك كسر ما بعدها. وما بعده معطوف عليه. وحروف القسم ثلاثة: الباء وهو الأصل، ثم الواو فرع عليه. ثم التاء فرع على الواو، فلا تدخل إلا على اسم الله تعالى، كقوله (تالله). (قد أفلح) قال الخليل: اللام مضمر فيه، أي لقد أفلح، وقيل: بل فيه تقديم وتأخير، تقديره: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَالشَّمْسِ وَضُحاها.

_ (1) الآية 31 سورة الشورى، ورقة 49/ و. (2) الآيات 1 - 10 سورة الشمس، ورقة 147/ و.

رابعا: النزول

والضمير في (جلاها) يعود على الشمس وقد تقدم ذكره .. وقيل يعود على الكناية عن الظلمة، ولم يذكر لأن معناه معروف كقولهم: أصبحت باردة وأمست عاصفة، فكنى عن أشياء لم يجر لها ذكر .. » رابعا: النزول عد الحاكم من علوم القرآن: النزول، قال «فإن منه ما نزل بسبب ثم قصر على سببه، وقد يتعدّى إلى غيره. والواجب اعتبار اللفظ دون السبب» «1». وقد كان لاعتباره هذا- الذي هو مذهب الأكثر- ولمنهجه في الاعتماد على اللغة، وموقفه من خبر الواحد عموما، أثره في عدم عنايته الزائدة بأسباب النزول. 1 - فهو دائما يورد ما «قيل» في الآية من أسباب النزول مضافا إلى الصحابة أو التابعين وسائر السلف، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون من قبيل الآثار أو من قبيل التفسير في كثير من الأحيان، حتى يظن الباحث أن فكرة الحاكم عن سبب النزول- بمعنى أن الآية نزلت لحادثة بعينها أو بعد سؤال بعينه أو ما شاكل ذلك من أسباب النزول- لا تخلو من غموض، فهو قد يورد ما «قيل» في الآية من أسباب نزول، ثم يعقب عليها بأن الأولى من ذلك حمل الآية على عمومها لأن المعتبر باللفظ دون السبب! أو يرجح بعض الأقوال على بعض بنظم الكلام أو بما ذهب إليه الأكثر! مع العلم بأن حمل الآية على العموم اعتبارا باللفظ أو بعموم اللفظ لا يمنع أن يكون لها سبب نزول خاص هو «الأولى»

_ (1) مقدمة التهذيب، ورقة 2.

من سائر أسباب النزول نظرا لصحته أو لإجماع الصحابة عليه، أو ما شاكل ذلك من المرجحات! 2) ولذلك فإن الحاكم لم يرجح سببا على آخر إلا في مواطن قليلة، كما أنه لم يصرح برفض بعض أسباب النزول، بحجة أنها من أخبار الآحاد أو أن الظاهر لا يدل على صحتها!! إلا لمخالفتها لمنهجه كما تقدم. 3) ومن شواهده الموضحة لهذا الموقف من أسباب النزول، ما يلي: أ- قال الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ، أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ .. ) «1» قال الحاكم: قيل: نزل قوله (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) إلى آخر الآية في رجل من بني جميح يكنى أبا الأشدين، كان شديد القوة يضع الأديم تحت قدمه ويقول: من أزالني فله كذا، فلا يطيق أحد نزعه إلا قطعا، ويبقى موضع قدمه. وقيل إن أبا الأشدين هذا أنفق مالا كثيرا في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإياه عني بقوله: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) لقوته!. وقيل: نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة كان يقول: أهلكت مالا كثيرا في عداوة محمد، أي أنفقت. وقيل: بل نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وذلك أنه أذنب ذنبا فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتكفير، فقال لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات مذ دخلت في دين محمد. قال الحاكم «والأولى أنها على عمومها، فالمعتبر باللفظ لا بالسبب!».

_ (1) الآيات 4 - 7 سورة البلد، ورقة 146/ و.

وقال في قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) «1» إنهم اختلفوا في سبب نزوله على ثلاثة أقوال: «أولها أنها نزلت في أبي بكر. وثانيها أنها نزلت في رجل من الأنصار. وثالثها أنها عام في جميع من كان بهذه الصفة» ثم فصل هذه الأقوال والروايات ولم يعقب عليها بشيء، وكأن العبرة في سبب النزول ليست في عموم اللفظ!. ب) وقال في قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ... ) «2» قيل نزلت في المنافقين والآية متصلة بقوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)؛ عن أكثر أهل التفسير. وقيل: نزلت في اليهود، وقيل إن أهل هذه الصفة لم يأتوا بعد. قال الحاكم: «والأول أصح لأن عليه أكثر أهل العلم، ونظم الكلام يقتضي ذلك»! وذكر في سبب نزول قوله تعالى (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) «3» أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب، عن مقاتل، قال: كان يؤذي رسول الله ثم صار وليا وصهرا، تزوج بابنته رملة أم حبيبة، قال الحاكم: «وليس في الظاهر ما يدل عليه، وأبو سفيان لم يكن وليا قط! وقد قال يوم عثمان: إني لأرجو أن يعود ديننا

_ (1) الآيات 5 - 7 سورة الليل، ورقة 148. (2) الآية 11 سورة البقرة، ورقة 42/ و. (3) الآية 34 سورة فصلت، ورقة 27/ و.

كما عاد الملك إلينا! وقال يوم السقيفة لعلي ما قال يحثه على محاربة أبي بكر حتى زجره علي ... ». ولم يفت الحاكم أن ينازل القدرية المجبرة في أسباب النزول، ويعرض فيها لنقض مذهبهم، أورد في قوله تعالى: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) «1» من سورة المجادلة، أنها نزلت في القدرية عن ابن عباس، قال ابن عباس: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ينادي مناد يوم القيامة: أين خصم الله! فيقوم القدرية مسودة وجوههم يقولون: ما عبدنا شيئا دونك! قال ابن عباس: صدقوا ولكن أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون. قال الحاكم: «وقد بينا في سورة القمر أن القدرية هم المجبرة الذين يجعلون كل القبائح بقدره، وروينا عن النبي ما يدل عليه، وبينا الوجوه في ذلك، وذكرنا أن عليا رضي الله عنه بين ذلك بيانا شافيا .. » ثم استطرد في بيان دلالة هذا الخبر عن ابن عباس على ما قدمه في سورة القمر، ونقل عن الحسن أنه قال في قوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) إن إبليس يقوم فيقال له: لماذا لم تسجد لآدم ولم كفرت وأبيت؟ فيقول إنه منع من السجود وخلق فيه الإباء .. فيقال كذبت، فيقول لي شهود!! فيقوم ناس من هذه الأمة فيشهدون له فيخرج من أفواههم دخان يسوّد وجوههم، ويبعث بهم إلى النار». «2»

_ (1) الآية 18، ورقة 77/ ظ. (2) انظر الورقة 89/ ظ.

خامسا: النظم

خامسا: النظم قال الحاكم رحمه الله في بيان فكرته هذه في النظم: «إن القرآن على ما هو عليه من السور والآيات اتصل بعضها ببعض، كذلك أنزل، وفي ذلك غرض وفائدة» «1» وهذا ما دعا الحاكم في تفسيره إلى بيان هذه الصلة وتأكيدها بين الآيات في السورة الواحدة، وبين السور أيضا على ما هي عليه في ترتيب المصحف. ولهذا كان من نافلة القول أن نذكر بعد ذلك أن الحاكم يقول: إن ترتيب الآيات والسور توقيفي وليس من اجتهاد الصحابة. وإذا كان ترتيب الآيات- على ما يذهب إليه الحاكم- ليس فيه خلاف يعتدّ به، فقد ذهب بعضهم إلى أن ترتيب السور اجتهادي وليس بتوقيفي. وتتضح لنا فكرة الحاكم عن «النظم» وطريقته في هذه الفقرة- التي تستحق العناية والإفراد بالإشارة- من خلال النقط التالية: 1 - جرت عادة الحاكم أن يورد بضع آيات مجموعة- كأي مفسر آخر- ثم يبدأ بتفسيرها على طريقته التي نتحدث عنها في هذا الفصل: يبدأ بالقراءة فاللغة فالإعراب .. الخ، فإذا كانت الصلة بين هذه المجموعة والمجموعة التي تليها جلية لا تحتاج إلى بيان، ألمح إلى هذه الصلة في مطلع كلامه على «المعنى» في الآيات التالية، وإن كان وجه ارتباط الآيات بالآيات السابقة خفيا أو دقيقا يحتاج إلى بيان عقد له فقرة «النظم» هذه، يلتمس فيها وجه الصلة والارتباط، وبخاصة في المواطن التي يحسّ

_ (1) التهذيب المجلد الأول، ورقة 2/ ظ. ويعني بقوله: «كذلك أنزل» أنه أمضي على هذا النحو من الترتيب وحيا وتوقيفا.

القارئ فيها لانتقال الظاهر من موضوع إلى آخر، ويخفى عليه في نفس الوقت الوجه في هذا الانتقال- كما قدمنا. 2) أما إذا كانت الصلة بين آيات المجموعة الواحدة عنده تحتاج إلى شيء من البيان، أو فيها ما يحتاج إلى ذلك- وهذا واقع في كتاب الحاكم لأنه قد يفوته في بعض الأحيان حسن ضم الآيات بعضها إلى بعض- فإنه أيضا يتعهد هذه الصلة بالبيان على وجه جيد، دون أن يضع لها- بالطبع- عنوانا أو يضعها تحت هذه الفقرة- النظم-. 3) ولعل هذا إلى جانب ما قدمناه في النقطة السابقة، يفسر قلة هذه الفقرة- نسبيا- في كتاب الحاكم. ومن الملاحظ أنها في السور المدنية اكثر منها بكثير في السور المكية نظرا لطول الأولى وكثرة الموضوعات التي عالجتها. كما يلاحظ على مصادر الحاكم في هذه الفقرة- وهي نفس مصادره العامة التي تحدثنا عنها- أن اعتماده فيها على الرماني كان كبيرا، حتى إن أكثر نقوله عنه تكاد تكون في هذه الفقرة. ولعل هذا يرجح القول بعناية الرماني بالمناسبات بين الآيات، إلى جانب عنايته- التي تحدثنا عنها- بالتعاريف اللغوية الكلامية الدقيقة. 4) أما حديثه عن ارتباط السور بعضها مع بعض- بيان مناسبة آخر السورة لمطلع السورة التالية- فقد جرت عادته أن يقدمه بإيجاز قبيل الشروع في تفسير السورة- على الدوام- وبعد أن يكون قد ذكر ما ورد في اسم السورة وعدد آياتها، وما أثر في فضلها من الأخبار- كل ذلك على عادة أغلب المفسرين- ولم يضع لهذه المناسبات أي عنوان وإن كانت داخلة في حده للنظم كما قدمنا، وقد آثرنا الإلماع إليها هنا لصلحتها الوثيقة

بهذه الفقرة من كتاب الحاكم، أو لدخولها تحته على الأصح. ولا تخلو هذه المناسبات بين السور عنده- على إيجازها- من لفتات جيدة وملاحظات ذكية، كما سندل على ذلك ببعض الشواهد. 5) ونوضح فيما يلي طريقة الحاكم في هذه الفقرة ببعض الشواهد الموجزة، مبتدئين بشاهد أو شاهدين من أي موضع من تفسيره، عن طريقته الأساسية في الإشارة إلى الصلة بين الآيات في مطلع كلامه على «المعنى». أ- من مقاطعه التفسيرية في سورة محمد- صلّى الله عليه وآله وسلم- هذه الآيات: قال تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) الآيات 26 - 30. ووجه ارتباط هذه الآيات بسابقتها، لمكان التعليل في صدرها، ظاهر. ولكنه تحدث عن وجه ارتباطها بالآيات التالية: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) الآيات 31 - 35.

فقال في «المعنى: لما تقدم أنه يعلم اعمالهم عقبه بأنه مع علمه لا يجازيهم حتى يعملوا فقال ... » وقال في ربط هذه الآيات التالية من السورة: (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) ... إلى آخر السورة، «المعنى: لمّا حث على الجهاد بين أن ضعفه لأجل الدنيا فبين حالها لئلا يركن إليها، فقال سبحانه ... الخ). «1» ب- ومن شواهده في «النظم» - الذي نشير هنا إلى أنه أفاد فيها من منهجه إلى حد كبير- الشواهد التالية: قال تعالى: (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.) الآيات 22 - 25 سورة الزخرف. شرح الحاكم هذه الآيات ثم تساءل عن كيفية اتصال الآيات التالية التي تحكى قصة إبراهيم بهذه الآيات: قال تعالى: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ ... ) فقال في «النظم: يقال: كيف تتصل قصة إبراهيم بما قبلها؟ قلنا: لما ذم التقليد وأوجب اتباع الدليل، عقبه بذكر إبراهيم حيث خالف أباه واتبع الحجة، وأنكر ذلك أبوه وأهل بلده.

_ (1) التهذيب، ورقة 55.

«وقيل: لما أمر بمناظرتهم بقوله: (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) وهو ما دل عليه الدليل. قال فإن أبوا إلا التقليد فتقليد إبراهيم أولى لأنهم من أولاده يعظمونه ويدّعون أنهم على طريقته». «1» وقال أيضا في نفس هذا المقطع: «ويقال: كيف يتصل قوله: (بل متّعت) بما قبله؟ قلنا: لما عولوا على تقليد الآباء ولم يتفكروا في الحجة اغتروا بطول الإمهال، وإمتاع الله إياهم بنعيم الدنيا، فأعرضوا عن الحق. وقيل: لما ذكر إعراضهم بين أنهم أتوا من جهتهم، وأنه أزاح العلة وأمهل ومتع وأمر ونهى، كي يتفكروا ويؤمنوا». وفي سورة البقرة، خص الحاكم كلا من آية النسخ: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «2» والآيتين التاليتين: قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) وقوله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) بفقرة مستقلة. وتحدث في الآية الأخيرة- في النظم- عن وجه اتصالها بما قبلها، وقال إن في ذلك وجوها كثيرة «أحدها: أنه لما دل ما تقدم على تدبير الله في خلقه بما يأتي من الآيات، وبما ينسخه ويثبته، بين في هذه الآية أن الواجب أن يرضوا بذلك ولا يقترحوا! كأنه قيل: ألا ترضون بتدبيره، فلا تتخيروا الآيات ولا تقترحوا المحالات، كما سئل موسى من

_ (1) التهذيب، ورقة 38/ وظ. (2) الآية 106 وانظر التهذيب ورقة 141/ و.

قبل، وهو تعالى يأتي بما يعلم من المصالح فليس لأحد أن يعترض؛ عن علي بن عيسى [الرماني]. وثانيها: قيل لما تقدم النواهي قال: إن لم تسلموا لما أمركم الله كنتم كمن سأل موسى ما ليس له أن يسأله؛ عن أبي مسلم. وقيل: تقديره: لما أمر ونهى قال: أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم قوم موسى!. وقيل: إنه خطاب لليهود! عابهم حين تخيروا الآيات كما عابهم بالأفاعيل التي تقدم ذكرها». وذكر الحاكم من بعد في نفس السورة وجه الصلة بين الآيتين التاليتين: قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) - الآية 114 - وقوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) الآية 115. فقال: إن في ذلك بعض الوجوه منها: ما ذكره الأصم أنه لما تقدم الوعيد قال: ولله المشرق والمغرب فأينما تكونوا فهو معكم وليس بغائب عنكم. ومنها: ما ذكره بعضهم أنه لما تقدم ذكر الصلاة والمساجد «1» عقبه بذكر القبلة وبيانها. وقال أبو مسلم: إنه خطاب لليهود والنصارى حيث عاب بعضهم بعضا بأن قبلتهم مختلفة، فبين أنه ليس في جهة دون جهة، بل هو خالق الجهات بخلاف ما يقوله المشبهة، ومعنى (فثم وجه الله) أي جهة الله، يعني المشرق والمغرب الذي هو خلقه وملكه. وقيل: إنه

_ (1) انظر الآية 114.

خطاب للمسلمين، أي: لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه، فلله المشرق والمغرب والجهات كلها؛ عن علي ابن عيسى «1». ج) ومن شواهده في المناسبات بين السور قوله في مطلع سورة الحجرات إنه «لما ختم سورة الفتح بذكر الرسول- وهو قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ... ) الآية- افتتح هذه السورة بذكره وما يجب من تعظيمه وتوقيره وطاعته كما يليق به» فقال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ... ) «2». وقال في مناسبة سورة عم لسورة المرسلات، إنه لما ختم المرسلات بذكر القيامة ووعيد المكذبين: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ... ) افتتح هذه السورة بذكر القيامة ودلائل القدرة على صحة الإعادة، وبين فيها أحوال الناس، فقال تعالى: (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ... ) الآيات «3». وأخيرا قال في مناسبة سورة الجن لسورة نوح، وهي مناسبة لا تخلو من تكلف لأنه إنما طلبها من السورة السابقة في جملتها لا من ختامها كما جرت عادته في الغالب، قال: «ولما تقدم في سورة نوح اتباع القوم أكابرهم ورؤساء الضلال والكفر ولم يتبعوا نوحا، افتتح هذه السورة بحديث الجن، وأنهم اتبعوا الرسول ولم يتبعوا أكابرهم ورؤساء الضلال فيما

_ (1) راجع التهذيب، ورقة 147/ و. (2) التهذيب، ورقة 60/ و. (3) التهذيب، ورقة 130/ و.

سادسا: المعنى

بينهم؛ ليعلم الفرق بين من ربحت صفقته، وبين من خسر نفسه وعمله وأوبقها بعذاب جهنم» «1». سادسا: المعنى و «المعنى» و «الأحكام» هما لب تفسير الحاكم، وقد كانا محور دراستنا في الفصول السابقة التي كشفنا فيها عن منهجه في التفسير والتأويل. وقد وقفنا في هذه الفصول على ما يرفضه من وجوه المعنى في الآية أو يقبله تبعا لهذا المنهج. والذي نورده هنا في الكلام على هذه الفقرة من تفسيره إنما هو طريقته في عرض هذه المعاني والترجيح بينها. ونستطيع أن نحدد هذه الطريقة- كما وقفنا عليها في قراءتنا الطويلة لكتاب الحاكم- فيما يلي: 1) طريقته في إيراد الأقوال ووجوه المعاني: أ- يبدأ على الأعم بالمأثور الذي يختاره من تفسير السلف، ثم يتبعه بآراء شيوخ الاعتزال. ولم تجر عادته بمخالفة هذا الترتيب إلا إذا كان هناك توافق بين آراء هؤلاء وهؤلاء- ويكون التفسير هنا للسلف اختاره بعض رجال الاعتزال- فيضم الآراء والأسماء بعضها إلى بعض. ب- وهو يتحرى الدقة في نقل الآراء بصورة تدعو إلى الإعجاب، فكثيرا ما يقول بعد ذكره بعض الأقوال والآراء: «في معنى قول فلان»، وكأنه يعني أنه أتى بخلاصة كلامه أو سار على نهج معناه، وهذا يعني أن قوله،- في الغالب- «عن فلان» بعد ذكر الرأي، أن هذا الرأي قول فلان كما نقل عنه أو ورد في كتابه.

_ (1) التهذيب، ورقة 116/ ظ وانظر السورتين 71 - 72.

2) طريقته في الترجيح بين هذه الأقوال:

ج- يراعي الحاكم في المعاني الكثيرة التي يوردها وجوه الاختلاف تبعا لاختلاف القراءة في الآية، وتبعا للاختلاف في أسباب النزول، فتراه يحاول الإشارة باختصار إلى جميع هذه الوجوه. د- قد يكرر هنا بعض المعاني اللغوية التي يكون قد قدمها في فقرة «اللغة». ويبدو أنه يعني بها هنا، أو أنه أعادها هنا- بتعبير أدق- لأنها اختيارات بعض المفسرين، في حين يجرد الأولى للبحث اللغوي الصرف، ولا يجب أن تكون آراؤهم دائما وثيقة الصلة بالمعنى اللغوي. هـ- الأمور التي يرغب الحاكم في «الإفاضة» في شرحها لمناسبة الآية، وبما يخرج عن مدلولها، من أحكام فقهية أو تفاصيل بعض القصص أو نحو ذلك- انظر مثلا أحكام السحر لمناسبة آية هاروت وماروت- يفرد لها فقرة خاصة بعد الفراغ من تفسير الآية- كما سنتحدث عن ذلك بالتفصيل فيما بعد- ويكاد يكون الاستطراد الوحيد عنده في «المعنى» استطراده للتوفيق بين الآية أو الآيات موضوع البحث وآية أخرى، وهو استطراد بارع، يكمل المعنى ويدفع عنه صورة من صور الاعتراض! 2) طريقته في الترجيح بين هذه الأقوال: أ- في أحوال كثيرة يستعرض وجوه «المعنى» ولا يعقب عليها بشيء، أو يقول مثلا بعد الفراغ من آراء كثيرة: «والكل محتمل» على منهجه الذي أشرنا إليه من جواز أن يكون الجميع من المراد. ب- وفي أحوال أخرى كثيرة أيضا يرجح الوجه الأول، وربما نص على ذلك في أثناء استعراضه للأقوال والآراء، أو بعد فراغه منها، فيقول: «والأول الوجه».

3) من شواهد طريقته في إيراد المعاني والأقوال:

ج- اعتراضاته على بعض المعاني التي يوردها، يؤخرها دائما إلى ما بعد الفراغ من استعراض جميع الوجوه التي يرغب في إيرادها. وربما عقب عليها في فقرة «الأحكام» التالية لا في هذه الفقرة. د- قد يرجح تفسيرا على آخر بالمكي والمدني، أو بصحة المعنى دون الحكم بالزيادة التي يذهب إليها، في الآية، صاحب التفسير الآخر- وهذه مسألة أكّدها أيضا في «الإعراب» - أو بالنظم وسياق الكلام، أو بأمور فرعية أخرى، ما دام الأمر لم يخرج عن حدود المنهج الذي يسير عليه، وإلا انتقل الأمر إلى الرفض والقبول، وإن كان الترجيح بالطبع صورة من صور القبول. هـ- وأسلوبه الذي لا يدعه هنا في إيراد الاعتراضات على ما يرجحه ويذهب إليه، ودفع هذه الاعتراضات هو: «ومتى قيل: ... قلنا» كما قدمنا. 3) من شواهد طريقته في إيراد المعاني والأقوال: أ- ب: في الشواهد التي قدمناها عند الكلام على مصادره في التفسير بالمأثور (انظر الفصل الثاني من الباب الثاني) وفي الشواهد القريبة أيضا (انظر مثلا رقم 4 من فقرة «الأعراب» في هذا الفصل) «1» ما يغني عن الإعادة. ج- د: ومن شواهد وجوهه الكثيرة تبعا لاختلاف القراءة ما ذكره في تفسير قوله تعالى:

_ (1) ص 366، وانظر أيضا الورقة 260 من المجلد الأول من التهذيب.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) «1» قال الحاكم: «على ما قرأه الكسائي، بفتح الذال والثاء، قيل معناه: يعذّب كعذاب هذا الكافر الذي لم يقدّم لحياته أحد من الناس، ولا يوثق كوثاقة أحد، وهذا وإن أطلق فالمراد به التقييد لما علم أن إبليس أشد عذابا منه وأشد وثاقا. وقيل: (لا يعذب) أي في الدنيا، كعذاب الله يومئذ. وقيل: لا يعذب أحد بعذابه لأنه المستحق ولا يؤخذ بذنبه أحد. «فأما على قراءة الباقين، بكسر الذال والثاء، قيل: لا يعذّب كعذاب الله أحد، ولا يوثق كوثاقة أحد؛ عن الحسن وقتادة، وذلك مبالغة في شدة عذاب الله، وأن أحدا لا يبلغ ذلك المبلغ. وقيل: فيومئذ لا يعذب عذابه أحد: يناله من العذاب لأنه المستحق له، وإشارة إلى أنه لا يعاقب أحد بذنب غيره، وأنه لا يجعل ما جعل الله في عنقه في عنق غيره، بل يفعل ذلك به لاستحقاقه، والوثاق: الشد في السلاسل والأغلال؛ عن أبي علي. وقيل: لا يعذب كعذاب هذا الكافر أحد، عن أبي مسلم، قال: وليس المراد إنسانا بعينه، وإنما المراد كل من هذه صفته وفعله الفعل المحكى عنه. وقيل: لا ينفذ لأحد أمر في تعذيب ووثاق إلا له فهو المعذّب بمقدار العذاب، والوثاق يومئذ بأمره وحكمه، وهو يعلم مقاديره فيفعل بكل أحد ما يستحقه فلا يتصور ثم ظلم، ولو كان الأمر في يد غيره لكان لا يؤمن الظلم وزيادة العقوبة كما في الدنيا». وكذلك الحال في نقوله وجوه التفسير في الآية تبعا لاختلافهم في أسباب النزول، فقوله تعالى: (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... ) الآيات

_ (1) الآيتان 25 - 26 سورة الفجر، التهذيب، ورقة 145/ ظ.

من سورة البقرة ذهب بعضهم إلى أنها نزلت في المنافقين، وذهب آخرون إلى أنها نزلت في اليهود، وقد تباين تفسير هؤلاء- إلى حد- في تفسير الصفات التي وردت في هذه الآيات، ويذكر الحاكم دائما أن المعنى كذا، وقيل فيه كذا على قول من قال إنها نزلت في المنافقين وأنه كذا. وقيل فيه كذا على قول من قال إنها نزلت في علماء اليهود ... الخ. أما تكراره للمعاني اللغوية في «المعنى» - أحيانا- ففي بعض نقولنا السابقة في فقرة «اللغة» من هذا الفصل بعض الشواهد على ذلك: حيث أعاد- مثلا- تعريف الصبر والخشوع. وشواهد هذا الباب كثيرة أيضا. هـ- استطراده للتوفيق بين الآيات: وهذا الاستطراد لا صلة له بموضوع التأويل، وإنما هو ترجيح تفسير على آخر في آيتين وردتا على موضوع واحد أو في وصف أمر واحد، وبيان هذا التفسير الراجح الذي ينفي الاختلاف عن هاتين الآيتين: قال في تفسير قوله تعالى: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) «1» « ... ومتى قيل: أليس قال في موضع آخر: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)؟ «2» قلنا: الذي في الآية الأولى: ما بين موضع التدبير من السماء الدنيا وبين الأرض: الصعود والنزول، ألف سنة، خمسمائة للصعود وخمسمائة للنزول؛ عن مجاهد. وقيل: يدبر الأمر

_ (1) الآية 5 سورة السجدة. (2) الآية 4 سورة المعارج.

من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا، ثم يرجع الأمر والتدبير إليه بعد انقضاء الدنيا في يوم كان مقداره ألف سنة، وهو يوم القيامة. والمدة المذكورة مدة يوم القيامة إلى أن يستقر الخلق في الدارين، وعلى هذا القول: المراد بقوله (خمسين ألف سنة) في الآية الثانية: أي على الكافر؛ يعني أنه يستطيل ذلك اليوم لشدة ما يلاقيه فيه. وقيل: إن المراد بالآية الثانية هو يوم القيامة أيضا؛ عن الحسن وقتادة والضحاك، قالوا: «فقدر موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سنين الدنيا، أما عروج الملائكة فيكون في بعض ذلك اليوم». وقيل: لو ولي المحاسبة غير الله تعالى في ذلك اليوم لم يفرغ إلا بعد خمسين ألف سنة، وهو- تعالى- يفرغ منه في ساعة، عن الكلبي «1». وقال في تفسيره لقوله تعالى: (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) «2» «ومتى قيل: أليس وصف الريح بالعاصف في قوله: (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) «3»؟ قلنا: مرة عاصفة، ومرة لينة- فسر هو الرخاء بالسريعة الطيبة، أو باللينة- بحسب إرادة سليمان معجزة له». وقال في قوله تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ .. ) «4» «ومتى قيل: فما الجامع بين هذه الآية وبين قوله: (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) «5»؟ قلنا: قوله: لا ينفعهم معذرتهم، لا يدل

_ (1) التهذيب، ورقة 90/ و. (2) الآية 36 سورة ص، التهذيب، ورقة 5/ و. (3) الآية 81 سورة الأنبياء. (4) الآية 52 سورة غافر، التهذيب، ورقة 22/ و. (5) الآية 36 سورة المرسلات.

4) من شواهد طريقته في الترجيح:

على أنهم يعتذرون. فيحتمل أنه أراد: لو اعتذروا لما نفعهم. وقيل: ثم مقامات يعتذرون في بعض، ولا يؤذن في ذلك في بعض». 4) من شواهد طريقته في الترجيح: ولا نطيل في تجزئة الشواهد وتكرارها للدلالة على جميع النقاط التي حددناها لطريقته في الترجيح، فبعض هذه النقاط ربما تضمنها شاهد واحد، كما أن الكثير من هذه الشواهد قد تقدم في الفصول السابقة. ونكتفي هنا بإيراد بعض الشواهد الدالة على «جملة» طريقته في التعقيب والترجيح: أ) قال في تفسيره لقوله تعالى- في شجرة الزقوم- (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) «1» إن أصلها في قعر جهنم وأغصانها في الدركات. وطلعها أي ثمرها. ثم قال: «ومتى قيل: كيف تشبه رءوس الشياطين ولم نر ذلك؟ قلنا: فيه أقوال: أولها: أن قبح منظرها متصور في النفس، يقال في الشيء القبيح غاية القبح: كأنه شيطان، وكأنه رأس شيطان؛ عن ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ... قال امرؤ القيس: أتقتلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال فشبه النصال بأنياب الأغوال ولم يرونها. وثانيها: أنه شبه برأس حية تسمى شيطانا عند العرب كريهة المنظر. وثالثها: أنه شبه بنبت يعرف برءوس الشياطين، وهي شجرة قبيحة مرة تشبهها العرب برءوس الشياطين» قال الحاكم: «والأول أوجه وأحسن، وهو قول أبي مسلم وأبي علي».

_ (1) الآية 65 سورة الصافات، ورقة 161/ و.

ب) وقال في قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) «1» إنهم اختلفوا في تفسيره، قيل معناه: إلا أن تتقربوا إلى الله وتتوددوا إليه بالطاعة والعمل الصالح؛ عن الحسن وأبي علي وأبي مسلم، قال الحاكم: والمعنى لا تتقربوا إليّ بالأجرة، لكن تقربوا إلى الله بالعمل الصالح، فعلى هذا: الخطاب للمؤمنين. وقيل: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى): إلا أن تودّوني لقرابتي منكم وصلة الرحم، وكل قرشي كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه قرابة، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي والضحاك ... وعلى هذا الخطاب للكفار، يعني إن لم تودوني للرسالة فلا تتركوا مودتي لحق القرابة التي بيني وبينكم. وقيل: إلا أن تودوا قرابتي وتحفظوني فيهم، عن علي بن الحسين وسعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وجماعة. وبعد أن أطال الحاكم القول في اختلاف هؤلاء في هذه القرابة قال: «ومتى قيل: أي الأقوال أصحّ؟ قلنا: قول الحسن وأبي علي؛ لوجوه: منها أن الخطاب للكفار، لأن المؤمنين كانوا يعلمون أنه لا يسألهم أجرا فكأنه وصاهم بطاعته ليأنسوا إليه. ومنها: أنه قال عقيبه (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) وأن المراد بالقربى: الأمور المقرّبة إلى الله. ومنها: أن من كان من أقربائه مؤمنا فولايته واجبة كسائر المؤمنين، ومن كان كافرا أو فاسقا فمعاداته واجبه، ولذلك نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) في عمه، فلا معنى لتخصيصهم بذلك. ومنها: أن مودتهم لا يجوز أن تجعل أجرا له. ومنها: أنه قال في موضع آخر:

_ (1) الآية 23 سورة الشورى، ورقة 32/ و.

سابعا: الأحكام

(لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) كما حكى عن سائر الأنبياء .. ». ج) وذكر في تفسير قوله تعالى: (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) «1» الأقوال التالية: قيل يعني الذي خلقه ابتداء من هذا الماء (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) يقدر على إرجاعه حيا بعد الموت، عن الحسن وقتادة وأبي علي وأبي مسلم. وقيل: رد الماء في الصلب، عن عكرمة ومجاهد. وقيل: على رد الانسان ماء، عن الضحاك. ثم قال معقبا على هذه الآراء: «والأحسن قول الحسن وأبي علي، ولذلك عقبه بقوله: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) يعني: يوم القيامة. وقال في قوله تعالى: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) «2» في بيان حال المتقين في الجنة: إنهم اختلفوا متى يتساءلون، فقيل: حين يبعثون من قبورهم، عن ابن عباس، وقيل: في الجنة، قال الحاكم: «وهو الوجه لأنه نسق الكلام». سابعا: الأحكام أما «الأحكام» فقد رأينا منها صورا كثيرة عن الكلام على منهج الحاكم، وهي التي ساعدتنا على تحديد شخصيته في تفسيره حين وقفنا فيها على محور هذا التفسير، وعلى صورة جلية من قاعدة الحاكم الفكرية كما رأينا. والذي نذكره هنا في كلامنا على هذه الفقرة: 1 - نقول الحاكم فيها أقل من نقوله في سائر فقرات الكتاب. بل

_ (1) الآية 8 سورة الطارق، ورقة 141/ ظ. (2) الآية 50 سورة الصافات، ورقة 70/ و.

إن هذه الفقرة في الغالب من استنباط الحاكم نفسه، ولذلك كانت آصل في الدلالة على تمييز الحاكم من تعقيباته التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، وطريقته فيها هي طريقته الجدلية المعروفة: «فان قيل .. قلنا». 2 - لا يعني الحاكم بهذه الفقرة: الأحكام الشرعية أو الفقهية، فهو وإن كان قد عرض لمثل هذه الأحكام بإيجاز في أحوال كثيرة، ورجح فيها ما يراه، فإن أكثر أحكامه هنا داخلة في باب التوحيد والعدل، بالإضافة إلى الكثير من الأحكام الاخلاقية والسلوكية وما ترشد إليه الآية. والمدلول الواقعي لكلمة «الاحكام» من خلال الأمور التي تضمنتها هذه الفقرة في تفسيره: هو ما يؤخذ من الآية أو يستفاد منها، أو ما ترشد إليه الآية وتدل عليه على وجه العموم. 3 - ونورد فيما يلي شاهدين للدلالة على طريقته في هذه الفقرة، وعلى هذا المدلول لكلمة «الأحكام»: أ) قال الله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ. ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) «1»

_ (1) الآيات 1 - 5 سورة الحشر، ورقة 90/ ظ.

قال الحاكم في «الأحكام»: «تدل الآيات على أن خروجهم [لم يكن] عن قلة، ولكن لينصره الله، ولإلقاء الرعب في قلوبهم. «وتدل أن ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه من إجلاء أهل الكتاب من جزيرة العرب هو الذي يقتضيه الشرع والكتاب والسنة، فقد قال صلّى الله عليه وسلم: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان). «ويدل قوله (فاعتبروا) على الحث على الاستدلال والنبوة والتمسك به، والإيمان الموجب للنصرة، وترك المخالفة الموجبة للنقمة. واستدل أبو العباس بن شريح بالآية على صحة القياس إلا أن ما تقدم وتأخر لا يليق بذلك. «ويدل قوله: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا) أي: ما جعلتهم فيه جزاء على أعمالهم. ويدل أن الجزاء يستحق بالعمل. ويدل أن الشقاق حادث من جهتهم فيبطل قول المجبرة في جزاء الأعمال والمخلوق». ب) وقال في قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما؟ قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا، فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) «1»

_ (1) الآيات 21 - 25 سورة القصص، ورقة 46/ ظ.

ثامنا: القصة

قال الحاكم: «تدل الآيات أن المرء يجب عليه الفرار بدينه، والتوكل على ربه. وتدل على حسن إعانة الضعفاء. «ويدل قوله (على استحياء) على عظم موقع الحياء في الدين، وورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وآله: (الحياء نصف الإيمان) «ويدل قوله: (ما خطبكما)؟ على إباحة كلام الأجنبيات عند الحاجة والأمن على النفس. «ويدل قوله (من خير فقير) على تلطف في السؤال. «وتدل الآيات على أن المجازاة على الإحسان حسن. وتدل على بشارة بالنجاة من الظلمة وأن ذلك نعمة. وتدل على أن الظلم فعل العبد ليصح النجاة بالهرب». ثامنا: القصة يورد الحاكم هذه الفقرة- كما قدمنا- حين يكون أمامه روايات صحيحة فيها بعض التفاصيل الزائدة على ما يدل عليه ظاهر الآيات موضوع القصة. ويمكن تلخيص رأيه وطريقته في هذا الموضوع في النقاط التالية: 1) نص الحاكم في بعض هذه الروايات على أنها مرفوعة، وأضاف بعضها الآخر إلى رواتها من الصحابة والتابعين، أو إلى شيوخه الذين يرفعونها إلى هؤلاء. وربما زعم في بعض الروايات أنها محل إجماع الرواة، مثل ما أورده في قصة أصحاب الفيل من الأحداث والوقائع، وما دعا إليها من الأسباب، مع الإفاضة في ذكر الأسماء والأماكن، إلى ما هنالك من الأمور التفصيلية الدقيقة. 2) ولكن هذا لم يمنع الحاكم من تصنيف هذه الروايات، واختيار

أرجزها فيما يبدو، حتى إنه جعل ذلك في عنوان قصة أصحاب الأخدود، فقال بعد أن فرغ من تفسير الآية: «قصة أصحاب الأخدود مختصرة» «1» وأورد فيها بعض الروايات المرفوعة والموقوفة على بعض الصحابة. ويرجّح الباحث أن الحاكم- على أي اعتبار- كان حريصا ألا يبعد في ذكر الروايات عن المدلول الحقيقي للقصة، أو عن محل الاعتبار الذي سيقت القصة من أجله. 3) من الراجح أن الحاكم لم يعقد هذه الفقرة في كتابه إلا لما ترجحت عنده صحته من الروايات، نظرا لقلة هذه الفقرة في جانب القصص القرآنية الكثيرة التي شرحها شرحا وافيا عند الكلام على «المعنى»، وبين أيضا ما ترشد إليه من الأحكام، ولم ير بعد ذلك ضرورة لإطالة القول في بعض رواياتها في «القصة». يرجح ذلك أمران: أحدهما أنه لم يعقب على واحدة من رواياته في «القصة» بالنقد. وثانيهما: أنه ربما أشار في ثنايا كلامه في «المعنى» إلى أنه اهمل- في تفسير الآية- بعض القصص لأنها لا تصح، كما فعل في قصص الأنبياء التي وردت في سورة ص، وكما عقب على بعض الأقوال في تفسير قوله تعالى (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) «2» قال في تفسير الآية: « ... وقيل إنه في إنسان بعينه، كان من الرهبان فأغواه الشيطان بأنه ينجيه من ثلاثة وقع فيها، وقال له اسجد لي سجدة واحدة، ففعل لما احتاج إليه، ثم أسلمه حتى قتل؛ عن ابن عباس وابن مسعود».

_ (1) التهذيب، ورقة 140/ ظ. (2) الآية 16 سورة الحشر، ورقة 92/ ظ.

ثم قال: «وفيه قصه طويلة لا يصح أكثرها، فتركت ذكرها لأن فيها أن الشيطان غيّر الصور وأزال العقل وحمل عليه امرأة تداويه ... في كثير من الترهات» إلا أنه لم يمنع من جواز ما روى أن الراهب زنى بامرأة ثم قتلها، وظهر ذلك، فأخذوه وصلبوه. ولكنه رجح في الآية أنها من قبيل ضرب المثل، وأنها تصدق مع الإنسان جنسا، سواء صحت قصة الراهب أم لم تصح. 4) وهذا يسلمنا للحديث عن موقف الحاكم من القصص والأخبار الإسرائيلية التي حشيت بها بعض كتب التفسير، وتسربت إلى بعضها الآخر. وبالرغم من وضوح موقف الحاكم من هذا الموضوع، كما سنرى، إلا أن هذا الوصف- إسرائيلية- لا بد لتحديد ما ينطوي تحته- كحد علمي أو ظواهر مرجحة- من دراسة مستفيضة للروايات ومصادرها وموضوعاتها، وما يجمعها من صفات أو ميزات، حتى نميز بين الإسرائيليات وبين الروايات التي اخترعها الرواة أو نسبت إليهم. والذي نلاحظه- انطلاقا من ظواهر أكثر القصص التي تسلك عادة في الإسرائيليات- أن أهم موضوعات هذه القصص ثلاثة: الصفات الإلهية. الأنبياء. آيات الكون والطبيعة فقد تسرب شيء من قصص بني إسرائيل في التشبيه والتجسيم في تكليم موسى، وفي أخذ الألواح، وفي خلق آدم وقصص أخرى، إلى بعض المفسرين. كما لهج مفسرون آخرون بما رواه اليهود من قصص أنبيائهم وما نسبوه إليهم من المعاصي والأمور المنفرة

القبيحة! واعتمد مفسرون غيرهم على أقاويل اليهود في خلق الكون وتفسير بعض ظواهر الطبيعة. «1» أ- وموقف الحاكم من الموضوعين الأولين معروف من منهجه الاعتزالي الكلامي، ومما قدمناه من رأيه في تنزيه الأنبياء، فلا حاجة بنا إلى الإطالة في الحديث عنه أو الدلالة عليه. ب- أما آيات الطبيعة والكون فلم يورد فيها إسرائيلية واحدة، ولم يزد على نقل بعض التفسيرات اللغوية التي قال بها شيوخه أو بعض رجال السلف، وعند ما يثير بعض النقاط التي تحدث فيها هؤلاء؛ فإنه يذهب إلى أن كل شيء لا تشير إليه الآية أو تدل عليه فالتوقف فيه أولى، ولعله يذكر من دلالات هذه الآيات على الصانع وعلى وجوب النظر، أكثر مما يورده في تفسيرها من الأقوال. قال في تفسير قوله تعالى: (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) «2»: « ... ثم نبه تعالى على كمال قدرته، فقال سبحانه (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) لإقامة الحق، وعبادة الله، والدلالة على وحدانيته. (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يلف هذا على ذاك، وذاك على هذا. وقيل يدخل أحدهما في الآخر بالزيادة والنقصان؛ عن الحسن وجماعة. وقيل: يأتي أحدهما خلف الآخر.

_ (1) راجع حول موضوع الإسرائيليات كتاب مقالات الكوثري للشيخ زاهد الكوثري رحمه الله، ص 32 - 35 وصفحة 313 طبع مصر. (2) الآية 5 سورة الزمر، ورقة 9/ و.

(وسخر) أي ذلك يجريه كما يشاء (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي: إلى أجل مسمى، قيل هو قيام الساعة، فإنهما يجريان إلى ذلك الوقت، عن أبي علي وأبي مسلم. وقيل: هو المطلع والمغرب، لكل واحد وقت معلوم في الشتاء والصيف. (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ): مع قدرته على أخذكم لا يؤاخذكم ويغفر لكم إن تبتم». وقال في تفسير قوله تعالى. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) «1» قال: «قيل سبع أرضين. وقيل هي أطباق لا سكان فيها. وقيل بل فيها سكان مكلفون أو غير مكلفين، فأما السموات فسبع وفي كل واحدة ملائكة» قال: «ومتى قيل: هل في الأرضين والسموات أحد من الخلائق؟ قلنا: لا خلاف أن السموات سبع، وفي كل سماء ملائكة، واختلفوا في الأرضين، قال قتادة: في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه، وأمر من أوامره، وقضاء من قضائه. وقيل ليس فيها أحد. وقال أبو علي: ليس بين في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع غير هذه. وقال: ليس بين الأرضين خلل وفتوق، وإنما كانت سبعا لأنها من سبعة أجناس! قال الحاكم: «وليس في الآية أن فيها أحدا أم لا، ولا أن بين كل اثنين فرجا أم لا، ولا أنها من أجناس متباينة، فالتوقف فيه أولى». ج- ولكن إذا حملنا على «الإسرائيليات» بعض التفاصيل التي يوردها الحاكم في كلامه على «المعنى» في بعض القصص القرآنية- المتصلة ببني إسرائيل خاصة- دون أن يكون في كلامه ما يدل على عدم التفاته إلى هذه

_ (1) الآية 12 سورة الطلاق، ورقة 14/ ظ.

التفاصيل، أو القول بعدم جدواها، أو ما يدل على قوله برفض هذه الجزئيات التي لا تفهم من ظاهر النص؛ فإن تفسير الحاكم لم يخل من الإسرائيليات على هذا الاعتبار، فقد ختم كلامه- مثلا- في تفسير الآيات التي ذكرت قصة موسى مع قومه لما أمروا بذبح بقرة «1»، بقوله: «ويقال: بكم اشتريت البقرة؟ قلنا بملء جلدها ذهبا. وقيل: بوزنها عشر مرات، عن السدي! وقيل كانت البقرة لشاب من بني إسرائيل بار بأبويه» «2» كما أنه في تفسير قوله تعالى: (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) «3» - في القصة السابقة- عرض لجميع ما قاله كل من مجاهد وعكرمة والسدي والفراء والضحاك وسعيد بن جبير في تفسير البعض!! من أنه الفخذ أو الذنب أو الغضروف أو اللسان أو البضعة التي بين الكتفين ... كل ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة فيه. وكذلك الأمر في «ماهية»! الهدية التي بعثت بها بلقيس إلى سليمان، و «الكيفية» التي وصل عليها إلى هذه الملكة كتاب سليمان! قال الله تعالى، على لسان سليمان آمرا الهدهد، (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ) «4» ذكر الحاكم في تفسير الآية أنه حمل الرسالة وألقاها إليها، ثم قال: (واختلفوا كيف حملها وكيف ألقاها، قيل بمنقاره وطار حتى وقف على رأس المرأة فألقاها إليها وحولها الملأ، عن

_ (1) انظر الآيات 67 - 71 من سورة البقرة. (2) التهذيب، ورقة 98/ ظ. (3) الآية 73 سورة البقرة، انظر التهذيب ورقة 99/ ظ. (4) الآية 28 سورة النمل، ورقة 27/ و.

مقاتل، وقيل: كانت تقعد للقضاء إلى انتصاف النهار .. ثم تدخل البيت وتنام فجاء الهدهد ودخل كوة البيت فألقى الكتاب عند رأسها .. وتولى، فانتهبت ورأت الكتاب ففزعت وخافت أن يكون وقع في ملكها شيء، فحملته وخرجت إلى الناس. وقيل أتى بالكتاب إليها وهي على ثلاثة أميال من صنعاء اليمن نائمة في بيتها، فوضع الكتاب على صدرها، عن قتادة! وقيل: كان لها كوة مستقلة للشمس تقع الشمس عند ما تطلع عليها، فإذا نظرت إليها سجدت، فجاء الهدهد إلى الكوة فسدها بجناحه، فارتفعت الشمس ولم تعلم، فقامت تنظر فرمى الكتاب إليها، عن وهب وابن زيد». وذكر أيضا عدة أقوال في الهدية التى بعثت بها الملكة إلى سليمان، كما ذكر صورة دقيقة «للاحتفال» الذي قدمت فيه هذه الهدية، واصطفّت فيه الشياطين والوحش والسباع والطيور ... ولكن من الظلم للحاكم، على كل حال، أن يحكم عليه بأنه حفل بهذه الأخبار، أو حرص على أن لا تفوته في تفسيره القيم. وقد تكون قصة سليمان هذه من أبرز الشواهد على تسرب هذه الروايات إلى تفسيره، وبهذا القدر الذي لم يزد عليه في قصة أخرى. د- وأخيرا فقد نص في تفسيره على عدم اكتراثه بما يرويه أهل الكتاب أو بما ينقلونه، قال في تفسير قوله تعالى في قصة إبراهيم: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ .. ) إلى قوله تعالى (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ .. ) «1».

_ (1) الآيات 100 - 112 سورة الصافات، ورقة 163/ ظ.

قال: إنهم اختلفوا في الذبيح، قيل إسحق؛ عن عمر وعلي وابن مسعود والعباس بن عبد المطلب وكعب الأحبار وقتادة وسعيد بن جبير ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي وأبي علي. وقيل إسماعيل؛ عن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب القرطي وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي ومجاهد والربيع والكلبي، قال القاضي: وهو الصحيح ... ». ثم ذكر أدلة القاضي وما رد به على أدلة شيخه أبي علي، وبعد أن رجح ما ذهب اليه القاضي، قال: «فإن قالوا: أجمع أهل الكتابين أنه إسحاق وحكوا ذلك عن التوراة! قلنا: ليس إجماعهم حجة، ونقلهم غير مقبول ... ». 5) ومما يتصل بموضوع القصة وأخبار بني إسرائيل في القرآن الكريم، أن الحاكم لاحظ كثرة ورود قصة موسى عليه السلام في القرآن، وعلل ذلك بمناسبة تفسيره لقوله تعالى: (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) «1» من سورة الشعراء، بأن «اليهود كانوا حول المدينة، وكثيرا ما دخلوا على النبي صلّى الله عليه وسلم يجادلونه». 6) أما الأمر الذي يتصل بموضوع القصة في القرآن عموما عند الحاكم، والذي نختم به هذه الفقرة، هو أنه تحدث في غير موضع عن فائدة القصص وتكرارها في القرآن، فقال إن في ذلك وجوها كثيرة: منها ليعلم الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه كأحد هؤلاء الأنبياء فيتسلى بذلك في أذى قومه. ومنها: أن ينذر قومه بعاقبة مثل عاقبة الأمم التي كذبت أنبياءها.

_ (1) الآيتان 10 - 11، ورقة 3/ و.

تاسعا: الفقه

ومنها: ما في إخباره صلى الله عليه بها وتلاوته لها من المعجزة له مع أنه كان لا يقرأ ولا يكتب ... «1». وقال في أسباب تكرار القصة الواحدة في أكثر من موضع إن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة، وكل قصة في مقام وعبرة، فلا يعد تكرارا! وقال أيضا: «لأنها تتضمن من عجيب الفصاحة ما يدل على إعجاز القرآن، فإن الواحد منا إذا ذكر قصة مرتين انحدر كلامه إلى الدركة الآخرة، والله تعالى كرر هذه القصص في مواضع بألفاظ عجيبة. وهذا من عظيم الفائدة» «2». تاسعا: الفقه وقد جرت عادة الحاكم على أن ينهى وجوه القول في الآية أو الآيات- إذا كانت تتضمن بعض الأوامر الشرعية في بابي العبادات والمعاملات- بذكر ما يتصل بها من الأحكام الفقهية في فقرة خاصة. 1) والعنوان الذي يضع تحته هذه الأحكام، في الغالب، هو «الفقه» ولكنه ربما ذكرها في بعض الأحيان تحت عنوان «أحكام كذا» - بحسب بابها الفقهي المعروف، كأحكام التيمم، وأحكام الديات- يجعلها بعد فقرة «الأحكام» السابقة التي تحدثنا عنها، تمييزا لهذه الفقهيات عن تلك الدلالات العامة للآية، وربما اكتفى بالفصل بين الموضوعين دون أي عنوان «3».

_ (1) انظر الورقة 24/ ظ من تفسيره لسورة النمل. (2) من السورة السابقة، ورقة 32/ ظ. (3) انظر تفسيره لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ورقة 155. وانظر في هذا الجزء من التهذيب أحكام الديات ورقة-

2) رتب الحاكم هذه الفقرة «الفقه» من كتابه على الفصول المعروفة في كتب الفقه، وأوجز فيها القول، حتى إنها جاءت على شكل «ملخصات» دقيقة، أقرب ما تكون إلى المتون الفقهية التي يقصد منها التعليم، أو إغناء القارئ عن الرجوع إلى كتب الفقه، ولم يجر الحاكم في تفسيره مرة واحدة وراء أدلة الفقهاء الطويلة ومنازعاتهم في أصول التعارض والترجيح، على الرغم من كثرة الآراء التي يوردها في مسائل الفصل الواحد. 3) حفل الحاكم في هذه الفصول بفقه التابعين، وفقه الأئمة الثلاثة، وفقه الإمام زيد والإمام الهادي الى الحق يحيى بن الحسين، وإن كانت نقوله عن الإمام زيد لا تكاد تذكر أمام نقوله عن الإمام الهادي وعن أبي حنيفة- بخاصة- والشافعي، وهذا مما يرجح أن مذهب الزيدية الفقهي هو مذهب الهادي، وأن اتّباعهم لمذهب الإمام زيد رضي الله عنه إنما كان في الأصول كما قدمنا. 4) أما ترجيحاته بين الآراء فهي ترجيحات عارضة لا تكشف لنا عن شخصية الحاكم الفقهية، مقلدا أو مجتهدا ولعل من الغريب أن المرء يعوزه على الدوام أن يجد في الكتاب أثرا بارزا لزيدية الحاكم التي طالما لهج بها المؤرخون وكتاب التراجم، بل إن الذي يبدو في ترجيحاته القليلة

_ - 191 - 193 وصلاة الخوف 198 - 199. وانظر «مسائل من الفرائض» بعد آية الميراث. وانظر في سورة الجمعة ورقة 99 حيث سلك «الأحكام» في بعض الآيات في فصل، وجعل «للفقه» فصلا آخر.

ميله الملحوظ إلى المذهب الحنفي، وعنايته الزائدة بآراء أبي حنيفة بخاصة «1». كما أن المرء في الوقت الذي يظن فيه أن الحاكم سيأخذ في التفريع واستعراض الأدلة والترجيح؛ يجد نفسه فجأة أمام عبارته الأثيرة التي كررها في مواضع كثيرة من كتابه: «وموضع تفصيله كتب الفقه» «2»!

_ (1) هذا قد يرجح الفرض بأنه كتب تفسيره قبل انتقاله إلى المذهب الزيدي، لأنه كتبه في وقت مبكر كما قدمنا، وإن كانت بوادر هذا الانتقال أو الاستعداد له، من حيث بعض الترجيحات والاجتهادات، قائمة على كل حال. (2) وتتجلى شخصيته الفقهية في الترجيح في «الأحكام» دون «الفقه» فيما يبدو، قال في قوله تعالى: (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ) إنها تدل على توريث ذوي الأرحام «على ما قاله أمير المؤمنين وابن مسعود خلاف ما يقوله زيد». وقال في قوله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) إنها تدل على أن الاستسقاء لا صلاة فيه، كما قاله أبو حنيفة، خلاف ما يقوله الشافعي. قال: «وروينا عن عمر مثل ذلك، وروي أن النبي صلى الله عليه استسقى ودعا ولم يصل. وروي أن عمر استسقى بالعباس ولم يصل. وما روي أنه صلى فعندنا يجوز أن يصلي، وإنما نقول: ليس فيه صلاة مرتبة مسنونة». وقال في قوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) .. إنها تدل باتفاق على وجوب النفقة للمطلقة الرجعية. قال: واختلفوا في المبتوتة بثلاث، والصحيح أن لها النفقة، وما روي عن فاطمة بنت قيس أن النبي لم يجعل لها النفقة والسكنى، فقد أنكر ذلك عمر وعائشة وابن مسعود، فلا نقبل خبرا أنكره هؤلاء الأجلة، وروي أنها كانت ناشزة ... ». راجع التهذيب الأوراق 98/ ظ، 115/ ظ، 104/ ظ.

5) ومهما يكن من أمر فإن الحاكم لم يجعل من هذه الفقرة في كتابه ميدانا لعرض آرائه في الفقه، وإن كنا نرجح عدم التزامه الكامل بمذهب بعينه، كما نرجح أنه لم يخرج فيما ذهب إليه من آراء عن اجتهادات الفقهاء السابقين مع نزوع واضح إلى الاجتهاد. وطريقة الحاكم هذه- على كل حال- يختلف الحكم عليها بين من يطلب الخلاف والاجتهاد في كتب التفسير، وبين من يرجو ألا تتضخم أوراق آيات تفسير الأحكام، التي تعتبر قليلة إذا قيست بجميع آي الكتاب، وأن يكون حظها في كتب «التفسير» كحظ سائر الآيات، ولعل طريقة الحاكم التي نأت بكتب التفسير عن منازعات الفقهاء- مع نجاحها في ربط خلاصة الآراء الفقهية بالنص القرآني- هي الأقرب إلى الصواب، لولا أنها تركت خلافات الفقهاء إلى جدل المتكلمين! 6) وشاهد واحد يغني للدلالة في هذه الفقرة على كل ما ذكرناه: قال في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) «1» إن الكلام في أحكام هذه الآية من وجهين «أحدهما: دلالات الآية. والثاني ذكر الجمعة وشرائطها» ثم خص كل واحد منهما- كلّ ذلك تحت عنوان فقرته «الأحكام» - بفصل خاص. ونحن نورد فيما يلي كل ما قاله في الفصل الأول، مع ذكر رءوس المسائل التي عرض لها في الفصل الثاني، للدلالة أيضا على ما قدمناه من تفريقه بين

_ (1) الآيتان 9 - 10 سورة الجمعة، التهذيب ورقة 99.

«الأحكام» - أو دلالات الآية كما سماها هنا بدقة- و «الفقه»، وحتى لا نستعرض مسائل فقهية ليس محلها هنا: قال: «أما الأول، فتدل على اختصاص يوم الجمعة بصلاة وذكر. وتدل على أن للجمعة نداء وهو أذان، وليس في الكتاب ذكر الأذان إلا هاهنا، وفي قوله: (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ). وتدل على وجوب السعي، والأقرب أنه يجب عند النداء لأنه عقبه به. وتدل على وجوب الجمعة لأن وجوب السعي إليها وتحريم المبايعة لأجلها يدل على وجوبها. وتدل على أن الخطاب للأحرار لأن العبد لا يملك البيع. وتدل على أنه خطاب للرجال لأن (آمنوا) حقيقة فيهم. وتدل على اختصاص الجمعة بمكان، لذلك أوجب السعي اليه. وتدل على ذكر يجب السعي إليه. وتدل على اختصاصه بوقت حيث ينادى فيه. وتدل على تحريم البيع، واختلفوا فالأكثر على أنه يكره وينعقد، وقيل لا ينعقد. وهو قول الحسن ومالك. «ويدل قوله (وَابْتَغُوا)، على جواز الكسب خلاف ما يقوله بعضهم. «ويدل قوله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أنه أراد من جميعهم الفلاح، ويدل على أن الفلاح يدرك بهذه الطاعات. «واستدل بعضهم بقوله (فَانْتَشِرُوا) على إباحة السفر بعد الصلاة، فيدل على تحريمه قبلها، حتى زعموا أنه لا يجوز بعد طلوع الفجر يوم الجمعة أن يسافر، والظاهر لا يدل عليه، وهو مذهب الأكثر. «وتدل على أن السعي والبيع فعلهم، وكذلك الانتشار والابتغاء، لذلك علق به الأمر والنهي، وكيف يكون جميع ذلك خلقا له وهو يدعو

إلى ترك البيع والسّعي بألطف استدعاء: (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)». قال الحاكم: «وأما الفصل الثاني فالكلام فيه ينقسم إلى عشرة فصول: أولها: وجوبها، وثانيها على من تجب، وثالثها الكلام في الخطبة، ورابعها في الموضع الذي تقام فيه، وخامسها العدد المعتبر فيها، وسادسها هل يقيمها السلطان، وسابعها الجماعة والإمام، وثامنها الوقت، وتاسعها صفات الجمعة، وعاشرها سنن الجمعة. وموضع تفصيلها كتب الفقه، ونشير إلى جمل من ذلك». ثم ذكر جملا من ذلك- في ثلاث صفحات تقريبا- في غاية الدقة والتركيز.

الفصل الثاني آراؤه في علوم القرآن

الفصل الثاني آراؤه في علوم القرآن قدمنا في الفصل السابق طريقة الحاكم في تفسيره، ووقفنا من خلال هذه الطريقة على آراء الحاكم في بعض مسائل علوم القرآن الهامة، وقد آثرنا بحث هذه المسائل هناك- كما قدمنا- لإعطاء صورة متكاملة لتفسير الحاكم وطريقته في تقسيم كتابه وترتيبه، وقد ذهب هو نفسه إلى اعتبار جميع فقرات كتابه السابقة من «علوم القرآن»، فقال: «وعلوم القرآن كثيرة، مدارها على ثمانية: أولها القراءة ووجوهها وعللها، وثانيها اللغة، وثالثها الإعراب، ورابعها النظم، وخامسها المعنى، وسادسها النزول، وسابعها الأدلة والأحكام، وثامنها الأخبار والقصص» «1». والواقع أن علوم القرآن وإن كانت تعتبر في الأصل «مدخلا» إلى تفسير القرآن وطريقا إليه، إلا أن قسما كبيرا منها، حتى بعد أن اتخذ هذا المصطلح شكله النهائي فيما بعد، يدخل في نطاق التفسير، ويبدو أن الحاكم يعنى بعلوم القرآن، في المقام الأول، تلك الأمور والمعلومات

_ (1) التهذيب المجلد الأول، ورقة 2.

اولا: نزول القرآن

التي لا بدّ من الوقوف عليها في تفسير كل آية، فهي والتفسير عنده- أو علوم التفسير إن صح هذا التعبير- على حد سواء. ومهما يكن من أمر فإن الذي نعرض له في هذا الفصل إنما هو آراء الحاكم في سائر علوم القرآن، أو في أهم علوم القرآن الأخرى، كما وقفنا عليها من خلال تفسيره. اولا: نزول القرآن 1) نزوله إلى سماء الدنيا: ذهب كثير من العلماء إلى أن القرآن نزل مرتين، الأولى إلى سماء الدنيا نزل فيها- على قول الأكثر- جملة واحدة، والثانية على النبي صلّى الله عليه وسلم، نزل عليه فيها منجما في بضع وعشرين سنة، ويروون في نزوله إلى بيت العزة في السماء الدنيا بضعة أحاديث وصفت أسانيدها بأنها صحيحة «1»، وقد عرض الحاكم لهذا الموضوع في مواضع عدة من تفسيره، عند الكلام على قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) «2» وقوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) «3» وقوله: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) «4» وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) «5» وفي مواضع أخرى.

_ (1) انظر الاتقان للسيوطي 1/ 68. (2) الآية 3 سورة الدخان، ورقة 43/ و، وقال عكرمة في هذه الليلة إنها ليلة النصف من شعبان، ورجح الحاكم رأي ابن عباس وقتادة وابن زيد وأبي علي وأبي مسلم: أنها ليلة القدر من شهر رمضان. (3) الآيتان 21 - 22 سورة البروج، ورقة 141. (4) الآية 4 سورة الزخرف، ورقة 37. (5) الآية 1 سورة القدر، ورقة 151/ ظ.

قال في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) إنه يدل على «أن القرآن مؤلف في اللوح، وأنه أنزله حالا بعد حال حسب المصلحة». أما الآيات الأخرى فأجمع ما قال في تفسيرها، ما ذكره في آية سورة القدر، قال في قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ): «فيه ثلاثة أقوال: أولها: أنزلنا القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم نجوما؛ عن ابن عباس. وقيل: كان ينزل في كل سنة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ما يريد إنزاله في تلك السنة على نبيه متفرقا، ثم كذلك في كل سنة، عن أبي علي. وقيل إنا أنزلنا ما يدل عليه العباد في ليلة القدر، بمعنى بينا وأثبتنا، حكاه القاضي. وثانيها: ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، عن الشعبي، وكان المبعث في رمضان، وثالثها: أنزلنا القرآن في فضل ليلة القدر» قال الحاكم: «والأول أولى، لأن أكثر المفسرين عليه، وتواتر النقل بأنه عز وجل أنزل القرآن ليلة القدر إلى سماء الدنيا». 2) الوحي: ورد في الأحاديث عدة «كيفيات» للوحي تكفلت بجمعها كتب علوم القرآن، مثل النفث في الروع، أو أن يأتي الملك إلى الرسول في مثل صلصلة الجرس، أو أن يأتيه في صورة الرجل فيكلمه، أو يأتيه في النوم، أو أن يكلم الله تعالى رسوله من وراء حجاب «1». ولم يعرض الحاكم لموضوع الوحي- فيما بين أيدينا- إلا من خلال تفسيره لبعض الآيات التي أبان فيها عن كيفية تكليم الله تعالى للرسل، وعن المراد بإضافة القرآن إلى جبريل، وعن بعض المسائل الأخرى التي سنعرض لها

_ (1) راجع الاتقان 1/ 76.

في هذه الفقرة، وبالرغم من أنه لم يبحث في بعض الكيفيات السابقة إلا أنه يذهب فيما يبدو إلى أن الأصل في إنزال القرآن أنه كان بالوحي عن طريق جبريل عليه السلام، بغض النظر عن الكيفية التي كان يأتي عليها، وإن كان المعلوم من رأي الحاكم- في تفسيره لسورة النجم- أن النبي لم ير جبريل على صورته الحقيقة إلا مرتين يوم عرج إلى السماء، ويبدو لنا رأي الحاكم في نزول القرآن على الرسول وفي موضوع الوحي عموما من خلال تفسيره للآيات التالية: أ- قال الله تعالى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) «1» قال الحاكم: والوحي في اللغة إعلام في إخفاء، وكل أمر سريع فهو وحي، ومنه: الوحى الوحى، وتسمى الرسالة والكتاب والإشارة وحيا. وأوحى ووحى لغتان، والإلهام يسمى وحيا. ثم قال في الآية إنها تدل على أن كلام الله تعالى لعباده على ثلاثة أوجه: «الأول: الوحي، وإن كان جميعا وحيا. وقيل: أراد بالوحي الإلهام. وقيل هو القاء الخواطر وإقامة الأدلة وشرع الاستدلال، كما فعل إبراهيم في قوله: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)، عن أبي مسلم. وقيل الإلهام من جنس الاعتقادات لا من جنس الكلام فلا يكون الإلهام وحيا! وقيل: الخواطر وما يراه في المنام، عن أبي علي. والثاني: من وراء حجاب، قيل: يكلمه بكلام يسمعه ولا يرى المتكلم

_ (1) الآية 51 سورة الشورى، التهذيب ورقة 36/ و.

بمنزلة ما يسمع من وراء الحجاب؛ لأنه تعالى لا يجوز عليه الحجاب، ولا يكون كلامه كلام من يرى ويدرك، عن أبي مسلم، وقيل: يحجب ذلك عن جميع خلقه إلا ممن يريد أن يكلمه به، نحو كلامه لموسى عليه السلام في المرة الأولى، بخلاف كلامه في المرة الثانية لأنه سمع ذلك معه السبعون، عن أبي علي، وقيل يحصل الكلام من وراء حجاب، أي مكانه الذي خلق فيه، فالحجاب راجع إلى مكان الكلام، ولا يقال إن المتكلم من وراء حجاب؛ لما بينا أن الحجاب لا يجوز عليه لأنه من صفات الأجسام، وما يسمعه الملك من هذا القبيل لأنه يسمع الكلام من غير رؤية محله والمتكلم به، ويعلم انه كلامه بمعجزة أو ما يجري مجرى المعجزة، والحجاب ثلاثة أوجه: حجاب عن إدراك الكلام إلا المكلّم به. والثاني حجاب بمحل الكلام. والثالث بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب. الثالث: أو يرسل رسولا من الملك فيأتي به إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فيسمعه منه فيؤديه إلى الخلق (بإذنه) قيل بعلمه. وقيل بأمره، وهو الوجه». هذه الطرق الثلاث التي ذكرتها الآية لم ينص الحاكم في أولها- وهو الوحي- على تفسير بعينه، وإن كان قوله في الإلهام إنه يسمى وحيا، إلى جانب ميله المعهود إلى رأي أبي علي الذي ختم به هنا ما قدمه من آراء؛ يرجح ميله إليه، وذهابه إلى أن المراد بالوحي في الآية الخواطر وما يراه في المنام. أما الطريق الثاني فالمراد به عنده أن الرسول يسمع كلام الله تعالى من غير واسطة، والذي يود الحاكم تأكيده هنا إنما هو عدم جواز الحجاب على الله تعالى. أما الطريق الثالث فقد «نص» فيه على أن الرسول- جبريل- يأتي بالكلام إلى النبي- على أي صفة- «فيسمعه

الرسول منه». وعلى هذه الطريقة نزلت جميع آي القرآن على الرسول صلى الله عليه، فيما يذهب اليه الحاكم رحمه الله، كما «يبدو» ذلك لنا مما يأتي: ب- قال الله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ. وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) «1» قال الحاكم: الروح الامين هو جبريل، عن ابن عباس والحسن والضحاك وابن جريج، سمي روحا لأنه روحاني، وقيل: لأن الدين يحيا به، وسمي أمينا لانه أمين الله على وحيه. (على قلبك) يا محمد، قال الحاكم: «وهذا توسع لانه تعالى كان يسمعه جبريل فيحفظه وينزل به على الرسول صلّى الله عليه وسلم، ويقرأ عليه فيعيه ويحفظه بقلبه، فكأنه نزله على قلبه» (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ): من المخوفين عباد الله، (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) يعني أن القرآن بلغة العرب نزل، وكل نبي أرسل بلسان قومه ليفهموا عنه. (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي كتب الاولين، قال الحاكم: «واختلفوا ما الذي في كتب الاولين، قيل الدعاء إلى التوحيد والعدل والاعتراف بالبعث وأقاصيص الامم الذي نزل به القرآن، وهو مذكور في تلك الكتب، عن مقاتل. وقيل: ذكر القرآن والبشارة به وبمحمد صلّى الله عليه وسلم مذكور في الكتب، عن أكثر المفسرين». قال: «ولا يقال إن عين هذا القرآن في الكتب لأنه عربي ونزل

_ (1) الآيات 192 - 199 سورة الشعراء، ورقة 18 - 19.

على محمد، بخلاف تلك الكتب» ولهذا رد في «الاحكام» استدلال بعض أصحاب أبي حنيفة بقوله (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أن القرآن قرآن وإن كان بغير لغة العرب! لان معنى الآية ما قدم «ولأن القرآن ما كان بلفظه ومعناه». ج- وقال الحاكم في قوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) «1» إن سبب نزول الآية أن الرسول كان إذا نزل القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه، فنزل (لا تحرك)، عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك. قال الحاكم: وفيه نزل (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) «2» قال: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) يعني بالقرآن والوحي (لِتَعْجَلَ بِهِ) أن بقراءته لتحفظه ولا تنساه (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قيل إن علينا جمعه في صدرك حتى تحفظه، وقراءته عليك حتى تعيه ويمكنك بيانه، عن ابن عباس والضحاك. وقيل إن علينا جمعه في صدرك، وتأليفه على ما نزل عليك، عن قتادة. (فإذا قرأناه) قيل: قرأه الملك عليك بأمرنا. وقيل إذا جمعناه لك (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي أتبع قراءته بقراءتك. وأيا ما كان رأي الحاكم في معنى القراءة في الآية، فإن ما ذكره هنا وفي الآية السابقة يشير إلى رأيه في أن جميع القرآن نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم وقرأه عليه- والآثار الصحيحة في أنه كان يعارضه به كثيرة-، وأن الوحي بالقرآن، كما اتفق على ذلك جميع المسلمين،

_ (1) الآيات 16 - 19، سورة القيامة، ورقة 124. (2) الآية 114 سورة طه.

إنما كان بلفظه ومعناه جميعا، لان قوله تعالى في الآية السابقة (عَلى قَلْبِكَ) ليس له في الاصل ظاهر يصح التمسك به «1» حتى يقال إنه أولى من المجاز والتوسع، فضلا عما دلت عليه هذه الآية الثانية وآيات أخرى كثيرة، وما علم من دين الإسلام بالضرورة، وإنما المراد بقوله تعالى (عَلى قَلْبِكَ) ما قدمناه من كلام الحاكم رحمه الله. د- أما إضافته تعالى القرآن إلى النبي صلّى الله عليه وسلم أو إلى جبريل، فقد

_ (1) أشار السيوطي إلى أن بعضهم ذهب إلى هذا القول، وزعم أن القرآن أوحي بمعناه فقط!! ولكن السيوطي الذي أغرى بالجمع السديد تارة، وغير السديد تارة أخرى- على سعة باعه في الحديث والرواية والتفسير بالمأثور- لم يذكر لنا في هذه المرة من هو قائل هذا القول! ومن أي الناس هو، وإلى أي ملة ينتسب! وقد تكفل السيوطي- في باب الوحي أيضا- ينقل ما قيل- وما أهون أن تكتب هذه الكلمة «قيل» ويلقي بعدها بآراء لا يعلم مصدرها إلا الله- في كيفية تلقي الرسول للوحي، و «الحالة» التي يكون عليها عند ما يهبط عليه جبريل بالقرآن؛ هل ينخلع الرسول من صورته البشرية ليتلقى عن الملك، أم يدخل الملك في صورة بشرية ليوحي إلى الرسول! وكل ذلك افتراضات لا سند لقائلها يعول عليه، وليست مثل هذه القضايا الغيبية مما يدخل تحت الفروض والاحتمالات العقلية الكثيرة، وما نعرفه من الوحي وما شاهده الصحابة بأنفسهم- ولم يزيدوا عليه من افتراضاتهم- إنما هو آثاره التي كانت تبدو على النبي صلى الله عليه وسلم من الجهد والمشقة. وما كان خبر السماء يهبط به أمين السماء الا أمرا جليلا هيأ الله تعالى له نبيه الذي اصطفاه وخاطبه بقوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا). وقد أحسن الحاكم- رحمه الله- في عدم خوضه في هذه الموضوعات، سواء في تفسيره أو في كتبه الأخرى التي وقفنا عليها. راجع السيوطي 1/ 74.

ثانيا: نقل القرآن

عرض له الحاكم في قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ .. ) «1» قال الحاكم: الرسول الكريم قيل جبريل، عن أبي علي. وقيل محمد صلّى الله عليه وسلم، عن الحسن، والكريم: الجامع لخصال الخير، وقيل إنه كريم على ربه. قال: «ومتى قيل: إذا كان القرآن كلامه تعالى فلم أضافه إلى الرسول؟ قلنا: فيه وجوه: قيل كانوا ينكرون أن يكون كلام رسول الله ويقولون هو سحر! فبين أنه كلام رسوله لانه سمع منه، عن أبي علي. وقيل: تلاوته وأداؤه. وقيل فيه حذف، أي قول مرسل رسول كريم، كقولهم: (واسأل القرية) أي أهلها». وذكر الحاكم أيضا نحوا من هذه الوجوه في تفسير قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) من سورة التكوير «2». ثانيا: نقل القرآن 1) تواتر النص القرآني: ويعرف القرآن عند جميع المسلمين بالنقل المتواتر، ولا خلاف أنه ما بين الدفتين، وأنه المختص بهذه السور أوّلها وآخرها، قال الحاكم: وذلك أظهر من أن يمكن الخلاف فيه. ومن هنا اشتدت حملته- في تفسيره وفي مواطن أخرى من كتبه- على من لفق من رواية نفي ابن مسعود المعوذتين، واثبات أبيّ سورتي القنوت، ومن

_ (1) الآيات 38 - 43 سورة الحاقة، ورقة 112/ ظ. (2) الآية 19، التهذيب ورقة 136/ و.

القول بأن القرآن من جمع عثمان رضي الله عنه، بعض المزاعم الباطلة، قال الحاكم: والذين تلقفوا هذه الروايات فريقان: الحشوية، وعوام الإمامية، وهؤلاء جهلة مقلدة راجت عليهم دسائس الملحدة، قال: «وأما العلماء فلا خلاف عندهم في القرآن البتة، وأنه كان مجموعا على هذا الحد في آخر أيام الرسول، يبين صحته ما رواه القوم من فضائل السور. وإنما كان من أبي بكر التشدد في جمعه في المصاحف، وتشدد عثمان في الجمع على هذا المعروف لاختلاف اللغات، وكان ابن مسعود يقول: أنزل المعوذتين للتعوذ وأبيّ يقول في سورتى القنوت إنه منزل ليثبت، والخلاف كان في الإثبات، فكان الخلاف في إثباته في المصحف لا في إنزاله» «1». وقد عقد الحاكم في مطلع تفسيره لسورة الأحزاب فصلا نقد فيه هذه الروايات، وفند مزاعم الرافضة، وأبان في ذلك عن علم وبصيرة، ونكتفي هنا بذكر هذا الفصل للوقوف على ردود الحاكم التي تغنى عن الإطالة في تقسيم هذه الفقرة، قال: «وروى جماعة من نقله الحديث عن أبي بن كعب أن سورة الأحزاب تقارب سورة البقرة، وكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. ورووا عن عمر قريبا منه، ورووا عن عائشة أنها- أي السورة- كانت تقرؤ في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم مائتي آية، فلما كتب عثمان رضي الله عنه المصاحف لم يقدر عليها إلا على ما هي الآن! ولما رووا هذا القدر وجدت الرافضة لنفسها مجالا، فرووا في هذه السورة ما يتجاوز هذا الحد، وذكروا أن فيها النص على تكفير عثمان وغيره من الصحابة فحذفوه منها ... »

_ (1) شرح عيون المسائل، ورقة 260.

قال الحاكم: «ولا يجوز في مثل هذه الروايات إلا القول بأنها من دسيس الملحدة الذين غرضهم هدم الإسلام وإبطال التمسك بالقرآن، إذ هو الأصل في الإسلام، وإلقاء الشك في قلوب المستضعفين. «ولو جاز ما قالوا لجاز أن يكون فيها آيات ناسخة لكثير مما نتمسك به من الشرائع،- وهذا يقتضي الشك في الشرع كما اقتضى الشك في القرآن- ولجاز لليهود أن تقول: قد غير القرآن مع كثرة الحفاظ له! «وكيف يعترض عليه بمثل هذه الأخبار وهي آحاد غير صحيحة. ولأنه تعالى تولى حفظه قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) فكيف يجوز أن يقال مع هذا إنه غير وبدل وزيد ونقص؟! «وبعد، فلو رام في زماننا هذا الوجه أحد لأتاه النكير من كل جهة، فكيف يجوز مثل ذلك في زمن الصحابة والإسلام غض، والزمان زمان فضل ودين؟ ولأن تلك الآيات إما أن يحتاج إليها فكان الله يحفظها، وإلا لم يكن مزيحا للعلة، أو لا يحتاج إليها فكان إنزالها عبثا!! ولأن نقل القرآن متواتر، وحفاظه جماعة فلا يجوز عليهم التواطؤ، فكيف يكتم شيء منه؟! ولو جاز فيه ذلك لجاز في معارضة القرآن شيء آخر مثل ذلك! وفي هذا هدم الإسلام ... «ومتى قيل: حفاظ القرآن كانوا خمسة، وهم الذين ترجع إليهم الأسانيد. قلنا: غلط، الحفاظ كان في عددهم كثرة، ولكن هؤلاء انتصبوا للقراءة عليهم، كما أن حفاظ القرآن في بلاد الإسلام كثير وإن كان في كل بلد واحد ترجع إليه الأسانيد. «ومتى قيل: أليس روى أن عثمان جمعه؟ قلنا: معاذ الله! فقد كان

مجموعا في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم يقرأ كما هو عليه، وإنما نقله عثمان إلى المصاحف، وجمع الناس على الظاهر منها- الأحرف- لما رأى اختلاف الناس في القرآن وخاف وقوع الفتنة، وفي الظاهر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ على أبيّ وأبيّ قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وذكر الهادي عليه السلام في «الأحكام» أنه وجد مصحف علي عليه السلام عند عجوز من آل الحسن، فكان علي ما في أيدي الناس. «ومتى قيل: إنما أسقطوه لداع لهم، ولم يكن في غير إمامة علي داع! قلنا: لو أن عثمان أسقطه أليس كان يقرأ؟! على أن الدواعي في الأمور تختلف، فلئن كتموا نص عليّ حسدا؛ جاز أن يكتموا أحكاما وشرائع لدواع آخر! فيقال: نسخ الحج فكتموه لئلا تنقطع الرحلة عنهم!. ويقال: نسخت الصلاة فكتموها، ويقال: نسخت الزكاة فكتموها ليتوصلوا إلى أخذ الأموال! «ويقال لهم: هلا أظهر عليّ ما كتموه في أيامه، إذ لم يكن في الإسلام أمر أهم من ذلك؟ وهلا نقلته الأئمة اللذين يشيرون إليهم! أم يزعمون أنه بعد إمامة «الاثنا عشر» سر! «وبعد، فإذا لم يعلموا، فكيف قالوا: كتموا ذلك؟ وكل ذلك يدل على سخف قائله، وأنه لا يرجع إلى دين، وأنه يستتر بالإسلام ويعتقد غير الإسلام. «ومتى قيل: فلو صح حديث أبيّ وعمر، هل له تأويل؟ قلنا: القدر الذي روى عن عمر وأبي أنه كان فيما يتلى (الشيخ والشيخة) هذا يحتمل أنه نسخ تلاوته. فأما من يقول كانت تتلى مائتي آية- سورة الأحزاب-

فكتمها عثمان وكان فيه نص عليّ فكتموه، فلا قول فيه غير أنه من دسائس الملحدة» «1». 2) السور والآيات: قال الحاكم: «وفي القرآن آيات وسور، فالسور جمع سورة، كغرفة وغرف، وهو بغير همز: المنزل المرتفع، ومنه سور المدينة، ومنهم من يهمزه ويريد به القطعة من القرآن، وسؤر كل شيء: بقيته بعد الأخذ منه. فأما الآية فقيل معناها العلامة، سميت بذلك لدلالتها على أول الكلام وآخره. وقيل: الآية: الجماعة ... ؛ يقال: خرج القوم بآيتهم، أي بجماعتهم». «2» أ- ويرى الحاكم أن عدد السور منقول إلينا بالتواتر، وأن ترتيبها توقيفي كذلك كما قدمنا، قال في تفسيره لسورة الضحى: «وذكر بعض الجهال أن سورة (والضحى) و (ألم نشرح) واحدة. وهذا باطل لأنا بالطريق الذي علمنا فضل السور، بذلك علمنا أنهما سورتان، ألا ترى أنه فصل بينهما بالتسمية، وتواتر النقل بأنهما سورتان» «3» وقال أيضا: وقد قال بعضهم إن سورة الفيل وسورة قريش واحدة، وروى أن في مصحف أبيّ لا فصل بينهما. والصحيح أنهما سورتان، وعليه جل الصحابة والتابعين، وبالطريق الذي نعلم تفاضل السور، بذلك نعلم أنهما سورتان. وما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قرأهما في ركعة واحدة لا يدل على أنهما سورة واحدة. «4»

_ (1) التهذيب، ورقة 94 - 95. (2) التهذيب المجلد الأول، ورقة 2/ ظ. (3) التهذيب، ورقة 150/ و. (4) التهذيب، ورقة 156/ و.

ب- أما عدد الآيات في كل سورة ففيه بعض الاختلاف تبعا لاختلافهم في رءوس الآي، فالسورة واحدة بالإجماع ولكن «عد» آيها قد اختلفت فيه الرواية اختلافا طفيفا لا يكاد يذكر، وقد جرى الحاكم على أن يذكر في رأس كل سورة عدد آياتها عند قراء أهل البصرة والكوفة، ومكة والمدينة، ومصر والشام، ولكنه نص في أكثر من موضع على أن أصح الأعداد عدد الكوفة «لأنه عدد أمير المؤمنين» علي عليه السلام، قال في سورة غافر: «قال القاضي: هي مكية فيما نقله المفسرون «1»، وهي خمس وثمانون آية في الكوفى، واثنان في البصرى، وأربع في المكي والمدني، وست في الشامي. وأصح الأعداد عدد الكوفة لأنها عدد أمير المؤمنين» «2». وقال في سورة الطور: «مكية، وهي تسع وأربعون آية في المدني، وثمان في البصرى، وسبع في الكوفى. وقد بينا أن أصح الاعداد: الكوفى؛ لانه عدد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام». «3»

_ (1) معظم نقل الحاكم للمكي والمدني عن القاضي عبد الجبار، ولعله أبرز نقوله عنه، ولم نعرض للحديث عن المكي والمدني عند الحاكم في الفقرة الأولى- نزول القرآن- لأنه لم يذكر أي قاعدة خاصة للتفريق بينهما، كما أنه لا توجد هنالك ملاحظات حول موقفه من المكي والمدني جديرة بالتنويه، وإن كان قد ذكر من الفروق الموضوعية بين المكي والمدني أن «أكثر الحجاج في حديث عباد الأصنام في السور المكية لأنه كان يدعو إلى التوحيد والعدل، وهو أهم الأمور، وهم كانوا مشركين، فلما هاجر إلى المدينة وأسلم الناس شرع الشرائع وقرر الأمور» انظر الورقة 108/ ومن تفسيره لسورة تبارك. (2) ورقة 17/ ظ. (3) ورقة 68/ ظ.

ثالثا: فضائل القرآن

ثالثا: فضائل القرآن ولا نعني بها فضائله على الجملة، فإن هذه الفضائل لم يعرض لها الحاكم، ولكننا نعني فضائل سوره سورة سورة، وفضائل بعض الآيات، وقد حفل الحاكم بهذا النوع من الفضائل في كل سور القرآن. 1) فضائل السور: نقل الحاكم في مطلع كل سورة- بعد ذكر عددها وأنها مكية أو مدنية- خبرا أو أكثر مما ورد في فضلها، ولم تخل سورة واحدة عنده من خبر أو أكثر في فضلها وشرفها، على الرغم من أن كتب الحديث لا تصحح كثيرا من هذه الاخبار، ويبدو أن الذي حمله على استقصاء «أحاديث» الفضائل هذه تعويله عليها- فيما عول عليه- في بيان أن أعداد السور منقول إلينا بالرواية، وإن كان قوله إن طريق العلم بالسور هو التواتر لا تصححه هذه الروايات في الفضائل، وإنما تصححه روايات أخرى لا يتطرق اليها الشك، إلا أنه لا يمتنع أن يقال إن ورود بعض الأحاديث الصحيحة في الفضائل، إلى جانب بعض الأحاديث الحسنة، مما يصح أن يستأنس به على ما ذهب اليه الحاكم، وقد يدل عليه من بعض الوجوه. وقد جرت عادته في ذكر هذه الأحاديث على رفعها إلى النبي صلّى الله عليه وسلم دون ذكر الراوي، أو مع ذكره في أغلب الأحيان- ويتردد هنا اسم أبي بن كعب كثيرا- وقد يذكر طرفا من سند الحديث في بعض الأحيان، قال في سورة الفاتحة: «وعن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن فاتحة الكتاب، فقال: (والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الانجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، هي أم

القرآن وهي مقسومة بين الله وعبده، ولعبده ما سأل) «1». وقال في سورة البقرة: «وعن سهل بن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلم وآله: (لكل شيء سنام، وسنام القرآن البقرة: من قرأها في بيته نهارا لم يدخل بيته شيطان ثلاثة أيام. ومن قرأها ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال)». «2» وقال في سورة الرحمن: «وروى الصادق عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: (لكل شيء عروس، وعروس القرآن الرحمن) وروى أبيّ عن النبي صلّى الله عليه وسلم: (من قرأ سورة الرحمن رحم الله ضعفه، وأدّى شكر ما أنعم الله عليه) وعن جابر، قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: ما لي أراكم سكوتا؟! للجن كانوا أحسن منكم ردا، ما قرأت عليهم هذه الآية مرة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك يا رب نكذب، فلك الحمد». «3» وفي أول سورة غافر، ذكر فضل «الحواميم» على الجملة «4»، بالإضافة إلى ما نقله من فضل كل واحدة منها على التعيين، قال: «فضل الحواميم: روى أنس عن النبي صلى الله عليه وآله: حواميم ديباج القرآن. وعن ابن عباس: لكل شيء لباب، ولباب القرآن الحواميم. وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله:

_ (1) ورقة 4/ و. (2) ورقة 11/ و. (3) التهذيب، ورقة 78/ و. (4) وذكر من فضائل بعض السور جملة، فضائل السبع الطوال، وما ورد من فضائل المفصل، وشرح في مقدمة كتابه المراد بالسبع الطوال، وبالمفصل وبالمثاني. التهذيب، ورقة 2/ ظ.

من أراد أن يرتع في رياض الجنة فليقرا الحواميم» قال الحاكم: «وفي فضل هذه السورة- غافر- روى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله (من قرأ حم المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلوا عليه واستغفروا له)». «1» 2) فضائل الآيات: أما فضائل الآيات فطريقة الحاكم في روايتها لا تختلف عن طريقته في فضائل السور، ومحلها عنده في شرح الآية في آخر كلامه على «المعنى»، وقسم كبير من هذه الفضائل يقع في أواخر السور لكثرة الآثار الواردة في فضائل الخواتيم، مثل ما ورد في آخر البقرة، وآخر آل عمران، وآخر الاسراء، وآخر الحشر ... قال في قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... ) الآيات إلى آخر سورة الحشر: «روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم: (من قرأ آخر سورة الحشر غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ آخر سورة الحشر: لو أنزلنا هذا القرآن إلى آخره، فمات من ليله مات شهيدا) وعن أبي أمامة: من قرأ خواتيم الحشر من ليل أو نهار فقبض في ذلك اليوم أو الليلة فقد أوجب له الجنة وعن أبي هريرة قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم، فقال: عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها» «2». وقال في آية الكرسي: «وعن أبي بن كعب: أعظم آية في كتاب الله آية الكرسي». «3».

_ (1) التهذيب، ورقة 17/ ظ. (2) التهذيب، ورقة 93/ و. (3) التهذيب، ورقة 162.

رابعا: النسخ في القرآن

وقال في أول الكهف- بعد أن روى من حديث أبي سعيد أن من قرأها يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين- «وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)». وما أورده الحاكم من الآثار في باب فضائل بعض الآيات، أقل بكثير مما ذكره في فضائل السور، ولعل تلك الآثار أقل من هذه في كتب الحديث، وفي كتب التفسير الأخرى. رابعا: النسخ في القرآن أكثر ما عرض الحاكم لموضوع النسخ عند كلامه على «الأحكام» - وهذا مما حملنا على إفراده بفقرة مستقلة بعيدة عن فقرة «الفقه» التي لم يشر فيها إلى هذا الموضوع- لبيان أن الآية التي فسرها وقدم فيها القول ناسخة أو منسوخة، مع الإشارة إلى أن دعوى النسخ لا تصح في كثير من الآيات، خلافا لما ذهب اليه البعض. وهو وإن قال بوقوع النسخ في القرآن- فعل الجمهور- إلا أن مخالفته لدعاويه الكثيرة، كثيرة أيضا. ونحاول في هذه الفقرة الوقوف على «خلاصة» رأية في النسخ- من خلال تعليقاته وردوده الكثيرة في تفسيره- مع ذكر بعض الشواهد الموجزة الموضحة لهذا الرأي: 1) تعريف النسخ وجوازه والفرق بينه وبين البداء: ذكر الحاكم في تفسيره لقوله تعالى: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) «1» وجوه القراءة في الآية وما يتبع ذلك من اختلاف المعنى،

_ (1) الآية 106 سورة البقرة، التهذيب، ورقة 138 - 139.

وما ذهب إليه السلف والأئمة وكثير من شيوخ الاعتزال في معنى النسخ الوارد في الآية، وما هو المراد من «الآية» الواردة فيها، كما ذكر أصل معنى «النسخ» في اللغة أهو من الإبدال كما قال به الرماني، أم من الإزالة كما ذهب اليه أبو هاشم. ثم ذكر من تعاريفه الاصطلاحية هذين الحدين للقاضي عبد الجبار وعلي ابن عيسى الرماني، قال القاضي: «النسخ في الشرع: هو ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالشرع غير ثابت في المستقبل، على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول، مع تراخيه عنه، فالنص الثاني ناسخ، والأول منسوخ» وقال الرماني: «هو رفع لشيء قد كان يلزم العمل به إلى بدل منه». ولم يرجح الحاكم أحد هذين التعريفين، ولعله وجد أنه لا تعارض بينهما لأن تعريف القاضي الذي ينسب عادة إلى المعتزلة «1» - إنما هو تعريف «للناسخ» «والمنسوخ»، وتعريف الرماني إنما هو لحقيقة «النسخ» عندهم. وأيا ما كان الأمر فقد ذهب الحاكم إلى جواز النسخ- وحكم بوقوعه- كما قدمنا، ورد على أبي مسلم الأصفهاني مذهبه في إنكار النسخ، قال الحاكم: «واختلفوا في قوله (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) فكل المفسرين حملوه

_ (1) انظر التعريف الذي حكاه الآمدي عن المعتزلة، وقارنه بالتعريف الذي ذهب إليه القاضي أبو بكر الباقلاني، وانظر مناقشة ضافية لهذه التعاريف ولتعاريف أخرى كثيرة قيلت في النسخ، في كتاب الأستاذ الدكتور مصطفى زيد: النسخ في القرآن الكريم 1/ 87 - 89 والصفحات التالية.

على الآية من القرآن غير أبي مسلم فإنه حمل ذلك على التوراة والانجيل والشرائع التي فيها، وقال: أراد ما ننسخ من آية، أي من شرائعهم وكتبهم. (أو ننسها) يعني لا ذكر لها في القرآن (وننسئها) نؤخرها ونبقيها فلا ينسخها القرآن، ونذكرها في القرآن. وقوله (نأت بخير منها) يعود الضمير في «منها» إلى ما ننسخ، وفي (مثلها) يرجع إلى ما لم ننسخ»، قال الحاكم: «وهو محجوج بالإجماع. والذي ذكره هاهنا وجه وربما تأول الآيات المنسوخة على تأويل بعيد، ويتعسف فيها». وعرض الحاكم لموضوع مخالفة اليهود في النسخ، وأطال الرد عليهم في مسألة البداء- على منهجه الكلامي المعهود- فقال في «أحكام» آية النسخ السابقة: «ولا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ، وإنما خالف في ذلك اليهود، فمنهم من يأباه عقلا ويزعم أنه بداء، ومنهم من يأباه سمعا بخبر زعموا أنه من موسى عليه السلام! وفيهم أيضا من يجوز النسخ. وعندنا: الشرائع مصالح فلا يمتنع أن تختلف بالأزمنة والأمكنة». «أما الفصل بين النسخ والبداء فالأصل فيه أن الشيء إنما يدل على البداء إذا اجتمع فيه شرائط خمس: أولها أن يرد أمر ونهي وثانيها أن يكون الفعل واحدا. وثالثها أن يكون الوقت واحدا. ورابعها أن يكون المكلّف واحدا. وخامسها: أن يكون الوجه واحدا. فمتى تكاملت هذه الوجوه دل على البداء، ومتى أخل بوجه منها لا يدل». قال: «وإن شئت قلت: كل نهي قرنته بأمر فلم يدل على المناقضة لا يدل على البداء، وكل ما يدل على المناقضة يدل على البداء. وإن شئت قلت: كل أمر ونهي ورد أحدهما عقيب الآخر، ويصح حصولهما

من واحد وحاله في العلم في الحالين على السواء بحيث لا يتغير، لا يدل على البداء، وإن كان لا يصح حصولهما منه وحاله في العلم في الحالين على السواء دل على البداء. مثال ذلك: إذا أمر زيدا أن يشتري وقت الظهر لحم الغنم، ثم نهاه أن يشتري وقت الظهر لحم الغنم .. هذا يدل على أنه ظهر له ما لم يكن ظاهرا، وإلا لما نهى. فإن تغير واحد لا يدل، نحو أن يأمر زيدا وينهى عمرا، أو أن يأمره في وقت الظهر وينهاه في وقت العصر، أو يأمره بالشراء وينهاه عن الانتهاب، أو يأمره بلحم الغنم وينهاه عن لحم البقر. «وإنما قلنا إنه لا يدل على البداء لأنه لا يمتنع أن يكون الشيء مصلحة لزيد مفسدة لعمرو، ولا يمتنع أن يكون مصلحة لزيد في وقت دون وقت، وأن يكون فعل له فيه مصلحة، وفعل آخر مفسدة، أو يكون مصلحة على وجه دون وجه. وإذا لم يمتنع ذلك لم يدل على البداء» «1». 2) لا نسخ في الأخبار وحيث لا تعارض: ويبدو أن التمييز بين النسخ والتخصيص والتقييد وسائر أنواع البيان كان ماثلا أمام الحاكم وهو يرد كثيرا من دعاوى النسخ أو يهمل الإشارة إليها. وواضح من كتابه أنه يذهب إلى إنكار النسخ في الأخبار، وفي الآيات التي لا يوجد بينها تناف أو تعارض، كما ينكر وقوعه في آيات الوعيد، وفي آيات أخرى كثيرة زعم أنها نسخت بآية القتال، أو اشتهر بأنها من المنسوخ، يحدوه في ذلك منهج لا يعفيه من النظر- على الدوام- ومناقشة أي دعوى والحكم عليها بالرد أو القبول. ويمكن أن تصنف الآيات التي رد فيها الحاكم دعوى

_ (1) شرح العيون للحاكم، ورقة 258.

النسخ في فقرتين اثنتين: دعاوى النسخ في الآيات الإخبارية. وفي الآيات التي لا يوجد بينها تعارض. بل يمكن إعادتها إلى هذه الفقرة الأخيرة وحدها كما يبدو ذلك من تعليقاته الكثيرة حول هذا الموضوع: أ- قال في قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) «1» إن الربيع قال: نسخت هذه الآية بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)، قال الحاكم: «وهذا لا يصح لأنه لا تنافى بين الآيتين، ولأنه خبر فلا يدخله النسخ». ب- وذكر في قوله تعالى: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) «2» انها منسوخة بآية السيف، عن الكلبي! قال: «وليس في الآية ما ينافي الجهاد حتى تحمل على النسخ»! ج- وقال في قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ. قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ

_ (1) الآيتان 17 - 18 سورة النساء، التهذيب ورقة 134. (2) الآية 139 سورة البقرة، ورقة 167/ و.

الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) «1» قيل إنها منسوخة لأنها نزلت قبل غفران ذنبه! قال: «وهذا فاسد لأنه ليس في الآية وقوع ذنب، وإنما فيها أنه يخاف! ولأن ذنوب الأنبياء تقع مكفرة». وقال في تفسير قوله تعالى: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي .. ) قل يا محمد إنني لا أعبد إلا الله تعالى وحده، ولا أعبد معه شيئا، ولا أعصيه في شيء، فاعبدوا ما شئتم فستجدون جزاءه. وقيل: تقديره إذا لم تقبلوا نصحي فأنتم وشأنكم فإني لا أعبد أحدا سواه. قال الحاكم: وقيل إنها منسوخة بآية القتال! قال: «وهذا في غاية الفساد لأنه ليس بأمر حتى ينسخ، وإنما هو تهديد ووعيد فلا تنافي القتال والقتل»! د- وأخيرا قال في تفسير قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) «2» إنه يحتمل وجهين: أحدهما أنه لم يكلف شططا ولا شيئا لا يقدر العبد عليه. والثاني أنه أراد المبالغة، أي اتقوا الله ما أمكنكم. ثم قال: «ومتى قيل: أليس روي عن بعضهم أن هذا ناسخ لقوله (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ)؟ قلنا: ذلك ليس بصحيح لأنه تعالى لم يكلف إلا ما يطيقه العبد، والآيتان لا تتنافيان، وإنما وردتا بشرط الطاقة». 3) من شواهد النسخ عند الحاكم: وفي الآيات الأخرى التي لم يردّ فيها الحاكم دعوى النسخ، لم يلتزم بترجيح الرأي في أنها منسوخة-

_ (1) الآيات 11 - 15 سورة الزمر، ورقة 10/ و. (2) الآية 16 سورة التغابن، ورقة 102/ ظ.

حيث يكون هناك معارض لدعوى النسخ يذكره هو- كما لم ينص صراحة على أنه يذهب فيها إلى القول بأنها منسوخة وإن لم يذكر فيها رأيا آخر، حتى كان الوقوف على الآيات التي صرح فيها الحاكم بالنسخ كالمتعذر. وكل ما في الأمر أن الحاكم يقول بالنسخ، وأنه يضيق دائرته إلى حد كبير. ونورد فيما يلي شاهدين من شواهده في النسخ يدلان على طريقته التي تحدثنا عنها: أ- قال في قوله تعالى في مطلع سورة المزمل: (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ... ) الآيات: «1». روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي بالليل فتسامع الناس به واجتمعوا وكثروا، فدخل البيت فقال: أخاف أن تكتب عليكم، فجعلوا يتنحنحون حتى يخرج إليهم، فنزل قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ .. ) وفرضت الصلاة بالليل حتى كان أحدهم يربط حبلا فيتعلق به، فمكثوا كذلك ثمانية أشهر، ثم نسخ ذلك وصارت صلاة الليل تطوعا. قال الحاكم: «وقيل: لم تكن فريضة، بل كانت تطوعا لأن الفرض لا تخيير فيه. وقيل: كانت فرضا، والزيادة والنقصان موقوفان على رأي المصلي واختياره. وقيل: لما نزلت هذه الآية اشتدت عليهم محافظة الوقت نصف الليل أو أقل أو أكثر، فكان يقوم حتى يصبح! فشق عليهم وتورمت أقدامهم، فخفف عنهم ونسخت. وقيل: بين أن فرضت حتى نسخت سنة، عن ابن عباس والحسن وقتادة. وقيل: كان بينهما عشر سنين، عن سعيد بن جبير! وقيل: ثمانية أشهر؛

_ (1) الآيات 1 - 8، التهذيب، ورقة 119.

عن عائشة. وقيل: كان هذا بمكة قبل فرض صلاة الخمس ثم نسخ بالخمس، عن ابن كيسان ومقاتل». ثم قال الحاكم: «تدل الآية على وجوب صلاة الليل عليه صلّى الله عليه وسلم، هكذا قاله أكثر المفسرين. وذكر أبو علي أنه لم يكن واجبا بل كان نفلا فلذلك خيّر. قال القاضي: وإذا كان مقتضى الأمر لا يقتضي الوجوب لم يكن في ظاهره دلالة على ما يقوله القوم، إلا أنه ثبت أن أوامر الله ورسوله تقتضي الوجوب، فلهذا دل الظاهر عليه» قال الحاكم: «وإذ ثبت وجوبه اختلفوا فالأكثر من الفقهاء والمفسرين أنها منسوخة، وعن الحسن وابن سيرين: لا بد من قيام الليل ولو قدر حلب شاة»! ب- وقال في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) «1» إن الآية الأولى الموجبة لتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول صلّى الله عليه وسلم قيل في سبب نزولها إنهم سألوا رسول الله فأكثروا فشق عليه فأمروا بتقديم صدقة، عن ابن عباس. وقيل إن الآية نزلت في الأغنياء كانوا يناجون النبي ويغلبون الفقراء ويكثرون الجلوس، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك فأمروا بتقديم صدقة قبل المناجاة فانتهوا عن مناجاته واشتد ذلك فنزلت الرخصة: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ .. )،

_ (1) الآيتان 12 - 13 سورة المجادلة، ورقة 89.

عن مقاتل. قال قتادة: لما نهوا عن مناجاته حتى يتصدقوا لم يناجه إلا علي بن أبي طالب عليه السلام، قدم دينارا فتصدق به ثم نزلت الرخصة. وعن علي: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ.) ثم نسخت. وعن ابن عمر: كان لعلي ثلاث لو كان لي واحدة منها كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى. قال الحاكم: «ومتى قيل: هل كان ذلك واجبا؟ قلنا: نعم، ثم نسخ بالآية التي بعدها (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا ... ) عن الحسن وقتادة، وتلك الآية وإن اتصلت بهذه في التلاوة فيجوز أن تكون متأخرة بزمان في النزول. وروي أنه بقي زمانا ثم نسخ، عن مقاتل. وقيل: بل كانت ساعة ثم نسخ، عن الكلبي. وقيل عمل بها علي بن أبي طالب فقط. وقيل بل عمل فيها أفاضل الصحابة. وقيل: كان المنافقون يستثقلونه، عن أبي علي». وقال في قوله تعالى: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) قيل معناه: إذا كنتم تائبين وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة كفاكم ذلك. وقيل: إذا لم تفعلوا ذلك وشق عليكم ذلك نسخ، فجعل ترك مؤاخذتهم بالنسخ توبة عليهم! وقيل معناه: قبل توبتكم. وقيل: لطف لكم حتى تبتم. ثم عقب الحاكم على الآيتين جميعا بقوله: «ولا خلاف أن هذه الصدقة كانت واجبة وأنها نسخت» قال: «ومتى قيل: كيف نسخ عنهم قبل الفعل؟ قلنا: مكّنوا ففعل من فعل فجاز». وهذا يسلمنا إلى الحديث عن موقف الحاكم من النسخ قبل الفعل.

4) النسخ قبل الفعل: ونختم حديثنا في موقف الحاكم من النسخ في القرآن «1» بالكلام على رأيه في النسخ قبل الفعل أو قبل الوقوع، ويتلخص رأيه في هذه المسألة بالقول بجواز النسخ قبل الفعل، وعدم جوازه قبل «وقت الفعل» لأنه إذا حصل قبل التمكين منه دل على البداء، وذلك- كما قدمنا- لا يجوز على الله تعالى. قال في الآيات التي حكت قصة موسى مع قومه حين كلفهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة- قال تعالى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها ... ) إلى آخر الآيات «2» - قال الحاكم: «تدل الآيات على

_ (1) من جوانب الموضوع «الفقهية» التي طوينا الكلام فيها، ونشير إليها هنا باختصار: استدلال الحاكم بقوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) على جواز نسخ القرآن بالسنة- وبالقرآن طبعا- لأن هذا المعنى قد يحصل بالكتاب والسنة، قال: «ولأن السنة إذا كانت بأمره ووحيه صح إضافتها إليه تعالى، ولأنهما يستويان في العلم والعمل، فجاز النسخ بكل واحد منهما. والآية تدل على الضد مما تعلق به الشافعية من منع نسخ القرآن بالسنة» وهذه السنة الناسخة، عند الحاكم وعند فقهاء الزيدية، هي المتواترة، قال الحاكم: «وقد جوز بعضهم النسخ بخبر الآحاد، وليس بشيء لأنها لا توجب العلم». (2) الآيات 67 - 71 سورة البقرة، ورقة 95 - 96.

جواز النسخ قبل الفعل، وإنما لا يجوز قبل وقت الفعل لأنه يدل على البداء، فأما إذا فات وقته جاز نسخه لأن المصلحة قد تتغير.» قال: «واختار أبو مسلم وجماعة من المفسرين أن المأمور به ثانيا هو «بيان» للمأمور به أولا وليس بنسخ». قال الحاكم: وعندنا أنه تكليف بعد تكليف وليس ببيان، لوجوه: منها «أن الأمر الأول لا يحتاج إلى بيان، ولو احتاج لما جاز تأخير البيان عن وقت الخطاب. ومنها: أن العلماء أجمعوا على أنهم لو ذبحوا بقرة أجزأت عنهم، فلما راجعوا وبين صفة البقرة اشتد عليهم، فلم تجز إلا بقرة موصوفة، فكان تكليفا غير الأول. ومنها: أن قوله تعالى (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) استبطاء وذم لهم، فلولا أنهم مقصرون وإلا لما صح ذلك، ولو كان يلزمهم الفعل عند آخر البيان لما كانوا مقصرين ولما استحقوا الذم!». واستدل بعضهم على جواز النسخ قبل «وقت» الفعل بقصة الذبيح إسماعيل عليه السلام «1» وأن الله تعالى نسخ الأمر الذي كلف به إبراهيم قبل أن يذبح ولده، وعند الحاكم أن القصة ليس فيها نسخ لا قبل الفعل ولا قبل وقت الفعل، لأن إبراهيم- عنده- لم يؤمر بذبح ولده أصلا، وإنما أمر بمقدمات الذبح، وكان الحسن يقول: ظن أنه سيؤمر بالذبح فلم يؤمر به. قال الحاكم: «ومتى قيل: لم قال (أني أذبحك)؟ قلنا: لم يقل: أمرت بالذبح، ولكن رأى في المنام كأنه أضجعه والسكين تمر في أوداجه، ولذلك قال: (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ولم يقل: ما أمرت!!

_ (1) انظر الآيات 100 - 107 سورة الصافات، التهذيب 164.

خامسا: اعجاز القرآن

«ومتى قيل: بأي أمارة ظن الذبح؟ قلنا بالعادة، فإن من أضجع شاة وأخذ الشفرة ووضعها على حلقها ... يعلم بالعادة أنه يريد ذبحها، فلما رأى ذلك ظن أنه سيؤمر بذبحه. «ومتى قيل: ألا يجوز أن يكون مأمورا بالذبح؟ قلنا: لو كان كذلك لما نهى عنه لأنه يكون بداء، ولما قال (قد صدّقت الرؤيا)! ولأن الذبح لو كان مرادا لما كرهه من بعد!» ثم قال الحاكم في الأحكام التي تدل عليها الآية: «ولا حجة فيها لمن جوز نسخ الفعل قبل وقت التمكين منه لأنا بينا أن الأمر لم ينسخ، ولأن ذلك يكون بداء، تعالى الله عن ذلك». خامسا: اعجاز القرآن أما إعجاز القرآن فقد أفاض الحاكم في الحديث عنه والدلالة عليه في تفسيره وفي بعض كتبه الأخرى، فأشار إليه- في قواعد وملاحظات- عند الكلام على كثير من الآيات والسور القصار، كما عقد له في كتابه «شرح عيون المسائل» فصولا فريدة يمكن اعتبارها «تلخيصا» وافيا لكتاب القاضي عبد الجبار- إعجاز القرآن- و «مدخلا» دقيقا ومهما لدراسة آراء المعتزلة في الإعجاز، أو «نظريتهم» الكلامية فيه. ويبدو أن الذي حمل الحاكم على هذه العناية- فوق ما عرف من اهتمام جميع المتكلمين بهذا الموضوع، وبخاصة المعتزلة الذين يتصل تصديقهم بالمعجزة وبصحة دعوى النبوة بأهم قاعدة في منهجهم الفكري، وهي الإيمان بحكمة الحكيم وأنه لا يختار فعل القبيح- إنما هو رغبته في تصحيح أمر مرد الناس على إضافته إلى المعتزلة بعامة، وهو قولهم بالصرفة في إعجاز

1 - مقدمات الاعجاز

القرآن، وأن العرب كانوا قادرين على أن يأتوا بمثل هذا هذا القرآن أو بعضه، لولا أن الله تعالى صرف دواعيهم في ذلك! فقد اشتد الحاكم في الرد على هذا القول، كما نقضه من قبل الجبائيان والقاضي عبد الجبار، وإن كان للصرفة عند القائلين بها، كالنظّام وابن حزم وابن سنان وغيرهم، أكثر من معنى، وأكثر من تفسير. ونعرض في هذه الفقرة لرأي الحاكم في إعجاز القرآن بالقدر الذي تسمح به صفحات هذه الرسالة، آخذين من رأي القاضي عبد الجبار ما يوضح رأي الحاكم ويضعه في موضعه، ومكتفين من سائر الآراء بالإشارة إلى ما ناقشه الحاكم منها وسوف ندع القول في هذه الأقوال والآراء، وفي تطورها التاريخي، ومدى ما أسهم به المعتزلة من دراسات كلامية وبلاغية في هذا الموضوع إلى بحث مستقل نعده الآن عن «إعجاز القرآن عند المتكلمين» 1 - مقدمات الاعجاز قال الحاكم إنه قد صح نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم بمعجزات كثيرة «أظهرها» القرآن، ولا بد للكلام على إعجازه من مقدمات ضرورية لا بدّ منها: أن يعلم نفس الرسول إما بمشاهدة أو خبر، وهذا مما يعلم ضرورة. وأن يعلم أنه قد ادعى النبوة، وهذا أيضا مما يعلم ضرورة. وأن يعلم القرآن بالنقل المتواتر، وأنه تحداهم به وجعله دلالة نبوته. قال: «وذلك لأنه لا يجوز أن نعرفه نبيا ونحن لا نعرف عينه، ولا دعواه جملة وتفصيلا. وكذلك لا يجوز أن نعرف أن القرآن دلالة نبوة إلا ونعرف القرآن واختصاصه به. وكذلك نعلم أنه تحدى بالقرآن

وجعله معجزة له. فإذن هذه علوم ضرورية تكون مقدمة للعلوم المكتسبة؛ لأن كون القرآن معجزا يعلم استدلالا «1»» أما كون الرسول، ونسبه، وأنه الذي كان بمكة وهاجر إلى المدينة، وأنه انتصب للنبوة يأمر وينهى ويؤدي الشرع وينتظر الوحي، «فضرورته» كضرورة المشاهدات لا يشك في ذلك عاقل. أما أنه جعل القرآن دلالة نبوته، وأنه اختص به، وأن القرآن يتضمن وجه الدلالة على هذه النبوة، فهذا ما نوجز فيه القول من خلال النقاط التالية: «2» آ- الدليل على أنه جعل القرآن دلالة نبوته: قال الحاكم: الذي يدل على ذلك وجوه: منها ما ثبت بالنقل المتواتر أنه كان يقرؤه على الوافدين عليه ويتحداهم به. ومنها: الآيات التي فيه، نحو قوله: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) «3» وقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) «4» ولو لم يكن فيه إلا قوله: (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) «5» لكفى. ولهذا تحيروا في القرآن فوصفه بعضهم بالسحر، وترك لبيد قول الشعر لمكان القرآن.

_ (1) شرح عيون المسائل، ورقة 259. (2) لحصنا هذه النقاط- ورتبناها- عن الأوراق 259 - 262 من شرح عيون المسائل. (3) الآية 38 سورة يونس. (4) الآية 88 سورة الإسراء. (5) الآية 82 سورة النساء.

ومنها: أن ادعاء النبوة مع كون القرآن معجزا يكفي في باب التحدي؛ لأن إظهاره له والحال هذه بمنزلة أن يتحدى! بل أوكد. ب- وجه اختصاص القرآن بالنبي مع أنه وجد قبله: وذلك أن القرآن كلام الله تعالى، ومن حق المعجز أن يكون من فعل القديم سبحانه، قال الحاكم: «الذي لا بد منه أن يعلم ظهور القرآن عليه على وجه لولا صدقه في النبوة لما ظهر، لأنا إنما نستدل بسائر المعجزات على هذا الوجه، فلو قال قائل إن فلق البحر من فعل بعض الملائكة؛ لم يطعن ذلك في كونه معجزة، لأنه لولا كونه صادقا لما ظهر. وهذا كما نقول في تعلق الفعل بالفاعل بما يمكن، أكثر من وجوب وقوعه بحسب قصده ودواعيه، وبحسب أحواله، فإذا حصل ذلك حكم بتعلقه به، كذلك هاهنا يكفي في كونه معجزة له ظهوره على وجه لولا ثبوته لما ظهر، كإحياء الميت وغيره» فالقول بأن القرآن إذا تقدم حدوثه فكيف يدل على نبوته! لا يصح؛ لأن الدال على نبوته هو ظهور القرآن عند ادعائه النبوة من قبله لتعلقه به، فتقدم وجوده لا يمنع كونه دالا. ج- وجه القول بأن القرآن معجز دال على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم: قال الحاكم: العمدة في ذلك شيئان: أحدهما تعذر مثله في فصاحته على المتقدمين في الفصاحة. والثاني أنه لا سبب لذلك إلا المزية الزائدة على ما جرت به العادة. قال: «فإذا ثبت ذلك صار معجزا ودليلا يحل محل إحياء الميت وقلب العصا حية، فإذا ادعى النبوة وتحدى به واختص بما ذكرنا من الوجهين، حل محل قوله: صدقت». الأمر الأول: تعذر مثله في الفصاحة: أفاض الحاكم في هذا الأمر

ببيان أن المعارضة تعذرت عليهم مع توفر الدواعي، وأنهم لم يعارضوه إلا لتعذر ذلك عليهم لا لوجه آخر، وأنهم لم يعارضوه بالفعل، وإلا لنقلت معارضتهم. 1) تعذر المعارضة: والذي يدل على تعذر المعارضة علمنا بتوفر دواعيهم من كل وجه إلى المعارضة، فلولا أنها كانت متعذرة عليهم لما تركوها، لأن العاقل المميز لا يجوز ألا يفعل ما له فيه الغرض التام وقد توفرت الدواعي، قال الحاكم: «إذ لو جوزنا ذلك لجوزنا مع الجوع الشديد والدواعي المتوفرة والطعام حاضر ألا نأكله»! ثم إنهم قد عدلوا في إبطال أمره إلى الأمور الشاقة العظيمة الخطر، مع أن العاقل لا يجوز أن يعلم حصول مراده، وأنه يصل إليه بأسهل الأمور، ثم يعدل عن ذلك إلى الشاق العظيم الخطر، هذا إذا وصل إلى البغية بالسهل والشاق، فكيف وبالسهل يصل إليه وبالشاق لا يصل؟! فلولا تعذر المعارضة عليهم لما تركوها إلى الحرب والوسائل الأخرى. 2) توفر الدواعي: أما دواعيهم إلى المعارضة فكانت متوفرة على أكمل وجه، وقد عد الحاكم من «أقسام الدواعي» التي ثبتت فيهم ما يلي: أولها: أن من قرّع بالعجز عن الشيء ولا مانع، فالتقريع محرك له داع، وبخاصة إذا كان المقرّع من أهله، لأن المنافسة بين الأقارب أشد. ثانيها: أن يكون المقرع ممن تتم له الرئاسة العظيمة. وثالثها: أن يكون مفارقا لهم عن عادات وأغراض، مقبحا لطريقتهم، مضيفا إليهم النقص، كما فعله النبي صلّى الله عليه وسلم «فقد كان يسفه عقولهم ويذم آباءهم ويقبح ما كانوا يدينون به، ويهجر آلهتهم». ورابعها: أن يكون موجبا لطاعته عليهم، وانقيادهم له في

الأمر والنهي، جامعا لهم على رئاسة نفسه، مبطلا لرئاستهم المختلفة. وخامسها: أن يخوفهم بأعظم العقاب، ويرغبهم بأعظم الوعد، وأن يكلفهم في المال والنفس والحقوق ما تنفر عنه طباعهم. وسادسها: أن يغض منهم فيما يتفاخرون به من الفصاحة بإظهار مزية القرآن عليهم. وكل ذلك داع مع ما جبل عليه القوم من الأنفة والحمية والتباعد من العار. قال الحاكم: «ومعلوم هذا من حال العرب فكيف يجوز أن يتمكنوا، أو بعضهم، من المعارضة فيتركوها؟». 3) عدم وقوع المعارضة: ثم إنهم لم يعارضوا القرآن فعلا، ولو فعلوا لنقل ذلك إلينا، لأن الدواعي إلى نقل المعارضة قوية من جهات، منها: أن القرآن حينئذ يكون شبهة! ومعارضتهم حجة، والدواعي إلى نقل الحجة أتم وأوفر. ومنها: أن الذي يدعو إلى إبطال أمره بالمعارضة يدعو إلى إبراز المعارضة وإظهارها، فيجب أن تنقل والحال هذه! ومنها: أنها لو وقعت وعهدها وعهد القرآن واحد لم يجز أن ينقل أحدهما دون الآخر، لأن كل شيئين ظهرا وثبت في نقلهما الدواعي والعهد واحد، لا يجوز أن ينقل أحدهما دون الآخر! قال الحاكم: «ولولا صحة ذلك لجاز أن يقال: كان في أيامه أنبياء ولم ينقل خبرهم! وجاز أن يكون له طبقة من الصحابة أقدم من الذين عرفناهم ولم ينقل، ولأدى إلى التشكك في الأخبار والعادات». ومنها: أنه نقلت المعارضة الركيكة التي كانت من مسليمة وغيره، فكيف لم تنقل الفصيحة وهي بالنقل أولى؟ ومنها: أنه نقل عن كبارهم العدول إلى طلب أخبار الفرس وسائر ما يدل على التحير وضيق الصدر، ولو كانت المعارضة واقعة لم يكن لذلك وجه.

الأمر الثاني: سبب تعذر المعارضة هو المزية: وإنما تعذرت عليهم المعارضة للمزية الزائدة على ما جرت به العادة، لا لعذر منعهم من ذلك، أو لاشتغالهم بما هو أهم، أو أي شيء آخر. 1) لم يتركوا المعارضة لعذر: ولا يقال إنهم تركوا المعارضة لعذر، لأن التحدي بالكلام الفصيح ليس من باب المناظرة والجدل حتى يقال- مثلا- إن ذلك لم يكن طريقتهم! وقد كانوا على معرفة بصناعة الكلام، مع وفور عقلهم، فلما لم يستطيعوا التخلص من التقريع بشيء من الكلام، دل ذلك على عجزهم وأنه لا عذر لهم. ولا يقال إنهم عدلوا إلى المقاتلة لظنهم أن لها المزية؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يظهر أمره لأنه أقوى، بل لأن المعجز شهد له، فكيف يخفي عليهم أن الذي يبلغون به إفساد أمره وتوهين حاله هو المعارضة دون المقاتلة! ولم لم يجمعوا بين الأمرين، وأحدهما لا يمنع من الآخر؟ أو لماذا لم يعارضوا حين لم ينفعهم القتال؟ ثم إنه صلى الله عليه بقي الزمان الطويل يتحداهم ولا جهاد ولا مقاتلة، وحيث كانت لم تتصل ولم تدم! وهل يختار أحد ما لا يؤدي إلى البغية على ما لو فعل لوقعت به البغية؟ قال الحاكم: «وكل ذلك يبطل قولهم إنه صلّى الله عليه وسلم غاظهم بالحرب فشغلهم عن المعارضة!». 2) لم يتركوا المعارضة لغير المزية الخارجة عن العادة: ولا بد أن المزية التي قعدت بهم عن المعارضة خارجة عن المزية التي يتفاضل بها كلام البشر، لأن هذه مزية معتادة لا تترك المعارضة لأجلها. قال الحاكم: «فإن قيل: تركوها لأنهم لو عارضوا لاشتبهت الحال فوقع الاختلاف!

2 - وجه اعجاز القرآن

قلنا: المتقارب من الكلام كالمتماثل في أن العادة جارية بمثله، فلو أمكنهم ما يشتبه ويتقارب لأوردوه، ولقالوا إنه أفضل مما جئت به ... فكيف تدعى النبوة. وبعد، فلو جعل دلالته حمل جسم ثقيل، وقدر الزيادة مما جرت العادة به، لم يخف عليهم أنه ليس بدليل النبوة. ولو كان كذلك كيف يجوز على الخلق العظيم مع وفور أحلامهم وتشددهم في باب الدين أن يتبعوه ويعترفوا بنبوته؟!» 3) مزية القرآن على سائر المعجزات: وهذه المزية من وجوه: أحدها أنه لو كان إحياء الميت ونحوه، والقوم لم يعتادوا الطب، لجاز أن يظنوه من الطب والسحر، فهذا أبعد من ذلك الظن. ومنها: أنه من جنس ما يقدرون عليه فكان اليأس فيه أظهر، إلى جانب أن كونهم النهاية في الفصاحة وقفهم على مباينته لسائر الكلام. ومنها: أن شريعته صلّى الله عليه وسلم مؤبدة، فجعل دليلها مؤبدا، إلى جانب صحة التحدي به في كل زمان إلى آخر الدهر. 2 - وجه اعجاز القرآن الآراء حول «وجه» الإعجاز كثيرة، وربما ذهب بعضهم إلى أن للإعجاز وجها واحدا وأهمل النظر في سائر الوجوه، في حين يذهب آخرون إلى أن له أكثر من وجه، ثم يتفاوتون في عددها، وربما خلط بعض هؤلاء بين وجوه يصعب التوفيق بينها. وفيما كتبه الرماني والخطابي والقاضي عبد الجبار وعبد القاهر .. كثير من المذاهب والآراء: أ) أما الحاكم فقد أبان عن رأيه في وجه الإعجاز باختصار وقصد،

فقال: «وجه إعجاز القرآن أنه بلغ مبلغا من الفصاحة عجز الخلق عن إتيان مثله» «1». ثم قال: «وقد اختلف مشايخنا فمنهم من قال: لا رتبة أعلى في الفصاحة من رتبة القرآن، ومنهم من يقول بذلك في البعض دون البعض، ومنهم من يقول: في مقدوره تعالى ما هو أعلى منه. وكل ذلك لا يؤثر فيما بينا». ومن هنا جاء تعبيره السابق في وجه الإعجاز أن القرآن «بلغ مبلغا من الفصاحة» أعجز الخلق، سواء أكان أفصح الكلام، أم كان في مقدوره تعالى ما هو أفصح، لأن هذا لا يؤثر في شيء مما قدم، كما أنه قد يكون من فضول البحث لأنه مما لا يتعلق بالإعجاز أصلا. قال أبو هاشم: والكلام إنما يكون فصيحا لجزالة اللفظ وحسن المعنى، ولا بد من اعتبار الأمرين، لأنه لو كان جزل اللفظ ركيك المعنى لم يعد فصيحا «2». قال الحاكم: «والفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات، وإنما تظهر في الجمل» «3»، قال القاضي: «والفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولا بد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه. وقد تكون بالموقع». قال: «وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع، لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة، أو حركاتها، أو موقعها، ولا بد من هذا الاعتبار في كل كلمة، ثم لا بد من اعتبار مثله في الكلمات إذا انضم بعضها إلى بعض،

_ (1) شرح العيون، ورقة 262. (2) راجع «إعجاز القرآن» للقاضي عبد الجبار ص 197. (3) التأثير والمؤثر للحاكم، ورقة 79.

لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها. فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها» «1» أما حسن النغم وعذوبة القول فمما يزيد الكلام حسنا على السمع، لا أنه يوجد فضلا في الفصاحة، لأن الذي تتبين به المزية في ذلك يحصل فيه وفي حكايته على سواء، ويحصل في المكتوب منه على حسب حصوله في المسموع. هذا الوجه الذي ذهب اليه الحاكم في الإعجاز، ووقفنا على بيانه عند أبي هاشم وعبد الجبار، أشار اليه الحاكم وإلى شيء من تفصيله في شواهد قرآنية كثيرة؛ قال في قوله تعالى: (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ. إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً. لِأَصْحابِ الْيَمِينِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.) «2» إن الآيات «تدل على عظيم منزلة القرآن في الإعجاز، وبلوغه في الفصاحة مبلغا عجز عن مثله البشر، لأن من تأمل هذه الآيات علم أنه ليس في مقدور أحد مثله!!». وقال في سورة الكوثر: «تدل السورة على معجزات ... منها عجزهم عن الإتيان بمثل هذه السورة مع تحديه لهم، وحرصهم على بطلان أمره. ومنها: ما في السورة من الإعجاز؛ لأنها مع قصرها تدل على أنه معجز، وأنه كلام رب العزة لفظا ومعنى، أما المعنى ففيه تشريف له صلّى الله عليه وسلم بما أعطي

_ (1) إعجاز القرآن للقاضي ص 199. (2) الآيات 27 - 40 سورة الواقعة، التهذيب ورقة 82.

من الخيرات دينا ودنيا، وأمر بالصلاة التي هي آكد عبادات البدن، وأمر بالهدايا التي هي من حقوق المال. وفيه أن ما يفعله ينبغي أن يكون لله، وفيه بشارة بهلاك أعدائه وظهور أمره. فأما اللفظ: فتشاكل الألفاظ، وسهولة مخرج الحروف، وحسن التأليف، وتقابل المعاني، لأن قوله (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أحسن موقعا من: أعطيناك الكثير، أو النعم، أو نهرا في الجنة، أو النبوة، من حيث سهولة اللفظ واشتماله على المعاني الكثيرة. وقوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أحسن من: صلّ لنا، وقوله: (وَانْحَرْ) أحسن من أنسك. و (الْأَبْتَرُ) أحسن من «الأحسن» وأعم، وأدل على الكناية فهذه الحروف القليلة جمعت المحاسن، مع ما فيها من الفخامة وعظم الفائدة، حتى تقبلها النفوس ولا تمجها الآذان» «1». وقال في قوله تعالى- في قصة أم موسى- (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ) «2» «في الكلام اختصار، أي فذهبت فوجدت آل فرعون أخرجوا التابوت وأخرجوا موسى (فبصرت به)» قال: «وهذا من إعجاز القرآن في إيجاز الكلام الدال على المعنى الكبير». وكثيرا ما يروق له مثل هذا التعليق أمام اختصار الحوادث، وفي المشاهد الحاضرة في القرآن الكريم. وبالرغم من دقة الحاكم في فهم فكرة «النظم» التي ردّها كوجه إعجاز للقرآن، على ضوء المدرسة الجبائية- كما سنرى في البند التالي- إلى جانب إيمانه بفكرة الفصاحة هذه، وأنها إنما تظهر في الجمل دون الكلمات،

_ (1) التهذيب، ورقة 157/ ظ. (2) الآية 11 سورة القصص، ورقة 40/ ظ.

فإن أكثر تعليقاته حول موضوع الإعجاز في تفسيره، يكاد لا يخرج عن سلك الملاحظات الذوقية الجمالية الخاصة، التي يضمها باب واسع يدعى الفصاحة! ب) رد الحاكم فكرة النظم التي قال بعضهم إن القرآن معجز بها، وقد وجدنا أبا مسلم الأصفهاني والماوردي يذهبان اليها، وقد جعلها أبو مسلم أحد وجهين دالين على إعجاز القرآن، وسلكها الماوردي ضمن ثمانية وجوه!! قال أبو مسلم: «أما الإعجاز المتعلق بفصاحته وبلاغته فلا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى، فإن ألفاظه ألفاظهم قال تعالى: (لِساناً عَرَبِيًّا) (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)، ولا بمعانيه فإن كثيرا منها موجود في الكتب المتقدمة، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)»، ثم بعد أن استعرض أنواع الكلام المنظوم والمنثور، والسجع والشعر، والخطابة والكتابة والرسائل؛ قال: «والقرآن جامع لمحاسن الجميع على نظم غير نظم شيء منها ... » «1». وقال الماوردي: «والثالث- من وجوه الإعجاز- أن إعجازه هو الوصف الذي نقض به العادة حتى صار خارجا عن جنس كلام العرب في النظم والنثر والخطب والشعر والرجز والسجع والمزدوج، فلا يدخل في شيء منها ولا يختلط بها، مع كون ألفاظه وحروفه في كلامهم، مستعملة في نظمهم ونثرهم» «2». وواضح من هذين النصين أن القرآن معجز بسبقه إلى أسلوب- نظم- جديد لم تعهده العرب، قال الحاكم: «ومن قال: الإعجاز في النظم

_ (1) معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي، ورقة 2 - 3 مخطوط. (2) النكت والعيون في تفسير القرآن للماوردي، ورقة 4 مخطوط.

لا يصح لأنه يؤدي إلى أن يكون معجزا للسبق. ولو جاز ذلك لجاز في أول شاعر وأول خطيب! فإن قال: أريد نظما يبلغ في الفصاحة مبلغا لا يمكن فيه المعارضة! قلنا: هذا هو الذي قلناه، إلا أنه ضم اليه شيئا آخر، لأنه لو حصل كذلك بلا نظم كان معجزا، ولو حصل النظم وصح الاشتراك لم يكن معجزا» «1». على أن لفكرة النظم مفاهيم أخرى تجعل اشتراكها مع الفكرة التي رد عليها الحاكم مجرد اشتراك في اللفظ، على نحو ما يدل عليه كلام الرماني والباقلاني، ومن قبلهما الجاحظ «2». ج) أما الصرفة التي ردها الحاكم صراحة، وبما قدمنا من كلامه في ثبوت الدواعي، فقد شرحها كثيرون، وربما وصل اليها القائلون بها، كل من طريق! وذكر الماوردي أن القائلين بها اختلفوا على وجهين رئيسيين: أحدهما: أن العرب صرفوا عن القدرة على مثل القرآن، ولو تعرضوا لذلك لعجزوا، والثاني: أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في قدرتهم، ولو تعرضوا «لجاز» أن يقدروا عليه! «3». أما القاضي عبد الجبار فقد ذكر هذين الوجهين بصفتهما احتمالين يمكن أن يفسر بهما القول بالصرفة، دون النص على أن القائلين بها اختلفوا على

_ (1) شرح عيون المسائل، ورقة 263. (2) راجع النكت في إعجاز القرآن للرماني (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) طبع دار المعارف، ص 70. وإعجاز القرآن للباقلاني تحقيق الأستاذ السيد أحمد صقر، ص 35، والبيان والتبيين 1/ 383. (3) النكت والعيون، ورقة 4.

هذين الوجهين، قال القاضي: «فأما قول من يقول: إنه تعالى صرف هممهم ودواعيهم عن المعارضة فلذلك صار القرآن معجزا، فليس يخلو من أن يريد: إنهم لو لم تنصرف دواعيهم كان يمكنهم أن يأتوا بمثله، أو يقول: كان لا يمكنهم ذلك» «1». وأيا ما كان الأمر فقد رد الحاكم هذين الوجهين- أو الاحتمالين- من وجوه الصرفة، وأبان عن فساده، قال: «وقول من يقول بالصرفة لا يصح لوجوه، منها: أن القوم في أيامه لم يكونوا ممنوعين من الكلام، فان أراد صرفهم عن العلم الذي معه يتأتى مثله فهو الذي نقول، وإن أراد صرفهم، وتلك العلوم قائمة والدواعي إلى المعارضة متوافرة؛ فذلك يستحيل. وإن قال: يصرفهم عن الدواعي فقد بينا ثبوت الدواعي فيهم. وبعد، فلو كان الإعجاز الصرفة لكان أدون في الفصاحة آكد في الإعجاز، ولكنه كان لا يصح التحدي به!». د) ورد الحاكم القول بأن المعجز بما فيه من أخبار الغيب، أو أنه غير متناقض، قال: «وقول من يقول الإعجاز أنه لا تناقض فيه لا يصح، لأن التناقض يرجع إلى المعنى، والتحدي وقع باللفظ!. وقول من يقول: المعجز بما فيه من أخبار الغيب غير سديد، لأنه لو كان كذلك لكان المعجز ما يتضمن خبرا، ولأنه تحدى بسورة، ونحن نعلم أن كثيرا من السور لا يتضمن خبرا!». هـ) وأخيرا ختم الحاكم القول في إعجاز القرآن بأن الخلاف في

_ (1) إعجاز القرآن للقاضي، صفحة 323.

«وجه» الإعجاز بين العلماء لا يؤثر في وجود هذا الإعجاز، وصحة التحدي بالقرآن، قال: «فإن قيل: كيف يصح كونه معجزا مع هذا الاختلاف؟ قلنا: علماء الإسلام اتفقوا في كونه معجزا لا خلاف بينهم، وإنما اختلفوا في علته، ثم بأي وجه صار معجزا فالغرض يحصل، لأنه إن كان معجزا بالفصاحة فالكلام تام، وإن كان للإخبار عن الغيوب التي هي ناقضة للعادة فكمثل، ولو كانوا يقدرون على مثله ثم منعوا فكمثل. وكذلك لو كان نظمه معجزا حصل المقصود». ثم أكد- رحمه الله- مذهبه السابق في الإعجاز، وعقب عليه بجملة جامعة نختم بها هذا الفصل، قال: «وإن كان الصحيح ما ذكرنا، يوضحه أنه صلى الله عليه أتى بالقرآن مع أنه لا يكتب ولا يقرأ ولا يخالط أهل الأخبار والسير. «ثم من عصره إلى يومنا هذا وقع التحدي في المناظرات والمجالس، مع كثرة أعداء الاسلام وتصنيفهم الكتب في كل نوع، ثم لم يأت أحد بآية مثله! «وبعد، فإن كل أمر أسس على فساد، فإنه عن قريب يبطل ويضمحل، والإسلام بخلافه» «1».

_ (1) شرح العيون، ورقة 63.

الباب الخامس مكانة الحاكم وأثره في التفسير

الباب الخامس مكانة الحاكم وأثره في التفسير

الفصل الأوّل مكانة الحاكم نقف في هذا الفصل من الباب الأخير على منزلة الحاكم في الثقافة الإسلامية على ضوء ما قدمناه من الكلام على تفسيره وسائر كتبه، كما نقف على القيمة العامة لكتابه «التهذيب». ثم نتحدث في الفصل الثاني عن أثر هذا الكتاب لدى المفسرين. أولا: منزلة الحاكم العامة تتلخص هذه المنزلة في النقاط التالية: 1) يعتبر الحاكم مؤرخ المعتزلة الوحيد في الحقبة ما بين نهاية عصر أبي هاشم (ت 321) ومن هو في طبقته، إلى أواخر القرن الخامس على وجه التقريب. والتي ترجم فيها للقاضي- بتوسع مفرد- ولمن هو في طبقته، وطبقة تلامذته وتلامذتهم ممن تلقى عنهم الحاكم أو عاصرهم، فأعطانا بذلك صورة واضحة عن حالة المعتزلة في هذا العصر. 2) كما يعتبر الحاكم- على ضوء ما اتفق له الوقوف عليه من الكتب فيما يبدو، وبخاصة كتاب المقالات للكعبي- أول من وضع بين أيدينا أسماء المعتزلة- في فصول خاصة ألحقها بالطبقات- من العترة عليهم السلام،

وممن بويع له بالخلافة، وممن كان من الأمراء والرؤساء. كما أبان لنا في فصول أخرى عمن ذهب كذلك مذهب العدل من اللغويين والنحاة والشعراء والفقهاء والزهاد والرواة- من جميع الأقطار- بالإضافة إلى فصل هام ختم به الطبقات، وهو «خروج أهل العدل» تحدث فيه عن الحروب التي خاضها رجال المعتزلة، أسماهم، مع بعض الخارجين على بني أمية، أوضح فيه عمق الصلة بين الشيعة والمعتزلة من جهة، وعدم «اعتزال» أهل العدل للأمور السياسية من جهة أخرى. 3) قدمنا القول في قيمة كتابه «السفينة» في التاريخ، ومدى اعتماد الزيدية عليه في التاريخ لأئمتهم ودعاتهم، وذكرنا بعض نقولهم في ذلك «1» حتى ليمكن عن الحاكم واحدا من أهم مؤرخي الزيدية. أما منزلته في التاريخ بعامة فلا يمكن الوقوف عليها، كما لا يمكن تحديد مكانته الثابتة في التاريخ للزيدية بخاصة إلا بعد الاطلاع على كتاب «السفينة» ذاته. وما زلت منذ أن وقع اختياري على دراسة الحاكم جادا في طلب هذا الكتاب؛ حتى وقفت عليه أخيرا في بعض المكتبات، وأرجو أن أفرغ من دراسته وتحقيقه والتعليق عليه في وقت قريب إن شاء الله. 4) قدم لنا القاضي عبد الجبار في موسوعته الكلامية الكبرى «المغنى في أبواب التوحيد والعدل» صورة جدلية دقيقة وشاملة لآراء المعتزلة بوجه عام، ولآراء المدرسة الجبائية بخاصة، حتى غد القاضي لسان هذه المدرسة وقلمها وأبرز أشياعها على الإطلاق، وقد ذكرنا أن الحاكم يعتبر آخر رجالات هذه المدرسة الكبار بعد القاضي. والواقع أن كتاب

_ (1) راجع صفحة 110 - 111 من هذه الرسالة.

«المغنى» للقاضي وبعض كتبه الأخرى، على الرغم مما تشتمل عليه من إحاطة فائقة، وغوص على دقيق المعاني قد لا يتيسر تصويره والتعبير عنه ورد الاعتراضات من دونه، إلا للقليل من الأفذاذ أمثال القاضي، إلا أن كثرة التفريعات التي يحتوي عليها كتاب المغنى بخاصة، مع محاولة القاضي الدائبة لربط الفروع بالأصول، ورد المسائل البعيدة المتناثرة إلى أصولها القليلة الجامعة، خلع على هذا الكتاب شيئا من الصعوبة في كثير من المواطن، كما جعل فرص الاستفادة منه غير ميسرة على الوجه الأكمل، إلا لمن وطّن نفسه على إدامة النظر في جميع أجزاء الكتاب، وعلى القراءة الطويلة فيه، في سبيل الوقوف على مسألة من المسائل! ومن هنا تأتي واحدة من أهم ميزات الحاكم، وهي أنه جعل من كتاباته الكلامية- كما يدل على ذلك كتابه «شرح عيون المسائل» - تلخيصا ذكيا ودقيقا لكتب القاضي ولآراء المدرسة الجبائية، بعبارة سهلة قريبة واضحة قد تفوق عبارة للقاضي- الذي وضع كتابه «المغنى» بطريقة الإملاء- على التحقيق. فإذا أضفنا إلى ذلك النقص الواقع في كتاب المغنى، والذي يسده (شرح العيون) أدركنا أهم ميزة للحاكم- على الإطلاق- بوصفه «ملاخلّا» ضروريا وهاما- ومدرسيا كذلك- إلى المدرسة الجبائية والقاضي عبد الجبار. 5) ولعل هذا يفسر طرفا من اعتماد أئمة الزيدية وشيوخهم في اليمن على كتب الحاكم وعنايتهم بها، ونقلهم عنها في أكثر كتبهم ومصنفاتهم،- في الوقت الذي لم يكونوا يفتقدون فيه كتب القاضي- كما نجد ذلك

عند يحيى بن حميد صاحب كتاب «نزهة الأنظار» «1»، والإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى، وغيرهما. وقد قال يحيى بن الحسين في الطبقات في ترجمة الحاكم عند ذكر كتابه «عيون المسائل» إن الإمام المهدي اختصر كتاب القلائد منه «2» وقد وقفنا من كتب ابن المرتضى على كتاب «الدرر الفرائد في شرح كتاب القلائد- المذكور- في تصحيح العقائد» «3» فوجدنا اعتماده على شرح العيون للحاكم كبيرا أيضا. ولعل مراجعة شاملة لآثار ابن المرتضى (ت 840) والإمام يحيى بن حمزة (ت 749) «4» بصورة خاصة- وهما من المكثرين في التأليف في الفقه والكلام- على ضوء ما تم الوقوف عليه من كتب الحاكم، تكشف عن المزيد من هذه العناية والاعتماد. 6) ويمكننا القول- من جهة أخرى- إن الحاكم بما اتفق له الوقوف عليه من تفاسير المعتزلة وكتبهم في علم الكلام، وكتب الزيدية في الفقه والأصول، وغير ذلك من المصنفات في أنواع العلوم الأخرى، وبما فرغ الحاكم نفسه له من التوفر على هذه الكتب، جمعا ودراسة وتلخيصا وتقديما على أحسن وجوه العرض والترتيب «5» كل ذلك على نظر وبصيرة

_ (1) انظر النزهة ورقة 16 في بعدها. (2) الطبقات الزهر، ورقة 34. (3) مصور دار الكتب رقم 28674 ب. (4) انظر البدر الطالع للشوكاني ص 331 - 333 وأئمة اليمن لابن زبارة ص 228 - 234. (5) وهذا واضح في تفسيره كما تحدثنا عنه، وواضح في كتابه شرح العيون، وفي «التأثير والمؤثر» الذي نص في مقدمته أن جمع ما فيه مما-

ثانيا: قيمة كتابه"التهذيب في التفسير"

ومنهج دقيق، وعناية تستحق الإعجاب بإضافة الآراء إلى أصحابها على الدوام .. قد جعل من الحاكم حلقة وصل مهمة في تاريخنا العلمي، وبخاصة حين نفتقد أكثر مصادره تلك. وسوف يظهر ذلك جليا في حديثنا التالي عن قيمة تفسير الحاكم. ثانيا: قيمة كتابه «التهذيب في التفسير» أما تفسيره الكبير فقد انضحت لنا قيمته من خلال هذه الدراسة. ونعدد هنا بإيجاز أهم ميزاته الموضوعية الخاصة: 1) قدم لنا هذا التفسير لأول مرة خلاصة دقيقة لأهم تفاسير المعتزلة في القرنين الثالث والرابع، وبخاصة تفسيري أبي علي الجبائي وأبي مسلم الأصفهاني، بعد أن افتقدت المكتبة العربية الإسلامية هذه التفاسير الهامة. ومن هنا تبرز الصفة الأهم في تفسير الحاكم، باعتباره أجمع كتاب في تفسير أهل الرأي وصل إلينا. 2) وضع هذا الكتاب أيدينا- إلى حد كبير- على النزعات الخاصة التي تحكم تفاسير المعتزلة- نظرا لإدامة الحاكم نقل الآراء ونسبتها إلى أصحابها- على الرغم من اتفاق هذه التفاسير في المنهج العام، حتى إنه لا يصعب على الباحث أن يكتشف هذه النزعات، ويحدد اتجاهات أصحابها في التفسير. وربما أمكن تصنيف هذه التفاسير- تبعا لذلك- في تصنيف

_ - بلغه «عن المشايخ المتقدمين والمتأخرين مما رأيناه في كتبهم أو قرأناه في مصنفاتهم ورسائلهم، خصوصا من كتب الشيوخ الأربعة ... » وقد أشرنا إلى ذلك أيضا. وتتضح طريقة الحاكم هذه بعامة من أسماء كتبه: «التهذيب» «المنتخب» «عيون المسائل» .. الخ.

خاص. وهذا ما نحاول الآن القيام به في مطلع الدراسة التي نعدها لمنهج أبي مسلم في تفسير القرآن. 3) أبان تفسير الحاكم عن جهود المعتزلة الكبيرة في الدفاع عن القرآن، ورد ما رمى به من دعوى التناقض واللحن والاختلاف، وأن فيه الدلالة على الشيء وضده- كما زعم ابن الراوندي وغيره- وذلك بما أسسوا من قواعد المنهج، وأوّلوا ما يدل بظاهره على خلاف العدل والتوحيد، غير متقولين في ذلك على لغة العرب، أو سالكين طريق تحريف الكلم عن مواضعه! ويحضرني هنا مقالة أبي الحسن الأشعري في تفسير أبي علي الجبائي إنه «لم يرو فيه حرفا واحدا عن أحد من المفسرين، وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه!!» «1» وقد علم الأشعري مكانة تفسير أبي علي في الرد على الملاحدة، والنقض على ابن الراوندي وعبيد الله بن الحسن العنبري، كما وقف على اعتماد أبي علي فيه على ابن عباس والحسن البصري، وغيرهما من الصحابة والتابعين .. حتى كان لنا أن نقول: إن هذا من الأشعري تهجم لا يليق!! 4) أظهر لنا كتاب الحاكم تشدد المعتزلة في قبول القراءات القرآنية، ولهذا لم يعنّ الحاكم نفسه بذكر وجوه القراءات الشاذة، أو التي ثبتت بطريق الآحاد. أما صنيع الزمخشري من بعده فلا يلتفت إليه- وسوف نعرض للكلام على الزمخشري في الفصل التالي- كما أظهر لنا كتاب الحاكم تفوق مصنفه رحمه الله في الدفاع عن تاريخ القرآن نزولا وجمعا وتدوينا .. وما رده عنه في ذلك من شبهات الرافضة والملاحدة وسائر المارقين.

_ (1) راجع تعريفنا السابق بتفسير أبي علي الجبائي، ص: 133.

5) ومن الملاحظات الجديرة بالاعتبار، سواء أكان الحكم فيها للحاكم أم عليه؛ أن تفسيره الكبير قد حمل إلينا صورة من صور النزاع بين المعتزلة والأشاعرة في القرن الخامس، أو بين المعتزلة والمجبرة كما يسميهم الحاكم، حتى إنه جعل من خصومته معهم محور تفسيره كما رأينا. وفي هذا ما يؤكد ضرورة الوقوف على عصر أي مفسر في دراسة منهجه في تفسير القرآن، من جهة، كما أنه يمهد الطريق لفهم بعض المواقف المتطرفة أيضا لدى بعض مفسري الأشاعرة في هذا القرن «1»، من جهة أخرى. 6) أشرنا في تعقيبنا العام على ما وصل إلينا من كتب الحاكم- عند الكلام على آثاره في الباب الأول- إلى مدى اعتماد الزيدية في بلاد اليمن على كتاب التهذيب- وكتاب الكشاف- وكيف أنهم كانوا يروونه ويتدارسونه ويتناقلونه، منذ أن رواه عنه ابنه محمد إلى عهد قريب، وذكرنا أن القاضي جعفر بن عبد السلام (ت 573) سمع كتاب الحاكم على أبي جعفر الديلمي عن ولد الحاكم،- كما سمع بعض كتبه الأخرى على ابن وهاس تلميذ الزمخشري- وأن الإمام شرف الدين (ت 965) قد روى كتبا كثيرة منها تفسير الحاكم كله، وجلاء الأبصار، والسفينة ... وكتبا أخرى، ونص على أن روايته لتفسير الحاكم عن الفقيه ابن الأكوع من نسخة القاضي جعفر- تسعة أجزاء- التي كانت في خزانة الإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى. وقد قال ابن القاسم في الطبقات عند حديثه

_ (1) راجع حول تفسير الواحدي ص 53 من هذا البحث.

عن تفسير الحاكم: «قلت: وقد اعتمده أئمة الزيدية المتأخرين» «1» ونضيف هنا إلى أن ما تشتمل عليه مكتبة الجامع الكبير بصنعاء اليمن اليوم من أجزاء كثيرة متفرقة من كتاب التهذيب جمعت من بيوتات اليمن الكبيرة «2» وجلها «نسخ برسم» جلة من علماء اليمن وفقهائه. وبعضها الآخر نسخ بأيدي هؤلاء العلماء أنفسهم، «3» يدل على مبلغ عناية الزيدية بهذا الكتاب، علما بأن هذه الأجزاء تفوق في عددها أي كتاب آخر في التفسير، بل أي كتاب آخر في هذه المكتبة، كما تبين لنا من مراجعة فهرسها مراجعة شاملة، هذا عدا ما تسرب من أجزاء هذا التفسير- من نسخ عدة- إلى بعض البلاد الأوربية. ويبدو أن هذه العناية والاعتماد لتفسير الحاكم أهم ميزاته الخاصة. 7) أما قيمة كتاب الحاكم على ضوء التفسير الاعتزالي الوحيد الذي عرفه العالم الإسلامي، وهو الكشاف للزمخشري، فإنها أكبر بكثير مما كان يظن! بل إن من الحقائق الهامة أن كتاب الحاكم هو الذي قوم لنا- إلى حد كبير- تفسير الزمخشري، وهيأ لنا للمرة الأولى فرصة إعادة النظر وإعطاء الحكم الصحيح في هذا التفسير، بعد أن نال صاحبه في التاريخ فوق ما يستحق، كما سنبين ذلك في كلامنا على أثر تفسير الحاكم في الفصل التالي.

_ (1) الطبقات، ص 345. (2) وضعت هذه الكتب وكتب أخرى كثيرة في المكتبة المذكورة في عام 1373 هـ بناء على رغبة الإمام يحيى رحمه الله. (3) انظر فهرس مكتبة صنعاء صفحة 18.

الفصل الثاني أثره في المفسرين

الفصل الثاني أثره في المفسّرين أولا: أثره في الزمخشري (467 - 538) تتلمذ الزمخشري على الحاكم كما قدمنا «1»، ولكن هذه الصلة بين الشيخين بقيت محجوبة قرونا متطاولة عن ناقدي الزمخشري ومتعقبيه ودارسيه- في القديم والحديث-، ولم يعن أحد بالبحث عن شيوخه الذين تلقى عليهم التفسير وعلوم القرآن، بالرغم من إفاضة هؤلاء الباحثين في الثناء على تفسير «الكشاف» ومكانته، وأسبقيته- أو تفرده- في الكشف عن إعجاز القرآن!! وبالرغم من حديثهم المكرور عن منهجية صاحبه في التأويل على مذهب المعتزلة. والشيخ الذي يذكر عادة على أنه أكبر أساتذة الزمخشري وأبلغهم أثرا في نفسه؛ هو أبو مضر محمود بن جرير الأصبهاني المتوفى سنة 507، ولم يتلق الزمخشري عليه التفسير، وإنما تتلمذ عليه في النحو والأدب. أما شيوخه الآخرون فلم تذكر المصادر المعروفة أيضا أنه تلقى على أحدهم شيئا في تفسير القرآن.

_ (1) راجع صفحة 80 من هذا البحث.

ولسنا نقول إن تلمذة الزمخشري على بعض شيوخ التفسير، أو إدامته النظر في تفسير بعينه أو في سائر التفاسير، ضرورة لازمة لا يستطيع بدونها أن يكتب في التفسير أو يبرع فيه! ولكنا نقول: إن مثل هذا الافتراض كان من حقه أن يخطر ببال الباحث وهو لا يرى في سائر تراث الزمخشري أثرا يدل على السبق والنبوغ والابتكار. ولسنا هنا على أية حال بصدد تقييم الزمخشري- ولهذا الموضوع مكان آخر- أو بصدد إثبات تلمذته على الحاكم بأدلة جديدة، ولكننا نعرض في هذه الفقرة إلى بيان صلة تفسيره بتفسير الحاكم، ومدى اعتماده عليه- إن وجد- وبخاصة ونحن أمام بعض النصوص التي تشير إلى هذه الصلة. وبالرغم من أن هذا سيعرّضنا إلى تقويم كتاب الكشاف، على الجملة، إلا أننا نرجو أن نوجز القول في ذلك بأقل قدر ممكن. أمامنا نصان يشير أحدهما إلى صلة كشاف الزمخشري بتفسير الرماني، ويشير الآخر إلى صلته بتفسير الحاكم: قال ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة في كلامه على الرماني: «وله كتاب التفسير الكبير، وهو كثير الفوائد إلا أنه صرح فيه بالاعتزال. وسلك الزمخشري سبيله وزاد عليه». «1» وقال الجنداري: «وتفسير الكشاف قيل: من تفسير الحاكم بزيادة تعقيد، والله أعلم». «2»

_ (1) النجوم الزاهرة 4/ 168. (2) شرح الأزهار، صفحة 32 طبع مصر.

1) ونجمل القول في مقالة صاحب النجوم الزاهرة بأننا معه في أن تفسير الرماني كثير الفوائد- بغض النظر عن استدراكه اللطيف- وأن الزمخشري سلك سبيله، سواء أفاد منه بطريق مباشر، أم أنه التقى معه في المنهج الاعتزالي الذي لا تتضارب معه وجوه التأويل، ولكننا لا نرى وجها لقوله إن الزمخشري زاد على تفسير الرماني، مما يوهم أن الزمخشري ركن في كتابه إلى الرماني، ولكنه أضاف عليه، وربما فاقه كذلك! لأن تفسير الرماني- كما يدل عليه الجزء الذي رجعنا إليه- أكبر حجما من تفسير الزمخشري، كما أن صاحبه أدق نظرا، وأوفى بيانا، وأقل عناية بالإعراب والقراءات والمشاكل اللفظية من الزمخشري!! فقول صاحب النجوم منزلة في الاتهام لا نصححها على الزمخشري .... اللهم إلا إذا كانت زيادته على الرماني من النوع الذي أشار إليه الجنداري! 2) أما اتهام الجنداري، الذي نقله ولم يحقق فيه، والذي قد يؤيده ما قيل من تلمذة الزمخشري على الحاكم، فلا سبيل إلى مناقشته قبل الوقوف على بعض المقارنات بين الكتابين- بأوجز قدر ممكن- وقد اخترنا لذلك بعض الشواهد المتقدمة من كتاب الحاكم، نحيل على بعضها، ونورد بعضها الآخر كاملا- أي نذكر جميع فقرات الحاكم في هذا الشاهد- طلبا للاختصار من جهة، وحتى تكون المقارنة حاضرة وكاملة من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى بعض الشواهد الأخرى الجديدة، ننقلها الساعة من أي مكان يصادفنا عند فتح الكشاف، دفعا للتحيز- الذي لم نلتفت اليه في موضع واحد من هذه الرسالة- وحتى تكون المقارنة موضوعية تؤدي إلى غرض علمي صحيح:

أ) من الشواهد التي نكتفي فيها بالاحالة على ما تقدم:

أ) من الشواهد التي نكتفي فيها بالاحالة على ما تقدم: 1) قوله تعالى: (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى. وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى .. ) «1» قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف قال (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) وقد علم أن كل شقي يصلاها وكل تقي يجنبها لا يختص بالصلى أشقى الاشقياء، ولا بالنجاة أتقى الاتقياء. وان زعمت أنه نكر النار فأراد نارا بعينها مخصوصة بالاشقى، فما تصنع بقوله (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة، لا الأتقى منهم خاصة؟ قلت: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين، فقيل: الاشقى، وجعل مختصا بالصلى كأن النار لم تخلق إلا له! وقيل: الاتقى، وجعل مختصا بالنجاة، كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف، وأبو بكر رضي الله عنه». «2» 2) قوله تعالى: (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) «3». قال الزمخشري: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) يعني: خلقكم وخلق ما تعملونه من الاصنام كقوله: (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) أي: فطر الاصنام!.

_ (1) انظر ص 302 - 303. (2) الكشاف 4/ 608 - 609. (3) انظر فيما تقدم ص 296.

«فإن قلت: كيف يكون الشيء الواحد مخلوقا لله معمولا لهم حيث أوقع خلقه وعملهم عليها جميعا؟ قلت: هذا كما يقال: عمل النجار الباب والكرسي، وعمل الصائغ السوار والخلخال، والمراد: عمل أشكال هذه الاشياء وصورها دون جواهرها، والاصنام جواهر وأشكال، فخالق جواهرها الله، وعاملو أشكالها: الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه! «فإن قلت: فما أنكرت أن تكون «ما» مصدرية لا موصولة، ويكون المعنى: والله خلقكم وعملكم كما تقول المجبرة؟ قلت: أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد بطلانه بحجج العقل والكتاب، أن معنى الآية يأباه إباء جليا، وينبو عنه نبوا ظاهرا، وذلك أن الله عز وجل قد احتج عليهم بأن العابد والمعبود جميعا خلق الله، فكيف يعبد المخلوق المخلوق، على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود وشكله، ولولاه لما قدر أن يصور نفسه ويشكلها. ولو قلت: والله خلقكم وخلق عملكم لم يكن محتجا عليهم، ولا كان لكلامك طباق!! وشيء آخر، وهو أن قوله (ما تعملون) ترجمة عن قوله (ما تنحتون) و «ما» في (ما تنحتون) موصولة لا مقال فيها، فلا يعدل بها عن أختها إلا متعسف متعصب لمذهبه في غير نظر في علم البيان ولا تبصر لنظم القرآن!! «فإن قلت: اجعلها موصولة حتى لا يلزمني ما ألزمت، وأريد: وما تعملونه من أعمالكم. قلت: بل الالزامان في عنقك لا يفكهما إلا الاذعان للحق، وذلك أنك وإن جعلتها موصولة فإنك في إدارتك بها العمل غير محتج على المشركين، كحالك وقد جعلتها مصدرية، وأيضا فإنك قاطع

ب) من الشواهد الموجزة التي أشرنا إليها في هذه الرسالة:

بذلك الصلة بين ما تعملون وما تنحتون حيث تخالف بين المرادين بهما، فتريد بما تنحتون: الأعيان التي هي الاصنام، وبما تعملون: المعاني التي هي الاعمال، وفي ذلك فك النظم وتبتيره، كما إذا جعلتها مصدرية!». «1» وقبل أن نمضي في استعراض المزيد من الشواهد الأخرى، نورد فيما يلي بعض الملاحظات العابرة على هذين الشاهدين، بعد مقارنتهما بما قدمناه فيهما من كلام الحاكم رحمه الله. 1) وأول ما يلاحظه القارئ أن النقلة في أسلوب الرجلين بعيدة جدا، ففي حين يذكّرنا الحاكم بإشراق عبارته، وصدقه فيما يرى وينقل، بأسلوب القرنين الأول والثاني، يردنا الزمخشري بأسلوبه الملتوي ومحاولته الدائبة في التعالي إلى أظلم عصور الانحطاط. 2) أكثر الوجوه التي ذكرها الزمخشري في تأويل هذه الآيات موجود عند الحاكم، وكذلك بعض تصوير الاعتراضات، وقد مضى الحاكم على إضافة كل رأي إلى قائله، ولا شك أن الزمخشري قد انتفع بهذه الآراء- من أي طريق- ولكنه درج على الترفع عن النقل عن أي مخلوق! 3) وجه التأويل الذي اختاره في الآية الأولى، والذي يمكن أن يظهر عليه الناظر في الوجوه التي ذكرها الحاكم- مع ما أورده من سبب النزول- يبعد أن يكون غرضا تأتي الآية من أجله على هذا الأسلوب! ولا نتعجل الحكم على الزمخشري قبل عرض المزيد من المقارنات: ب) من الشواهد الموجزة التي أشرنا إليها في هذه الرسالة: «2»

_ (1) الكشاف: 4/ 39 - 40. (2) حرصنا على هذا النوع من الشواهد، مع سابقه، تحقيقا للموضوعية، وقد اخترنا هذه الشواهد في السابق لأغراض أخرى.

1) قوله تعالى: (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) «1». قال الحاكم: «اللغة: المدهن: الذي يجري في الباطن على خلاف الظاهر، كالدهن في سهولة ذلك والإسراع فيه. أدهن يدهن إدهانا، وداهنه مداهنة، مثل نافقه منافقة. «النزول: قيل نزل قوله (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) في الاستسقاء، عن ابن عباس- وقيل: بل هو في عبد كذب بالقرآن، قال الحسن: خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به- وعن ابن عباس: مطر الناس على عهد رسول الله فقال: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قال بعضهم: هذه رحمة وضعها الله تعالى. وقال بعضهم: صدق نوء كذا فنزلت الآية: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ .. ) إلى قوله (تُكَذِّبُونَ) ... «المعنى: (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) قيل القرآن، وقيل الإعادة، وقيل حديث النبوة. (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) قيل مكذبون، عن ابن عباس، وقيل كافرون، عن مقاتل. وقيل المدهن: الذي لا يفعل ما يجب عليه ويدفعه بالعلل. وقيل المدهن: المنافق. وقيل: تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم، عن مجاهد. (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قيل: تجعلون حظكم من الخير، الذي هو رزقكم أنكم تكذبون به. وقيل: تجعلون شكر رزقكم التكذيب، عن ابن عباس وأبي علي. وقيل حظكم من

_ (1) التهذيب، ورقة 84.

القرآن الذي رزقكم الله التكذيب به، عن الحسن. وقيل: أراد بالرزق الشكر، وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: وتجعلون شكركم أنكم تكذبون، وقيل إنه لغة أزد شنوءه. وقيل: تكفرون بالمنعم، وترون النعم من النجوم». قال الزمخشري: (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي متهاونون به، كمن يدهن في الأمر، أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به! (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) على حذف المضاف، يعني: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب، أي: وضعتم التكذيب موضع الشكر. وقرأ علي رضي الله عنه: وتجعلون شكركم أنكم تكذبون. وقيل: هي قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم! والمعنى: وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به. وقيل نزلت في الأنواء ونسبتهم الرزق إليها. والرزق: المطر يعني: وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله حين تنسبونه إلى النجوم. وقرئ: تكذبون! وهو قولهم في القرآن: شعر وسحر وافتراء. وفي المطر: وهو من الأنواء ولأن كل مكذب بالحق كاذب!!». «1» والذي نشير إليه هنا قبل الانتقال إلى الشاهد الثاني، أن الحاكم فيما يبدو أهمل قراءة علي رضي الله عنه لأنها عنده تفسير وليست بقراءة، وهي التي ذكر أن النبي فسر بها الآية، وإن كان الزمخشري قد جعلها كذلك قراءة للنبي!! ولا ندري ماذا يعني بهذا القول؟ وما هو حد «القراءة» عنده على هذا الاعتبار. ولعل براعته في الإفادة من الآراء والأخبار قد

_ (1) الكشاف 4/ 374 وانظر فيه تفسير الآيات التالية.

خافته هذه المرة. على أن أسلوبه في شرح الموطن الواحد ب «يعني» و «أي» و «المعنى» ... قد يوحي بأنه يشرح رأيا مبسوطا أمامه بعبارات أخرى! 2) قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) «1» «قال الحاكم: القراءة: قراءة العامة «يعش» بضم الشين، يعني يعرض. وعن ابن عباس بفتح الشين، يعني: يعم، يقال: عشي يعشى، إذا عمي، ورجل أعشى، وامرأة عشواء. وقرأ عاصم في بعض الروايات: يفيّض، بالياء، رجع بالكناية إلى اسم الرحمن. والباقون بالنون. اللغة: العشو: أصله النظر ببصر ضعيف، كذا قاله الخليل، يقال: عشا يعشو عشوا، إذا ضعف بصره وأظلمت عينه، ونظر نظرا ضعيفا كأن عليها غشاوة، فإذا ذهب بصره يقال: عشي يعشى عشى، مثل: عمي يعمى عمى. قال الحطيئة: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد قال أبو الهيثم: يقال: عشا إلى النار: قصد، وعشا عنها: أعرض. ونظيره مال عنه ومال إليه، وأنكر القتيبي: عشوت عن الشيء:

_ (1) الآية 36 سورة الزخرف (الحاكم ورقة 39/ و. انظر فيما تقدم ص 296).

أعرضت. قال: وإنما الصواب: تعاشيت. والصحيح الأول لإجماع أهل اللغة والتفسير. والقيض: المثل، وهما قيضان: أي كل واحد منهما عوض عن الآخر، ومنه المقايضة في البيع، وقيّض الله الشيء: أتاحه وسببه، يقال: هذا قيض لهذا وقياض، أي: مسبب، وقوله (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) منه، كأنه جعل الشيطان له عوضا مما تركه من ذكر الله. المعنى: لما تقدم ما أعد الله للمتقين، وعدا لهم «1»، عقبه بذكر الوعيد والعقاب فقال سبحانه: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ): يعرض، عن قتادة والسدي. وقيل: يعم، عن ابن زيد وأبي علي، قال أبو علي: هذا توسع، شبههم بالأعمى لما لم يبصروا الحق. وقيل: العشو: السير في الظلمة، فلما كان الذاهب عن ذكر الله يتردد في الضلالة؛ خرج الكلام في ذهابه على السائر في الظلمة عن ذكر الله تعالى، عن أبي مسلم.- واختلفوا في «الذكر» قيل: الآيات والأدلة. وقيل القرآن- (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) قيل: من أعرض عن ذكر الله تعالى يخلي بينه وبين الشيطان فيصير قرينه عوضا عن ذكر الله، عن الحسن وأبي مسلم. وإنما جاز التخلية لما علم أنه لا يفلح وإن لم يكن الشيطان له قرينا. وقيل: يقرنه في الآخرة ليذهب به إلى النار، عن قتادة، كما أن المؤمن يصير قرينه ملك يذهب به إلى الجنة ... ». قال الزمخشري: «قرئ: ومن يعش، بضم الشين وفتحها.

_ (1) انظر الآيات السابقة من السورة.

ج) شواهد أخرى:

والفرق بينهما أنه إذا حصلت. الآفة في بصره قيل: عشى، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل: عشا. ونظيره: عرج، لمن به الآفة، وعرج لمن مشى مشية العرجان من غير عرج، قال الحطيئة: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره. أي: تنظر إليها نظر العشي لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء! وهو بين في قول حاتم: أعشو إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر وقرئ: يعشوا: على أن «من» موصولة غير مضمنة معنى الشرط، وحق هذا القارئ أن يرفع (نقيض). ومعنى القراءة بالفتح: ومن يعم (عن ذكر الرحمن) وهو القرآن، كقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). وأما القراءة بالضم فمعناها: ومن يتعام عن ذكره، أي: يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتغابى كقوله تعالى: (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ)، (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ). وقرئ: يقيض، أي: يقيض له الرحمن، ويقيض له الشيطان» «1». ج) شواهد أخرى: 1) قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) «2». قال الحاكم: «النزول: قيل نزلت الآية في أبي جهل، عن سعيد ابن المسيب.

_ (1) الكشاف 4/ 197 - 199. (2) الآية 24 سورة الزمر.

«النظم: يقال كيف يتصل قوله (أَفَمَنْ يَتَّقِي) بما قبله؟ «1» قلنا: على تقدير: من لم يهتد بهدي الله لا يهتدي بغيره، أفيهتدي من يتقي بوجهه سوء العذاب؟ يعني المقيم على كفره؛ عن أبي مسلم. «المعنى: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يدفع العذاب عن نفسه بوجهه، وهو غاية الضرورة، لأن الوجه أعز عضو من الإنسان. وقيل: يجرّ على وجهه في النار؛ عن مجاهد. وقيل: معناه: يتلقى عذاب النار بوجهه. وقيل: يرد مغلولة يده إلى عنقه إلى النار وفي عنقه صخرة عظيمة من الكبريت، فتشتعل النار في الحجر فيبلغ وهجها على وجهه لا يطيق دفعها عن وجهه من أجل الأغلال؛ عن مقاتل. «ومتى قيل: فما جواب: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ)؟ قلنا: محذوف تقديره: كمن هو آمن من العذاب، فحذف لدلالة الكلام عليه. «(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) تقوله الخزنة. (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي وباله وجزاءه» «2». قال الزمخشري: «يقال: اتقاه بدرقته: استقبله بها فوقى نفسه إياه واتقاه بيده. وتقديره: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن أمن العذاب! فحذف الخبر كما حذف في نظائره. وسوء العذاب: شدته،

_ (1) قبله قوله تعالى: ( .. ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) من الآية 23. (2) التهذيب، ورقة 10 - 11.

ومعناه: أن الإنسان إذا لقي. مخوفا من المخاوف استقبله بيده، وطلب أن يقي بها وجهه لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره وقاية له ومحاماة عليه. وقيل المراد بالوجه: الجملة. وقيل نزلت في أبي جهل. «وقال لهم خزنة النار (فَذُوقُوا) وبال (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)» «1». وواضح من كلام الزمخشري- الذي لا يحتاج إلى تعليق- أنه يشتمل على الوجه الذي ذكره الحاكم لنفسه، والوجه الذي نقله عن مقاتل، وإن كان الزمخشري ركب في سبيل هذا التلفيق إلى القول بأن كل من يلقى في النار يلقى مغلول اليدين!! وليس في الآية ما يدل على هذا العموم. 2) قوله تعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) «2». قال الحاكم: «اللغة: الولي: القريب النصرة عند الحاجة، ونقيضه العدو، ومنه الولي: العم، والولي: الناصر، والولي: الأخ والصاحب. قال أبو مسلم: ووليّ الشيء: مالكه وصاحبه. والإنذار: الإعلام بموضع مخافة.

_ (1) الكشاف 4/ 96 - 97. (2) الآيتان 7 - 8 سورة الشورى.

«المعنى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا) أي كما أوحينا إلى الرسل أوحينا إليك. (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي بلغة العرب (لتنذر) لتخوف (أُمَّ الْقُرى) يعني مكة، وسميت بذلك قيل لأنها أفضل القرى لأن فيها البيت وهي حرم، وكل قرية دونها، عن أبي مسلم. وقيل: لأنها أول بيت وضع، وأم كل شيء: أصله، فكانت مكة أما لجميع القري. «(وَمَنْ حَوْلَها) أي: لتنذر من حول مكة، قيل المراد به العرب ليكونوا أنصارا له على سائر الأمم، عن أبي مسلم. وقيل المراد به سائر الناس، عن أبي علي. «(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أي بيوم يجمع فيه الخلائق، وهو يوم القيامة، ولم يبين ما خوف به ليذهب قلب المكلف إلى كل مذهب من أنواع الخوف. وقيل: الإنذار بيوم الجمع إنذار بالفضيحة التي تظهر. (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك. (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) وهو النار، ففي الجنة الأنبياء والمؤمنون، وفي النار الكفار والفاسقون، وهذه أحوال المكلفين لا يخلو مكلف من أحد هذين، وأحدهما غاية الأمنية لأنها نعيم دائم، يستحق على سبيل التعظيم لا يشوبها ما ينغصها. وثانيها غاية الهموم؛ لأنها آلام عظيمة على سبيل الاستحقاق والإهانة لا يشوبها روح. «(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) قيل: لو شاء لحملهم على دين واحد، وهو الإسلام، بأن يلجئهم إليه بفعل لأنه يزيل التكليف، وإنما يثبت التكليف والثواب والعقاب مع الاختيار، ولو فعل ذلك لبطل الغرض، عن أبي علي. وقيل: لو شاء أن يجعل الفريقين فرقة واحدة بأن يخلقهم في الجنة لفعل، ولكن اختيارهم على الدرجتين، وهو استحقاق

الثواب [كذا] وقيل: لو شاء أن يدخل الجميع الجنة لا يمتنع عليه، ولكن (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) وهم المؤمنون (والظالمون) وهم العصاة (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ) يتولى حفظهم، ولا ناصر ينصرهم حتى ينجوا من عذاب الله؛ عن أبي مسلم. وقيل: لم يلجئهم إلى الدين، لكن كلّفهم ليطيعوا فيستحقوا الثواب، فإدخالهم في رحمته إدخال في التكليف الذي هو الدين، لكن كلفهم ليطيعوه، فهو سبب الرحمة، والظالمون من المكلفين ليس لهم من ولي ولا نصير؛ عن أبي علي» «1». قال الزمخشري: «(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ): ومثل ذلك أوحينا إليك، وذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها: من أن الله تعالى هو الرقيب عليهم وما أنت برقيب عليهم ولكن نذير لهم، «2» لأن هذا المعنى كرره الله تعالى في كتابه في مواضع جمة، والكاف مفعول به لأوحينا. و (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال من المفعول به، أي: أوحيناه إليك وهو قرآن عربي بيّن، لا لبس فيه عليك، لتفهم ما يقال لك، ولا تتجاوز حد الإنذار! ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا، أي: ومثل ذلك الإيحاء البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسانك! «(لتنذر) يقال: أنذرته كذا وأنذرته بكذا، وقد عدى الأول أعنى: لتنذر أم القرى، إلى المفعول الأول، والثاني وهو قوله: وتنذر

_ (1) التهذيب ورقة 30، يضاف إلى ذلك ما ذكره الحاكم في فقرة «الأحكام». (2) الآية السابقة قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) الآية رقم 6.

يوم الجمع إلى المفعول الثاني. (أُمَّ الْقُرى) أهل أم القرى، كقوله تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). (وَمَنْ حَوْلَها) من العرب! وقرئ «لينذر» والفعل للقرآن. (يوم الجمع): يوم القيامة لأن الخلائق تجمع فيه، قال الله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ)، وقيل: يجمع بين الأرواح والأجساد، وقيل: يجمع بين كل عامل وعمله. و (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض لا محل له!!. وقرئ: (فريق) وفريقا بالرفع والنصب، فالرفع على: منهم فريق ومنهم فريق، والضمير للمجموعين لأن المعنى: يوم جمع الخلائق، والنصب على الحال منهم، أي متفرقين كقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ). «فان قلت: كيف يكونون مجموعين متفرقين في حالة واحدة؟ قلت: مجموعون في ذلك اليوم مع افتراقهم في داري البؤس والنعيم، كما يجتمع الناس يوم الجمعة متفرقين في مسجدين. وإن أريد بالجمع جمعهم في الموقف فالتفرق على معنى مشارفتهم للتفرق!! (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً ... ) إلى آخر الآية، قال الزمخشري: «أي مؤمنين كلهم على القسر والإكراه كقوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) وقوله: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) والدليل على أن المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان قوله: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وقوله تعالى: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ) بإدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله دليل على أن الله وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره. والمعنى: ولو شاء

ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان، ولكنه شاء مشيئة حكمة، فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون، ليدخل المؤمنين في رحمته، وهم المرادون بمن يشاء، ألا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين، ويترك الظالمين بغير ولي ولا نصير في عذابه» «1». وقد يكون في هذا الشاهد الذي لم نتعمد اختياره- مثل سابقه- كما قدمناه، ما يدل على عدم تأثر الزمخشري بالحاكم، ولكننا مع ذلك نجد أنفسنا مرغمين على التعليق على هذا الكلام للزمخشري- قبل أن نعقب جملة على موضوع تأثره بالحاكم- لأن كل ما فيه، مما لم يذكره الحاكم، غريب عجيب. هذا مع تسليمنا بأننا أكثرنا من النقل والتعليق في هذا الموضوع فوق ما توقعناه: 1) محاولة الزمخشري في مطلع كلامه ربط الآية بسابقتها- وهي قوله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) الآية رقم 6 - مفهوم المعنى، ولكن جعله الرابط هو قوله تعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ .. )، وقوله في شرح هذا الرابط: «ومثل ذلك أوحينا إليك، وذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها» غير مفهوم، ولا يخلو من خلط، لأن قوله تعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا .. ) عطف على قوله تعالى في الآية 3 من السورة: (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، والمعنى كما قال الحاكم: أي «كما أوحينا إلى الرسل أوحينا إليك» ولا ندري مثل أي شيء يريد الزمخشري بقوله: «ومثل ذلك»!

_ (1) الكشاف 4/ 164 - 165.

2) الوجه الذي قدمه في تفسير قوله تعالى: (قُرْآناً عَرَبِيًّا) وإعرابه- وهو ما يرجحه- لا يخلو من تكلف في العبارة والمعنى، وتعسف في التقدير يذهب بنظم القرآن الذي زعم أن الزمخشري من أحسن الذين ظهروا عليه!! فالله تعالى يقول: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) - وإعرابها لا يخطئه التلميذ- ليدل على أن الموحى به هو هذا القرآن على هذه الصفة، والزمخشري يقول: وكذلك أوحيناه إليك، وهو قرآن عربي بين لا لبس فيه عليك ... » إلى آخر عبارته الثقيلة! 3) تفاصح الزمخشري في شرح معنى الإنذار ولم يشرح لنا كيف ينذر يوم الجمع- نفس اليوم- وإن كان قد شرح هذا اليوم بأنه يوم القيامة ... (راجع الحاكم). 4) كل ما قاله الزمخشري في تفسير قوله تعالى: (لا رَيْبَ فِيهِ) بأنه «اعتراض لا محل له»! وقد وصف الله تعالى يوم الجمع بأنه لا شك فيه، فهل يعني الزمخشري أن هذا الوصف لا محل له من الإعراب، أم ماذا؟ ومن يطلق على بعض الآيات بأنها اعتراض أو زائدة، وكلها للتأكيد وزيادة المعنى؟! 5) ثم ما الذي حمل الزمخشري على هذا الاعتراض الطويل- بعد أن أهمل ما يحتاج إلى بيان وجرى وراء قراءاته الغربية- بأن الناس كيف يكونون مجموعين متفرقين في حالة واحدة؟! مع العلم بأن الآية ليس فيها ما يدل على ذلك، لأن معناها أن الرسول ينذر بيوم الجمع، وهو يوم الحساب، ومعلوم أن الناس بعد الحساب- لا وقته- فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير! أم إن الزمخشري يريد أن يكشف لنا عن نوع

من الإعجاز لم يسبق إليه؟ وأين من بلاغة الزمخشري الإيجاز والاختصار وطوي المشاهد والأحداث؟! يضاف إلى ذلك أن الآية الأخرى التي استشهد بها على مذهبه في الجمع والتفرق! وهي قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) لا تدل إلا على الضد مما ذهب إليه، لأن الآيات التالية لها هي: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ ... ) وإعراب «أما» هذه ما نظن أنه يغيب عن ذهن الزمخشري بحال. 6) مشيئة الإلجاء التي حمل عليها قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) معروفة من مذهب الجبائيين، وقد ذكرها الحاكم مع وجوه أخرى فائقة، ولكن الزمخشري لم ينسبها لأحد، وقام بالتدليل عليها، ثم بشرح هذا الدليل المعروف ببعض اللفظيات!! د) تعقيب عام: وبعد، فإن الذي نعقب به في الجملة على هذا الموضوع بعد هذه الرحلة الطويلة، وبعد الرجوع إلى المزيد من الشواهد والمقارنات؛ يتلخص في النقاط التالية: 1) كثير من وجوه التفسير والتأويل التي يذكرها الزمخشري موجودة في كتاب الحاكم، ومنسوبة فيه إلى أكثر من مفسر من مفسري المعتزلة والسلف المتقدمين. 2) طريقة الزمخشري في عرض هذه الوجوه والآراء والتعبير عنها مغاير لأسلوب الحاكم من كل وجه، فأكثر كلام الزمخشري داخل في حد التعالي والغموض والتكلف.

3) أتى الزمخشري في مواضع قليلة بما يشبه أحد وجوه التأويل والتفسير الخاصة، التي لم نقف على ما يماثلها من كل وجه في كتاب الحاكم، ولكن هذه الآراء وإن لم يصعب ردّها إلى أصحابها في كتب التفسير الأخرى، أو تخريجها على بعض القواعد الاعتزالية- التي يذهب إليها الجبائيان بخاصة- فإنها على كل حال واردة في مواطن لا تحتاج إلى زيادة فكر أو عناء. 4) يعتمد الزمخشري في باب التأويل خاصة على مبدأ اللطف اعتمادا زائدا، وقد خرّج عليه من الآيات فوق ما ذكره الحاكم وذهب إليه القاضي عبد الجبار، وتذكّر طريقته هذه بطريقة أبي مسلم في هذا الباب. 5) هنالك مواطن كثيرة في كتاب الزمخشري يظهر فيها أثر الاعتماد على الحاكم، وإن كان الزمخشري يخلط فقرات الحاكم المنظمة بعضها ببعض. ويركز دائما على «الإعراب» ويحاول جاهدا- في تفسيره بعامة- أن يربط به وجوه المعنى والتأويل، مما يضطره إلى «التدرج» في التعبير عن المعنى الواحد بأكثر من عبارة؛ يصدرها بقوله «يعني» و «أي» و «المعنى» ... مما يدخل كلامه في المزيد من التعقيد والثقل، ويقطع على القارئ سبيل التنبه إلى وجود مصدر آخر لهذه الوجوه والآراء، أو عقد مقارنة بين هذا التفسير وتفاسير السابقين! ولعل هذا مما يحرص عليه الزمخشري على الدوام. 6) هنالك مواطن أخرى يبدو فيها للباحث أن من الظلم البين للحاكم أن يقال إن الزمخشري أفاد منه في كشافه، فضلا عن أن يكون أخذه

منه، كما نقل الجنداري، حتى ولو قلنا إن ذلك بزيادة تعقيد، كما يقول صاحب هذا القول- راجع الشاهد الأخير-. 7) ولهذا فإننا نرجح أن الزمخشري قد اطلع على كتاب الحاكم وأفاد منه، كما نرجح في نفس الوقت أنه لم يكن يديم النظر فيه حال جلوسه للكتابة أو الإملاء. 8) كما نرجح بالطبع إفادته الكبرى من تفاسير المعتزلة الآخرين، وإن كانت عنجهيته تأبى عليه أن يضيف إلى مخلوق قولا،- ولنا هنا أن نلتفت إلى ما ذكره صاحب النجوم الزاهرة- وبخاصة تفسير أبي مسلم الأصفهاني. هذا إلى جانب وقوفه الظاهر على تفاسير السلف، وإفادته من التأويلات التي ترد في كتب علم الكلام. 9) وإذا كان انتفاعه بهذه التفاسير لا يقبل المنازعة، فلمن شاء أن يرجح أن الزمخشري قد انتفع بها- على طريقته- بطريق مباشر، وليس من اللازم أن يكون قد وقع له كتاب الحاكم. إذا صح هذا- وهو عندنا جد بعيد- فإن خلاصة القول في «الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل»! إنه من تفاسير السابقين، ولكن بزيادة تعقيد .. وقلة أمانة. ورحم الله الجنداري! 10) وأخيرا فإننا نستطيع أن نؤكد ما لمحناه وتحدثنا عنه من نوازع الزمخشري النفسية، التي حالت بينه وبين إشراق العبارة ووضوح القصد، كما حالت بينه وبين الالتزام بإضافة الأقوال إلى أصحابها على الدوام، إذا وقفنا على طرف من مقدمة تفسيره- أي طرف- وقارنّا بينه وبين خطبة كتاب الحاكم التي لا تتجاوز عشر مقدمة الزمخشري، في حين أن

كتاب الزمخشري لا يتجاوز خمسي كتاب الحاكم! وجدير بنا على كل حال أن نذكر خطبة الحاكم رحمه الله. قال الحاكم بعد البسملة: «رب يسّر برحمتك، الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ودعانا إلى دار السلام، ومنّ علينا بنبينا محمد عليه السلام، وأنعم علينا بضروب الإنعام. وأنزل القرآن، وصانه عن التحريف والزيادة والنقصان، ونسخ به سائر الأديان. ثم الصلاة على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وإمام المتقين، محمد وعلى آله أجمعين. «أما بعد، فإن أولى ما يشتغل به المرء طلب العلوم الدينية التي بها فوزه ونجاته، ثم عبادة ربه الذي إليه محياه ومماته. ومن أجلّ العلم معرفة كتاب الله تعالى، وتفهم معانيه وأحكامه، فإن عليها مدار الدين، وهو حبل الله المتين. «وقد اجتهد العلماء في ذلك فأسسوا وصنفوا، وللأولين فضل السبق وتأسيس الأمر، وللآخرين حسن الترتيب وجودة التهذيب وزيادة الفوائد. ولئن قال بعضهم: ما ترك الأول للآخر! فقد قال آخر: كم ترك الأول للآخر. «وقد جمعت في كتابي هذا جملا وجوامع في علم القرآن، من غير تطويل ممل وإيجاز مخل. أرجو أن يكون تبصرة للمبتدي وتذكرة للمنتهي. ومن الله أستمد التوفيق وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعيم المعين» «1». ثم تحدث في نحو صفحتين عن خلاصة رأيه في لغة القرآن وإعرابه

_ (1) الورقة الأولى من التهذيب.

ونظمه وسائر فقرات كتابه، كما عرّف الآية والسورة، وشرح معنى التفسير والتأويل. ثم شرع في بيان معنى التعوذ والبسملة وتفسير سورة الفاتحة. أما الزمخشري فمما قاله في مقدمته: إن علم التفسير «لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه ... إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله. بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات. قد رجع زمانا ورجع إليه، ورد ورد عليه. فارسا في علم الإعراب، مقدما في حملة الكتاب. وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتمل القريحة وقادها، يقظان النفس دراكا للمحة وإن لطف شأنها، منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها. لا كزا جاسيا، ولا غليظا جافيا، متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر. مرتاضا غير ريض بتلقيح بنات الفكر. قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقة، ووقع في مداحضه، ومزالقه» «1». ثم عقب على ذلك ببيان منزلته هو في العلم، وكيف أن العلماء المقدمين تعلقوا بأذياله واستشفعوه أن يصنف لهم في التفسير، فقال: «ولقد رأيت إخواننا في الدين من أفاضل الفئة الناجية العدلية الجامعين

_ (1) الكشاف 1 صفحة ك.

ثانيا: أثر الحاكم في سائر المفسرين

بين علم العربية والأصول الدينية، كلما رجعوا إليّ في تفسير آية فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحجب أفاضوا في الاستحسان والتعجب، واستطيروا شوقا إلى مصنف يضم أطرافا من ذلك، حتى اجتمعوا إلى مقترحين أن أملي عليهم الكشف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل فاستعفيت!! فأبوا إلا المراجعة والاستشفاع بعظماء الدين وعلماء العدل والتوحيد. والذي حداني على الاستعفاء، على علمي أنهم طلبوا ما الإجابة إليه علي واجبة لأن الخوض فيه كفرض العين! ما أرى عليه الزمان من رثاثة أحواله وركاكة رجاله، وتقاصر هممهم عن أدنى عدد هذا العلم فضلا أن تترقى إلى الكلام المؤسس على علمي المعاني والبيان ... » إلى آخر هذا الكلام الذي لا يدرى أي جانبيه أوغل في التنطع والزراية بجميع البلاد والعباد!!. ثانيا: أثر الحاكم في سائر المفسرين لقد كان لانقطاع كتب الحاكم في اليمن أثره في انعدام تأثيره في التفسير واتجاهات المفسرين في سائر بلاد العالم الإسلامي، واقتصار هذا الأثر على اليمن، فإذا وجدنا فيه من عكف على تفسير الحاكم، يقرؤه ويرويه، كما هي الحال عند كثير من الأئمة والعلماء كما قدمناه، أو من يفيد منه ويتعقبه، كما فعل ابن المرتضى وغيره، فإن المرء لا يطمع فوق ذلك بأكثر من أن يجد له بعض المختصرين وكتاب الحواشي! على عادتهم في هذه القرون التي تلت عصر الحاكم، لا في اليمن فحسب، بل في أكثر بقاع العالم الإسلامي. وقد وقفنا على من جرّد من «التهذيب» بعض

«النكت» والفقرات! في الوقت الذي كثرت فيه- في اليمن- الحواشي والتعليقات على كشاف الزمخشري. 1) ولكن الأمر الذي لا نجد فكاكا من التعرض له مرة أخرى، قبل الإشارة إلى مثل هذا الأثر، هو التساؤل عن سبب هذا الانقطاع التام لكتب الحاكم وراء حدود اليمن، في حين تشير بعض النصوص المتقدمة إلى أن الفرصة كادت تكون مهيئة لانتشار كتب الحاكم في بقاع أخرى- على ما كانت عليه حال الكشاف وسائر كتب الزمخشري- لأن انتقال نسخ من هذه الكتب جميعا إلى اليمن على يد القاضي شمس الدين لا يعني انقطاعها، كما لا يفسر انقطاع كتب الحاكم دون الزمخشري، وبخاصة كتاب التهذيب!! قدّمنا أن القاضي شمس الدين جعفر بن عبد السلام (ت 573) رحل إلى العراق وخراسان مع زيد بن الحسن في أواسط القرن السادس، واستمرت رحلته من حوالي سنة 544 إلى ما بعد سنة 552. «1» وأنه سمع في هذه الرحلة وقرأ على كثير من الشيوخ منهم ابن وهاس وأبو جعفر الديلمي. وقد نص ابن القاسم على أن القاضي جعفر سمع من ابن وهاس: «جلاء الأبصار للحاكم المحسن بن كرامة وغيره من كتبه! وأجازه إجازة

_ (1) رحل كما قدمنا مع زيد بن الحسن البيهقي الذي وصل اليمن سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وأقام بها قرابة ثلاث سنوات. راجع طبقات ابن القاسم ورقة 92. وانظر فيما تقدم ص 115 - 118. وقد لقى القاضي جعفر القاضي الكني في العراق، وبعض إجازاته منه مؤرخه في جمادى الأولى سنة اثنين وخمسين وخمسمائة. راجع المصدرين السابقين.

عامة من جملة ذلك الكشاف» كما نص على أنه «سمع» كتاب التهذيب للحاكم أيضا على أبي جعفر الديلمي عن ولد الحاكم عن أبيه، وأجازه في بقية كتب الحاكم المذكور، كالسفينة، وتنبيه الغافلين، ومصنفات عدة منها موضوع بالفارسية». ونقف هنا لنورد بعض الأمور: أ) ابن وهّاس هو علي بن عيسى بن حمزة، الشريف الحسني، من أهل مكة وأمرائها، يكنى بأبي الحسن، ويعرف بابن وهاس. «1» كان صاحب الزمخشري وتلميذه وشفيعه الأول إلى كتابة الكشاف؛ حتى إنه حدث نفسه في مدة غيبة الزمخشري عن مكة «بقطع الفيافي وطي المهام والوفادة» عليه بخوارزم «ليتوصل إلى إصابة هذا الغرض» كما يقول الزمخشري في مقدمة الكشاف!! قال العماد الأصفهاني في ترجمة ابن وهاس: «قرأ على الزمخشري بمكة وبرّز عليه». ب) «سمع» القاضي شمس الدين على ابن وهاس هذا كتاب جلاء الأبصار للحاكم- في الحديث- «وغيره من كتبه!» وأخذ منه إجازة عامة تضمنت كشاف الزمخشري. وليس في كلام ابن القاسم نص على أن القاضي جعفر سمع من ابن وهاس تفسير الحاكم،- وإن قال: وغيره من

_ (1) انظر ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 3/ 32 والعقد الثمين 6/ 217 - 221، والوافي بالوفيات للصفدي (القسم المخطوط) وأزهار الرياض 3/ 282. ودعاه الزمخشري (على بن حمزة ... ) اختصارا. وفي بعض المواطن من طبقات الزيدية دعي ب «علي بن الحسن» وهو وهم سبق إلى المصنف من كنيته «أبي الحسن». وكانت وفاته في أواخر سنة 456 (انظر العقد الثمين أيضا 6/ 465 والصفحات التالية) ومقدمة الكشاف، صفحة ل.

كتبه- ولكنه نص على أنه سمعه من أبي جعفر الديلمي عن ولد الحاكم- وقال في موضع آخر إن محمد بن المحسن ولد الحاكم قرأ على والده كتاب التهذيب في شهر الله الأصم رجب سنة اثنين وخمسين وأربعمائة، قال: ورواه عنه إجازة ومناولة أبو جعفر الديلمي شيخ القاضي جعفر «1» - وهذا من ابن القاسم كلام دقيق؛ لأن ابن وهاس توفى بمكة سنة ست وخمسين وخمسمائة وهو في عشر الثمانين، في حين أن ولد الحاكم محمدا توفى سنة ثمان عشرة وخمسمائة قبل مدة مديدة من رحلة القاضي جعفر، فكان سماعه لتفسير الحاكم عمن أخذه عن ولده، وهو الديلمي. ج) قرأ القاضي جعفر على ابن وهاس في مكة- في طريق عودته من العراق وخراسان- وليس في الطبقات ما يدل على أنه قرأ تفسير الحاكم على أبي جعفر الديلمي خارج حدود الديلم والعراق. ولكن ما سبق يدل على أن الكثير من كتب الحاكم كان معروفا في مكة في هذا القرن، وأن هذه الكتب كانت تسمع وتقرأ على ابن وهاس تلميذ الزمخشري، الذي قال فيه العماد إن «أعنة طلبة العلم بمكة قد صرفت إليه»! فهل تلقى ابن وهاس هذه الكتب على شيخه صاحب الكشاف، أم قرأها على غيره وليس في تاريخه ما يدل على أنه تلقى العلم في غير مكة؟! إن رحلة علماء الزيدية من الديلم وخراسان إلى مكة كانت كثيرة، ولا تحتاج مثل هذه الرحلات إلى تعليل، وبخاصة وأن الأمر فيها كان لشرفاء الزيدية وأمرائهم، ولكن الأمر الذي لا يخلو من إشكال أن يضيع في مكة

_ (1) الطبقات صفحة 223 مصور الدار رقم 13848 ح.

ذكر كتاب التهذيب مع أنه من أهم كتب الحاكم وأقدمها تصنيفا! وأن يذكر أن القاضي شمس الدين سمع من ابن وهاس كتبا كثيرة للحاكم، ثم لا ينص منها إلا على كتاب واحد بعينه، هو جلاء الأبصار في الحديث، في حين ينص معه على تفسير الكشاف مع أنه أجيز به في جملة كتب!! ولا يرد ذكر التهذيب إلا في سماعه خارج مكة؟ د) فهل نجيز لأنفسنا هنا أن نورد احتمالا- أو ظنا- صادفنا ونحن نبحث في تلامذة الحاكم وأخبارهم، ولكننا طوينا الإشارة إليه هناك، وهو أن الزمخشري حين ذكر شيوخه عد ممن «سمع» عليه منهم «أبا سعد الشقاني» «1» ولم نقف على أحد ممن ينتسب إلى «شقان» - بكسر الشين وتشديد القاف، واشتهرت النسبة اليها بفتح القاف- يكنى بأبي سعد! «2» فهل يبعد أن يكون أبو سعد هذا هو صاحبنا الحاكم «أبو سعد المحسن ابن كرامة الجشمي البيهقي» «دلّس» الزمخشري في قراءته عليه فأوهم أنها «سماع» ليشير إلى أنه إنما تلقى عليه الحديث فقط، ودلس في اسمه فنسبه إلى شقان- قرية من قرى بيهق- لقيه بها في إقليم نيسابور فنسبه اليها- وإن كان لا يبعد أن يكون الحاكم قد نسب إلى شقان فعلا كما نسب إلى جشم، وكلاهما من قرى بيهق- وحمل معه ما سمعه من «جلاء الأبصار» وغيره فحدّث به في مكة- التي دخلها بعد وفاة الحاكم بها

_ (1) انظر العقد الثمين 7/ 137 ومعجم الأدباء لياقوت 19/ 126 وإنباه الرواة 3/ 265. (2) راجع الأنساب للسمعاني ص 326 وانظر فيه سبب تسمية البلدة بهذا الاسم.

كما قدمنا- وأهمل الإشارة إلى التهذيب، الذي أتم الحاكم تأليفه قبل ميلاد الزمخشري بأكثر من خمسة عشر عاما «1»، لأمر لا يصعب تفسيره! هذا احتمال لا نقطع به، ولكننا لا نقطع ببعده على كل حال! هـ) على أن الذي قد يصعب تفسيره بعد ذلك، أن هذه الكتب التي عرفت للحاكم في مكة، كما عرفت كتب الزمخشري يبدو أنها انقطعت كذلك مع كتابه التهذيب، وإن كنا لا ندري على التحقيق شيئا عن أخبارها في مكة في القرون التالية والعصر الحاضر، وما كانت عليه حالها في اليمن قبل أن تجمع في مكتبة صنعاء وينشر فهرسها على الناس، على أن من الراجح أن هذه الكتب لم يتفق لها ما اتفق لكتب الزمخشري من الحفظة والنقلة، فضاعت أو أهملت بعد وفاة ابن وهاس الشيخ الكبير الذي لم يمهله الأجل طويلا بعد رجوع القاضي شمس الدين إلى اليمن. 2) أما أثر كتاب «التهذيب» في بعض مصنفات الزيدية فلم نقف عليه في غير كتاب يدعى «التقريب المنتزع من التهذيب» للقاضي محمد ابن عامر الأصبهاني، جمع فيه المصنف أهم أسباب النزول التي أوردها الحاكم، مع بعض الأخبار والمعاني اللطيفة من تفسير الحاكم وكتب أخرى، ويبدو أن الرجل رحمه الله كان مولعا بصنعة الاختصار والانتزاع هذه، قال في مقدمة التقريب: « .. أما بعد فإني لما انتزعت الكتاب الموسوم بكتاب المضغة المنتزع من كتاب البلغة، عزب عنه أسباب نزول آيات من القرآن، فرأيت أن أجمع من كتاب التهذيب، تصنيف الإمام

_ (1) تقدم أن محمد بن الحاكم سمعه على أبيه سنة 452.

الحاكم المحسن بن كرامة الجشمي رحمه الله، ما هو مذكور في موضعه موسوما بالنزول، من بعض ما ذكر في سبب نزول الآيات دون الإحاطة بالأقوال جميعها، ولم يكن ذلك مذكورا في البلغة، وربما أثبت هنالك واختلفت الأقاويل فيه، وفيه آيات شذت عن موضعها من كتاب المضغة أوردتها في موضعها من السور وآيات من غيرها». ثم قال: «وقد نبهت على ما عدا المنتزع من كتاب التهذيب فيما هو من كتاب البلغة بصورة (غ)، وفيما هو من غيره من سيرة ابن هشام وغيره بصورة (خ). وقد سميت ذلك كتاب التقريب المنتزع من التهذيب، في سبب نزول آيات من القرآن، وما ينضاف إليه من المعاني الحسان» «1». وقد جرى القاضي الأصبهاني في هذا الكتاب على هذه الطريقة التي ذكرها في مقدمته، فاكتفى من أسباب النزول الكثيرة التي يوردها الحاكم في الآية؛ بسبب واحد- هو ما يرجحه الحاكم في الغالب- كما أنه لم يقف عند جميع الآيات التي يذكر فيها الحاكم بعض أسباب النزول، وإنما اكتفى من ذلك بالآيات التي لم يورد لها صاحب البلغة (أبو جعفر الطوسي المتوفى سنة 465) مثل هذه الأسباب، فأحب أن يكملها من تفسير الحاكم!! ولا ندري لو أنه ابتدأ بانتزاع التقريب أكان يبقى بحاجة إلى المضغة أم لا! ولعله لا وجه لأن تجعل أسباب النزول الواردة في البلغة هي الأصل!! ... ولما كانت هذه المواطن الزائدة في التهذيب

_ (1) مقدمة التقريب، فلم دار الكتب رقم 87 ب.

ليست كثيرة فيما يبدو. وكان لا يختار منها إلا وجها واحدا- زيادة تقرب إلى التقريب والتهذيب! - فقد أضاف اليها بعض الأخبار من سيرة ابن هشام، وبعض الآراء والتأويلات للإمام الهادي وولده المرتضى، إلى جانب قليل من النقول عن الإمام علي بن أبي طالب وابن عزير السجستاني، وآخرين. حتى ليبدو الكتاب في بعض أوراقه عبارة عن نقول كثيرة متنوعة، وإن كانت قاعدته الأساسية هي أسباب نزول الحاكم! ويقع الكتاب في أربعين ومائتي ورقة، كتبت بخط أكبر من المعتاد. أما الأصبهاني المذكور فلم نعثر له على ترجمة إلا عند يحيى بن الحسين في الطبقات الزهر في باب يقع في ورقة واحدة ألحقه بآخر الكتاب، وذكر فيه «تراجم جماعة من الأصحاب لم يعرف زمانهم»، ونص على أنه جعلهم في آخر الكتاب لتكون تراجمهم كالذيل، «وليلحق بهم من عرض من بعد ممن لم يطلع عليه إن شاء الله». قال ابن الحسين: «ومنهم القاضي العلامة محمد بن عامر بن علي الأصبهاني، من علماء الهدوية المؤلفين، من مؤلفاته كتاب المضغة المنتزع من كتاب البلغة في التفسير، فيما أحسب. ومنها كتاب التقريب في أسباب النزول، مجلد، يروى فيه عن الهادي وابنه المرتضى، وعن الحاكم. ويروى عن كثير من أئمة الهدوية» «1».

_ (1) الطبقات الزهر، ورقة 211.

مصادر البحث

مصادر البحث أولا: المخطوطات «1» 1 - الإشارة إلى مذهب أهل الحق، لأبي إسحاق الفيروزآبادي. مخطوطة مكتبة الاسكندرية رقم 2014 توحيد. 2 - أصول الدين، للكيا الهراسي الشافعي. رقم 290 علم الكلام. 3 - البحث عن أدلة التكفير والتفسيق، لأبي القاسم البستي. ص رقم 28679 ب. 4 - البرهان في تفسير القرآن، لأبي الفتح الديلمي. فلم رقم 370 ب. 5 - البرهان في علوم القرآن، للحوفي. رقم 59 تفسير. 6 - البرهان في متشابه القرآن، للكرماني. رقم 309 تفسير طلعت. 7 - التأثير والمؤثر في علم الكلام، للحاكم. صورته عن فلم الدار رقم 2119. 8 - تاريخ الإسلام، للذهبي. رقم 42 تاريخ. 9 - التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض، لابن متّويه. ص رقم 27977/ 27984 ب.

_ (1) حيث لا نشير إلى اسم المكتبة فالكتاب من مخطوطات دار الكتب المصرية. وقد رمزنا بالحرف (ص) إلى أن النسخة مصورة.

10 - التذكرة في علم الكلام، لابن متويه. ص رقم 27980/ 27801 ب. 11 - تفسير الراغب الأصفهاني. فلم معهد إحياء المخطوطات بالجامعة العربية، رقم 98/ 99 تفسير. 12 - تفسير الرماني- ج 12 - فلم معهد المخطوطات رقم 16 عن مكتبة المسجد الأقصى. 13 - تفسير القرآن العظيم مما فسره به الأئمة. فلم رقم 264 ب. 14 - تفسير القرآن، لمنصور بن عبد الجبار المروزي. رقم 136 تفسير. 15 - تفسير مجاهد بن جبر المكي. رقم 1075 تفسير. والمصورة رقم 28672 ب عن نسخة يمنية. 16 - التفسير البسيط، للواحدي. رقم 53 تفسير. 17 - التقريب المنتزع من التهذيب، للقاضي الأصبهاني. فلم رقم 87 ب. 18 - التمهيد لقواعد التوحيد، لأبي المعين النسفي. رقم 172 علم الكلام. 19 - تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين، للحاكم. صورته عن فلم الدار رقم 170 ب. 20 - التهذيب في التفسير، للحاكم (موضوع البحث). وقد رجعنا فيه إلى بضعة أجزاء مصورة في دار الكتب، وإلى أجزاء أخرى حصلنا عليها من مصورات الأستاذ فؤاد سيد رحمه الله أمين المخطوطات السابق بالدار المذكورة. وكان قد صورها لنفسه من بعض مكتبات اليمن، ثم وضعها بين يدي عند ما علم بعزمي على دراسة الكتاب والقيام بتحقيقه. 21 - جلاء الأبصار، للحاكم. مخطوطة صنعاء رقم 137 حديث.

22 - الحدائق الوردية في مناقب الأئمة الزيدية لحميد بن أحمد المحلي. رقم 487 تاريخ. 23 - حقائق التفسير، لأبي عبد الرحمن السلمي. رقم 150/ 481 تفسير. 24 - خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، لابن المطهّر الحلّي. رقم 5167 تاريخ. 25 - درة التأويل، للراغب الأصفهاني. فلم معهد المخطوطات رقم 133 تفسير. 26 - درة التنزيل وغرة التأويل، للخطيب الإسكافي. رقم 660 تفسير. 27 - الدرر الفرائد في شرح كتاب القلائد، لابن المرتضى. ص رقم 28674 ب. 28 - ديوان الأصول، لأبي رشيد النيسابوري. مصورة الدار. 29 - رسائل الإمام الهادي يحيى بن الحسين. فلم الدار رقم 2118/ 2117. 30 - سير أعلام النبلاء، للذهبي. المجلد 15. ص رقم 12195 ح. 31 - سيرة الإمام الهادي إلى الحق. فلم الدار رقم 124 ح. 32 - الشامل في أصول الدين، للجويني. رقم 1290 علم الكلام. 33 - شرح عيون المسائل، للحاكم. صورته عن فلمي دار الكتب رقم 169/ 306 عن مخطوطتي صنعاء رقم 212 علم الكلام. و72 أصول الدين. بالإضافة إلى نسخة ثالثة من المصورات الخاصة. 34 - شفاء الصدور، لأبي بكر النقاش. رقم 140 تفسير. 35 - طبقات الزيدية (أو الطبقات الزهر) ليحيى بن الحسين. ص 15632 ح.

36 - طبقات الزيدية، لإبراهيم بن القاسم الشهاري. ص رقم 29099 ب. 37 - طبقات المفسرين، للداودي. رقم 1167 تاريخ. 38 - طبقات النحاة واللغويين، لابن قاضي شهبة. رقم 2146 تاريخ تيمور. 39 - طراز أعلام الزمن في أعيان اليمن، لابن وهّاس. رقم 783 تاريخ تيمور. 40 - العواصم والقواصم، لابن العربي. ص رقم 22031 ب. 41 - قبول الأخبار ومعرفة الروايات، للكعبي. ص رقم 24051 ب. 42 - الكشف والبيان، للنيسابوري. رقم 797 تفسير. 43 - مجموع من سفينة الحاكم، ليحيى بن علي الحكمي. مخطوطة صنعاء رقم 168 علم الأخلاق. 44 - مطلع البدور ومجمع البحور، لأبي الرجال الصنعاني. رقم 4322 تاريخ. 45 - معترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي. ص رقم 20347 ب. 46 - المغني في أصول الدين، لأبي سعيد المتولي الشافعي. مخطوطة الاسكندرية رقم 2014/ أد. 47 - المقصد الحسن والمسلك الواضح السنن، لأحمد بن يحيى بن حابس الصعدي. ص رقم 29137 ب. 48 - نزهة الأنظار، ليحيى بن حميد. مخطوطة صنعاء رقم 90 مجاميع. وهي من مصورات دار الكتب. وقد رجعنا فيها إلى النسخة المصورة عند فؤاد سيد رحمه الله.

ثانيا: الكتب المطبوعة

49 - نظم الفوائد وتقريب المراد للرائد (أمالي القاضي عبد الجبار في الحديث) ص رقم 28086 ب. 50 - النكت والعيون، للماوردي. الجزء الأول: مخطوطة صنعاء 111 تفسير. وجزء آخر مصور في الدار رقم 19693 ب. ثانيا: الكتب المطبوعة 1 - أئمة اليمن، لمحمد بن زبارة الحسني الصنعاني مؤرخ اليمن. طبع تعز 1952. 2 - الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري. الطبعة المنيرية بالقاهرة. 3 - إتحاف المهتدين بذكر أئمة اليمن المسترشدين لابن زبارة. طبع اليمن 1343 هـ. 4 - الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي. طبع المكتبة التجارية ط 3 سنة 1941. 5 - أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، للمقدسي. الطبعة الثانية- ليدن. 6 - أخبار الدولة السلجوقية، لصدر الدين أبي الفوارس. طبع لاهور 1933. 7 - أزهار الرياض في أخبار عياض، للمقري. مطبعة لجنة التأليف بالقاهرة 1939. 8 - أسباب النزول للواحدي. تحقيق الأستاذ السيد أحمد صقو. القاهرة 1388.

9 - أصول الدين، للبغدادي. مطبعة الدولة باستانبول سنة 1928. 10 - أصول الدين، للقاضي البزدوي. نشر هانزبيترلنس. دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة 1963. 11 - إعجاز القرآن، للباقلاني. تحقيق وتقديم الأستاذ السيد أحمد صقر. طبع دار المعارف. 12 - الأعلام، لخير الدين الزركلي. الطبعة الثانية سنة 1373 - 1378 القاهرة. 13 - أمالي المرتضى (درر الفوائد وغرر القلائد) للشريف المرتضى. تحقيق أبو الفضل إبراهيم. دار إحياء الكتب العربية 1374. 14 - الإمام زيد، للأستاذ الشيخ محمد أبي زهرة. دار الفكر العربي- القاهرة. 15 - إنباء الرواة على أنباه النحاة، للقفطي. مطبعة دار الكتب بالقاهرة. 16 - الأنساب، للسمعاني. طبع ليدن سنة 1912. 17 - باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والملل. بتصحيح توما أرنلد. حيدرآباد الدكن 1316. 18 - البحر المحيط، لأبي حيان الغرناطي. مطبعة السعادة بمصر 1328. 19 - البداية والنهاية، لابن كثير. مطبعة السعادة بمصر 1351. 20 - البرهان في علوم القرآن، للزركشي. ت أبو الفضل إبراهيم. دار إحياء الكتب العربية، القاهرة. 21 - بغية الوعاة، للسيوطي. ت أبو الفضل إبراهيم. دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.

22 - بلوغ المرام في شرح مسك الختام، للقاضي العرشي. تحقيق انستاس الكرملي. القاهرة 1939. 23 - البيان والتبين، للجاحظ. تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون. الطبعة الأولى- مكتبة الخانجي بالقاهرة. 24 - تاريخ الأدب العربي، للمستشرق الألماني كارل بروكلمان: الأصل والملحق. 25 - تاريخ بيهق، لابن فندق. طبع إيران. 26 - تاريخ دول الإسلام، للصدفي. طبع القاهرة 1326. 27 - تاريخ الفرق في الإسلام (محاضرات على الآلة الكاتبة) للأستاذ الدكتور يوسف العش رحمه الله. دمشق 1966. 28 - تاريخ المذاهب الإسلامية: الجزء الأول (السياسة والعقائد) للأستاذ الشيخ محمد أبي زهرة. دار الفكر العربي، القاهرة. 29 - التبصير في الدين، للأسفراييني. بعناية الشيخ زاهد الكوثري. طبع الخانجي 1374. 30 - التبيان في تفسير القرآن، لأبي جعفر الطوسي. طبع النجف وبيروت. 31 - تبيين كذب المفتري، لابن عساكر. طبع القدسي بدمشق 1347. 32 - تحقيق ما للهند من مقولة، للبيروني. طبع الهند. 33 - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) طبعة الحلبي الثانية 1954. 34 - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) طبع دار الكتب المصرية.

35 - تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، للدكتور محمد أديب صالح. مطبعة جامعة دمشق 1384. 36 - التمهيد في الرد على الملاحدة ... للباقلاني. تحقيق الدكتور محمد عبد الهادي أبي ريده، والأستاذ محمود الخضيري. دار الفكر العربي 1947. 37 - تنزيه القرآن عن المطاعن، للقاضي عبد الجبار (ومعه مقدمة التفسير للراغب الأصفهاني) المطبعة الجمالية- مصر. 38 - ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، للرماني والخطابي. طبع دار المعارف. 39 - الجويني إمام الحرمين، للدكتورة فوقية حسين محمود (سلسلة أعلام العرب). 40 - الجواهر المضية في طبقات الحنفية، للقرشي. طبع الهند. 41 - الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، لآدم متز. ترجمة الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريده- لجنة التأليف، الطبعة الثانية. 42 - الخطط للمقريزي (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) بولاق 1327. 43 - دفع شبه التشبيه، لابن الجوزي. طبع القدسي. 44 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة، لمحمد محسن آقابزرك. النجف 1355. 45 - روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، للخوانساري. طهران 1307. 46 - الزمخشري للدكتور محمد أحمد الحوفي. دار الفكر العربي 1966.

47 - شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار، للجنداري. القاهرة. 48 - شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار. تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان. مكتبة وهبة بالقاهرة 1384. 49 - صفة جزيرة الأندلس (من كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار للحميري) نشر ليفي بروفنصال. طبع لجنة التأليف والترجمة 1937. 50 - طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي. الطبعة الأولى- المطبعة الحسينية بالقاهرة 1324. 51 - طبقات المعتزلة لابن المرتضى، تحقيق سوزانا فلزر، بيروت 1380. 52 - طبقات المفسرين، للسيوطي. طبع ليدن 1908. 53 - طبقات فقهاء اليمن، لابن سمرة الجعدي. القاهرة 1957. 54 - العقد الثمين في أخبار البلد الأمين، للفاسي. القاهرة 1386. 55 - غاية الاختصار، لابن حمزة الحسني. طبع بولاق 1310. 56 - غاية النهاية في طبقات القراء، لابن الجزري. تحقيق براجتراس طبع الخانجي 1351. 57 - الغزالي، للبارون كاراديفو. ترجمة عادل زعيتر. طبع الحلبي 1959. 58 - الفرق بين الفرق، للبغدادي. نشرة الشيخ محي الدين عبد الحميد. طبع صبيح بالقاهرة. 59 - فرق الشيعة، للنوبختي. تحقيق الدكتور ريتر. طبع ألمانيا 1931. 60 - فصل المقال، لابن رشد. تحقيق ج الحوراني. ليدن 1959.

61 - الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم الأندلسي. 62 - الفهرست، لابن النديم. الطبعة الأوربية، وطبعة المكتبة التجارية 1952. 63 - فهرس المخطوطات المصورة بمعهد إحياء المخطوطات بجامعة الدول العربية. القاهرة 1954. 64 - فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي. تحقيق عبد الحميد. مطبعة السعادة بمصر. 65 - الكامل في التاريخ، لابن الأثير. الطبعة المنيرية بالقاهرة 1353. 66 - كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة، للحمادي اليماني. تقديم الشيخ زاهد الكوثري. الطبعة الثانية 1375. 67 - الكشاف، للزمخشري. الطبعة الثانية 1953 المكتبة التجارية بالقاهرة. 68 - كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، الجزء الأول. تحقيق الدكتور لطفي عبد البديع. طبع وزارة الثقافة بمصر. 69 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة. طبع تركيا. 70 - لسان الميزان، لابن حجر. طبع الهند. 71 - مجاز القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنى. تحقيق فؤاد سزكين. مكتبة الخانجي 1954. 72 - المحيط بالتكليف، للقاضي عبد الجبار- الجزء الأول- تحقيق عمر السيد عزمي. وزارة الثقافة بمصر.

73 - مذاهب التفسير الإسلامي، لجولد زيهر. ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار. دار الكتب الحديثة بالقاهرة. 74 - مرآة الجنان، لليافعي اليماني. طبع الهند 1337. 75 - مروج الذهب ومعادن الجوهر، للمسعودي. طبعة مصر. 76 - المستصفى من علوم الأصول، للغزالي. المكتبة التجارية 1356. 77 - معالم العلماء، لابن شهراشوب. طهران 1353. 78 - المعتزلة، لزهدي جار الله. القاهرة 1947. 79 - معجم الأنساب والأسرات الحاكمة، لزامباور. جامعة القاهرة 1952. 80 - معجم البلدان، لياقوت الحموي. الطبعة الأوربية. 81 - معجم قبائل العرب، لعمر رضا كحالة. مطبعة الترقي بدمشق. 82 - مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) للرازي. الطبعة الأميرية ببولاق 1289. 83 - مقالات الكوثري، للشيخ زاهد رحمه الله. الطبعة الاولى 1372. 84 - مقدمتان في علوم القرآن، نشرهما آرثر جيفري. الخانجي 1954. 85 - مقدمة ابن خلدون، بتحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي. لجنة البيان العربي 1379. 86 - مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية. المكتبة السلفية بالقاهرة 1374. وطبعة بيروت بتحقيق المؤلف. 87 - ملتقط جامع التأويل. جمع سعيد الأنصاري. مطبعة البلاغ بالهند 1333.

88 - الملل والنحل، للشهرستاني (بهامش الفصل لابن حزم الأندلسي). 89 - المغني، للقاضي عبد الجبار: في أربعة عشر مجلدا عثر عليها من عشرين. قامت وزارة الثقافة بنشره. وقد اشترك في تحقيقه طائفة من كبار أساتذة الفلسفة الإسلامية. وراجعه الأستاذ الدكتور إبراهيم مدكور. وقد رجعنا إلى أكثر أجزاء هذا الكتاب كما هو مبين في هوامش الرسالة. 90 - المنتظم في أخبار الملوك والأمم، لابن الجوزي. طبع الهند 1358. 91 - من عبر التاريخ (رسالة صغيرة للشيخ زاهد الكوثري) نشر عزة العطار 1367. 92 - منهج الزمخشري في تفسير القرآن، للدكتور مصطفى الجويني. طبع دار المعارف. 93 - الانتصار، للخياط المعتزلي. نشر نيبرغ سنة 1925. 94 - النجوم الزاهرة، لابن تغري بردى. دار الكتب المصرية 1348 - 1375. 95 - النسخ في القرآن الكريم، للأستاذ الدكتور مصطفى زيد. دار الفكر العربي بمصر 1383. 96 - نشأة التفسير في الكتب المقدسة والقرآن، للدكتور السيد خليل. الاسكندرية 1954. 97 - نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، للأستاذ الدكتور علي سامي النشار. دار المعارف- الطبعة الثالثة 1965.

ثالثا: الدوريات

98 - النشر في القراءات العشر، لابن الجزري. طبعة مصطفى محمد. 99 - نضد الإيضاح لعلم الهدى- المطبوع بهامش فهرس الطوسي- كلكتا 1271. 100 - وفيات الأعيان، لابن خلّكان. الطبعة الاولى بمصر 1310. ثالثا: الدوريات 1 - حوليات كلية الآداب بجامعة عين شمس: المجلد التاسع 1964. 2 - مجلة تراث الإنسانية: المجلد الأول. وزارة الثقافة بمصر. 3 - مجلة معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية: المجلد الأول. 4 - مجلة المكتبة: العدد العاشر من السنة الثالثة (شباط 1963) بغداد.

كتب للمؤلف

كتب للمؤلف 1 - متشابه القرآن (دراسة موضوعية) دمشق 1970 2 - متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار (تحقيق) القاهرة 1969 3 - مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية (تحقيق) بيروت 1971 4 - الجمان في تشبيهات القرآن لابن ناقيا (تحقيق بالاشتراك) الكويت 1968 تمت الطبع شرح عيون المسائل للحاكم الجشمي (المجلد الأول).

§1/1