الحاشية العثيمينية على زاد المستقنع

حازم خنفر

الحاشية العثيمينية على كتاب «زاد المستقنع» وهي جمعٌ لتعليقات الشيخ العلامة ابن عثيمين واختياراته التي خالف فيها قول «الزاد» من كتابه «الشرح الممتع» جمعها وأعدها حازم خنفر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحاشية العثيمينية على كتاب «زاد المستقنع»

حقوق الطبع مبذولةٌ لكل مسلمٍ يبتغي الأجر والعمل الصالح 1435 هـ - 2014 م

المقدمة

المقدمة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذا سفرٌ جامعٌ لاختيارات العلامة محمد بن صالحٍ العثيمين - رحمه الله -، وذلك من كتابه «الشرح الممتع». وقد اقتصرت فيه على آرائه الفقهية التي خالف فيها قول الحجاوي في كتابه «زاد المستقنع»، وأضربت عما هو متعلقٌ بتفريعات المسائل المذكورة في الشرح، وربما أثبت نزرًا منها لمزيد فائدةٍ، وكذلك أثبت شيئًا مما وافقه في بعض مسائل لجللها، حتى طوي هذا السفر على (1950) حاشيةً. ولما كان الشيخ - رحمه الله - تقصى في تحقيق المسائل وذكر أقوال العلماء والأدلة وترجيح الآراء؛ كان لا محالة من اختصار قوله دون المس بأصل اللفظ وتركيبه؛ إلا فيما ألجئت إليه من إثبات حرف استئنافٍ أو تبديل كلمةٍ أو تعديل جملةٍ - أو ما أشبه -؛ سبكًا لمختصر النص: - فما كان ظاهرًا جدا من زيادةٍ وتصرفٍ بكلام الشيخ - رحمه الله - فرمزته بمحصورتين []. - وما أسقطته من كلام الشيخ - رحمه الله - فرمزته بثلاث نقاطٍ ... .

ولما كانت مقاصد هذا الكتاب هي اختيارات الشيخ دون النظر في تحقيق نص المتن وضبطه؛ كان الأحرى أن أبقيه على أصله الوارد في كتاب «الشرح الممتع» تطابقًا للفظ المتن مع مادة الشرح. وبقدر ما نشطت لجمع هذه الاختيارات واستخراجها على هذا الضرب؛ إلا أني لا أنزه ما خطه قلمي في بابات هذا الكتاب من سهوةٍ عن إثبات رمزٍ، أو نسوةٍ من ذكر اختيارٍ، أو هفوةٍ في نقل مسألةٍ؛ فإن الكمال عزيزٌ. وأسأله - سبحانه - أن يقر هذا العمل في ميزان الأعمال الصالحات، إنه سميعٌ مجيبٌ. كتبه أبو البهاء حازم خنفر 28/ 4 / 1435 هـ- 28/ 2 / 2014 م

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة وهي: ارتفاع الحدث - وما في معناه -، وزوال الخبث. المياه ثلاثةٌ (¬1): طهورٌ لا يرفع الحدث (¬2) ولا يزيل النجس الطارئ غيره (¬3)، وهو الباقي على خلقته. فإن تغير بغير ممازجٍ - كقطع كافورٍ، أو دهنٍ، أو بملحٍ مائي، أو سخن بنجسٍ - (¬4): كره (¬5). وإن تغير بمكثه، أو بما يشق صون الماء عنه - من نابتٍ فيه وورق شجرٍ -، أو ¬

_ (¬1) الصحيح: أن الماء قسمان فقط: طهورٌ ونجسٌ، فما تغير بنجاسةٍ فهو نجسٌ، وما لم يتغير بنجاسةٍ فهو طهورٌ، وأن الطاهر قسمٌ لا وجود له في الشريعة. (¬2) التراب في التيمم - على المذهب - لا يرفع الحدث، والصواب: أنه يرفع الحدث. (¬3) أي: لا يزيل النجس إلا الماء ... والصواب: أنه إذا زالت النجاسة بأي مزيلٍ كان؛ طهر محلها. (¬4) الصواب: أنه إذا كان محكم الغطاء لا يكره، فإن دخل فيه دخانٌ وغيره فإنه ينبني على القول بأن الاستحالة تصير النجس طاهرًا، فإن قلنا بذلك لم يضر، وإن قلنا بأن الاستحالة لا تطهر وتغير أحد أوصاف الماء بهذا الدخان؛ كان نجسًا. (¬5) الصواب في هذه المسائل كلها: أنه لا يكره؛ لأن الكراهة حكمٌ شرعي يفتقر إلى دليلٍ.

بمجاورة ميتةٍ (¬1)، أو سخن بالشمس، أو بطاهرٍ: لم يكره. وإن استعمل في طهارةٍ مستحبةٍ؛ كتجديد وضوءٍ، وغسل جمعةٍ، وغسلةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ: كره (¬2). وإن بلغ قلتين - وهو الكثير، وهما خمس مئة رطلٍ عراقي تقريبًا - فخالطته نجاسةٌ غير بول آدمي أو عذرته المائعة فلم تغيره، أو خالطه البول أو العذرة ويشق نزحه - كمصانع طريق مكة -: فطهورٌ (¬3). ولا يرفع حدث رجلٍ طهورٌ يسيرٌ خلت به امرأةٌ لطهارةٍ كاملةٍ عن حدثٍ (¬4). وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه - بطبخٍ أو ساقطٍ فيه - (¬5)، أو رفع بقليله ¬

_ (¬1) بعض العلماء حكى الإجماع على أنه لا ينجس بتغيره بمجاورة ميتةٍ ... ، ولا شك أن الأولى التنزه عنه - إن أمكن -. (¬2) الصواب في هذه المسائل كلها: أنه لا يكره؛ لأن الكراهة حكمٌ شرعي يفتقر إلى دليلٍ. (¬3) [قولٌ آخر]، - وهو اختيار شيخ الإسلام، وجماعةٍ من أهل العلم -: أنه لا ينجس إلا بالتغير مطلقًا؛ سواءٌ بلغ القلتين أم لم يبلغ، لكن ما دون القلتين يجب على الإنسان أن يتحرز إذا وقعت فيه النجاسة، لأن ما دونهما يتغير، وهذا هو الصحيح للأثر والنظر. (¬4) ليس على سبيل التحريم؛ بل على سبيل الأولوية وكراهة التنزيه ... ، فالصواب: أن الرجل لو تطهر بما خلت به المرأة؛ فإن طهارته صحيحةٌ ويرتفع حدثه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (¬5) التعليل لكون هذا طاهرًا غير مطهرٍ: أنه ليس بماءٍ مطلقٍ، وإنما يقال: (ماء كذا) فيضاف؛ كما يقال: (ماء وردٍ). ولكن يقال: هذا لا يكفي في نقله من الطهورية إلى الطهارة إلا إذا انتقل اسمه انتقالًا كاملًا؛ فيقال - مثلًا -: (هذا مرقٌ) و (هذه قهوةٌ)؛ فحينئذٍ لا يسمى ماءً، وإنما يسمى شرابًا؛ يضاف إلى ما تغير به.

حدثٌ (¬1)، أو غمس فيه يد قائمٍ من نوم ليلٍ ناقضٍ لوضوءٍ (¬2)، أو كان آخر غسلةٍ زالت بها النجاسة: فطاهرٌ. والنجس: ما تغير بنجاسةٍ، أو لاقاها وهو يسيرٌ (¬3)، أو انفصل عن محل نجاسةٍ قبل زوالها. فإن أضيف إلى الماء النجس: طهورٌ كثيرٌ - غير ترابٍ ونحوه -، أو زال تغير النجس الكثير بنفسه، أو نزح منه فبقي بعده كثيرٌ غير متغيرٍ: طهر (¬4). وإن شك في نجاسة ماءٍ أو غيره أو طهارته: بنى على اليقين. وإن اشتبه طهورٌ بنجسٍ: حرم استعمالهما ولم يتحر (¬5). ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما (¬6). ¬

_ (¬1) الصواب: أن ما رفع بقليله حدثٌ: طهورٌ؛ لأن الأصل بقاء الطهورية، ولا يمكن العدول عن هذا الأصل إلا بدليلٍ شرعي يكون وجيهًا. (¬2) هذا القول ضعيفٌ أثرًا ونظرًا ... ، والصواب: أنه طهورٌ. (¬3) أي: لاقى النجاسة وهو دون القلتين ... ، والصحيح: أن هذا ليس من قسم النجس إلا أن يتغير. (¬4) الصحيح: أنه إذا زال تغير الماء النجس بأي طريقٍ كان فإنه يكون طهورًا ... وأي فرقٍ بين أن يكون كثيرًا أو يسيرًا فالعلة واحدةٌ، متى زالت النجاسة فإنه يكون طهورًا. (¬5) قال الشافعي - رحمه الله -: يتحرى، وهو الصواب. (¬6) إذا أمكن تطهير أحدهما بالآخر وجب التطهير، ولا يحتاج إلى التيمم.

وإن اشتبه بطاهرٍ: توضأ منهما وضوءًا واحدًا - من هذا غرفةً ومن هذا غرفةً - وصلى صلاةً واحدةً (¬1). وإن اشتبهت ثيابٌ طاهرةٌ بنجسةٍ أو بمحرمةٍ: صلى في كل ثوبٍ صلاةً بعدد النجس أو المحرم وزاد صلاةً (¬2). ¬

_ (¬1) هذه المسألة لا ترد على ما صححناه؛ لعدم وجود الطاهر غير المطهر - على القول الصحيح -. (¬2) الصحيح: أنه يتحرى، وإذا غلب على ظنه طهارة أحد الثياب صلى فيه، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولم يوجب الله على الإنسان أن يصلي الصلاة مرتين. و [كذلك في الثياب المحرمة]؛ فيتحرى ويصلي بما يغلب على ظنه أنه الثوب المباح. ولو فرضنا أنه لم يمكنه التحري لعدم وجود القرينة؛ فإنه يصلي فيما شاء؛ لأنه في هذه الحال مضطر إلى الصلاة في الثوب المحرم، ولا إعادة عليه.

باب الآنية

باب الآنية كل إناءٍ طاهرٍ (¬1) - ولو ثمينًا -: يباح اتخاذه واستعماله إلا آنية ذهبٍ وفضةٍ ومضببًا بهما؛ فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها - ولو على أنثى - (¬2). وتصح الطهارة منها إلا ضبةً يسيرةً من فضةٍ لحاجةٍ، وتكره مباشرتها لغير حاجةٍ (¬3). وتباح آنية الكفار - ولو لم تحل ذبائحهم -، وثيابهم إن جهل حالها. ولا يطهر جلد ميتةٍ بدباغٍ (¬4)، ويباح استعماله بعد الدبغ في يابسٍ من حيوانٍ طاهرٍ في الحياة (¬5). ¬

_ (¬1) هذا احترازٌ من النجس ... ، وفيما قال المؤلف نظرٌ؛ لأن النجس يباح استعماله إذا كان على وجهٍ لا يتعدى. (¬2) الصحيح: أن الاتخاذ والاستعمال في غير الأكل والشرب ليس بحرامٍ. (¬3) الصواب: أنه ليس بمكروهٍ، وله مباشرتها. (¬4) قالوا: لأن الميتة نجسة العين، ونجس العين لا يمكن أن يطهر ... وهذا القياس واضحٌ جدا، إلا أنه في مقابلة النص - وهو حديث ميمونة - فهذا صريحٌ في أنه يطهر بالدبغ. (¬5) أفادنا المؤلف أن استعماله قبل الدبغ لا يجوز في يابسٍ ولا غيره؛ لأنه نجسٌ، وظاهر كلامه أن الاستعمال لا يجوز ولو بعد أن نشف الجلد وصار يابسًا، وهذا فيه نظرٌ. وإذا قلنا بالقول الراجح - وهو طهارته بالدباغ -؛ فإنه يباح استعماله في الرطب واليابس.

ولبنها، وكل أجزائها نجسةٌ غير شعرٍ - ونحوه -. وما أبين من حي فهو كميتته.

باب الاستنجاء

باب الاستنجاء يستحب: عند دخول الخلاء: قول: (بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث). وعند الخروج منه: (غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) (¬1). وتقديم رجله اليسرى دخولًا، واليمنى خروجًا - عكس مسجدٍ ونعلٍ -. واعتماده على رجله اليسرى (¬2). وبعده في فضاءٍ. واستتاره. وارتياده لبوله مكانًا رخوًا. ومسحه بيده اليسرى إذا فرغ من بوله - من أصل ذكره إلى رأسه ثلاثًا - (¬3). ¬

_ (¬1) الحديث الوارد في هذا فيه ضعفٌ. [أما (غفرانك)]؛ فللحديث الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها -، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الغائط قال: (غفرانك). (¬2) [الحديث الوارد في هذا] ضعيفٌ. (¬3) هذا قولٌ ضعيفٌ جدا؛ لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولضرره بمجاري البول، فربما تتمزق بهذا المسح.

ونتره ثلاثًا (¬1). وتحوله من موضعه ليستنجي في غيره - إن خاف تلوثًا -. ويكره: دخوله بشيءٍ فيه ذكر الله - تعالى - إلا لحاجةٍ (¬2). ورفع ثوبه قبل دنوه من الأرض (¬3). وكلامه فيه (¬4). ¬

_ (¬1) [الحديث الوارد في النتر] ضعيفٌ لا يعتمد عليه ... ، والنتر من باب التنطع المنهي عنه. (¬2) [الحديث الوارد في هذا] معلولٌ وفيه مقالٌ كثيرٌ، ومن صحح الحديث أو حسنه قال بالكراهة، ومن قال: إنه لا يصح؛ قال بعدم الكراهة، لكن الأفضل أن لا يدخل. وفرقٌ بين قولنا: (الأفضل)، والقول: (إنه مكروهٌ)؛ لأنه لا يلزم من ترك الأفضل الوقوع في المكروه. (¬3) هذا له حالان: الأولى: أن يكون حوله من ينظره، فرفع ثوبه هنا قبل دنوه من الأرض محرمٌ؛ لأنه كشفٌ للعورة ... الثانية: كشفه وهو خالٍ ليس عنده أحدٌ، فهل يكره أم لا؟ هذا ينبني على جواز كشف العورة والإنسان خالٍ. (¬4) أما إذا كان قاضيا الحاجة اثنين؛ ينظر أحدهما إلى عورة الآخر ويتحدثان فهو حرامٌ بلا شك.

وبوله في شق - ونحوه - (¬1). ومس فرجه بيمينه (¬2). واستنجاؤه واستجماره بها (¬3). واستقبال النيرين (¬4). ويحرم: استقبال القبلة واستدبارها في غير بنيانٍ (¬5). ولبثه فوق حاجته (¬6). ¬

_ (¬1) الكراهة تزول بالحاجة؛ كأن لم يجد إلا هذا المكان المتشقق. (¬2) الجزم بالكراهة إنما هو في حال البول - للحديث الوارد -، وفي غير حال البول محل احتمالٍ، فإذا لم يكن هناك داعٍ ففي اليد اليسرى غنيةٌ عن اليد اليمنى. (¬3) أما إذا احتاج إلى الاستنجاء أو الاستجمار بيمينه - كما لو كانت اليسرى مشلولةً - فإن الكراهة تزول، وكذا إن احتاج إلى الاستجمار باليمين - مثل أن لا يجد إلا حجرًا صغيرًا -. (¬4) الصحيح: عدم الكراهة؛ لعدم الدليل الصحيح؛ بل ولثبوت الدليل الدال على الجواز. (¬5) الراجح: أنه يجوز في البنيان استدبار القبلة دون استقبالها؛ لأن النهي عن الاستقبال محفوظٌ ليس فيه تفصيلٌ ولا تخصيصٌ، والنهي عن الاستدبار خصص بما إذا كان في البنيان؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم. (¬6) تحريم اللبث مبني على التعليل، ولا دليل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال أحمد في روايةٍ عنه: (إنه يكره، ولا يحرم).

وبوله في طريقٍ، وظل نافعٍ، وتحت شجرةٍ عليها ثمرةٌ (¬1). ويستجمر، ثم يستنجي بالماء. ويجزئه الاستجمار (¬2) إن لم يعد الخارج موضع العادة (¬3). ويشترط للاستجمار بأحجارٍ - ونحوها -: أن يكون طاهرًا، منقيًا، غير عظمٍ وروثٍ، وطعامٍ، ومحترمٍ، ومتصلٍ بحيوانٍ. ويشترط ثلاث مسحاتٍ منقيةٍ فأكثر - ولو بحجرٍ ذي شعبٍ -. ويسن قطعه على وترٍ (¬4). ويجب الاستنجاء لكل خارجٍ إلا الريح (¬5). ¬

_ (¬1) أطلق المؤلف - رحمه الله - الثمرة، ولكن يجب أن تقيد، فيقال: ثمرةٌ مقصودةٌ، أو ثمرةٌ محترمةٌ. (¬2) هذا هو الأفضل، وليس على سبيل الوجوب، ولهذا قال: (ويجزئه الاستجمار). (¬3) ليس هناك دليلٌ على هذا الشرط؛ بل تعليلٌ، وهو أن الاقتصار على الأحجار - ونحوها - في إزالة البول أو الغائط خرج عن نظائره؛ فيجب أن يقتصر فيه على ما جرت العادة به، فما زاد عن العادة فالأصل أن يزال بالماء. (¬4) الدليل: ما ثبت في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استجمر فليوتر» ... ، فإن أريد بالإيتار: الثلاث؛ فالأمر للوجوب ... وإن أريد ما زاد على الثلاث فالأمر للاستحباب؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج»؛ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا على سبيل الاستحباب. (¬5) يستثنى من ذلك - أيضًا - المني، وهو خارجٌ من السبيل، فهو داخلٌ في عموم قوله: (لكل خارجٍ)، لكنه طاهرٌ، والطاهر لا يجب الاستنجاء له. ويستثنى - أيضًا - غير الملوث ليبوسته، فإذا خرج شيءٌ لا يلوث - ليبوسته - فلا يستنجى له؛ لأن المقصود من الاستنجاء الطهارة، وهنا لا حاجة إلى ذلك.

ولا يصح قبله وضوءٌ ولا تيممٌ (¬1). ¬

_ (¬1) إذا كان الإنسان في حالة السعة فإننا نأمره أولًا بالاستنجاء ثم بالوضوء - وذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم -، وأما إذا نسي أو كان جاهلًا فإنه لا يجسر الإنسان على إبطال صلاته، أو أمره بإعادة الوضوء والصلاة.

باب السواك وسنن الوضوء

باب السواك وسنن الوضوء التسوك بعودٍ لينٍ منقٍ غير مضر لا يتفتت، لا بأصبعٍ أو خرقةٍ (¬1): مسنونٌ كل وقتٍ لغير صائمٍ بعد الزوال (¬2). متأكدٌ عند صلاةٍ، وانتباهٍ، وتغير فمٍ. ويستاك عرضًا (¬3)، مبتدئًا بجانب فمه الأيمن، ويدهن غبا، ويكتحل وترًا (¬4). ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء - ومنهم الموفق صاحب «المقنع» وابن أخيه شارح «المقنع» -: إنه يحصل من السنية بقدر ما حصل من الإنقاء. وقد روي عن علي بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - في صفة الوضوء، أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل بعض أصابعه في فيه. وهذا يدل على أن التسوك بالأصبع كافٍ، ولكنه ليس كالعود؛ لأن العود أشد إنقاءً، لكن قد لا يكون عند الإنسان في حال الوضوء شيءٌ من العيدان يستاك به، فنقول له: يجزئ بالأصبع. [أما الخرقة؛ فهي] أبلغ في التنظيف، فمن قال: إن الأصبع تحصل به السنة قال: إن الخرقة من باب أولى. (¬2) الراجح: أن السواك سنةٌ حتى للصائم - قبل الزوال وبعده -. (¬3) يحتمل أن يقال: يرجع إلى ما تقتضيه الحال، فإذا اقتضت الحال أن يستاك طولًا استاك طولًا، وإذا اقتضت أن يستاك عرضًا استاك عرضًا؛ لعدم ثبوت سنةٍ بينةٍ في ذلك. (¬4) أما الاكتحال الذي لتجميل العين فهل هو مشروعٌ للرجل أم للأنثى فقط؟ الظاهر أنه مشروعٌ للأنثى فقط، أما الرجل فليس بحاجةٍ إلى تجميل عينيه. وقد يقال: إنه مشروعٌ للرجل - أيضًا -؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: إن أحدنا يحب أن يكون نعله حسنًا وثوبه حسنًا، فقال: «إن الله جميلٌ يحب الجمال». وقد يقال: إذا كان في عين الرجل عيبٌ يحتاج إلى الاكتحال فهو مشروعٌ له، وإلا فلا يشرع.

وتجب التسمية في الوضوء مع الذكر (¬1). ويجب الختان ما لم يخف على نفسه (¬2). ويكره القزع (¬3). ومن سنن الوضوء: السواك، وغسل الكفين ثلاثًا - ويجب من نوم ليلٍ ناقضٍ لوضوءٍ -، والبداءة بمضمضةٍ ثم استنشاقٍ (¬4)، والمبالغة فيهما لغير صائمٍ، وتخليل ¬

_ (¬1) المذهب أنها واجبةٌ فقط وليست شرطًا، وكأنهم عدلوا عن كونها شرطًا لصحة الوضوء؛ لأن الحديث فيه نظرٌ؛ ولهذا ذهب الموفق - رحمه الله - إلى أنها ليست واجبةً بل سنةٌ؛ لأن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: (لا يثبت في هذا الباب شيءٌ)، وإذا لم يثبت فيه شيءٌ فلا يكون حجةً. ولأن كثيرًا من الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا فيه التسمية، ومثل هذا لو كان من الأمور الواجبة التي لا يصح الوضوء بدونها لذكرت. (¬2) أقرب الأقوال: أنه واجبٌ في حق الرجال، سنةٌ في حق النساء. (¬3) القزع مكروهٌ ... ، إلا إذا كان فيه تشبهٌ بالكفار؛ فهو محرمٌ. (¬4) لم يذكر المؤلف الاستنثار؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا استنشق الماء أنه يستنثره، وإلا فلا بد من الاستنثار؛ إذ لا تكتمل السنة إلا به.

اللحية الكثيفة والأصابع (¬1)، والتيامن، وأخذ ماءٍ جديدٍ للأذنين (¬2)، والغسلة الثانية والثالثة. ¬

_ (¬1) أي: من سنن الوضوء: تخليل أصابع اليدين والرجلين، وهو في الرجلين آكد. (¬2) الصواب: أنه لا يسن أن يأخذ ماءً جديدًا للأذنين؛ [لأن الحديث الوارد في ذلك] شاذ؛ لأنه مخالفٌ لما رواه مسلمٌ: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه بماءٍ غير فضل يديه، ولأن جميع من وصف وضوءه صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنه أخذ ماءً جديدًا للأذنين. وأما التعليل لمشروعية أخذ ماءٍ جديدٍ للأذنين أنهما كعضوٍ مستقل؛ فجوابه: أنهما يمسحان مع الرأس مرةً واحدةً؛ فليسا عضوًا مستقلا.

باب فروض الوضوء وصفته

باب فروض الوضوء وصفته فروضه ستةٌ: غسل الوجه - والفم والأنف منه (¬1) -، وغسل اليدين (¬2)، ومسح الرأس - ومنه الأذنان -، وغسل الرجلين (¬3)، والترتيب، والموالاة - وهي: أن لا يؤخر غسل عضوٍ حتى ينشف الذي قبله (¬4) -. والنية شرطٌ لطهارة الأحداث كلها، فينوي رفع الحدث، أو الطهارة لما لا يباح إلا بها. فإن نوى ما تسن له الطهارة - كقراءةٍ، أو تجديدًا مسنونًا - ناسيًا حدثه: ارتفع. وإن نوى غسلًا مسنونًا أجزأ عن واجبٍ (¬5)، وكذا عكسه. ¬

_ (¬1) على هذا: فالمضمضة والاستنشاق من فروض الوضوء، لكنهما غير مستقلين. (¬2) أطلق المؤلف - رحمه الله - لفظ اليدين، ولكن يجب أن يقيد ذلك بكونه إلى المرفقين؛ لأن اليد إذا أطلقت لا يراد بها إلا الكف. (¬3) أطلق - رحمه الله - هنا الرجلين، لكن لا بد أن يقال: إلى الكعبين. (¬4) هذا بشرط أن يكون ذلك بزمنٍ معتدلٍ خالٍ من الريح أو شدة الحر والبرد ... وقولنا: (في زمنٍ معتدلٍ)؛ احترازًا من الزمن غير المعتدل؛ كزمن الشتاء والرطوبة الذي يتأخر في النشاف، وزمن الحر والريح الذي يسرع فيه النشاف. (¬5) ظاهر كلام المؤلف - وهو المذهب -: ولو ذكر أن عليه غسلًا واجبًا. وقيده بعض الأصحاب بما إذا كان ناسيًا حدثه ... وهذا القول - وهو تقييده بأن يكون ناسيًا - له وجهةٌ من النظر ... ، [وبهذا فإنه] إذا علم ونوى هذا الغسل المسنون فقط؛ فإن القول بالإجزاء: في النفس منه شيءٌ.

وإن اجتمعت أحداثٌ توجب وضوءًا أو غسلًا، فنوى بطهارته أحدها: ارتفع سائرها. ويجب الإتيان بها عند أول واجبات الطهارة - وهو التسمية - (¬1). وتسن عند أول مسنوناتها إن وجد قبل واجبٍ، واستصحاب ذكرها في جميعها. ويجب استصحاب حكمها. وصفة الوضوء: أن ينوي، ثم يسمي، ويغسل كفيه ثلاثًا، ثم يتمضمض ويستنشق (¬2)، ويغسل وجهه - من منابت شعر الرأس (¬3) إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولًا (¬4)، ومن الأذن إلى الأذن عرضًا، وما فيه من شعرٍ خفيفٍ، والظاهر ¬

_ (¬1) هذا على المذهب من أن التسمية واجبةٌ مع الذكر، وقد سبق بيان حكم التسمية ... وبيان أن الصحيح أنها سنةٌ. (¬2) وهل يجب الاستنثار؟ قالوا: الاستنثار سنةٌ، ولا شك أن طهارة الأنف لا تتم إلا بالاستنثار بعد الاستنشاق حتى يزول ما في الأنف من أذًى. (¬3) هكذا حده المؤلف - رحمه الله -، وقال بعض العلماء: (من منحنى الجبهة من الرأس)؛ لأن المنحنى هو الذي تحصل به المواجهة، وهذا أجود. (¬4) البياض الذي بين العارض والأذن من الوجه، والشعر الذي فوق العظم الناتئ يكون تابعًا للرأس.

الكثيف مع ما استرسل منه -، ثم يديه مع المرفقين، ثم يمسح كل رأسه مع الأذنين مرةً واحدةً، ثم يغسل رجليه مع الكعبين - ويغسل الأقطع بقية المفروض، فإن قطع من المفصل غسل رأس العضد منه -، ثم يرفع بصره إلى السماء (¬1)، ويقول ما ورد. وتباح معونته، وتنشيف أعضائه. ¬

_ (¬1) هذا سنةٌ إن صح الحديث ... ، وفي سنده مجهولٌ، والمجهول لا يعلم حاله: هل هو حافظٌ، أو عدلٌ، أو ليس كذلك، وإذا كان في السند مجهولٌ حكم بضعف الحديث.

باب مسح الخفين

باب مسح الخفين يجوز لمقيمٍ يومًا وليلةً، ولمسافرٍ ثلاثةً بلياليها؛ من حدثٍ بعد لبسٍ (¬1) على طاهرٍ مباحٍ ساترٍ للمفروض (¬2) يثبت بنفسه (¬3) من خف وجوربٍ صفيقٍ (¬4) - ونحوهما -، وعلى عمامةٍ لرجلٍ محنكةٍ أو ذات ذؤابةٍ (¬5)، وعلى خمر نساءٍ (¬6) مدارةٍ ¬

_ (¬1) الصواب: أن العبرة بالمسح وليس بالحدث. (¬2) قال بعض العلماء: إنه لا يشترط أن يكون ساترًا للمفروض ... ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ... وما اختاره شيخ الإسلام هو الراجح؛ لأن هذه الخفاف لا تسلم غالبًا من الخروق، فكيف نشق على الناس ونلزمهم بذلك؟! ... إذن: هذا الشرط محل خلافٍ بين أهل العلم، والصحيح: عدم اعتباره. (¬3) هذا هو الشرط الخامس لجواز المسح على الخفين، فإن كان لا يثبت إلا بشده فلا يجوز المسح عليه، هذا المذهب ... ، والصحيح: أنه يصح؛ فما دام أنه ينتفع به ويمشي فيه، فما المانع؟! ولا دليل على المنع. (¬4) اشترط المؤلف أن يكون صفيقًا؛ لأنه لا بد أن يكون ساترًا للمفروض - على المذهب -، [وقد تقدم بيان أن اشتراط الستر غير معتبرٍ]. (¬5) عارض شيخ الإسلام - رحمه الله - في هذا الشرط، وقال: إنه لا دليل على اشتراط أن تكون محنكةً أو ذات ذؤابةٍ؛ بل النص جاء (العمامة)، ولم يذكر قيدًا آخر، فمتى ثبتت العمامة جاز المسح عليها. (¬6) اختلف العلماء في جواز مسح المرأة على خمارها وعلى كل حالٍ: إذا كان هناك مشقةٌ إما لبرودة الجو أو لمشقة النزع واللف مرةً أخرى؛ فالتسامح في مثل هذا لا بأس به، وإلا فالأولى ألا تمسح، ولم ترد نصوصٌ صريحةٌ في هذا الباب.

تحت حلوقهن في حدثٍ أصغر، وجبيرةٍ لم تتجاوز قدر الحاجة (¬1) - ولو في أكبر - إلى حلها؛ إذا لبس ذلك بعد كمال الطهارة (¬2). ومن مسح في سفرٍ ثم أقام، أو عكس، أو شك في ابتدائه: فمسح مقيمٍ (¬3). وإن أحدث ثم سافر قبل مسحه: فمسح مسافرٍ. ولا يمسح: - قلانس (¬4). ¬

_ (¬1) [أي]: إن تجاوزت قدر الحاجة لم يمسح عليها، لكن إن أمكن نزعها بلا ضررٍ نزع ما تجاوز قدر الحاجة، فإن لم يمكن فقيل: يمسح على ما كان قدر الحاجة ويتيمم عن الزائد. والراجح: أنه يمسح على الجميع بلا تيممٍ؛ لأنه لما كان يتضرر بنزع الزائد صار الجميع بمنزلة الجبيرة. (¬2) المشار إليه: الأنواع الأربعة: الخف، والعمامة، والخمار، والجبيرة ... أما اشتراط كمال الطهارة في الجبيرة فضعيفٌ. (¬3) الصحيح في هذه المسائل الثلاث: أنه إذا مسح مسافرًا ثم أقام فإنه يتم مسح مقيمٍ، وإذا مسح مقيمًا ثم سافر أو شك في ابتداء مسحه فإنه يتم مسح مسافرٍ؛ ما لم تنته مدة الحضر قبل سفره، فإن انتهت فلا يمكن أن يمسح. (¬4) قال بعض الأصحاب: يمسح على القلانس إذا كانت مثل العمامة يشق نزعها، أما ما لا يشق نزعه - كالطاقية المعروفة - فلا يمسح عليها، ففرق بين ما يشق نزعه وما لا يشق ... وهذا القول قوي ... ، وما دام أن الشرع قد أجاز المسح على العمامة؛ فكل ما كان مثلها في مشقة النزع فإنه يعطى حكمها.

- ولا لفافةً (¬1). - ولا ما يسقط من القدم (¬2). - أو يرى منه بعضه (¬3). فإن لبس خفا على خف قبل الحدث: فالحكم للفوقاني (¬4). ويمسح أكثر العمامة، وظاهر قدم الخف - من أصابعه إلى ساقه دون أسفله وعقبه -، وعلى جميع الجبيرة. ومتى ظهر بعض محل الفرض بعد الحدث، أو تمت مدته: استأنف الطهارة (¬5). ¬

_ (¬1) اختار شيخ الإسلام - رحمه الله - جواز المسح على اللفافة، وهو الصحيح. (¬2) هذا بناءً على أنه يشترط لجواز المسح على الخف ثبوته بنفسه أو بنعلين إلى خلعهما [كما تقدم] ... والناس لا يلبسون خفافًا تسقط عند المشي، ولا فائدة في مثل هذا، وهذا ظاهرٌ فيمن يمشي فإنه لا يلبسه، لكن لو فرض أن مريضًا مقعدًا لبس مثل هذا الخف للتدفئة فلا يجوز له المسح على كلام المؤلف. (¬3) هذا مبني على ما سبق من اشتراط أن يكون الخف ساترًا للمفروض ... ، وسبق بيان أن الصحيح جواز ذلك. (¬4) هذا لبيان الجواز؛ فإنه يجوز أن يمسح على التحتاني حتى لو كان الحكم للفوقاني. (¬5) ما ثبت بمقتضى دليلٍ شرعي فلا ينتقض إلا بدليلٍ شرعي آخر ... ، والأصل بقاء الطهارة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -.

باب نواقض الوضوء

باب نواقض الوضوء ينقض: - ما خرج من سبيلٍ. - وخارجٌ من بقية البدن إن كان بولًا أو غائطًا (¬1) أو كثيرًا نجسًا غيرهما (¬2). - وزوال العقل؛ إلا يسير نومٍ من قاعدٍ أو قائمٍ (¬3). - ومس ذكرٍ متصلٍ أو قبلٍ بظهر كفه أو بطنه (¬4)، ولمسهما من خنثى مشكلٍ، ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: إن كان المخرج من فوق المعدة فهو كالقيء، وإن كان من تحتها فهو كالغائط، وهذا اختيار ابن عقيلٍ - رحمه الله -، وهذا قولٌ جيدٌ ... ويستثنى مما سبق: من حدثه دائمٌ؛ فإنه لا ينتقض وضوءه بخروجه؛ كمن به سلس بولٍ أو ريحٍ أو غائطٍ، وله حالٌ خاصةٌ في التطهر. (¬2) ذهب الشافعي والفقهاء السبعة ... إلى أن الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء - قل أم كثر - إلا البول والغائط، وهذا هو القول الثاني في المذهب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ... ، وهذا هو القول الراجح. (¬3) اختلف العلماء - رحمهم الله - في النوم: هل هو ناقضٌ، أو مظنة النقض؟ على أقوالٍ؛ منها ... - وهو اختيار شيخ الإسلام، وهو الصحيح -: أن النوم مظنة الحدث؛ فإذا نام بحيث لو انتقض وضوءه أحس بنفسه فإن وضوءه باقٍ، وإذا نام بحيث لو أحدث لم يحس بنفسه فقد انتقض وضوءه. (¬4) الإنسان إذا مس ذكره استحب له الوضوء مطلقًا، سواءٌ بشهوةٍ أم بغير شهوةٍ، وإذا مسه لشهوةٍ فالقول بالوجوب قوي جدا، لكني لا أجزم به، والاحتياط أن يتوضأ.

ولمس ذكرٍ ذكره، أو أنثى قبله لشهوةٍ فيهما. - ومسه امرأةً بشهوةٍ (¬1) أو تمسه بها (¬2). - ومس حلقة دبرٍ (¬3) - لا مس شعرٍ وظفرٍ وأمرد (¬4)، ولا مع حائلٍ، ولا ملموسٍ بدنه ولو وجد منه شهوةٌ (¬5) -. وينقض: غسل ميتٍ (¬6)، وأكل اللحم خاصةً من الجزور. وكل ما أوجب غسلًا أوجب وضوءًا (¬7)؛ إلا الموت (¬8). ¬

_ (¬1) الراجح: أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا إلا إذا خرج منه شيءٌ، فيكون النقض بذلك الخارج. (¬2) سبق أن القول الراجح أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا ما لم يخرج منه شيءٌ، فما تفرع عنه فهو مثله. (¬3) هذا فرعٌ من حكم مس الذكر، فليرجع إليه لمعرفة الراجح في ذلك. (¬4) الصواب: أن مس الأمرد كمس الأنثى سواءٌ. (¬5) القول الصحيح في هذه المسألة: أن الملموس إذا وجد منه شهوةٌ انتقض وضوءه. (¬6) هذا الذي مشى عليه المؤلف هو المذهب، وهو من مفردات مذهب أحمد. والقول الثاني: أن غسل الميت لا ينقض الوضوء. (¬7) هذا الضابط في النفس منه شيءٌ؛ لقوله - تعالى -: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}؛ فأوجب الله في الجنابة الغسل فقط، ولم يوجب علينا غسل الأعضاء الأربعة، فما أوجب غسلًا لم يوجب إلا الغسل، إلا إن دل إجماعٌ على خلاف ذلك، أو دليلٌ. (¬8) هذا من غرائب العلم؛ كيف ينفون وجوب الوضوء في تغسيل الميت مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها»؟! ... ونحن نوافق أن الموت موجبٌ للغسل ولا يوجب الوضوء؛ لعدم الدليل الصريح على وجوب الوضوء وإن كان يحتمل أن الوضوء واجبٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومواضع الوضوء منها». فالظاهر: أن موجبات الغسل لا توجب إلا الغسل؛ لعدم الدليل على إيجاب الوضوء.

ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث أو بالعكس: بنى على اليقين. فإن تيقنهما وجهل السابق: فهو بضد حاله قبلهما (¬1). ويحرم على المحدث: مس المصحف (¬2)، والصلاة، والطواف (¬3). ¬

_ (¬1) القول بوجوب الوضوء أحوط. (¬2) الذي تقرر عندي أخيرًا: أنه لا يجوز مس المصحف إلا بوضوءٍ. (¬3) وقال بعض العلماء: إن الطواف لا تشترط له الطهارة، ولا يحرم على المحدث أن يطوف، وإنما الطهارة فيه أكمل ... ولا شك أن الأفضل أن يطوف بطهارةٍ بالإجماع، ولا أظن أن أحدًا قال: إن الطواف بطهارةٍ وغير طهارةٍ سواءٌ؛ لأنه من الذكر، ولفعله صلى الله عليه وسلم.

باب الغسل

باب الغسل وموجبه: خروج المني دفقًا بلذةٍ، لا بدونهما من غير نائمٍ. وإن انتقل ولم يخرج: اغتسل له (¬1)، فإن خرج بعده: لم يعده. وتغييب حشفةٍ أصليةٍ في فرجٍ أصلي - قبلًا كان أو دبرًا (¬2) - ولو من بهيمةٍ أو ميتٍ (¬3)، وإسلام كافرٍ، وموتٌ، وحيضٌ، ونفاسٌ - لا ولادةٌ عاريةٌ عن دمٍ (¬4) -. ومن لزمه الغسل: - حرم عليه قراءة القرآن (¬5). ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: لا غسل بالانتقال، وهذا اختيار شيخ الإسلام، وهو الصواب. (¬2) وطء الدبر حرامٌ للزوج، وغيره من باب أولى، وهذا من باب التمثيل فقط. (¬3) قال بعض العلماء: إنه لا يجب الغسل بوطء الميتة إلا إذا أنزل ... ، ولا يحل جماعها بحالٍ. (¬4) أي: ليست الولادة العارية عن الدم موجبةً للغسل ... ، وهذا نادرٌ جدا ... ، وقال بعض العلماء: إنه يجب الغسل، والولادة هي الموجبة. (¬5) الجنب ممنوعٌ من قراءة القرآن ... ، وأما بالنسبة للحائض ... فقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: إنه ليس في منع الحائض من قراءة القرآن نصوصٌ صريحةٌ صحيحةٌ ... وما ذهب إليه شيخ الإسلام مذهبٌ قوي. ولو قال قائلٌ: مادام العلماء مختلفين، وفي المسألة أحاديث ضعيفةٌ؛ فلماذا لا نجعل المسألة معلقةً بالحاجة، فإذا احتاجت إلى القراءة - كالأوراد، أو تعاهد ما حفظته حتى لا تنسى، أو تحتاج إلى تعليم أولادها، أو البنات في المدارس - فيباح لها ذلك، وأما مع عدم الحاجة فتأخذ بالأحوط، وهي لن تحرم بقية الذكر؟! فلو ذهب ذاهبٌ إلى هذا لكان مذهبًا قويا. أما إسلام الكافر؛ فالكافر ممن يلزمه الغسل [على قول المؤلف]، فلو أسلم وأراد القراءة منع حتى يغتسل، والدليل على ذلك: القياس على الجنب. وهذا فيه نظرٌ قوي جدا؛ لأن العلماء أجمعوا على وجوب الغسل على الجنب؛ بخلاف الكافر فهو مختلفٌ في وجوبه عليه ... ، ولا يقاس المختلف فيه على المتفق عليه ... وعليه؛ فمنع الكافر من قراءة القرآن حتى يغتسل ضعيفٌ؛ لأنه ليس فيه أحاديث - لا صحيحةٌ ولا ضعيفةٌ -، وليس فيه إلا هذا القياس.

- ويعبر المسجد لحاجةٍ (¬1)، ولا يلبث فيه بغير وضوءٍ. ومن غسل ميتًا، أو أفاق من جنونٍ أو إغماءٍ بلا حلمٍ: سن له الغسل. والغسل الكامل: أن ينوي، ثم يسمي (¬2)، ويغسل يديه ثلاثًا، وما لوثه، ويتوضأ، ويحثي على رأسه ثلاثًا ترويه، ويعم بدنه غسلًا ثلاثًا (¬3)، ويدلكه، ويتيامن، ويغسل قدميه مكانًا آخر (¬4). ¬

_ (¬1) لو قال: (ويحرم عليه المكث في المسجد) ثم استثنى العبور؛ كان أوضح. (¬2) التسمية على المذهب واجبةٌ كالوضوء ... ، والصحيح - كما سبق - أنها ليست بواجبةٍ في الوضوء، ولا في الغسل. (¬3) هذا بالقياس على الوضوء؛ لأنه يشرع فيه التثليث ... ، واختار شيخ الإسلام - وجماعةٌ من العلماء - أنه لا تثليث في غسل البدن؛ لعدم صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشرع. (¬4) ظاهر كلام المؤلف أنه سنةٌ مطلقًا، ولو كان المحل نظيفًا - كما في حماماتنا الآن -. والظاهر لي: أنه يغسل قدميه في مكانٍ آخر عند الحاجة - كما لو كانت الأرض طينًا -.

والمجزئ: أن ينوي، ويسمي (¬1)، ويعم بدنه بالغسل مرةً (¬2). ويتوضأ بمد، ويغتسل بصاعٍ، فإن أسبغ بأقل (¬3)، أو نوى بغسله الحدثين (¬4): أجزأ. ويسن لجنبٍ: غسل فرجه، والوضوء لأكلٍ ونومٍ ومعاودة وطءٍ. ¬

_ (¬1) سبق الكلام على التسمية. (¬2) لم يذكر المضمضة والاستنشاق؛ لأن في وجوبهما في الغسل خلافًا، فمن أهل العلم من قال: لا يصح الغسل إلا بهما كالوضوء، وقيل: يصح بدونهما، والصواب: القول الأول ... وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أن الموالاة ليست شرطًا في الغسل ... ، وقيل: إن الموالاة شرطٌ، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، وقيل: وجهٌ للأصحاب. وهذا - أعني: كون الموالاة شرطًا - أصح؛ لأن الغسل عبادةٌ واحدةٌ، فلزم أن ينبني بعضه على بعضٍ بالموالاة. (¬3) لكن يشترط ألا يكون مسحًا؛ فإن كان مسحًا فلا يجزئ. (¬4) [ظاهر كلام المؤلف: أنه إذا نوى] رفع الحدث الأكبر و [سكت] عن الأصغر ... أنه يرتفع الأكبر ولا يرتفع الأصغر ... واختار شيخ الإسلام: أنه يرتفع الحدثان جميعًا ... ، وهذا هو الصحيح.

باب التيمم

باب التيمم وهو بدل طهارة الماء (¬1). إذا دخل وقت فريضةٍ أو أبيحت نافلةٌ (¬2)، وعدم الماء، أو زاد على ثمنه كثيرًا (¬3)، أو ثمنٍ يعجزه، أو خاف باستعماله أو طلبه ضرر بدنه أو رفيقه أو حرمته أو ماله بعطشٍ أو مرضٍ أو هلاكٍ - ونحوه -: شرع التيمم (¬4). ومن وجد ماءً يكفي بعض طهره: تيمم بعد استعماله. ومن جرح: تيمم له، وغسل الباقي (¬5). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أنه بدلٌ عن طهارة الماء في كل ما يطهره الماء؛ سواءٌ في الحدث، أم في نجاسة البدن، أم في نجاسة الثوب، أم في نجاسة البقعة، ولكن ليس هذا مراده؛ بل هو بدلٌ عن طهارة الماء في الحدث - قولًا واحدًا - وفي نجاسة البدن - على المذهب - ... والصحيح: أنه لا يتيمم إلا عن الحدث فقط. (¬2) هذا مبني على القول بأنه مبيحٌ لا رافعٌ - وهو المذهب -، فيقتصر فيه على الضرورة، وذلك بأن يكون في وقت الصلاة ... ، والصواب: أنه رافعٌ؛ فمتى تيمم في أي وقتٍ صح. (¬3) الصواب: أنه إذا كان واجدًا لثمنه، قادرًا عليه؛ وجب عليه أن يشتريه بأي ثمنٍ. (¬4) الضابط أن يقال: (الشرط الثاني: تعذر استعمال الماء؛ إما لفقده أو للتضرر باستعماله أو طلبه)، وهذا أعم وأوضح من عبارة المؤلف. (¬5) ظاهر قول المؤلف: (تيمم له) أنه لا بد أن يكون التيمم في موضع غسل العضو المجروح؛ لأنه يشترط الترتيب، وأما إذا كان الجرح في غسل الجنابة؛ فإنه يجوز أن يتيمم قبل الغسل أو بعده مباشرةً أو بعد زمنٍ كثيرٍ، هذا هو المذهب ... وقال بعض العلماء: إنه لا يشترط الترتيب ولا الموالاة ... ، وعلى هذا يجوز التيمم قبل الوضوء أو بعده بزمنٍ قليلٍ أو كثيرٍ، وهذا الذي عليه عمل الناس اليوم، وهو الصحيح.

ويجب طلب الماء في رحله وقربه وبدلالةٍ، فإن نسي قدرته عليه وتيمم: أعاد (¬1). وإن نوى بتيممه: أحداثًا، أو نجاسةً على بدنه تضره إزالتها، أو عدم ما يزيلها (¬2)، أو خاف بردًا، أو حبس في مصرٍ فتيمم، أو عدم الماء والتراب: صلى ولم يعد. ويجب التيمم بترابٍ (¬3) طهورٍ (¬4) غير محترقٍ (¬5)، له غبارٌ (¬6). ¬

_ (¬1) الأحوط: أن يعيد، والعلماء إذا قالوا: (الأحوط) لا يعنون أنه واجبٌ؛ بل يعنون أن الورع فعله أو تركه؛ لئلا يعرض الإنسان نفسه للعقوبة. (¬2) الصحيح: أنه لا يتيمم عن النجاسة مطلقًا، وقد سبق بيان ذلك. (¬3) الصحيح: أنه لا يختص التيمم بالتراب؛ بل بكل ما تصاعد على وجه الأرض. (¬4) هذا هو الشرط الثاني لما يتيمم به، وهو إشارةٌ إلى أن التراب ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ: طهورٌ، طاهرٌ، نجسٌ؛ كما أن الماء عندهم ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ ... ، والصحيح: أنه ليس في التراب قسمٌ يسمى طاهرًا غير مطهرٍ - كما سبق في الماء -. (¬5) كالخزف والإسمنت ... ، وهذا ضعيفٌ، والصواب: أن كل ما على الأرض من ترابٍ، ورملٍ، وحجرٍ - محترقٍ أو غير محترقٍ -، وطينٍ رطبٍ أو يابسٍ فإنه يتيمم به. (¬6) الصحيح: أن [الغبار] ليس بشرطٍ.

وفروضه: مسح وجهه ويديه إلى كوعيه، وكذا الترتيب، والموالاة في حدثٍ أصغر (¬1). وتشترط النية لما يتيمم له من حدثٍ (¬2) - أو غيره - (¬3). فإن نوى أحدها: لم يجزئه عن الآخر، وإن نوى نفلًا أو أطلق: لم يصل به فرضًا (¬4)، وإن نواه: صلى كل وقته فروضًا ونوافل. ويبطل التيمم بخروج الوقت (¬5)، وبمبطلات الوضوء، وبوجود الماء (¬6) - ولو في ¬

_ (¬1) الذي يظهر لي أن يقال: إن الترتيب واجبٌ في الطهارتين جميعًا، أو غير واجبٍ فيهما جميعًا؛ لأن الله - تعالى - جعل التيمم بدلًا عن الطهارتين جميعًا، والعضوان للطهارتين جميعًا. وبالنسبة للموالاة: الأولى أن يقال: إنها واجبةٌ في الطهارتين جميعًا. (¬2) تعليل ذلك: أن التيمم مبيحٌ لا رافعٌ - على المذهب -، فإذا قلنا بالقول الراجح: (إن التيمم مطهرٌ ورافعٌ)؛ فنجعل نيته حينئذٍ كنية الوضوء، فإذا نوى رفع الحدث صح، وإذا نوى الصلاة - ولو نافلةً - صح وارتفع حدثه وصلى به الفريضة. (¬3) قول المؤلف - رحمه الله -: (أو غيره) يعني: النجاسة التي على البدن خاصةً، [وقد سبق بيان أن الصحيح: أنه لا يتيمم عن النجاسة مطلقًا]. (¬4) التيمم على المذهب استباحةٌ، ولا يستبيح الأعلى بنية الأدنى، [وقد سبق البيان أن الصواب في التيمم أنه رافعٌ]. وقوله: (أو أطلق): ... هذا من باب الاحتياط. (¬5) قالوا: لأن هذه استباحة ضرورةٍ، فتقدر بقدر الضرورة ... ، والصحيح: أنه لا يبطل بخروج الوقت. (¬6) لو قال المؤلف: (وبزوال المبيح) لكان أولى.

الصلاة لا بعدها -. والتيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى. وصفته: أن ينوي، ثم يسمي، ويضرب التراب (¬1) بيديه - مفرجتي الأصابع (¬2) -؛ يمسح وجهه بباطنها، وكفيه براحتيه (¬3)، ويخلل أصابعه (¬4). ¬

_ (¬1) لم يقل: (الأرض)؛ لأنهم يشترطون التراب، والصواب أن يقال: (ويضرب الأرض) سواءٌ كانت ترابًا أم رملًا أم حجرًا. (¬2) الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب بيديه، ليس فيها أنه فرج أصابعه، وطهارة التيمم مبنيةٌ على التسهيل والتسامح، ليست كطهارة الماء. (¬3) أي: بباطن الأصابع، ويترك الراحتين فلا يمسح بهما؛ لأنه لو مسح بكل باطن الكف ثم أراد أن يمسح كفيه؛ صار التراب مستعملًا في طهارةٍ واجبةٍ، فيكون طاهرًا غير مطهرٍ - على المذهب -؛ بناءً على أن التراب ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ: طهورٍ وطاهرٍ ونجسٍ؛ كالماء. وهذا غير مسلمٍ، والصحيح - كما سبق - أنه لا يوجد ترابٌ يسمى طاهرًا غير مطهرٍ، وأن التراب المستعمل في طهارةٍ واجبةٌ طهورٌ، وحينئذٍ لا حاجة إلى هذه الصفة ... وعلى هذا فنقول: تمسح وجهك بيديك كلتيهما، وتمسح بعضهما ببعضٍ. (¬4) أي: وجوبًا؛ بخلاف طهارة الماء ... ، ونحن نقول: إثبات التخليل - ولو سنةٌ - فيه نظرٌ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عمارٍ لم يخلل أصابعه ... ، فالصواب: أن نقتصر على ظاهر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ... ، والكيفية عندي التي توافق ظاهر السنة: أن تضرب الأرض بيديك ضربةً واحدةً بلا تفريجٍ للأصابع، وتمسح وجهك بكفيك، ثم تمسح الكفين بعضهما ببعضٍ، وبذلك يتم التيمم، ويسن النفخ في اليدين؛ لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن بعض العلماء قيده بما إذا علق في يديه ترابٌ كثيرٌ.

باب إزالة النجاسة

باب إزالة النجاسة يجزئ في غسل النجاسات كلها: إذا كانت على الأرض: غسلةٌ واحدةٌ تذهب بعين النجاسة، وعلى غيرها: سبعٌ؛ إحداها بترابٍ في نجاسة كلبٍ وخنزيرٍ (¬1). ويجزئ عن التراب: أشنانٌ - ونحوه - (¬2)، وفي نجاسة غيرهما: سبعٌ بلا ترابٍ (¬3). ¬

_ (¬1) الفقهاء - رحمهم الله - ألحقوا نجاسة [الخنزير] بنجاسة الكلب؛ لأنه أخبث من الكلب، فيكون أولى بالحكم منه. وهذا قياسٌ ضعيفٌ؛ لأن الخنزير مذكورٌ في القرآن، وموجودٌ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد إلحاقه بالكلب. فالصحيح: أن نجاسته كنجاسة غيره؛ فتغسل كما تغسل بقية النجاسات. (¬2) هذا فيه نظرٌ ... وظاهر كلام المؤلف: أن الكلب إذا صاد أو أمسك الصيد بفمه؛ فلا بد من غسل اللحم الذي أصابه فمه سبع مراتٍ؛ إحداها بالتراب أو الأشنان أو الصابون، وهذا هو المذهب ... ، والصحيح: أنه لا يجب غسل ما أصابه فم الكلب عند صيده. (¬3) الصحيح: أنه يكفي غسلةٌ واحدةٌ تذهب بعين النجاسة، ويطهر المحل، ما عدا الكلب؛ فعلى ما تقدم، فإن لم تزل النجاسة بغسلةٍ زاد ثانيةً وثالثةً وهكذا ولو عشر مراتٍ حتى يطهر المحل.

ولا يطهر متنجسٌ: بشمسٍ (¬1)، ولا ريحٍ (¬2)، ولا دلكٍ (¬3)، ولا استحالةٍ - غير الخمرة (¬4) -. فإن خللت (¬5)، أو تنجس دهنٌ مائعٌ: لم يطهر (¬6). وإن خفي موضع نجاسةٍ: غسل حتى يجزم بزواله (¬7). ويطهر بول غلامٍ لم يأكل الطعام بنضحه. ¬

_ (¬1) ذهب أبو حنيفة - رحمه الله - إلى أن الشمس تطهر المتنجس إذا زال أثر النجاسة بها، وأن عين النجاسة إذا زالت بأي مزيلٍ طهر المحل، وهذا هو الصواب. (¬2) [الصحيح: أنه يطهر بالريح]؛ لكن مجرد اليبس ليس تطهيرًا؛ بل لا بد أن يمضي عليه زمنٌ بحيث تزول عين النجاسة وأثرها، لكن يستثنى من ذلك: لو كان المتنجس أرضًا رمليةً فحملت الريح النجاسة وما تلوث بها فزالت وزال أثرها؛ فإنها تطهر. (¬3) والقول الثاني: أن المتنجس ينقسم إلى قسمين: الأول: ما يمكن إزالة النجاسة بدلكه، وذلك إذا كان صقيلًا كالمرآة والسيف، ومثل هذا لا يتشرب النجاسة، فالصحيح أنه يطهر بالدلك ... والثاني: ما لا يمكن إزالة النجاسة به بدلكه - لكونه خشنًا -؛ فهذا لا يطهر بالدلك. (¬4) الصحيح: أن لا حاجة لهذا الاستثناء؛ لأن الخمرة - على القول الراجح - ليست نجسةً. (¬5) الخمر متى تخمرت أريقت، ولا يجوز أن تتخذ للتخليل؛ بخلاف ما إذا تخللت بنفسها فإنها تطهر وتحل. (¬6) الصواب: أن الدهن المائع كالجامد؛ فتلقى النجاسة وما حولها، والباقي طاهرٌ. (¬7) كلامه - رحمه الله - يدل على أنه لا يجوز التحري ولو أمكن؛ لأنه لا بد من الجزم واليقين، والصحيح: أنه يجوز التحري ...

ويعفى - في غير مائعٍ ومطعومٍ - عن: يسير دمٍ نجسٍ (¬1) من حيوانٍ طاهرٍ، وعن أثر استجمارٍ بمحله (¬2). ولا ينجس الآدمي بالموت، وما لا نفس له سائلةٌ متولدٌ من طاهرٍ (¬3). وبول ما يؤكل لحمه، وروثه، ومنيه، ومني الآدمي (¬4)، ورطوبة فرج المرأة، وسؤر الهرة - وما دونها في الخلقة (¬5) -: طاهرٌ. ¬

_ (¬1) الراجح: العفو عن يسيره فيهما كغيرهما ما لم يتغير أحد أوصافها بالدم. (¬2) علم من كلامه - رحمه الله - أن الاستجمار لا يطهر، وأن أثره نجسٌ، لكن يعفى عنه في محله، والصحيح: أنه إذا تمت شروط الاستجمار فإنه مطهرٌ ... وبناءً على هذا القول - الذي هو الراجح -: لو تعدى محله وعرق في سراويله فإنه لا يكون نجسًا؛ لأن الاستجمار مطهرٌ، لكنه عفي عن استعمال الماء تيسيرًا على الأمة ... وظاهر كلامه: أنه لا يعفى عن يسير شيءٍ مما سواهما [وهما: يسير الدم النجس من حيوانٍ طاهرٍ، وأثر الاستجمار بمحله] ... والصحيح: ما ذهب إليه أبو حنيفة وشيخ الإسلام [من أنه يعفى عن يسير سائر النجاسات]. (¬3) مفهوم قوله: (متولدٌ من طاهرٍ) أنه إذا تولد من نجسٍ فهو نجسٌ، وهذا مبني على أن النجس لا يطهر بالاستحالة، وأما على قول من يقول بأن النجس يطهر بالاستحالة فإن ميتته طاهرةٌ، وعليه فلا يشترط أن يكون متولدًا من طاهرٍ. (¬4) مفهومه: أن مني غير الآدمي نجسٌ، ولكن هذا المفهوم لا عموم له ... وعلى هذا فمني غير الآدمي إن كان من حيوانٍ طاهر البول والروث فهو طاهرٌ، وإن كان من حيوانٍ نجس البول والروث فهو نجسٌ. (¬5) كون العلة صغر الجسم غير صحيحٍ ... ، والراجح: أن العلة التي يجب أن تتبع: ما علل به النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: أنها من الطوافين عليكم. وعلى هذا: كل ما يكثر التطواف على الناس مما يشق التحرز منه فحكمه كالهرة، لكن يستثنى من ذلك ما استثناه الشارع، وهو الكلب.

وسباع البهائم والطير، والحمار الأهلي - والبغل منه -: نجسةٌ (¬1). ¬

_ (¬1) ذهب كثيرٌ من أهل العلم إلى أن آسار هذه البهائم طاهرةٌ إذا كانت كثيرة الطواف علينا، وعللوا بأن هذا يشق التحرز منه غالبًا ... وقال ابن قدامة - رحمه الله -: إن الحمار والبغل طاهران؛ لأن الأمة تركبهما، ولا يخلو ركوبهما من عرقٍ، ومن مطرٍ ينزل، وقد تكون الثياب رطبةً أو البدن رطبًا، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالتحرز من ذلك. وهذا هو الصحيح، وعلى هذا: فسؤرهما، وعرقهما، وريقهما، وما يخرج من أنفهما: طاهرٌ.

باب الحيض

باب الحيض لا حيض قبل تسع سنين، ولا بعد خمسين (¬1)، ولا مع حملٍ (¬2). وأقله: يومٌ وليلةٌ (¬3)، وأكثره: خمسة عشر يومًا (¬4). وغالبه: ست أو سبعٌ. وأقل الطهر بين الحيضتين: ثلاثة عشر يومًا (¬5). ولا حد لأكثره. وتقضي الحائض الصوم لا الصلاة، ولا يصحان منها؛ بل يحرمان. ويحرم وطؤها في الفرج، فإن فعل فعليه دينارٌ - أو نصفه -؛ كفارةٌ، ويستمتع ¬

_ (¬1) تحديد أوله بتسع سنين وآخره بخمسين سنةً: لا دليل عليه، فالصواب: أن الاعتماد إنما هو على الأوصاف؛ فالحيض وصف بأنه أذًى، فمتى وجد الدم الذي هو أذًى فهو حيضٌ. (¬2) الراجح: أن الحامل إذا رأت الدم المطرد الذي يأتيها على وقته وشهره وحاله؛ فإنه حيضٌ تترك من أجله الصلاة والصوم - وغير ذلك -، إلا أنه يختلف عن الحيض في غير الحمل بأنه لا عبرة به في العدة؛ لأن الحمل أقوى منه. (¬3) الصحيح: أنه لا حد لأقله. (¬4) الصحيح في ذلك - أيضًا -: أنه لا حد لأكثره. (¬5) الصحيح: أنه لا حد لأقل الطهر.

منها بما دونه. وإذا انقطع الدم ولم تغتسل: لم يبح غير الصيام والطلاق. والمبتدأة: تجلس أقله، ثم تغتسل وتصلي. فإن انقطع لأكثره فما دون: اغتسلت عند انقطاعه، فإن تكرر ثلاثًا: فحيضٌ، وتقضي ما وجب فيه (¬1). وإن عبر أكثره: فمستحاضةٌ. فإن كان بعض دمها أحمر وبعضه أسود (¬2) ولم يعبر أكثره ولم ينقص عن أقله: فهو حيضها تجلسه في الشهر الثاني، والأحمر استحاضةٌ. وإن لم يكن دمها متميزًا: قعدت غالب الحيض من كل شهرٍ (¬3). والمستحاضة المعتادة - ولو مميزةً -: تجلس عادتها. ¬

_ (¬1) الصحيح في المبتدأة: أن دمها دم حيضٍ ما لم يستغرق أكثر الشهر؛ فالمبتدأة من حين مجيء الحيض إليها فإنها تجلس حتى تطهر أو تتجاوز خمسة عشر شهرًا. (¬2) المؤلف - رحمه الله - ذكر علامةً واحدةً، وهي اللون، والتمييز له أربع علاماتٍ: اللون ... ، الرقة ... ، الرائحة ... ، التجمد. (¬3) الأرجح: أن ترجع إلى عادة نسائها؛ كأختها وأمها - وما أشبه ذلك -، لا إلى عادة غالب الحيض. والخلاصة: أن المستحاضة المبتدأة تعمل بالتمييز، فإن لم يكن لها تمييزٌ عملت بغالب عادة النساء، فتجلس ستة أيامٍ أو سبعةً من أول وقتٍ رأت فيه الدم، فإن نسيت متى رأته فمن أول كل شهرٍ هلالي، وسبق أن الأرجح أن تعمل بعادة نسائها.

وإن نسيتها: عملت بالتمييز الصالح. فإن لم يكن لها تمييزٌ: فغالب الحيض (¬1)؛ كالعالمة بموضعه الناسية لعدده (¬2). وإن علمت عدده ونسيت موضعه من الشهر - ولو في نصفه -: جلستها من أوله (¬3)؛ كمن لا عادة لها ولا تمييز (¬4). ومن زادت عادتها أو تقدمت أو تأخرت: فما تكرر ثلاثًا فحيضٌ (¬5). وما نقص عن العادة: طهرٌ، وما عاد فيها: جلسته (¬6). ¬

_ (¬1) الراجح - كما قلنا في المبتدأة -: أنه ترجع إلى أقاربها، وتأخذ بعادتهن في الغالب من أول الشهر الهلالي، ولا نقول: من أول يومٍ أتاها الحيض؛ لأنها قد نسيت العادة. (¬2) سبق أنها ترجع إلى غالب عادة نسائها - على القول الراجح -. (¬3) والقول الثاني: تجلس من أول النصف؛ لأنه أقرب من أول الشهر، وهذا هو الصحيح. (¬4) [سبق البيان] أن الصحيح في المبتدأة: أن دمها دم حيضٍ ما لم يستغرق أكثر الشهر؛ فالمبتدأة من حين مجيء الحيض إليها فإنها تجلس حتى تطهر أو تتجاوز خمسة عشر شهرًا ... وإن استغرق دم المبتدأة أكثر الوقت؛ فإنها حينئذٍ مستحاضةٌ، ترجع إلى التمييز، فإن لم يكن تمييزٌ فغالب الحيض أو حيض نسائها، هذا هو الصحيح. (¬5) هذا مبني على ما سبق في المبتدأة، وتقدم أن الصحيح: أن المبتدأة تجلس حتى تطهر، وعلى هذا: إذا زادت العادة وجب على المرأة أن تبقى لا تصلي ولا تصوم، ولا يأتيها زوجها حتى تطهر ثم تغتسل وتصلي؛ لأن هذا دم الحيض ولم يتغير. (¬6) سبق القول الراجح في ذلك.

والصفرة والكدرة في زمن العادة: حيضٌ (¬1). ومن رأت يومًا دمًا ويومًا نقاءً: فالدم حيضٌ والنقاء طهرٌ (¬2) ما لم يعبر أكثره. والمستحاضة - ونحوها -: - تغسل فرجها. - وتعصبه. - وتتوضأ لوقت كل صلاةٍ (¬3). ¬

_ (¬1) ظاهر كلامه أنهما إن تقدما على زمن العادة أو تأخرا عنه فليسا بحيضٍ، وهذا أحد الأقوال في المسألة، والقول الثاني: أنهما ليسا بحيضٍ مطلقًا، والقول الثالث: أنهما حيضٌ مطلقًا. واستدل لما قاله المؤلف بما رواه أبو داود في حديث أم عطية: «كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئًا»؛ فهذا القيد يدل على أنه قبل الطهر حيضٌ ... ، أما بعد الطهر فقد انفصل، وليس هو الدم الذي قال الله فيه: {هُوَ أَذًى}، فهو كسائر السائلات التي تخرج من فرج المرأة، فلا يكون لها حكم الحيض. (¬2) القول الثاني: أن اليوم ونصف اليوم لا يعد طهرًا؛ لأن عادة النساء أن تجف يومًا أو ليلةً، حتى في أثناء الحيض، ولا ترى نفسها طاهرةً في هذه المدة؛ بل تترقب نزول الدم؛ فإذا كان هذا من العادة؛ فإنه يحكم لهذا اليوم الذي رأت النقاء فيه بأنه يوم حيضٍ، لا يجب عليها غسلٌ ولا صلاةٌ، ولا تطوف ولا تعتكف؛ لأنها حائضٌ حتى ترى الطهر ... وهذا أقرب للصواب؛ فجفاف المرأة لمدة عشرين ساعةً - أو أربعٍ وعشرين ساعةً، أو قريبًا من هذا - لا يعد طهرًا؛ لأنه معتادٌ للنساء. (¬3) يجب على المستحاضة أن تتوضأ لوقت كل صلاةٍ إن خرج شيءٌ، فإن لم يخرج منها شيءٌ بقيت على وضوئها الأول. [جاء في حاشية «الشرح الممتع» (1/ 503): «هذا ما كان يراه شيخنا - رحمه الله - سابقًا، ثم إنه رجع عن ذلك، وقال: إن المستحاضة - ونحوها - ممن حدثه دائمٌ لا يجب عليه الوضوء لكل صلاةٍ؛ بل يستحب ...»].

- وتصلي فروضًا ونوافل. - ولا توطأ إلا مع خوف العنت (¬1). - ويستحب غسلها لكل صلاةٍ. وأكثر مدة النفاس: أربعون يومًا (¬2). ومتى طهرت قبله: تطهرت، وصلت. ويكره: وطؤها قبل الأربعين بعد التطهر (¬3). فإن عاودها الدم: فمشكوكٌ فيه؛ تصوم، وتصلي، وتقضي الواجب (¬4). ¬

_ (¬1) القول الثاني: ليس بحرامٍ، [ويحل وطؤها مطلقًا]، وهو الصحيح. (¬2) الذي يترجح عندي: أن الدم إذا كان مستمرا على وتيرةٍ واحدةٍ؛ فإنها تبقى إلى تمام ستين، ولا تتجاوزه. وعلى التقديرين - الستين أو الأربعين على القول الثاني -: إذا زاد على ذلك نقول: إن وافق العادة فهو حيضٌ ... فإن لم يصادف العادة فدم فسادٍ، لا تترك من أجله الصوم ولا الصلاة. وأما أقل النفاس فلا حد له، وبهذا يفارق الحيض. (¬3) الكراهة تحتاج إلى دليلٍ، ولا دليل، فالراجح: أنه يجوز وطؤها قبل الأربعين إذا تطهرت. (¬4) الراجح: أنه إذا كان العائد دم نفاسٍ بلونه ورائحته وكل أحواله؛ فليس مشكوكًا فيه؛ بل هو دمٌ معلومٌ، وهو دم النفاس؛ فلا تصوم ولا تصلي، وتقضي الصوم دون الصلاة، وإن علمت بالقرائن أنه ليس دم نفاسٍ فهي في حكم الطاهرات؛ تصوم وتصلي، ولا قضاء عليها ... لكن إن صادف العائد عادة حيضها فهو حيضٌ.

وهو كالحيض فيما يحل ويحرم ويجب ويسقط - غير العدة والبلوغ - (¬1). وإن ولدت توأمين: فأول النفاس وآخره من أولهما (¬2). ¬

_ (¬1) [ثمة] سبعة فروقٍ بين الحيض والنفاس. (¬2) الراجح: أنه إذا تجدد دمٌ للثاني فإنها تبقى في نفاسها ولو كان ابتداؤه من الثاني؛ إذ كيف يقال: ليس بشيءٍ وهي ولدت وجاءها الدم؟!.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة تجب على كل مسلمٍ مكلفٍ، لا حائضًا ونفساء. ويقضي من زال عقله: بنومٍ، أو إغماءٍ (¬1)، أو سكرٍ - أو نحوه (¬2) -. ولا تصح من: مجنونٍ، ولا كافرٍ، فإن صلى فمسلمٌ حكمًا. ويؤمر بها صغيرٌ لسبعٍ، ويضرب عليها لعشرٍ. فإن بلغ في أثنائها، أو بعدها في وقتها: أعاد (¬3). ويحرم تأخيرها عن وقتها، إلا لناو الجمع (¬4)، ولمشتغلٍ بشرطها الذي يحصله قريبًا (¬5). ¬

_ (¬1) الراجح: قول من يقول: لا يقضي [المغمى عليه] مطلقًا؛ لأن قياسه على النائم ليس بصحيحٍ؛ فالنائم يستيقظ إذا أوقظ، وأما المغمى عليه فإنه لا يشعر ... وأما قضاء عمارٍ - إن صح عنه - فإنه يحمل على الاستحباب أو التورع - وما أشبه ذلك -. (¬2) مثل البنج والدواء، وهذا محل خلافٍ ... ، والذي يترجح عندي: أنه إن زال عقله باختياره فعليه القضاء مطلقًا، وإن كان بغير اختياره فلا قضاء عليه. (¬3) الصواب: أنه يمضي في صلاته وصومه، ولا إعادة عليه، وكذلك لو بلغ بعد صلاته لم تلزمه إعادتها. (¬4) ونزيد قيدًا: وكان ممن يحل له أن يجمع. (¬5) الصواب: أنه لا يجوز أن يؤخرها عن وقتها مطلقًا، وأنه إذا خاف خروج الوقت صلى على حسب حاله وإن كان يمكن أن يحصل الشرط قريبًا.

ومن جحد وجوبها كفر، وكذا تاركها تهاونًا ودعاه إمامٌ أو نائبه فأصر وضاق وقت الثانية عنها (¬1). ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثًا فيهما (¬2). ¬

_ (¬1) القول الصحيح - بلا شك -: ما ذهب إليه بعض الأصحاب من أنه لا تشترط دعوة الإمام؛ لظاهر الأدلة، وعدم الدليل على اشتراطها. (¬2) [هناك أقوالٌ؛ منها]: أن هذا يرجع إلى اجتهاد الحاكم ... ، وهذا القول هو الصحيح.

باب الأذان والإقامة

باب الأذان والإقامة هما فرض كفايةٍ على الرجال المقيمين (¬1) للصلوات الخمس المكتوبة المؤداة (¬2)، يقاتل أهل بلدٍ تركوهما. وتحرم أجرتهما (¬3)، لا رزقٌ من بيت المال لعدم متطوعٍ. ويكون المؤذن: صيتًا (¬4)، أمينًا (¬5)، عالمًا بالوقت (¬6). فإن تشاح فيه اثنان: قدم أفضلهما فيه، ثم أفضلهما في دينه وعقله (¬7)، ثم ¬

_ (¬1) [الصواب]: أنهما واجبان على المقيمين والمسافرين. (¬2) الصواب: وجوبها للصلوات الخمس المؤداة والمقضية. (¬3) أما الجعالة بأن يقول: (من أذن في هذا المسجد فله كذا وكذا) دون عقدٍ وإلزامٍ فهذه جائزةٌ؛ لأنه لا إلزام فيها؛ فهي كالمكافأة لمن أذن، ولا بأس بالمكافأة لمن أذن، وكذلك الإقامة. (¬4) هذا مستحب. (¬5) الظاهر من المذهب: أن كونه (أمينًا) سنةٌ، والصحيح: أنه واجبٌ. (¬6) هذا ليس بشرطٍ إن أراد أن يكون عالمًا به بنفسه ... ، لكن الأفضل أن يكون عالمًا بالوقت بنفسه؛ لأنه قد يتعذر عليه من يخبره بالوقت. (¬7) لم يذكر المؤلف أفضلهما في علمه، وهذا أمرٌ لا بد منه؛ فإننا نقدم أعلمهما. وربما قال قائلٌ: هذا داخلٌ في قوله: «أفضلهما فيه»، فنقول: إن تحملته الكلمة فهذا هو المطلوب، وإلا فيجب أن نراعيها.

من يختاره الجيران (¬1)، ثم قرعةٌ. وهو خمس عشرة جملةً (¬2)، يرتلها (¬3) على علو، متطهرًا (¬4)، مستقبل القبلة (¬5)، جاعلًا أصبعيه في أذنيه، غير مستديرٍ، ملتفتًا في الحيعلة يمينًا ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا اعتبار في اختيار الجهة المسؤولة عن المساجد؛ لأن الأذان لأهل الحي، فهم المسؤولون، ولكن هذا فيه نظرٌ؛ بل نقول: المسؤول عن شؤون المساجد لا بد أن يكون له نوع اختيارٍ؛ لأنه هو المسؤول، ولهذا عندما يحصل إخلالٌ من المؤذن يرجع إلى المسؤول عن شؤون المساجد، ولعل المساجد في زمن المؤلف وما قبله ليس لها مسؤولٌ خاص. (¬2) المسألة فيها خلافٌ، ونقول: كل ما جاءت به السنة من صفات الأذان فإنه جائزٌ؛ بل الذي ينبغي: أن يؤذن بهذا تارةً وبهذا تارةً إن لم يحصل تشويشٌ وفتنةٌ، فعند مالكٍ سبع عشرة جملةً بالتكبير مرتين في أوله مع الترجيع ... ، وعند الشافعي تسع عشرة جملةً بالتكبير في أوله أربعًا مع الترجيع، وكل هذا مما جاءت به السنة، فإذا أذنت بهذا مرةً وبهذا مرةً كان أولى. (¬3) أي: يقولها جملةً جملةً، وهذا هو الأفضل - على المشهور -، وهناك صفةٌ أخرى: أنه يقرن بين التكبيرتين في جميع التكبيرات ... والأفضل أن يعمل بجميع الصفات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا أن يخاف تشويشًا أو فتنةً؛ فليقتصر على ما لم يحصل به ذلك ... ، ولكن ينبغي أن يروض الناس بتعليمهم بوجوه العبادة الواردة، فإذا اطمأنت قلوبهم وارتاحت نفوسهم؛ قام بتطبيقها عمليا ليحصل المقصود بعمل السنة من غير تشويشٍ وفتنةٍ. (¬4) أي: من الحدث الأكبر والأصغر، وهو سنةٌ. (¬5) أي: يسن أن يكون مستقبل القبلة حال الأذان؛ لأن هذا الذي ورد، ولأن الأذان عبادةٌ.

وشمالًا (¬1)، قائلًا بعدهما في أذان الصبح (¬2): (الصلاة خيرٌ من النوم) - مرتين -. وهي إحدى عشرة، يحدرها (¬3)، ويقيم من أذن - في مكانه إن سهل -. ولا يصح إلا: - مرتبًا. - متواليًا (¬4). ¬

_ (¬1) ظاهر السنة: أنه يلتفت يمينًا ل- (حي على الصلاة) في المرتين جميعًا، وشمالًا ل- (حي على الفلاح) في المرتين جميعًا ... تنبيهٌ: الحكمة من الالتفات يمينًا وشمالًا: إبلاغ المدعوين من على اليمين وعلى الشمال، وبناءً على ذلك: لا يلتفت من أذن بمكبر الصوت؛ لأن الإسماع يكون من السماعات التي في المنارة، ولو التفت لضعف الصوت؛ لأنه ينحرف عن (الآخذة). (¬2) [أي]: الأذان الذي يكون بعد طلوع الفجر ... ، وقد توهم بعض الناس في هذا العصر أن المراد بالأذان الذي يقال فيه هاتان الكلمتان هو الأذان الذي قبل الفجر ... (¬3) ومن العلماء من اختار سوى ذلك، وقال: إنها سبع عشرة؛ فيجعل التكبير أربعًا والتشهدين أربعًا والحيعلتين أربعًا، و (قد قامت الصلاة) اثنتين، والتكبير مرتين والتوحيد مرةً، فيكون المجموع سبعة عشرة. ومنهم من قال: إنها على جملةٍ جملةٍ؛ إلا (قد قامت الصلاة)، فتكون تسع جملٍ ... وينبغي أن تعلم قاعدةٌ أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية - وغيره من أهل العلم -: بأن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوعةٍ ينبغي أن تفعل على جميع الوجوه؛ هذا تارةً وهذا تارةً؛ بشرط ألا يكون في هذا تشويشٌ على العامة أو فتنةٌ. (¬4) إن حصل له عذرٌ؛ مثل: أن أصابه عطاسٌ أو سعالٌ؛ فإنه يبني على ما سبق؛ لأنه انفصل بدون اختياره.

- من عدلٍ (¬1). ولو ملحنًا أو ملحونًا (¬2). ويجزئ من مميزٍ (¬3)، ويبطلهما: فصلٌ كثيرٌ، ويسيرٌ محرمٌ. ولا يجزئ قبل الوقت؛ إلا الفجر بعد نصف الليل (¬4). ويسن جلوسه بعد أذان المغرب يسيرًا. ومن جمع (¬5)، أو قضى فوائت: أذن للأولى، ثم أقام لكل فريضةٍ. ¬

_ (¬1) لو أذن المعلن بفسقه - كحالق اللحية ومن يشرب (الدخان) جهرًا -؛ فإنه لا يصح أذانه - على كلام المؤلف -. والرواية الثانية عن الإمام أحمد: صحة أذان الفاسق؛ لأن الأذان ذكرٌ، والذكر مقبولٌ من الفاسق، لكن لا ينبغي أن يتولى الأذان والإقامة إلا من كان عدلًا. (¬2) اللحن ينقسم إلى قسمين: قسمٌ لا يصح معه الأذان، وهو الذي يتغير به المعنى، وقسمٌ يصح به الأذان مع الكراهة، وهو الذي لا يتغير به المعنى. (¬3) فصل بعض العلماء، فقال: إن أذن معه غيره فلا بأس، وإن لم يكن معه غيره فإنه لا يعتمد عليه، إلا إذا كان عنده بالغٌ عاقلٌ عارفٌ بالوقت ينبهه عليه، وهذا هو الصواب. (¬4) [في المسألة أقوالٌ؛ منها]: أن الأذان الذي يكون في آخر الليل ليس للفجر، ولكنه لإيقاظ النوم من أجل أن يتأهبوا لصلاة الفجر، ويختموا صلاة الليل بالوتر، ولإرجاع القائمين الذين يريدون الصيام، وهذا القول أصح. (¬5) هذا إن لم يكن في البلد، أما إذا كان في البلد فإن أذان البلد يكفي، وحينئذٍ يقيم لكل فريضةٍ.

ويسن لسامعه (¬1): متابعته سرا (¬2)، وحوقلته في الحيعلة، وقوله بعد فراغه (¬3): (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته) (¬4). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا تسن متابعة المقيم، وهو أظهر، وقيل: بل تسن، وفيها حديثٌ أخرجه أبو داود، لكنه ضعيفٌ لا تقوم به الحجة. (¬2) ظاهر كلامه: أنه إذا قال المؤذن في صلاة الصبح: (الصلاة خيرٌ من النوم)؛ فإن السامع يقول مثل ما يقول ... ، وهو الصحيح ... وظاهر كلام المؤلف - أيضًا -: أن المؤذن لا يتابع نفسه، وهو الصحيح. (¬3) الحقيقة: أن المؤلف اقتصر في الدعاء الذي بعد الأذان على ما ذكره، وإلا فينبغي بعد الأذان أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة ...)، وفي أثناء الأذان إذا قال المؤذن: (أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله)، وأجبته: أن تقول: (رضيت بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولًا) كما هو ظاهر رواية مسلمٍ. (¬4) لم يذكر المؤلف قوله: «إنك لا تخلف الميعاد»؛ لأن المحدثين اختلفوا فيها، هل هي ثابتةٌ أو ليست بثابتةٍ؟ ... فمن رأى أنها صحيحةٌ فهي مشروعةٌ في حقه، والمؤلف وأصحابنا يرون أنها شاذةٌ، ولا يعمل بها.

باب شروط الصلاة

باب شروط الصلاة شروطها قبلها؛ منها: الوقت (¬1)، والطهارة من الحدث والنجس. فوقت الظهر: من الزوال إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال، وتعجيلها أفضل إلا في شدة حر - ولو صلى وحده - أو مع غيمٍ لمن يصلي جماعةً (¬2). ويليه وقت العصر: إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال، والضرورة إلى غروبها (¬3)، ويسن تعجيلها. ويليه وقت المغرب: إلى مغيب الحمرة، ويسن تعجيلها (¬4) إلا ليلة جمعٍ لمن ¬

_ (¬1) منها: الإسلام، والعقل، والتمييز، فهذه ثلاثة شروطٍ لم يذكرها المؤلف لأن هذه الشروط معروفةٌ ... وقول المؤلف: (منها: الوقت) هذا التعبير فيه تساهلٌ؛ لأن الوقت ليس بشرطٍ؛ بل الشرط: دخول الوقت؛ لأننا لو قلنا: (إن الشرط هو الوقت)؛ لزم ألا تصح قبله ولا بعده، ومعلومٌ أنها تصح بعد الوقت لعذرٍ ... ؛ فتحرير العبارة أن يقول: (منها: دخول الوقت). (¬2) الصواب: عدم استثناء هذه الصورة، وأن صلاة الظهر يسن تقديمها إلا في شدة الحر فقط، وما عدا ذلك فالأفضل أن تكون في أول الوقت. (¬3) وقت العصر إلى اصفرار الشمس ... يمتد إلى الغروب، ولكنه يحمل على وقت الضرورة؛ جمعًا بينه وبين النصوص الدالة على أن وقتها إلى اصفرار الشمس. (¬4) معنى التعجيل [هنا]: أن يبادر الإنسان من حين الأذان، ولكن يتأخر بمقدار الوضوء والركعتين - وما أشبه ذلك -.

قصدها محرمًا (¬1). ويليه وقت العشاء: إلى الفجر الثاني - وهو: البياض المعترض - (¬2)، وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل - إن سهل -. ويليه وقت الفجر: إلى طلوع الشمس، وتعجيلها أفضل. وتدرك الصلاة بتكبيرة الإحرام في وقتها (¬3). ولا يصلي قبل غلبة ظنه بدخول وقتها: إما باجتهادٍ، أو خبر ثقةٍ متيقنٍ (¬4). فإن أحرم باجتهادٍ فبان قبله: فنفلٌ، وإلا ففرضٌ. وإن أدرك مكلفٌ من وقتها قدر التحريمة ثم زال تكليفه أو حاضت، ثم كلف وطهرت: قضوها (¬5). ¬

_ (¬1) استثنى فقهاؤنا - رحمهم الله - في الكتب المطولة: إن لم يوافها وقت الغروب؛ أي: إن لم يصل إليها وقت الغروب، فإن وافاها في ذلك الوقت صلاها في وقتها وبادر بها. (¬2) الصواب: أن وقت العشاء إلى نصف الليل. (¬3) والقول الثاني: أنها لا تدرك الصلاة إلا بإدراك ركعةٍ ... ، وهذا القول هو الصحيح. (¬4) هذا القول الذي ذهب إليه المؤلف بأنه لا بد أن يكون خبر الثقة عن يقينٍ: فيه نظرٌ. والصواب: أنه إذا أخبرك من تثق به جاز أن تصلي على خبره؛ سواءٌ كان إخباره عن يقينٍ أو غلبة ظن. (¬5) [هذا قولٌ]، وقال بعض أهل العلم: لا يلزمه قضاء الصلاة إلا إذا أدرك من وقتها قدر ركعةٍ وقال بعض أهل العلم - واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -: لا يلزمه القضاء لا المكلف ولا الحائض إلا إذا بقي من وقت الصلاة بمقدار فعل الصلاة؛ فحينئذٍ يلزم القضاء ... وبناءً عليه: إذا زال التكليف أو وجد المانع في وقتٍ واسعٍ؛ فإن هذه الصلاة لا يلزم قضاؤها، فإن قضاها احتياطًا فهو على خيرٍ، وإن لم يقضها فليس بآثمٍ ... والقول الثاني أحوط.

ومن صار أهلًا لوجوبها قبل خروج وقتها: لزمته (¬1) وما يجمع إليها قبلها (¬2). ويجب فورًا قضاء الفوائت (¬3) مرتبًا. ويسقط الترتيب: - بنسيانه. - وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة (¬4). ومنها: ستر العورة (¬5)؛ فيجب بما لا يصف البشرة. ¬

_ (¬1) أي: لزمته تلك الصلاة التي أدرك من وقتها قدر التحريمة - على المذهب -، أو قدر ركعةٍ - على القول الراجح -. (¬2) قال بعض أهل العلم: إنه لا يلزمه إلا الصلاة التي أدرك وقتها فقط، فأما ما قبلها فلا يلزمه، وهو القول الراجح. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن يدعها عمدًا بلا عذرٍ، أو يدعها لعذرٍ، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم ... والصواب: أن من ترك الصلاة عمدًا - على القول بأنه لا يكفر، كما لو كان يصلي ويخلي -؛ فإنه لا يقضيها، ولكن يجب عليه أن تكون هذه المخالفة نصب عينيه، وأن يكثر من الطاعات والأعمال الصالحة لعلها تكفر ما حصل منه من إضاعة الوقت. (¬4) [ويسقط الترتيب - أيضًا -: بخوف فوات الجمعة، وفوات الجماعة، والجهل]. (¬5) لم تأت كلمة (ستر العورة) في الكتاب أو السنة، ومن أجل أنه لم تأت ينبغي أن لا نعبر إلا بما جاء في القرآن والسنة في مثل هذا الباب ... ، ولما قال العلماء: (ستر العورة) اشتبه على بعض الناس عورة الصلاة وعورة النظر واختلطت عليهم، حتى قال بعضهم: (هذه وهذه سواءٌ)، والأمر ليس كذلك ... ، فلو عبر بما جاء في القرآن أو السنة لكان أسلم والذي جاء بالقرآن: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ... ؛ فاتخاذ الزينة غير ستر العورة.

وعورة رجلٍ، وأمةٍ، وأم ولدٍ، ومعتقٍ بعضها: من السرة إلى الركبة. وكل الحرة عورةٌ إلا وجهها (¬1). وتستحب صلاته في ثوبين (¬2). ويكفي: ستر عورته في النفل، ومع أحد عاتقيه في الفرض (¬3). ¬

_ (¬1) ليس هناك دليلٌ واضحٌ على هذه المسألة، ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن الحرة عورةٌ إلا ما يبدو منها في بيتها - وهو الوجه والكفان والقدمان - ... ، وبناءً على أنه ليس هناك دليلٌ تطمئن إليه النفس؛ فأنا أقلد شيخ الإسلام في هذه المسألة ... وأما في باب النظر؛ فالمقصود منه سد ذرائع الفتنة، فيجب عليها ستر الوجه عن غير المحارم، وممن يرى وجوب ستر الوجه شيخ الإسلام، وكذلك يرى وجوب ستر الكفين والقدمين للمرأة؛ بناءً على أن العلة الافتتان؛ بخلاف الصلاة؛ فالمقصود أخذ الزينة. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أن ستر الرأس ليس بسنةٍ؛ لأنه قال: (صلاته في ثوبين) ... ، وستر الرأس أفضل في قومٍ يعتبر ستر الرأس عندهم من أخذ الزينة، أما إذا كنا في قومٍ لا يعتبر ذلك من أخذ الزينة فإنا لا نقول: إن ستره أفضل، ولا إن كشفه أفضل. (¬3) الدليل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيءٌ»، وفي لفظٍ: «ليس على عاتقيه منه شيءٌ» بالتثنية، والتثنية لا تعارض المفرد؛ لأن المفرد مضافٌ، والمضاف يعم. وهذا الدليل أعم من المدلول؛ فالدليل: «لا يصلين أحدكم»، وهذا يشمل الفرض والنفل. والحديث يدل على ستر العاتقين جميعًا، وما قاله المؤلف هو المشهور من المذهب. والقول الثاني: أن ستر العاتقين سنةٌ وليس بواجبٍ، لا فرق بين الفرض والنفل ... ، وهذا هو القول الراجح.

وصلاتها في درعٍ، وخمارٍ، وملحفةٍ (¬1)، ويجزئ ستر عورتها. ومن انكشف بعض عورته وفحش (¬2)، أو صلى في ثوبٍ محرمٍ عليه (¬3)، أو نجسٍ (¬4): أعاد (¬5)، لا من حبس في محل نجسٍ. ¬

_ (¬1) وعلى القول الراجح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحب «الإنصاف» فإنه لا يجب ستر الكفين والقدمين، وبناءً على ذلك: يكفي إن كان الدرع إلى القدمين وأكمامه إلى الرسغ. (¬2) فإن فحش ولكنه في زمنٍ يسيرٍ - بحيث انكشف ثم ستره -؛ فظاهر كلام المؤلف أن صلاته لا تصح، وهذا ليس بصحيحٍ؛ بل نقول: إذا انكشف وستره في زمنٍ يسيرٍ؛ فإن صلاته لا تبطل، ويتصور ذلك فيما إذا هبت ريحٌ وهو راكعٌ وانكشف الثوب ولكن في الحال أعاده. (¬3) ذهب كثيرٌ من أهل العلم إلى أن الصلاة لا تبطل إذا ستر عورته بثوبٍ محرمٍ ... ، وهذا القول - أعني صحة الصلاة بستر العورة بثوبٍ محرمٍ - هو الراجح إلا إذا ثبت الحديث في المسبل ثوبه بإعادة الصلاة، فإن ثبت الحديث تعين بموجبه، لكن كثيرًا من أهل العلم ضعفه، وقالوا: لا تقوم به حجةٌ، ولا يمكن أن نلزم إنسانًا بإعادة صلاته بناءً على حديثٍ ضعيفٍ. (¬4) فإن كانت نجاسةً يعفى عنها فلا حرج عليه أن يصلي فيه؛ مثل: اليسير من الدم المفسوح. (¬5) ظاهره: سواءٌ كان عالمًا أم جاهلًا أم ذاكرًا أم ناسيًا أم عادمًا أم واجدًا، وهذا هو المذهب ... وقال بعض أهل العلم: إنه إن كان جاهلًا أو ناسيًا أو عادمًا فلا إعادة عليه، واستدلوا بقوله - تعالى -: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، فقال الله - تعالى -: «قد فعلت»، والآية عامةٌ، وتعتبر من أكبر وأعظم قواعد الإسلام؛ لأن الذي علمنا هذا الدعاء هو الله - عز وجل -، وأوجب على نفسه - عز وجل - أن يفعل، فقال: «قد فعلت» - كما صح في الحديث الذي رواه مسلمٌ -. إذن: هذا الرجل الذي صلى في ثوبٍ نجسٍ وهو لا يدري بالنجاسة إلا بعد فراغه: مخطئٌ لا خاطئٌ، ولو كان يعلم بالنجاسة لقلنا: إنه خاطئٌ، ولكن هو الآن مخطئٌ جاهلٌ؛ فليس عليه إعادةٌ بمقتضى هذه الآية ... وأما النسيان: بأن نسي أن يكون عليه نجاسةٌ، أو نسي أن يغسلها، فصلى بالثوب النجس؛ فالصحيح أنه لا إعادة عليه، والدليل: قوله - تعالى -: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ... وأما العدم - بمعنى أن لا يكون عنده ثوبٌ طاهرٌ، ولا يتمكن من تطهير ثوبه -؛ فقد ذكرنا أن المذهب أنه يصلي به ويعيد، وهذه المسألةٌ فيها أقوالٌ ... ؛ [منها]: أنه يصلي به، ولا إعادة ... ، وهذا هو القول الراجح.

ومن وجد كفاية عورته سترها، وإلا فالفرجين، فإن لم يكفهما فالدبر (¬1). وإن أعير سترةً: لزمه قبولها (¬2). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المصنف: أن ستر الدبر - هنا - مقدمٌ وجوبًا، لكن قال في «الإنصاف»: «الخلاف إنما هو في الأولوية»، وعن أحمد روايةٌ ثانيةٌ: أنه يستر القبل، وهو أولى؛ لأنه أفحش من الدبر، ولهذا جاز استدبار الكعبة حال قضاء الحاجة في البنيان دون استقبالها. (¬2) لكن لو أن هذه الإعارة يريد المعير منها أن تكون ذريعةً لنيل مأربٍ له باطلٍ؛ فهنا لا يلزمه القبول ... وظاهر كلام المؤلف: أنه لو أعطيها هبةً لم يلزمه قبولها؛ لقوله: (وإن أعير). وظاهر كلامه - أيضًا -: أنه لا يلزمه الاستعارة ... وعلى كل؛ فالقول الراجح في هذه المسألة: أنه يلزمه تحصيل السترة بكل وسيلةٍ ليس عليه فيها ضررٌ ولا منةٌ؛ سواءٌ ببيعٍ أم باستعارةٍ أم بقبول هبةٍ أم ما أشبه ذلك ... [إذن] الصواب: أن نأخذ بقاعدةٍ عامةٍ، وهي أنه يجب على المصلي تحصيل السترة بكل طريقةٍ ليس فيها ضررٌ عليه ولا غضاضةٌ.

ويصلي العاري قاعدًا بالإيماء استحبابًا فيهما (¬1)، ويكون إمامهم وسطهم (¬2)، ويصلي كل نوعٍ وحده، فإن شق: صلى الرجال واستدبرهم النساء، ثم عكسوا، فإن وجد سترةً قريبةً في أثناء الصلاة: ستر وبنى وإلا ابتدأ. ويكره في الصلاة: ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: في هذا تفصيلٌ، فإن كان حوله أحدٌ صلى قاعدًا، وإن لم يكن حوله أحدٌ، أو كان في ظلمةٍ، أو حوله شخصٌ لا يبصر، أو شخصٌ لا يستحي من انكشاف عورته عنده - كالزوجة -؛ فإنه يصلي قائمًا ويركع ويسجد؛ لأنه لا عذر له، وهذا القول أقرب الأقوال إلى الحق. (¬2) قال بعض أهل العلم: بل يتقدم الإمام؛ لأن السنة أن يكون الإمام أمامهم، وتأخره لا يفيد شيئًا يذكر، والإنسان إذا شاركه غيره في عيبه خف عليه ... ، وهذا القول أقرب إلى الصواب. ويستثنى من كلام المؤلف: ما إذا كانوا في ظلمةٍ، أو لا يبصرون؛ فإن إمامهم يتقدم عليهم - كالعادة -؛ لأن المحذور معدومٌ.

- السدل (¬1). - واشتمال الصماء (¬2). - وتغطية وجهه (¬3)، واللثام على فمه وأنفه (¬4). - وكف كمه ولفه (¬5). ¬

_ (¬1) المعروف عند فقهائنا هو: أن يطرح الثوب على الكتفين، ولا يرد طرفه على كتفه الآخر، ولكن إذا كان هذا الثوب مما يلبس عادةً هكذا فلا بأس به. (¬2) وجه الكراهة - هنا -: أن فيه عرضةً أن يسقط فتنكشف العورة، فإن خيف من انكشاف العورة حقيقةً؛ كان حرامًا. (¬3) لكن لو أنه احتاج إليه لسببٍ من الأسباب - ومنه العطاس مثلًا - ... ؛ فإن المكروه تبيحه الحاجة. ويستثنى من ذلك: المرأة إذا كان حولها رجالٌ ليسوا من محارمها؛ فإن تغطية وجهها - حينئذٍ - واجبةٌ، ولا يجوز لها كشفه. (¬4) ويستثنى منه: ما إذا تثاءب وغطى فمه ليكظم التثاؤب؛ فهذا لا بأس به، أما بدون سببٍ فإنه يكره، فإن كان حوله رائحةٌ كريهةٌ تؤذيه في الصلاة واحتاج إلى اللثام فهذا جائزٌ؛ لأنه للحاجة، وكذلك لو كان به زكامٌ وصار معه (حساسيةٌ) إذا لم يتلثم؛ فهذه - أيضًا - حاجةٌ تبيح أن يتلثم. (¬5) الدليل: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظمٍ، ولا أكف شعرًا ولا ثوبًا» ... ، ويا ليت المؤلف ذكر كف الثوب ليكون موافقًا للفظ الحديث ... فإن قيل: هل من كف الثوب: ما يفعله بعض الناس بأن يكف (الغترة) بأن يرد طرف (الغترة) على كتفه حول عنقه؟ فالجواب: هذا ليس من كف الثوب؛ لأن هذا نوعٌ من اللباس؛ أي إن (الغترة) تلبس على هذه الكيفية ... ، لكن لو كانت (الغترة) مرسلةً، ثم كفها عند السجود؛ فالظاهر أن ذلك داخلٌ في كف الثوب.

- وشد وسطه - كزنارٍ - (¬1). وتحرم: - الخيلاء في ثوبٍ - وغيره -. - والتصوير (¬2). ¬

_ (¬1) اقتصار المؤلف على الكراهة فيما يشبه الزنار: فيه نظرٌ، والصواب: أنه حرامٌ. (¬2) التصوير أنواعٌ ثلاثةٌ: النوع الأول: تصوير ما يصنعه الآدمي؛ فهذا جائزٌ. النوع الثاني: أن يصور ما لا روح فيه مما لا يخلقه إلا الله وفيه حياةٌ ... ؛ فجمهور أهل العلم أن ذلك جائزٌ لا بأس به، وقال مجاهدٌ: إنه حرامٌ ... النوع الثالث: أن يصور ما فيه نفسٌ من الحيوان - مثل الإنسان والبعير ... -؛ فهذه اختلف السلف فيها: فمنهم من قال: إنها حرامٌ إن كانت الصورة مجسمةً؛ بأن يصنع تمثالًا على صورة إنسانٍ أو حيوانٍ، وجائزةٌ إن كانت بالتلوين؛ أي: غير مجسمةٍ. ومنهم من قال ... - وهو الصحيح -: إنها محرمةٌ؛ سواءٌ كانت مجسمةً أم ملونةً ... وأما الصور بالطرق الحديثة فهي قسمان: القسم الأول: ما لا يكون له منظرٌ ولا مشهدٌ ولا مظهرٌ؛ كما ذكر لي عن التصوير بأشرطة (الفيديو)؛ فهذا لا حكم له إطلاقًا، ولا يدخل في التحريم مطلقًا ... القسم الثاني: التصوير الثابت على الورق، وهذا إذا كان بآلةٍ (فوتوغرافيةٍ) فوريةٍ فلا يدخل في التصوير ... ، لكن يبقى النظر: إذا أراد الإنسان أن يصور هذا التصوير المباح فإنه تجري فيه الأحكام الخمسة بحسب القصد، فإذا قصد به شيئًا محرمًا فهو حرامٌ، وإن قصد به شيئًا واجبًا كان واجبًا.

- واستعماله (¬1). ويحرم استعمال منسوجٍ - أو مموهٍ - بذهبٍ قبل استحالته، وثياب حريرٍ، وما هو أكثره ظهورًا على الذكور، لا إذا استويا (¬2)، ولضرورةٍ، أو حكةٍ، أو مرضٍ، أو ¬

_ (¬1) استعمال المصور ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ: القسم الأول: أن يستعمله على سبيل التعظيم؛ فهذا حرامٌ؛ سواءٌ كان مجسمًا أم ملونًا ... القسم الثاني: أن يتخذه على سبيل الإهانة؛ مثل أن يجعله فراشًا أو مخدةً أو وسادةً - أو ما أشبه ذلك -؛ فهذا فيه خلافٌ بين أهل العلم؛ فأكثر أهل العلم على الجواز، وأنه لا بأس به ... ، وذهب بعض أهل العلم إلى التحريم ... ، ولا شك أن تجنب هذا أورع وأحوط؛ فلا تستعمل الصور ولو على سبيل الامتهان ... القسم الثالث: ألا يكون في استعمالها تعظيمٌ ولا امتهانٌ؛ فذهب جمهور أهل العلم إلى تحريم استعمال الصور على هذا الوجه، ونقل عن بعض السلف الإباحة إذا كان ملونًا، حتى إن بعض السلف كان عندهم في بيوتهم الستائر يكون فيها صور الحيوان، ولا ينكرون ذلك، ولكن لا شك أن هؤلاء الذين فعلوه من السلف - كالقاسم بن محمدٍ رحمه الله -، لا شك أنه يعتذر عنهم بأنهم تأولوا، ولا يحتج بفعلهم ... (¬2) وقال بعض أصحابنا - رحمهم الله -: بل إذا استويا يحرم ... ولكل منهما وجهٌ ... ، وموقفنا منه الاحتياط، والاحتياط في مقام الطلب: فعلٌ، وفي مقام النهي: تركٌ. والحاصل: أن المحرم هو الحرير الخالص، أو الذي أكثره الحرير، وأما ما أكثره غير الحرير فحلالٌ، وأما ما تساوى وغيره فمحل خلافٍ.

قملٍ، أو حربٍ، أو حشوًا، أو كان علمًا أربع أصابع فما دون، أو رقاعًا، أو لبنة جيبٍ وسجف فراءٍ. ويكره المعصفر والمزعفر للرجال (¬1). ومنها: اجتناب النجاسات؛ فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها (¬2)، أو لاقاها بثوبه أو ببدنه: لم تصح صلاته. وإن طين أرضًا نجسةً، أو فرشها طاهرًا: كره وصحت (¬3). وإن كانت بطرف مصلى متصلٍ: صحت إن لم ينجر بمشيه (¬4). ومن رأى عليه نجاسةً بعد صلاته وجهل كونها فيها: لم يعد، وإن علم أنها كانت فيها لكن نسيها أو جهلها: أعاد (¬5). ¬

_ (¬1) لبس المعصفر حرامٌ على الرجل، والمزعفر مثله. (¬2) أفادنا - رحمه الله - بقوله: (لا يعفى عنها) أن من النجاسات ما يعفى عنه، وهو كذلك، وقد سبق أنه يعفى عن يسير الدم إذا كان من حيوانٍ طاهرٍ - كدم الآدمي مثلًا ودم الشاة والبعير وما أشبهها -، وسبق أيضًا أن شيخ الإسلام - رحمه الله - يرى العفو عن يسير جميع النجاسات، ولا سيما إذا شق التحرز منها. (¬3) الصواب [في الصورتين]: أنها تصح ولا تكره. (¬4) [أي]: إذا كانت النجاسة متصلةً بشيءٍ متعلقٍ بالمصلي، فإن كانت تنجر بمشيه لم تصح صلاته ... ، والصحيح: أنها لا تبطل الصلاة. (¬5) الراجح في هذه المسائل كلها: أنه لا إعادة عليه؛ سواءٌ نسيها، أم نسي أن يغسلها، أم جهل أنها أصابته، أم جهل أنها من النجاسات، أم جهل حكمها، أم جهل أنها قبل الصلاة، أم بعد الصلاة.

ومن جبر عظمه بنجسٍ: لم يجب قلعه مع الضرر. وما سقط منه من عضوٍ أو سن: فطاهرٌ. ولا تصح الصلاة في: مقبرةٍ (¬1)، وحش، وحمامٍ (¬2)، وأعطان إبلٍ (¬3)، ومغصوبٍ (¬4)، وأسطحتها (¬5). وتصح إليها (¬6). ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها (¬7). ¬

_ (¬1) دلت الأدلة على استثناء صلاة الجنازة؛ [سواءٌ كانت الجنازة مدفونةً أم غير مدفونةٍ]. (¬2) كل ما يطلق عليه اسم الحمام يدخل في ذلك؛ حتى المكان الذي ليس مبالًا فيه فإنه لا تصح فيه الصلاة ... ، ولا فرق بين أن يكون الحمام فيه ناسٌ يغتسلون، أو لم يكن فيه أحدٌ، فما دام يسمى حمامًا فالصلاة لا تصح فيه. (¬3) أعطان الإبل فسرت بثلاثة تفاسير: قيل: مباركها مطلقًا، وقيل: ما تقيم فيه وتأوي إليه، وقيل: ما تبرك فيه عند صدورها من الماء أو انتظارها الماء ... ، والصحيح: أنه شاملٌ لما تقيم فيه الإبل وتأوي إليه. (¬4) والقول الثاني في المسألة: أنها تصح في المكان المغصوب مع الإثم ... ، وهو الراجح. (¬5) القول الراجح: أن جميع هذه الأسطحة تصح الصلاة فيها؛ إلا سطح المقبرة وسطح الحمام. (¬6) أما المقبرة: فالصحيح تحريم الصلاة إليها، ولو قيل بعدم الصحة لكان له وجهٌ. (¬7) الصحيح في هذه المسألة: أن الصلاة في الكعبة صحيحةٌ فرضًا ونفلًا.

وتصح النافلة باستقبال شاخصٍ منها (¬1). ومنها: استقبال القبلة؛ فلا تصح بدونه إلا: - لعاجزٍ. - ومتنفلٍ راكبٍ سائرٍ في سفرٍ - ويلزمه افتتاح الصلاة إليها (¬2) -. - وماشٍ - ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها (¬3) -. وفرض من قرب من القبلة: إصابة عينها، ومن بعد: جهتها. فإن أخبره ثقةٌ بيقينٍ (¬4)، أو وجد محاريب إسلاميةً: عمل بها. ¬

_ (¬1) لا شك أن الاحتياط أن يكون بين يديه شاخصٌ منها، ولكن لو أن الإنسان صلى وجاء يستفتينا فلا نستطيع أن نقول: إن صلاتك ليست صحيحةً، وإنما نأمره قبل أن يصلي ألا يصلي في جوف الكعبة إلا إلى شيءٍ شاخصٍ منها. (¬2) الصحيح في المسألة: أن الأفضل أن يبتدئ الصلاة متجهًا إلى القبلة، ثم يتجه حيث كان وجهه، أما أن يكون واجبًا ... ففي النفس منه شيءٌ. (¬3) الصحيح: أننا إن جوزنا للماشي التنفل فإنه لا يلزمه الركوع والسجود إلى القبلة؛ لأن في ذلك مشقةً عليه؛ لأنه يستلزم الوقوف للركوع والسجود والجلوس بين السجدتين ... وقولنا: (إن جوزنا للماشي التنفل)؛ فيه إشارةٌ إلى أن في المسألة خلافًا؛ فإن من العلماء من يقول: إن المسافر الماشي لا يجوز أن يتنفل حال مشيه ... ولكن الذي يظهر - والله أعلم - أن القول الراجح: ما قاله المؤلف في إلحاق الماشي بالراكب. (¬4) الصواب: أنه لو أخبره ثقةٌ؛ سواءٌ أخبره عن يقينٍ أم عن اجتهادٍ؛ فإنه يعمل بقوله كما نعمل بقول الثقة بالاجتهاد في مسائل الدين.

ويستدل عليها في السفر بالقطب، والشمس، والقمر، ومنازلهما. وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهةً (¬1): لم يتبع أحدهما الآخر (¬2). ويتبع المقلد أوثقهما عنده. ومن صلى بغير اجتهادٍ ولا تقليدٍ: قضى إن وجد من يقلده (¬3). ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاةٍ (¬4)، ويصلي بالثاني، ولا يقضي ما صلى بالأول. ومنها: النية، فيجب أن ينوي عين صلاةٍ معينةٍ (¬5). ¬

_ (¬1) أي: قال أحدهما: إن القبلة هنا - ويشير إلى الشمال -، والثاني يقول: القبلة هنا - ويشير إلى الجنوب - ... ، أما إذا اختلفا في جهةٍ واحدةٍ؛ بأن اختلفا في الانحراف في جهةٍ واحدةٍ؛ فهنا لا بأس أن يتبع أحدهما الآخر؛ مثل: أن يتجها إلى الجنوب، لكن أحدهما يميل إلى الغرب، والآخر يميل إلى الشرق. (¬2) إن كان المجتهد حين اجتهد، واجتهد الآخر الذي هو أعلم منه؛ صار عنده ترددٌ في اجتهاده، وغلبة ظنه في اجتهاد صاحبه؛ فعلى المذهب: لا يتبعه ... ، والصحيح: يتبعه. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أنه يقضي ولو أصاب ... ، وقال بعض العلماء: إنه إذا أصاب أجزأ ... ، وهذا القول أصح. (¬4) الصواب: أنه لا يلزمه أن يجتهد لكل صلاةٍ؛ ما لم يكن هناك سببٌ. (¬5) أفادنا المؤلف: أنه لا بد أن ينوي عين المعين كالظهر؛ فلو نوى فرض هذا الوقت أو الصلاة مطلقًا ... فعلى كلام المؤلف: صلاته غير صحيحةٍ ... ، والذي يترجح عندي: القول بأنه لا يشترط التعيين، وأن الوقت هو الذي يعين الصلاة، وأنه يصح أن يصلي أربعًا بنية ما يجب عليه وإن لم يعينه.

ولا يشترط في الفرض، والأداء، والقضاء، والنفل، والإعادة: نيتهن. وينوي مع التحريمة، وله تقديمها عليها بزمنٍ يسيرٍ في الوقت (¬1)، فإن قطعها في أثناء الصلاة أو تردد: بطلت (¬2)، وإذا شك فيها: استأنفها (¬3). وإن قلب منفردٌ فرضه نفلًا في وقته المتسع: جاز. وإن انتقل بنيةٍ من فرضٍ إلى فرضٍ: بطلا (¬4). ¬

_ (¬1) إن طال الوقت؛ فظاهر كلام المؤلف أن النية لا تصح ... ، وقال بعض العلماء: بل تصح ما لم ينو فسخها ... ، وهذا القول أصح. (¬2) قال بعض أهل العلم: إنها لا تبطل بالتردد ... ، وهذا القول هو الصحيح. (¬3) هل هذه الصورة واردةٌ؟ بمعنى: هل يمكن أن يأتي إنسانٌ ويتوضأ ويقدم إلى المسجد ويقول: أنا أشك في النية؟ الظاهر: أن هذا لا يمكن، وأن المسألة فرضيةٌ؛ إلا أن يكون موسوسًا، والموسوس لا عبرة بشكه ... ، لكن على تقدير وجوده - نظريا - فإننا نقول: إذا شك في النية وجب أن يستأنف العبادة ... ، لكن - على كلام المؤلف - يقيد بما إذا لم يكن كثير الشكوك. (¬4) قوله: (بطلا) هذه العبارة فيها تسامحٌ وتغليبٌ، والصواب أن يقال: بطلت الأولى، ولم تنعقد الثانية ... وعلم من قول المؤلف: (انتقل من فرضٍ إلى فرضٍ) أنه إن انتقل من نفلٍ إلى نفلٍ لم يبطلا، وهذه الصورة الثالثة، لكن هذا غير مرادٍ على إطلاقه؛ لأنه إذا انتقل من نفلٍ معينٍ إلى نفلٍ معينٍ فالحكم كما لو انتقل من فرضٍ إلى فرضٍ ... وإن انتقل من فرضٍ معينٍ - أو من نفلٍ معينٍ - إلى نفلٍ مطلقٍ؛ صح، وهذه الصورة الرابعة، لكن يشترط في الفرض أن يكون الوقت متسعًا.

ويجب نية الإمامة والائتمام (¬1). وإن نوى المنفرد الائتمام: لم تصح (¬2)؛ كنية إمامته فرضًا (¬3). وإن انفرد مؤتم بلا عذرٍ: بطلت (¬4). ¬

_ (¬1) كلام المؤلف صريحٌ في أنه شرطٌ لصحة الصلاة، وأن الإمام إذا لم ينو الإمامة أو المأموم لم ينو الائتمام فصلاتهما باطلةٌ، لكن في المسألة خلافٌ يتبين في الصور الآتية: الصورة الأولى: أن ينوي الإمام أنه مأمومٌ، والمأموم أنه إمامٌ؛ فهذه لا تصح ... الصورة الثانية: أن ينوي كل واحدٍ منهما أنه إمامٌ للآخر، وهذه - أيضًا - لا تصح ... الصورة الثالثة: أن ينوي كل واحدٍ منهما أنه مأمومٌ للآخر؛ فهذه - أيضًا - لا تصح ... الصورة الرابعة: أن ينوي المأموم الائتمام، ولا ينوي الإمام الإمامة؛ فلا تصح صلاة المؤتم وحده، وتصح صلاة الأول ... والقول الثاني في المسألة: أنه يصح أن يأتم الإنسان بشخصٍ لم ينو الإمامة ... ، وهو أصح ... الصورة الخامسة: أن ينوي الإمام دون المأموم ... ؛ فهنا لا يحصل ثواب الجماعة لا للإمام ولا للمأموم؛ لأنه ليس هناك جماعةٌ ... ولو قال قائلٌ بحصول الثواب للإمام في هذه الصورة لم يكن بعيدًا ... الصورة السادسة: أن يتابعه دون نيةٍ، وهذه لا يحصل بها ثواب الجماعة لمن لم ينوها. (¬2) والقول الثاني - وهو روايةٌ عن أحمد -: أنه يصح أن ينوي المنفرد الائتمام ... ، وهذا هو الصحيح. (¬3) الصحيح: أنه يصح في الفرض والنفل. (¬4) القول الثاني: أنها لا تبطل، لكن إن قلنا به فيجب أن يقيد بما إذا أدرك الجماعة بأن يكون قد صلى مع الإمام ركعةً فأكثر، أما إذا لم يكن أدرك الجماعة فإنه لا يحل له الانفراد لأنه يفضي إلى ترك الجماعة بلا عذرٍ، لكن لو صلى ركعةً ثم أراد أن ينفرد فإنه - حينئذٍ - يجوز له، لكن القول بجواز الانفراد بلا عذرٍ في النفس منه شيءٌ، أما مع العذر الحسي أو الشرعي فلا شك في جوازه.

وإن أحرم إمام الحي بمن أحرم بهم نائبه وعاد النائب مؤتما: صح (¬1). وتبطل صلاة مأمومٍ ببطلان صلاة إمامه، فلا استخلاف (¬2). ¬

_ (¬1) ظاهر [كلام المصنف]: أنه لو وقع ذلك لغير إمام الحي لم يصح ... ، ولكن الظاهر أنه لا فرق إذا كان للإمام الثاني مزية حسن القراءة، أو زيادةٌ في العلم أو العبادة، فإن لم يكن له مزيةٌ لم يصح. (¬2) والقول الثاني في المذهب الذي اختاره شيخ الإسلام - وجماعةٌ من أهل العلم -: أنه يستخلف، وأن صلاة المأموم لا تبطل بصلاة الإمام؛ بل إذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاته فقط وبقيت صلاة المأموم صحيحةً، وهذا القول هو الصحيح.

باب صفة الصلاة

باب صفة الصلاة يسن القيام عند (قد) من إقامتها (¬1)، وتسوية الصف (¬2). ويقول: (الله أكبر) (¬3)، رافعًا يديه، مضمومتي الأصابع، ممدودةً حذو منكبيه (¬4) - كالسجود (¬5) -. ويسمع الإمام من خلفه (¬6)؛ كقراءته في أولتي غير الظهرين، وغيره نفسه (¬7). ¬

_ (¬1) السنة لم ترد محددةً لموضع القيام ... ، فإذا كانت السنة غير محددةٍ للقيام؛ كان القيام عند أول الإقامة، أو في أثنائها، أو عند انتهائها، كل ذلك جائزٌ، المهم: أن تكون متهيئًا للدخول في الصلاة قبل تكبيرة الإحرام؛ لئلا تفوتك تكبيرة الإحرام. (¬2) القول الراجح: وجوب تسوية الصف. (¬3) هذا التكبير ركنٌ؛ لا تنعقد الصلاة بدونه. (¬4) وله أن يرفعهما إلى فروع أذنيه؛ لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون صفة الرفع من العبادات الواردة على وجوهٍ متنوعةٍ. (¬5) هذه إحدى الصفتين في السجود ... ، والصفة الأخرى: أن يسجد بين كفيه، لكن المؤلف ذكر هذا استطرادًا؛ لأنه ليس هذا موضع ذكر اليدين في حال السجود. (¬6) وإذا كان لا يسمع صوته من وراءه؛ استعان بمبلغٍ يبلغ عنه - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم -. (¬7) لا دليل على اشتراط إسماع النفس ... ، والصحيح: أنه متى أبان الحروف فإنه يصح التكبير والقراءة.

ثم يقبض كوع يسراه (¬1) تحت سرته (¬2). وينظر مسجده (¬3). ثم يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) (¬4). ثم يستعيذ. ثم يبسمل سرا - وليست من الفاتحة -. ثم يقرأ الفاتحة، فإن قطعها بذكرٍ أو سكوتٍ غير مشروعين وطال، أو ترك منها تشديدةً، أو حرفًا، أو ترتيبًا: لزم غير مأمومٍ إعادتها (¬5). ¬

_ (¬1) أفادنا المؤلف - رحمه الله -: أن السنة قبض الكوع، ولكن وردت السنة بقبض الكوع، ووردت السنة بوضع اليد على الذراع من غير قبضٍ؛ إذن: هاتان صفتان: الأولى قبضٌ، والثانية: وضعٌ. (¬2) ذهب آخرون من أهل العلم: إلى أنه يضعهما على الصدر، وهذا هو أقرب الأحوال. (¬3) ينظر المصلي إما إلى تلقاء وجهه وإما إلى موضع سجوده ... ، ولكن أيهما أرجح؟ الجواب: أن يختار ما هو أخشع لقلبه؛ إلا في موضعين: في حال الخوف، وفيما إذا جلس فإنه يرمي ببصره إلى موضع إشارته إلى أصبعه ... وأما النظر إلى السماء فإنه محرمٌ؛ بل من كبائر الذنوب. (¬4) هذا هو دعاء الاستفتاح ... ، [ولكن] هل هناك دعاءٌ آخر يستفتح به؟ الجواب: نعم، فيه أنواعٌ، ولشيخ الإسلام رسالةٌ في أنواع الاستفتاحات. (¬5) ظاهر كلامه: أنه يلزمه إعادة الفاتحة كلها، وليس هذا بوجيهٍ، وقد لا يكون هذا مراده؛ بل يلزمه إعادة ما أخل به وما بعده؛ لأن ما قبله وقع صحيحًا.

ويجهر الكل ب-: (آمين) في الجهرية، ثم يقرأ بعدها سورةً (¬1)؛ تكون: في الصبح من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره (¬2)، وفي الباقي من أوساطه (¬3). ولا تصح الصلاة بقراءةٍ خارجةٍ عن مصحف عثمان (¬4). ثم يركع مكبرًا، رافعًا يديه، ويضعهما على ركبتيه، مفرجتي الأصابع، مستويًا ظهره، ويقول: (سبحان ربي العظيم) (¬5). ¬

_ (¬1) قراءة السورة - على قول جمهور أهل العلم -: سنةٌ وليست بواجبةٍ ... وأفادنا المؤلف - رحمه الله - بقوله: (سورةً) إلى أن الذي ينبغي للإنسان أن يقرأه سورةٌ كاملةٌ، لا بعض السورة، ولا آياتٌ من أثناء السورة ... ، لكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في سنة الفجر آياتٍ من السور ... ، والأصل: أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض؛ إلا بدليلٍ. (¬2) لكنه [صلى الله عليه وسلم] أحيانًا يقرأ في الفجر من القصار، وفي المغرب من الطوال ... ، فدل ذلك على أنه ينبغي للإمام أن يكون غالبًا على ما ذكر المؤلف، ولكن لا بأس أن يطيل في بعض الأحيان في المغرب، ويقصر في الفجر. (¬3) هذا هو الأفضل. (¬4) أصح الأقوال: أنه إذا صحت هذه القراءة عمن قرأ بها من الصحابة فإنها مرفوعةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون حجةً، وتصح القراءة بها في الصلاة وخارج الصلاة؛ لأنها صحت موصولةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬5) لم يذكر المؤلف كم يقول ذلك، ولكن سيأتينا - إن شاء الله - في ذكر واجبات الصلاة أن الواجب مرةً، وما زاد فهو سنةٌ. وظاهر قول المؤلف: أنه لا يزيد عليها شيئًا؛ فلا يقول: (وبحمده) ... ، ولكن الصحيح: أن المشروع أن يقول أحيانًا: (وبحمده)؛ لأن ذلك قد جاءت به السنة ... وظاهر كلامه - أيضًا -: أنه لا يقول: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)، ولكن السنة قول ذلك ... وكذلك - أيضًا -: ظاهر كلام المؤلف: أنه لا يقول: (سبوحٌ قدوسٌ رب الملائكة والروح)، ولكن السنة قد جاءت به وصحت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم يرفع رأسه ويديه قائلًا - إمامٌ ومنفردٌ -: (سمع الله لمن حمده) (¬1). وبعد قيامهما: (ربنا ولك الحمد (¬2)؛ ملء السماء وملء الأرض، وملء ما شئت من شيءٍ بعد)، ومأمومٌ في رفعه: (ربنا ولك الحمد) فقط (¬3). ¬

_ (¬1) لا بد أن يكون بهذا اللفظ؛ فلو قال: (استجاب الله لمن أثنى عليه) فلا يصح ... ، ولا بد أن يكون هذا على الترتيب ... ؛ فلو قال: (الله سمع لمن حمده) لم يصح ... ؛ لأن السنة وردت هكذا. (¬2) يحتمل أن المؤلف اقتصر على هذه الصيغة طلبًا للاختصار، وعلى كل؛ فهذه الصيغة لها أربع صفاتٍ: الصفة الأولى: (ربنا ولك الحمد)، والصفة الثانية: (ربنا لك الحمد)، والصفة الثالثة: (اللهم ربنا لك الحمد)، والصفة الرابعة: (اللهم ربنا ولك الحمد). وكل واحدٍ من الصفات مجزئةٌ، ولكن الأفضل أن يقول هذا أحيانًا وهذا أحيانًا. (¬3) الدليل: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ربنا ولك الحمد». ولكن عند التأمل نجد أن هذا القول ضعيفٌ، وأن الحديث لا يدل عليه، وأن المأموم ينبغي أن يقول كما يقول الإمام والمنفرد؛ يعني يقول بعد رفعه: (ملء السماوات وملء الأرض، وملء وما شئت من شيءٍ بعد) ... ، وهذا هو القول الراجح في المسألة ... وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يزيد على هذا الذكر بعد القيام من الركوع، ولكن الصحيح: أنه يزيد ما جاءت به السنة ...

ثم يخر مكبرًا، ساجدًا على سبعة أعضاءٍ: رجليه، ثم ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته مع أنفه (¬1) - ولو مع حائلٍ ليس من أعضاء سجوده -، ويجافي عضديه عن جنبيه (¬2)، وبطنه عن فخذيه (¬3)، ويفرق ركبتيه (¬4)، ويقول: (سبحان ربي الأعلى) (¬5). ثم يرفع رأسه مكبرًا، ويجلس مفترشًا يسراه ناصبًا يمناه، ويقول: (رب اغفر لي) (¬6)، ويسجد الثانية كالأولى. ثم يرفع مكبرًا ناهضًا على صدور قدميه؛ معتمدًا على ركبتيه - إن سهل - (¬7). ¬

_ (¬1) السجود على هذه الأعضاء السبعة واجبٌ في كل حال السجود؛ بمعنى أنه لا يجوز أن يرفع عضوًا من أعضائه حال سجوده ... ، فإن فعل؛ فإن كان في جميع حال السجود فلا شك أن سجوده لا يصح ... ، وأما إن كان في أثناء السجود - بمعنى أن رجلًا حكته رجله مثلًا فحكها بالرجل الأخرى -؛ فهذا محل نظرٍ، قد يقال: إنها لا تصح صلاته ... ، وقد يقال: إنه يجزئه. (¬2) يستثنى من ذلك: ما إذا كان في الجماعة وخشي أن يؤذي جاره؛ فإنه لا يستحب له لأذية جاره. (¬3) وكذلك - أيضًا -: يرفع الفخذين عن الساقين. (¬4) ومن العلماء من يقول: إنه يفرق قدميه - أيضًا - ... ، ولكن الذي يظهر من السنة: أن القدمين تكونان مرصوصتين. (¬5) لم يذكر المؤلف - هنا - كم مرةً يقولها، ولم يذكر معها غيرها. والسنة: أن تكرر ثلاث مراتٍ، وأن يزيد معها ما جاءت به السنة - أيضًا -. (¬6) اقتصر - رحمه الله - على الواجب، ولكن الصحيح أنه يقول كل ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم. (¬7) استفدنا من كلامه أنه لا يجلس إذا قام إلى الركعة الثانية. وهذه المسألة [وهي جلسة الاستراحة] فيها خلافٌ بين أهل الحديث وبين الفقهاء - أيضًا -. فالقول الأول: لا يجلس - كما ذكره المؤلف - ... القول الثاني: يجلس مطلقًا ... القول الثالث: وسطٌ ... ، فقالوا: إن كان الإنسان محتاجًا إلى الجلوس - أي: لا يستطيع أن ينهض بدون جلوسٍ - فيجلس تعبدًا، وإذا كان يستطيع أن ينهض فلا يجلس ... ولكل قولٍ من هذه الأقوال الثلاثة دليلٌ ... و [القول الثالث]- كما ترى -: قولٌ وسطٌ، تجتمع فيه الأخبار كما قال صاحب «المغني» - رحمه الله - ... ، وكنت أميل إلى أنها مستحبةٌ على الإطلاق، وأن الإنسان ينبغي أن يجلس، وكنت أفعل ذلك - أيضًا - بعد أن كنت إمامًا، ولكن تبين لي بعد التأمل الطويل أن هذا القول المفصل قولٌ وسطٌ، وأنه أرجح من القول بالاستحباب مطلقًا وإن كان الرجحان فيه ليس قويا عندي، لكن تميل إليه نفسي أكثر، فاعتمدت ذلك.

ويصلي الثانية كذلك؛ ما عدا التحريمة، والاستفتاح، والتعوذ (¬1)، وتجديد النية (¬2). ثم يجلس مفترشًا، ويداه على فخذيه (¬3)، يقبض خنصر يده اليمنى وبنصرها، ¬

_ (¬1) قال في «الروض»: (إذا لم يتعوذ في الأولى، فيتعوذ في الثانية)، وهذا استثناءٌ جيدٌ ... وقال بعض أهل العلم: بل يتعوذ في كل ركعةٍ ... . والأمر في هذا واسعٌ. (¬2) ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله -: أن الركعة الثانية كالأولى في مقدار القراءة؛ لأنه لم يستثن إلا هذه المسائل الأربع ... ، والصواب خلاف ذلك؛ فإن القراءة في الركعة الثانية دون القراءة في الركعة الأولى. (¬3) ظاهر كلامه: أنه لا يقدمهما حتى تكونا على الركبة ... ، وعلى هذا: فلا يلقم اليسرى ركبته، ولا يضع اليمنى على حرف الفخذ، هذا ما قاله المؤلف، ولكن السنة دلت على مشروعية الأمرين ... وعلى هذا نقول: إن اليدين لهما صفتان في الرفع والسجود والجلوس.

ويحلق إبهامها مع الوسطى (¬1)، ويشير بسبابتها في تشهده (¬2)، ويبسط اليسرى، ويقول: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)، هذا التشهد الأول (¬3). ثم يقول: (اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركت على آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيدٌ). ¬

_ (¬1) وهناك صفةٌ أخرى؛ بأن يضم الخنصر والبنصر والوسطى، ويضم إليها الإبهام وتبقى السبابة مفتوحةً؛ فهاتان - أيضًا - صفتان في كيفية أصابع اليد اليمنى. (¬2) السنة دلت على أنه يشير بها عند الدعاء فقط ... ، وكلما دعوت تشير إشارةً إلى علو من تدعوه - سبحانه وتعالى -، وهذا أقرب إلى السنة. (¬3) ظاهر كلام المؤلف أنه لا يزيد في التشهد الأول على ما ذكر، وعلى هذا: فلا يستحب أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول. وهذا الذي مشى عليه المؤلف: ظاهر السنة ... ، ومع ذلك لو أن أحدًا من الناس صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع ما أنكرنا عليه، لكن لو سألنا أيهما أحسن؟ لقلنا: الاقتصار على التشهد فقط، ولو صلى لم ينه عن هذا الشيء؛ لأنه زيادة خيرٍ، وفيه احتمالٌ، لكن اتباع ظاهر السنة أولى.

ويستعيذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال (¬1)، ويدعو بما ورد (¬2). ¬

_ (¬1) في التعوذ من هذه الأربع قولان: القول الأول: أنه واجبٌ، والقول الثاني: أنه سنةٌ. ولا شك أنه لا ينبغي الإخلال بها، فإن أخل بها فهو على خطرٍ من أمرين: الإثم، وألا تصح صلاته، ولهذا كان بعض السلف يأمر من لم يتعوذ منها بإعادة الصلاة. (¬2) ليس مراده أن كل دعاءٍ ورد في السنة يدعى به هنا، وإنما مراده بما ورد الدعاء به في هذا المكان ... وظاهر كلام المؤلف: أنه لا بد أن يكون الدعاء واردًا، ولكن هل مراده أن يكون واردًا باعتبار الجنس، أو باعتبار النوع والعين؟ الجواب: فيه احتمالٌ ... ، لكن الاحتمال الأول أشمل، وهو أن يدعو باعتبار الجنس، وهو ما يتعلق بأمور الآخرة، فيدعو بما يتعلق بأمور الآخرة بما شاء، ولكن هاهنا مسألةٌ؛ وهي أنه ينبغي المحافظة على الوارد في هذا المكان بعينه، ثم بعد ذلك يدعو بما شاء. وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يدعو بغير ما ورد ... ، فلا يدعو بشيءٍ من أمور الدنيا ... ، حتى قال بعض الفقهاء - رحمهم الله -: لو دعا بشيءٍ مما يتعلق بأمور الدنيا بطلت صلاته. لكن هذا قولٌ ضعيفٌ - بلا شك -، والصحيح: أنه لا بأس أن يدعو بشيءٍ يتعلق بأمور الدنيا. مسألةٌ: هل يجوز الدعاء لمعينٍ؟ ... الجواب: يجوز ... ، لكن لو دعا لشخصٍ بصيغة الخطاب، فقال - مثلًا -: (غفر الله لك يا شيخ الإسلام ابن تيمية)؛ فالفقهاء يقولون: تبطل ... ، ولكن هذا القول في النفس منه شيءٌ ... ، ولكن درءًا للشبهة بدل أن تقول: (غفر الله لك)، فقل: (اللهم اغفر له)، فهذا جائزٌ بالاتفاق. [تنبيهٌ]: ما ورد مقيدًا بدبر الصلاة: فإن كان ذكرًا فهو بعد السلام، وإن كان دعاءً فهو قبل السلام.

ثم يسلم عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله)، وعن يساره كذلك. وإن كان في ثلاثيةٍ أو رباعيةٍ: نهض مكبرًا بعد التشهد الأول (¬1)، وصلى ما بقي كالثانية بالحمد فقط (¬2). ثم يجلس في تشهده الأخير متوركًا، والمرأة مثله لكن تضم نفسها (¬3) وتسدل رجليها في جانب يمينها (¬4). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا يرفع يديه؛ لأنه لم يذكره ... ، ولكن الصحيح: أنه يرفع يديه؛ لأنه صح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) أي: بالفاتحة لا يزيد عليها، وهذا هو مقتضى حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - الثابت في «الصحيحين» ... ، ولكن في حديث أبي سعيد الخدري ما يدل على أن الركعتين الأخريين يقرأ فيهما ... ، وهذا يدل على أنه جعل الركعتين الأوليين سواءً، والركعتين الأخريين سواءً. لكن رجح بعض العلماء حديث أبي قتادة لأنه متفقٌ عليه، وحديث أبي سعيدٍ في «مسلمٍ»، ولأن حديث أبي قتادة جزم به الراوي، وأما حديث أبي سعيدٍ فقال: «حزرنا قيامه»؛ أي: خرصناه وقدرناه، وفرقٌ بين من يجزم بالشيء وبين من يخرصه ويقدره ... ولكن الذي يظهر: أن إمكان الجمع حاصلٌ بين الحديثين؛ فيقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أحيانًا يفعل ما يدل عليه حديث أبي سعيدٍ، وأحيانًا يفعل ما يدل عليه حديث أبي قتادة. (¬3) القول الراجح: أن المرأة تصنع كما يصنع الرجل في كل شيءٍ، فترفع يديها وتجافي، وتمد الظهر في حال الركوع، وترفع بطنها عن الفخذين، والفخذين عن الساقين في حال السجود. (¬4) هذا - أيضًا - ليس عليه دليلٌ؛ بل الدليل يدل على أنها تفعل كما يفعل الرجل؛ تفترش في الجلوس بين السجدتين، وفي التشهد الأول، وفي التشهد الأخير في صلاةٍ ليس فيها إلا تشهدٌ واحدٌ، وتتورك في التشهد الأخير في الثلاثية والرباعية. وعلى هذا: تكون المرأة مساويةً للرجل في كيفية الصلاة.

فصلٌ ويكره في الصلاة: التفاته (¬1)، ورفع بصره إلى السماء (¬2)، وتغميض عينيه (¬3)، وإقعاؤه، وافتراش ذراعيه ساجدًا، وعبثه، وتخصره، وتروحه (¬4)، وفرقعة أصابعه، وتشبيكها (¬5)، وأن يكون حاقنًا (¬6)، أو بحضرة طعامٍ يشتهيه (¬7)، وتكرار ¬

_ (¬1) لكن إذا كان الالتفات لحاجةٍ فلا بأس. (¬2) القول الراجح في رفع البصر إلى السماء في الصلاة أنه حرامٌ، وليس بمكروهٍ ... ، ولكن الذي يظهر لي أن المسألة لا تصل إلى حد البطلان. (¬3) لكن لو فرض أن بين يديك شيئًا لا تستطيع أن تفتح عينيك أمامه لأنه يشغلك؛ فحينئذٍ لا حرج أن تغمض بقدر الحاجة، وأما بدون الحاجة فإنه مكروهٌ - كما قال المؤلف -، ولا تغتر بما يلقيه الشيطان في قلبك من أنك إذا أغمضت صار أخشع لك. (¬4) أي: أن يروح على نفسه بالمروحة؛ مأخوذةٌ من الريح ... ، لكن إذا دعت الحاجة إلى ذلك بأن كان قد أصابه غم وحر شديدٌ ... في الصلاة فإن ذلك لا بأس به؛ لأن القاعدة عند الفقهاء: أن المكروه يباح للحاجة. وأما التروح الذي هو المراوحة بين القدمين؛ بحيث يعتمد على رجلٍ أحيانًا وعلى رجلٍ أخرى أحيانًا؛ فهذا لا بأس به، ولا سيما إذا طال وقوف الإنسان، ولكن بدون أن يقدم إحدى الرجلين على الثانية؛ بل تكون الرجلان متساويتين، وبدون كثرةٍ. (¬5) أما بعد الصلاة فلا يكره شيءٌ من ذلك؛ لا الفرقعة ولا التشبيك ... ، أما الفرقعة فإن خشي أن تشوش على من حوله إذا كان في المسجد فلا يفعل. (¬6) وإذا كان حاقبًا فهو مثله، والحاقب: هو الذي حبس الغائط؛ فيكره أن يصلي وهو حابسٌ للغائط يدافعه ... ، وكذلك إذا كان محتبس الريح؛ فإنه يكره أن يصلي وهو يدافعها. (¬7) اشترط المؤلف شرطين، وهما: أن يكون الطعام حاضرًا، وأن تكون نفسه تتوق إليه. وينبغي أن يزاد شرطٌ ثالثٌ، وهو: أن يكون قادرًا على تناوله حسا وشرعًا ... فالشرعي: كالصائم إذا حضر طعام الفطور عند صلاة العصر، والرجل جائعٌ جدا؛ فلا نقول: لا تصل العصر حتى تأكله بعد غروب الشمس ... والمانع الحسي: كما لو قدم له طعامٌ حار لا يستطيع أن يتناوله فهل يصلي أو يصبر حتى يبرد ثم يأكل ثم يصلي؟ الجواب: يصلي ولا تكره صلاته؛ لأن انتظاره لا فائدة منه. وكلام المؤلف يدل على أن الصلاة في هذه الحال مكروهةٌ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة»، وهل هذا النفي نفي كمالٍ أو نفي صحةٍ؟ الجواب: جمهور أهل العلم على أنه نفي كمالٍ ... وقال بعض العلماء: بل النفي نفيٌ للصحة، فلو صلى وهو يدافع الأخبثين بحيث لا يدري ما يقول فصلاته غير صحيحةٍ ... ، وعلى هذا: تكون صلاته في هذه الحال محرمةً ... وكل من القولين قوي جدا.

الفاتحة (¬1)، لا جمع سورٍ في فرضٍ كنفلٍ. وله: - رد المار بين يديه (¬2). ¬

_ (¬1) لكن إذا كرر الفاتحة لا على سبيل التعبد؛ بل لفوات وصفٍ مستحب؛ فالظاهر الجواز؛ مثل: أن يكررها لأنه نسي فقرأها سرا في حالٍ يشرع فيها الجهر. (¬2) اللام هنا للإباحة ... ؛ فقول المؤلف: (له رد المار بين يديه) يقتضي أن هذا مباحٌ ... ، ولكن ما يقتضيه كلام المؤلف - رحمه الله - خلاف المذهب. فالمذهب: أن الرد سنةٌ ... . وعن الإمام أحمد - رحمه الله - روايةٌ ثالثةٌ: أن رد المار واجبٌ؛ فإن لم يفعل فهو آثمٌ، ولا فرق بين ما يقطع الصلاة مروره، أو لا يقطع ... وهذه الرواية عن أحمد ... دليلها الأثري والنظري قويان. ويحتمل أن يقول: يفرق بين المار الذي يقطع الصلاة مروره، والمار الذي لا يقطع الصلاة مروره؛ فالذي يقطع الصلاة مروره يجب رده، والذي لا يقطع الصلاة مروره لا يجب رده ... ، وهو قولٌ قوي.

- وعد الآي (¬1). - والفتح على إمامه (¬2). - ولبس الثوب (¬3). ¬

_ (¬1) لكن لا يعدها باللفظ؛ لأنه لو عدها باللفظ لكان كلامًا، والكلام مبطلٌ للصلاة، لكن يعدها بأصابعه أو يعدها بقلبه، ولا تبطل الصلاة بعمل القلب، ولا تبطل بعمل الجوارح؛ إلا إذا كثر وتوالى لغير ضرورةٍ. (¬2) الاقتصار على الإباحة - التي هي ظاهر كلام المؤلف -: فيه نظرٌ، وذلك أن الفتح على الإمام ينقسم إلى قسمين: فتحٌ واجبٌ، وفتحٌ مستحب. فأما الفتح الواجب؛ فهو الفتح عليه فيما يبطل الصلاة تعمده؛ فلو زاد ركعةً كان الفتح عليه واجبًا ... وأما الفتح المستحب فهو فيما يفوت كمالًا؛ فلو نسي الإمام أن يقرأ سورةً مع الفاتحة؛ فالتنبيه - هنا - سنةٌ. (¬3) كلام المؤلف يحتاج إلى تفصيلٍ: فإن كان يترتب على لبسه صحة الصلاة فلبسه - حينئذٍ - واجبٌ؛ مثل أن يكون عريانًا ليس معه ثيابٌ؛ لأن العريان يصلي على حسب حاله، وفي أثناء صلاته جيء إليه بثوبٍ؛ فلبس الثوب - هنا - واجبٌ، ولا نقول: (أبطل صلاتك، والبس ثوبك)؛ لأن ما سبق من الصلاة مأذونٌ فيه شرعًا لا يمكن إبطاله؛ بل يبني عليه ... أما إذا كان لا يتوقف على لبسه صحة الصلاة؛ فالمؤلف يقول: (له ذلك)، ولكن هل يفعل هذا؟ أو نقول: لا تفعله إلا لحاجةٍ؟ الجواب: نقول: لا تفعله إلا لحاجةٍ؛ ومن الحاجة: أن يبرد الإنسان في صلاته بعد أن شرع فيها والثوب حوله؛ فله أن يأخذه ويلبسه.

- ولف العمامة (¬1). - وقتل: حيةٍ وعقربٍ (¬2) وقملٍ (¬3). فإن أطال الفعل عرفًا من غير ضرورةٍ ولا تفريقٍ: بطلت - ولو سهوًا (¬4) -. ويباح قراءة أواخر السور وأوساطها (¬5). وإذا نابه شيءٌ: سبح رجلٌ وصفقت امرأةٌ ببطن كفها على ظهر الأخرى (¬6). ¬

_ (¬1) إن كان انحلالها يشغله فلفها - حينئذٍ - مشروعٌ ... ، وإن كان لا يشغله فالأمر مباحٌ وليس بمشروعٍ. . (¬2) بل يسن له ذلك ... ، فإن هاجمته وجب أن يقتلها دفاعًا عن نفسه. (¬3) إن أشغلته كان قتلها مستحبا. (¬4) (ولو) - هنا -: إشارة خلافٍ؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إذا وقع هذا الفعل من الإنسان سهوًا فإن صلاته لا تبطل ... ، وهذا مما أستخير الله فيه أيهما أرجح. (¬5) أي: إنه ليس بممنوعٍ، وقد يكون سنةً ... ، ولكن القول بالإباحة لا يساوي أن يقرأ الإنسان سورةً كاملةً في كل ركعةٍ؛ لأن هذا هو الأصل. (¬6) قال بعض العلماء: بظهر كفها على بطن الأخرى. وقال بعض العلماء: ببطن كفها على بطن الأخرى ... وعلى كل؛ فالأمر واسعٌ؛ المهم ألا تسبح بحضرة الرجال.

ويبصق في الصلاة عن يساره، وفي المسجد في ثوبه. وتسن صلاته إلى سترةٍ قائمةٍ كمؤخرة الرحل، فإن لم يجد شاخصًا فإلى خط. وتبطل بمرور كلبٍ أسود بهيمٍ فقط (¬1). وله: التعوذ عند آية وعيدٍ، والسؤال عند آية رحمةٍ (¬2) - ولو في فرضٍ - (¬3). ¬

_ (¬1) أما صعود الكلب بين يدي المصلي فلا يبطلها، ولو فرضنا أن كلبًا أمامك فإن صلاتك لا تبطل. وأما المرأة والحمار؛ فلا تبطل الصلاة بمرورهما - على ما أفاده كلام المؤلف -، وهو المذهب ... والقول الراجح في هذه المسألة: أن الصلاة تبطل بمرور المرأة والحمار والكلب الأسود؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين الإمام والمأموم والمنفرد. أما المنفرد والإمام فمسلمٌ أن لهما أن يتعوذا عند آية الوعيد، ويسألا عند آية الرحمة. وأما المأموم فغير مسلمٍ - على الإطلاق -؛ بل في ذلك تفصيلٌ، وهو: إن أدى ذلك إلى عدم الإنصات للإمام فإنه ينهى عنه، وإن لم يؤد إلى عدم الإنصات فإن له ذلك ... ولهذا لو دخلت في صلاةٍ جهريةٍ والإمام يقرأ فلا تستفتح؛ بل كبر واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، واقرإ الفاتحة. (¬3) الراجح في حكم هذه المسألة أن نقول: أما في النفل - ولا سيما في صلاة الليل - فإنه يسن أن يتعوذ عند آية الوعيد ويسأل عند آية الرحمة؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم ... وأما في صلاة الفرض فليس بسنةٍ وإن كان جائزًا.

فصلٌ أركانها: القيام، والتحريمة، والفاتحة (¬1)، والركوع (¬2) - والاعتدال عنه (¬3) -، والسجود على الأعضاء السبعة - والاعتدال عنه -، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة في الكل، والتشهد الأخير - وجلسته -، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه (¬4)، والترتيب، والتسليم (¬5). ¬

_ (¬1) لا يستثنى أحدٌ [من قراءة الفاتحة] إلا المسبوق إذا وجد الإمام راكعًا أو أدرك من قيام الإمام ما لم يتمكن معه من قراءة الفاتحة. (¬2) يستثنى من هذا: الركوع الثاني وما بعده في صلاة الكسوف؛ فإنه سنةٌ ... ، والعاجز. (¬3) لو قال المؤلف: (الرفع منه) لكان أنسب؛ لأنه أسبق من الاعتدال. (¬4) اختلف العلماء في [حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير] على أقوالٍ: القول الأول: أنها ركنٌ ... القول الثاني: أنها واجبٌ ... القول الثالث: أن الصلاة على النبي سنةٌ، وليست بواجبٍ ولا ركنٍ ... ، وهذا القول أرجح الأقوال إذا لم يكن سوى هذا الدليل الذي استدل به الفقهاء - رحمهم الله -[وهو: أن الصحابة - رضي الله عنهم - سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «قولوا: اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمدٍ»]. (¬5) والأقرب: أن التسليمتين كلتاهما ركنٌ ... ، لكن الفقهاء استثنوا صلاة الجنازة، فقالوا: ليس فيها إلا تسليمةٌ واحدةٌ، ولم يقولوا: إن الثانية سنةٌ.

وواجباتها: التكبير - غير التحريمة (¬1) -، والتسميع، والتحميد، وتسبيحتا الركوع والسجود، وسؤال المغفرة مرةً مرةً - ويسن ثلاثًا -، والتشهد الأول - وجلسته -. وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة: سنةٌ. فمن ترك شرطًا لغير عذرٍ - غير النية (¬2)؛ فإنها لا تسقط بحالٍ -، أو تعمد ترك ركنٍ أو واجبٍ: بطلت صلاته، بخلاف الباقي، وما عدا ذلك سننٌ - أقوالٌ وأفعالٌ -، لا يشرع السجود لتركه، وإن سجد فلا بأس (¬3). ¬

_ (¬1) ويستثنى ما يلي: التكبيرات الزوائد في صلاة العيد والاستسقاء فإنها سنةٌ، وتكبيرات الجنائز فإنها أركانٌ، وتكبيرة الركوع لمن أدرك الإمام راكعًا فإنها سنةٌ. (¬2) المؤلف - رحمه الله - استثنى النية؛ لأن النية محلها القلب، ولا يمكن العجز عنها، لكن في الحقيقة يمكن النسيان فيها ... ، وهذا مما يستدرك على المؤلف. (¬3) عندي في ذلك تفصيلٌ، وهو: أن الإنسان إذا ترك شيئًا من الأقوال والأفعال المستحبة نسيانًا، وكان من عادته أن يفعله؛ فإنه يشرع أن يسجد جبرًا لهذا النقص الذي هو نقص كمالٍ ... ، أما إذا ترك سنةً ليس من عادته أن يفعلها؛ فهذا لا يسن له السجود؛ لأنه لم يطرأ على باله أن يفعلها.

باب سجود السهو

باب سجود السهو يشرع لزيادةٍ، ونقصٍ، وشك - لا في عمدٍ - في الفرض والنافلة (¬1). فمتى زاد فعلًا من جنس الصلاة - قيامًا أو قعودًا أو ركوعًا أو سجودًا -: عمدًا بطلت، وسهوًا يسجد له. وإن زاد ركعةً فلم يعلم حتى فرغ منها: سجد، وإن علم فيها: جلس في الحال، فتشهد - إن لم يكن تشهد -، وسجد، وسلم (¬2). وإن سبح (¬3) به ثقتان (¬4)، فأصر، ولم يجزم بصواب نفسه: بطلت ¬

_ (¬1) لكن بشرط أن تكون الصلاة ذات ركوعٍ وسجودٍ؛ احترازًا من صلاة الجنازة؛ فإن صلاة الجنازة لا يشرع فيها سجود السهو. (¬2) ظاهر كلامه - رحمه الله -: أنه يسجد قبل السلام، ... ، وهو المذهب؛ لأنهم لا يرون السجود بعد السلام إلا فيما إذا سلم قبل إتمامها فقط، وأما ما عدا ذلك فهو قبل السلام، لكن القول الراجح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية أن السجود للزيادة يكون بعد السلام مطلقًا. (¬3) تقييد المؤلف ذلك بالتسبيح من باب ضرب المثل، أو من باب الغالب، أو مراعاةً للفظ الحديث، وقد عبر بعض الفقهاء بقوله: (وإن نبهه ثقتان)، وهذه العبارة أشمل من عبارة المؤلف. (¬4) لو سبح به رجلٌ واحدٌ فقط فلا يلزمه الرجوع ... ، لكن إن غلب على ظنه صدقه أخذ بقوله على القول بجواز البناء على غلبة الظن، وهو الصحيح. [وظاهر كلام المؤلف: أنه] إذا سبح به مجهولان فلا يرجع إلى قولهما؛ لأنه لم يثبت كونهما ثقتين؛ ولكن الحقيقة أن الإمام يقع في مثل هذا الحرج لأنه يسمع التسبيح من ورائه، ولا يدري من المسبح، قد يكون ثقةً وقد لا يكون ثقةً، لكن الغالب أن الإمام - في هذه الحال - يكون عنده شك، ويترجح عنده أن اللذين سبحا به على صوابٍ، وحينئذٍ له أن يرجع إلى قولهما؛ لأن القول الراجح أنه يبني على غلبة الظن.

صلاته (¬1) وصلاة من تبعه عالمًا - لا جاهلًا، أو ناسيًا، ولا من فارقه - (¬2). ¬

_ (¬1) فهم من كلام المؤلف: أنه إذا سبح ثقتان فلا يخلو من خمس حالاتٍ: الأولى: أن يجزم بصواب نفسه، فيأخذ به، ولا يرجع إلى قولهما. الثانية: أن يجزم بصوابهما. الثالثة: أن يغلب على ظنه صوابهما. الرابعة: أن يغلب على ظنه خطؤهما. الخامسة: أن يتساوى عنده الأمران. ففي هذه الأحوال الأربع يأخذ بقولهما - على كلام المؤلف -، والصحيح: أنه لا يأخذ بقولهما إذا ظن خطأهما. (¬2) أقسام الذين يتابعون الإمام على الزائد: أن يروا أن الصواب معه، وأن يروا أنه مخطئٌ فيتابعوه مع العلم بالخطإ، وأن يتابعوه جهلًا بالخطإ أو بالحكم الشرعي أو نسيانًا، وأن يفارقوه. فإذا تابعوه وهم يرون أن الصواب معه؛ فالصلاة معه صحيحةٌ. وإذا وافقوه جهلًا منهم أو نسيانًا؛ فصلاتهم صحيحةٌ للعذر. وإذا تابعوه وهم يعلمون أنه زائدٌ وأنه تحرم متابعته في الزيادة؛ فصلاتهم باطلةٌ؛ لأنهم تعمدوا الزيادة. وإن فارقوه؛ فصلاته صحيحةٌ؛ لأنهم قاموا بالواجب عليهم.

وعملٌ مستكثرٌ (¬1) عادةً من غير جنس الصلاة (¬2): يبطلها - عمده وسهوه (¬3) -، ولا يشرع ليسيره سجودٌ. ولا تبطل بيسير أكلٍ أو شربٍ سهوًا (¬4)، ولا نفلٌ بيسير شربٍ عمدًا (¬5). وإن أتى بقولٍ مشروعٍ في غير موضعه - كقراءةٍ في سجودٍ (¬6)، وقعودٍ (¬7)، ¬

_ (¬1) لو عبر المؤلف بقوله: (كثيرٌ) لأغنى عن قوله: (مستكثرٌ)؛ لأن المعنى واحدٌ. (¬2) قوله: (من غير جنس الصلاة) يحتاج إلى زيادة قيدٍ، وهو: أن يكون متواليًا لغير ضرورةٍ؛ لأنه إذا كان لضرورةٍ فإنه لا يبطل الصلاة - ولو كثر - ... ، وكذلك لو كان غير متوالٍ؛ بحيث يقوم بعملٍ في كل ركعةٍ يسيرًا، وبمجموعه في الركعات يكون كثيرًا فإن الصلاة لا تبطل به؛ لأنه لا ينافي الصلاة. (¬3) أما عمده فواضحٌ، وأما سهوه فقال المؤلف: إنه يبطل الصلاة ... والقول الثاني: أنه إذا كان سهوًا فإنه لا يبطل الصلاة ما لم يغير الصلاة عن هيئتها؛ مثل: لو سها وكان جائعًا فتقدم إلى الطعام فأكل ناسيًا أنه في صلاةٍ، فلما شبع ذكر أنه يصلي؛ فهذا منافٍ غاية المنافاة للصلاة فيبطلها، فإن كان لا ينافي الصلاة منافاةً بينةً؛ فالصحيح أنه لا يبطل الصلاة. (¬4) [أي]: لو كان كثيرًا فتبطل به الصلاة ولو كان ساهيًا ... ، وقيل: لا تبطل إذا كان ساهيًا، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد. (¬5) والقول الثاني في أصل المسألة: أنه لا يعفى عن يسير الشرب في النفل عمدًا؛ كما لا يعفى عنه في الفرض، وبه قال أكثر أهل العلم. (¬6) أي: مع الإتيان ب- (سبحان ربي الأعلى). (¬7) [أي]: مع قوله: (رب اغفر لي).

وتشهدٍ في قيامٍ (¬1)، وقراءة سورةٍ في الأخيرتين -: لم تبطل، ولم يجب له سجودٌ؛ بل يشرع (¬2). وإن سلم قبل إتمامها عمدًا: بطلت، وإن كان سهوًا ثم ذكر قريبًا (¬3): أتمها وسجد (¬4). فإن طال الفصل أو تكلم لغير مصلحتها: بطلت (¬5)؛ ككلامه في صلبها (¬6)، ¬

_ (¬1) [أي]: قرأ في التشهد مع إتيانه بالتشهد. (¬2) المذهب: التفريق بين القول المسنون والفعل المسنون؛ حيث قالوا: إن أتى بقولٍ مشروعٍ في غير موضعه سن له سجود السهو، وإن أتى بفعلٍ مسنونٍ في غير موضعه لم يسن له السجود. وفي هذا التفريق نظرٌ؛ فإن عموم الأدلة في السجود للسهو يقتضي أنه لا فرق. (¬3) يشترط - أيضًا - شرطٌ آخر، وهو: ألا يفعل ما ينافي الصلاة؛ فإن فعل ما ينافي الصلاة ... ؛ فإنه لا يبني على صلاته لفوات الشرط، وهذا ظاهرٌ في الحدث. (¬4) ظاهر كلامه العموم، وأنه لا فرق بين أن يسلم ظانا أنها تمت وبين أن يسلم جازمًا أنها تمت لكونه يظن أنه في صلاةٍ أخرى. وبين المسألتين فرقٌ؛ فإذا سلم ظانا أنها تمت؛ فهذا ما أراده المؤلف ... ، وأما إذا سلم على أنها تمت الصلاة بناءً على أنه في صلاةٍ أخرى لا تزيد على هذا العدد ... ؛ فهنا لا يبني على ما سبق؛ لأنه سلم يعتقد أن الصلاة تامةً بعددها، وأنه ليس فيها نقصٌ، فيكون قد سلم من صلاةٍ غير الصلاة التي هو فيها، ولهذا لا يبني بعضها على بعضٍ. (¬5) الصحيح: أن الصلاة لا تبطل بذلك؛ لأنه إنما تكلم بناءً على أن الصلاة قد تمت، فيكون معذورًا. (¬6) القول الراجح: لا تبطل بالكلام ناسيًا أو جاهلًا - كما سبق -.

ولمصلحتها إن كان يسيرًا: لم تبطل (¬1). وقهقهةٌ ككلامٍ (¬2). وإن نفخ (¬3)، أو انتحب من غير خشية الله - تعالى - (¬4)، أو تنحنح من غير حاجةٍ، فبان حرفان (¬5): بطلت (¬6). ¬

_ (¬1) فصل المؤلف - رحمه الله - في الكلام، وجعله على أقسامٍ فيما إذا تكلم بعد سلامه ناسيًا: القسم الأول: أن يتكلم لغير مصلحة الصلاة؛ فهنا تبطل بكل حالٍ. القسم الثاني: أن يتكلم لمصلحة الصلاة بكلامٍ يسيرٍ؛ فهنا لا تبطل ... القسم الثالث: أن يكون كثيرًا لمصلحة الصلاة؛ فتبطل. والقول الثاني: أن الصلاة لا تبطل بهذه المسائل الثلاث كلها ... ، وهذا هو الصحيح. وكذلك على القول الصحيح: لا تبطل بالأكل والشرب - ونحوهما - إذا سلم ناسيًا؛ لأنه لم يتعمد فعل المبطل؛ فهو جاهلٌ بحقيقة الحال ... وكذلك لو تكلم في صلب الصلاة ناسيًا أو جاهلًا؛ فإنها لا تبطل - على القول الراجح -. (¬2) إن قهقه مغلوبًا على أمره ... فقهقه بغير اختياره؛ فإن صلاته - على القول الراجح - لا تبطل. (¬3) إن كان عبثًا أبطل الصلاة لأنه عبثٌ، وإن كان لحاجةٍ فإنه لا يبطل الصلاة ولو بان منه حرفان؛ لأنه ليس بكلامٍ. (¬4) الصحيح: أنه إذا غلبه البكاء حتى انتحب لا تبطل صلاته؛ لأن هذا بغير اختياره؛ سواءٌ كان من غير خشية الله - كما سبق - أم من خشية الله. (¬5) كون المسألة تعلل بأن ما كان حرفين فهو كلامٌ، وما دون ذلك ليس بكلامٍ: فيه نظرٌ. (¬6) القول الراجح: أن الصلاة لا تبطل بذلك ولو بان حرفان لأن ذلك ليس بكلامٍ.

فصلٌ ومن ترك ركنًا فذكره بعد شروعه في قراءة ركعةٍ أخرى: بطلت التي تركه منها (¬1)، وقبله يعود وجوبًا فيأتي به وبما بعده، وإن علم بعد السلام: فكترك ركعةٍ كاملةٍ (¬2). وإن نسي التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائمًا، فإن استتم قائمًا كره رجوعه (¬3)، وإن لم ينتصب لزمه الرجوع، وإن شرع في القراءة حرم الرجوع. وعليه السجود للكل. ومن شك في عدد الركعات: أخذ بالأقل (¬4). ¬

_ (¬1) والقول الثاني: أنها لا تبطل الركعة التي تركه منها؛ إلا إذا وصل إلى محله في الركعة الثانية، وبناءً على ذلك يجب عليه الرجوع ما لم يصل إلى موضعه من الركعة الثانية ... ، وهذا القول هو الصحيح. (¬2) والقول الثاني: أنه لا يلزمه أن يأتي بركعةٍ كاملةٍ، وإنما يأتي بما ترك وبما بعده؛ لأن ما قبل المتروك وقع في محله صحيحًا، فلا يلزم الإنسان مرةً أخرى، أما ما بعد المتروك فإنما قلنا بوجوب الإتيان به من أجل الترتيب ... ، وهذا القول هو الصحيح. أما التحريمة فلا تنعقد الصلاة بتركها. (¬3) قال بعض العلماء: يحرم الرجوع إذا استتم قائمًا؛ سواءٌ شرع في القراءة أم لم يشرع؛ لأنه انفصل عن محل التشهد تمامًا، وهذا أقرب إلى الصواب. (¬4) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن يكون لديه ترجيحٌ أو لا ... والقول الثاني في المسألة: أنه إذا شك وترجح عنده أحد الأمرين؛ أخذ بالمترجح؛ سواءٌ كان هو الزائد أم الناقص ... وبناءً على ذلك نقول: إذا شك في عدد الركعات؛ فإن غلب على ظنه أحد الاحتمالين عمل به وبنى عليه وسجد سجدتين بعد السلام، وإن لم يترجح عنده أحد الاحتمالين أخذ بالأقل وبنى عليه وسجد قبل السلام.

وإن شك في ترك ركنٍ: فكتركه (¬1). ولا يسجد: لشكه في ترك واجبٍ (¬2)، أو زيادةٍ (¬3). ¬

_ (¬1) مثاله: قام إلى الركعة الثانية، فشك: هل سجد مرتين أم مرةً واحدةً؟ فإن شرع في القراءة فلا يرجع، وقبل الشروع يرجع. وعلى القول الراجح: يرجع مطلقًا ما لم يصل إلى موضعه من الركعة التالية، فيرجع ويجلس، ثم يسجد، ثم يقوم ... ، لكن إذا غلب على ظنه أنه فعله فعلى القول الراجح، وهو العمل بغلبة الظن يكون فاعلًا له حكمًا ولا يرجع ... ، ولكن عليه سجود السهو بعد السلام. (¬2) في المسألة قولان: القول الأول: أن الشك في ترك الواجب كتركه، وعليه سجود السهو ... القول الثاني: لا سجود عليه؛ لأنه شك في سبب وجوب السجود ... ولكن التعليل الأول أصح ... ، وإذا أخذنا بالقول الراجح - وهو اتباع غالب الظن -، فإذا غلب على ظنك أنك تشهدت فلا سجود عليك، وإن غلب على ظنك أنك لم تتشهد فعليك السجود. (¬3) قوله: (أو زيادةٍ) يدخله استثناءان: الأول: ما لم يتقين الزيادة، وهذا ربما نقول: إنه لا يحتاج إلى استثناءٍ؛ لأنه ليس بشك. الاستثناء الثاني: إذا شك في الزيادة حين فعلها وتبين عدمها؛ فإنه يجب عليه السجود؛ لأنه أدى جزءًا من صلاته مترددًا في كونه منها، فوجب عليه السجود لهذا الشك.

ولا سجود على مأمومٍ إلا تبعًا لإمامه (¬1). وسجود السهو لما يبطل عمده: واجبٌ. وتبطل بترك سجودٍ أفضليته قبل السلام فقط (¬2). وإن نسيه وسلم: سجد إن قرب زمنه. ومن سها مرارًا: كفاه سجدتان. ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أنها تجب متابعته ولو بعد السلام ... ، والصحيح في هذه المسألة: أن الإمام إذا سجد بعد السلام لا يلزم المأموم متابعته؛ لأن المتابعة - حينئذٍ - متعذرةٌ؛ فإن الإمام سيسلم، ولو تابعه في السلام لبطلت الصلاة؛ لوجود الحائل دونها، وهو السلام. (¬2) أفادنا المؤلف - رحمه الله - هنا ... أن كون السجود قبل السلام أو بعده على سبيل الأفضلية، وليس على سبيل الوجوب ... والقول الثاني: أن كون السجود قبل السلام أو بعده على سبيل الوجوب، وأن ما جاءت السنة في كونه قبل السلام يجب أن يكون قبل السلام، وما جاءت السنة به في كونه بعد السلام يجب أن يكون بعد السلام، وهذا اختيار شيخ الإسلام، وهو الراجح.

باب صلاة التطوع

باب صلاة التطوع آكدها: كسوفٌ (¬1)، ثم استسقاءٌ (¬2)، ثم تراويح، ثم وترٌ (¬3) يفعل بين العشاء ¬

_ (¬1) فهم من كلام المؤلف: أن صلاة الكسوف نافلةٌ من باب التطوع، وفيها خلافٌ بين أهل العلم، والصحيح: أن صلاة الكسوف فرضٌ واجبٌ؛ إما على الأعيان وإما على الكفاية. (¬2) يعني: أن صلاة الاستسقاء تلي صلاة الكسوف في الآكدية، وعلل الأصحاب ذلك بأنها تشرع لها صلاة الجماعة، فجعلوا مناط الأفضلية الاجتماع على الصلاة ... ، ولكن في هذا نظرٌ. والصواب: أن الوتر أوكد من الاستسقاء؛ لأن الوتر داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به .... ، وأما صلاة الاستسقاء فإنه لم يرد الأمر بها، ولكنها ثبتت من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم. (¬3) الصحيح: أن الوتر مقدمٌ على [التراويح]، وعلى الاستسقاء؛ لأن الوتر أمر به وداوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم [كما سبق بيانه]، حتى قال بعض أهل العلم: إن الوتر واجبٌ، وقال بعض العلماء: إنه واجبٌ على من له وردٌ من الليل؛ يعني: على من يقوم الليل، وقال آخرون: إنه سنةٌ مطلقةٌ ... والوتر سنةٌ مؤكدةٌ، وهو - عند القائلين بأنه سنةٌ - من السنن المؤكدة أيضًا، حتى إن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: من ترك الوتر فهو رجل سوءٍ؛ لا ينبغي أن تقبل شهادته ... ، وهذا يدل على تأكد صلاة الوتر. إذن: فترتيب صلاة التطوع: الكسوف، ثم الوتر، ثم الاستسقاء، ثم التراويح، هذا هو القول الراجح.

والفجر (¬1)، وأقله: ركعةٌ، وأكثره: إحدى عشرة ركعةً؛ مثنى مثنى ويوتر بواحدةٍ. وإن أوتر بخمسٍ أو سبعٍ (¬2): لم يجلس إلا في آخرها، وبتسعٍ يجلس عقب الثامنة فيتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة، ويتشهد ويسلم. وأدنى الكمال: ثلاث ركعاتٍ بسلامين؛ يقرأ في الأولى: (سبح)، وفي الثانية: (الكافرون)، وفي الثالثة: (الإخلاص) (¬3)، ويقنت فيها (¬4) بعد الركوع (¬5). ¬

_ (¬1) وللإنسان أن يوتر من بعد صلاة العشاء مباشرةً ولو كانت مجموعةً إلى المغرب تقديمًا. (¬2) وإن تشهد في السادسة بدون سلامٍ ثم صلى السابعة وسلم؛ فلا بأس. (¬3) ويجوز أن يجعلها بسلامٍ واحدٍ، لكن بتشهدٍ واحدٍ لا بتشهدين؛ لأنه لو جعلها بتشهدين لأشبهت صلاة المغرب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تشبه بصلاة المغرب. (¬4) أفادنا - رحمه الله -: أن القنوت سنةٌ في الوتر ... ، وقال بعض أهل العلم: لا يقنت إلا في رمضان، وقال آخرون: يقنت في رمضان في آخره. ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثٌ صحيحٌ في القنوت في الوتر ... ، لكن فيه حديثٌ أخرجه ابن ماجه بسندٍ ضعيفٍ حسنه بعضهم لشواهده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر ... ، والمتأمل لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل يرى أنه لا يقنت في الوتر، وإنما يصلي ركعةً يوتر بها ما صلى، وهذا هو الأحسن؛ أن لا تداوم على قنوت الوتر؛ لأن ذلك لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه علم الحسن بن علي - رضي الله عنه - دعاءً يدعو به في قنوت الوتر ... ، فيدل على أنه سنةٌ، لكن ليس من فعله؛ بل من قوله. على أن بعض أهل العلم أعل حديث الحسن بعلةٍ، وهي أن الحسن حين مات الرسول صلى الله عليه وسلم كان له ثماني سنواتٍ، ولكن هذه العلة ليست بقادحةٍ؛ لأن من له ثماني سنواتٍ يمكن أن يعلم ويلقن ويحفظ؛ فها هو عمرو بن سلمة الجرمي - رضي الله عنه - كان يؤم قومه وله سبع - أو ست - سنين؛ لأنه كان أقرأهم. (¬5) ظاهر كلام المؤلف: أنه يدعو بعد أن يقول: «ربنا ولك الحمد» بدون أن يكمل التحميد، ولكن لو كمله فلا حرج ... وظاهر كلامه: أنه لا يرفع يديه، وهو أحد قولي العلماء، ولكن قد يقال: إن الكتاب مختصرٌ، وترك ذكر رفع اليدين اختصارًا لا اعتبارًا ... والصحيح: أنه يرفع يديه؛ لأن ذلك صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .... وظاهر كلام المؤلف [أيضًا]: أنه لا يشرع القنوت قبل الركوع، ولكن المشهور من المذهب: أنه يجوز القنوت قبل الركوع وبعد القراءة ... ؛ لأنه ورد ذلك عن النبي - عليه الصلاة والسلام - في قنوته في الفرائض. وعليه: فيكون موضع القنوت من السنن المتنوعة التي يفعلها أحيانًا هكذا، وأحيانًا هكذا.

ويقول (¬1): (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت. إنك تقضي ولا يقضى عليك؛ إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت. ¬

_ (¬1) ظاهر كلامه: أنه لا يبدأ بشيءٍ قبل هذا الدعاء؛ لكن الصحيح أنه يبدأ بقوله: «اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك؛ إن عذابك الجد بالكفار ملحقٌ»، ثم يقول: «اللهم اهدني فيمن هديت». هكذا قال الإمام أحمد - رحمه الله -؛ لأنه ثناءٌ على الله، والثناء مقدمٌ على الدعاء؛ لأنه فتح باب الدعاء.

اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمدٍ) (¬1). ويمسح وجهه بيديه (¬2). ويكره قنوته في غير الوتر (¬3)؛ إلا أن تنزل بالمسلمين نازلةٌ - غير الطاعون (¬4) -. ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: الاقتصار على هذا الدعاء، ولكن لو زاد إنسانٌ على ذلك فلا بأس ... ، وأيضًا: لو فرض أن الإنسان لا يستطيع أن يدعو بهذا الدعاء؛ فله أن يدعو بما يشاء مما يحضره، ولكن إذا كان إمامًا فلا ينبغي أن يطيل الدعاء بحيث يشق على من وراءه ... ؛ إلا أن يكونوا جماعةً محصورةً يرغبون ذلك. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنه سنةٌ؛ أي: مسح الوجه باليدين بعد دعاء القنوت ... والأقرب: أنه ليس بسنةٍ؛ لأن الأحاديث الواردة في هذا ضعيفةٌ، ولا يمكن أن نثبت سنةً بحديثٍ ضعيفٍ ... ، وعلى هذا: فالأفضل أن لا يمسح، ولكن لا ننكر على من مسح اعتمادًا على تحسين الأحاديث الواردة في ذلك؛ لأن هذا مما يختلف فيه الناس. (¬3) المراد: القنوت الخاص لا مطلق الدعاء. (¬4) هذا النوع من الوباء إذا نزل بالمسلمين فقد اختلف العلماء - رحمهم الله -: هل يدعى برفعه أم لا؟ فقال بعض العلماء: إنه يدعى برفعه؛ لأنه نازلةٌ من نوازل الدهر ... وقال بعض العلماء: لا يدعى برفعه، وعلل ذلك: بأنه شهادةٌ.

فيقنت (¬1) الإمام (¬2) في الفرائض (¬3). والتراويح عشرون ركعةً (¬4)؛ تفعل في جماعةٍ (¬5) مع الوتر بعد العشاء في ¬

_ (¬1) ليس المراد أن يدعو بدعاء القنوت الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم الحسن؛ بل يقنت بدعاءٍ مناسبٍ للنازلة التي نزلت. (¬2) إذا أطلق الفقهاء (الإمام) فالمراد به: القائد الأعلى في الدولة؛ فيكون القانت الإمام وحده، وأما بقية الناس فلا يقنتون .... والقول الثاني في المسألة: أنه يقنت كل إمامٍ. والقول الثالث: أنه يقنت كل مصل؛ الإمام والمأموم والمنفرد. والأخير: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ... لكن الذي أرى في هذه المسألة: أن يقتصر على أمر ولي الأمر؛ فإن أمر بالقنوت قنتنا، وإن سكت سكتنا. (¬3) استثنى بعض العلماء الجمعة، وقال: إنه لا يقنت فيها ... ، والظاهر: أنه يقنت حتى في صلاة الجمعة. (¬4) الصحيح في هذه المسألة: أن السنة في التراويح أن تكون إحدى عشرة ركعةً؛ يصلي عشرًا شفعًا، يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدةٍ ... ، وإن أوتر بثلاثٍ بعد العشر وجعلها ثلاث عشرة ركعةً فلا بأس؛ لأن هذا - أيضًا - صح من حديث عبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنهما - ... ، ومع ذلك لو أن أحدًا من الناس صلى بثلاثٍ وعشرين أو بأكثر فإنه لا ينكر عليه، ولكن لو طالب أهل المسجد بأن لا يتجاوز عدد السنة؛ كانوا أحق منه بالموافقة؛ لأن الدليل معهم، ولو سكتوا ورضوا فصلى بهم أكثر من ذلك؛ فلا مانع. ولا فرق في هذا العدد بين أول الشهر وآخره. (¬5) إن صلاها الإنسان منفردًا في بيته؛ لم يدرك السنة.

رمضان (¬1). ويوتر المتهجد بعده (¬2)، فإن تبع إمامه: شفعه بركعةٍ. ويكره التنفل بينها؛ لا التعقيب في جماعةٍ (¬3). ثم السنن الراتبة (¬4): ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب (¬5)، وركعتان بعد العشاء (¬6)، وركعتان قبل الفجر - وهما آكدها -. ¬

_ (¬1) لا بأس أن يصلي الإنسان جماعةً في غير رمضان في بيته أحيانًا؛ لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ... ، لكن لم يتخذ ذلك سنةً راتبةً، ولم يكن - أيضًا - يفعله في المسجد. (¬2) قال بعض العلماء: بل يوتر مع الإمام ولا يتهجد بعده. (¬3) القول الراجح: أن التعقيب المذكور مكروهٌ ... ، لكن لو أن هذا التعقيب جاء بعد التراويح وقبل الوتر؛ لكان القول بعدم الكراهة صحيحًا. (¬4) أي: بعد التراويح السنن الراتبة، وفي هذا شيءٌ من النظر؛ لأنه مر بنا في أول كتاب التطوع قول المؤلف: (آكدها: كسوفٌ، ثم استسقاءٌ، ثم تراويح، ثم وترٌ)، فجعل الوتر يلي التراويح. ويجاب عن ذلك بأحد وجهين: إما أن تكون «السنن الراتبة» للترتيب الذكري. وإما أن يكون العطف يلي قوله: (ثم وترٌ)؛ أي: ثم يلي الوتر السنن الرواتب، فتكون السنن الرواتب في المرتبة الخامسة. (¬5) [كلام المؤلف يشير إلى أن] صلاة العصر ليس [لها] سنةٌ راتبةٌ، وهو كذلك، لكن لها سنةٌ مطلقةٌ، وهي السنة الداخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «بين كل أذانين صلاةٌ». (¬6) القول الصحيح: أن الرواتب اثنتا عشرة ركعةً: ركعتان قبل الفجر، وأربعٌ قبل الظهر بسلامين، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء.

ومن فاته شيءٌ منها: سن له قضاؤه (¬1). وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار (¬2)، وأفضلها: ثلث الليل بعد نصفه. وصلاة ليلٍ ونهارٍ: مثنى مثنى، وإن تطوع في النهار بأربعٍ - كالظهر - فلا بأس (¬3). وأجر صلاة قاعدٍ على نصف أجر صلاة قائمٍ. وتسن صلاة الضحى. وأقلها: ركعتان، وأكثرها: ثمانٍ (¬4). ووقتها: من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال. وسجود التلاوة: صلاةٌ (¬5)؛ يسن للقارئ والمستمع دون السامع، وإن لم يسجد ¬

_ (¬1) بشرط أن يكون الفوات لعذرٍ ... ، أما إذا تركها عمدًا حتى فات وقتها فإنه لا يقضيها، ولو قضاها لم تصح منه راتبةً، وذلك لأن الرواتب عباداتٌ مؤقتةٌ، والعبادات المؤقتة إذا تعمد الإنسان إخراجها عن وقتها عمدًا لم تقبل منه. (¬2) صلاة التطوع نوعان: نوعٌ مطلقٌ، ونوعٌ مقيدٌ. أما المقيد فهو أفضل في الوقت الذي قيد به، أو في الحال التي قيد بها ... ، وأما المطلق فهو في الليل أفضل منه في النهار. (¬3) نرى أنه إذا صلى أربعًا بتشهدين فهو إلى الكراهة أقرب. (¬4) الصحيح: أنه لا حد لأكثرها. (¬5) القول الصواب: ما ذهب إليه [شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -] من أن سجود التلاوة ليس بصلاةٍ.

القارئ: لم يسجد. وهو أربع عشرة سجدةً؛ في الحج منها اثنتان، ويكبر إذا سجد (¬1) وإذا رفع، ويجلس ويسلم ولا يتشهد (¬2). ويكره للإمام قراءة سجدةٍ في صلاة سر وسجوده فيها (¬3)، ويلزم المأموم ¬

_ (¬1) أما عند من يقول: إنها ليست بصلاةٍ فلا يكبر؛ لأنه سجودٌ مجردٌ، لكن ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر عند السجود، فإن صح الحديث عمل به؛ سواءٌ قلنا إنها صلاةٌ أم لا .... فالتكبير في سجود التلاوة إذا كان خارج الصلاة فيه ثلاثة أقوالٍ: القول الأول: يكبر إذا سجد وإذا رفع، والقول الثاني: يكبر إذا سجد فقط، والقول الثالث: لا يكبر مطلقًا. (¬2) السنة تدل على أنه ليس فيه تكبيرٌ عند الرفع ولا سلامٌ إلا إذا كان في الصلاة؛ فإنه يجب أن يكبر إذا سجد ويكبر إذا رفع. (¬3) الكراهة حكمٌ شرعي يحتاج إلى دليلٍ من السمع، أو تعليلٍ مبني على نظرٍ صحيحٍ تقتضيه قواعد الشرع ... ، [ولهذا]: حتى لو ترك السجود [بعد قراءة سجدةٍ] فإن ذلك لا يقتضي الكراهة؛ لأن ترك المسنون ليس مكروهًا ... وعليه نقول: إذا حصل تشويشٌ لا تقرأ، أو اقرأ ولا تسجد؛ لأنه إذا قرأ ولم يسجد لم يأت مكروهًا. ولكن قد ورد في «السنن» بسندٍ فيه نظرٌ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الظهر: (الم تنزيل) السجدة، وسجد فيها. فلو صح هذا الحديث لكان فاصلًا للنزاع، وقلنا: إنه يجوز أن يقرأ آية سجدةٍ في صلاة السر، ويسجد فيها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

متابعته في غيرها (¬1). ويستحب سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم، وتبطل به صلاة غير جاهلٍ وناسٍ. وأوقات النهي خمسةٌ: من طلوع الفجر الثاني (¬2) إلى طلوع الشمس، ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمحٍ، وعند قيامها حتى تزول، ومن صلاة العصر إلى غروبها، وإذا شرعت فيه حتى يتم. ويجوز قضاء الفرائض فيها، وفي الأوقات الثلاثة فعل ركعتي الطواف، وإعادة جماعةٍ (¬3). ويحرم تطوعٌ بغيرها في شيءٍ من الأوقات الخمسة حتى ما له سببٌ (¬4). ¬

_ (¬1) الصحيح: أنه يلزم المأموم متابعته حتى في صلاة السر. (¬2) استدل لذلك بحديثٍ ضعيفٍ: «إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتا الفجر» ... ، ولكن القول الصحيح: أن النهي يتعلق بصلاة الفجر نفسها ... ؛ لأنه ثبت في «صحيح مسلمٍ» - وغيره - تعليق الحكم بنفس الصلاة: «لا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس». (¬3) ويستثنى - أيضًا - على المذهب ... : رجلٌ جمع العصر مع الظهر جمع تقديمٍ، [ورجلٌ] دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه يصلي ركعتين خفيفتين ولو كان عند قيام الشمس، وسنة الفجر قبل صلاة الفجر، وصلاة الجنازة تفعل في أوقات النهي الطويلة. (¬4) القول الصحيح في هذه المسألة: أن ما له سببٌ فيجوز فعله في أوقات النهي كلها - الطويلة والقصيرة -.

باب صلاة الجماعة

باب صلاة الجماعة تلزم الرجال للصلوات الخمس، لا شرطٌ، وله فعلها في بيته (¬1). وتستحب صلاة أهل الثغر في مسجدٍ واحدٍ. والأفضل لغيرهم: في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره (¬2)، ثم ما كان أكثر جماعةً، ثم المسجد العتيق (¬3). وأبعد أولى من أقرب (¬4). ويحرم أن يؤم في مسجدٍ قبل إمامه الراتب إلا بإذنه أو عذره. ¬

_ (¬1) الصحيح: أنه يجب أن تكون في المسجد، وأنه لو أقيمت في غير المسجد فإنه لا يحصل بإقامتها سقوط الإثم؛ بل هم آثمون وإن كان القول الراجح أنها تصح. (¬2) لكن ينبغي أن يقيد هذا بشرطٍ، وهو أن لا يكون المسجد قريبًا من المسجد الأكثر جماعةً؛ فقد يقال: إن الأفضل أن يجتمع المسلمون في مسجدٍ واحدٍ، وأن هذا أولى من التفرق. (¬3) عللوا بأن الطاعة فيه أقدم ... ، وتفضيل المكان بتقدم الطاعة فيه يحتاج إلى دليلٍ بينٍ، وليس هناك دليلٌ بينٌ على هذه المسألة. (¬4) في النفس من هذا شيءٌ، والصواب أن يقال: إن الأفضل أن تصلي فيما حولك من المساجد؛ لأن هذا سببٌ لعمارته؛ إلا أن يمتاز أحد المساجد بخاصيةٍ فيه فيقدم ... والحاصل: أن الأفضل أن تصلي في مسجد الحي الذي أنت فيه - سواءٌ كان أكثر جماعةً أو أقل - ... ، ثم يليه الأكثر جماعةً، ثم يليه الأبعد، ثم يليه العتيق.

ومن صلى ثم أقيم فرضٌ: سن أن يعيدها إلا المغرب (¬1). ولا تكره إعادة الجماعة (¬2) في غير مسجدي مكة والمدينة (¬3). وإذا أقيمت (¬4) الصلاة فلا صلاة (¬5) إلا المكتوبة، فإن كان في نافلةٍ ¬

_ (¬1) القول الصحيح في هذه المسألة: أنه يعيد المغرب. (¬2) مراده بنفي الكراهة: دفع قول من يقول بالكراهة، وعلى هذا: فلا ينافي القول بالاستحباب؛ بل بالوجوب؛ لأن صلاة الجماعة واجبةٌ ... وهذه المسألة لها ثلاث صورٍ: الصورة الأولى: أن يكون إعادة الجماعة أمرًا راتبًا ... ؛ فهذا لا شك أنه مكروهٌ إن لم نقل: إنه محرمٌ؛ لأنه بدعةٌ؛ لم يكن معروفًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ... الصورة الثانية: أن يكون أمرًا عارضًا؛ فهذا هو محل الخلاف: فمن العلماء من قال: لا تعاد الجماعة؛ بل يصلون فرادى. ومنهم من قال: بل تعاد، وهذا القول هو الصحيح ... الصورة الثالثة: أن يكون المسجد مسجد سوقٍ أو مسجد طريق سياراتٍ - أو ما أشبه ذلك - ... ؛ فلا تكره إعادة الجماعة فيه ... ؛ لأن هذا المسجد معد لجماعاتٍ متفرقةٍ؛ ليس له إمامٌ راتبٌ يجتمع الناس عليه. (¬3) القول الثاني: أن إعادة الجماعة لا تكره في المسجدين ... ، هذا هو الصحيح - إذا لم يكن عادةً -. (¬4) المراد بالإقامة: الشروع فيها؛ لأن الإنسان إذا ابتدأ النافلة في هذا الوقت سوف يتأخر عن صلاة الجماعة. (¬5) الذي يظهر ... أن المراد به ابتداؤها، وأنه يحرم على الإنسان أن يبتدئ نافلةً بعد إقامة الصلاة - أي: بعد الشروع فيها -؛ لأن الوقت تعين لمتابعة الإمام.

أتمها (¬1)؛ إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها (¬2). ومن كبر قبل سلام إمامه: لحق الجماعة (¬3). وإن لحقه راكعًا: دخل معه في الركعة، وأجزأته التحريمة (¬4). ولا قراءة على مأمومٍ (¬5)، ويستحب: في إسرار إمامه وسكوته (¬6)، وإذا لم يسمعه لبعدٍ لا لطرشٍ. ويستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه (¬7). ¬

_ (¬1) لكن يتمها خفيفةً من أجل المبادرة إلى الدخول في الفريضة. (¬2) الذي نرى في هذه المسألة: أنك إن كنت في الركعة الثانية فأتمها خفيفةً، وإن كنت في الركعة الأولى فاقطعها. (¬3) القول الثاني [في المسألة]: أنه لا يدرك الجماعة إلا بإدراك ركعةٍ كاملةٍ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (¬4) القول الثاني في المسألة: أنه يجب أن يكبر للركوع. (¬5) القول الراجح في هذه المسألة: وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة السرية والجهرية، ولا تسقط إلا إذا أدرك الإمام راكعًا، أو أدركه قائمًا ولم يدرك أن يكمل الفاتحة حتى ركع الإمام؛ ففي هذه الحال تسقط عنه. (¬6) سبق أن قراءة الفاتحة على المأموم ركنٌ لا بد منه، فيقرؤها ولو كان الإمام يقرأ. (¬7) ظاهر كلامه - رحمه الله -: أنه يفعل ذلك وإن كان يسمع قراءة الإمام ... ، ولكن هذا القول فيه نظرٌ ظاهرٌ ... ، والصواب في هذه المسألة: أنه لا يستفتح ولا يستعيذ فيما يجهر فيه الإمام، وعلى هذا: فإذا دخلت مع إمامٍ وقد انتهى من قراءة الفاتحة، وهو يقرأ السورة التي بعد الفاتحة فإنه يسقط عنك الاستفتاح، وتقرأ الفاتحة - على القول الراجح -، وتتعوذ؛ لأن التعوذ تابعٌ للقراءة.

ومن ركع أو سجد قبل إمامه: فعليه أن يرفع ليأتي به بعده (¬1)، فإن لم يفعل عمدًا: بطلت، وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالمًا عمدًا: بطلت، وإن كان جاهلًا أو ناسيًا: بطلت الركعة فقط، وإن ركع ورفع قبل ركوعه ثم سجد قبل رفعه: بطلت - إلا الجاهل والناسي -، ويصلي تلك الركعة قضاءً (¬2). ويسن للإمام: التخفيف مع الإتمام (¬3)، وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية، ويستحب انتظار داخلٍ (¬4) ما لم يشق على مأمومٍ (¬5). ¬

_ (¬1) القول الثاني في المسألة: أنه إذا ركع أو سجد قبل إمامه عامدًا؛ فصلاته باطلةٌ؛ سواءٌ رجع فأتى به بعد الإمام أم لا ... ، وهذا القول هو الصحيح. (¬2) الصحيح: أنه متى سبق إمامه عالمًا ذاكرًا؛ فصلاته باطلةٌ بكل أقسام السبق. وإن كان جاهلًا أو ناسيًا فصلاته صحيحةٌ؛ إلا أن يزول عذره قبل أن يدركه الإمام فإنه يلزمه الرجوع ليأتي بما سبق فيه بعد إمامه، فإن لم يفعل عالمًا ذاكرًا بطلت صلاته وإلا فلا. (¬3) لكن إذا نظرنا في الأدلة تبين لنا أن التخفيف الموافق للسنة في حق الإمام واجبٌ. (¬4) الانتظار يشمل ثلاثة أشياء: - انتظارٌ قبل الدخول في الصلاة ... ، فهذا ليس بسنةٍ؛ بل السنة تقديم الصلاة التي يسن تقديمها، أما ما يسن تأخيره من الصلوات - وهي العشاء -؛ فهنا يراعي الداخلين. - وانتظارٌ في الركوع - ولا سيما في آخر ركعةٍ - ... ؛ فهنا يكون للقول باستحباب الانتظار وجهٌ، ولا سيما إذا كانت الركعة هي الأخيرة؛ من أجل أن يدرك الجماعة. - وانتظارٌ فيما لا تدرك فيه الركعة - مثل السجود -، [فإن كان فيه فائدةٌ فالانتظار حسنٌ، وإن كان ما ليس فيه فائدةٌ فلا يستحب الانتظار]. (¬5) هذا قيد المسألة ... ، وهو: أنه إذا شق على مأمومٍ فإنه لا ينتظر.

وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد: كره منعها (¬1)، وبيتها خيرٌ لها (¬2). فصلٌ الأولى بالإمامة: الأقرأ العالم فقه صلاته (¬3)، ثم الأفقه، ثم الأسن، ثم الأشرف (¬4)، ثم الأقدم هجرةً (¬5)، ثم الأتقى (¬6)، ثم من قرع. ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: يحرم على الولي أن يمنع المرأة إذا أرادت الذهاب إلى المسجد لتصلي مع المسلمين، وهذا القول هو الصحيح ... ، ولكن إذا تغير الزمان فينبغي للإنسان أن يقنع أهله بعدم الخروج حتى لا يخرجوا، ويسلم هو من ارتكاب النهي الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. (¬2) يستثنى من ذلك: الخروج لصلاة العيد؛ فإن الخروج لصلاة العيد للنساء سنةٌ. (¬3) [أفادنا المؤلف أنه] لو وجد أقرأ ولكن لا يعلم فقه الصلاة - فلا يعرف من أحكام الصلاة إلا ما يعرفه عامة الناس من القراءة والركوع والسجود -؛ فهو أولى من العالم فقه صلاته. وذهب بعض العلماء إلى خلاف ما يفيده كلام المؤلف، وهو أنه إذا اجتمع أقرأ وقارئٌ فقيهٌ قدم القارئ الفقيه على الأقرإ غير الأفقه ... ، وهذا هو القول الراجح. (¬4) الصحيح: إسقاط هذه المرتبة - أعني: الأشرفية -، وأنه لا تأثير لها في باب إمامة الصلاة. (¬5) هذا الترتيب ضعيفٌ؛ لمخالفته قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سلمًا» أي: إسلامًا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأقدم هجرةً في المرتبة الثالثة. (¬6) الصحيح: ما دل عليه الحديث الصحيح، وهي خمسٌ: الأقرأ، فالأعلم بالسنة، فالأقدم هجرةً، فالأقدم إسلامًا، فالأكبر سنا. أما التقوى فهي صفةٌ يجب أن تراعى - بلا شك - في كل هؤلاء.

وساكن البيت وإمام المسجد أحق إلا من ذي سلطانٍ. وحر، وحاضرٌ، ومقيمٌ، وبصيرٌ، ومختونٌ، ومن له ثيابٌ: أولى من ضدهم. ولا تصح خلف: - فاسقٍ (¬1) - ككافرٍ -. - ولا امرأةٍ وخنثى للرجال. - ولا صبي لبالغٍ (¬2). - ولا أخرس (¬3). - ولا عاجزٍ عن ركوعٍ أو سجودٍ أو قعودٍ أو قيامٍ (¬4) إلا إمام الحي المرجو زوال علته (¬5). ¬

_ (¬1) القول الثاني: أن الصلاة تصح خلف الفاسق ولو كان ظاهر الفسق ... وهذا القول لا يسع الناس اليوم إلا هو؛ لأننا لو طبقنا القول الأول على الناس ما وجدنا إمامًا يصلح للإمامة إلا نادرًا ... إذن: القول الراجح: صحة الصلاة خلف الفاسق. (¬2) القول الثاني: أن صلاة البالغ خلف الصبي صحيحةٌ. (¬3) القول الراجح: أن إمامة الأخرس تصح بمثله وبمن ليس بأخرس ... ، لكن مع ذلك لا ينبغي أن يكون إمامًا. (¬4) الصحيح: أننا نصلي خلف العاجز عن القيام والركوع والسجود والقعود، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح. (¬5) المؤلف اشترط شرطين لصلاة المأمومين القادرين على القيام خلف الإمام العاجز عنه: الشرط الأول: أن يكون إمام الحي. الشرط الثاني: أن تكون علته مرجوة الزوال. ومن المعلوم أن القاعدة الأصولية: أن ما ورد عن الشارع مطلقًا فإنه لا يجوز إدخال أي قيدٍ من القيود عليه إلا بدليلٍ ... وعلى هذا: يتبين ضعف [الشرطين الأول والثاني]، ونقول: إذا صلى الإمام قاعدًا فنصلي قعودًا؛ سواءٌ كان إمام الحي أم غيره، [وكذلك] نصلي قعودًا خلف الإمام العاجز عن القيام؛ سواءٌ كان ممن يرجى زوال علته أو ممن لا يرجى زوال علته.

ويصلون وراءه جلوسًا ندبًا (¬1)، فإن ابتدأ بهم قائمًا ثم اعتل فجلس: أتموا خلفه قيامًا - وجوبًا -. وتصح خلف من به سلس البول بمثله (¬2). ولا تصح خلف محدثٍ ولا متنجسٍ يعلم ذلك، فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت: صحت لمأمومٍ وحده (¬3). ¬

_ (¬1) ذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة خلفه يجب أن تكون قعودًا ... وهذا القول هو الصحيح، أن الإمام إذا صلى قاعدًا وجب على المأمومين أن يصلوا قعودًا، فإن صلوا قيامًا فصلاتهم باطلةٌ ... ، [لكن] إن صلى بهم قائمًا ثم أصابته علةٌ فجلس فإنهم يصلون قيامًا. (¬2) القول الصحيح في هذا: أن إمامة من به سلس البول صحيحةٌ بمثله وبصحيحٍ سليمٍ. (¬3) هاتان مسألتان: المسألة الأولى: الصلاة خلف المحدث ... ؛ فالصحيح في هذه المسألة: أن صلاة المأمومين صحيحةٌ بكل حالٍ؛ إلا من علم أن الإمام محدثٌ. المسألة الثانية: الصلاة خلف المتنجس، وقد جعل المؤلف - رحمه الله - حكمها كحكم الصلاة خلف المحدث ... ، والقول الصحيح في هذه المسألة: أنه إذا جهل الإمام النجاسة هو والمأموم حتى انقضت الصلاة فصلاتهم صحيحةٌ جميعًا ... ومن هنا يتضح الفرق بين هذه والتي قبلها - على القول الراجح -: أنه إذا جهل المصلي بالحدث أعاد الصلاة، ولا يعيد الصلاة إن كان جاهلًا بالنجاسة. والفرق بينهما: أن الوضوء من الحدث من باب فعل المأمور، واجتناب النجاسة من باب ترك المحظور، فإذا فعله جاهلًا فلا يلحقه حكمه.

ولا إمامة الأمي - وهو: من لا يحسن الفاتحة، أو يدغم فيها ما لا يدغم، أو يبدل حرفًا، أو يلحن فيها لحنًا يحيل المعنى إلا بمثله - (¬1)، وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته (¬2). وتكره إمامة: - اللحان. - والفأفاء. - والتمتام. - ومن لا يفصح ببعض الحروف. ¬

_ (¬1) القول الثاني - وهو روايةٌ عن أحمد -: أنه يصح أن يكون الأمي إمامًا للقارئ، لكن ينبغي أن نتجنبها؛ لأن فيها شيئًا من المخالفة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» ومراعاةً للخلاف. (¬2) الصحيح: أنها تصح إمامته في هذه الحال.

- وأن يؤم أجنبيةً فأكثر لا رجل معهن (¬1). - أو قومًا أكثرهم يكرهه بحق (¬2). وتصح إمامة: ولد الزنا، والجندي - إذا سلم دينهما -، ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها - وعكسه -، لا مفترضٍ بمتنفلٍ (¬3)، ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر - أو غيرها - (¬4). ¬

_ (¬1) أما إذا كانت أجنبيةً وحدها فإن الاقتصار على الكراهة فيه نظرٌ ظاهرٌ إذا استلزم الخلوة ... [ولهذا] نقول: إذا خلا بها فإنه يحرم عليه أن يؤمها؛ لأن ما أفضى إلى المحرم فهو محرمٌ ... أما ... أن يؤم امرأتين؛ فهذا - أيضًا - فيه نظرٌ من جهة الكراهة ... ، والصحيح: أن ذلك لا يكره، وأنه إذا أم امرأتين فأكثر فالخلوة قد زالت، ولا يكره ذلك إلا إذا خاف الفتنة، فإن خاف الفتنة فإنه حرامٌ؛ لأن ما كان ذريعةً للحرام فهو حرامٌ. (¬2) ظاهر الحديث: الكراهة مطلقًا، وهذا أصح؛ لأن الغرض من صلاة الجماعة هو الائتلاف والاجتماع، وإذا كان هذا هو الغرض فمن المعلوم أنه لا ائتلاف ولا اجتماع إلى شخصٍ مكروهٍ عندهم، وينبغي له إذا كانوا يكرهونه بغير حق أن يعظهم ويذكرهم ويتألفهم ويصلي بهم بحسب ما جاء في السنة، وإذا علم الله من نيته صدق نية التأليف بينهم يسر الله له ذلك. (¬3) القول الثاني في المسألة: أن صلاة المفترض خلف المتنفل صحيحةٌ ... ، وقد نص على ذلك الإمام أحمد - رحمه الله - نفسه، فقال: «إذا دخل والإمام في صلاة التراويح وصلى معه العشاء فلا بأس بذلك». وهذا نص الإمام؛ فالقول الراجح - بلا شك - هو هذا، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الذي تؤيده الأدلة. (¬4) القول الثاني: أنه يصح أن يأتم من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، ومن يصلي العصر بمن يصلي الظهر، ولا بأس بهذا وعلى هذا القول: إذا صلى صلاةً أكثر من صلاة الإمام فلا إشكال في المسألة. مثاله: لو صلى العشاء خلف من يصلي المغرب؛ فهنا نقول: صل مع الإمام، وإذا سلم فقم وائت بركعةٍ. وإذا صلى وراء إمامٍ وصلاته أقل من صلاة الإمام ... ؛ فإنه يلزمه إذا قام الإمام إلى الرابعة أن يجلس ولا يقوم ... ، وهو مخيرٌ [بين أن] ينوي الانفراد ويسلم أو ينتظر الإمام ... ، لكننا نستحب له أن ينوي الانفراد ويسلم إذا كان يمكنه أن يدرك ما بقي من صلاة العشاء مع الإمام؛ من أجل أن يدرك صلاة الجماعة في العشاء.

فصلٌ يقف المأمومون خلف الإمام، ويصح معه عن يمينه أو جانبيه. لا: - قدامه (¬1). - ولا عن يساره فقط (¬2). ¬

_ (¬1) أي: ... إن وقفوا قدامه فصلاتهم باطلةٌ ... ، وقال بعض أهل العلم: إن الصلاة لا تبطل. وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وقال: إنه إذا دعت الضرورة إلى ذلك صحت صلاة المأموم قدام الإمام، وإلا فلا. والضرورة تدعو إلى ذلك في أيام الجمعة، أو في أيام الحج في المساجد العادية؛ فإن الأسواق تمتلئ ويصلي الناس أمام الإمام. وهذا القول وسطٌ بين القولين، وغالبًا ما يكون القول الوسط هو الراجح؛ لأنه يأخذ بدليل هؤلاء ودليل هؤلاء. (¬2) أكثر أهل العلم يقولون بصحة الصلاة عن يسار الإمام مع خلو يمينه، وأن كون المأموم الواحد عن يمين الإمام إنما هو على سبيل الأفضلية لا على سبيل الوجوب، واختار هذا القول شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - ... وهذا القول قولٌ جيدٌ جدا، وهو أرجح من القول ببطلان صلاته عن يساره مع خلو يمينه.

- ولا الفذ خلفه (¬1). - أو خلف الصف (¬2)؛ إلا أن يكون امرأةً (¬3). وإمامة النساء تقف في صفهن. ويليه: الرجال، ثم الصبيان (¬4)، ثم النساء (¬5) - كجنائزهم -. ¬

_ (¬1) أما الإمام ففيه تفصيلٌ: إن بقي على نية الإمامة لم تصح صلاته؛ لأنه نوى الإمامة وليس معه أحدٌ، وإن نوى الانفراد فصلاته صحيحةٌ. (¬2) قال بعض العلماء: في ذلك تفصيلٌ؛ فإن كان لعذرٍ صحت الصلاة، وإن لم يكن لعذرٍ لم تصح الصلاة ... وهذا القول وسطٌ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وشيخنا عبد الرحمن بن سعدي. وهو الصواب. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن تكون المرأة تصلي مع جماعة رجالٍ أو مع جماعة نساءٍ، ولكن هذا الظاهر ليس بمراده؛ بل إن المرأة مع جماعة النساء كالرجل مع جماعة الرجال؛ أي: لا يصح أن تقف خلف إمامتها ولا خلف صف نساءٍ ... ، ولا تصح صلاتها منفردةً خلف الصف ولا خلف إمامة النساء. (¬4) لا شك أن مكان الصبيان خلف الرجال أولى، لكن إذا كان يحصل به تشويشٌ وإفسادٌ للصلاة على البالغين وعليهم أنفسهم؛ فإن مراعاة ذلك أولى من مراعاة فضل المكان. (¬5) [هذا الترتيب] إنما هو في ابتداء الأمر؛ أما إذا سبق المفضول إلى المكان الفاضل بأن جاء الصبي مبكرًا وتقدم وصار في الصف الأول؛ فإن القول الراجح الذي اختاره بعض أهل العلم ... أنه لا يقام المفضول من مكانه ... ؛ فإن من سبق إليه يكون أحق به.

ومن لم يقف معه إلا كافرٌ (¬1)، أو امرأةٌ (¬2)، أو من علم حدثه أحدهما (¬3)، أو صبي في فرضٍ (¬4): ففذ. ومن وجد فرجةً دخلها، وإلا عن يمين الإمام (¬5)، فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه (¬6)، فإن صلى فذا ركعةً لم تصح (¬7). ¬

_ (¬1) على القول الذي رجحنا؛ نقول: إنه إذا كان الصف تاما فصلاته صحيحةٌ؛ لأن صلاة الفذ خلف الصف مع تمامه صحيحةٌ، أما إذا لم يكن تاما وقد علم بكفره فصلاته باطلةٌ. (¬2) فإن وقفت امرأةٌ مع رجلين، فهل تصح صلاتهما وصلاتها؟ الجواب: نعم، الصلاة صحيحةٌ، ولا سيما مع الضرورة كما يحدث ذلك في أيام مواسم الحج في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ولكن في هذه الحال إذا أحسست بشيءٍ من قرب المرأة منك وجب عليك الانفصال ... ؛ حذرًا من الفتنة. (¬3) الصحيح في هذه المسألة: أن الثاني الذي ليس بمحدثٍ: صلاته صحيحةٌ إذا كان لا يعلم بحدث صاحبه؛ لأنه معذورٌ بالجهل، لكن لو علم أن صاحبه محدثٌ فهو فذ. (¬4) القول الراجح في هذه المسألة: أن من وقف معه صبي فليس فذا - لا في الفريضة ولا في النفل -، وصلاته صحيحةٌ. (¬5) هذا فيه نظرٌ ... ؛ لأن يمين الإمام موقفٌ للمأموم الواحد ... فإذا قلنا بأنه لا يقف عن يمين الإمام، فماذا يعمل؟ فالجواب: أنه يصلي خلف الصف وحده، وأن صلاته صحيحةٌ - على القول الراجح -. (¬6) القول الصحيح: أنه يصلي خلف الصف منفردًا متابعًا للإمام. (¬7) الصحيح في هذه المسألة - والتي بعدها -: أنه إذا كان لعذرٍ فصلاته صحيحةٌ مطلقًا، والعذر: تمام الصف.

وإن ركع فذا ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام: صحت. فصلٌ يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم يره، ولا من وراءه إذا سمع التكبير، وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين (¬1). وتصح خلف إمامٍ عالٍ عنهم. ويكره: - إذا كان العلو ذراعًا فأكثر (¬2) - كإمامته في الطاق (¬3) -. ¬

_ (¬1) ظاهر كلامه: أنه لا يشترط اتصال الصفوف فيما إذا كان المأموم خارج المسجد ... والصواب في هذه المسألة: أنه لا بد في اقتداء من كان خارج المسجد من اتصال الصفوف، فإن لم تكن متصلةً فإن الصلاة لا تصح ... أما اشتراط الرؤية ففيه نظرٌ؛ فما دام يسمع التكبير والصفوف متصلةً فالاقتداء صحيحٌ. وعلى هذا: إذا امتلأ المسجد واتصلت الصفوف وصلى الناس بالأسواق وعلى عتبة الدكاكين فلا بأس به. (¬2) القول الثاني: أنه لا يكره علو الإمام مطلقًا؛ لأن الحديث الذي استدل به الأصحاب - رحمهم الله - ضعيفٌ، والضعيف لا تقوم به الحجة. وقيد بعض العلماء هذه المسألة بما إذا كان الإمام غير منفردٍ بمكانه. وهذا لا شك أنه قولٌ وجيهٌ؛ لأنه إن انفرد الإمام بمكانٍ والمأموم بمكانٍ آخر؛ فأين صلاة الجماعة والاجتماع؟! (¬3) إذا كان [دخول الإمام في الطاق] لحاجةٍ؛ مثل: أن تكون الجماعة كثيرةً واحتاج الإمام إلى أن يتقدم حتى يكون في الطاق [أي المحراب] فإنه لا بأس به. أما إذا كان الإمام في باب الطاق ولم يدخل فيه ولم يتغيب عن الناس، وكان محل سجوده في الطاق فلا بأس به.

- وتطوعه موضع المكتوبة إلا من حاجةٍ. - وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة. فإن كان ثم نساءٌ لبث قليلًا لينصرفن. ويكره وقوفهم بين السواري إذا قطعن الصفوف (¬1). فصلٌ ويعذر بترك جمعةٍ وجماعةٍ: مريضٌ، ومدافع أحد الأخبثين (¬2)، ومن بحضرة طعامٍ محتاجٍ إليه (¬3)، وخائفٌ من ضياع ماله أو فواته أو ضررٍ فيه، أو موت قريبه، أو على نفسه من ضررٍ أو سلطانٍ (¬4)، أو ملازمة غريمٍ ولا شيء معه، أو من فوات ¬

_ (¬1) متى صارت السواري على حد يكره الوقوف بينها فإن ذلك مشروطٌ بعدم الحاجة، فإن احتيج إلى ذلك بأن كانت الجماعة كثيرةً والمسجد ضيقًا فإن ذلك لا بأس به من أجل الحاجة؛ لأن وقوفهم بين السواري في المسجد خيرٌ من وقوفهم خارج المسجد. (¬2) ويلحق بهما: الريح؛ لأن بعض الناس يكون عنده غازاتٌ تنفخ بطنه وتشق عليه جدا، وقد يكون أشق عليه من احتباس البول والغائط. (¬3) لكن بشرط أن يكون متمكنًا من تناول [الطعام] ... ، ولا بد - أيضًا - من قيدٍ آخر؛ وهو أن لا يجعل ذلك عادةً؛ بحيث لا يقدم العشاء إلا إذا قاربت إقامة الصلاة. (¬4) أما إذا كان السلطان يأخذه بحق فليس له أن يتخلف عن الجماعة ولا الجمعة.

رفقةٍ، أو غلبة نعاسٍ، أو أذًى بمطرٍ أو وحلٍ، وبريحٍ باردةٍ شديدةٍ في ليلةٍ مظلمةٍ (¬1). ¬

_ (¬1) هذا الشرط [أي الليلة المظلمة] ليس عليه دليلٌ ... ، ولأنه لا أثر للظلمة أو النور في هذا الأمر؛ فالظلمة لا تزيد من برودة الجو، والصحو لا يزيد من سخونة الجو في الليل.

باب صلاة أهل الأعذار

باب صلاة أهل الأعذار تلزم المريض الصلاة قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا (¬1)، فإن عجز فعلى جنبه، فإن صلى مستلقيًا ورجلاه إلى القبلة صح (¬2) ويومئ راكعًا وساجدًا ويخفضه عن الركوع، فإن عجز أومأ بعينه (¬3)، فإن قدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر، وإن قدر على قيامٍ وقعودٍ دون ركوعٍ وسجودٍ أومأ بركوعٍ قائمًا وبسجودٍ قاعدًا. ولمريضٍ الصلاة مستلقيًا مع القدرة على القيام لمداواةٍ بقول طبيبٍ مسلمٍ (¬4). ¬

_ (¬1) ظاهره: أنه لا يبيح القعود إلا العجز، وأما المشقة فلا تبيح القعود، ولكن الصحيح: أن المشقة تبيح القعود. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنه يصح مع القدرة على الجنب. والقول الثاني: أنه لا يصح مع القدرة على الجنب ... ، وهذا القول هو الراجح ... فصار ترتيب صلاة المريض كما يلي: يصلي قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنبٍ، فإن لم يستطع فمستلقيًا ورجلاه إلى القبلة، فهذه هي المرتبة الرابعة - على القول الراجح -، أما على كلام المؤلف فإنها في مرتبة الصلاة على الجنب فتدخل في المرتبة الثالثة لكنها مفضولةٌ، والصحيح: أنها مرتبةٌ رابعةٌ مستقلةٌ، لا تصح إلا عند العجز عن المرتبة الثالثة. (¬3) [الراجح إذا عجز عن الإيماء بالرأس]: تسقط عنه الأفعال من دون الأقوال. (¬4) علم من كلام المؤلف: أنه لو أمره بذلك غير طبيبٍ ... فلا يرجع إلى قوله، ولكن هذا ليس على إطلاقه؛ لأنه إذا علم بالتجربة أن مثل هذا المرض يضر المريض إذا صلى قائمًا فإنه يعمل بقول شخصٍ مجربٍ وعلم من كلامه - أيضًا - أنه لو أمره بذلك غير مسلمٍ لم يأخذ بقوله ... وذهب بعض أهل العلم إلى اشتراط الثقة فقط دون الإسلام ... ، وهذا هو القول الراجح.

ولا تصح صلاته قاعدًا في السفينة وهو قادرٌ على القيام. ويصح الفرض على الراحلة خشية التأذي (¬1) لا للمرض (¬2). فصلٌ من سافر سفرًا مباحًا (¬3) أربعة بردٍ (¬4): سن له قصر رباعيةٍ ركعتين (¬5) إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه. ¬

_ (¬1) لم يذكر المؤلف شيئًا عن استقبال القبلة، وعن الركوع وعن السجود، فنقول: يجب أن يستقبل القبلة في جميع الصلاة لأنه قادرٌ عليه؛ إذ يمكنه أن يتوقف في السير ويوجه الراحلة إلى القبلة ويصلي. أما الركوع والسجود فيومئ بالركوع والسجود لأنه لا يستطيع، والقيام أولى. (¬2) قول المؤلف: (لا للمرض) ليس على إطلاقه؛ بل نقول: لا للمرض إذا كان يمكنه أن ينزل ثم يركب على الراحلة، أما إذا كان لا يمكنه فله أن يصلي على الراحلة للمرض؛ لأن ذلك أشد من الوحل وشبهه. (¬3) ذهب الإمام أبو حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية - وجماعة كثيرةٌ من أهل العلم - إلى أنه لا تشترط الإباحة لجواز القصر، وأن الإنسان يجوز أن يقصر حتى في السفر المحرم ... ، وهذا القول قولٌ قوي. (¬4) الصحيح: أنه لا حد للسفر بالمسافة. (¬5) قال بعض أهل العلم: إن الإتمام مكروهٌ ... ، وهذا القول اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وهو قولٌ قوي؛ بل لعله أقوى الأقوال.

وإن أحرم حضرًا ثم سافر، أو في سفرٍ ثم أقام (¬1)، أو ذكر صلاة حضرٍ في سفرٍ - أو عكسها (¬2) -، أو ائتم بمقيمٍ، أو بمن يشك فيه (¬3)، أو أحرم بصلاةٍ يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها (¬4)، أو لم ينو القصر عند إحرامها (¬5)، أو شك في نيته (¬6)، أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيامٍ (¬7)، أو ملاحًا معه أهله لا ينوي الإقامة ببلدٍ: لزمه أن يتم. ¬

_ (¬1) القول الراجح في هذه المسألة أنه لا يلزمه الإتمام؛ لأنه ابتدأ الصلاة في حالٍ يجوز له فيها القصر، فكان له استدامة ذلك، ولا دليل بينًا على وجوب الإتمام. (¬2) القول الراجح خلافه، وأنه إذا ذكر صلاة سفرٍ في حضرٍ؛ صلاها قصرًا. (¬3) ظاهر كلامه: لزوم الإتمام وإن تبين أن الإمام مسافرٌ. والقول الراجح عندي: أنه لا يلزمه الإتمام في هذه الصورة .... ولو قال حينما رأى إمامًا يصلي بالناس في مكانٍ يجمع بين مسافرين ومقيمين: (إن أتم إمامي أتممت وإن قصر قصرت)؛ صح وإن كان معلقًا. (¬4) الأرجح - إن لم يمنع منه إجماعٌ -: أنه إذا أحرم بصلاةٍ يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها في حالٍ يجوز له القصر فإنه لا يلزمه الإتمام. (¬5) الصحيح: أنه لا يلزمه الإتمام؛ بل يقصر؛ لأنه الأصل، وكما أن المقيم لا يلزمه نية الإتمام؛ كذا المسافر لا يلزمه نية القصر. (¬6) نقول: إذا شك هل نوى القصر أو لم ينوه فإنه يقصر ولا يلزمه الإتمام. (¬7) لا دليل على التحديد بأربعة أيامٍ ... والقول الراجح: ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - من أن المسافر مسافرٌ ما لم ينو واحدًا من أمرين: الإقامة المطلقة، أو الاستيطان ... أما من قيد العمل بعملٍ ينتهي أو بزمنٍ ينتهي فهذا مسافرٌ، ولا تتخلف أحكام السفر عنه.

وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما، أو ذكر صلاة سفرٍ في آخر: قصر. وإن حبس ولم ينو إقامةً، أو أقام لقضاء حاجةٍ بلا نية إقامةٍ: قصر أبدًا. فصلٌ يجوز الجمع (¬1) بين الظهرين وبين العشاءين في وقت إحداهما: في سفر قصرٍ (¬2)، ولمريضٍ يلحقه بتركه مشقةٌ، وبين العشاءين (¬3): لمطرٍ يبل الثياب، ووحلٍ، وريحٍ شديدةٍ باردةٍ - ولو صلى في بيته (¬4)، أو في مسجدٍ طريقه تحت ساباطٍ -. ¬

_ (¬1) الصحيح: أن الجمع سنةٌ إذا وجد سببه. (¬2) سفر القصر سبق الكلام عليه، هل هو مقيدٌ بمسافةٍ معينةٍ أو بالعرف ... وظاهر كلامه: أنه يجوز الجمع للمسافر؛ سواءٌ كان نازلًا أم سائرًا ... والصحيح: أن الجمع للمسافر جائزٌ، لكنه في حق السائر مستحب، وفي حق النازل جائزٌ غير مستحب، إن جمع فلا بأس، وإن ترك فهو أفضل. (¬3) علم من قوله: (بين العشاءين) أنه لا يجوز الجمع بين الظهرين لهذه الأسباب - وهو المذهب -، والراجح أنه جائزٌ لهذه الأسباب - وغيرها - بين الظهرين والعشاءين عند وجود المشقة بترك الجمع. (¬4) الصلاة في البيت لها صورٌ: الأولى: أن يكون معذورًا بترك الجماعة ... الثانية: أن يصلي في بيته بلا عذرٍ ... الثالثة: أن لا يكون يدعو مدعوا لحضور الجماعة - كالأنثى - ... والراجح: أنه لا يجوز الجمع في هذه الصور الثلاث.

والأفضل فعل الأرفق به من تأخيرٍ وتقديمٍ. فإن جمع في وقت الأولى اشترط: - نية الجمع عند إحرامها (¬1) - ولا يفرق بينهما إلا بقدر إقامةٍ ووضوءٍ خفيفٍ، ويبطل براتبةٍ بينهما (¬2) -. - وأن يكون العذر موجودًا عند افتتاحهما وسلام الأولى (¬3). وإن جمع في وقت الثانية اشترط: - نية الجمع في وقت الأولى إن لم يضق عن فعلها. - واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية (¬4). ¬

_ (¬1) الصحيح: أنه لا تشترط نية الجمع عند إحرام الأولى، وأن له أن ينوي الجمع ولو بعد سلامه من الأولى ولو عند إحرامه في الثانية ما دام السبب موجودًا. (¬2) اختار شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه لا تشترط الموالاة بين المجموعتين، وقال: إن معنى الجمع هو الضم بالوقت ... والأحوط: أن لا يجمع إذا لم يوال بينهما، ولكن رأي شيخ الإسلام له قوةٌ. (¬3) لا يشترط وجود العذر عند افتتاح الأولى؛ فلو لم ينزل المطر - مثلًا - إلا في أثناء الصلاة فإنه يصح الجمع - على الصحيح -، بل لو لم ينزل إلا بعد تمام الصلاة الأولى ... ؛ فالصحيح أن الجمع جائزٌ. (¬4) لم يذكر الموالاة؛ إشارةً إلى أن ... الموالاة شرطٌ في جمع التقديم فقط، وليست شرطًا في جمع التأخير. وذهب بعض العلماء: إلى أن الموالاة شرطٌ في جمع التأخير كالتقديم. وذهب بعض العلماء: إلى أن الموالاة ليست شرطًا - لا في التقديم ولا في التأخير -.

فصلٌ وصلاة الخوف صحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفاتٍ كلها جائزةٌ (¬1). ويستحب (¬2) أن يحمل معه في صلاتها من السلاح ما يدفع به عن نفسه، ولا يشغله - كسيفٍ ونحوه -. ¬

_ (¬1) قول المؤلف: (كلها جائزةٌ) ظاهره: أن كل صفةٍ منها تجوز في أي موضعٍ، ولكن قد نقول: إن هذه الصفات من الصلاة لا يجوز نوعٌ منها إلا في موضعه الذي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم فيه. (¬2) الصحيح: أن حمل السلاح واجبٌ [في صلاة الخوف].

باب صلاة الجمعة

باب صلاة الجمعة تلزم كل ذكرٍ، حر (¬1)، مكلفٍ، مسلمٍ، مستوطنٍ (¬2) ببناءٍ اسمه واحدٌ ولو تفرق، ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخٍ (¬3). ولا تجب على مسافرٍ سفر قصرٍ (¬4) ولا على عبدٍ، وامرأةٍ، ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به ولم يصح أن يؤم فيها (¬5). ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: [العبد] تلزمه الجمعة ... . وقال بعض العلماء: إذا أذن له سيده لزمته؛ لأنه لا عذر له ... ، وهذا قولٌ وسطٌ. (¬2) إذا صلى الإنسان الجمعة وهو في السفر فصلاته باطلةٌ، وعليه أن يعيدها ظهرًا مقصورةً؛ لأن المسافر ليس من أهل الجمعة ... ، فالمسافر لا جمعة عليه، والمقيم - أيضًا - لا جمعة عليه، لكن إن أقامها مستوطنون في البلد؛ لزمته بغيره لا بنفسه. ومعنى قولنا: (بغيره): أنه إذا أقامها من تصح منهم إقامتها لزمته تبعًا لغيره، لكن لا يحسب من العدد المشروط. (¬3) ليس هناك دليلٌ [على التقييد بالفرسخ]؛ بل هو تعليلٌ، والدليل الذي دلت عليه السنة هو سماع النداء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «هل تسمع النداء؟»، قال: نعم، قال: «فأجب». (¬4) لكن تجب عليه بغيره - كما سبق -، ومعنى ذلك: أنها إن أقيمت الجمعة وجبت عليه وإلا فلا. (¬5) أما العبد والمسافر فالصحيح: أنها تنعقد بهما، ويصح أن يكونا أئمةً فيها وخطباء - أيضًا -؛ لأن القول بعدم صحة ذلك لا دليل عليه.

ومن سقطت عنه لعذرٍ: وجبت عليه وانعقدت به. ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام: لم تصح (¬1)، وتصح ممن لا تجب عليه، والأفضل: حتى يصلي الإمام (¬2). ولا يجوز لمن تلزمه: السفر في يومها بعد الزوال (¬3). فصلٌ يشترط لصحتها شروطٌ - ليس منها إذن الإمام (¬4) -. أحدها: الوقت. ¬

_ (¬1) وقيل: له أن يصلي الظهر إذا علم أنه لن يدرك الجمعة؛ لأنه في هذه الحال لا يلزمه السعي إليها؛ فلا فائدة في الانتظار. (¬2) إذا كان من لا تلزمه الجمعة ممن يرجى أن يزول عذره ويدركها فالأفضل أن ينتظر، وإذا كان ممن لا يرجى أن يزول عذره فالأفضل تقديم الصلاة في أول وقتها؛ لأن الأفضل في الصلوات تقديمها في أول الوقت إلا ما استثني بالدليل. (¬3) الأولى أن يعلق الحكم بما علقه الله به، وهو النداء إلى يوم الجمعة؛ لأنه من الجائز أن يتأخر الإمام عن الزوال ولا يأتي إلا بعد الزوال بعد ساعةٍ ... ، لذلك نقول: المعتبر: النداء ... لكن بعض العلماء كرهه، وقال: لئلا يفوت على نفسه فضل الجمعة؛ لأن الجمعة إلى الجمعة كفارةٌ لما بينهما ما اجتنبت الكبائر. (¬4) لو قيل بالتفصيل، وهو: (أن إقامة الجمعة في البلد لا يشترط لها إذن الإمام، وأنه إذا تمت الشروط وجب إقامتها؛ سواءٌ أذن أم لم يأذن، وأما تعدد الجمعة فيشترط له إذن الإمام لئلا يتلاعب الناس في تعدد الجمع) ... لكان له وجهٌ.

وأوله: أول وقت صلاة العيد، وآخره: آخر وقت صلاة الظهر (¬1). فإن خرج وقتها قبل التحريمة: صلوا ظهرًا، وإلا فجمعةً (¬2). الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها (¬3). الثالث: أن يكونوا بقريةٍ مستوطنين (¬4)، وتصح فيما قارب البنيان من ¬

_ (¬1) القول الثاني: أنها لا تصح إلا بعد الزوال، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة. القول الثالث: أنها تصح في الساعة السادسة قبل الزوال بساعةٍ؛ استنادًا إلى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «من راح في الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» .... ، وهذا القول هو الراجح؛ أنها لا تصح في أول النهار؛ إنما تصح في السادسة. والأفضل - على القول بأنها تصح في السادسة -: أن تكون بعد الزوال - وفاقًا لأكثر العلماء -. (¬2) الصحيح: أن جميع الإدراكات لا تكون إلا بإدراك ركعةٍ ... وعلى هذا نقول: إن خرج وقتها قبل إدراك ركعةٍ قبل خروجه فإنهم يصلون ظهرًا. (¬3) اشتراط الأربعين لإقامة الجمعة غير صحيحٍ؛ لأن ما بني على غير صحيحٍ فليس بصحيحٍ ... وأقرب الأقوال إلى الصواب: أنها تنعقد بثلاثةٍ، وتجب عليهم. وعلى هذا: فإذا كانت هذه القرية فيها مئة طالبٍ وليس فيها من مواطنيها إلا ثلاثةٌ فتجب على الثلاثة بأنفسهم، وعلى الآخرين بغيرهم، وإذا كان فيها مواطنان ومئة مسافرٍ مقيمٍ فلا تجب عليهم. (¬4) شيخ الإسلام يقول: ليس في الكتاب ولا في السنة تقسيم الناس إلى مستوطنٍ ومقيمٍ ومسافرٍ، وليس فيهما إلا مسافرٌ ومستوطنٌ، والمستوطن هو المقيم.

الصحراء (¬1). فإن نقصوا قبل إتمامها: استأنفوا ظهرًا (¬2). ومن أدرك مع الإمام منها ركعةً أتمها جمعةً، وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهرًا إذا كان نوى الظهر (¬3). ويشترط تقدم خطبتين؛ من شرط صحتهما: - حمد الله، والصلاة على رسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: لا يجوز أن تقام الجمعة إلا في البنيان، فلو خرجوا قريبًا من البنيان فإنها لا تجزئ، لكن ما ذهب إليه المؤلف هو الصحيح. (¬2) [قولٌ آخر]: أنهم إن نقصوا بعد أن أتموا الركعة الأولى أتموا جمعةً، فإذا كان النقص في الركعة الثانية فما بعد أتموا جمعةً، وإن نقصوا في الركعة الأولى استأنفوا ظهرًا ما لم يمكن إعادتها جمعةً، وهذا اختيار الموفق - رحمه الله -، وهذا القول هو الراجح. (¬3) القول الثاني: أنه إذا دخل معه بنية الجمعة، فتبين أنه لم يدرك ركعةً؛ فلينوها ظهرًا بعد سلام الإمام ... ، وهذا القول هو الصحيح. (¬4) الدليل على اشتراط حمد الله - تعالى -: - قول النبي - عليه الصلاة والسلام -: «كل أمرٍ لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع» ... - حديث جابرٍ في «صحيح مسلمٍ»: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب حمد الله وأثنى عليه». وهذا استدلالٌ قد يعارض؛ لأنه مجرد فعلٍ، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، لكن لا شك أنه أفضل وأحسن. وليس هناك دليلٌ صحيحٌ يدل على اشتراط الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة.

- وقراءة آيةٍ (¬1). - والوصية بتقوى الله - عز وجل - (¬2). - وحضور العدد المشترط (¬3). ولا يشترط لهما: الطهارة، ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة. ومن سننهما: أن يخطب على منبرٍ أو موضعٍ عالٍ، ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم، ثم يجلس إلى فراغ الأذان، ويجلس بين الخطبتين، ويخطب قائمًا، ويعتمد على سيفٍ أو قوسٍ أو عصا (¬4)، ويقصد تلقاء وجهه، ويقصر الخطبة، ويدعو ¬

_ (¬1) الدليل على اشتراط قراءة الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ يوم الجمعة ب- (ق والقرآن المجيد) يخطب بها. ولكن ليس هذا بدليلٍ؛ لأن الفعل المجرد لا يدل الوجوب. ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا تشترط لصحة الخطبة قراءة شيءٍ من القرآن متى تضمنت الموعظة المؤثرة في إصلاح القلوب وبيان الأحكام الشرعية، وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد - رحمه الله -. (¬2) فإن أتى بمعنى التقوى دون لفظها فيجزئ. (¬3) الصحيح: أن تقدير العدد بأربعين ليس بصوابٍ - كما سبق -، لكننا إذا قلنا: يشترط حضور ثلاثةٍ؛ صار لا بد من حضور الثلاثة. (¬4) استدلوا بحديثٍ يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحته نظرٌ. وعلى تقدير صحته: قال ابن القيم: إنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد اتخاذه المنبر أنه اعتمد على شيءٍ. ووجه ذلك: أن الاعتماد إنما يكون عند الحاجة، فإن احتاج الخطيب إلى اعتمادٍ - مثل أن يكون ضعيفًا يحتاج إلى أن يعتمد على عصًا - فهذا سنةٌ؛ لأن ذلك يعينه على القيام الذي هو سنةٌ، وما أعان على سنةٍ فهو سنةٌ، أما إذا لم يكن هناك حاجةٌ فلا حاجة إلى حمل العصا.

للمسلمين (¬1). فصلٌ والجمعة ركعتان؛ يسن أن يقرأ جهرًا في الأولى ب- (الجمعة)، وفي الثانية ب- (المنافقين) (¬2). وتحرم إقامتها في أكثر من موضعٍ من البلد إلا لحاجةٍ، فإن فعلوا فالصحيحة ما باشرها الإمام أو أذن فيها، فإن استوتا في إذنٍ أو عدمه فالثانية باطلةٌ (¬3)، وإن وقعتا معًا (¬4) أو جهلت الأولى بطلتا. ¬

_ (¬1) روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين في كل جمعةٍ. فإن صح هذا الحديث فهو أصلٌ في الموضوع، وحينئذٍ لنا أن نقول: إن الدعاء سنةٌ، أما إذا لم يصح فنقول: إن الدعاء جائزٌ، وحينئذٍ لا يتخذ سنةً راتبةً يواظب عليه؛ لأنه إذا اتخذ سنةً راتبةً يواظب عليه فهم الناس أنه سنةٌ، وكل شيءٍ يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه. (¬2) وله أن يقرأ ب- (سبح) و (الغاشية)؛ ثبت ذلك - أيضًا - في «صحيح مسلمٍ». (¬3) قال بعض العلماء: المعتبر السبق زمنًا؛ فالتي قد أنشئت أولًا فالحكم لها؛ لأن الثانية هي التي حدثت على الأولى ... ، وهذا القول هو الصحيح. (¬4) [سبق البيان أن المعتبر السبق زمنًا؛ فالتي أنشئت أولًا فالحكم لها؛ لأن الثانية هي التي حدثت على الأولى].

وأقل السنة بعد الجمعة: ركعتان، وأكثرها: ست (¬1). ويسن أن: - يغتسل (¬2) - وتقدم -. - ويتنظف. - ويتطيب. - ويلبس أحسن ثيابه (¬3). - ويبكر إليها ماشيًا (¬4). ¬

_ (¬1) الأولى للإنسان - فيما أظنه راجحًا - أن يصلي أحيانًا أربعًا، وأحيانًا ركعتين. أما الست فإن حديث ابن عمر يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعلها، لكن الذي في «الصحيحين» أنه كان يصلي ركعتين. ويمكن أن يستدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته ركعتين، وأمر من صلى الجمعة أن يصلي بعدها أربعًا، فهذه ست ركعاتٍ: أربعٌ بقوله وركعتان بفعله، وفيه تأملٌ ... وعلم من قول المؤلف: (أقل السنة بعد الجمعة: ركعتان) أنه ليس للجمعة سنةٌ قبلها، وهو كذلك، فيصلي ما يشاء بغير قصدٍ؛ فيصلي ركعتين أو ما شاء الله، لكن إذا دخل الإمام أمسك. (¬2) ذهب بعض أهل العلم إلى أن الاغتسال واجبٌ ... ، وهذا القول هو الصحيح. (¬3) لكن بشرط ألا يؤدي ذلك به إلى الإسراف والفخر والخيلاء. (¬4) لكن لو كان منزله بعيدًا، أو كان ضعيفًا أو مريضًا، واحتاج إلى الركوب؛ فكونه يرفق بنفسه أولى من أن يشق عليها.

- ويدنو من الإمام. - ويقرأ سورة الكهف في يومها. - ويكثر الدعاء. - ويكثر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يتخطى رقاب الناس (¬1) إلا أن يكون إمامًا (¬2) أو إلى فرجةٍ (¬3). وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه (¬4)؛ إلا من قدم صاحبًا له فجلس في موضعٍ يحفظه له (¬5). ¬

_ (¬1) النفي يحتمل أنه للكراهة، ويحتمل أنه للتحريم، وهذه المسألة خلافيةٌ؛ فالمشهور من المذهب أن تخطي الرقاب مكروهٌ، والصحيح: أن تخطي الرقاب حرامٌ في الخطبة - وغيرها -. (¬2) لكن بشرط أن لا يمكن الوصول إلى مكانه إلا بالتخطي، فإن كان يمكن الوصول إلى مكانه بلا تخط - بأن كان في مقدم المسجد بابٌ يدخل منه الإمام -؛ فإنه كغيره في التخطي. (¬3) الذي أرى: أنه لا يتخطى حتى ولو إلى فرجةٍ ... ؛ فالأولى الأخذ بالعموم ... ، لكن لو تخطى برفقٍ واستأذن ممن يتخطاه إلى هذه الفرجة فأرجو أن لا يكون في ذلك بأسٌ. (¬4) هذا قيدٌ أغلبي ... ، ومع ذلك: لو أقام غيره لا ليجلس في مكانه، فقال: (قم عن هذا) ولم يجلس فيه؛ كان حرامًا ... والمذهب: أنه يجوز أن يقيم الصغير ويجلس مكانه، ولكن الصحيح أنه لا يجوز أن يقيم الصغير. (¬5) ظاهر كلام المؤلف أن هذا العمل جائزٌ؛ أي: يجوز لشخصٍ أن ينيب غيره ليجلس في مكانٍ فاضلٍ، ويبقى هذا المنيب حتى يفرغ من حاجاته، ثم يتقدم إلى المسجد، وفي هذا نظرٌ.

وحرم رفع مصلى مفروشٍ ما لم تحضر الصلاة (¬1). ومن قام من موضعه لعارضٍ لحقه ثم عاد إليه قريبًا: فهو أحق به (¬2). ومن دخل والإمام يخطب: لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما. ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن يكلمه لمصلحةٍ، ويجوز قبل الخطبة وبعدها. ¬

_ (¬1) مقتضى كلام المؤلف أنه يجوز أن يضع المصلى ويحجز المكان ... ، ولكن الصحيح في هذه المسألة أن الحجز والخروج من المسجد لا يجوز، وأن للإنسان أن يرفع المصلى المفروش. (¬2) ظاهر كلام المؤلف أنه لو تأخر طويلًا فليس أحق به، فلغيره أن يجلس فيه. وقال بعض العلماء: بل هو أحق، ولو عاد بعد مدةٍ طويلةٍ إذا كان العذر باقيًا، وهذا القول أصح.

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين وهي فرض كفايةٍ (¬1)؛ إذا تركها أهل بلدٍ قاتلهم الإمام. ووقتها كصلاة الضحى، وآخره: الزوال، فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد. وتسن: في صحراء، وتقديم صلاة الأضحى - وعكسه الفطر -، وأكله قبلها - وعكسه في الأضحى إن ضحى -. وتكره في الجامع بلا عذرٍ (¬2). ¬

_ (¬1) [قولٌ آخر]: أنها فرض عينٍ على كل أحدٍ، وأنه يجب على جميع المسلمين أن يصلوا صلاة العيد، ومن تخلف فهو آثمٌ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ... ، وهذا عندي أقرب الأحوال، وهو الراجح. (¬2) ظاهر كلام المؤلف أنه تكره في الجامع؛ سواءٌ في مكة أو المدينة - أو غيرهما من البلاد -. أما في المدينة فظاهرٌ أن المدينة كغيرها ... أما في مكة؛ فلا أعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحدًا من الذين تولوا مكة كانوا يخرجون عن المسجد الحرام، ولهذا استثنى في «الروض المربع» مكة المشرفة. ولعل الحكمة من ذلك - والله أعلم - أن الصلاة في الصحراء في مكة صعبةٌ؛ لأنها جبالٌ وأوديةٌ، فيشق على الناس أن يخرجوا، فلهذا كانت صلاة العيد في نفس المسجد الحرام.

ويسن تبكير مأمومٍ إليها ماشيًا (¬1) بعد الصبح، وتأخر إمامٍ إلى وقت الصلاة على أحسن هيئةٍ إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه (¬2). ومن شرطها: استيطانٌ (¬3)، وعدد الجمعة (¬4)، لا إذن إمامٍ (¬5). ويسن أن يرجع من طريقٍ آخر. ويصليها ركعتين قبل الخطبة؛ يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل ¬

_ (¬1) لكن إذا كان هناك عذرٌ؛ كبعد المصلى أو مرضٍ في الإنسان - أو ما أشبه ذلك -؛ فلا حرج أن يخرج إليها راكبًا. (¬2) هذا القول في غاية الضعف - أثرًا ونظرًا - ... ؛ فالصحيح: أن المعتكف كغيره يخرج إلى صلاة العيد متنظفًا، لابسًا أحسن ثيابه. (¬3) خرج بذلك: المسافرون والمقيمون. [أما] المسافرون فلا يشرع في حقهم صلاة العيد، وهذا واضحٌ؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وأما المقيمون فكذلك على المذهب ... ، ولكن في هذا القول نظرًا، ولهذا كان الناس الآن على خلاف هذا القول. (¬4) عدد الجمعة - على المشهور من المذهب -: أربعون رجلًا من المستوطنين. وقد سبق لنا القول الراجح في العدد المعتبر للجمعة ثلاثةٌ، فهذا يبنى على ذاك؛ فلا بد من عددٍ يبلغون ثلاثةً. (¬5) لو احتاج الناس إلى إقامة مصلى آخر للعيد فإنه لا بد من إذن الإمام أو نائب الإمام؛ حتى لا يحصل فوضى بين الناس، ويصير كل واحدٍ منهم يقيم مصلى عيدٍ.

التعوذ والقراءة: ستا، وفي الثانية قبل القراءة: خمسًا (¬1)، يرفع يديه مع كل تكبيرةٍ، ويقول: (الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا، وصلى الله على محمدٍ النبي وآله، وسلم تسليمًا كثيرًا) (¬2)، وإن أحب قال غير ذلك. ثم يقرأ جهرًا في الأولى بعد الفاتحة: ب- (سبح) وب- (الغاشية) في الثانية (¬3). فإذا سلم خطب خطبتين (¬4) - كخطبتي الجمعة -؛ يستفتح الأولى بتسع ¬

_ (¬1) الإمام أحمد يرى أن الأمر في هذا واسعٌ، وأن الإنسان لو كبر على غير هذا الوجه مما جاء عن الصحابة فإنه لا بأس به. (¬2) هذا الذكر يحتاج إلى نقلٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ذكرٌ معينٌ محددٌ في عبادةٍ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك، وإنما أثرٌ عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - أنه قال: يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ... وقال بعض العلماء: يكبر بدون أن يذكر بينهما ذكرًا، وهذا أقرب للصواب، والأمر في هذا واسعٌ؛ إن ذكر ذكرًا فهو على خيرٍ، وإن كبر بدون ذكرٍ فهو على خيرٍ. (¬3) كما ثبت عنه أنه كان يقرأ في الأولى ب- (ق والقرآن المجيد)، وفي الثانية ب- (اقتربت الساعة وانشق القمر). ولهذا ينبغي للإمام إظهارًا للسنة وإحياءً لها: أن يقرأ مرةً بهذا، ومرةً بهذا. (¬4) هذا ما مشى عليه الفقهاء - رحمهم الله - أن خطبة العيد اثنتان؛ لأنه ورد هذا في حديثٍ أخرجه ابن ماجه بإسنادٍ فيه نظرٌ، ظاهره أنه كان يخطب خطبتين. ومن نظر في السنة المتفق عليها في «الصحيحين» - وغيرهما - تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا خطبةً واحدةً، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهن، فإن جعلنا هذا أصلًا في مشروعية الخطبتين فمحتملٌ، مع أنه بعيدٌ، لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهن لعدم وصول الخطبة إليهن، وهذا احتمالٌ. ويحتمل أن يكون الكلام وصلهن، ولكن أراد أن يخصهن بخصيصةٍ، ولهذا ذكرهن ووعظهن بأشياء خاصةٍ بهن.

تكبيراتٍ، والثانية بسبعٍ (¬1)؛ يحثهم في الفطر على الصدقة ويبين لهم ما يخرجون (¬2)، ويرغبهم في الأضحى في الأضحية ويبين لهم حكمها. والتكبيرات الزوائد، والذكر بينها (¬3)، والخطبتان: سنةٌ (¬4). ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها (¬5). ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: إنه يبتدئ بالحمد كسائر الخطب، وكما هي العادة في خطب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبدأ خطبه بحمد الله ويثني عليه. وعلى هذا فيقول: (الحمد لله كثيرًا، والله أكبر كبيرًا)، فيجمع بين التكبير والحمد. (¬2) الصواب: أنه يبين ذلك في خطبة آخر جمعةٍ من رمضان، ويبين في خطبة العيد حكم تأخير صدقة الفطر عن صلاة العيد. (¬3) سبق البحث في كونه سنةً أو ليس بسنةٍ. (¬4) استدلوا على كون [الخطبتين] سنةً بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لمن حضر العيد أن يقوم ولا يحضر الخطبة، ولو كانت واجبةً لوجب حضورها، هكذا قالوا. ولكن هذا التعليل عليلٌ - في الواقع -؛ لأنه لا يلزم من عدم وجوب حضورها عدم وجوبها؛ فقد يكون النبي - عليه الصلاة والسلام - أذن للناس بالانصراف وهي واجبةٌ عليه، فيخطب فيمن بقي، ثم إن الغالب ولا سيما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا ينصرف أحدٌ إلا من ضرورةٍ، ولهذا لو قال أحدٌ بوجوب الخطبة - أو الخطبتين - في العيدين لكان قولًا متوجهًا. (¬5) قال بعض العلماء - رحمهم الله -: إن الصلاة غير مكروهةٍ في مصلى العيد؛ لا قبل الصلاة ولا بعدها ... ، وهذا مذهب الشافعي - رحمه الله - في هذه المسألة، وهو الصواب ... والصحيح: أنه لا فرق بين الإمام وغيره، ولا قبل الصلاة ولا بعدها؛ فلا كراهة، لكن لا نقول: إن السنة أن تصلي ... ، وأما تحية المسجد فلا وجه للنهي عنها إطلاقًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها ... ، فمصلى العيد مسجدٌ له أحكام المسجد، وأنه إذا دخله الإنسان لا يجلس حتى يصلي ركعتين، وأنه لا نهي عنهما بلا إشكالٍ، وأما أن يتنفل بعدهما فنقول: لا بأس به، لكن الأفضل للإمام أن يبادر بصلاة العيد إن كان قد دخل وقتها؛ لئلا يحبس الناس، وأما المأموم فالأفضل له إذا صلى تحية المسجد أن يتفرغ للتكبير والذكر.

ويسن لمن فاتته أو بعضها: قضاؤها على صفتها (¬1). ويسن التكبير المطلق في ليلتي العيدين (¬2) - وفي فطرٍ آكد (¬3) -، وفي كل عشر ¬

_ (¬1) هذا هو المذهب: أن قضاءها سنةٌ، والدليل على سنية القضاء: قوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها»، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا». ولكن في هذا الاستدلال نظرٌ؛ لأن المراد بالحديثين الفريضة، أما هذه فصلاةٌ مشروعةٌ على وجه الاجتماع، فإذا فاتت فإنها لا تقضى إلا بدليلٍ يدل على قضائها إذا فاتت، ولهذا إذا فاتت الرجل صلاة الجمعة لم يقضها، وإنما يصلي فرض الوقت وهو الظهر. ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أنه لا تقضى إذا فاتت، وأن من فاتته فلا يسن له أن يقضيها؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنها صلاةٌ ذات اجتماعٍ معينٍ، فلا تشرع إلا على هذا الوجه. (¬2) لم يفصح المؤلف - رحمه الله - بحكم الجهر والإسرار في هذا التكبير، ولكن نقول: إن السنة أن يجهر به إظهارًا للشعيرة، لكن النساء يكبرن سرا إلا إذا لم يكن حولهن رجالٌ فلا حرج في الجهر. (¬3) قال بعض العلماء: إن التكبير في الأضحى أوكد فكل واحدٍ منهما أوكد من الثاني من وجهٍ؛ فمن جهة أن تكبير الفطر مذكورٌ في القرآن يكون أوكد، ومن جهة أن التكبير في عيد الأضحى متفقٌ عليه وأن فيه تكبيرًا مقيدًا يقدم على أذكار الصلاة يكون من هذه الناحية أوكد.

ذي الحجة. والمقيد: عقب كل فريضةٍ في جماعةٍ (¬1) من صلاة الفجر يوم عرفة - وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر - إلى عصر آخر أيام التشريق (¬2). وإن نسيه: قضاه ما لم يحدث (¬3)، أو يخرج من المسجد (¬4). ولا يسن عقب صلاة عيدٍ. ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: إن التكبير المقيد سنةٌ لكل مصل ... وقال بعض العلماء: إنه سنةٌ في الفرائض ... دون النوافل. والمسألة إذا رأيت اختلاف العلماء - رحمهم الله - فيها بدون أن يذكروا نصا فاصلًا فإننا نقول: الأمر في هذا واسعٌ؛ فإن كبر بعد صلاته منفردًا فلا حرج عليه، وإن ترك التكبير ولو في الجماعة فلا حرج عليه. (¬2) التكبير ينقسم إلى قسمين فقط: مطلقٌ، ومطلقٌ ومقيدٌ. فالمطلق: من ليلة عيد الفطر وعشر ذي الحجة إلى فجر يوم عرفة. والمطلق والمقيد: من فجر يوم عرفة إلى غروب الشمس من آخر يومٍ من أيام التشريق. (¬3) الصحيح: أنه لا يسقط بالحدث. (¬4) الصحيح: أنه إذا خرج من المسجد؛ فإن كان بعد طول مكثٍ فإنه يسقط لا بخروجه، ولكن بطول المكث، ولكن إن خرج سريعًا فإنه لا يسقط فيكبر ... فالقول الراجح: أن هذا التكبير المقيد يسقط بطول الفصل لا بخروجه من المسجد ولا بحدثه.

وصفته - شفعًا -: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) (¬1). ¬

_ (¬1) هذه المسألة - أي صفة التكبير - فيها أقوالٌ ثلاثةٌ لأهل العلم: الأول: أنه شفعٌ ... الثاني: أنه وترٌ ... الثالث: أنه وترٌ في الأولى، شفعٌ في الثانية. وهذا القول والذي قبله من حيث التعليل أقوى من قول من يقول: إنه يكبر مرتين مرتين ... والمسألة ليس فيها نص يفصل بين المتنازعين من أهل العلم، وإذا كان ذلك فالأمر فيه سعةٌ؛ إن شئت فكبر شفعًا، وإن شئت فكبر وترًا، وإن شئت وترًا في الأولى وشفعًا في الثانية.

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف تسن (¬1) جماعةً وفرادى (¬2) إذا كسف أحد النيرين ركعتين؛ يقرأ في الأولى جهرًا بعد الفاتحة سورةً طويلةً، ثم يركع طويلًا، ثم يرفع ويسمع ويحمد، ثم يقرأ الفاتحة وسورةً طويلةً دون الأولى، ثم يركع فيطيل - وهو دون الأول -، ثم يرفع (¬3)، ثم يسجد سجدتين طويلتين (¬4)، ثم يصلي الثانية كالأولى؛ لكن دونها في كل ما يفعل (¬5)، ثم يتشهد ويسلم (¬6). ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: إنها واجبةٌ ... ، وهذا القول قوي جدا ... ؛ فالقول بالوجوب أقوى من القول بالاستحباب، وإذا قلنا بالوجوب؛ فالظاهر أنه على الكفاية. (¬2) تسن في المساجد والبيوت؛ لكن الأفضل في المساجد، وفي الجوامع أفضل. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أنه في الرفع الذي يليه السجود لا يطيل القيام؛ بل يكون كالصلاة العادية، ولكن هذا الظاهر فيه نظرٌ؛ والصحيح: أنه يطيل القيام؛ بحيث يكون قريبًا من الركوع. (¬4) ظاهر كلامه: أنه لا يطيل الجلوس بينهما ... ، والصواب: أنه يطيل الجلوس بقدر السجود. (¬5) لكن: هل معناه أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، والقيام الثاني دون ذلك؟ أم معناه: أن كل ركعةٍ وركوعٍ دون الذي قبله؟ الذي يظهر - والله أعلم -: أن كل قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ دون الذي قبله. (¬6) ظاهر كلامه: أنه لا يشرع لها خطبةٌ؛ لأنه لم يذكرها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. وقال بعض العلماء: بل يشرع بعدها خطبتان ... وقال بعض العلماء: يسن لها خطبةٌ واحدةٌ، وهذا مذهب الشافعي، وهو الصحيح.

فإن تجلى الكسوف فيها: أتمها خفيفةً. وإن غابت الشمس كاسفةً، أو طلعت والقمر خاسفٌ، أو كانت آيةٌ غير الزلزلة (¬1): لم يصل. وإن أتى في كل ركعةٍ بثلاث ركوعاتٍ، أو أربعٍ، أو خمسٍ: جاز (¬2). ¬

_ (¬1) هذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوالٍ ثلاثةٍ: القول الأول: ما مشى عليه المؤلف أنه لا يصلى لأي آية تخويفٍ إلا الزلزلة ... القول الثاني: أنه لا يصلى إلا للشمس والقمر ... القول الثالث: يصلى لكل آية تخويفٍ ... وهذا الأخير هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ... ، وهذا هو الراجح. (¬2) لأنه ورد عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه صلى ثلاث ركوعاتٍ في ركعةٍ، أخرجه مسلمٌ. لكن هذه الرواية شاذةٌ، ووجه شذوذها: أنها مخالفةٌ لما اتفق عليه البخاري ومسلمٌ من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف في كل ركعةٍ ركوعان فقط. ومن المعلوم بالاتفاق أن الكسوف لم يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل له إلا مرةً واحدةً فقط. وعلى هذا: فالمحفوظ أنه صلى في كل ركعةٍ ركوعين، وما زاد على ذلك فهو شاذ؛ لأن الثقة مخالفٌ فيها لمن هو أرجح. ولكن ثبت عن علي بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - أنه صلى في كل ركعةٍ أربع ركوعاتٍ. وعلى هذا: فيكون من سنة الخلفاء الراشدين، وهذا ينبني على طول زمن الكسوف، فإذا علمنا أن زمن الكسوف سيطول فلا حرج من أن نصلي ثلاث ركوعاتٍ في كل ركعةٍ، أو أربع ركوعاتٍ - كما قال المؤلف -، أو خمس ركوعاتٍ ... وإن اقتصر على ركوعين وأطال الصلاة إذا علم أن الكسوف سيطول فهو أولى وأفضل. والكلام في الجواز، أما الأفضل فلا شك أن الأفضل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه يصلي ركوعين في كل ركعةٍ.

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء إذا أجدبت الأرض وقحط المطر (¬1): صلوها جماعةً وفرادى (¬2). وصفتها - في موضعها وأحكامها -: كعيدٍ. وإذا أراد الإمام الخروج لها: وعظ الناس، وأمرهم بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم، وترك التشاحن، والصيام (¬3)، والصدقة. ¬

_ (¬1) أي: امتنع ولم ينزل. ولا شك أنه يكون في ذلك ضررٌ عظيمٌ على أصحاب المواشي وعلى الآدميين - أيضًا -، فلهذا صارت صلاة الاستسقاء - في هذه الحال - سنةً مؤكدةً ... وظاهر [كلام المؤلف]: ولو كان ذلك في غير أرضهم. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يستسقي إلا لأرضه وما حولها مما يتضرر به البلد، أما ما كان بعيدًا فإنه لا يضرهم وإن كان يضر غيرهم؛ ما لم يأمر به الإمام فتصلى. (¬2) الأفضل أن تكون جماعةً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. (¬3) في هذا نظرٌ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الاستسقاء لم يأمر أصحابه أن يصوموا. أما ما ذكره المؤلف أولًا من التوبة من المعاصي والخروج من المظالم فهذه مناسبةٌ؛ لكن الصيام طاعةٌ تحتاج إلى إثباتها بدليلٍ ... لكن نقول: لو اختار يوم الاثنين ولم يجعله سنةً راتبةً دائمًا من أجل أن يصادف صيام بعض الناس؛ ... لم يكن فيه بأسٌ، لكن كوننا نجعله سنةً راتبةً؛ [بحيث] لا يكون الاستسقاء إلا في يوم الاثنين أو نأمر الناس بالصوم؛ فهذا فيه نظرٌ.

ويعدهم يومًا يخرجون فيه، ويتنظف، ولا يتطيب (¬1). ويخرج متواضعًا متخشعًا متذللًا متضرعًا، ومعه أهل الدين والصلاح والشيوخ والصبيان المميزون - وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيومٍ: لم يمنعوا -. فيصلي بهم، ثم يخطب واحدةً (¬2)؛ يفتتحها بالتكبير - كخطبة العيد (¬3) -، ويكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به، ويرفع يديه فيدعو بدعاء ¬

_ (¬1) [قوله: ولا يتطيب]: عللوا ذلك بأنه يوم استكانةٍ وخضوعٍ، والطيب يشرح النفس ويجعلها تنبسط أكثر، والمطلوب في هذا اليوم الاستكانة والخضوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متخشعًا متذللًا متضرعًا. وهذا - أيضًا - مما في النفس منه شيءٌ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الطيب، وكان يحب الطيب، ولا يمنع إذا تطيب الإنسان أن يكون متخشعًا مستكينًا لله - عز وجل -. (¬2) أفادنا [المؤلف] أن الخطبة تكون بعد الصلاة - كالعيد -، لكن قد ثبتت السنة أن الخطبة تكون قبل الصلاة، كما جاءت السنة بأنها تكون بعد الصلاة. وعلى هذا: فتكون خطبة الاستسقاء قبل الصلاة وبعدها، ولكن إذا خطب قبل الصلاة فلا يخطب بعدها، فلا يجمع بين الأمرين؛ فإما أن يخطب قبل، وإما أن يخطب بعد. (¬3) سبق أن خطبة العيد يفتتحها بالتكبير - على المشهور من المذهب -، وأن في المسألة خلافًا؛ فمن العلماء من قال: يفتتحها بالحمد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في جميع خطبه، وهكذا في خطبة الاستسقاء. بل لو قال قائلٌ: إن خطبة الاستسقاء تبدأ بالحمد بخلاف خطبة العيد لكان متوجهًا؛ لأن خطبة العيد تأتي في الوقت الذي أمرنا فيه بكثرة التكبير.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنه: (اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا) - إلى آخره -. وإن سقوا قبل خروجهم: شكروا الله، وسألوه المزيد من فضله. وينادى: الصلاة جامعةٌ (¬1). وليس من شرطها: إذن الإمام (¬2). ويسن أن يقف في أول المطر، وإخراج رحله وثيابه ليصيبهما المطر (¬3). وإذا زادت المياه وخيف منها: سن أن يقول: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ (¬4) ...} - الآية -). ¬

_ (¬1) النداء لصلاة الاستسقاء والعيد لا يصح أثرًا ولا نظرًا. (¬2) لكن بحسب العرف عندنا: لا تقام صلاة الاستسقاء إلا بإذن الإمام، اللهم إلا أن يكون قومٌ من البادية بعيدون عن المدن ولا يتقيدون، فهنا ربما يقيمونها وإن كان أهل البلد لم يقيموها. (¬3) الثابت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل المطر حسر ثوبه - أي: رفعه - حتى يصيب المطر بدنه ... وهذه السنة ثابتةٌ في «الصحيح»، وعليه: فيقوم الإنسان ويخرج شيئًا من بدنه - إما من ساقه أو من ذراعه أو من رأسه - حتى يصيبه المطر؛ اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬4) قوله: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}: هذه لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها مناسبةٌ، فإذا قالها الإنسان على سبيل السنية فلا بأس، أما إذا قالها على أنها سنةٌ فلا.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز تسن: عيادة المريض (¬1)، وتذكيره التوبة، والوصية (¬2). وإذا نزل به: سن تعاهد بل حلقه بماءٍ أو شرابٍ، وتندى شفتاه بقطنةٍ، وتلقينه: (لا إله إلا الله) مرةً - ولم يزد على ثلاثٍ إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفقٍ -، ويقرأ عنده (يس) (¬3)، ويوجهه إلى القبلة. ¬

_ (¬1) قوله: (تسن): ظاهره أنه سنةٌ في حق جميع الناس، ولكن ليس على إطلاقه؛ فإن عيادة المريض إذا تعينت برا أو صلة رحمٍ صارت واجبةً؛ لا من أجل المرض، ولكن من أجل القرابة ... أما من لا يعد ترك عيادته عقوقًا أو قطيعةً فإن المؤلف يقول: إنه سنةٌ. وقال بعض العلماء: إنه واجبٌ كفائي؛ أي: يجب على المسلمين أن يعودوا مرضاهم، وهذا هو الصحيح. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: يدل على أنه يذكر بذلك؛ سواءٌ كان المرض مخوفًا أو غير مخوفٍ، وسواءٌ كان المريض يرتاع بذلك أو لا ... وقال بعض العلماء: لا يذكره بذلك إلا إذا كان مرضه مخوفًا. وفصل بعضهم، فقال: أما التوبة فيذكره بها مطلقًا ولو كان المرض غير مخوفٍ ... ، والوصية لا يذكره بها إلا إذا كان المرض مخوفًا. والذي يظهر لي: أنه يذكره مطلقًا ما لم يخف عليه، وذلك لأن التوبة مشروعةٌ في كل وقتٍ، والوصية كذلك. (¬3) لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا على موتاكم يس»، هذا الحديث مختلفٌ فيه، وفيه مقالٌ، ومن كان عنده هذا الحديث حسنًا أخذ به.

فإذا مات: سن: تغميضه (¬1)، وشد لحييه، وتليين مفاصله، وخلع ثيابه، وستره بثوبٍ، ووضع حديدةٍ على بطنه (¬2)، ووضعه على سرير غسله متوجهًا (¬3) منحدرًا نحو رجليه، وإسراع تجهيزه - إن مات غير فجأةٍ (¬4) -، وإنفاذ وصيته. ¬

_ (¬1) وينبغي عند التغميض: أن يدعو بما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة، فيقول: «اللهم اغفر لفلانٍ، وارفع درجته في المهديين، وافسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه» ... فيكون - هنا - سنةٌ فعليةٌ وسنةٌ قوليةٌ، الفعلية: تغميض العينين، والقولية: هي هذا الدعاء. (¬2) استدلوا على هذا بأثرٍ فيه نظرٌ، وبنظرٍ فيه علةٌ. أما الأثر؛ فذكروا عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - أنه قال: «ضعوا على بطنه شيئًا من حديدٍ». وهذا الأثر فيه نظرٌ، ولا أظنه يثبت عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه -، والذي يظهر لي من حال الصحابة أنهم لا يفعلون ذلك. وأما النظر الذي فيه علةٌ فإنهم قالوا: لئلا تنتفخ بطنه ... ولكن هل هذا يمنع الانتفاخ؟ لا أظنه يمنع؛ لأن الانتفاخ إذا حصل لا يغني وضع الحديدة شيئًا ... وفي عصرنا الآن نستغني عن هذا، وهو أن يوضع في الثلاجة إذا احتيج إلى تأخير دفنه، وإذا وضع في الثلاجة فإنه لا ينتفخ. (¬3) أي: إلى القبلة؛ لأن هذا أفضل، ولا أعلم في هذا دليلًا من السنة. (¬4) لاحتمال أن تكون غشيةً لا موتًا ... وهذا الذي ذكره العلماء - رحمهم الله - قبل أن يتقدم الطب، أما الآن فإنه يمكن أن يحكم عليه أنه مات بسرعةٍ لأن لديهم وسائل قويةً تدل على موت المريض، لكن إذا لم يكن هناك وسائل فإن الواجب الانتظار إلى أن نتيقن موته.

ويجب: الإسراع في قضاء دينه. فصلٌ غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه: فرض كفايةٍ. وأولى الناس بغسله: وصيه، ثم أبوه، ثم جده، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته (¬1)، ثم ذوو أرحامه. وأنثى: وصيتها، ثم القربى فالقربى من نسائها. ولكل من الزوجين غسل صاحبه، وكذا سيدٌ مع سريته (¬2). ولرجلٍ وامرأةٍ غسل من له دون سبع سنين فقط. وإن مات رجلٌ بين نسوةٍ - أو عكسه -: يممت كخنثى مشكلٍ (¬3). ¬

_ (¬1) قوله: (ثم أبوه، ثم جده، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته): هنا قدموا ولاية الأصول على ولاية الفروع ... ومن المعلوم أن مثل هذا الترتيب إنما نحتاج إليه عند المشاحة، فأما عند عدم المشاحة - كما هو الواقع في عصرنا اليوم -؛ فإنه يتولى غسله من يتولى غسل عامة الناس، وهذا هو المعمول به الآن. (¬2) ولو لم تكن سريته؛ فلو قدر أنها مملوكةٌ لكن لم يتسرها - أي: لم يجامعها - ثم مات؛ فلها أن تغسله وله أن يغسلها. (¬3) قال بعض العلماء: إن من تعذر غسله لا ييمم ... أما على القول بأنه ييمم فإنه يضرب رجلٌ أو امرأةٌ التراب بيديه، ويمسح بهما وجه الميت وكفيه.

ويحرم أن يغسل مسلمٌ كافرًا، أو يدفنه؛ بل يوارى لعدمٍ. وإذا أخذ في غسله: ستر عورته، وجرده، وستره عن العيون. ويكره لغير معينٍ في غسله حضوره. ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه، ويعصر بطنه برفقٍ، ويكثر صب الماء حينئذٍ، ثم يلف على يده خرقةً فينجيه - ولا يحل مس عورة من له سبع سنين، ويستحب أن لا يمس سائره إلا بخرقةٍ -. ثم يوضئه - ندبًا -، ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه، ويدخل أصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه فيمسح أسنانه، وفي منخريه فينظفهما ولا يدخلهما الماء. ثم ينوي غسله (¬1)، ويسمي (¬2)، ويغسل برغوة السدر رأسه ولحيته فقط. ثم يغسل شقه الأيمن، ثم الأيسر، ثم كله ثلاثًا يمر في كل مرةٍ يده على بطنه، فإن لم ينق بثلاثٍ زيد حتى ينقى - ولو جاوز السبع (¬3) -، ويجعل في الغسلة الأخيرة ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أن النية تكون بعد عمل ما سبق من الاستنجاء والتوضئة، ولكن هذا فيه نظرٌ؛ بل النية تتقدم الفعل ... ، ولعل هذه نيةٌ أخرى ينوي بها عموم الغسل؛ لأن ما سبق لا بد أن يكون بنيةٍ. (¬2) وهذا - أيضًا - فيه نظرٌ؛ لأن التسمية تكون بعد الاستنجاء قبل أن يوضئه - كما هي الحال في طهارة الحي -. (¬3) لكن ينبغي قطع الغسل على وترٍ؛ فلو نقي بأربعٍ زاد خامسةً؛ لأن هذا الذي ورد به الحديث.

كافورًا. والماء الحار (¬1) والأشنان والخلال: يستعمل إذا احتيج إليه. ويقص شاربه، ويقلم أظفاره (¬2)، ولا يسرح شعره، ثم ينشف بثوبٍ. ويضفر شعرها ثلاثة قرونٍ، ويسدل وراءها. وإن خرج منه شيءٌ بعد سبعٍ حشي بقطنٍ؛ فإن لم يستمسك فبطينٍ حر، ثم يغسل المحل ويوضأ، وإن خرج بعد تكفينه لم يعد الغسل. ومحرمٌ ميتٌ كحي؛ يغسل بماءٍ وسدرٍ، ولا يقرب طيبًا، ولا يلبس ذكرٌ مخيطًا، ولا يغطى رأسه (¬3)، ولا وجه أنثى (¬4). ¬

_ (¬1) لكن ليس الحار الشديد الحرارة الذي يؤثر على الجلد برخاوةٍ بالغةٍ. (¬2) أما الشارب والأظفار فتؤخذ إذا طالت، فإذا كانت عاديةً، أو كان الميت أخذها عن قربٍ فإنها لا تؤخذ؛ بل تبقى على ما هي عليه. وأما الإبط فكذلك؛ إن كثر فإنه يؤخذ، وإلا يبقى على ما هو عليه. وأما العانة إذا طالت وكثرت فإنها تؤخذ. وقال بعض العلماء: إنها لا تؤخذ؛ لما في ذلك من كشف العورة ... ولكن الأولى أن تؤخذ إذا كانت كثيرةً، وكشف العورة - هنا - للحاجة. (¬3) لكن لا بأس أن يظلل بشمسيةٍ أو شبهها - كما يفعل بالمحرم الحي -، أما التغطية باللف عليه فهذا لا يجوز، وأما وجهه فإنه يغطى. (¬4) هذا إن لم يمر بها حول رجالٍ أجانب، فإن مر بها حول رجالٍ أجانب فإن وجهها يستر كما لو كانت حيةً، وأما رأسها فيغطى.

ولا يغسل شهيدٌ (¬1) ومقتولٌ ظلمًا (¬2)؛ إلا أن يكون جنبًا (¬3)، ويدفن في ثيابه بعد نزع السلاح والجلود عنه، وإن سلبها كفن بغيرها، ولا يصلى عليه. وإن سقط عن دابته، أو وجد ميتًا ولا أثر به، أو حمل فأكل (¬4)، أو طال بقاؤه - عرفًا - (¬5): غسل وصلي عليه. والسقط إذا بلغ أربعة أشهرٍ: غسل وصلي عليه. ومن تعذر غسله: يمم (¬6). وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسنًا (¬7). ¬

_ (¬1) النفي يحتمل الكراهة ويحتمل التحريم ... ، والصحيح: أنه حرامٌ. (¬2) الصحيح: أن المقتول ظلمًا يغسل كغيره من الناس. (¬3) ظاهر الأخبار: أنه لا فرق بين الجنب وغيره. (¬4) الأقرب: أنه إذا أكل - سواءٌ حمل أم لم يحمل - فإن أكله دليلٌ على أن فيه حياةً مستقرةً، فيغسل ويكفن. (¬5) الذي يترجح عندي: أنه إذا بقي متأثرًا كتأثر المحتضر أنه لا يغسل، أما إذا بقي متألمًا لكن بقي معه عقله فإنه يغسل ويصلى عليه. (¬6) قيل: بأنه لا ييمم إذا تعذر غسله؛ لأن هذه ليست طهارة حدثٍ، وإنما هي طهارة تنظيفٍ ... وهذا هو الراجح، وهذا أقرب إلى الصواب من القول بتيميمه. (¬7) قال العلماء: إذا كان صاحب بدعةٍ، وداعيةً إلى بدعته، ورآه على وجهٍ مكروهٍ؛ فإنه ينبغي أن يبين ذلك حتى يحذر الناس من دعوته إلى البدعة. وهذا القول - لا شك - قولٌ جيدٌ وحسنٌ.

فصلٌ يجب تكفينه في ماله (¬1)، مقدمًا على دينٍ وغيره. فإن لم يكن له مالٌ فعلى من تلزمه نفقته، إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته (¬2). ويستحب تكفين رجلٍ في ثلاث لفائف بيضٍ؛ تجمر، ثم تبسط بعضها فوق بعضٍ، ويجعل الحنوط فيما بينها، ثم يوضع عليها مستلقيًا، ويجعل منه في قطنٍ بين أليتيه، ويشد فوقها خرقةٌ مشقوقة الطرف كالتبان تجمع أليتيه ومثانته، ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده (¬3)، وإن طيب كله فحسنٌ (¬4). ¬

_ (¬1) لكن لو فرض أن هناك جهةً مسؤولةً ملتزمةً بذلك؛ فلا حرج أن نكفنه منها؛ إلا إذا أوصى الميت بعدم ذلك؛ بأن قال: (كفنوني في مالي)؛ فإنه لا يجوز أن نكفنه من الأكفان العامة؛ سواءٌ كانت من جهةٍ حكوميةٍ أو من جهةٍ خاصةٍ. (¬2) القول الثاني: أنه يلزمه أن يكفن امرأته ... وهذا القول أرجح، ومحل النزاع إذا كان موسرًا، فإن لم يوجد من تلزمه النفقة أو وجد وكان فقيرًا ففي بيت المال، فإن لم يوجد بيت مالٍ منتظمٌ فعلى من علم بحاله من المسلمين؛ لأنه فرض كفايةٍ. (¬3) كل هذا على سبيل الاستحباب من العلماء؛ أي: وضع الحنوط في هذه الأماكن، أما الحنوط - من حيث أصله - فقد جاءت به السنة. (¬4) لكن ينبغي أن يطيب بطيبٍ ليس حارا؛ لأن الحار ربما يمزق البدن؛ بل يكون باردًا. وهذا لم يعرف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن فعله بعض الصحابة.

ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر من فوقه، ثم الثانية، ثم الثالثة كذلك، ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه، ثم يعقدها، وتحل في القبر. وإن كفن في قميصٍ ومئزرٍ ولفافةٍ: جاز. وتكفن المرأة في خمسة أثوابٍ: إزارٍ، وخمارٍ، وقميصٍ، ولفافتين (¬1). والواجب: ثوبٌ يستر جميعه. فصلٌ السنة: أن يقوم الإمام عند صدره وعند وسطها (¬2)، ويكبر أربعًا يقرأ في الأولى - بعد التعوذ - الفاتحة (¬3)، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثانية - كالتشهد - (¬4)، ¬

_ (¬1) قد جاء في هذا حديثٌ مرفوعٌ؛ إلا أن في إسناده نظرًا؛ لأن فيه راويًا مجهولًا، ولهذا قال بعض العلماء: إن المرأة تكفن فيما يكفن به الرجل؛ أي: في ثلاثة أثوابٍ يلف بعضها على بعضٍ. وهذا القول - إذا لم يصح الحديث - هو الأصح ... وعلى هذا نقول: إن ثبت الحديث بتكفين المرأة في هذه الأثواب الخمسة فهو كذلك، وإن لم يثبت فالأصل تساوي الرجال والنساء في جميع الأحكام إلا ما دل عليه الدليل. (¬2) الصحيح: أنه يقف عند رأس الرجل، لا عند صدره؛ لأن السنة ثبتت بذلك، وعند وسطها؛ أي: وسط المرأة. (¬3) علم من كلامه أنه لا استفتاح فيها ... وقال بعض أهل العلم: بل يستفتح؛ لأنها صلاةٌ. (¬4) إن اقتصر على قوله: (اللهم صل على محمدٍ) كفى كما يكفي ذلك في التشهد.

ويدعو في الثالثة (¬1) فيقول: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا، وأنت على كل شيءٍ قديرٌ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته منا فتوفه عليهما (¬2)، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا (¬3) كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وزوجًا خيرًا من زوجه (¬4)، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار، وافسح له في قبره، ونور له فيه). وإن كان صغيرًا قال (¬5): (اللهم اجعله ذخرًا لوالديه، وفرطًا، وأجرًا، وشفيعًا مجابًا، اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم). ¬

_ (¬1) أي: في التكبيرة الثالثة يدعو بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم إن كان يعرفه، فإن لم يكن يعرفه فبأي دعاءٍ جاز، إلا أنه يخلص الدعاء للميت؛ أي: يخصه بالدعاء. (¬2) قوله: (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته منا فتوفه عليهما): هذه الصيغة لم ترد، والوارد: «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته فتوفه على الإيمان». (¬3) الوارد في الحديث: «ونقه من الخطايا». (¬4) في الحديث: زيادة «وأهلًا خيرٌ من أهله»، لكن حذفها المؤلف - رحمه الله -. (¬5) لم يثبت [هذا الدعاء] بهذه الصيغة للصغير، ولكن ورد أنه يصلى عليه ويدعى له ويدعى لوالديه، ولكن العلماء - رحمهم الله - استحسنوا هذا الدعاء.

ويقف بعد الرابعة قليلًا (¬1)، ويسلم واحدةً عن يمينه (¬2)، ويرفع يديه مع كل تكبيرةٍ. وواجبها: قيامٌ، وتكبيراتٌ أربعٌ، والفاتحة، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، ودعوةٌ للميت، والسلام. ¬

_ (¬1) قوله: (يقف قليلًا): ظاهره أنه لا يدعو، وهو أحد الأقوال في المسألة. واختار بعض الأصحاب - رحمهم الله - أنه يدعو بقوله: (اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله). وقال بعضهم: يدعو بقوله: (ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار) ... والقول بأنه يدعو بما تيسر أولى من السكوت؛ لأن الصلاة عبادةٌ ليس فيها سكوتٌ أبدًا إلا لسببٍ. (¬2) إن سلم تلقاء وجهه فلا بأس، لكن على اليمين أفضل. وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يسن الزيادة على تسليمةٍ واحدةٍ - وهو المذهب -. والصحيح: أنه لا بأس أن يسلم مرةً ثانيةً؛ لورود ذلك في بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. (¬3) وهو مبني على القول بركنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات، أما إذا قلنا بأنها ليست ركنًا في الصلوات فهي هنا ليست بركنٍ، لكن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام لها شأنٌ؛ لأن الفاتحة ثناءٌ على الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلاةٌ عليه، والثالثة دعاءٌ؛ فينبغي للداعي أن يقدم بين يديه الثناء على الله، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يبين هنا كيفيته، ولكنه بين فيما سبق أنه كالتشهد. ويكفي أن يقول: اللهم صل على محمدٍ.

ومن فاته شيءٌ من التكبير: قضاه على صفته (¬1). ومن فاتته الصلاة عليه: صلى على القبر، وعلى غائبٍ (¬2) بالنية إلى شهرٍ (¬3). ولا يصلي الإمام على الغال، ولا على قاتل نفسه (¬4). ¬

_ (¬1) أحوال المسبوق في صلاة الجنازة ثلاث حالاتٍ: الأولى: أن يمكنه قضاء ما فات قبل أن تحمل الجنازة فهنا يقضي، ولا إشكال فيه ... الثانية: أن يخشى من رفعها، فيتابع التكبير وإن لم يدع إلا دعاءً قليلًا للميت. الثالثة: أن يسلم مع الإمام، ويسقط عنه ما بقي من التكبير ... ومع هذا؛ فليس هناك نص صريحٌ في الموضوع؛ أعني: سلامه مع الإمام أو متابعته التكبير بدون دعاءٍ، لكنه اجتهادٌ من أهل العلم - رحمهم الله -. (¬2) هذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوالٍ ثلاثةٍ: القول الأول: أنه يصلى على كل غائبٍ ولو صلى عليه آلاف الناس ... القول الثاني: أنه يصلى على الغائب إذا كان فيه غناءٌ للمسلمين؛ أي: منفعةٌ؛ كعالمٍ نفع الناس بعلمه، وتاجرٍ نفع الناس بماله، ومجاهدٍ نفع الناس بجهاده - وما أشبه ذلك - ... وهذا قولٌ وسطٌ اختاره كثيرٌ من علمائنا المعاصرين وغير المعاصرين. القول الثالث: لا يصلى على الغائب إلا على من لم يصل عليه، حتى وإن كان كبيرًا في علمه أو ماله أو جاهه - أو غير ذلك -، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (¬3) الصحيح: أنه يصلى على الغائب ولو بعد شهرٍ، ونصلي على القبر - أيضًا - ولو بعد شهرٍ، إلا أن بعض العلماء قيده بقيدٍ حسنٍ؛ قال: بشرط أن يكون هذا المدفون مات في زمنٍ يكون فيه هذا المصلي أهلًا للصلاة. (¬4) وما ساوى هاتين المعصيتين ورأى الإمام المصلحة في عدم الصلاة عليه؛ فإنه لا يصلي عليه.

ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد. فصلٌ يسن التربيع في حمله (¬1)، ويباح بين العمودين (¬2). ويسن: الإسراع بها (¬3)، وكون المشاة أمامها (¬4) والركبان خلفها (¬5). ويكره جلوس تابعها حتى توضع. ويسجى قبر امرأةٍ فقط. واللحد أفضل من الشق. ويقول مدخله (¬6): (بسم الله، وعلى ملة رسول الله)، ويضعه في لحده على ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: بل يحمله بين العمودين. (¬2) وقال بعض العلماء: يسن أن يحمل بين العمودين. والذي يظهر لي في هذا: أن الأمر واسعٌ، وأنه ينبغي أن يفعل ما هو أسهل. (¬3) قال الفقهاء مفسرين للإسراع المشروع: (بحيث لا يمشي مشيته المعتادة). (¬4) جاءت السنة - أيضًا - بتخيير الماشي بين أن يكون أمامها أو عن يمينها أو عن شمالها أو خلفها؛ بحسب ما يتيسر. (¬5) أما السيارات فإن الأولى أن تكون أمام الجنازة؛ لأنها إذا كانت خلف الناس أزعجتهم ... وحمل الجنازة بالسيارة لا ينبغي إلا لعذرٍ؛ كبعد المقبرة أو وجود رياحٍ أو أمطارٍ أو خوفٍ - ونحو ذلك -؛ لأن الحمل على الأعناق هو الذي جاءت به السنة، ولأنه أدعى للاتعاظ والخشوع. (¬6) لا يشترط فيمن يتولى إدخال الميتة في قبرها أن يكون من محارمها، فيجوز أن ينزلها شخصٌ ولو كان أجنبيا.

شقه الأيمن (¬1) مستقبل القبلة. ويرفع القبر عن الأرض قدر شبرٍ مسنمًا (¬2). ويكره: تجصيصه، والبناء (¬3)، والكتابة (¬4)، والجلوس (¬5)، والوطء عليه (¬6)، والاتكاء إليه. ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر إلا لضرورةٍ (¬7)، ويجعل بين كل اثنين حاجزٌ من ¬

_ (¬1) ليس على سبيل الوجوب؛ بل على سبيل الأفضلية أن يكون على الشق الأيمن. (¬2) استثنى العلماء من هذه المسألة: إذا مات الإنسان في دار حربٍ؛ أي: في دار الكفار المحاربين؛ فإنه لا ينبغي أن يرفع قبره؛ بل يسوى خوفًا عليه من الأعداء أن ينبشوه ويمثلوا به - وما أشبه ذلك -. (¬3) الاقتصار على الكراهة في هاتين المسألتين فيه نظرٌ ... ؛ فالصحيح: أن تجصيصها والبناء عليها حرامٌ. (¬4) ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله -: أن الكتابة مكروهةٌ ولو كانت بقدر الحاجة؛ أي حاجة بيان صاحب القبر؛ درءًا للمفسدة. وقال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: المراد بالكتابة: ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من كتابات المدح والثناء؛ لأن هذه هي التي يكون بها المحظور، أما التي بقدر الإعلام فإنها لا تكره. (¬5) الصواب: أنه محرمٌ. (¬6) الصحيح: أنه حرامٌ. (¬7) الراجح عندي - والله أعلم -: القول الوسط، وهو الكراهة - كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -، إلا إذا كان الأول قد دفن واستقر في قبره؛ فإنه أحق به، وحينئذٍ فلا يدخل عليه ثانٍ، اللهم إلا للضرورة القصوى.

ترابٍ (¬1). ولا تكره القراءة على القبر (¬2). وأي قربةٍ فعلها وجعل ثوابها لميتٍ مسلمٍ أو حي: نفعه ذلك (¬3). وسن أن يصلح لأهل الميت طعامٌ يبعث به إليهم (¬4)، ويكره لهم فعله للناس. ¬

_ (¬1) هذا ليس على سبيل الوجوب؛ بل على سبيل الأفضلية. (¬2) الصحيح: أن القراءة على القبر مكروهةٌ؛ سواءٌ كان عند الدفن أو بعد الدفن؛ لأنه لم يعمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عهد عن الخلفاء الراشدين. (¬3) إن كان ميتًا ففعل الطاعة عنه فقد يكون متوجهًا؛ لأن الميت محتاجٌ ولا يمكنه العمل، لكن إن كان حيا قادرًا على أن يقوم بهذا العمل ففي ذلك نظرٌ؛ لأنه يؤدي إلى اتكال الحي على هذا الرجل الذي تقرب إلى الله عنه، وهذا لم يعهد عن الصحابة - رضي الله عنهم -، ولا عن السلف الصالح؛ وإنما الذي عهد منهم هو جعل القرب للأموات، أما الأحياء فلم يعهد، اللهم إلا ما كان فريضةً كالحج؛ فإن ذلك عهد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بشرط أن يكون المحجوج عنه عاجزًا عجزًا لا يرجى زواله. (¬4) ظاهر كلام المؤلف: أن صنع الطعام لأهل الميت سنةٌ مطلقًا، ولكن السنة تدل على أنه ليس بسنةٍ مطلقًا، وإنما هو سنةٌ لمن انشغلوا عن إصلاح الطعام بما أصابهم من مصيبةٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فقد أتاهم ما يشغلهم» ... ، فظاهر التعليل: أنه إذا لم يأتهم ما يشغلهم فلا يسن أن يصنع لهم.

فصلٌ تسن زيارة القبور إلا لنساءٍ (¬1). ويقول إذا زارها: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم). وتسن تعزية المصاب بالميت. ويجوز البكاء على الميت (¬2)، ويحرم: الندب، والنياحة، وشق الثوب، ولطم الخد - ونحوه -. ¬

_ (¬1) قوله: (إلا لنساءٍ): فليست بسنةٍ، وفي المسألة خمسة أقوالٍ: فقيل: إنه سنةٌ للنساء كالرجال، وقيل: تكره، وقيل: تباح، وقيل: تحرم، وقيل: من الكبائر ... والصحيح: أن زيارة المرأة للقبور من كبائر الذنوب ... ويفرق بين المرأة إذا خرجت بقصد الزيارة وإذا مرت بدون قصد الزيارة؛ فإذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة فلا حرج أن تسلم على أهل القبور وأن تدعو لهم. وأما إذا خرجت لقصد الزيارة فهذه زائرةٌ للمقبرة، فيصدق عليها اللعن. (¬2) أما البكاء المتكلف فأخشى أن يكون من النياحة.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة تجب بشروطٍ خمسةٍ: حريةٌ، وإسلامٌ، وملك نصابٍ، واستقراره، ومضي الحول في غير المعشر - إلا نتاج السائمة وربح التجارة (¬1) ولو لم يبلغ نصابًا فإن حولهما حول أصلهما إن كان نصابًا، وإلا فمن كماله (¬2) -. ومن كان له دينٌ، أو حق من صداقٍ وغيره على مليءٍ - أو غيره -: أدى زكاته إذا قبضه لما مضى (¬3). ¬

_ (¬1) هذا ما ذكره المؤلف [مما لا يشترط له تمام الحول]، ويضاف إليه ما يأتي: - الركاز ... ، فهذا فيه الخمس بمجرد وجوده ... - المعدن؛ لأنه أشبه بالثمار من غيرها؛ فلو أن إنسانًا عثر على معدن ذهبٍ أو فضةٍ واستخرج منه نصابًا فيجب أداء زكاته فورًا قبل تمام الحول. - العسل - على القول بوجوب الزكاة فيه -. - الأجرة - على رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -؛ فتخرج الزكاة عنده بمجرد قبضها؛ لأنها كالثمرة. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا يشترط البلوغ ولا العقل ... ، وهذا القول أصح [من قول من يقول: إنها لا تجب في مال الصغير والمجنون]. (¬3) الصحيح: أنه تجب الزكاة فيه كل سنةٍ إذا كان على غني باذلٍ؛ لأنه في حكم الموجود عندك، ولكن يؤديها إذا قبض الدين، وإن شاء أدى زكاته مع زكاة ماله، والأول رخصةٌ والثاني فضيلةٌ وأسرع في إبراء الذمة. أما إذا كان على مماطلٍ أو معسرٍ فلا زكاة عليه ولو بقي عشر سنواتٍ؛ لأنه عاجزٌ عنه، ولكن إذا قبضه يزكيه مرةً واحدةً في سنة القبض فقط، ولا يلزمه زكاة ما مضى.

ولا زكاة في مال من عليه دينٌ ينقص النصاب ولو كان المال ظاهرًا (¬1)، وكفارةٌ كدينٍ. وإن ملك نصابًا صغارًا: انعقد حوله حين ملكه. وإن نقص النصاب في بعض الحول، أو باعه (¬2)، أو أبدله بغير جنسه (¬3) - لا فرارًا من الزكاة -: انقطع الحول، وإن أبدله بجنسه: بنى على الحول (¬4). ¬

_ (¬1) الذي أرجحه: أن الزكاة واجبةٌ مطلقًا ولو كان عليه دينٌ ينقص النصاب؛ إلا دينًا وجب قبل حلول الزكاة؛ فيجب أداؤه ثم يزكي ما بقي بعده، وبذلك تبرأ الذمة ... وهذا الذي اخترناه هو اختيار شيخنا عبد العزيز بن بازٍ. (¬2) يستثنى من ذلك: عروض التجارة. (¬3) عروض التجارة تجب في قيمتها؛ فلا ينقطع الحول إذا أبدل عروض التجارة بذهبٍ أو فضةٍ، وكذلك إذا أبدل ذهبًا أو فضةً بعروض تجارةٍ؛ لأن العروض تجب الزكاة في قيمتها لا في عينها؛ فكأنه أبدل دراهم بدراهم؛ فالذهب والفضة والعروض تعتبر شيئًا واحدًا، وكذا إذا أبدل ذهبًا بفضةٍ إذا قصد بهما التجارة؛ فيكونان كالجنس الواحد. (¬4) أما إذا اتفقا في الجنس واختلفا في الحكم فإنه ينقطع الحول. مثال ذلك: إذا أبدل ماشيةً سائمةً بماشية عروض تجارةٍ فإنه ينقطع الحول؛ لأن المال في الحقيقة اختلف، فالنصاب الأخير - وهو عروض التجارة - لا يراد به عين المال؛ بل يراد به قيمته. ولذلك ينبغي أن يضاف إلى قول المؤلف: (واتفقا في الحكم؛ بنى على الحول)؛ بأن كانا عروضًا أو سائمةً - أو ما أشبه ذلك -.

وتجب الزكاة في: عين المال، ولها تعلقٌ بالذمة (¬1). ولا يعتبر في وجوبها: إمكان الأداء، ولا بقاء المال (¬2). والزكاة كالدين في التركة (¬3). ¬

_ (¬1) يستثنى من ذلك مسألةٌ واحدةٌ، وهي العروض؛ فإن الزكاة لا تجب في عينها ولكن تجب في قيمتها، ولهذا لو أخرج زكاة العروض منها لم تجزئه؛ بل يجب أن يخرجها من القيمة ... ، فالصحيح: أنه لا يصح إخراج زكاة العروض إلا من القيمة. (¬2) الصواب: أنه لا يشترط لوجوبها بقاء المال؛ إلا أن يتعدى أو يفرط. (¬3) هذا فيما إذا كان ... لم يتعمد تأخير الزكاة؛ فإننا نخرجها من تركته وتجزئ عنه، وتبرأ بها ذمته ... أما إذا تعمد ترك إخراج الزكاة، ومنعها بخلًا ثم مات؛ فالمذهب أنه تخرج وتبرأ بها ذمته. وقال ابن القيم - رحمه الله -: إنها لا تبرأ منها ذمته ولو أخرجوها من تركته ... وما قال - رحمه الله - صحيحٌ في أنه لا يجزئ ذلك عنه، ولا تبرأ بها ذمته. ولكن كوننا نسقطها عن المال؛ هذا محل نظرٍ؛ فإن غلبنا جانب العبادة قلنا بعدم إخراجها من المال ... ، وإن غلبنا جانب الحق - أي: حق أهل الزكاة - قلنا بإخراجها ... والأحوط أننا نخرجها من تركته .... ، ولكن لا تنفعه عند الله؛ لأنه رجلٌ مصر على عدم إخراجها.

باب زكاة بهيمة الأنعام

باب زكاة بهيمة الأنعام تجب في: إبلٍ، وبقرٍ، وغنمٍ؛ إذا كانت سائمةً الحول أو أكثره (¬1). فيجب في خمسٍ وعشرين من الإبل: بنت مخاضٍ، وفيما دونها في كل خمسٍ شاةٌ، وفي ست وثلاثين بنت لبونٍ، وفي ست وأربعين حقةٌ، وفي إحدى وستين جذعةٌ، وفي ست وسبعين بنتا لبونٍ، وفي إحدى وتسعين حقتان. فإذا زادت على مئةٍ وعشرين واحدةً: فثلاث بنات لبونٍ، ثم في كل أربعين بنت لبونٍ، وفي كل خمسين حقةٌ. فصلٌ ويجب في ثلاثين من البقر: تبيعٌ أو تبيعةٌ، وفي أربعين مسنةٌ، ثم في كل ثلاثين تبيعٌ، وفي كل أربعين مسنةٌ، ويجزئ الذكر هنا، وابن لبونٍ مكان بنت مخاضٍ، وإذا كان النصاب كله ذكورًا (¬2). ¬

_ (¬1) يشترط كذلك أن تكون معدةً للدر والنسل؛ ليخرج بذلك المعدة للتجارة. (¬2) قال بعض العلماء: إذا كان النصاب ذكورًا فيجب ما عينه الشارع؛ فلو كان عنده خمسٌ وعشرون من الإبل كلها ذكورٌ وجب عليه بنت مخاضٍ، فإن لم يجد فابن لبونٍ ذكرٍ، وإن كان عنده ستةٌ وثلاثون جملًا ففيها بنت لبونٍ، ولا يجزئ ابن لبونٍ. وهذا القول أقرب إلى ظاهر السنة.

فصلٌ ويجب في أربعين من الغنم: شاةٌ، وفي مئةٍ وإحدى وعشرين شاتان، وفي مئتين وواحدةٍ ثلاث شياهٍ، ثم في كل مئةٍ شاةٌ. والخلطة تصير المالين كالواحد (¬1). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: العموم، وليس كذلك؛ إنما مراده: الخلطة في بهيمة الأنعام فقط، هذا هو المشهور من المذهب، وهو القول الأول في المسألة. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخلطة في الأموال الظاهرة تصير المالين كالمال الواحد عمومًا.

باب زكاة الحبوب والثمار

باب زكاة الحبوب والثمار تجب في الحبوب كلها ولو لم تكن قوتًا، وفي كل ثمرٍ يكال ويدخر - كتمرٍ وزبيبٍ -. ويعتبر بلوغ نصابٍ قدره ألفٌ وست مئة رطلٍ عراقي. وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعضٍ في تكميل النصاب، لا جنسٌ إلى آخر. ويعتبر أن يكون النصاب مملوكًا له وقت وجوب الزكاة؛ فلا تجب فيما يكتسبه اللقاط، أو يأخذه بحصاده، ولا فيما يجتنيه من المباح - كالبطم والزعبل وبزر قطونا - ولو نبت في أرضه. فصلٌ يجب عشرٌ فيما سقي بلا مؤونةٍ، ونصفه معها، وثلاثة أرباعه بهما، فإن تفاوتا فبأكثرهما نفعًا، ومع الجهل: العشر. وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر: وجبت الزكاة. ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر، فإن تلفت قبله بغير تعد منه سقطت (¬1). ¬

_ (¬1) [وكذلك إن تلفت بعد جعلها في البيدر؛ فالصحيح: أنه لا تجب الزكاة عليها ما لم يتعد أو يفرط].

ويجب العشر على مستأجر الأرض دون مالكها. وإذا أخذ من ملكه أو مواتٍ من العسل مئةً وستين رطلًا عراقيا (¬1): ففيه عشره (¬2). والركاز: ما وجد من دفن الجاهلية؛ ففيه: الخمس - في قليله وكثيره -. ¬

_ (¬1) قيل: إن النصاب ست مئة رطلٍ عراقي. وقال في «المغني»: ويحتمل أن يكون نصابه ألف رطلٍ عراقي. (¬2) أفادنا المؤلف - رحمه الله - وجوب الزكاة في العسل ... وذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم وجوب الزكاة في العسل ... ولا يخلو إخراجها من كونه خيرًا؛ لأنه إن كان واجبًا فقد أدى ما وجب، وإن لم يكن واجبًا فهو صدقةٌ، ومن لم يخرج فإننا لا نستطيع أن نؤثمه ... ؛ لأن هذا يحتاج إلى دليلٍ تطمئن إليه النفس.

باب زكاة النقدين

باب زكاة النقدين يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالًا، وفي الفضة إذا بلغت مئتي درهمٍ (¬1): ربع العشر منهما. ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب (¬2). وتضم قيمة العروض إلى كل منهما. ويباح للذكر من الفضة: الخاتم، وقبيعة السيف، وحلية المنطقة - ونحوه - (¬3). ¬

_ (¬1) المؤلف - رحمه الله - اعتبر الذهب بالوزن، واعتبر الفضة بالعدد، والمذهب: أن المعتبر فيهما الوزن ... وقال شيخ الإسلام: العبرة بالعدد ... ولو ذهب ذاهبٌ إلى أن المعتبر الأحوط ... ؛ لم يكن بعيدًا من الصواب. (¬2) القول الثاني: عدم الضم ... ، وهذا هو القول الراجح؛ لدلالة السنة والقياس الصحيح عليه. (¬3) لا يوجد نص صحيحٌ في تحريم لباس الفضة على الرجال؛ لا خاتمًا ولا غيره ... ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - وجماعةٌ من العلماء -: الأصل في لباس الفضة هو الحل حتى يقوم دليلٌ على التحريم ... أما السوار والقلادة في العنق - وما أشبه ذلك -؛ فهذا حرامٌ من وجهٍ آخر، وهو التشبه بالنساء والتخنث، وربما يساء الظن بهذا الرجل؛ فهذا يحرم لغيره لا لذاته.

ومن الذهب: قبيعة السيف، وما دعت إليه ضرورةٌ؛ كأنفٍ - ونحوه (¬1) -. ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه ولو كثر. ولا زكاة في حليهما المعد للاستعمال أو العارية (¬2)، فإن أعد للكرى، أو للنفقة، أو كان محرمًا: ففيه الزكاة. ¬

_ (¬1) مثل السن والأذن ... ولكن إذا كان يمكن أن يجعل له سنا من غير الذهب - كالأسنان المعروفة الآن -؛ فالظاهر أنه لا يجوز من الذهب لأنه ليس بضرورةٍ ... ، وكذلك إذا اسود السن ولم ينكسر فإنه لا يجوز تلبيسه بالذهب؛ لأنه لا يعتبر ضرورةً ما لم يخش تكسره أو تآكله فإنه يجوز. (¬2) القول الثاني - وهو روايةٌ عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة -: أن الزكاة واجبةٌ في الحلي من الذهب والفضة ... ولا شك أن [أدلة من قال بالوجوب] أقوى من أدلة من قال بعدم الوجوب ... وهذه المسألة - أعني: زكاة الحلي - اختلف الناس فيها كثيرًا، وظهر الخلاف في الآونة الأخيرة؛ حيث كان الناس في نجدٍ والحجاز لا يعرفون إلا المشهور من مذهب الإمام أحمد - وهو عدم وجوب زكاة الحلي -. ثم لما ظهر القول بوجوب الزكاة في الحلي على يد شيخنا عبد العزيز بن بازٍ ... ؛ صار الناس يبحثون في هذه المسألة، وكثر القائلون بذلك وشاع القول بها - والحمد لله -. وهذا القول - مع كونه أظهر دليلًا وأصح تعليلًا - هو مقتضى الاحتياط.

باب زكاة العروض

باب زكاة العروض إذا ملكها بفعله بنية التجارة وبلغت قيمتها نصابًا: زكى قيمتها. فإن ملكها بإرثٍ، أو ملكها بفعله بغير نية التجارة ثم نواها: لم تصر لها (¬1). وتقوم عند الحول بالأحظ للفقراء؛ من عينٍ أو ورقٍ. ولا يعتبر ما اشتريت به. وإن اشترى عرضًا بنصابٍ من أثمانٍ أو عروضٍ: بنى على حوله، وإن اشتراه بسائمةٍ: لم يبن. ¬

_ (¬1) القول الثاني في المسألة: أنها تكون للتجارة بالنية ولو ملكها بغير فعله ولو ملكها بغير نية التجارة ... فهناك فرقٌ بين شخصٍ يجعل [الشيء الذي يملكه] رأس مالٍ يتجر به، وشخصٍ عدل عن هذا الشيء ورغب عنه وأراد أن يبيعه؛ فالصورة الأولى فيها الزكاة - على القول الراجح -، والثانية: لا زكاة فيها. أما على ما مشى عليه المؤلف - رحمه الله - فإنه لا زكاة في المسألتين؛ لأنه اشترط أن تكون نية التجارة مقارنةً للتملك.

باب زكاة الفطر

باب زكاة الفطر تجب على كل مسلمٍ فضل له يوم العيد وليلته صاعٌ (¬1) عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية. ولا يمنعها الدين إلا بطلبه (¬2). فيخرج عن نفسه وعن مسلمٍ يمونه (¬3) - ولو شهر رمضان (¬4) -. ¬

_ (¬1) إنما خص الصاع لأنه الواجب؛ إذ لا يجب على الإنسان أكثر من صاعٍ، ولا يسقط عنه ما دون الصاع إذا لم يجد غيره؛ بل يخرج ما يقدر عليه؛ فإذا كان عنده ما يقوته يوم العيد وليلته وبقي صاعٌ فإنه يجب عليه إخراجه، وكذلك لو بقي نصف صاعٍ فإنه يخرجه. (¬2) الأقرب ... : أنه لا يمنعها الدين مطلقًا؛ سواءٌ طولب به أو لم يطالب - كما قلنا في وجوب زكاة الأموال -، وأن الدين لا يمنعها إلا أن يكون حالا قبل وجوبها فإنه يؤدي الدين وتسقط عنه زكاة الفطر. (¬3) [أي: وجوبًا] ... ، والصحيح: أن زكاة الفطر واجبةٌ على الإنسان بنفسه ... ، ولا تجب على الشخص عمن يمونه من زوجةٍ وأقارب ... وينبني على هذا: إذا كان هؤلاء لا يجدون زكاة الفطر؛ فإذا قلنا: إنها واجبةٌ عليه أثم، وإذا قلنا بالقول الثاني لم يأثم وهم لا يأثمون لعدم وجود مالٍ عندهم. لكن الأولاد الصغار الذين لا مال لهم قد نقول بوجوبها على آبائهم؛ لأن هذا هو المعروف عن الصحابة - رضي الله عنهم -. (¬4) هذا القول مبني على ما سبق من أن زكاة الفطر تجب على الذي يمون شخصًا آخر، وتقدم أن الصحيح عدم الوجوب، فيكون الضيف - ونحوه - من باب أولى ألا تجب زكاة الفطر عليه عنهم.

فإن عجز عن البعض: بدأ بنفسه، فامرأته، فرقيقه (¬1)، فأمه، فأبيه، فولده (¬2)، فأقرب في ميراثٍ (¬3). والعبد بين شركاء: عليهم صاعٌ. ويستحب عن الجنين (¬4). ولا تجب لناشزٍ (¬5). ومن لزمت غيره فطرته فأخرج عن نفسه بغير إذنه: أجزأت (¬6). ¬

_ (¬1) الرقيق مقدمٌ على الجميع؛ لأن فطرته واجبةٌ على سيده، لكن إن لم يكن عنده إلا صاعٌ واحدٌ ففي هذه الحال يخرج الصاع عن نفسه دون رقيقه. (¬2) [هذا] بناءً على وجوب الزكاة عليه عنهم ... ، وأما القول الراجح: فلا شيء عليه؛ إن أدى عنهم أثيب، وإن لم يؤد عنهم فلا شيء عليه سوى العبد؛ فإن فطرته واجبةٌ على سيده. (¬3) هذا ليس على إطلاقه؛ بل يقيد بما إذا كان يجب عليه الإنفاق عليه؛ أما إذا لم يجب الإنفاق عليه - كالعم الذي له أبناءٌ -؛ فلا تجب عليه زكاته؛ لأنه لا يرثه. (¬4) الذي يظهر لي: أننا إذا قلنا باستحباب إخراجها عن الجنين؛ فإنما تخرج عمن نفخت فيه الروح، ولا تنفخ الروح إلا بعد أربعة أشهرٍ. (¬5) هذا بناءً على أنه يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عمن يمونه ومن تلزمه النفقة، [وقد تقدم أن الصحيح عدم الوجوب]. (¬6) هذا تسليمٌ من الفقهاء - رحمهم الله - أن الإنسان مخاطبٌ بإخراج الزكاة عن نفسه، وقد سبق أن قلنا: إن هذا هو الرأي الراجح الصحيح. وفهم من قوله ... : أن من أخرج عمن لا تلزمه فطرته فإنه لا بد من إذنه ... ، والراجح: أنه يجزئ إذا رضي الغير.

وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر، فمن أسلم بعده، أو ملك عبدًا، أو تزوج، أو ولد له: لم تلزمه فطرته، وقبله تلزم. ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط، ويوم العيد قبل الصلاة أفضل، وتكره في باقيه (¬1)، ويقضيها بعد يومه آثمًا (¬2). فصلٌ ويجب صاعٌ من: بر، أو شعيرٍ - أو دقيقهما (¬3)، أو سويقهما -، أو تمرٍ، أو زبيبٍ، أو أقطٍ (¬4). ¬

_ (¬1) الصحيح: أن إخراجها في هذا الوقت محرمٌ، وأنها لا تجزئ. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنه إذا أخرجها يوم العيد تقع أداءً، وبعده تقع قضاءً. والصواب في هذا - والذي تقتضيه الأدلة -: أنها لا تقبل زكاته منه إذا أخرها ولم يخرجها إلا بعد الصلاة من يوم العيد؛ بل تكون صدقةً من الصدقات، ويكون بذلك آثمًا. (¬3) لكن على أن يكون المعتبر في الدقيق الوزن؛ لأن الحب إذا طحن انتشرت أجزاؤه. (¬4) الواجب: أن زكاة الفطر تخرج من طعام الآدميين، وإذا كانت هذه الأطعمة متنوعةً فإننا نأخذ بالوسط العام، وفي وقتنا الحاضر وجدنا أكثر شيءٍ هو الرز ... لكن يبقى النظر فيما إذا لم تكن هذه الأنواع [التي ذكرها المؤلف]- أو بعضها - قوتًا، فهل تجزئ؟ الصحيح: أنها لا تجزئ ... ، وعلى هذا: فإن لم تكن هذه الأشياء من القوت كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها لا تجزئ.

فإن عدم الخمسة: أجزأ كل حب وثمرٍ يقتات، لا معيبٌ (¬1)، ولا خبزٌ (¬2). ويجوز أن يعطى الجماعة (¬3) ما يلزم الواحد - وعكسه -. ¬

_ (¬1) خلاصة ذلك - على كلام المؤلف -: أنه إن عدم الإنسان أيا من الأصناف الخمسة السابقة أجزأه كل حب بدلًا من الشعير والبر، أو كل ثمرٍ بدلًا من الزبيب والتمر. ولكن إذا كان قوت الناس ليس حبا ولا ثمرًا؛ بل لحمًا - مثل أولئك الذي يقطنون القطب الشمالي؛ فإن قوتهم وطعامهم في الغالب هو اللحم -؛ فظاهر كلام المؤلف: أنه لا يجزئ إخراجه في زكاة الفطر، ولكن الصحيح أنه يجزئ إخراجه، ولا شك في ذلك. ولكن يرد علينا أن صاع اللحم يتعذر كيله، فنقول: إن تعذر الكيل رجعنا إلى الوزن، مع أن اللحم إذا يبس يمكن أن يكال. (¬2) الصحيح في الخبز: أنه إذا كان قوتًا - بأن ييبس وينتفع الناس به - فلا بأس بإخراجه، أما إذا كان رطبًا فلا يصلح أن يقتات ... والصحيح: أن كل ما كان قوتًا من حب وثمرٍ ولحمٍ - ونحوها - فهو مجزئٌ؛ سواءٌ عدم الخمسة أو لم يعدمها. (¬3) قوله: (الجماعة)؛ أي: ممن يستحقون زكاة الفطر. وهل مصرف زكاة الفطر مثل مصرف بقية الزكاوات؟ أو أن مصرفها لذوي الحاجة من الفقراء؟ الجواب: هناك قولان لأهل العلم، وهما: الأول: أنه تصرف مصرف بقية الزكوات؛ حتى للمؤلفة قلوبهم والغارمين - وهو ما ذهب إليه المؤلف -. الثاني: أن زكاة الفطر مصرفها للفقراء فقط، وهو الصحيح.

باب إخراج الزكاة

باب إخراج الزكاة ويجب على الفور مع إمكانه (¬1) إلا لضررٍ (¬2). فإن منعها جحدًا لوجوبها: كفر عارفٌ بالحكم، وأخذت منه، وقتل (¬3)، أو بخلًا: أخذت منه، وعزر. وتجب في مال صبي ومجنونٍ؛ فيخرجها وليهما. ولا يجوز إخراجها إلا بنيةٍ. والأفضل أن يفرقها بنفسه، ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد. والأفضل: إخراج زكاة كل مالٍ في فقراء بلده، ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه ¬

_ (¬1) ليس من ذلك [إذا وجب على المرأة زكاة الحلي]؛ فيمكن لها أن تزكي على الفور، وذلك بأن تبيع من الحلي بمقدار الزكاة وتخرج الزكاة؛ ما لم يتبرع لها زوجها - أو أحدٌ من أقاربها -، فإن تبرع فلا بأس. (¬2) [أو مصلحةٍ؛ فإنه يجوز تأخيرها لمصلحةٍ وليس لضررٍ؛ كتأخيرها إلى الشتاء؛ لأن أيام الشتاء يكون الفقير فيها أشد حاجةً، أو تأخيرها من أجل أن يتحرى من يستحقها]. (¬3) وإذا تاب قبلت توبته ولم يقتل ... وظاهر كلام المؤلف: أنه يقتل ولا يستتاب. وهذا الظاهر قد يكون مرادًا، وقد يكون غير مرادٍ، وأن المراد بيان الحكم بقطع النظر عن شروطه.

الصلاة (¬1) - فإن فعل أجزأت -؛ إلا أن يكون في بلدٍ لا فقراء فيه؛ فيفرقها في أقرب البلاد إليه (¬2). فإن كان في بلدٍ وماله في آخر: أخرج زكاة المال في بلده، وفطرته في بلدٍ هو فيه. ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل (¬3)، ولا يستحب (¬4). ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: يجوز نقلها إلى البلد البعيد أو القريب للحاجة أو للمصلحة ... وهذا القول هو الصحيح. وحكم زكاة الفطر حكم زكاة المال بالنسبة للنقل إذا كان هناك حاجةٌ أو مصلحةٌ. (¬2) سبق أن قلنا: إن الراجح في هذه المسألة أنه يجوز نقلها للحاجة أو المصلحة. (¬3) لكن بشرط أن يكون عنده نصابٌ، فإن لم يكن عنده نصابٌ وقال: (سأعجل زكاة مالي؛ لأنه سيأتيني مالٌ في المستقبل) فإنه لا يجزئ إخراجه. (¬4) لكن نفي الاستحباب لا يقتضي عدم ثبوته لسببٍ شرعي؛ مثل أن تدعو الحاجة للتعجيل؛ كمعونة مجاهدين، أو لحاجة قريبٍ - أو ما أشبه ذلك -؛ فهنا استحباب تعجيلها ليس لذاته، وإنما لغيره.

باب أهل الزكاة

باب أهل الزكاة ثمانيةٌ: الفقراء، وهم: من لا يجدون شيئًا، أو يجدون بعض الكفاية. والمساكين: يجدون أكثرها أو نصفها. والعاملون عليها: وهم جباتها وحفاظها (¬1). الرابع: المؤلفة قلوبهم؛ ممن يرجى إسلامه، أو كف شره (¬2)، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه. الخامس: الرقاب: وهم المكاتبون - ويفك منها الأسير المسلم -. السادس: الغارم لإصلاح ذات البين (¬3) - ولو مع غنى -، أو لنفسه مع الفقر. ¬

_ (¬1) والقاسمون لها [أيضًا]: الذين يقسمونها في أهلها. فالزكاة تحتاج إلى ثلاثة أشياء: جبايةٌ، وحفظٌ، وتقسيمٌ؛ فالذين يشتغلون في هذه هم العاملون عليها. أما الرعاة فهم من العاملين فيها، وليسوا من العاملين عليها، ولذلك لا يعطون على أنهم من أهل الزكاة، ولكن يعطون من الزكاة بكونهم أجراء. (¬2) إن استطعنا كف شره بالقوة فلا حاجة إلى إعطائه. (¬3) ينبغي التفصيل، فيقال: يعطى من الزكاة في حالين: - إذا لم يوف من ماله؛ فهنا ذمته مشغولةٌ، فلا بد أن نفكه. - إذا وفى من ماله بنية الرجوع على أهل الزكاة لأجل ألا نسد باب الإصلاح ... وفي حالين لا يعطى فيهما من الزكاة: - إذا دفع من ماله بنية التقرب لله؛ لأنه أخرجه لله؛ فلا يجوز الرجوع فيه. - إذا دفع من ماله ولم يكن بباله الرجوع على أهل الزكاة.

السابع: في سبيل الله: وهم الغزاة (¬1) المتطوعة الذين لا ديوان لهم (¬2). الثامن: ابن السبيل: المسافر، المنقطع به، دون المنشئ للسفر من بلده؛ فيعطى ما يوصله إلى بلده (¬3). ومن كان ذا عيالٍ: أخذ ما يكفيهم. ويجوز صرفها إلى صنفٍ واحدٍ. ويسن إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤونتهم. ¬

_ (¬1) أما قول المؤلف أنهم الغزاة، وتخصيصه بالغزاة: ففيه نظرٌ. والصواب: أنه يشمل الغزاة وأسلحتهم وكل ما يعين على الجهاد في سبيل الله، حتى الأدلاء الذين يدلون على مواقع الجهاد لهم نصيبٌ من الزكاة. (¬2) ظاهر كلامه: أن من لهم ديوانٌ لا يعطون من الزكاة. وهذا حق إذا كان العطاء يكفيهم، وأما إذا كان لا يكفيهم فيعطون من الزكاة ما يكفيهم؛ بل لو قال قائلٌ: (يعطون من الزكاة مطلقًا) لكان له وجهٌ. (¬3) ظاهره: أنه يعطى ما يوصله إلى غاية سفره ثم رجوعه ... ، وليس ما يرجعه فقط؛ لأنه يفوت غرضه إذا قلنا: يرجع.

فصلٌ ولا تدفع إلى: هاشمي (¬1)، ومطلبي (¬2)، ومواليهما (¬3)، ولا إلى فقيرةٍ تحت غني منفقٍ، ولا إلى فرعه وأصله (¬4)، ولا إلى عبدٍ (¬5) وزوجٍ (¬6). ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: يجوز أن يعطوا من الزكاة إذا لم يكن خمسٌ، أو وجد ومنعوا منه ... ، فإذا منعوا أو لم يوجد خمسٌ - كما هو الشأن في وقتنا هذا -؛ فإنهم يعطون من الزكاة دفعًا لضرورتهم إذا كانوا فقراء وليس عندهم عملٌ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح. وأما صدقة التطوع فتدفع لبني هاشمٍ، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الراجح؛ لأن صدقة التطوع كمالٌ، وليست أوساخ الناس. والقول الثاني: لا تحل لهم صدقة التطوع؛ لأن صدقة التطوع من أوساخ الناس ... وهذا القول مال إليه الشوكاني وجماعةٌ من أهل العلم. (¬2) هذا الذي مشى عليه المؤلف: روايةٌ عن الإمام أحمد - رحمه الله -. والصحيح: الرواية الأخرى - وهي المذهب -: أنه يصح دفع الزكاة إلى بني المطلب؛ لأنهم ليسوا من آل محمدٍ. (¬3) إذا قلنا بدفع الزكاة لبني المطلب؛ جاز دفع الزكاة إلى مواليهم. (¬4) القول الراجح الصحيح: أنه يجوز أن يدفع الزكاة لأصله وفرعه ما لم يدفع بها واجبًا عليه، فإن وجبت نفقتهم عليه فلا يجوز أن يدفع لهم الزكاة؛ لأن ذلك يعني أنه أسقط النفقة عن نفسه. (¬5) ويستثنى من هذا: المكاتب [كما سبق] ... واستثنى بعض العلماء: ما إذا كان العبد عاملًا على الزكاة؛ فإنه يعطى على عمالته كما لو كان أجيرًا. (¬6) الصواب: جواز دفع الزكاة إلى الزوج إذا كان من أهل الزكاة.

وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلًا - أو بالعكس -: لم يجزه؛ إلا لغني ظنه فقيرًا فإنه يجزئه (¬1). وصدقة التطوع مستحبةٌ، وفي رمضان وأوقات الحاجات أفضل. وتسن بالفاضل عن كفايته ومن يمونه، ويأثم بما ينقصها. ¬

_ (¬1) ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا دفعها إلى من يظن أنه أهلٌ بعد التحري فبان أنه غير أهلٍ فإنها تجزئه حتى في غير مسألة الغنى - أي: عمومًا -؛ لأنه اتقى الله ما استطاع ... وهذا القول أقرب إلى الصواب.

كتاب الصيام

كتاب الصيام يجب صوم رمضان برؤية هلاله. فإن لم ير مع صحو ليلة الثلاثين: أصبحوا مفطرين. وإن حال دونه غيمٌ أو قترٌ: فظاهر المذهب: يجب صومه (¬1). وإن رئي نهارًا: فهو لليلة المقبلة (¬2). ¬

_ (¬1) [في المسألة أقوالٌ] ... ، وأصح هذه الأقوال: هو التحريم، ولكن إذا رأى الإمام وجوب صوم هذا اليوم، وأمر الناس بصومه فإنه لا ينابذ، ويحصل عدم منابذته بألا يظهر الإنسان فطره، وإنما يفطر سرا. والمسألة - هنا - لم يثبت فيها دخول الشهر، أما لو حكم ولي الأمر بدخول الشهر فالصوم واجبٌ. (¬2) المؤلف لم يرد الحكم بأنه لليلة المقبلة، ولكنه أراد أن ينفي قول من يقول: إنه لليلة الماضية. [وهو الصحيح]، اللهم إلا إذا رئي بعيدًا عن الشمس بينه وبين غروب الشمس مسافةٌ طويلةٌ؛ فهذا قد يقال: إنه لليلة الماضية، ولكنه لم ير فيه لسببٍ من الأسباب، لكن مع ذلك لا نتيقن هذا الأمر. وقوله: (لليلة المقبلة): ليس على إطلاقه - أيضًا -؛ لأنه إن رئي تحت الشمس بأن يكون أقرب للمغرب من الشمس فليس لليلة المقبلة قطعًا، والهلال لا يكون هلالًا إلا إذا تأخر عن الشمس.

وإذا رآه أهل بلدٍ: لزم الناس كلهم الصوم (¬1). ويصام برؤية عدلٍ (¬2) - ولو أنثى -. فإن صاموا بشهادة واحدٍ ثلاثين يومًا فلم ير الهلال (¬3)، أو صاموا لأجل غيمٍ (¬4): لم يفطروا. ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله، أو رأى هلال شوالٍ: صام (¬5). ¬

_ (¬1) القول الثاني: لا يجب إلا على من رآه أو كان في حكمهم بأن توافقت مطالع الهلال، فإن لم تتفق فلا يجب الصوم ... وهذا القول هو القول الراجح ... وعمل الناس اليوم على أنه إذا ثبت عند ولي الأمر؛ لزم جميع من تحت ولايته أن يلتزموا بصومٍ أو فطرٍ. وهذا من الناحية الاجتماعية قولٌ قويٌ، حتى لو صححنا القول الثاني الذي نحكم فيه باختلاف المطالع فيجب على من رأى أن المسألة مبنيةٌ على المطالع ألا يظهر خلافًا لما عليه الناس. (¬2) ويشترط مع العدالة: أن يكون قوي البصر ... ؛ لأنه إن كان ضعيف البصر وهو عدلٌ فإننا نعلم أنه متوهمٌ. (¬3) قال بعض أهل العلم: بل إذا صاموا ثلاثين يومًا بشهادة واحدٍ؛ لزمهم الفطر؛ لأن الفطر تابعٌ للصوم ومبني عليه .... وهذا القول هو الصحيح. (¬4) على القول الصحيح لا ترد هذه المسألة؛ لأنه لن يصام لأجل الغيم؛ فهذه المسألة إنما ترد على قول من يلزمهم بالصيام لأجل الغيم. (¬5) اختار شيخ الإسلام - رحمه الله - في هاتين المسألتين أنه يتبع الناس والذي يظهر لي في مسألة الصوم أول الشهر: ما ذكره المؤلف أنه يصوم، وأما في مسألة الفطر فإنه لا يفطر تبعًا للجماعة، وهذا من باب الاحتياط؛ فنكون قد احتطنا في الصوم والفطر؛ ففي الصوم قلنا له: (صم)، وفي الفطر قلنا له: (لا تفطر؛ بل صم).

ويلزم الصوم لكل مسلمٍ مكلفٍ قادرٍ (¬1). وإذا قامت البينة في أثناء النهار: وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلًا لوجوبه (¬2)، وكذا حائضٌ ونفساء طهرتا، ومسافرٌ قدم مفطرًا (¬3). ومن أفطر لكبرٍ، أو مرضٍ لا يرجى برؤه: أطعم لكل يومٍ مسكينًا (¬4). ¬

_ (¬1) الشرط الرابع: أن يكون مقيمًا، ولم يذكره المؤلف - رحمه الله - اعتمادًا على ما سيذكره في حكم الصوم في السفر، فإن كان مسافرًا فلا يجب عليه الصوم ... ، لكن يلزمه القضاء - كالمريض - ... والشرط الخامس: الخلو من الموانع، وهذا خاص بالنساء؛ فالحائض لا يلزمها الصوم، والنفساء لا يلزمها الصوم ... ، ويلزمها قضاؤه - إجماعًا -. (¬2) [قولٌ آخر]: يلزمهم الإمساك دون القضاء، وذكر روايةً عن أحمد، و [هو] اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب مالكٍ، وهو الراجح. (¬3) يعبر عن هذه المسائل بما إذا زال مانع الوجوب في أثناء النهار؛ فهل يجب الإمساك والقضاء؟ أما القضاء فلا شك في وجوبه. وأما الإمساك؛ فكلام المؤلف - رحمه الله - يدل على وجوبه - وهو المذهب -، وعن أحمد روايةٌ أخرى: لا يلزمهم الإمساك ... ، وهذا القول هو الراجح. (¬4) إذا أعسر المريض الذي لا يرجى برؤه أو الكبير؛ فإنها تسقط عنهما الكفارة؛ لأنه لا واجب مع العجز، والإطعام - هنا - ليس له بدلٌ.

ويسن لمريضٍ يضره (¬1)، ولمسافرٍ يقصر (¬2). وإن نوى حاضرٌ صيام يومٍ ثم سافر في أثنائه: فله الفطر (¬3). وإن أفطرت حاملٌ أو مرضعٌ خوفًا على أنفسهما: قضتاه فقط، وعلى ولديهما: قضتاه وأطعمتا لكل يومٍ مسكينًا (¬4). ومن نوى الصوم ثم جن، أو أغمي عليه جميع النهار ولم يفق جزءًا منه: لم يصح صومه، لا إن نام جميع النهار، ويلزم المغمى عليه القضاء فقط (¬5). ويجب تعيين النية من الليل لصوم كل يومٍ واجبٍ (¬6). ¬

_ (¬1) الصحيح: أنه إذا كان الصوم يضره فإن الصوم حرامٌ، والفطر واجبٌ. (¬2) المسافر له ثلاث حالاتٍ: الأولى: أن لا يكون لصومه مزيةٌ على فطره، ولا لفطره مزيةٌ على صومه؛ ففي هذه الحال يكون الصوم أفضل له ... الثانية: أن يكون الفطر أرفق به؛ فهنا نقول: الفطر أفضل ... الثالثة: أن يشق عليه مشقةً شديدةً غير محتملةٍ؛ فهنا يكون الصوم في حقه حرامًا. (¬3) الصحيح: أنه لا يفطر حتى يفارق القرية. (¬4) [قولٌ آخر]: يلزمهما القضاء فقط دون الإطعام، وهذا القول أرجح الأقوال عندي. (¬5) قال صاحب «الفائق» - أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، ويسمى ابن قاضي الجبل، وله اختياراتٌ جيدةٌ -: إن المغمى عليه لا يلزمه القضاء؛ كالإنسان الذي أغمي عليه في أوقات الصلاة؛ فإن جمهور العلماء لا يلزمونه بالقضاء، وقال: إنه لا فرق بين الصلاة والصوم. (¬6) أي [- على كلام المؤلف -]: يجب أن ينوي كل يومٍ بيومه؛ فمثلًا: في رمضان يحتاج إلى ثلاثين نيةً. وبناءً على ذلك: لو أن رجلًا نام بعد العصر في رمضان ولم يستيقظ من الغد إلا بعد طلوع الفجر لم يصح صومه في ذلك اليوم؛ لأنه لم ينو صومه من ليلته ... وذهب بعض أهل العلم إلى أن ما يشترط فيه التتابع تكفي النية في أوله ما لم يقطعه لعذرٍ فيستأنف النية ... ، وهذا هو الأصح.

لا نية الفرضية (¬1). ويصح النفل بنيةٍ من النهار قبل الزوال أو بعده (¬2). ولو نوى: (إن كان غدًا من رمضان فهو فرضي): لم يجزه (¬3). ومن نوى الإفطار: أفطر. ¬

_ (¬1) الأفضل: أن ينوي صوم رمضان على أنه قائمٌ بفريضةٍ؛ لأن الفرض أحب إلى الله من النفل. (¬2) لكن بشرط ألا يأتي مفطرًا من بعد طلوع الفجر، فإن أتى بمفطرٍ فإنه لا يصح. (¬3) الرواية الثانية عن الإمام أحمد: أن الصوم صحيحٌ إذا تبين أنه من رمضان، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ... وعلى هذا: ينبغي لنا إذا نمنا قبل أن يأتي الخبر ليلة الثلاثين من شعبان، أن ننوي في أنفسنا أنه إن كان غدًا من رمضان فنحن صائمون - وإن كانت نية كل مسلمٍ على سبيل العموم أنه سيصوم لو كان من رمضان، لكن تعيينها أحسن، فيقول في نفسه: (إن كان غدًا من رمضان فهو فرضي) -، فإذا تبين أنه من رمضان بعد طلوع الفجر؛ صح صومه.

باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة

باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة من أكل، أو شرب (¬1)، أو استعط، أو احتقن (¬2)، أو اكتحل بما يصل إلى حلقه (¬3)، أو أدخل إلى جوفه شيئًا من أي موضعٍ كان (¬4) - غير ¬

_ (¬1) يلحق بالأكل والشرب ما كان بمعناهما؛ كالإبر المغذية التي تغني عن الأكل والشرب. (¬2) الاحتقان: هو إدخال الأدوية عن طريق الدبر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا فطر بالحقنة ... ، [وهو] القول الراجح. (¬3) ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن الكحل لا يفطر ولو وصل طعم الكحل إلى الحلق، وقال: إن هذا لا يسمى أكلًا وشربًا، ولا بمعنى الأكل والشرب، ولا يحصل به ما يحصل بالأكل والشرب، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثٌ صريحٌ يدل على أن الكحل مفطرٌ. وما ذهب إليه - رحمه الله - هو الصحيح. وبناءً على هذا: لو أنه قطر في عينه وهو صائمٌ، فوجد الطعم في حلقه فإنه لا يفطر بذلك، أما إذا وصل طعمها إلى الفم وابتلعها فقد صار أكلًا وشربًا. (¬4) [على كلام المؤلف]: فلو أن الإنسان أدخل منظارًا إلى المعدة حتى وصل إليها فإنه يكون بذلك مفطرًا. والصحيح: أنه لا يفطر إلا أن يكون في هذا المنظار دهنٌ - أو نحوه - يصل إلى المعدة بواسطة هذا المنظار ... ولو أن الإنسان كان له فتحةٌ في بطنه وأدخل إلى بطنه شيئًا عن طريق هذه الفتحة؛ فعلى المذهب: يفطر بذلك ... والصحيح: أنه لا يفطر بذلك إلا أن تجعل هذه الفتحة بدلًا عن الفم بحيث يدخل الطعام والشراب منها لانسداد المريء أو تقرحه - ونحو ذلك -، فيكون ما أدخل منها مفطرًا كما لو أدخل من الفم، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

إحليله (¬1) -، أو استقاء، أو استمنى، أو باشر فأمنى، أو أمذى (¬2)، أو كرر النظر فأنزل (¬3)، أو حجم، أو احتجم وظهر دمٌ (¬4)؛ عامدًا ذاكرًا لصومه: فسد. ¬

_ (¬1) القول الراجح - كما سبق -: أن المفطر هو الأكل والشرب، وما أدخل من طريق الإحليل فإنه لا يسمى أكلًا ولا شربًا، وإذا كانت الحقنة - وهي التي تدخل عن طريق الدبر - لا تفطر على القول الراجح؛ فما دخل عن طريق الإحليل من باب أولى. (¬2) الصحيح: القول الثاني: أنه لا يفطر. (¬3) [حكم الاستمرار في النظر بنظرةٍ واحدةٍ كحكم التكرار في النظر]؛ بل قد يكون أقوى منه في استجلاب الشهوة والإنزال. وأما التفكير - بأن فكر حتى أنزل - فلا يفسد صومه ... ؛ إلا إن حصل معه عملٌ يحصل به الإنزال؛ كعبثٍ بذكره - ونحوه -. (¬4) هذه المسألة اختلف عليها العلماء كثيرًا، وهي من مفردات الإمام أحمد؛ فأكثر أهل العلم يرون أن الحجامة لا تفطر، ويستدلون بالآثار والنظر ... واستدل القائلون بالإفطار بحديث شداد بن أوسٍ - وغيره - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم». وهذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم ... ، ومن العلماء من صححه؛ كالإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية - وغيرهما من الحفاظ -، وعلى هذا يكون الحديث حجةً. فإذا كان حجةً وقلنا: إنه يفطر بالحجامة الحاجم والمحجوم، فما الحكمة؟ ... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن إفطار الصائم بالحجامة له حكمةٌ: أما المحجوم فالحكمة هو أنه إذا خرج منه هذا الدم أصاب بدنه الضعف الذي يحتاج معه إلى غذاءٍ لترتد عليه قوته؛ لأنه لو بقي إلى آخر النهار على هذا الضعف فربما يؤثر على صحته في المستقبل؛ فكان من الحكمة أن يكون مفطرًا، وعلى هذا: فالحجامة للصائم لا تجوز في الصيام الواجب إلا عند الضرورة .... ، وأما إذا كان الصوم نفلًا فلا بأس بها؛ لأن الصائم نفلًا له أن يخرج من صومه بدون عذرٍ، لكنه يكره لغير غرضٍ صحيحٍ. أما الحكمة بالنسبة للحاجم؛ فيقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: إن الحاجم عادةً يمص قارورة الحجامة، وإذا مصها فإنه سوف يصعد الدم إلى فمه، وربما من شدة الشفط ينزل الدم إلى بطنه من حيث لا يشعر، وهذا يكون شربًا للدم، فيكون بذلك مفطرًا، ويقول: هذا هو الغالب، ولا عبرة بالنادر ... والذي يظهر لي - والعلم عند الله -: أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى؛ فإذا حجم بطريقٍ غير مباشرٍ ولا يحتاج إلى مص فلا معنى للقول بالفطر؛ لأن الأحكام الشرعية ينظر فيها إلى العلل الشرعية.

لا: ناسيًا، أو مكرهًا (¬1)، أو طار إلى حلقه ذبابٌ أو غبارٌ، أو فكر فأنزل، أو احتلم، أو أصبح في فيه طعامٌ فلفظه، أو اغتسل، أو تمضمض، أو استنثر، أو زاد على الثلاث، أو بالغ فدخل الماء حلقه: لم يفسد. ومن أكل شاكا في طلوع الفجر: صح صومه (¬2)، لا: إن أكل شاكا في غروب ¬

_ (¬1) مقتضى كلام المؤلف: أنه لا يشترط أن يكون عالمًا؛ لأنه لم يذكر إلا شرطين: العمد والذكر، فإن كان جاهلًا فإنه يفطر. والصحيح: اشتراط العلم؛ لدلالة الكتاب والسنة عليه؛ فتكون شروط المفطرات ثلاثةً: العلم، والذكر، والعمد. (¬2) حتى لو تبين له بعد ذلك أن الفجر قد طلع؛ فصومه صحيحٌ؛ بناءً على العذر بالجهل في الحال. وأما على المذهب: فإذا تبين أن أكله كان بعد طلوع الفجر فعليه القضاء بناءً على أنه لا يعذر بالجهل، والصواب: أنه لا قضاء عليه ولو تبين له أنه بعد الصبح؛ لأنه كان جاهلًا.

الشمس (¬1)، أو معتقدًا أنه ليلٌ فبان نهارًا (¬2). فصلٌ ومن جامع في نهار رمضان في قبلٍ أو دبرٍ: فعليه القضاء، والكفارة (¬3). وإن جامع دون الفرج فأنزل، أو كانت المرأة معذورةً (¬4)، أو جامع من نوى الصوم في سفره: أفطر، ولا كفارة. ¬

_ (¬1) إن علمنا أن أكله كان بعد الغروب؛ فلا قضاء عليه. (¬2) القول الراجح: أنه لا قضاء عليه. (¬3) ذهب بعض العلماء إلى أن من أفسد صومه عامدًا بدون عذرٍ فلا قضاء عليه، وليس عدم القضاء تخفيفًا، لكنه لا ينفعه القضاء. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ... ونقول - على هذا الرأي -: تكون المفطرات نافعةً فيما إذا جاز الفطر لعذرٍ، أما إذا كان لغير عذرٍ فإن هذه المفطرات تفسد صومه ولا يلزمه القضاء، لكن جمهور أهل العلم على أنه يلزمه القضاء ولو تعمد الفطر، بخلاف الرجل الذي لم يصم ذلك اليوم أصلًا وتركه متعمدًا؛ فإن الراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام من أنه لا ينفعه القضاء. (¬4) ظاهر قوله ... : أنه لو كان الرجل هو المعذور فإن الكفارة لا تسقط عنه، وهذا المشهور من المذهب. والصحيح: أن الرجل إذا كان معذورًا بجهلٍ أو نسيانٍ أو إكراهٍ؛ فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة، وأن المرأة كذلك إذا كانت معذورةً بجهلٍ أو نسيانٍ أو إكراهٍ؛ فليس عليها قضاءٌ ولا كفارةٌ. والمذهب: أن عليها القضاء وليس عليها الكفارة.

وإن جامع في يومين، أو كرره في يومٍ ولم يكفر: فكفارةٌ واحدةٌ في الثانية وفي الأولى اثنتان. وإن جامع ثم كفر ثم جامع في يومه: فكفارةٌ ثانيةٌ (¬1)، وكذا من لزمه ¬

_ (¬1) ذكر المؤلف - رحمه الله - مسألتين: المسألة الأولى: إذا جامع في يومين بأن جامع في اليوم الأول من رمضان وفي اليوم الثاني؛ فإنه يلزمه كفارتان، وإن جامع في ثلاثة أيامٍ فثلاث كفاراتٍ ... وقيل: لا يلزمه إلا كفارةٌ واحدةٌ إذا لم يكفر عن الأول، وهو وجهٌ في مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة ... وهذا القول وإن كان له حظ من النظر والقوة، لكن لا تنبغي الفتيا به؛ لأنه لو أفتي به انتهك الناس حرمات الشهر كله، لكن لو رأى المفتي - الذي ترجح عنده عدم تكرر الكفارة - مصلحةً في ذلك؛ فلا بأس أن يفتي به سرا؛ كما يصنع بعض العلماء فيما يفتون به سرا - كالطلاق الثلاث -. المسألة الثانية: إذا جامع في يومٍ واحدٍ مرتين؛ فإن كفر عن الأول لزمه كفارةٌ عن الثاني، وإن لم يكفر عن الأول أجزأه كفارةٌ واحدةٌ ... ومذهب الأئمة الثلاثة - وهو قولٌ في المذهب -: لا يلزمه عن الثاني كفارةٌ؛ لأن يومه فسد بالجماع الأول؛ فهو في الحقيقة غير صائمٍ وإن كان يلزمه الإمساك، لكن ليس هذا الإمساك مجزئًا عن صومٍ؛ فلا تلزمه الكفارة ... وهذا القول له وجهٌ من النظر - أيضًا -. مثاله: رجلٌ جامع في أول النهار بعد طلوع الشمس بربع ساعةٍ، ثم كفر بعتق رقبةٍ، ثم جامع بعد الظهر؛ فعلى المذهب: يلزمه كفارةٌ ثانيةٌ؛ لأنه كفر عن الأولى، وهو الآن وإن كان ليس صائمًا صومًا شرعيا لكنه يلزمه الإمساك، وعلى القول الثاني: لا تلزمه الكفارة؛ لأن الجماع لم يرد على صومٍ صحيحٍ وإنما ورد على إمساكٍ فقط، وإذا تأملت وجدت أن القول الثاني أرجح، وأنه لا يلزمه بعد أن أفسد صومه كفارةٌ.

الإمساك إذا جامع (¬1). ومن جامع وهو معافى، ثم مرض أو جن أو سافر: لم تسقط. ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان (¬2)، وهي عتق رقبةٍ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين (¬3)، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، فإن لم يجد سقطت. ¬

_ (¬1) القول الثاني: لا يلزمه الإمساك ... ، وهذا هو القول الراجح. (¬2) نزيد شرطين آخرين: أحدهما: أن يكون الصيام أداءً، والثاني: أن يكون ممن يلزمه الصوم. (¬3) إلا لعذرٍ شرعي - كالحيض والنفاس بالنسبة للمرأة، وكالعيدين وأيام التشريق -، أو حسي - كالمرض، والسفر للرجل والمرأة بشرط ألا يسافر لأجل أن يفطر، فإن سافر ليفطر انقطع التتابع -.

باب ما يكره ويستحب، وحكم القضاء

باب ما يكره ويستحب، وحكم القضاء يكره جمع ريقه فيبتلعه (¬1)، ويحرم بلع النخامة (¬2)، ويفطر بها فقط إن وصلت إلى فمه (¬3). ويكره: ذوق طعامٍ بلا حاجةٍ، ومضغ علكٍ قوي (¬4)، وإن وجد طعمهما في حلقه أفطر (¬5). ¬

_ (¬1) ليس فيه دليلٌ يدل على أن جمع الريق يفطر إذا جمعه إنسانٌ وابتلعه ... ، وعلى هذا نقول: لو جمع ريقه فابتلعه فليس بمكروهٍ، ولا يقال: إن الصوم نقص بذلك؛ لأننا إذا قلنا: إنه مكروهٌ لزم من ذلك أن يكون الصوم ناقصًا لفعل المكروه فيه. (¬2) بلع النخامة حرامٌ على الصائم وغير الصائم؛ وذلك لأنها مستقذرةٌ، وربما تحمل أمراضًا خرجت من البدن. (¬3) وفي المسألة قولٌ آخر في المذهب: أنها لا تفطر - أيضًا - ولو وصلت إلى الفم وابتلعها، وهذا القول أرجح. (¬4) القوي: هو الشديد الذي لا يتفتت؛ لأنه ربما يتسرب إلى بطنه شيءٌ من طعمه إن كان له طعمٌ، فإن لم يكن له طعمٌ فلا وجه للكراهة، ولكن مع ذلك لا ينبغي أن يمضغه أمام الناس؛ لأنه يساء به الظن إذا مضغه أمام الناس؛ فما الذي يدريهم أنه علكٌ قوي أو غير قوي، أو أنه ليس فيه طعمٌ أو فيه طعمٌ. (¬5) خالف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وقال: ليس هناك دليلٌ يدل على أن مناط الحكم وصول الطعم إلى الحلق، وهو واضحٌ؛ لأنه - أحيانًا - يصل الطعم إلى الحلق ولكن لا يبتلعه ولا ينزل، ويكون منتهاه الحلق؛ فمثل هذا لا يمكن أن نتجاسر ونقول: إن الإنسان يفطر بذلك، ثم إنه - أحيانًا - عندما يتجشأ الإنسان يجد الطعم في حلقه لكن لا يصل إلى فمه، ومع ذلك يبتلع الذي تجشأ به ولا نقول: إنه أفطر؛ لأنه ربما يتجشأ ويخرج بعض الشيء، لكن لا يصل إلى الفم؛ بل ينزل وهو يحس بالطعم.

ويحرم العلك المتحلل إن بلع ريقه. وتكره القبلة لمن تحرك شهوته (¬1). ويجب اجتناب: كذبٍ، وغيبةٍ، وشتمٍ. وسن: لمن شتم قوله: (إني صائمٌ)، وتأخير سحورٍ (¬2)، وتعجيل فطرٍ على رطبٍ - فإن عدم فتمرٌ، فإن عدم فماءٌ (¬3) -، وقول ما ورد. ¬

_ (¬1) [أما] الذي إذا قبل تحركت شهوته لكن يأمن على نفسه [من الإنزال]؛ فالصحيح أن القبلة لا تكره له، وأنه لا بأس بها ... إذن: القبلة في حق الصائم [عند المؤلف] تنقسم إلى ثلاثة أقسامٍ: قسمٌ جائزٌ، وقسمٌ مكروهٌ، وقسمٌ محرمٌ. والصحيح أنها قسمان: قسمٌ جائزٌ، وقسمٌ محرمٌ. فالقسم المحرم: إذا كان لا يأمن فساد صومه. والقسم الجائز له صورتان: الصورة الأولى: ألا تحرك القبلة شهوته إطلاقًا. الصورة الثانية: أن تحرك شهوته، ولكن يأمن على نفسه من فساد صومه. (¬2) لكن يؤخره ما لم يخش طلوع الفجر، فإن خشي طلوع الفجر فليبادر. (¬3) قال بعض العوام: إذا لم تجد شيئًا فمص أصبعك، وهذا لا أصل له ... وقال آخرون: بل (الغترة) ثم مصها ... ، وهذا لا أصل له - أيضًا -. بل نقول: إذا غابت الشمس وليس عندك ما تفطر به؛ تنوي الفطر بقلبك.

ويستحب القضاء متتابعًا، ولا يجوز إلى رمضانٍ آخر من غير عذرٍ، فإن فعل فعليه مع القضاء إطعام مسكينٍ لكل يومٍ - وإن مات ولو بعد رمضانٍ آخر - (¬1). وإن مات وعليه صوم (¬2)، أو حج، أو اعتكاف أو صلاة نذرٍ: استحب لوليه قضاؤه (¬3). ¬

_ (¬1) الصحيح في هذه المسألة: أنه لا يلزمه أكثر من الصيام الذي فاته؛ إلا أنه يأثم بالتأخير. (¬2) فإن لم يفعل [وليه]؛ قلنا: أطعم عن كل يومٍ مسكينًا؛ قياسًا على صوم الفريضة. (¬3) قال بعض العلماء: إن الصلاة والاعتكاف المنذورين لا يقضيان؛ لأنهما عبادتان بدنيتان لا يجبان بأصل الشرع.

باب صوم التطوع

باب صوم التطوع يسن صيام: أيام البيض (¬1)، والاثنين والخميس (¬2)، وست من شوالٍ، وشهر المحرم - وآكده: العاشر ثم التاسع -، وتسع ذي الحجة - وآكده: يوم عرفة لغير حاج بها -. وأفضله: صوم يومٍ وفطر يومٍ (¬3). ويكره: إفراد رجبٍ، والجمعة (¬4)، والسبت، والشك (¬5). ويحرم: صوم العيدين - ولو في فرضٍ -، وصيام أيام التشريق إلا عن دم متعةٍ وقرانٍ. ¬

_ (¬1) لو عبر المؤلف بتعبيرٍ أعم، فقال: يسن صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ، والأفضل: أن تكون في أيام البيض؛ لكان أحسن. (¬2) وصوم الاثنين أوكد من الخميس. (¬3) لكن هذا - أي: صوم يومٍ وفطر يومٍ - مشروطٌ بما إذا لم يضيع ما أوجب الله عليه، فإن ضيع ما أوجب الله عليه كان هذا منهيا عنه؛ لأنه لا يمكن أن تضاع فريضةٌ من أجل نافلةٍ. (¬4) إذا أفرد يوم الجمعة بصومٍ لا لقصد الجمعة، ولكن لأنه اليوم الذي يحصل فيه الفراغ؛ فالظاهر - إن شاء الله - أنه لا يكره، وأنه لا بأس بذلك. (¬5) الصحيح: أن [يوم الشك] صومه محرمٌ إذا قصد به الاحتياط لرمضان.

ومن دخل في فرضٍ موسعٍ: حرم قطعه (¬1)، ولا يلزم في النفل (¬2) ولا قضاء فاسده إلا الحج (¬3). وترجى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وأوتاره آكد، وليلة سبعٍ وعشرين أبلغ، ويدعو فيها بما ورد. ¬

_ (¬1) لكن يستثنى: ما إذا كان لضرورةٍ، أو [للإتيان بما هو أكمل]. (¬2) لكن العلماء يقولون: لا ينبغي أن يقطع [النفل] إلا لغرضٍ صحيحٍ. (¬3) لم يذكر المؤلف العمرة ... ، والعمرة تسمى حجا أصغر ... ، وعليه: فالعمرة مثل الحج: إذا شرع في نفلها لزمه الإتمام، وإن أفسده لزمه القضاء.

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف هو: لزوم مسجدٍ لطاعة الله - تعالى -. مسنونٌ (¬1). ويصح بلا صومٍ. ويلزمان بالنذر. ولا يصح إلا في مسجدٍ يجمع فيه (¬2)؛ إلا المرأة ففي كل مسجدٍ؛ سوى مسجد بيتها. ومن نذره، أو الصلاة في مسجدٍ غير الثلاثة - وأفضلها: الحرام، فمسجد المدينة، فالأقصى -: لم يلزمه فيه (¬3). ¬

_ (¬1) لا يسن الاعتكاف - أي لا يطلب من الناس أن يعتكفوا - إلا في العشر الأواخر فقط، لكن من تطوع وأراد أن يعتكف في غير ذلك فإنه لا ينهى عن ذلك؛ استئناسًا بحديث عمر - رضي الله عنه -، ولا نقول: إن فعله بدعةٌ، لكن نقول: الأفضل أن تقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم. (¬2) لو اعتكف إنسانٌ معذورٌ بمرضٍ - أو بغيره مما يبيح له ترك الجماعة - في مسجدٍ لا تقام فيه الجماعة؛ فلا بأس. (¬3) الصحيح في هذه المسألة: أن غير المساجد الثلاثة إذا عينه لا يتعين إلا لمزيةٍ شرعيةٍ؛ فإنه يتعين لأن النذر يجب الوفاء به، ولا يجوز العدول إلى ما دونه.

وإن عين الأفضل: لم يجز فيما دونه، وعكسه بعكسه. ومن نذر زمنًا معينًا: دخل معتكفه قبل ليلته الأولى وخرج بعد آخره. ولا يخرج المعتكف إلا لما لا بد له منه، ولا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازةً (¬1) إلا أن يشترطه (¬2)، وإن وطئ في فرجٍ: فسد اعتكافه (¬3). ويستحب: اشتغاله بالقرب، واجتناب ما لا يعنيه. ¬

_ (¬1) لكن لو فرض أنه تعين عليه أن يشهد جنازةً بحيث لم نجد من يغسله أو من يحملها إلى المقبرة؛ صار هذا من الذي لا بد منه. (¬2) هذا لا ينبغي، والمحافظة على الاعتكاف أولى؛ إلا إذا كان المريض أو من يتوقع موته له حق عليه؛ فهنا الاشتراط أولى؛ بأن كان المريض من أقاربه الذي يعتبر عدم عيادتهم قطيعة رحمٍ؛ فهنا يستثنى، وكذلك شهود الجنازة. [وأما] الخروج لما له منه بد وليس فيه مقصودٌ شرعي؛ فهذا يبطل به الاعتكاف؛ سواءٌ اشترطه أم لا؛ مثل: أن يخرج للبيع والشراء، والنزهة، ومعاشرة أهله - ونحو ذلك -. (¬3) [حتى لو اشترط ذلك عند دخوله في المعتكف فإنه لا يصح اشتراطه]؛ لأنه محللٌ لما حرم الله.

كتاب المناسك

كتاب المناسك الحج والعمرة واجبان (¬1) على المسلم الحر المكلف القادر في عمره مرةً (¬2) على الفور. فإن زال الرق (¬3) والجنون والصبا في الحج بعرفة، وفي العمرة قبل طوافها: صح فرضًا. وفعلهما من الصبي والعبد: نفلًا. والقادر: من أمكنه الركوب (¬4)، ووجد زادًا وراحلةً صالحين لمثله (¬5) بعد ¬

_ (¬1) لكن ليس وجوب العمرة كوجوب الحج؛ لا في الآكدية، ولا في العموم والشمول. (¬2) [فما زاد عن مرةٍ فهو تطوعٌ]؛ إلا لسببٍ كالنذر، فمن نذر أن يحج وجب عليه أن يحج. (¬3) وقيل: إنه لا يكون فرضًا إلا من حين العتق. (¬4) أما في زمن الإبل فتعذر الركوب كثيرٌ ... وأما في وقتنا الحاضر - وقت الطائرات والسيارات -؛ فالذي لا يمكنه الركوب نادرٌ جدا، ولكن مع ذلك فبعض الناس تصيبه مشقةٌ ظاهرةٌ في ركوب السيارة والطائرة والباخرة؛ فربما يغمى عليه أو يتعب تعبًا عظيمًا أو يصاب بغثيانٍ وقيءٍ؛ فهذا لا يجب عليه الحج وإن كان صحيح البدن قويا. (¬5) ذهب بعض العلماء إلى أنه من وجد زادًا وراحلةً يصل بهما إلى المشاعر ويرجع؛ لزمه الحج، ولم يقيدوا ذلك بكونهما صالحين لمثله، وهذا أقرب إلى الصواب.

قضاء الواجبات والنفقات الشرعية والحوائج الأصلية. وإن أعجزه كبرٌ، أو مرضٌ لا يرجى برؤه: لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه (¬1) من حيث وجبا (¬2). ¬

_ (¬1) لكن لا بد أن يكون على الصفة التي يجزئه فيها حج الفرض؛ فلو أقام عنه صبيا لم يجزئه؛ لأن الصبي لا يصح حجه الفرض عن نفسه، فعن غيره أولى، ولو أقام رقيقًا - على القول بأن الحج لا يجزئه - لم يجزئه أيضًا ... ويشترط لهذا النائب الذي ناب عن غيره ألا يكون عليه فرضٌ - أي: فرض الحج -، فإن كان عليه فرض الحج فإنه لا يجزئ أن يكون نائبًا عن غيره، فلو أقام فقيرًا يحج عنه لأجزأ؛ لأنه ليس عليه فرض الحج؛ فهو كالغني الذي أدى الحج عن نفسه، وإن أقام عنه غنيا لم يؤد الفرض عن نفسه فإنه لا يجزئه. والدليل على ذلك: حديث ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يلبي يقول: لبيك عن شبرمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أحججت عن نفسك؟»، قال: لا، قال: «حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة» ... وهذا الحديث اختلف العلماء في رفعه ووقفه، واختلفوا في تصحيحه وتضعيفه ... ولكن نقول: لا شك أن الأولى والأليق ألا يكون نائبًا عن غيره فيما هو فرضٌ عليه حتى يؤدي فرضه أولًا؛ سواءٌ صح هذا الحديث مرفوعًا أو صح موقوفًا أو لم يصح؛ فإن النظر يقتضي أن يقدم الإنسان نفسه على غيره؛ لعموم: «ابدأ بنفسك»، ونفسك أحق من غيرك. لكن على المذهب: يشترط هذا الشرط، وهو أن يكون النائب قد أدى فرض الحج، فإن لم يؤد فرض الحج فإن ذلك لا يصح، ويكون الحج لهذا الذي حج، ويرد النفقة التي أخذها لمن وكله. (¬2) هذا القول ضعيفٌ ... ، والقول الراجح: أنه لا يلزمه أن يقيم من يحج عنه من مكانه، وله أن يقيم من يحج عنه من مكة، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن السعي إلى مكة مقصودٌ لغيره.

ويجزئ عنه - وإن عوفي بعد الإحرام (¬1) -. ويشترط لوجوبه على المرأة: وجود محرمها (¬2)، وهو: زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسبٍ أو سببٍ مباحٍ (¬3). وإن مات من لزماه: أخرجا من تركته (¬4). ¬

_ (¬1) إذا علم النائب بأن المنيب قد عوفي قبل أن يحرم؛ فما فعله بعد ذلك فهو على نفقته؛ لأنه علم أنه لا يجزئه حجه عن منيبه، وأما ما أنفقه قبل ذلك من النفقات فإنه على المنيب. (¬2) وإذا حجت المرأة بدون محرمٍ؛ صح حجها ولكنها تأثم؛ لأن المحرمية لا تختص بالحج. (¬3) قوله: (سببٌ مباحٌ) ... : مثل: أم المزني بها، وأم الملوط به وبنته - على القول بأنه يوجب التحريم -. ولكن القول الراجح: أن أم المزني بها ليست حرامًا على الزاني، وأن بنت المزني بها ليست حرامًا على الزاني ... ، فإذا تاب من الزنا جاز له أن يتزوج أم المزني بها وبنتها، ومن باب أولى حل أم الملوط به وبنته. أما الموطوءة بشبهةٍ ... ؛ فالصحيح: التفريق بينهما، وأن أم الموطوءة بشبهةٍ وبنتها من محارم الواطئ؛ لأنه وطئ وهو يظن أنه وطءٌ حلالٌ. (¬4) ذهب ابن القيم - رحمه الله - مذهبًا جيدًا، وهو: أن كل من فرط في واجبه فإنه لا تبرأ ذمته ولو أدي عنه بعد موته، وعلى هذا: فلا يحج عنه ويبقى مسؤولًا أمام الله - عز وجل -، لكن الجمهور على خلاف كلام ابن القيم، لكن كلامه هو الذي تقتضيه الأدلة الشرعية.

باب المواقيت

باب المواقيت وميقات أهل المدينة: ذو الحليفة. وأهل الشام ومصر والمغرب: الجحفة (¬1). وأهل اليمن: يلملم. وأهل نجدٍ: قرنٌ. وأهل المشرق: ذات عرقٍ. وهي: لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم. ومن حج من أهل مكة: فمنها (¬2)، وعمرته من الحل. ¬

_ (¬1) لما خربت (الجحفة) وصارت مكانًا غير مناسبٍ للحجاج؛ جعل الناس بدلها (رابغًا)، ولا يزال الآن ميقاتًا، وهو أبعد منها قليلًا عن مكة، وعلى هذا: فمن أحرم من رابغٍ فقد أحرم من الجحفة وزيادةً. (¬2) لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين وقت المواقيت: «ومن كان ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة» ... ونأخذ من هذا الحديث: أن من كان دون هذه المواقيت فإنه يحرم من مكانه ... وانظر إلى هذا التعبير النبوي؛ حيث قال: «من حيث أنشأ»، ولم يقل: «من بلده»؛ لأن بلده قد يكون دون المواقيت ولكنه في مكانٍ آخر غير بلده، فينشئ العمرة أو الحج منه، فنقول: أحرم من حيث أنشأت. والمكي إذا كان خارج مكة لغرضٍ، ثم رجع إلى مكة في أيام الحج وهو ينوي الحج في هذه السنة؛ فلا يلزمه أن يدخل بعمرةٍ لأنه رجع إلى بلده ولم يرجع لقصد العمرة.

وأشهر الحج: شوالٌ، وذو القعدة، وعشرٌ من ذي الحجة (¬1). ¬

_ (¬1) قوله: (عشرٌ من ذي الحجة): هذا المشهور عند الإمام أحمد - رحمه الله -، وبه أخذ أصحابه ... والصواب: ما ذهب إليه الإمام مالكٌ - رحمه الله - من أن أشهر الحج ثلاثةٌ - كما هو ظاهر القرآن -: شوالٌ، وذو القعدة، وذو الحجة.

باب الإحرام

باب الإحرام الإحرام: نية النسك. سن لمريده: غسلٌ، أو تيممٌ لعدمٍ (¬1)، وتنظفٌ (¬2)، وتطيبٌ (¬3)، وتجردٌ من مخيطٍ في إزارٍ ورداءٍ أبيضين (¬4)، وإحرامٌ عقب ركعتين (¬5). ¬

_ (¬1) ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن الطهارة المستحبة إذا تعذر فيها استعمال الماء فإنه لا يتيمم لها ... ، وهذا أقرب للصواب. (¬2) المراد بالتنظيف: أخذ ما ينبغي أخذه؛ مثل: الشعور التي ينبغي أخذها؛ كالعانة والإبط والشارب، وكذلك الأظافر ... وإذا لم تكن طويلةً في وقت الإحرام ولا يخشى أن تطول في أثناء الإحرام فيحتاج إلى أخذها؛ فإنه لا وجه لاستحباب ذلك؛ لأن العلة خوف أن يحتاج إليها في حال الإحرام ولا يتمكن. (¬3) أطلقه المؤلف، والمراد: التطيب في البدن ... أما تطييب الثوب - أي: ثوب الإحرام - ... ؛ فقال بعض العلماء: لا يجوز لبسه إذا طيبه ... ، وهذا هو الصحيح. (¬4) المقصود: أن يكون تجرده في إزارٍ ورداءٍ أبيضين، وإلا فتجرده من المخيط واجبٌ. والمؤلف تبع غيره في العبارة، ولو قال: (تجرده من ملبوسٍ محظورٍ) لكان أولى. ويشترط في هذا التجرد: ألا يستلزم كشف العورة أمام الناس، فإن استلزم ذلك كان حرامًا. (¬5) ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن ركعتي الإحرام لا أصل لمشروعيتهما ... ، لكن إن كان في الضحى فيمكن أن يصلي صلاة الضحى ويحرم بعدها، وإن كان في وقت الظهر نقول: الأفضل أن تمسك حتى تصلي الظهر ثم تحرم بعد الصلاة، وكذلك صلاة العصر. وأما صلاةٌ مستحبةٌ بعينها للإحرام؛ فهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصحيح.

ونيته شرطٌ. ويستحب قول: (اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي، وإن حبسني حابسٌ فمحلي حيث حبستني) (¬1). ¬

_ (¬1) قوله: (اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي): الاستحباب يحتاج إلى دليلٍ، ولا دليل على ذلك، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم بالحج أو العمرة يقول: (اللهم إني أريد العمرة) أو (اللهم إني أريد الحج). ومعلومٌ أن العبادات مبناها على الاتباع وعلى الوارد ... ولهذا كان الصحيح في هذه المسألة أن النطق بهذا القول كالنطق بقوله: (اللهم إني أريد أن أصلي فيسر لي الصلاة)، أو (أن أتوضأ فيسر لي الوضوء)، وهذا بدعةٌ، فكذلك في النسك لا تقل هذا؛ قل ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين استفتته ضباعة بنت الزبير - رضي الله عنها - أنها تريد الحج وهي شاكيةٌ، قال: «حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني»، ولم يقل: (قولي: اللهم إني أريد نسك كذا وكذا) ... وظاهر كلام المؤلف: أن قوله: (وإن حبسني حابسٌ فمحلي حيث حبستني): ... يشمل من كان خائفاً، ومن لم يكن خائفاً ... وهذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء: القول الأول: أنه سنةٌ مطلقًا. القول الثاني: ليس بسنةٍ مطلقًا. القول الثالث: أنه سنةٌ لمن كان يخاف المانع من إتمام النسك، غير سنةٍ لمن لم يخف، وهذا القول هو الصحيح، وهو الذي تجتمع به الأدلة.

وأفضل الأنساك: التمتع (¬1). وصفته: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه، وعلى الأفقي: دمٌ (¬2). وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج: أحرمت به وصارت قارنةً. وإذا استوى على راحلته؛ قال: ¬

_ (¬1) قال شيخ الإسلام: لا نقول: إن التمتع أفضل مطلقًا، ولا القران أفضل مطلقًا، ولا الإفراد أفضل مطلقًا، فيقال: من ساق الهدي فالأفضل له القران ... وأفادنا [المؤلف]- رحمه الله - أنه يجوز ما سوى التمتع، وأن التمتع ليس بواجبٍ، وهذا رأي جمهور أهل العلم، وذهب بعض العلماء إلى أن التمتع واجبٌ. والصحيح: ما ذهب إليه شيخ الإسلام ... : أنه واجبٌ على الصحابة، وأما من بعدهم فهو أفضل وليس بواجبٍ. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أن غير المتمتع لا يلزمه دمٌ؛ لأنه قال في سياق التمتع: (وعلى الأفقي دمٌ) ... وهذا الظاهر من كلام المؤلف هو ما ذهب إليه داود الظاهري ... وظاهر القرآن مع الظاهري أن الدم يجب على المتمتع دون المفرد والقارن. ولكن مع هذا نقول: الأحوط للإنسان والأكمل لنسكه أن يهدي؛ لأن من هدي الرسول - عليه الصلاة والسلام - الإهداء التطوعي، فكيف بإهداءٍ اختلف العلماء في وجوبه؟! وأكثر العلماء على الوجوب، وهو لا شك أولى وأبرأ للذمة، وأحوط، فإن كان قد وجب فقد أبرأت ذمتك، وإن لم يكن واجبًا فقد تقربت إلى الله به.

(لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)؛ يصوت بها الرجل وتخفيها المرأة.

باب محظورات الإحرام

باب محظورات الإحرام وهي تسعةٌ: حلق الشعر (¬1)، وتقليم الأظافر (¬2) - فمن حلق أو قلم ثلاثةً؛ فعليه دمٌ (¬3) -. ¬

_ (¬1) لا يحرم إلا حلق الرأس فقط ... ، ولو أن الإنسان تجنب الأخذ من شعوره - كشاربه وإبطه وعانته - احتياطًا لكان هذا جيدًا، لكن أن نلزمه ونؤثمه إذا أخذ مع عدم وجود الدليل الرافع للإباحة؛ فهذا فيه نظرٌ. (¬2) تقليم الأظافر لم يرد فيه نص - لا قرآني ولا نبوي -، لكنهم قاسوه على حلق الشعر بجامع الترفه. وإذا كان داود [الظاهري] ينازع في حلق بقية الشعر الذي بالجسم في إلحاقها بالرأس فهنا من باب أولى. ولهذا ذكر في «الفروع» أنه يتوجه احتمال ألا يكون من المحظورات؛ بناءً على القول بأن بقية الشعر ليس من المحظورات. لكن نقل بعض العلماء الإجماع على أنه من المحظورات، فإن صح هذا الإجماع فلا عذر في مخالفته؛ بل يتبع، وإن لم يصح فإنه يبحث في تقليم الأظافر كما بحثنا في حلق بقية الشعر. (¬3) اختلف العلماء - رحمهم الله - في القدر الذي تجب فيه الفدية، على أقوالٍ: القول الأول - وهو المذهب -: أنه ثلاثةٌ فأكثر. القول الثاني: إذا حلق أربع شعراتٍ؛ فعليه دمٌ. القول الثالث: إذا حلق خمس شعراتٍ؛ فعليه دمٌ. القول الرابع: إذا حلق ربع الرأس؛ فعليه دمٌ. القول الخامس: إذا حلق ما به إماطة الأذى؛ فعليه دمٌ. وأقرب الأقوال إلى ظاهر القرآن: هو الأخير؛ إذا حلق ما به إماطة الأذى؛ أي: يكون ظاهرًا على كل الرأس، وهو مذهب مالكٍ؛ أي: إذا حلق حلقًا يكاد يكون كاملًا يسلم به الرأس من الأذى؛ لأنه هو الذي يماط به الأذى.

ومن غطى رأسه بملاصقٍ: فدى (¬1). وإن لبس ذكرٌ مخيطًا: فدى (¬2). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله -: أن تغطية الوجه ليست حرامًا ولا محظورًا ... وهذه محل خلافٍ بين العلماء؛ فمنهم من قال: لا يجوز ... ؛ بناءً على صحة اللفظة الواردة في حديث ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - في الرجل الذي وقصته ناقته: «ولا وجهه»؛ ففي «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخمروا رأسه» فقط، وروى مسلمٌ أنه قال: «ولا وجهه» ... فمن كانت عنده صحيحةً قال: لا يجوز ... ، ومن ليست عنده صحيحةً قال: يجوز. وابن حزمٍ - رحمه الله - قال: إنه يجوز في حال الحياة أن يغطي وجهه، ولا يجوز في حال الموت. (¬2) الدليل على هذا: حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ما يلبس المحرم؟ قال: «لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرانس، ولا العمائم، ولا الخفاف». فذكر خمسة أشياء لا تلبس ... ومعنى هذا: أنه يلبس المحرم ما سوى هذه الخمسة. وعبر [المؤلف لذلك] بلبس المخيط، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعطي جوامع الكلم لم يعبر بلبس المخيط مع أنه أعم مما عينه، وإنما ذكر أشياء معينةً عينها بالعد ... ويذكر أن أول من عبر بلبس المخيط: إبراهيم النخعي - رحمه الله -، وهو من فقهاء التابعين ولما كانت هذه العبارة ليست واردةً عن معصومٍ؛ صار فيها إشكالٌ: أولًا: من حيث عمومها. والثاني: من حيث مفهومها. لأننا إذا أخذنا بعمومها حرمنا كل ما فيه خياطةٌ؛ لأن المخيط اسم مفعولٍ بمعنى مخيوطٍ، ولأن هذه العبارة توهم أن ما جاز لبسه شرعًا في الإحرام إذا كان فيه خياطةٌ فإنه يكون ممنوعًا ... ، وهذا ليس بحرامٍ؛ بل هو جائزٌ. فالتعبير النبوي أولى من هذا؛ لأن فيه عدا وليس حدا، وليس فيه إيهامٌ.

وإن طيب بدنه أو ثوبه، أو ادهن بمطيبٍ (¬1)، أو شم طيبًا (¬2)، أو تبخر بعودٍ - ونحوه -: فدى. وإن قتل صيدًا مأكولًا بريا (¬3) أصلًا ولو تولد منه ومن غيره، أو تلف في يده (¬4): فعليه جزاؤه. ¬

_ (¬1) بشرط أن يكون هذا الذي ادهن به قد ظهر فيه رائحة الطيب. (¬2) هذه المسألة - وهي شم الطيب -: في تحريمها نظرٌ؛ لأن الشم ليس استعمالًا، ولهذا قال بعض العلماء: إنه لا يحرم الشم، لكن إن تلذذ به فإنه يتجنبه خوفًا من المحذور الذي يكون بالتطيب، أما شمه ليختبره - مثلًا - هل هو طيبٌ جيدٌ أو وسطٌ أو رديءٌ؛ فهذا لا بأس به. (¬3) أما ما يعيش في البر والبحر فإلحاقه بالبري أحوط؛ لأنه اجتمع فيه جانب حظرٍ وجانب إباحةٍ، فيغلب جانب الحظر. (¬4) ظاهر كلام المؤلف: أنه يحرم عليه إمساكه ولو كان قد ملكه قبل الإحرام، ولكن الصواب: أن الصيد الذي في يد المحرم إن كان قد ملكه بعد الإحرام فهو حرامٌ، ولا يجوز له إمساكه، وإن كان قد ملكه قبل الإحرام وأحرم وهو في يده فهو ملكه، وملكه إياه تام.

ولا يحرم: حيوانٌ إنسي، ولا صيد البحر، ولا قتل محرم الأكل، ولا الصائل. ويحرم عقد نكاحٍ، ولا يصح، ولا فدية، وتصح الرجعة. وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول: فسد نسكهما، ويمضيان فيه، ويقضيانه ثاني عامٍ (¬1). وتحرم المباشرة، فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه، وعليه بدنةٌ (¬2)، لكن يحرم من الحل لطواف الفرض (¬3). وإحرام المرأة كالرجل إلا في اللباس، وتجتنب: البرقع (¬4)، والقفازين، وتغطية وجهها (¬5). ¬

_ (¬1) هذه ثلاثة أحكامٍ، وبقي حكمان: الإثم، والفدية - وهي بدنةٌ -. (¬2) الصحيح: أن المباشرة لا تجب فيها البدنة؛ بل فيها ما في بقية المحظورات. (¬3) يظهر أن هذا سبق قلمٍ من الماتن - رحمه الله -؛ لأن هذا الحكم المستدرك لا ينطبق على المباشرة؛ بل ينطبق على الجماع بعد التحلل الأول ... فهذه العبارة: الأصح أن تنقل إلى الجماع بعد التحلل الأول. (¬4) لو قال المؤلف: (البرقع والنقاب)، أو قال: (النقاب) فقط؛ لكان أحسن، وإنما اقتصر على البرقع فقط لأن البرقع للزينة، والنقاب للحاجة. فالنقاب تستعمله المرأة فتغطي وجهها، وتفتح فتحةً بقدر العين لتنظر من خلالها، والبرقع تجملٌ؛ فهو يعتبر من ثياب الجمال للوجه؛ فهو - إذن - نقابٌ وزيادةٌ، وعلى هذا: النقاب حرامٌ على المحرمة. (¬5) هذا هو المشهور من المذهب، وذكروا هنا ضابطًا: أن إحرام المرأة في وجهها. وهذا ضعيفٌ، فهذا إن أرادوا به أنه المحل الذي يمنع فيه لباسٌ معينٌ فهذا صحيحٌ، وإن أرادوا به التغطية فهذا غير صحيحٍ؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي المرأة عن تغطية الوجه لكون النقاب لباس الوجه، فكأن المرأة نهيت عن لباس الوجه كما نهي الرجل عن لباس الجسم والرأس.

ويباح لها التحلي (¬1). ¬

_ (¬1) لكن يجب أن تستر الحلي عن الرجال، فإذا كانت وحدها في البيت أو مع نساءٍ أو مع زوجٍ أو مع محارم وعليها الحلي؛ فلا بأس.

باب الفدية

باب الفدية يخير بفدية حلقٍ، وتقليمٍ، وتغطية رأسٍ، وطيبٍ، ولبس مخيطٍ: بين صيام ثلاثة أيامٍ أو إطعام ستة مساكين - لكل مسكينٍ مد بر، أو نصف صاع تمرٍ أو شعيرٍ (¬1) -، أو ذبح شاةٍ (¬2). ¬

_ (¬1) ظاهره: أن الفدية في الإطعام محصورةٌ في هذه الأصناف الثلاثة: البر والتمر والشعير. وهذا غير مرادٍ؛ لأن المراد ما يطعمه الناس من تمرٍ أو شعيرٍ أو رز أو ذرةٍ أو دخنٍ - أو غيره -، والمؤلف - هنا - فرق بين البر وغير البر؛ فالبر مد، وغير البر نصف صاعٍ ... ، والمد: ربع الصاع، وفي باب الفطرة لم يفرق المؤلف بين البر وغيره؛ ففي باب الفطرة: صاعٌ من بر أو صاعٌ من تمرٍ أو صاعٌ من شعيرٍ - أو غير ذلك مما يخرج منه -؛ فالفقهاء - رحمهم الله تعالى - يفرقون بين البر وغيره في جميع الكفارات والفدية إلا في صدقة الفطر، ولهذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قاعدةً، وقال: إن البر على النصف من غيره؛ ففي الفطرة نصف صاعٍ عند شيخ الإسلام، ولكن مذهبنا في الفطرة مذهب أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه -؛ فإنه لما قدم معاوية - رضي الله عنه - المدينة، وقال: أرى مدا من هذه يساوي مدين من الشعير، قال أبو سعيدٍ: «أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم»، ونحن نقول كما قال أبو سعيدٍ - رضي الله عنه -. وكذلك مذهبنا هنا: أن لا فرق بين البر وغيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة - رضي الله عنه -: «أطعم ستة مساكين، لكل مسكينٍ نصف صاعٍ»، فعين المقدار، وأطلق النوع؛ فظاهر الحديث: أن الفدية نصف صاعٍ لكل مسكينٍ؛ سواءٌ من البر أو من غيره. (¬2) سواءٌ كانت خروفًا أم أنثى، معزًا أم ضأنًا؛ بل أو سبع بدنةٍ، أو سبع بقرةٍ مما يجزئ في الأضحية، ويوزعها على الفقراء، ولا يأكل منها شيئًا؛ لأنها دم جبرانٍ.

وبجزاء صيدٍ بين مثلٍ إن كان، أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعامًا (¬1) فيطعم كل مسكينٍ مدا، أو يصوم عن كل مد يومًا، وبما لا مثل له: بين إطعامٍ وصيامٍ. وأما دم متعةٍ وقرانٍ فيجب الهدي، فإن عدمه فصيام ثلاثة أيامٍ - والأفضل: كون آخرها يوم عرفة (¬2) -، وسبعةٍ إذا رجع إلى أهله (¬3). ¬

_ (¬1) هذا على سبيل المثال، وليس على سبيل التعيين؛ فله أن يقومه بدراهم، ثم يخرج من الطعام الذي عنده ما يساوي هذه الدراهم. (¬2) قالوا: وفي هذه الحال ينبغي أن يحرم بالحج في اليوم السابع ... ؛ ليكون صومه الأيام الثلاثة في نفس الحج. وفي هذا نظرٌ من جهتين: من جهة تقديم الإحرام بالحج، ومن جهة كون آخرها يوم عرفة. أما الأول: فإن تقديم إحرام الحج على اليوم الثامن خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم ... وأما الثاني ... ؛ ففيه نظرٌ - أيضًا -؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة ... فالصواب: خلاف ما عليه الأصحاب في هذه المسألة من الوجهين ... والذي يظهر لي ... : أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يصومونها في أيام التشريق؛ لقول عائشة وابن عمر - رضي الله عنهم -: «لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي». فظاهر هذا النص: أن الصحابة كانوا يصومونها في أيام التشريق، وصومها في أيام التشريق صومٌ لها في أيام الحج؛ لأن أيام التشريق أيامٌ للحج ... فلو ذهب ذاهبٌ إلى أن الأفضل أن تصام الأيام الثلاثة في أيام التشريق لكان أقرب إلى الصواب. (¬3) قال كثيرٌ من العلماء: لو صامها بعد فراغ أعمال الحج كلها فلا بأس؛ لأنه جاز له الرجوع إلى الأهل، فجاز له صومها.

والمحصر إذا لم يجد هديًا: صام عشرةً ثم حل (¬1). ويجب بوطءٍ في فرجٍ في الحج: بدنةٌ، وفي العمرة شاةٌ، وإن طاوعته زوجته لزماها. فصلٌ ومن كرر محظورًا من جنسٍ ولم يفد: فدى مرةً (¬2)؛ بخلاف صيدٍ. ومن فعل محظورًا من أجناسٍ: فدى لكل مرةً (¬3) - رفض إحرامه أو لا (¬4) -. ويسقط بنسيانٍ (¬5): فدية لبسٍ وطيبٍ وتغطية رأسٍ (¬6)، دون وطءٍ وصيدٍ ¬

_ (¬1) المحصر يلزمه الهدي إن قدر، وإلا فلا شيء عليه. (¬2) لكن بشرط ألا يؤخر الفدية؛ لئلا تتكرر عليه؛ بحيث يفعل المحظور مرةً أخرى، فيعاقب بنقيض قصده؛ لئلا يتحيل على إسقاط الواجب. (¬3) القاعدة الشرعية في هذا: أنه إذا كان الموجب واحدًا فلا يضر اختلاف الأجناس .... لكن لعل الفقهاء - رحمه الله - قالوا: احترامًا للإحرام والنسك وتعظيمًا لشعائر الله نلزمه عن كل جنسٍ بكفارةٍ. (¬4) اللهم إلا أن يكون غير مكلفٍ؛ كالصغير؛ فإن الصغير إذا رفض إحرامه حل منه؛ لأنه ليس أهلًا للإيجاب. (¬5) ومثله: الجهل، والإكراه. (¬6) ولكن عليه متى ذكر: [فإنه يخلع اللبس إذا لبس، أو غطاء الرأس إذا فعل، وأن يبادر بغسل الطيب إذا تطيب].

وتقليمٍ وحلاقٍ (¬1). وكل هديٍ أو إطعامٍ: فلمساكين الحرم (¬2). وفدية الأذى واللبس - ونحوهما - ودم الإحصار: حيث وجد سببه (¬3). ويجزئ الصوم بكل مكانٍ (¬4). والدم: شاةٌ، أو سبع بدنةٍ (¬5) - وتجزئ عنها بقرةٌ (¬6) -. ¬

_ (¬1) الصحيح: أن جميعها تسقط، وأن المعذور بجهلٍ أو نسيانٍ أو إكراهٍ لا يترتب على فعله شيءٌ إطلاقًا؛ لا في الجماع، ولا في الصيد، ولا في التقليم، ولا في لبس المخيط، ولا في أي شيءٍ. (¬2) هذا ليس على إطلاقه في كل هديٍ؛ لأن هدي المتعة والقران هدي شكرانٍ؛ فلا يجب أن يصرف لمساكين الحرم؛ بل حكمه حكم الأضحية؛ أي: يأكل منه ويهدي، ويتصدق على مساكين الحرم ... والهدي الذي لترك واجبٍ يجب أن يتصدق بجميعه على مساكين الحرم، والهدي الواجب لفعل محظورٍ غير الصيد يجوز أن يوزع في الحرم، وأن يوزع في محل فعل المحظور. ودم الإحصار حيث وجد الإحصار، ولكن لو أراد أن ينقله إلى الحرم فلا بأس. (¬3) يجوز أن ينقل [الفدية] إلى الحرم؛ لأن ما جاز في الحل جاز في الحرم، ويستثنى من فعل المحظور: جزاء الصيد؛ فإن جزاء الصيد لا بد أن يبلغ إلى الحرم. (¬4) لكن يجب أن يلاحظ [أن هناك] مسألةً قد تمنع من أن نصوم في كل مكانٍ، وهو أن الكفارات تجب على الفور إلا ما نص الشرع فيها على التراخي، فإذا كان يجب على الفور وتأخر سفره مثلًا إلى بلده؛ لزمه أن يصوم في مكة. (¬5) بشرط أن ينويه قبل ذبحها، فإن جاء إلى بدنةٍ مذبوحةٍ واشترى سبعها ونواه عن الشاة فإنه لا يجزئ؛ لأنه صار لحمًا، ولا بد في الفدية أن تذبح بنية الفدية. (¬6) ظاهره: ولو في جزاء الصيد ... ، والصواب: عدم الإجزاء في جزاء الصيد.

باب جزاء الصيد

باب جزاء الصيد في النعامة: بدنةٌ، وحمار الوحش وبقرته والأيل والثيتل والوعل: بقرةٌ، والضبع: كبشٌ، والغزال: عنزٌ، والوبر والضب: جديٌ، واليربوع: جفرةٌ، والأرنب: عناقٌ، والحمامة: شاةٌ (¬1). ¬

_ (¬1) فهذا كله قضى به الصحابة؛ منه ما روي عن واحدٍ من الصحابة، ومنه ما روي عن أكثر من واحدٍ. فإذا وجدنا شيئًا من الصيود لم تحكم به الصحابة؛ أقمنا حكمين عدلين خبيرين، وقلنا: ما الذي يشبه هذا من بهيمة الأنعام؟ فإذا قالوا: كذا وكذا؛ حكمنا به، وإذا لم نجد شيئًا محكومًا به من قبل الصحابة ولا وجدنا شيئًا شبهًا له من النعم فيكون من الذي لا مثل له، وفيه قيمة الصيد - قلت أم كثرت -.

باب صيد الحرم

باب صيد الحرم يحرم صيده على المحرم والحلال. وحكم صيده كصيد المحرم. ويحرم قطع شجره وحشيشه الأخضرين (¬1)؛ إلا الإذخر. ويحرم صيد المدينة (¬2)، ولا جزاء فيه (¬3). ويباح: الحشيش للعلف، وآلة الحرث - ونحوه -. وحرمها: ما بين عيرٍ إلى ثورٍ. ¬

_ (¬1) ما غرسه الآدمي أو بذره من الحبوب فإنه ليس بحرامٍ؛ لأنه ملكه، ولا يضاف إلى الحرم؛ بل يضاف إلى مالكه ... ولو أن شجرةً ... نبتت في الحرم بدون فعل آدمي ثم أثمرت وأخذ الإنسان ثمرتها فإن ذلك لا بأس به. (¬2) لكن حرمته دون حرمة حرم مكة؛ لأن تحريم صيد مكة ثابتٌ بالنص والإجماع، وأما حرم المدينة فمختلفٌ فيه، ولكن القول الصحيح أن المدينة لها حرمٌ وأنه لا يجوز الصيد فيه. (¬3) لكن إن رأى الحاكم أن يعزر من تعدى على صيدٍ في المدينة بأخذ سلبه أو تضمينه مالًا؛ فلا بأس.

باب دخول مكة

باب دخول مكة يسن من أعلاها (¬1)، والمسجد: من باب بني شيبة (¬2)، فإذا رأى البيت: رفع يديه وقال ما ورد (¬3)، ثم يطوف مضطبعًا. يبتدئ المعتمر بطواف العمرة (¬4)، والقارن والمفرد: للقدوم (¬5). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أنه يسن إذا كان ذلك أرفق لدخوله، ودليل هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها من أعلاها، ولكن الذي يظهر لي أنه يسن إذا كان ذلك أرفق لدخوله، ودليل هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أن يدخل الناس من أعلاها. (¬2) باب بني شيبة الآن عفا عليه الدهر، ولا يوجد له أثرٌ ... ، ولو قدر وجوده أو إعادته ... ؛ فيقال فيه ما يقال في دخول مكة. (¬3) الأحاديث الواردة في رفع اليدين وفي الدعاء: أحاديث فيها نظرٌ، وأكثرها ضعيفٌ ... فإذا صحت هذه الأحاديث عمل بها، وإن لم تصح فإنه لا يجوز العمل بالخبر الضعيف ... وإذا قلنا بعدم صحة هذه الأحاديث، وأنه لا عمل عليها؛ فإنه يدخل باب المسجد كما يدخل أي بابٍ من أبواب المساجد؛ يقدم رجله اليمنى، ويقول: «بسم الله، اللهم صل على محمدٍ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك»، ويتجه إلى الحجر الأسود، فيطوف. (¬4) ظاهره: أنه لا يصلي تحية المسجد، وهو كذلك؛ فإن من دخل المسجد للطواف أغناه الطواف عن تحية المسجد، ومن دخله للصلاة أو الذكر أو القراءة - أو ما أشبه ذلك - فإنه يصلي ركعتين كما لو دخل أي مسجدٍ آخر. (¬5) وليس هذا بواجبٍ - أعني: طواف القدوم - ... ، ولهذا ... إذا شق على الإنسان هذا العمل، وأراد أن يذهب إلى مكان سكناه ويحط رحله فلا حرج؛ فالمسألة من باب السنن فقط.

فيحاذي الحجر الأسود بكله (¬1)، ويستلمه، ويقبله (¬2)، فإن شق قبل يده، فإن شق اللمس أشار إليه (¬3)، ويقول ما ورد، ويجعل البيت عن يساره. ويطوف سبعًا - يرمل الأفقي في هذا الطواف ثلاثًا ثم يمشي أربعًا (¬4) -، يستلم الحجر والركن اليماني كل مرةٍ. ومن ترك شيئًا من الطواف، أو لم ينوه (¬5)، أو نسكه، أو طاف على الشاذروان (¬6)، أو جدار الحجر، أو عريانٌ، أو نجسٌ: لم يصح (¬7). ¬

_ (¬1) الصواب: أنه ليس بواجبٍ، وأنه لو حاذاه ولو ببعض البدن فهو كافٍ - واختاره شيخ الإسلام -، ولا حاجة إلى أن يحاذي بكل البدن، نعم إن تيسر فهو أفضل - لا شك -. (¬2) [يقبله] تعظيمًا لله عز وجل ... ، لا محبةً له من حيث كونه حجرًا، ولا للتبرك به أيضًا. (¬3) الإشارة باليد اليمنى، كما أن المسح يكون باليد اليمنى. (¬4) إن لم يتيسر له الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى - لازدحام المكان - وتيسر له في الأشواط الثلاثة الأخيرة - لخفة الزحام - فلا يقضي؛ لأن الرمل سنةٌ في الأشواط الثلاثة الأولى، وقد فات محلها. (¬5) قال بعض العلماء: إنه لا يشترط التعيين ... ؛ فإذا جاء إلى البيت الحرام وطاف، وغاب عن قلبه أنه للعمرة أو لغير العمرة؛ فعلى هذا القول: يكون الطواف صحيحًا. وهذا القول هو الراجح؛ أنه: لا يشترط تعيين الطواف ما دام متلبسًا بالنسك. (¬6) قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: يصح الطواف على الشاذروان؛ لأن الشاذروان ليس من الكعبة؛ بل هو كالعتبة تكون تحت سور البيت، وقد جعل عمادًا للبيت، فيجوز الطواف عليه. (¬7) لم يذكر المؤلف - رحمه الله - ما إذا طاف محدثًا اكتفاءً بما سبق في نواقض الوضوء؛ حيث قال: (ويحرم على المحدث: مس المصحف، والصلاة، والطواف)، وعلى هذا: يشترط في الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وهذا مذهب الجمهور ... وذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - إلى أنه لا يشترط الوضوء للطواف ... وهذا الذي تطمئن إليه النفس: أنه لا يشترط في الطواف الطهارة من الحدث الأصغر، لكنها - بلا شك - أفضل وأكمل وأتبع للنبي صلى الله عليه وسلم.

ثم يصلي ركعتين خلف المقام (¬1). فصلٌ ثم يستلم الحجر (¬2)، ويخرج إلى الصفا من بابه، فيرقاه حتى يرى البيت، ويكبر ثلاثًا، ويقول ما ورد، ثم ينزل ماشيًا إلى العلم الأول، ثم يسعى شديدًا إلى الآخر (¬3)، ثم يمشي. ويرقى المروة (¬4)، ويقول ما قاله على الصفا. ثم ينزل، فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا. ¬

_ (¬1) كلما قرب من المقام كان أفضل. (¬2) الظاهر: أن استلام الحجر لمن أراد أن يسعى، وأما من طاف طوافًا مجردًا ولم يرد أن يسعى فإنه لا يسن له استلامه. وهذا الاستلام للحجر كالتوديع لمن قام من مجلسٍ؛ فإنه إذا أتى إلى المجلس سلم، وإذا غادر المجلس سلم. (¬3) لكن بشرط ألا يتأذى أو يؤذي، فإن خاف من الأذية عليه أو على غيره فليمش، وليسع بقدر ما تيسر له، وكذلك لو كان معه نساءٌ يخاف عليهن سقط عنه السعي الشديد. (¬4) ليس بشرطٍ، وإنما الشرط أن تستوعب ما بين الجبلين؛ ما بين الصفا والمروة.

يفعل ذلك سبعًا؛ ذهابه سعيةٌ، ورجوعه سعيةٌ. فإن بدأ بالمروة: سقط الشوط الأول (¬1). وتسن فيه: الطهارة، والستارة، والموالاة (¬2). ثم إن كان متمتعًا لا هدي معه: قصر من شعره (¬3)، وتحلل، وإلا حل إذا حج. والمتمتع إذا شرع في الطواف: قطع التلبية. ¬

_ (¬1) ظاهر كلامه: ولو كان ابتداؤه بالمروة عمدًا. وفيه نظرٌ، والأولى: أن يبطل جميع سعيه؛ لأنه متلاعبٌ وعلى غير أمر الله ورسوله. (¬2) الراجح من مذهب أحمد: أن الموالاة في السعي شرطٌ، كما أن الموالاة في الطواف شرطٌ، وهذا القول أصح. (¬3) التقصير - هنا - أفضل من الحلق ... وظاهر كلام المؤلف: أنه يمكن أن يتمتع مع سوق الهدي ... ، والصواب: أنه إذا ساق الهدي امتنع التمتع.

باب صفة الحج والعمرة

باب صفة الحج والعمرة يسن للمحلين بمكة: الإحرام بالحج يوم التروية قبل الزوال منها (¬1)، ويجزئ من بقية الحرم (¬2). ¬

_ (¬1) علم من كلامه: أنه لا يسن قبل طلوع الشمس إلا من مر بالميقات وكان قارنًا أو مفردًا، فمتى مر به أحرم من الميقات، لكن كلام المؤلف - هنا - في المحلين أنهم لا يتقدمون على يوم التروية؛ بل في ضحى يوم التروية. وعلم منه - أيضًا -: أنه لا ينبغي أن يؤخر الإحرام عن الزوال؛ بل يحرم قبل الزوال؛ ليشغل الوقت في طاعة الله؛ لأنه إذا أخر الإحرام إلى وقت العصر فاته ما بين الضحى إلى العصر، ولو أخره إلى الغد - كما يفعله بعض الناس -؛ يقول: (أحرم يوم عرفة وأمشي إلى عرفة)؛ فهذا أشد حرمانًا. والصواب: أنه يحرم من مكة؛ بل يحرم من مكانه الذي هو نازلٌ فيه، فإن كانوا في البيوت فمن البيوت، وإن كانوا في الخيام فمن الخيام. (¬2) فهم من كلامه: أنه لا يجزئ الإحرام بالحج من الحل؛ فالحرم ميقات من في مكة في الحج، والحل ميقات من في مكة في العمرة؛ فكما أنه لا يجوز أن يحرم بالعمرة من الحرم؛ فكذلك لا يجوز أن يحرم بالحج من الحل، وهذا أحد الأقوال في المسألة. وقيل: يجوز أن يحرم من في مكة بالحج من الحل ... ، وهذا هو المشهور من المذهب، والماتن مشى في هذا على خلاف المذهب. والراجح: أنه لا ينبغي أن يخرج من الحرم، وأن يحرم من الحرم، ولكن لو أحرم من الحل فلا بأس؛ لأنه سوف يدخل إلى الحرم.

ويبيت بمنًى، فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة، وكلها موقفٌ إلا بطن عرنة (¬1). ويسن: أن يجمع بين الظهر والعصر، ويقف راكبًا عند الصخرات وجبل الرحمة، ويكثر الدعاء مما ورد (¬2). ومن وقف - ولو لحظةً - من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر - وهو أهلٌ له -: صح حجه (¬3)، وإلا فلا. ¬

_ (¬1) دليله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عرفة موقفٌ، وارفعوا عن بطن عرنة» ... فالبطن هو الممنوع، والحكمة من ذلك: هل لأنه خارج عرفة، أو لأن السنة ألا ينزل الإنسان في الأودية؟ فيه احتمالٌ أنه من عرفة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ارفعوا عنه» لأنه وادٍ، ولا ينبغي للمسافر أن ينزل في الأودية، ويؤيد هذا أنه لولا أنه منها لم يقل: «ارفعوا عن بطن عرنة»، ولكان قد عرف أن بطن عرنة خارج عرفة ... فإن قلنا: إن الوادي منها، ولكن أمرنا بأن نرتفع عنه لأنه وادٍ فحجه صحيحٌ، وإن قلنا: إنه ليس منها فحجه غير صحيحٍ. وهذا يحتاج إلى تحريرٍ بالغٍ؛ لأنه مهم، ينبني عليه أن الإنسان أدى فريضته أو لم يؤد فريضته، فتحريره مهم جدا. (¬2) سواءٌ وردت في هذا المكان أو وردت في مكانٍ آخر. (¬3) جمهور العلماء على أن وقت الوقوف يبدأ من الزوال فقط .... ، ولا شك أن هذا القول أحوط.

ومن وقف نهارًا ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله: فعليه دمٌ (¬1)، ومن وقف ليلًا فقط: فلا. ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينةٍ، ويسرع في الفجوة، ويجمع بها بين العشاءين، ويبيت بها (¬2). وله الدفع بعد نصف الليل (¬3)، وقبله: فيه دمٌ؛ كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله (¬4). ¬

_ (¬1) المشهور من المذهب ... : أن من رجع قبل أن يطلع الفجر؛ فليس عليه شيءٌ؛ لأنه رجع في وقت الوقوف. وذهب بعض العلماء: أنه يلزمه دمٌ بمجرد الدفع قبل الغروب؛ سواءٌ رجع أم لم يرجع؛ لأنه دفعٌ منهي عنه، فحصلت المخالفة بذلك، فيلزمه الدم. ولا شك أن هذا القول أو المذهب هو المطرد، وكلام المؤلف فيه شيءٌ من التناقض. (¬2) اختلف العلماء - رحمه الله - في حكم المبيت بمزدلفة: فقال بعض العلماء: هو سنةٌ. وقال بعض العلماء: واجبٌ يجبر بدمٍ. وقال بعض العلماء: ركنٌ كالوقوف بعرفة. ولكن القول الوسط أحسن الأقوال؛ [وهو]: أنه واجبٌ يجبر بدمٍ، وهو المذهب. (¬3) الصحيح: أن المعتبر غروب القمر، وإن شئت فقل: إن المعتبر البقاء في مزدلفة أكثر الليل ولكن يؤخذ من الليل المسافة ما بين الدفع من عرفة إلى وصول مزدلفة. (¬4) ظاهر حديث عروة بن مضرسٍ يقتضي أن من أدرك صلاة الفجر في أول وقتها فإنه يجزئه، ولا دم عليه.

فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام، فيرقاه أو يقف عنده، ويحمد الله، ويكبره، ويقرأ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} - الآيتين - (¬1)، ويدعو حتى يسفر. فإذا بلغ محسرًا: أسرع رمية حجرٍ (¬2) وأخذ الحصى (¬3) - وعدده سبعون بين ¬

_ (¬1) قراءة هاتين الآيتين لا أعلم فيها سنةً، لكنها مناسبةٌ؛ لأن الإنسان يذكر نفسه بما أمر الله به في كتابه. (¬2) دليله: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرك ناقته حين بلغ محسرًا ... قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع لأنهم كانوا في الجاهلية يقفون في هذا الوادي ويذكرون أمجاد آبائهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم كما خالفهم في الخروج من عرفة وفي الخروج من مزدلفة. ولعل هذا أقرب التعاليل ... والظاهر: أنه لا يمكن الإسراع الآن؛ لأن الإنسان محبوسٌ بالسيارات؛ فلا يمكن أن يتقدم أو يتأخر ... ولكن نقول: هذا شيءٌ بغير اختيار الإنسان، فينوي بقلبه أنه لو تيسر له أن يسرع لأسرع، وإذا علم الله من نيته هذا فإنه قد يثيبه على ما فاته من الأجر والثواب. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أنه يأخذه من وادي محسرٍ أو من بعده ... والذي يظهر لي من السنة: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - أخذ الحصى من عند الجمرة. وأما أخذه من مزدلفة فليس بمستحب، وإنما استحبه بعض المتقدمين من التابعين لأجل أن يبدأ برمي جمرة العقبة من حين أن يصل إلى منًى؛ لأن رمي جمرة العقبة هو تحية منًى، ويفعل قبل كل شيءٍ.

الحمص والبندق - (¬1). فإذا وصل إلى منًى - وهي من وادي محسرٍ إلى جمرة العقبة - (¬2): رماها بسبع حصياتٍ متعاقباتٍ (¬3)؛ يرفع يده حتى يرى بياض إبطه (¬4)، ويكبر مع كل حصاةٍ. ولا يجزئ الرمي بغيرها، ولا بها ثانيًا (¬5)، ولا يقف، ويقطع التلبية قبلها (¬6)، ويرمي بعد طلوع الشمس (¬7)، ويجزئ بعد نصف الليل (¬8). ¬

_ (¬1) بناءً على أنه يتأخر لليوم الثالث من أيام التشريق، فإن لم يتأخر فأسقط من السبعين واحدةً وعشرين؛ تكن: تسعًا وأربعين. والصحيح: أنه لا يأخذ السبعين، ولا تسعًا وأربعين، وإنما يأخذ الحصى كل يومٍ في يومه من طريقه وهو ذاهبٌ إلى الجمرة. (¬2) ظاهر كلام المؤلف - بحسب دلالة (من) -: أن الوادي منها، وليس كذلك ... ، أما جمرة العقبة فليست منها. (¬3) المقصود: أن تقع الحصاة في الحوض؛ سواءٌ ضربت العمود أم لم تضربه. (¬4) علل صاحب «الروض» هذا بأنه أعون له على الرمي. وهذا إذا كان الإنسان بعيدًا، لكن إذا كان قريبًا فلا حاجة إلى الرفع. (¬5) القول الراجح: أن الحصاة المرمي بها مجزئةٌ. (¬6) ويقطع التلبية عند البدء في الرمي؛ لأنه إذا بدأ شرع له ذكرٌ آخر، وهو التكبير. (¬7) هذا هو الأفضل. (¬8) ظاهر كلام المؤلف: أنه يجزئ مطلقًا للقوي والضعيف والذكر والأنثى، وسبق بيان ذلك.

ثم ينحر هديًا - إن كان معه (¬1) -، ويحلق (¬2)، أو يقصر (¬3) من جميع شعره، وتقصر منه المرأة قدر أنملةٍ (¬4). ثم قد حل له كل شيءٍ إلا النساء (¬5). والحلاق والتقصير: نسكٌ، لا يلزم بتأخيره دمٌ (¬6)، ولا بتقديمه على الرمي والنحر. ¬

_ (¬1) هل كلام المؤلف على ظاهره؟ بمعنى: أنه إن كان يحتاج إلى شراءٍ وطلبٍ فإنه يحلق أولًا؟ أو نقول: هذا بناءً على الغالب؟ الثاني هو الظاهر، وأنه حتى الذي يحتاج إلى شراءٍ؛ نقول: الأفضل أن تنحر بعد الرمي ثم تحلق. (¬2) بالموسى وليس بالماكينة، حتى ولو كانت على أدنى درجةٍ؛ فإن ذلك لا يعتبر حلقًا ... والحكمة من حلق الرأس: أنه ذل لله - عز وجل - لا للتنظيف. (¬3) للتخيير، ولكنه تخييرٌ بين فاضلٍ ومفضولٍ، والفاضل: الحلق. (¬4) مقدار ذلك: اثنان (سنتمتر) - تقريبًا -. (¬5) وطئًا ومباشرةً وعقدًا، وهذا هو المشهور من المذهب. وعلى القول الثاني - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الصحيح -: أنه يجوز عقد النكاح بعد التحلل الأول، ويصح ... (¬6) الذي يظهر: أنه لا يجوز تأخيره عن شهر ذي الحجة؛ لأنه نسكٌ ... ، لكن إن كان جاهلًا وجوب الحلق أو التقصير، ثم علم فإننا نقول: احلق أو قصر، ولا شيء عليك فيما فعلت من محظوراتٍ.

فصلٌ ثم يفيض إلى مكة، ويطوف القارن والمفرد (¬1) بنية الفريضة (¬2) طواف الزيارة. وأول وقته: بعد نصف ليلة النحر (¬3)، ويسن في يومه، وله تأخيره (¬4). ثم يسعى بين الصفا والمروة - إن كان متمتعًا أو غيره، ولم يكن سعى مع طواف القدوم -. ¬

_ (¬1) أفاد أن المتمتع لا يطوف، وليس كذلك، وإنما أراد - رحمه الله - بالنص على المفرد والقارن دفع ما قيل من أن المفرد والقارن يطوفان للقدوم أولًا إذا لم يكونا دخلا مكة من قبل، ثم يطوفان للزيارة ... وما ذهب إليه المؤلف - رحمه الله - هو الصواب؛ بل المتعين. (¬2) أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن هذا طواف فرضٍ؛ لقوله: (بنية الفريضة)، وأنه لا بد من نيته وأنه فرضٌ. وسبق الخلاف في هذه المسألة، وبينا أن الطواف والسعي والرمي - وما أشبهها - كلها تعتبر أجزاءً من عبادةٍ واحدةٍ، وأن النية في أولها كافيةٌ عن النية في بقية أجزائها؛ لأن الحج عبادةٌ مركبةٌ من هذه الأجزاء. (¬3) لكن بشرط أن يسبقه الوقوف بعرفة وبمزدلفة؛ فلو طاف بعد منتصف ليلة النحر، ثم خرج إلى عرفة ومزدلفة فإنه لا يجزئه. (¬4) المؤلف لم يقيده بزمنٍ؛ فلم يقل: له تأخيره إلى كذا ... وما ذهب إليه المؤلف - رحمه الله - من أن له تأخيره إلى ما لا نهاية له: ضعيفٌ. والصواب: أنه لا يجوز تأخيره عن شهر ذي الحجة، إلا إذا كان هناك عذرٌ ... ، أما إذا كان لغير عذرٍ فإنه لا يحل له أن يؤخره.

ثم قد حل له كل شيءٍ. ثم يشرب من ماء زمزم (¬1) لما أحب، ويتضلع منه (¬2)، ويدعو بما ورد. ثم يرجع، فيبيت بمنًى ثلاث ليالٍ، فيرمي الجمرة الأولى - وتلي مسجد الخيف - بسبع حصياتٍ، ويجعلها عن يساره، ويتأخر قليلًا، ويدعو طويلًا، ثم الوسطى مثلها. ثم جمرة العقبة، ويجعلها عن يمينه، ويستبطن الوادي (¬3)، ولا يقف عندها. ¬

_ (¬1) ظاهر كلامه: أنه يشرب من ماء زمزم بعد السعي، وليس مرادًا؛ بل يشرب من ماء زمزم بعد الطواف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم بعد الطواف ... وأصل الشرب من ماء زمزم سنةٌ، ولكن كونه بعد الطواف يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل هذا لأنه أيسر له أو أنه - عليه الصلاة والسلام - عطش بعد الطواف، أو ليستعد للسعي، لكن اشرب فهو خيرٌ. (¬2) قد ورد حديثٌ في ذلك، لكن فيه نظرٌ. (¬3) الصحيح: خلاف ما ذكره المؤلف. والصحيح: أنه يرمي مستقبل القبلة في الأولى والوسطى، ويجعل الجمرة بين يديه، وما ذكره من صفاتٍ مردودٌ بأنه لا دليل عليه. أما الثالثة فيرميها من بطن الوادي مستقبل القبلة، وتكون الكعبة عن يساره ومنًى عن يمينه ... والمقصود: هو استقبال الجمرة؛ سواءٌ استقبلت القبلة أم لم تستقبلها، لكن في الجمرة الأولى والوسطى يمكن أن تجمع بين استقبال القبلة واستقبال الجمرة، أما في العقبة فلا يمكن أن تجمع بين استقبال القبلة واستقبال الجمرة، ولذلك فضل استقبال الجمرة.

يفعل هذا في كل يومٍ من أيام التشريق بعد الزوال (¬1)؛ مستقبل القبلة (¬2)، مرتبًا (¬3). فإن رماه كله في الثالث: أجزأه، ويرتبه بنيته (¬4)، فإن أخره عنه، أو لم يبت بها: فعليه دمٌ (¬5). ومن تعجل في يومين: خرج قبل الغروب، وإلا لزمه المبيت والرمي من ¬

_ (¬1) أما الرمي بعد غروب الشمس فلا يجزئ - على المشهور من المذهب - ... وذهب بعض العلماء إلى إجزاء الرمي ليلًا، وقال: إنه لا دليل على التحديد بالغروب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد أوله بفعله ولم يحدد آخره ... ونرى: أنه إذا كان لا يتيسر للإنسان الرمي في النهار؛ فله أن يرمي في الليل، وإذا تيسر لكن مع الأذى والمشقة، وفي الليل يكون أيسر له وأكثر طمأنينةً؛ فإنه يرمي في الليل. (¬2) سبق القول في قوله: (مستقبل القبلة). (¬3) إذا اختل الترتيب لعذرٍ من الأعذار فإنه يسقط عن الإنسان؛ لأنه أتى بالعبادة لكن على وجهٍ غير مرتبٍ. (¬4) ما ذهب إليه المؤلف - رحمه الله - من جواز جمع الرمي في آخر يومٍ: ضعيفٌ ... والقول الصحيح: أنه لا يجوز أن يؤخر رمي الجمرات إلى آخر يومٍ إلا في حالٍ واحدةٍ؛ مثل أن يكون منزله بعيدًا ويصعب عليه أن يتردد كل يومٍ؛ لا سيما في أيام الحر والزحام ... ، وأما من كان قادرًا والرمي عليه سهلٌ لقربه من الجمرات أو لكونه يستطيع أن يركب السيارات حتى يقرب من الجمرات؛ فإنه يجب أن يرمي كل يومٍ في يومه. (¬5) ولو لعذرٍ، لكن إذا كان لعذرٍ يسقط عنه الإثم، وأما جبره بالدم فلا بد منه ... وظاهر كلام المؤلف: أنه إذا أخره عن اليوم الثالث رماه وعليه دمٌ، وهذا غير مرادٍ لأنه إذا مضت الأيام انتهى وقت الرمي، فيسقط.

الغد (¬1)، فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يطوف للوداع (¬2)، فإن أقام أو اتجر بعده أعاده، وإن تركه غير حائضٍ (¬3) رجع إليه (¬4)، فإن شق أو لم يرجع فعليه دمٌ (¬5)، ¬

_ (¬1) لو أن جماعةً حلوا الخيام وحملوا العفش وركبوا، ولكن حبسهم المسير لكثرة السيارات، فغربت عليهم الشمس قبل الخروج من منًى؛ فلهم أن يستمروا في الخروج؛ لأن هؤلاء حبسوا بغير اختيارٍ منهم. (¬2) تحريمًا ... ؛ فالصواب: أن طواف الوداع واجبٌ، وقد عكس بعض الأئمة - رحمهم الله -، فقال: إن طواف الوداع سنةٌ وطواف القدوم واجبٌ، مع أن السنة تدل على العكس ... ولا يسقط طواف الوداع إلا عن الحائض والنفساء فقط. وظاهر كلام المؤلف: أنه إذا أراد الخروج من مكة إلى أي بلدٍ كان فإنه لا يخرج حتى يطوف للوداع. وصرح بعض الأصحاب: أنه إذا أراد الخروج من مكة إلى بلده لم يخرج حتى يطوف للوداع. ووجه التقييد بالبلد: أنه إذا أراد الخروج إلى بلدٍ آخر فإنه لم يزل في سفرٍ، ولم يرجع ... وهذا التقييد تقييدٌ حسنٌ. (¬3) إلا إذا طهرت [الحائض] قبل مفارقة بنيان مكة فإنه يلزمها الرجوع، أما إذا طهرت بعد مفارقة البنيان ولو بيسيرٍ ولو داخل الحرم؛ فإنه لا يلزمها أن ترجع. (¬4) ظاهره: وجوب الرجوع، قرب أم بعد، ما لم يشق، وأنه إذا رجع ولو من بعيدٍ سقط عنه الدم. لكن المذهب: أنه إذا جاوز مسافة القصر استقر عليه الدم؛ سواء رجع أم لم يرجع، وكذلك لو وصل إلى بلده؛ فإن الدم يستقر عليه؛ سواءٌ رجع أم لم يرجع. (¬5) لكن الفرق: أنه إذا تركه للمشقة لزمه الدم ولا إثم، وإذا تركه لغير مشقةٍ لزمه الدم مع الإثم؛ لأنه تعمد ترك واجبٍ ... ونحن نفتي الناس بالدم [في المسألة] وإن كان في النفس شيءٌ من ذلك، لكن من أجل انضباط الناس وحملهم على فعل المناسك الواجبة بإلزامهم بهذا الشيء؛ لأن العامي إذا قلت له: ليس عليك إلا أن تستغفر الله وتتوب إليه؛ سهل الأمر عليه، مع أن التوبة النصوح أمرها صعبٌ.

وإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأ عن الوداع. ويقف غير الحائض بين الركن والباب داعيًا بما ورد، وتقف الحائض ببابه وتدعو بالدعاء (¬1). وتستحب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبري صاحبيه (¬2). وصفة العمرة: أن يحرم بها من الميقات، أو من أدنى الحل من مكي ¬

_ (¬1) هكذا قال، ولا دليل لما قال: إن الحائض تأتي وتقف بباب المسجد تدعو بهذا ... وبهذا انتهى الكلام على صفة الحج والعمرة. واعلم أن كل ما ذكرناه فإنه مبني على ما نعلمه من الأدلة، ومع هذا لو أن إنسانًا اطلع على دليلٍ يخالف ما قررناه فالواجب اتباع الدليل، لكن هذا جهد المقل - نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا -. (¬2) ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله -: أن الحاج إذا انتهى من الحج يشد الرحل إلى المدينة ليزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه. وهذه المسألة اختلف فيها العلماء: فمنهم من قال: إن شد الرحل إلى القبور لا بأس به؛ لأنه شد لعملٍ صالحٍ ... ومنهم من قال: محرمٌ، وهو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وقرره بأدلةٍ إذا طالعها الإنسان تبين له أن ما ذهب إليه هو الحق. ومنهم من قال: إن شد الرحال لزيارة القبور مكروهٌ.

- ونحوه - (¬1) لا من الحرم (¬2). فإذا طاف وسعى وقصر (¬3): حل. وتباح كل وقتٍ. وتجزئ عن الفرض. وأركان الحج: الإحرام (¬4)، والوقوف، وطواف الزيارة (¬5)، والسعي. وواجباته: الإحرام من الميقات المعتبر له، والوقوف بعرفة إلى الغروب، والمبيت - لغير أهل السقاية والرعاية - بمنًى، ومزدلفة (¬6) إلى بعد نصف الليل (¬7)، والرمي، ¬

_ (¬1) سبق تقرير ذلك، وبيان شبهة من قال من أهل العلم: إن المكي يحرم من مكة لعموم الحديث، وهو قوله: «حتى أهل مكة من مكة». (¬2) فإن فعل انعقد إحرامه، ولكن يلزمه دمٌ؛ لتركه الواجب، وهو الإحرام من الحل. (¬3) أسقط المؤلف ذكر الحلق بناءً على أن مراده عمرة المتمتع. (¬4) لكن يجب أن تعرف الفرق بين من نوى أن يحج ومن نوى الدخول في الحج؛ فالثاني هو الركن، أما من نوى أن يحج فلم يحرم؛ فلا صلة له بالركن ... والصحيح: أنه لا يشترط [مع النية لفظٌ]. (¬5) ويشترط أن يقع بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة، فلا يصح أن يطوف قبل عرفة ولا مزدلفة. (¬6) يفهم منه أن أهل السقاية والرعاية يجوز لهم ترك المبيت بالمزدلفة، ولا أعلم لهذا دليلًا من السنة. (¬7) المراد: المبيت بمنًى في ليالي أيام التشريق دون المبيت في ليلة التاسع؛ فإن المبيت في منًى ليلة التاسع ليس بواجبٍ؛ بل هو سنةٌ. والمبيت بمنًى - وإن عددناه من الواجبات - أهون من الرمي. ولهذا يخطئ بعض الناس - فيما نرى - أنه إذا قيل له: رجلٌ لم يبت في منًى ليلةً واحدةً، قال: عليه دمٌ، وهو لو قال: عليه دمٌ إذا ترك ليلتين لكان له شيءٌ من الوجه؛ لأنه ترك جنسًا من الواجبات ... ، أما إذا ترك جزءًا منه فإيجاب الدم عليه فيه نظرٌ واضحٌ ... [أما الدفع فعلى] القول الصحيح ... : إنما يكون في آخر الليل - كما سبق -.

والحلاق (¬1)، والوداع (¬2). والباقي: سننٌ. وأركان العمرة: - إحرامٌ. - وطوافٌ. - وسعيٌ. وواجباتها: الحلاق، والإحرام من ميقاتها (¬3). ¬

_ (¬1) وينوب عنه: التقصير. (¬2) الصحيح: أن [طواف الوداع] ليس من واجبات الحج؛ لأنه لو كان من واجبات الحج لوجب على المقيم والمسافر، وهو لا يجب على المقيم في مكة، وإنما يجب على من سافر. وعلى هذا: فلا يتوجه عده في واجبات الحج؛ إذ إن واجبات الحج لا بد أن تكون واجبةً على كل من حج، لكنه واجبٌ على من أراد الخروج من مكة. (¬3) لم يذكر طواف الوداع؛ فظاهر كلامه أنه لا يجب لها طوافٌ ولا وداعٌ ... . وعلى هذا: فيكون طواف الوداع في العمرة ليس بواجبٍ - على المشهور من مذهب الإمام أحمد - ... وهذه المسألة فيها قولان: الأول: أنه واجبٌ، والثاني: أنه سنةٌ. والراجح عندي: أنه واجبٌ على المعتمر أن يطوف للوداع كما هو واجبٌ على الحاج.

فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه، ومن ترك ركنًا غيره أو نيته (¬1) لم يتم نسكه إلا به (¬2). ومن ترك واجبًا فعليه دمٌ (¬3)، أو سنةً فلا شيء عليه. ¬

_ (¬1) [أي]: الطواف والسعي، أما الوقوف عند الفقهاء فإنه لا يشترط له النية. والصحيح: أن الطواف والسعي لا تشترط لهما النية. (¬2) لكن إن كان الركن يفوت - ولا يصح التمثيل إلا بالوقوف فقط - فإنه في هذه الحال يفوته الحج. [وكذلك] لو أن المؤلف قال: (أو شرطه) لكان أعم؛ مثل: لو أنه طاف بالبيت من غير طهارةٍ - بناءً على القول باشتراط الطهارة للطواف -؛ لم يصح طوافه. (¬3) نحن نفتي بأنه يجب على من ترك واجبًا أن يذبح فديةً يوزعها على الفقراء في مكة ... لكن إذا لم يجد دمًا؛ فالمذهب: الواجب عليه أن يصوم عشرة أيامٍ؛ ثلاثةً في الحج وسبعةً إذا رجع إلى أهله، فإن لم يتمكن من صيامها في الحج صامها في بلده. لكن هذا القول لا دليل عليه؛ لا من أقوال الصحابة ولا من القياس، وليس هناك دليلٌ على أن من عدم الدم في ترك الواجب يجب عليه أن يصوم عشرة أيامٍ؛ لأن قياس ذلك على دم المتعة قياسٌ مع الفارق؛ فدم المتعة شكرانٌ، وأما الدم لترك الواجب فدم جبرانٍ، لذلك نرى أن القياس غير صحيحٍ. وحينئذٍ نقول لمن ترك واجبًا: اذبح فديةً في مكة ووزعها على الفقراء بنفسك، أو وكل من تثق به من الوكلاء، فإن كنت غير قادرٍ فتوبتك تجزئ عن الصيام ...

باب الفوات والإحصار

باب الفوات والإحصار من فاته الوقوف: فاته الحج، وتحلل بعمرةٍ، ويقضي، ويهدي - إن لم يكن اشترط (¬1) -. ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حل، فإن فقده صام عشرة أيامٍ ثم حل (¬2). وإن صد عن عرفة: تحلل بعمرةٍ. ¬

_ (¬1) قوله: (إن لم يكن اشترط) فيما إذا كان الحج نفلًا؛ فالمذهب: وجوب القضاء. والقول الثاني: لا قضاء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم الناس بقضاء العمرة، ولأننا لو ألزمناه بالقضاء لأوجبنا عليه الحج أو العمرة أكثر من مرةٍ. وبناءً على هذا التعليل: ينبغي أن يقال: إن فاته بتفريطٍ منه فعليه القضاء، وإن فاته بغير تفريطٍ منه - كما لو أخطأ في دخول الشهر فظن أن اليوم الثامن هو التاسع ولم يعلم بثبوته -؛ فلا قضاء عليه. وهذا القول الذي فصلنا فيه قولٌ وسطٌ بين من يقول: يلزمه القضاء ومن يقول: لا يلزمه القضاء. (¬2) الدليل: القياس على هدي التمتع. وهذا القياس فيه نظرٌ ... ، ونقول: من لم يجد هديًا إذا أحصر فإنه يحل ولا شيء عليه. وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - هنا: أنه لا يجب الحلق ولا التقصير؛ لأنه لم يذكره ... ، ولكن الصحيح أنه يجب الحلق والتقصير.

وإن حصره مرضٌ، أو ذهاب نفقةٍ: بقي محرمًا - إن لم يكن اشترط (¬1) -. ¬

_ (¬1) الصحيح في هذه المسألة: أنه إذا حصر بغير عدو فكما لو حصر بعدو.

باب الهدي والأضحية والعقيقة

باب الهدي والأضحية والعقيقة أفضلها: إبلٌ، ثم بقرٌ، ثم غنمٌ. ولا يجزئ فيها إلا جذع ضأنٍ، وثني سواه؛ فالإبل خمسٌ، والبقر سنتان، والمعز سنةٌ، والضأن: نصفها. وتجزئ الشاة عن واحدٍ (¬1)، والبدنة والبقرة عن سبعةٍ (¬2). ولا تجزئ (¬3): - العوراء (¬4). ¬

_ (¬1) أي: يضحي الإنسان بالشاة عن نفسه، وتجزئ من حيث الثواب عنه وعن أهل بيته - أيضًا -. . (¬2) يستثنى من ذلك: العقيقة؛ فإن البدنة لا تجزئ فيها إلا عن واحدٍ فقط، ومع ذلك فالشاة أفضل؛ لأن العقيقة فداء نفسٍ، والفداء لا بد فيه من التقابل والتكافؤ؛ فتفدى نفسٌ بنفسٍ. (¬3) أي: في الأضحية، وإلا لو ذبحها وتصدق بلحمها فيجزئ، أما الأضحية فقربةٌ معينةٌ محددةٌ من قبل الشرع. (¬4) لكن النبي صلى الله عليه وسلم قيدها بأنها بينة العور ... ؛ فلو فرضنا أنها لا تبصر بعينها، ولكن إذا نظرت إلى العين ظننتها سليمةً؛ فهذه عوراء ولم يتبين عورها، فتجزئ، ولكن السلامة من هذا العور أولى ... ، ويقاس عليها العمياء من باب أولى ... ؛ فالصواب: أن العمياء لا تجزئ.

- والعجفاء (¬1). - والعرجاء (¬2). - والهتماء (¬3). - والجداء (¬4). - والمريضة (¬5). ¬

_ (¬1) هي: الهزيلة التي لا مخ فيها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «والعجفاء التي لا تنقي». يقول أهل الخبرة: إنه إذا جاء الربيع بسرعةٍ وكانت الغنم هزالًا ورعت من الربيع فإنها تبني شحمًا قبل أن يتكون فيها المخ؛ فهذه التي بنى الشحم عليها دون أن يكون لها مخ تجزئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العجفاء التي لا تنقي»، وهذه الآن ليست عجفاء؛ بل هي سمينةٌ، لكن لم يدخل السمن داخل العظم حتى يتكون المخ، فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم وصفها بوصفين: عجفاء، وليس فيها مخ، وهذه ليست عجفاء، فتجزئ. (¬2) المراد: البين عرجها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والعرجاء البين ضلعها»، وهي التي لا تطيق المشي مع الصحيحة ... ، أما إذا كانت تعرج لكنها تمشي مع الصحيحة فهذه ليس عرجها بينًا، لكن كلما كملت كانت أحسن. (¬3) الصواب: أنها تجزئ. (¬4) لا دليل على منع التضحية بها، وإذا لم يكن على ذلك دليلٌ فالأصل الإجزاء، ولهذا كان القول الراجح في هذه المسألة أنها تجزئ. (¬5) لكن هذا الإطلاق مقيدٌ بما إذا كان المرض بينًا، وبيان المرض إما بآثاره وإما بحاله: أما آثاره؛ فأن تظهر على البهيمة آثار المرض من الخمول والتعب السريع وقلة شهوة الأكل - وما أشبه ذلك -. وأما الحال؛ فأن يكون المرض من الأمراض البينة؛ كالطاعون - وشبهه - وإن كانت نشيطةً.

- والعضباء (¬1). بل: البتراء خلقةً (¬2)، والجماء، وخصي غير مجبوبٍ، وما بأذنه أو قرنه قطعٌ أقل من النصف (¬3). والسنة: نحر الإبل قائمةً معقولةً يدها اليسرى (¬4)، فيطعنها بالحربة (¬5) في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، ويذبح غيرها، ويجوز عكسها. ويقول: (بسم الله (¬6)، والله أكبر (¬7)، اللهم هذا منك ولك). ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: إنها تجزئ لكنها مكروهةٌ، وهذا القول هو الصحيح. (¬2) الصحيح: أن البتراء التي لا ذنب لها - خلقةً أو مقطوعًا - تجزئ كالأذن تمامًا. (¬3) يجزئ، لكن مع الكراهة ... وقوله: (أقل من النصف): مفهوم كلامه أنه لو كان النصف فإنه لا يجزئ ... ، ولكن المذهب يرون أن النصف مجزئٌ، وأن الذي لا يجزئ هو ذهاب أكثر الأذن أو أكثر القرن. والصحيح: خلاف ما ذهب إليه المؤلف في هذه المسألة. (¬4) هذه هي السنة ... ، [لكن] إذا لم يستطع الإنسان أن يفعل السنة وخاف على نفسه أو على البهيمة أن تموت فإنه لا حرج أن يعقلها وينحرها باركةً. (¬5) أو بالسكين، أو بالسيف، أو بأي شيءٍ يجرح وينهر الدم. (¬6) وجوبًا. (¬7) أما (بسم الله) فواجبةٌ، وأما (الله أكبر) فمستحبةٌ ... ، والتسمية على الذبيحة شرطٌ من شروط صحة التذكية، ولا تسقط - لا عمدًا ولا سهوًا ولا جهلًا -.

ويتولاها صاحبها، أو يوكل مسلمًا ويشهدها. ووقت الذبح: بعد صلاة العيد، أو قدره إلى يومين بعده (¬1)، ويكره في ليلتهما (¬2)، فإن فات: قضى واجبه (¬3). فصلٌ ويتعينان بقوله: (هذا هديٌ) أو (أضحيةٌ)، لا بالنية (¬4)، وإذا تعينت: لم يجز بيعها ولا هبتها؛ إلا أن يبدلها بخيرٍ منها. ويجز صوفها - ونحوه - إن كان أنفع لها، ويتصدق به (¬5)، ولا يعطي جازرها ¬

_ (¬1) أصح الأقوال: أن أيام الذبح أربعةٌ: يوم العيد، وثلاثة أيامٍ بعده. (¬2) الصواب: أن الذبح في ليلتهما لا يكره إلا أن يخل ذلك بما ينبغي في الأضحية؛ فيكره من هذه الناحية، لا من كونه ذبحًا في الليل. (¬3) الصواب في هذه المسألة: أنه إذا فات الوقت؛ فإن كان تأخيره عن عمدٍ فإن القضاء لا ينفعه، ولا يؤمر به ... ، وأما إذا كان عن نسيانٍ أو جهلٍ، أو انفلتت البهيمة وكان يرجو وجودها قبل فوات الذبح حتى انفرط عليه الوقت ثم وجد البهيمة؛ ففي هذه الحال يذبحها لأنه أخرها عن الوقت لعذرٍ. (¬4) علم من كلام المؤلف أنها لا تتعين بالفعل ... ، ولكن في هذا نظرٌ. ونقول: الهدي يتعين بالقول والفعل مع النية؛ فالقول: قوله: (هذا هديٌ)، والفعل: الإشعار أو التقليد مع النية، فيكون هديًا بذلك. (¬5) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا ينتفع به، وأنه يجب أن يتصدق به ... وقال بعض العلماء: يجوز أن ينتفع به؛ لأنه إذا كان له أن ينتفع بالجلد كاملًا فالشعر من باب أولى. وهذا هو الصحيح أنه لا يجب عليه أن يتصدق به، لكن يجب أن يلاحظ الشرط، وهو أنه لا يجزه إلا إذا كان ذلك أنفع لها، فإذا كان أنفع لها وجزه، فنقول: إن شئت تصدقت به، وإن شئت وهبته، وإن شئت فانتفعت به؛ لأن انتفاعك بالجلد والصوف - بل وبالشحم وباللحم والعظام - جائزٌ، ولا يلزمك أن تخرج إلا ما يصدق عليه اسم اللحم.

أجرته منها، ولا يبيع جلدها ولا شيئًا منها؛ بل ينتفع منه، وإن تعيبت: ذبحها وأجزأته (¬1)؛ إلا أن تكون واجبةً في ذمته قبل التعيين (¬2). والأضحية: سنةٌ (¬3)، وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها. ويسن أن يأكل ويهدي ويتصدق أثلاثًا (¬4)، وإن أكلها إلا أوقيةً تصدق بها: جاز، وإلا ضمنها (¬5). ¬

_ (¬1) يستثنى من ذلك: ما إذا تعيبت بفعله أو تفريطه ... ؛ ففي هذه الحال يضمنها بمثلها أو خيرٍ منها. (¬2) هذا الاستثناء - على القول الراجح - لا حاجة إليه إذا ذبح بدلها. (¬3) القول بالوجوب للقادر قوي لكثرة الأدلة الدالة على عناية الشارع بها واهتمامه بها، فالقول بالوجوب قوي جدا؛ فلا ينبغي للإنسان إذا كان قادرًا أن يدعها، ولكن إذا كان الناس في بيتٍ واحدٍ، وقيم البيت واحدًا فإنه يجزئ عن الجميع، ولا حاجة إلى أن يضحي كل واحدٍ - خلافًا لما اعتاده بعض الناس الآن -. (¬4) وقيل: يأكل ويتصدق أنصافًا ... ، وهذا القول أقرب إلى ظاهر القرآن والسنة، ولكن مع ذلك إذا اعتاد الناس أن يتهادوا في الأضاحي فإن هذا من الأمور المستحبة ... ، ولكن تحديدها بالثلث يحتاج إلى دليلٍ من السنة. (¬5) قال بعض العلماء: إن تصدق بها إلا أقل ما يقع عليه اسم اللحم فإنه لا حرج عليه، ولكن لو أكلها جميعًا فإنه يضمن أقل ما يقع عليه اسم اللحم.

ويحرم على من يضحي (¬1) أن يأخذ في العشر من شعره أو بشرته شيئًا (¬2). فصلٌ تسن (¬3) العقيقة عن الغلام شاتان (¬4)، وعن الجارية شاةٌ. تذبح يوم سابعه، فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين (¬5)؛ تنزع جدولًا، ولا يكسر عظمها (¬6). ¬

_ (¬1) يفهم منه أن من يضحى عنه لا حرج عليه أن يأخذ من ذلك ... ، وهذا هو القول الراجح. (¬2) ولا يأخذن - أيضًا - من ظفره شيئًا، لكن لو أنه انكسر الظفر وتأذى به فيجوز أن يزيل الجزء الذي تحصل به الأذية، ولا شيء عليه. وكذلك لو سقط في عينه شعرةٌ، أو نبت في داخل الجفن شعرٌ تتأذى به العين؛ فأخذه بالمنقاش جائزٌ؛ لأنه لدفع أذاه ... وإذا قدر أن الرجل لم ينو الأضحية إلا في أثناء العشر، وقد أخذ من شعره وبشرته وظفره فيصح، ويبتدئ تحريم الأخذ من حين نوى الأضحية. وفهم من كلام المؤلف: أنه إذا أخذ شيئًا من ذلك فلا فدية عليه، وهو كذلك، ولا يصح أن يقاس على المحرم. (¬3) أي: سنةٌ في حق الأب، وهي سنةٌ مؤكدةٌ. (¬4) إن لم يجد الإنسان إلا شاةً واحدةً أجزأت وحصل بها المقصود، لكن إذا كان الله قد أغناه فالاثنتان أفضل. (¬5) فإن فات اليوم الحادي والعشرون؛ ففي أي يومٍ. (¬6) هذا مروي عن عائشة - رضي الله عنها -، قالوا: من أجل التفاؤل بسلامة الولد وعدم انكساره، ولكن ليس هناك دليلٌ يطمئن إليه القلب في هذه المسألة.

وحكمها كالأضحية (¬1)؛ إلا أنه لا يجزئ فيها شركٌ في دمٍ. ولا تسن: الفرعة (¬2)، ولا العتيرة (¬3). ¬

_ (¬1) وتخالف الأضحية في مسائل ... (¬2) إن ذبح الإنسان الفرعة بقصدٍ كقصد أهل الجاهلية فهو شركٌ محرمٌ لا إشكال فيه، وإن ذبحها من أجل أن يكون ذلك شكرًا لله على هذا النتاج الذي هذا أوله ولتحصل البركة في المستقبل؛ فهذا لا بأس به. (¬3) الذي يترجح عندي: أن الفرعة لا بأس بها لورود السنة بها، وأما العتيرة فإن أقل أحوالها الكراهية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى ذلك، وقال: «لا فرعة ولا عتيرة».

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد وهو فرض كفايةٍ (¬1)، ويجب: إذا حضره، أو حصر بلده عدو، أو استنفره الإمام (¬2)، وتمام الرباط: أربعون يومًا. وإذا كان أبواه مسلمين: لم يجاهد تطوعًا إلا بإذنهما (¬3). ويتفقد الإمام جيشه عند المسير، ويمنع: المخذل، والمرجف. وله أن ينفل في بدايته الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده. ويلزم الجيش طاعته (¬4)، والصبر معه. ¬

_ (¬1) لا بد من شرطٍ، وهو أن يكون عند المسلمين قدرةٌ وقوةٌ يستطيعون بها القتال، فإن لم يكن لديهم قدرةٌ فإن إقحام أنفسهم في القتال إلقاءٌ بأنفسهم إلى التهلكة ... ، وعلى هذا فلا بد من هذا الشرط، وإلا سقط عنهم كسائر الواجبات؛ لأن جميع الواجبات يشترط فيها القدرة. (¬2) الموضع الرابع: إذا احتيج إلى [رجلٍ] صار فرض عينٍ عليه ... ، ويجب عليه أن يقاتل لأن الناس محتاجون إليه. (¬3) إذا كان الأبوان فاسقين، يكرهان الجهاد والمستقيمين، ويكرهان أن تعلو كلمة الحق، لكنهما مسلمان ... ؛ فظاهر كلام المؤلف أنه لا يجاهد تطوعًا إلا بإذنهما، ونيتهما إلى الله. لكن في النفس من هذا شيءٌ، فإذا علمنا أنهما لم يمنعاه شفقةً عليه؛ بل كراهةً لما يقوم به من جهاد الكفار ومساعدة المسلمين؛ ففي طاعتهما نظرٌ. (¬4) لكن يشترط لوجوب طاعته فيها: ألا يخالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وظاهر كلام المؤلف: أنه تجب طاعته ولو كان فاسقًا، وهو كذلك، فتجب طاعة ولي الأمر ولو كان من أفسق عباد الله، وذلك لعموم الأدلة الدالة على وجوب طاعة ولاة الأمور، والصبر عليهم، وإن رأينا منهم ما نكره في أديانهم وعدلهم واستئثارهم فإننا نسمع ونطيع، فنؤدي الحق الذي أوجب الله علينا، ونسأل الله الحق الذي لنا، هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا جرى عليه سلف هذه الأمة، فإن أمر بمعصيةٍ فإنه لا طاعة له ... وإذا قلنا: لا سمع له ولا طاعة؛ فهل المعنى: لا سمع له ولا طاعة له مطلقًا، أو في هذه المعصية التي أمر بها؟ الجواب: الثاني هو المراد.

ولا يجوز الغزو إلا بإذنه؛ إلا أن يفاجئهم عدو يخافون كلبه. وتملك الغنيمة: بالاستيلاء عليها في دار الحرب. وهي: لمن شهد الوقعة من أهل القتال، فيخرج الخمس، ثم يقسم باقي الغنيمة: للراجل سهمٌ، وللفارس ثلاثة أسهمٍ - سهمٌ له، وسهمان لفرسه -. ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت، ويشاركونه فيما غنم. والغال من الغنيمة: يحرق (¬1) رحله كله؛ إلا السلاح، والمصحف، وما فيه روحٌ. وإذا غنموا أرضًا فتحوها بالسيف: خير الإمام بين قسمها ووقفها على ¬

_ (¬1) المذهب هو: أنه يجب إحراقه، والذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن هذا راجعٌ إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى من المصلحة أن يحرق حرقه، وإن رأى أن يبقيه أبقاه، ولكن لا بد أن ينكل بهذا الغال.

المسلمين، ويضرب عليها خراجًا مستمرا يؤخذ ممن هي بيده (¬1). والمرجع في الخراج والجزية: إلى اجتهاد الإمام. ومن عجز عن عمارة أرضه: أجبر على إجارتها، أو رفع يده عنها. ويجري فيها الميراث. وما أخذ من مال مشركٍ - كجزيةٍ وخراجٍ وعشرٍ -، وما تركوه فزعًا، وخمس خمس الغنيمة: ففيءٌ يصرف في مصالح المسلمين. ¬

_ (¬1) وهذا التخيير تخيير مصلحةٍ وليس تخيير تشه ... ويجب على الإمام أن يستشير أولي الرأي ... ؛ فقد يكون الأفضل الأول، وقد يكون الأفضل الثاني، [وذلك] بحسب الحال.

باب عقد الذمة وأحكامها

باب عقد الذمة وأحكامها لا يعقد لغير المجوس وأهل الكتابين - ومن تبعهم (¬1) -. ولا يعقدها إلا إمامٌ أو نائبه. ولا جزية على: صبي، ولا امرأةٍ، ولا عبدٍ، ولا فقيرٍ يعجز عنها. ومن صار أهلًا لها: أخذت منه في آخر الحول. ومتى بذلوا الواجب عليهم: وجب قبوله، وحرم قتالهم. ويمتهنون عند أخذها، ويطال وقوفهم، وتجر أيديهم (¬2). ¬

_ (¬1) الصحيح: أنها تصح من كل كافرٍ. (¬2) لو أن الناس استعملوا هذا في الوقت الحاضر لقيل: هذه عنصريةٌ، وهذا جفاءٌ وهؤلاء أجلافٌ؛ لأن الأمور تغيرت؛ فمثلًا: لو قدر أن المسلمين الآن عقدوا الذمة لأحدٍ، هل يحسن أن يعاملوه هذه المعاملة؟ أو يقال: إن صغار كل شيءٍ بحسبه؟ فنحن إذا لم نكرمهم فهو في عرف الناس الآن يعتبر إذلالًا وإصغارًا. هذا محل نظرٍ ... قال بعض العلماء: لا يعاملون هذه المعاملة؛ بل يعاملون بالصغار دون أن يطال وقوفهم ودون أن تجر أيديهم؛ بل تستلم منهم استلامًا عاديا؛ بشرط ألا نظهر إكرامهم، ويكفينا أن يأتوا بها إلينا.

فصلٌ ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في: النفس، والمال، والعرض، وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله. ويلزمهم التميز عن المسلمين، ولهم ركوب غير خيلٍ بغير سرجٍ بإكافٍ. ولا يجوز تصديرهم في المجالس، ولا القيام لهم (¬1)، ولا بداءتهم بالسلام (¬2). ¬

_ (¬1) لكن إذا لم يكن من أهل الذمة وقدم إلى بلد الإسلام فهل يقام له لأنه من ذوي الشرف والجاه في قومه ولأن ذلك مما جرت به العادة بين الناس ورؤساء الدول أو لا يقام له؟ الجواب: هذا محل نظرٍ، وفرقٌ بين هذه المسألة وبين مسألة أهل الذمة؛ لأن أهل الذمة تحت ولايتنا، ونحن لنا الولاية عليهم، فلا يمكن أن نكرمهم بالقيام لهم. (¬2) فإن سلموا وجب الرد ... ، أما البداءة فلا ... ولا يخلو السلام الذي ألقوه إلينا إما أن يكون صريحًا بقولهم: (السلام عليكم)، أو صريحًا بقولهم: (السام عليكم)، أو غير صريحٍ؛ فلم يبينوا اللام ولم يحذفوها حذفًا واضحًا. فإن صرحوا بقولهم: (السلام عليكم) ... ؛ فهنا لنا أن نرد عليهم ونقول: (وعليكم السلام)، ولنا أن نقول: (وعليكم). وإن صرحوا بقولهم: (السام عليكم)؛ فإننا نقول: (عليكم السام)، أو نقول - وهو أولى -: (وعليكم) ... وإن كان محتملًا؛ فهنا يتعين أن نقول: (وعليكم)؛ لأنه إن قال: (السلام) فهو عليه، وإن قال: (السام) فهو عليه. وهل يجوز أن نبدأهم ب-: (كيف أصبحت؟) و (كيف أمسيت؟) - وما أشبه ذلك -؟ المذهب: لا يجوز ... وقال شيخ الإسلام: يجوز أن نقول له: (كيف حالك؟) و (كيف أمسيت؟)، و (كيف أصبحت؟)؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بداءتهم بالسلام، والسلام يتضمن الإكرام والدعاء؛ لأنك إذا قلت: (السلام عليكم) فأنت تدعو له، أما هذا فهو مجرد ترحيبٍ وتحيةٍ. وينبغي أن يقال [في مثل ذلك؛ أي: في غير السلام]: إذا كانوا يفعلون بنا مثل ذلك فلنفعله بهم، أو كان هذا لمصلحةٍ - كالتأليف لقلوبهم - فلنفعله بهم، أو كان ذلك خوفًا من شرهم فلنفعله بهم ... أما التهنئة بالأعياد فهذه حرامٌ بلا شك ... وأما تهنئتهم بأمورٍ دنيويةٍ - كما لو ولد له مولودٌ، أو وجد له مفقودٌ، أو بنى بيتًا، أو ما أشبه ذلك -؛ فهذه ينظر؛ إذا كان في هذا مصلحةٌ فلا بأس بذلك، وإن لم يكن فيه مصلحةٌ فإنه نوع إكرامٍ فلا يهنؤون، ومن المصلحة أن يكون ذلك على وجه المكافأة؛ مثل: أن يكون من عادتهم أن يهنئونا بمثل ذلك فإننا نهنئهم. وأما تعزيتهم فلا يجوز أن نعزيهم ... ، لكن في أهل الذمة قال بعض أهل العلم: تعزيتهم تجوز للمصلحة ... وأما عيادتهم فالصحيح جواز ذلك، لكن للمصلحة - أيضًا -.

ويمنعون من إحداث كنائس وبيعٍ، وبناء ما انهدم منها - ولو ظلمًا (¬1) -، ومن تعلية بنيانٍ على مسلمٍ - لا من مساواته له - (¬2)، ومن إظهار خمرٍ وخنزيرٍ وناقوسٍ وجهرٍ بكتابهم. ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: إذا هدمت ظلمًا فلهم إعادة بنائها. ولو قيل: إنه يعيدها من هدمها ويضمن؛ لكان له وجهٌ؛ لأن هذا عدوانٌ وظلمٌ، وأهل الذمة يجب علينا منع الظلم والعدوان عنهم. فالصواب: أنه إذا انهدمت ظلمًا فإنها تعاد، وذلك لأنها لم تنهدم بنفسها. (¬2) يفهم من كلام المؤلف ... : أنهم لو ملكوا [البنيان] من مسلمٍ عاليًا فإنهم لا يمنعون، لكن الصحيح ... : أنهم يمنعون، فيهدم أو يفسخ البيع.

وإن تهود نصراني - أو عكسه -: لم يقر، ولم يقبل منه إلا الإسلام أو دينه (¬1). فصلٌ فإن أبى الذمي بذل الجزية، أو التزام حكم الإسلام، أو تعدى على مسلمٍ بقتلٍ (¬2) أو زنا (¬3)، أو قطع طريقٍ، أو تجسسٍ، أو إيواء جاسوسٍ، أو ذكر الله أو رسوله أو كتابه بسوءٍ: انتقض عهده دون نسائه وأولاده، وحل دمه وماله. ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: إن تهود نصراني لا يقبل منه إلا الإسلام؛ لأن انتقاله من النصرانية إلى اليهودية إقرارٌ منه بأن النصرانية باطلةٌ وانتقل إلى دينٍ باطلٍ، إذن الدين الذي كنت عليه أولًا باطلٌ، والذي انتقلت إليه - أيضًا - باطلٌ، فلا نقرك على الباطل، ونقول: (أسلم وإلا قتلناك). ولا شك أن لهذا القول وجهًا قويا. (¬2) حتى لو عفا [عنه] أولياء المقتول؛ فإن عهده ينتقض. (¬3) [حتى] لو زنا بمسلمةٍ برضاها؛ فإنه ينتقض عهده ... ، ومثل ذلك: لو اعتدى على غلامٍ بلواطٍ.

كتاب البيع

كتاب البيع وهو مبادلة مالٍ - ولو في الذمة -، أو منفعةٍ مباحةٍ - كممر في دارٍ - بمثل أحدهما على التأبيد؛ غير ربًا وقرضٍ. وينعقد ب-: - إيجابٍ وقبولٍ بعده وقبله؛ متراخيًا عنه في مجلسه، فإن اشتغلا بما يقطعه بطل (¬1)، وهي: الصيغة القولية. - وبمعاطاةٍ، وهي الفعلية. ويشترط: - التراضي منهما، فلا يصح من مكرهٍ بلا حق. - وأن يكون العاقد جائز التصرف؛ فلا يصح تصرف: صبي (¬2)، وسفيهٍ بغير إذن ولي (¬3). ¬

_ (¬1) وكذلك: لا بد أن يطابق القبول الإيجاب - كميةً وجنسًا ونوعًا -. (¬2) حتى وإن كان مراهقًا له أربع عشرة سنةً وكان حاذقًا جيدًا في البيع والشراء؛ فإنه لا يصح بيعه؛ لأنه صغيرٌ لم يبلغ. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أنه يصح إذن الولي للسفيه بالتصرف المطلق والمعين ... ، ولكن هذا الظاهر غير مرادٍ؛ بل يقال: بغير إذن وليه في الشيء المعين.

- وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجةٍ؛ كالبغل، والحمار، ودود القز، وبزره، والفيل، وسباع البهائم التي تصلح للصيد؛ إلا: الكلب، والحشرات، والمصحف (¬1)، والميتة (¬2)، والسرجين النجس، والأدهان النجسة، ولا المتنجسة (¬3) - ويجوز الاستصباح بها في غير مسجدٍ (¬4) -. - وأن يكون من مالكٍ أو من يقوم مقامه، فإن باع ملك غيره، أو اشترى بعين ماله بلا إذنه: لم يصح (¬5). ¬

_ (¬1) الصحيح: أنه يجوز بيع المصحف ويصح؛ للأصل وهو الحل، وما زال عمل المسلمين عليه إلى اليوم. (¬2) يستثنى من الميتة: الميتات الطاهرة التي تؤكل؛ فإن بيعها حلالٌ ... ؛ مثل: السمك ... ، وكذلك الجراد ... ويستثنى من أجزاء الميتة: - ما هو في حكم المنفصل؛ مثل: الشعر، والوبر، والصوف، والريش - وما أشبه ذلك -. - الجلد - على القول الراجح -؛ لأن الجلد يمكن تطهيره؛ فهو كالثوب النجس. (¬3) الصحيح: أن بيع الأدهان المتنجسة جائزٌ؛ لأنه يمكن تطهيرها، فتكون كبيع الثوب المتنجس. (¬4) هذا ينبني على أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة، فأما على القول بأن النجاسة تطهر بالاستحالة فإنه يجوز، وللعلماء في ذلك قولان ... فدخان النجاسة مستحيلٌ من عينٍ إلى دخانٍ، فإذا قلنا بطهارة النجس إذا استحال؛ قلنا: يجوز الاستصباح بالأدهان النجسة والمتنجسة في المسجد وغير المسجد. (¬5) ظاهر كلام المؤلف أن هذا لا يصح وإن كان فيه مصلحةٌ، وظاهر كلامه - أيضًا - أنه لا يصح وإن أجازه المالك؛ لفوات الشرط. والصحيح: أنه إذا أجازه المالك صح البيع.

وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمه في العقد (¬1): صح له بالإجازة، ولزم المشتري بعدمها ملكًا. ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوةً - كأرض الشام ومصر والعراق -؛ بل تؤجر (¬2). ولا يصح: بيع نقع البئر (¬3)، ولا ما نبت في أرضه من كلإٍ وشوكٍ (¬4)، ويملكه ¬

_ (¬1) [ويصح أيضًا إذا سماه في العقد]؛ فتصرف الفضولي إذا أجازه من تصرف له فهو صحيحٌ. (¬2) الصواب: أن بيعها حلالٌ جائزٌ وصحيحٌ، وسواءٌ المساكن أو الأراضي. (¬3) أما إذا ملكه وحازه وأخرجه ووضعه في البركة فإنه يجوز بيعه؛ لأنه صار ملكًا له بالحيازة. (¬4) إن كنت أحتاجه لرعي إبلي أو بقري أو غنمي فأنا أحق به، ولي أن أمنع منه؛ لأنني أحق به، أما إذا كنت لا أحتاجه فليس لي أن أمنع من يريد أخذه، إلا إذا كان يلحقني في ذلك ضررٌ فلي أن أمنعه؛ لأنه لا يمكن أن يرتكب الضرر لمصلحة الغير وصاحب الأرض أحق به ... وما نبت في أرضه من الزرع والشجر: في بيعه تفصيلٌ: القول الأول: إذا أنبته هو فهو ملكه، ويجوز بيعه .... ، وإذا كان من عند الله لم يتسبب فيه فإنه لا يجوز؛ لأن الناس شركاء فيه ... القول الثاني: أنه إذا استنبته فهو له؛ يملكه ويجوز بيعه وإلا فلا، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. ومعنى استنباته: أن يحرث الأرض حتى تكون قابلةً للنبات إذا نزل المطر، أو أن يدع الأرض لا يحرثها لزرعه الخاص ترقبًا لما ينبت عليها من الكلإ والحشيش؛ لأنه الآن باختياره أن يحرث الأرض ولا تنبت إلا ما زرعه هو ... القول الثالث: أن له بيعه ... ، [لأن] ما نبت على [الأرض المملوكة] يتبعها، فيكون ملكًا [لصاحبها]. فالأقوال ... ثلاثةٌ.

آخذه. - وأن يكون مقدورًا على تسليمه؛ فلا يصح بيع: - آبقٍ (¬1). - وشاردٍ (¬2). - وطيرٍ في هواءٍ (¬3). ¬

_ (¬1) ظاهره: سواءٌ كان المشتري قادرًا على رده أم غير قادرٍ. وقيل: إن كان قادرًا على رده فإن البيع صحيحٌ؛ لأن الحكم يثبت بعلته ويزول بزوال العلة، فإذا كان هذا الرجل يعلم مكان الآبق وهو قادرٌ على أخذه بكل سهولةٍ؛ فما المانع من صحة البيع؟ لكن بشرط ألا يغر البائع؛ أي: ألا يوهمه أنه لا يقدر العثور عليه، وذلك لأنه إذا أعلمه أنه قادرٌ عليه فسوف يرفع السعر - أي: ثمنه -، وإذا لم يعلم فسوف يخفض السعر، فلا بد من أن يعلمه. (¬2) هذا مثالٌ، وإلا فلو أن بقرةً هربت أو شاةً - أو ما أشبه ذلك -، وعجز عنها؛ فهي داخلةٌ في هذا. (¬3) مثل: أن يكون عند الإنسان حمامٌ، وليس الآن في مكانه، فيبيعه صاحبه ... وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يصح بيعه ولو ألف الرجوع، وكان من عادته أن يأتي في الليل ويبيت في مكانه وقيل: إن ألف الرجوع صح البيع، ثم إن رجع، وإلا فللمشتري الفسخ. وهذا القول أصح. فإذا حضر وأراد البائع ألا يسلمه إياه أجبرناه على تسليمه إياه؛ لأن البيع وقع صحيحًا، وإن لم يحضر فإن للمشتري الفسخ؛ لأن المشتري لم يشتر شيئًا لا ينتفع به ولا يعود عليه.

- وسمكٍ في ماءٍ (¬1). - ولا مغصوبٍ من غير غاصبه (¬2) أو قادرٍ على أخذه (¬3). - وأن يكون معلومًا برؤيةٍ أو صفةٍ (¬4). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: ولو كان مرئيا بمكانٍ يمكن أخذه منه ... . ولكن الصحيح ... : أنه إذا كان مرئيا يسهل أخذه فإنه يجوز بيعه؛ كالسمك الذي يكون في برك بعض البساتين، [أما] سمكٌ في البحر أو في نهرٍ فلا يصح بيعه، أو في مكانٍ ليس بحرًا ولا نهرًا لكن يصعب أخذه فإنه لا يصح بيعه. (¬2) لكن بشرط ألا يمنعه إياه بدون البيع، فإن منعه الغاصب إياه إلا بالبيع؛ فالبيع غير صحيحٍ؛ لأنه بغير رضًا، ومن شرط البيع: الرضا. (¬3) إن كان المشتري اشتراه بناءً على أنه قادرٌ على أخذه ولكنه عجز فيما بعد؛ فله الفسخ؛ لأنه تعذر الحصول على مقصودهم. (¬4) هذا فيه قصورٌ؛ فطرق العلم متعددةٌ: الرؤية، والسمع، والشم، والذوق، واللمس، والوصف. فالرؤية فيما يكون الغرض منه رؤيته، والسمع فيما يكون الغرض منه سماعه، والشم فيما يكون الغرض منه ريحه، والذوق فيما يكون الغرض منه طعمه، واللمس فيما يكون الغرض منه ملمسه؛ هل هو لينٌ أم خشنٌ - أو ما أشبه ذلك - ... أما العلم بالوصف؛ فلا بد من شرطين: الأول: أن يكون الموصوف مما يمكن انضباطه بالصفة. الثاني: أن يضبط بالصفة. أما ما لا يمكن انضباطه بالصفة؛ كالجواهر واللآلئ - وما أشبه ذلك -؛ فإنه لا يجوز أن يباع بالوصف.

فإن اشترى ما لم يره (¬1)، أو رآه وجهله، أو وصف له بما يكفي سلمًا (¬2): لم يصح. ولا يباع حملٌ في بطنٍ ولبنٌ في ضرعٍ منفردين، ولا مسكٌ في فأرته (¬3)، ولا نوى في تمره (¬4)، وصوفٌ على ظهرٍ (¬5)، وفجلٌ - ونحوه - قبل قلعه (¬6). ¬

_ (¬1) أما لو وصفه صح البيع إذا كان مما يمكن انضباطه بالصفة. (¬2) وقيل: إنه يصح أن يبيع ما لم يره ولم يوصف له، ولمشترٍ الخيار إذا رآه ... ، وهذا هو الصحيح، وهو شبيهٌ ببيع الفضولي؛ لأنه إذا كان له الخيار إذا رآه؛ فليس عليه نقصٌ. (¬3) القول الثاني: أنه يصح بيع [المسك] في فأرته؛ لأن هذه الفأرة وعاءٌ طبيعي؛ فهي كقشرة الرمانة، ومن المعلوم أن الرمانة يصح بيعها، ووعاؤها قشرها؛ فقد يكون فيه شيءٌ من الشحم كثيرٌ، وقد يكون فيه شيءٌ قليلٌ، ثم إن أهل الخبرة في هذا يعرفونه إما باللمس والضغط عليه، أو بأي شيءٍ، وهم يقولون: إن هذا مستترٌ بأصل الخلقة ... وهذا الذي ذهب إليه ابن القيم؛ فهو مستترٌ بأصل الخلقة - كالبطيخ والرمان وما أشبه ذلك -، وهذا هو الصحيح. (¬4) فهم من كلامه: أنه لو أخرج النوى من التمر ثم باعه؛ فالبيع صحيحٌ؛ لأنه معلومٌ. (¬5) القول الثاني: أنه يصح بيع الصوف على الظهر بشرط الجز في الحال وألا تتضرر به البهيمة؛ لأنه مشاهدٌ معلومٌ ... ، وهذا القول هو الصحيح. (¬6) القول الثاني: أنه يصح بيعه؛ لأنه وإن كان المقصود منه مستترًا فإنه يكون معلومًا عند ذوي الخبرة فيعرفونه ... ، وهذا القول أصح.

ولا يصح: بيع الملامسة (¬1)، والمنابذة، ولا عبدٌ من عبيده - ونحوه - (¬2)، ولا استثناؤه إلا معينًا، وإن استثنى من حيوانٍ - يؤكل - رأسه وجلده وأطرافه: صح، وعكسه: الشحم، والحمل (¬3). ¬

_ (¬1) مثل: أن يقول البائع للمشتري: (أي ثوبٍ تلمسه فهو عليك بكذا) ... وهناك معنًى آخر للملامسة، وهو أن يقول: (أي ثوبٍ تلمسه فهو عليك بعشرةٍ ولو كانت الثياب من نوعٍ واحدٍ وعلى تفصيلٍ واحدٍ). وهذا الوجه مبني على عدم صحة تعليق البيع بالشرط؛ لأن (أي ثوبٍ تلمسه) هذه جملةٌ شرطيةٌ، ولكن هذا المثال الأخير إنما يصح على قول من يقول: إن تعليق البيع بالشرط لا يصح، وهي مسألةٌ خلافيةٌ، والصحيح: أنه يصح تعليق العقد بالشرط. (¬2) ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله -: أنه لا يصح البيع ولو كانت القيمة واحدةً. وهذا فيه خلافٌ بين أهل العلم: فإن منهم من قال: إذا تساوت القيم صح البيع. وفي هذا القول - أيضًا - شيءٌ من النظر؛ لأنها قد تتساوى القيم مع اختلاف الصفات؛ فمثلًا: هذا قيمته مئةٌ لأنه سمينٌ، والثاني قيمته مئةٌ لأنه حاملٌ، والثالث: قيمته مئةٌ لأنه كبير الجسم. فتساوي القيم - في الواقع - لا يرفع الجهالة إذا كان المقصود عين المبيع. أما إذا كان المقصود التجارة فإنه إذا تساوت القيم فلا جهالة؛ لأن التجارة يراد بها الثمن أو القيمة، فإذا تساوت القيم فلا بأس أن نقول: إنه يصح البيع إذا كان المقصود التجارة، أما إذا كان المقصود عين المبيع فإنه لا بد أن يعين. (¬3) القول الثاني: صحة استثناء الحمل؛ لأن الحمل جزءٌ منفصلٌ، وإذا استثنيت الحمل فكأنني بعت عليك شاةً حائلًا ليس فيها حملٌ فالصواب: جواز استثناء الحمل.

ويصح بيع: ما مأكوله في جوفه - كرمانٍ وبطيخٍ -، وبيع الباقلاء - ونحوه - في قشره، والحب المشتد في سنبله. - وأن يكون الثمن معلومًا، فإن باعه برقمه (¬1)، أو بألف درهمٍ ذهبًا وفضةً، أو بما ينقطع به السعر، أو بما باع به زيدٌ وجهلاه أو أحدهما (¬2): لم يصح. وإن باع ثوبًا أو صبرةً أو قطيعًا؛ كل ذراعٍ أو قفيزٍ أو شاةٍ بدرهمٍ: صح. وإن باع من الصبرة كل قفيزٍ بدرهمٍ (¬3)، أو بمئة درهمٍ إلا دينارًا - وعكسه - (¬4)، أو باع معلومًا ومجهولًا، يتعذر علمه ولم يقل كل منهما ¬

_ (¬1) القول الثاني: أنه يصح البيع بالرقم إذا كان من قبل الدولة؛ بل هذا ربما يكون أشد اطمئنانًا للبائع والمشتري، أما إذا كان البائع نفسه هو الذي يرقم ما شاء على سلعته؛ فهذا لا بد أن يكون معلومًا. (¬2) وقيل: إن كان زيدٌ ممن يعتبر بتقديره الثمن؛ فإن البيع بما يبيع به صحيحٌ ... ؛ لأن هذا أوثق ما يكون؛ أي: اعتبار الناس بالرجل المشهور الذي قد نصب نفسه لبيع البضائع أكثر من اعتبارهم ببيع المساومة. فالصحيح في هذه المسألة: أنه يصح، أما إذا كان زيدٌ من عامة الناس الذين لا يعرفون التجارة؛ فلا يصح أن يقول: (بعتك بما باع زيدٌ)؛ لأن زيدًا قد يغبن فيشتري بأقل أو بالعكس. (¬3) القول الثاني في المسألة ... : أن هذا صحيحٌ ... ، وهذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة، أنه إذا باعه من القطيع كل شاةٍ بدرهمٍ، أو من الثوب كل ذراعٍ بدرهمٍ، أو من الصبرة كل قفيزٍ بدرهمٍ؛ فإن البيع صحيحٌ كما لو باعه الكل. (¬4) ونقيد ذلك بما إذا كانت القيمة قابلةً للزيادة والنقص، أما إذا كانت القيمة مقررةً بحيث يكون كل عشرة دراهم دينارًا فالاستثناء صحيحٌ.

بكذا (¬1): لم يصح، فإن لم يتعذر صح في المعلوم بقسطه. ولو باع مشاعًا بينه وبين غيره كعبدٍ، أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء: صح في نصيبه بقسطه. وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبدًا وحرا، أو خلا وخمرًا - صفقةً واحدةً -: صح في عبده، وفي الخل بقسطه، ولمشترٍ الخيار إن جهل الحال. فصلٌ ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني، ويصح النكاح وسائر العقود (¬2). ولا يصح بيع: عصيرٍ ممن يتخذه خمرًا، ولا سلاحٍ في فتنةٍ، ولا عبدٍ مسلمٍ لكافرٍ إذا لم يعتق عليه، وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه (¬3)، ولا تكفي مكاتبته، وإن جمع بين بيعٍ وكتابةٍ أو بيعٍ وصرفٍ: صح في غير الكتابة (¬4)، ويقسط ¬

_ (¬1) سبق أن بيع الحامل مع استثناء حملها - على المذهب - لا يصح. وبناءً على ما رجحناه من أن الإنسان إذا باع حاملًا واستثنى الحمل فالبيع صحيحٌ؛ فإنه يصح هنا. (¬2) الصواب: أن جميع العقود لا تصح، وأنها حرامٌ، لا يستثنى من ذلك: النكاح، ولا القرض، ولا الرهن - ولا غيرها -. (¬3) لكن بشرط ألا يبيعه ولا يهبه لكافرٍ، فإن باعه على كافرٍ فالبيع حرامٌ، ولا يصح. (¬4) قال بعض الفقهاء: إنه يصح الجمع بين البيع والكتابة، ولا مانع من أن يجتمع الشرط مع المشروط؛ لأن المحذور أن يتأخر الشرط عن المشروط، أما إذا اقترن به فلا حرج. وهذا القول أقرب للصحة عندي، ولا مانع.

العوض عليهما. ويحرم: بيعه على بيع أخيه (¬1) - كأن يقول لمن اشترى سلعةً بعشرةٍ: (أنا أعطيك مثلها بتسعةٍ) (¬2) -، وشراؤه على شرائه - كأن يقول لمن باع سلعةً بتسعةٍ: (عندي فيها عشرةٌ) ليفسخ (¬3) ويعقد معه (¬4) -، ويبطل العقد فيهما. ¬

_ (¬1) علم من كلامه أنه يجوز أن يبيع على بيع الكافر ولو كان له عهدٌ وذمةٌ؛ لأنه ليس أخًا له ... والقول الثاني في المسألة: أنه يحرم البيع على بيع المعصوم؛ سواءٌ كان مسلمًا أو كافرًا أو ذميا؛ لأن العدوان على الكافر الذمي حرامٌ لا يحل ... ، وتقييد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالأخ بناءً على الأغلب أو من أجل العطف على أخيك وعدم التعرض له، وهذا القول أقرب للعدل. (¬2) الصحيح: العموم؛ يعني: سواءٌ زاده كميةً أو كيفيةً، أو لم يزده، حتى بالثمن المساوي. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أن البيع على بيع أخيه جائزٌ بعد زمن الخيار ... والقول الثاني في المسألة: أن ما بعد زمن الخيار كالذي في زمن الخيار؛ يعني: أنه يحرم ولو بعد زمن الخيار ... ، وهذا القول هو الراجح. (¬4) علم منه: أنه لو كان على غير هذا الوجه؛ بأن كان المشتري يريد سلعًا كثيرةً واشترى من فلانٍ عشر سلعٍ على عشرةٍ، ولكنه ما زال يطلبها من الناس، فقال له إنسانٌ: (أنا أعطيك بتسعةٍ) وهو يعلم أنه لن يفسخ العقد الأول لأنه يريد سلعًا كثيرةً؛ فهذا لا بأس به ... ، لكن هنا قد نقول: إنه لن يفسخ العقد. لكن ربما يجد في نفسه شيئًا على البائع الأول لكونه غبنه، فالتحرز عن هذا - مطلقًا - أولى، وهو الموافق لظاهر الحديث، وهو الأبعد عن حلول العداوة والبغضاء بين المسلمين.

ومن باع ربويا بنسيئةٍ واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئةً (¬1)، أو اشترى شيئًا نقدًا (¬2) بدون ما باع به نسيئةً - لا بالعكس -: لم يجز. وإن اشتراه بغير جنسه (¬3)، أو بعد قبض ثمنه، أو بعد تغير صفته (¬4)، أو من ¬

_ (¬1) قال الموفق - صاحب «المغني» -: يجوز بيع ربوي بنسيئةٍ، وأن تعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئةً؛ لأن الحيلة - هنا - بعيدةٌ ... وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يجوز للحاجة ... وهذا عندي أنه أحسن الأقوال؛ دفعًا للشبهة، ولئلا ينفتح الباب لغيرنا؛ فنحن لا نفعل ذلك حيلةً، لكن غيرنا قد يتحيل. بقي علينا شرطٌ لا بد منه على القول بالجواز، وهو: ألا يربح المستوفي. (¬2) علم منه أن الشراء هو المحرم، وأما البيع الأول فكلام المؤلف يدل على أنه حلالٌ، لكن إذا علمنا أنهم اتخذوا ذلك حيلةً فإن البيع الأول يكون باطلًا - أيضًا -؛ لأنه صار وسيلةً إلى محرمٍ، ووسائل الحرام حرامٌ. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: ولو كان جنسه مما يجري ربا النسيئة فيه بينه وبين الثمن؛ فإنه يجوز ... ولكن الصحيح: أنه لا يجوز إذا اشتراه بثمنٍ يجري ربا النسيئة بينه وبين الثمن الذي باعه به؛ لأننا نقول: وإن انتفى ربا الفضل فعندنا ربا النسيئة، وهو ممنوعٌ شرعًا، وقد يتحيل الإنسان عليه بمثل هذه الصورة ... وهذا قد يتخذ حيلةً على بيع الذهب بالفضة مع التأجيل، وهو غير جائزٍ. (¬4) لكن ينبغي أن يقيد هذا بما كان الفرق بين الثمنين هو ما نقصت به العين بسبب التغير لا من أجل التأجيل والنقد؛ فلا بد أن يكون نقص الثمن بمقدار نقص الصفة.

غير مشتريه، أو اشتراه أبوه (¬1) أو ابنه (¬2): جاز. ¬

_ (¬1) إلا إذا كان للأب شركةٌ [فيه]؛ فإنه لا يجوز. (¬2) بشرط أن لا يكون شريكًا فيه.

باب الشروط في البيع

باب الشروط في البيع منها: صحيحٌ: - كالرهن، وتأجيل الثمن، وكون العبد كاتبًا (¬1) أو خصيا، أو مسلمًا (¬2)، والأمة بكرًا. - ونحو أن يشترط البائع سكنى الدار شهرًا، وحملان البعير إلى موضعٍ معينٍ، أو شرط المشتري على البائع حمل الحطب أو تكسيره، أو خياطة الثوب، أو تفصيله. وإن جمع بين شرطين: بطل البيع (¬3). ¬

_ (¬1) كلمة (كاتبًا) فيها شيءٌ من الجهالة؛ لأن الكتابة تختلف؛ فمن الناس من يكتب، لكن لا يقرأ كتابه إلا هو ... فلا بد أن يقال: كاتبٌ تكون كتابته متوسطةً؛ أي: يقرؤها الإنسان بدونٍ تهج وبدون ترتيبٍ. (¬2) أما إذا اشترط أن يكون كافرًا فلا؛ لأن هذا شرط صفةٍ مكروهةٍ لله - عز وجل -، حتى لو قال المشتري: (أنا أريد أن يكون كافرًا حتى لا يتعبني؛ فإن [العبد المسلم] إذا أذن المؤذن قال: أريد أن أصلي، وإذا جاء رمضان قال: أصوم، وإذا جاءت العمرة قال: أعتمر، وإذا جاء الحج قال: أحج، وأنا أريد عبدًا كافرًا). نقول: هذا مرادٌ باطلٌ؛ فهو تشجيعٌ للكافرين على البقاء على كفرهم ليكونوا عمالًا أو عبيدًا عند المسلمين. (¬3) الصحيح: جواز الجمع بين شرطين؛ بل بين ثلاثة شروطٍ وأربعة شروطٍ؛ بحسب ما يتفقان عليه ... ، وإنما المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا شرطان في بيعٍ»: الشرطان اللذان يلزم منهما محذورٌ شرعي، وهذا الجمع بين شرطين - فيما ذكر - لا يلزم منه محذورٌ شرعي؛ كالجهل والظلم والربا - وما أشبه ذلك -.

ومنها: فاسدٌ يبطل العقد؛ كاشتراط أحدهما على الآخر عقدًا آخر - كسلفٍ وقرضٍ وبيعٍ وإجارةٍ وصرفٍ (¬1) -. وإن شرط: أن لا خسارة عليه، أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو لا يبيع (¬2) ولا يهبه (¬3) ولا يعتقه (¬4)، أو إن أعتق فالولاء له، أو أن يفعل ذلك (¬5): بطل الشرط ¬

_ (¬1) الصواب [في هذه المسائل]: جواز ذلك؛ إلا في مسألتين: الأولى: إذا شرط قرضًا ينتفع به؛ فهنا لا يحل لأنه قرضٌ جر نفعًا، فيكون ربًا ... الثانية: أن يكون حيلةً على الربا؛ بأن يشترط بيعًا آخر يكون حيلةً على الربا؛ فإنه لا يصح ... وما رجحناه هو مذهب الإمام مالكٍ - رحمه الله -، ومذهب الإمام مالكٍ في المعاملات هو أقرب المذاهب إلى السنة. (¬2) إن كان شرط عدم البيع لمصلحةٍ تتعلق بالعاقد أو بالمعقود عليه فإن الصحيح: صحة ذلك. (¬3) القول الصحيح: أنه إذا شرط عليه ألا يهبه ففيه تفصيلٌ: إن كان له غرضٌ مقصودٌ فلا بأس، وإن لم يكن له غرضٌ مقصودٌ فإنه لا يصح هذا الشرط؛ لأنه تحجيرٌ على المشتري. (¬4) الذي يترجح: أنه إذا كان له غرضٌ صحيحٌ فإن الشرط صحيحٌ. (¬5) إذا أمكن أن يوجد غرضٌ صحيحٌ فلا بأس؛ لأن الحق في التصرف للمشتري، فإذا أسقطه فهو حقه ... فإذا كان هناك غرضٌ صحيحٌ فالصواب أنه لا بأس أن يشترط البائع على المشتري أن يبيعه، لكن الغرض الصحيح - هنا - لا بد أن يكون لشخصٍ معينٍ لا في البيع مطلقًا.

وحده؛ إلا إذا شرط العتق. و (بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاثٍ وإلا فلا بيع بيننا): صح. و (بعتك إن جئتني بكذا) (¬1)، أو (رضي زيدٌ) (¬2)، أو يقول للمرتهن: (إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك) (¬3): لا يصح البيع. وإن باعه وشرط البراءة من كل عيبٍ مجهولٍ؛ لم يبرأ (¬4). وإن باعه دارًا على أنها عشرة أذرعٍ فبانت أكثر أو أقل: صح، ولمن جهله وفات غرضه: الخيار. ¬

_ (¬1) الصحيح: أن البيع المعلق جائزٌ، وأنه لا بأس أن يقول: (بعتك إن جئتني بكذا)، لكن يجب أن يحدد أجلًا أعلى، فيقول: (إن جئتني بكذا في خلال ثلاثة أيامٍ - مثلًا - أو يومين أو عشرة أيامٍ)؛ لئلا يبقى البيع معلقًا دائمًا. (¬2) الصحيح: أنه جائزٌ، لكن - أيضًا - لا بد من تحديد المدة؛ لئلا يماطل المشتري في ذلك، فيحصل الضرر على البائع. (¬3) القول الراجح: أنه يصح أن يعطي البائع رهنًا ويقول: (إن جئتك بحقك - أي بالثمن في خلال ثلاثة أيامٍ - وإلا فالرهن لك)؛ لأن فيه مصلحةً للطرفين، ولأنه شرطٌ لا ينافي مقتضى العقد. (¬4) الصحيح في هذه المسألة: ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وهو: إن كان البائع عالمًا بالعيب فللمشتري الرد بكل حالٍ؛ سواءٌ شرط مع العقد أو قبل العقد أو بعد العقد، وإن كان غير عالمٍ بالعيب فالشرط صحيحٌ؛ سواءٌ شرط قبل العقد أو مع العقد أو بعد العقد.

باب الخيار

باب الخيار وهو أقسامٌ: الأول: خيار المجلس: يثبت في: البيع، والصلح بمعناه، وإجارةٍ، والصرف، والسلم - دون سائر العقود -، ولكل من المتبايعين: الخيار ما لم يتفرقا عرفًا بأبدانهما. وإن نفياه أو أسقطاه سقط، وإن أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر، وإذا مضت مدته: لزم البيع. الثاني: أن يشترطاه في العقد (¬1) مدةً معلومةً (¬2) ولو طويلةً (¬3). ¬

_ (¬1) قوله: (في العقد): (في) للظرفية، فيقتضي أن يكون هذا الشرط في نفس العقد؛ أي: في صلب العقد، وليس قبله وليس بعده، لكن تقييد ذلك في صلب العقد فيه نظرٌ ... [والصواب]: يصح شرط الخيار مع العقد، وبعد العقد، وزمن الخيار - إما خيار الشرط وإما خيار المجلس -. (¬2) لو قال: (إلى وقت الحصاد والجذاذ)؛ فالمذهب: لا يصح ... ، والقول الثاني: يصح، ويكون الحكم متعلقًا بغالبه أو بأوله، والمسألة متقاربةٌ، وهذا هو الصحيح ... واختار ابن القيم أنه تجوز المدة المجهولة إذا كان لها غايةٌ؛ مثل أن يقول: (أبيعك هذا البيت ولكن لي الخيار حتى أشتري بيتًا)؛ فهذا له غايةٌ. ولكن إن قلنا: (إن هذا له وجهٌ)؛ ينبغي أن يحدد أعلاه بأن يقول: (لي الخيار حتى أشتري بيتًا ما لم تتجاوز الشهر) - مثلًا -؛ دفعًا للمماطلة. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: حتى فيما يفسد قبل تمام المدة؛ مثل أن يشتري بطيخًا، وقال: (لي الخيار لمدة أسبوعٍ) فيصح، فإذا خيف فساده بيع، ثم إن أمضي البيع فالقيمة للمشتري، وإن فسخ البيع فالقيمة للبائع، ويرجع المشتري بثمنه، هكذا قالوا. ولكن لو قيل: أنه (إذا شرط الخيار في شيءٍ يفسد قبل تمام المدة فلا يصح) لكان له وجهٌ؛ لأنه إذا بيع فإن كانت القيمة أكثر فسوف يختار المشتري الإمضاء، وإن كانت أقل فسوف يختار الفسخ، وحينئذٍ يكون ضررٌ على أحد الطرفين.

وابتداؤها: من العقد (¬1). وإذا مضت مدته أو قطعاه: بطل. ويثبت في: البيع والصلح بمعناه، والإجارة في الذمة أو على مدةٍ لا تلي العقد (¬2). وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح، وإلى الغد أو الليل يسقط بأوله (¬3). ¬

_ (¬1) ابتداؤها من حين الشرط، لكن المؤلف قال: (من العقد)؛ لأنه يرى أن خيار الشرط إنما يكون في صلب العقد، ولهذا قال: (وابتداؤها من العقد). (¬2) الصحيح: أنه يجوز اشتراط الخيار ولو على مدةٍ تلي العقد، ولو في خيارٍ لا ينتهي إلا بعد بدء المدة التي لا تلي العقد ... وسكت المؤلف عن أشياء مرت في خيار المجلس ولم يذكرها؛ مثل الصرف، فذكر أن خيار الشرط يثبت في البيع ولم يذكر أن خيار الشرط يثبت في الصرف؛ لأنه يشترط في الصرف التقابض قبل التفرق ... ولكن الصحيح: ثبوته في الصرف. (¬3) قال بعض العلماء: يرجع في ذلك إلى العرف، فإذا قال: (إلى الغد) فيمكن أن يحمل على ابتداء السوق، وابتداء الأسواق في الغالب لا يكون من أذان الفجر؛ بل من ارتفاع الشمس ... وهذا هو الصحيح، فإذا كان عرف التجار أنهم إذا قالوا: (إلى الغد)؛ أي: إلى افتتاح السوق؛ فالأمد إلى افتتاح السوق.

ولمن له الخيار: الفسخ ولو مع غيبة الآخر وسخطه (¬1)، والملك مدة الخيارين للمشتري، وله نماؤه المنفصل وكسبه (¬2). ويحرم - ولا يصح -: تصرف أحدهما في المبيع (¬3) وعوضه المعين فيها بغير إذن الآخر بغير تجربة المبيع؛ إلا عتق المشتري (¬4). وتصرف المشتري: فسخٌ لخياره (¬5). ¬

_ (¬1) لكن ينبغي أن يقال: يشهد على الفسخ؛ لئلا يقع النزاع بين البائع والمشتري، فيحصل في ذلك فتنةٌ وعداوةٌ وبغضاء. (¬2) وعن الإمام أحمد روايةٌ: أن النماء المتصل لمن حصل في ملكه، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا يصح مطلقًا حتى في التأجير، وأن ما يمكن تأجيره يبقى معطلًا ... ولكن الصحيح: أنه يصح تأجيره؛ لأن تأجيره خيرٌ من بقائه هدرًا، ثم إن أمضي فالأجرة للمشتري وإن فسخ فالأجرة للبائع. (¬4) ظاهر كلام المؤلف [في قوله: إلا عتق المشتري]: أنه لا يحرم، ويصح ... ولكن الصحيح: أنه يحرم ولا يصح، ولا يستثنى العتق؛ فالعتق كغيره من التصرفات، أما كونه يحرم فلأنه اعتداءٌ على حق صاحبه. (¬5) يستثنى من هذا: ما سبق من تجربة المبيع؛ فإن تصرف المشتري بتجربة المبيع لا يفسخ خياره ولو كان الخيار له وحده؛ لأن هذا هو المقصود من الشرط؛ أن ينظر هل يصلح له أو لا ... وظاهر كلامه أن تصرف البائع ليس فسخًا لخيار المشتري؛ لأن المشتري حقه باقٍ، أما لو كان الخيار للبائع وحده فلا يجوز أن يتصرف، وإذا تصرف فلا يصح تصرفه؛ لأن ملك المبيع للمشتري، ولكن يستطيع أن يقول: (فسخت البيع) ثم يتصرف. والصحيح: أنه فسخٌ لخياره.

ومن مات منهما: بطل خياره (¬1). الثالث: إذا غبن في المبيع (¬2) غبنًا يخرج عن العادة، وبزيادة الناجش والمسترسل. الرابع: خيار التدليس؛ كتسويد شعر الجارية وتجعيده، وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها. الخامس: خيار العيب، وهو ما ينقص قيمة المبيع؛ كمرضه، وفقد عضوٍ (¬3)، أو سن، أو زيادتهما، وزنا الرقيق، وسرقته، وإباقه، وبوله في الفراش (¬4). ¬

_ (¬1) القول الثاني: أن [الخيار] يورث؛ سواءٌ طالب به [المشتري قبل موته] أم لم يطالب ... وهذا هو القول الصحيح: أنه ينتقل الحق إلى الورثة، ولهم الخيار بين الإمضاء أو الفسخ؛ لأنهم ورثوه من مورثهم على هذا الوجه. (¬2) وكذلك إذا غبن في الثمن، فإذا كان الثمن غير نقودٍ أو كان نقودًا مغشوشةً - أو ما أشبه ذلك -؛ فالمهم أنه غبن في المبيع غبنًا يخرج عن العادة. (¬3) ظاهر كلامه - رحمه الله -: ولو كان خصاءً ... والصحيح: أنه ليس بعيبٍ مطلقًا وليس سلامةً مطلقًا؛ بل على حسب مقاصد المشترين؛ إذا قصدوا فحلًا فتبين خصيا فهو عيبٌ، وإن كان الأمر بالعكس فليس بعيبٍ. (¬4) لكن يجب أن يقيد بكونه في سن لا يبول في الفراش.

فإذا علم المشتري العيب بعد: أمسكه بأرشه - وهو قسط ما بين قيمة الصحة والعيب -، أو رده وأخذ الثمن (¬1). وإن تلف المبيع أو عتق العبد: تعين الأرش (¬2). وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره - كجوز هندٍ، وبيض نعامٍ -، فكسره، فوجده فاسدًا، فأمسكه: فله أرشه، وإن رده: رد أرش كسره (¬3)، وإن كان كبيض دجاجٍ: رجع بكل الثمن. وخيار عيبٍ متراخٍ (¬4) ما لم يوجد دليل الرضا، ولا يفتقر إلى حكمٍ ولا رضا ولا حضور صاحبه. ¬

_ (¬1) لكن شيخ الإسلام يقول: إما أن يأخذه مجانًا وإما أن يرده، أما الأرض فلا بد من رضا البائع لأنه معاوضةٌ ... ، وما ذهب إليه الشيخ وجيهٌ؛ إلا إذا علمنا أن البائع مدلسٌ - أي عالمٌ بالعيب لكنه دلس -؛ فهنا يكون بالخيار بين الإمساك مع الأرض وبين الرد؛ معاملةً له بأضيق الأمرين. (¬2) ويتعين الرد إذا لزم من الأرش الربا؛ مثل: أن يبيع حليا من الذهب بوزنه دنانير ثم يجد في الحلي عيبًا؛ فهنا لا يمكن أن يأخذ الأرض؛ لأنه يلزم منه الوقوع في الربا؛ إذ سيكون للمشتري ذهبٌ بوزن الذهب الذي دفع، ثم يزاد على ذلك الأرش. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أنه إذا لم يكن هناك فسادٌ في الكسر فإنه لا يرد أرش الكسر ... ثم نقول: إذا كسره كسرًا لا يبقى له قيمةٌ بعده - مثل أن يكسره فيرضه رضا - فإنه حينئذٍ يتعين الأرش؛ لأنه تعذر الرد. (¬4) بعض أهل العلم يقول: إنه على التراخي ما لم يؤخر تأخيرًا يضر البائع، وهذا أرجح.

وإن اختلفا عند من حدث العيب: فقول مشترٍ مع يمينه (¬1)، وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما: قبل بلا يمينٍ. السادس: خيارٌ في البيع بتخبير الثمن، متى بان أقل أو أكثر (¬2). ويثبت في: التولية، والشركة، والمرابحة، والمواضعة. ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال (¬3). ¬

_ (¬1) القول الثاني: أن القول قول البائع، وهو مذهب الأئمة الثلاثة - رحمهم الله -، وهو القول الراجح؛ للأثر والنظر ... ، لكن يجب أن نعلم أن كل من قلنا: (القول قوله) فإنه لا بد من اليمين، وهذه قاعدةٌ عامةٌ. (¬2) إذا بان أكثر فليس بمغبونٍ، اللهم إلا إذا قال المشتري: (أنا لا أريد أن يمن علي، أنا أريد الثمن الحقيقي بلا زيادةٍ)؛ فهذه ربما تكون صورة المسألة، وأما من الناحية المالية فمتى بان أكثر فالواقع أن الحظ في جانب المشتري، فكيف يثبت له الخيار؟!. (¬3) المذهب: أنه لا خيار، فيقال له: (نضع عنك الزائد وتلزمك)؛ لأن هذا من مصلحته ... [والقول الوسط]: أنه إذا ثبت أن البائع كاذبٌ متعمدٌ؛ فإنه ينبغي أن يمكن المشتري من الخيار؛ تأديبًا للبائع وعقوبةً له. وظاهر كلام المؤلف: [أنه لا بد أن يعرف المشتري رأس المال] حتى ولو كان البائع ممن عرف بالمتاجرة، ووثق من شرائه؛ فإنه لا بد أن يعرف المشتري رأس المال ... ويتخرج القول بالجواز على جواز البيع بمثل ما باع به فلانٌ إذا كان المشتري معروفًا بالحذق في البيع والشراء، والمشتري الذي هو البائع في المسألة الثانية ... ؛ لأن كثيرًا من الناس إذا عرف أن هذا الرجل ممن يتاجرون بالسلعة، وأنه حاذقٌ فيها يثق به؛ بل ربما لو أراد أن يشتريها لجاء إليه يستشيره، ولكن لا شك أن الأولى والأحسن أن يعلم بالثمن؛ لأن الإنسان قد يقدر ثمن هذه السلعة قليلًا ويكون كثيرًا، وهذا يقع بكثرةٍ.

وإن اشترى بثمنٍ مؤجلٍ، أو ممن لا تقبل شهادته له (¬1)، أو بأكثر من ثمنه حيلةً، أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن (¬2): فلمشترٍ الخيار بين الإمساك والرد. وما يزاد في ثمنٍ، أو يحط منه في مدة خيارٍ، أو يؤخذ أرشًا لعيبٍ، أو جنايةٍ عليه: يلحق برأس ماله ويخبر به، وإن كان ذلك بعد لزوم البيع: لم يلحق به، وإن أخبر بالحال: فحسنٌ. السابع: خيارٌ لاختلاف المتبايعين، فإذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا (¬3)؛ فيحلف بائعٌ أولًا: (ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا)، ثم يحلف المشتري: (ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا) (¬4). ¬

_ (¬1) ظاهر كلامه: أن له الخيار؛ سواءٌ غبن أم لم يغبن؛ بناءً على أن العادة أن الإنسان لا يستقصي فيما إذا اشترى ممن لا تقبل شهادته له ... والصحيح في هذه المسألة: أنه لا يثبت له الخيار إلا إذا ظهر في ذلك غبنٌ؛ فله الخيار، ويكون من باب خيار الغبن، أما إذا لم يكن هناك غبنٌ فإنه كثيرًا ما يشتري الإنسان من أصوله أو فروعه، ويستقصي في الثمن. (¬2) المذهب: أنه إذا كان الثمن ينقسم على المبيع بالأجزاء فلا خيار؛ لأنه ليس فيه ضررٌ، وإن كان ينقسم عليه بالقيمة ففيه الخيار؛ لأنه إذا كان ينقسم عليه بالقيمة؛ فالقيمة قد تزداد إذا زاد المبيع وقد تنقص، - كما هو معروفٌ في بيع الجملة والتفريد - ... وهذا التفصيل أقرب إلى الصواب. (¬3) هذا مشروطٌ بما إذا لم يكن بينةٌ أو قرينةٌ تكذب قول أحدهما. (¬4) قال بعض أهل العلم: إن القول قول البائع ... وهذا القول أقوى ... ، ويقال للمشتري: إن رضيت بما قال البائع وإلا فملكه باقٍ، إلا إذا ادعى البائع ثمنًا خارجًا عن العادة فحينئذٍ لا يقبل؛ بأن قال: (بعتها بمئةٍ)، وهي لا تساوي خمسين في السوق ... وظاهر كلام المؤلف: أنه لا بد من تقدم حلف البائع [على القول بأنه لا بد أن يحلف البائع والمشتري] ... وظاهر كلام المؤلف - أيضًا -: أنه لا بد من الجمع بين النفي والإثبات ... والصحيح: أنه لا يحتاج إلى الجمع بين النفي والإثبات، والمقصود هو نفي ما ادعاه صاحبه فقط، أو إثبات ما ادعاه هو، وهذا يحصل بإفراد النفي أو إفراد الإثبات، والجمع بينهما ليس بلازمٍ، وهذا - أيضًا - أقوى من وجوب الجمع بينهما ... وإذا قلنا بالجمع - أيضًا -[وقد سبق أن قررنا أنه ليس بلازمٍ]؛ فالقول الراجح - أيضًا -: أنه لا يشترط تقديم النفي، وأنه لو قال: (والله لقد بعته بمئةٍ، وما بعته بثمانين) كفى؛ لأن المقصود حصل.

ولكل الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر. فإن كانت السلعة تالفةً رجعا إلى قيمة مثلها (¬1)، فإن اختلفا في صفتها فقول مشترٍ (¬2). وإذا فسخ العقد: انفسخ ظاهرًا وباطنًا (¬3). ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: إذا صارت القيمة أكثر مما قال البائع فإنه لا يستحق أكثر مما ادعى، وإن كانت القيمة أقل مما قال المشتري ألزم بما أقر به. ولا شك أن هذا هو الورع؛ ألا يأخذ البائع أكثر مما ادعى أنه باع به، والمشتري يدفع ما أقر أنه اشترى به، لكن هل يلزم حكمًا؟ هذا محل خلافٍ. (¬2) وإذا اختلفا [أيضًا] في قدر المبيع ... ؛ فالقول قول المشتري. (¬3) الصواب: أن الكاذب منهما لا ينفسخ العقد في حقه باطنًا، وأنه لا يحل له أن يتصرف فيه - أي: فيما رجع إليه من ثمنٍ إن كان مشتريًا، أو من سلعةٍ إن كان بائعًا -.

وإن اختلفا في أجلٍ أو شرطٍ: فقول من ينفيه (¬1). وإن اختلفا في عين المبيع: تحالفا (¬2)، وبطل البيع (¬3). وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض - والثمن عينٌ -: نصب عدلٌ يقبض منهما، ويسلم المبيع ثم الثمن. وإن كان دينًا حالا: أجبر بائعٌ ثم مشترٍ إن كان الثمن في المجلس. وإن كان غائبًا في البلد: حجر عليه في المبيع وبقية ماله حتى يحضره. وإن كان غائبًا بعيدًا عنها، والمشتري معسرٌ (¬4): فللبائع الفسخ (¬5). ¬

_ (¬1) ما لم تقم قرينةٌ على أن القول قول من يثبته، فيحكم بهذه القرينة ... [وظاهر كلامه: قول من ينفيه] بلا يمينٍ، ولكن ليس مرادًا؛ بل قول من ينفيه بيمينه، فيقول: (والله ما بعته مؤجلًا، وإنما بعته حالا)، ويقول الآخر: (والله ما اشتريته حالا، وإنما اشتريته مؤجلًا). (¬2) القول الثاني في المسألة: أن القول قول البائع، وهذا هو الراجح، وهو المذهب - أيضًا -، وهذه المسألة مما خالف فيها «الزاد» المشهور من المذهب. (¬3) في هذا التعبير نظرٌ عند أهل البيع بحسب المصطلح بينهم؛ لأن البيع لم يبطل ولكن فسخ، وفرقٌ بين البطلان والفسخ، فصواب العبارة أن يقال: (وانفسخ البيع). (¬4) وإن ظهر أنه مماطلٌ وليس معسرًا؛ فله الفسخ - على القول الراجح -. (¬5) هذه الصور التي ذكرها المؤلف فيها مشقةٌ على الناس؛ فإذا افترضنا أن المحكمة عندها مئة معاملةٍ، تنجز منها كل يومٍ معاملتين؛ فعليه أن ينتظر خمسين يومًا حتى يقال للحاكم: (انصب عدلًا يقبض منهما)، وهذا لا تستقيم به أحوال الناس. فالصواب أن يقال: إذا أبى كل واحدٍ منهما أن يسلم ما بيده؛ فللبائع أن يحبس المبيع، وإذا كان كل منهما لا يثق بالآخر فهما بأنفسهما ينصبان عدلًا، فيقول: (أنت لا تثق بي، وأنا لا أثق بك؛ نذهب إلى فلانٍ ونعطيه الثمن والسلعة ويسلمنا)، هذا هو القول الراجح.

ويثبت الخيار للخلف في: الصفة، ولتغير ما تقدمت رؤيته (¬1). فصلٌ ومن اشترى مكيلًا - ونحوه -: صح ولزم بالعقد، ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه (¬2). وإن تلف قبل قبضه: فمن ضمان البائع، وإن تلف بآفةٍ سماويةٍ: بطل البيع، وإن أتلفه آدمي: خير مشترٍ بين فسخٍ، وإمضاءٍ ومطالبة متلفه ببدله. وما عداه: يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه (¬3). ¬

_ (¬1) القول الراجح: ما سبق من أن القول قول البائع، أو يترادان، فيقال: (إما أن تقتنع بقول البائع، وإلا فالملك ملكه). (¬2) المراد: التصرف العوضي؛ أي: أن يكون تصرفه بعوضٍ؛ مثل: البيع، والهبة بعوضٍ، وجعله أجرةً. أما تصرفه فيه بهبةٍ أو صدقةٍ أو هديةٍ - أو ما أشبه ذلك - فلا بأس، هذا هو المراد، وهو المذهب - أيضًا - ... وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يصح التصرف حتى مع البائع. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنه يصح تصرفه مع البائع ... ، وهذا هو الصحيح. (¬3) القول الثاني: أنه لا يجوز أن يتصرف في المبيع قبل قبضه مطلقًا في كل شيءٍ. وهذا ما ذهب إليه عبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.

وإن تلف ما عدا المبيع بكيلٍ - ونحوه -: فمن ضمانه (¬1)؛ ما لم يمنعه بائعٌ من قبضه (¬2). ويحصل قبض ما بيع بكيلٍ أو وزنٍ أو عد أو ذرعٍ بذلك (¬3)، وفي صبرةٍ وما ينقل بنقله وما يتناول بتناوله وغيره بتخليته (¬4). ¬

_ (¬1) قوله: (ما عدا المبيع بكيلٍ ونحوه): فيه قصورٌ، والصواب: أن يزاد ثلاثة أشياء: المبيع برؤيةٍ سابقةٍ، أو بصفةٍ، والثمر على الشجر. (¬2) اختار شيخ الإسلام - رحمه الله - أن المدار على التمكن من القبض؛ فما تمكن المشتري من قبضه فعليه، وما لم يتمكن من قبضه فعلى البائع ... ، وكلامه أقيس. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أنه إذا حصل الكيل والوزن والعد والذرع جاز التصرف فيه وإن لم ينقله عن مكانه لأنه حصل القبض. ولكن سبق لنا أن القول الراجح أن السلع لا تباع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، وعلى هذا فلا يكفي الكيل حتى يقبضه، فيكون ما بيع بكيلٍ أو وزنٍ أو عد أو ذرعٍ بذلك لا يتم قبضه إلا بأمرين: الأول: حيازته. الثاني: استيفاؤه بالكيل أو الوزن أو العد أو الذرع. هذا هو القول الراجح في هذه المسألة. أما على كلام المؤلف - وهو المذهب -: فإنه متى حصل الكيل أو الوزن أو العد أو الذرع ولو في مكانه فهذا قبضٌ. (¬4) إذا قال قائلٌ: (إنه يرجع في ذلك إلى العرف) لكان صحيحًا ما دام يحتاج إلى حق استيفاءٍ؛ أي: لا يحتاج إلى كيلٍ أو وزنٍ أو عد أو ذرعٍ، فنرجع إلى العرف، فما عده الناس قبضًا فهو قبضٌ، وما لم يعدوه قبضًا فليس بقبضٍ، لكن المؤلف - رحمه الله - عين ما ذكره بناءً على أن هذا هو العرف في هذه الأشياء.

والإقالة فسخٌ؛ تجوز قبل قبض المبيع بمثل الثمن (¬1)، ولا خيار فيها، ولا شفعة. ¬

_ (¬1) أي: إنها لا تجوز إلا بمثل الثمن، فلا تجوز بزيادةٍ ولا نقصٍ ولا اختلاف نوعٍ أو اختلاف جنسٍ ... ولكن القول الراجح: أنه تجوز بأقل وأكثر إذا كان من جنس الثمن؛ لأن محذور الربا في هذا بعيدٌ؛ فليست كمسألة العينة؛ لأن مسألة العينة محذور الربا فيها قريبٌ.

باب الربا والصرف

باب الربا والصرف يحرم ربا الفضل في كل: مكيلٍ وموزونٍ بيع بجنسه. ويجب فيه: الحلول، والقبض. ولا يباع مكيلٌ بجنسه إلا كيلًا، ولا موزونٌ بجنسه إلا وزنًا (¬1)، ولا بعضه ببعضٍ جزافًا (¬2)، فإن اختلف الجنس جازت الثلاثة. والجنس: ما له اسمٌ خاص يشمل أنواعًا؛ كبر - ونحوه -. وفروع الأجناس - كالأدقة والأخباز والأدهان واللحم -: أجناسٌ باختلاف ¬

_ (¬1) اختار شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه: إذا كان الكيل والوزن يتساويان فلا بأس أن يباع المكيل بجنسه كيلًا أو وزنًا ... ، أما ما يختلف بالكيل والوزن فلا بد أن يباع المكيل كيلًا، والموزون يباع وزنًا ... وقال بعض العلماء: يجوز أن يباع المكيل وزنًا فيعتبر بالوزن - ولا العكس -، يعني: فلا يباع الموزون كيلًا. لكن الاحتياط ألا يباع المكيل إلا كيلًا، ولا يباع الموزون بمثله إلا وزنًا، إلا ما يتساوى فيه الكيل والوزن؛ فلا شك في أن بيعه كيلًا أو وزنًا جائزٌ. (¬2) لو باع بعضه ببعضٍ جزافًا، وقبل التقابض كال كل منهما ما آل إليه، فوجده مساويًا للآخر فيصح العقد؛ لأن المحظور قد زال وليس هناك جهلٌ؛ فالمبيع معلومٌ من الطرفين؛ وإنما العلة هي معياره.

أصوله، وكذا اللبن واللحم والشحم والكبد: أجناسٌ. ولا يصح بيع لحمٍ بحيوانٍ من جنسه (¬1)، ويصح بغير جنسه. ولا يجوز بيع حب بدقيقه (¬2)، ولا سويقه، ولا نيئه بمطبوخه، وأصله بعصيره، وخالصه بمشوبه (¬3)، ورطبه بيابسه (¬4). ويجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة، ومطبوخه بمطبوخه، وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف، وعصيره بعصيره، ورطبه برطبه (¬5). ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما (¬6)، ولا تمرٌ بلا نوى ¬

_ (¬1) فصل بعض أهل العلم، فقال: إن أراد بالحيوان اللحم فإنه لا يصح بيعه بجنسه، وإن أراد بذلك الانتفاع بالحيوان بركوبٍ أو تأجيرٍ أو حرثٍ - أو غير ذلك - فلا بأس ... وهذا القول أصح الأقوال. (¬2) قال بعض العلماء: إنه إذا تساويا في الوزن فلا حرج؛ لأن تساويهما في الوزن يدل على تساويهما في الكيل حبا ... وهذا القول هو الصحيح؛ لأن التماثل حاصلٌ، والحاجة داعيةٌ إلى إبدال هذا بهذا، أو يحول الدقيق إلى حب وذلك بالميزان. (¬3) يستثنى من ذلك: الخلط اليسير أو ما كان لإصلاح المخلوط؛ كالملح في الطعام، فالخلط اليسير لا يضر؛ فإنك لا تكاد تجد برا خالصًا ليس فيه حبة شعيرٍ. (¬4) يستثنى من ذلك: العرايا. (¬5) بشرط أن يتساويا في الرطوبة. (¬6) شيخ الإسلام - رحمه الله - نازع في هذا، وقال: إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره، وكانت هذه الزيادة تقابل الشيء الآخر؛ فإن ذلك جائزٌ، ولا بأس به، والحاجة قد تدعو إليه ... وما ذهب إليه شيخ الإسلام - رحمه الله - أصح؛ فإذا تيقنا أنه لا ربا، وأن القيمة واحدةٌ؛ فإنه لا بأس به ولا حرج، والشارع الحكيم لا يحرم شيئًا يتبين أنه لا ربا فيه إطلاقًا مع أن الحاجة قد تدعو إليه.

بما فيه نوى. ويباع النوى بتمرٍ فيه نوى، ولبنٌ وصوفٌ بشاةٍ ذات لبنٍ وصوفٍ (¬1). ومرد الكيل: لعرف المدينة، والوزن: لعرف مكة - زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - -. وما لا عرف له هناك: اعتبر عرفه في موضعه (¬2). فصلٌ ويحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل ليس أحدهما ¬

_ (¬1) الصحيح: أن الصوف ليس ربويا، وأما اللبن فإن كان أهل هذا البلد قد اعتادوا أن يكون قوتهم اللبن فإننا نلحقه بالبر والتمر والشعير، وأما الذين لا يرونه قوتًا - كما عندنا في نجدٍ - فليس ربويا؛ لأنه لم ينص عليه، ولا هو في معنى المنصوص؛ بل هو من جنس الشراب الذي يشرب من غير اللبن. (¬2) قال بعض العلماء: نرده إلى أقرب الأشياء شبهًا به في مكة والمدينة، فإذا كان أقرب إليه الكيل في المدينة فهو مكيلٌ، أو الوزن في مكة فهو موزونٌ. وهذا القول أقرب إلى النظر؛ لأن ما لا يمكن فيه اليقين يرجع فيه إلى غلبة الظن. وقد يقال: بل إنه إذا لم يكن له عرفٌ في مكة والمدينة فإننا نطرح الشبه، ونقول: يرجع إلى ما تعارفه الناس. وهذا القول الثاني من جهة السهولة على المسلمين والتيسير: أقرب إلى الصواب.

نقدًا؛ كالمكيلين والموزونين. وإن تفرقا قبل القبض: بطل. وإن باع مكيلًا بموزونٍ: جاز التفرق قبل القبض، والنساء. وما لا كيل فيه ولا وزن - كالثياب والحيوان -: يجوز فيه النساء. ولا يجوز بيع الدين بالدين (¬1). فصلٌ ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض: بطل العقد فيما لم يقبض. والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد؛ فلا تبدل (¬2). وإن وجدها مغصوبةً: بطل (¬3). ¬

_ (¬1) ليس على إطلاقه ... ؛ بل لا بد فيه من التفصيل: أما بيع الدين على غير من هو عليه فلا يجوز إلا على قادرٍ على أخذه، ولكن إذا قلنا: (يجوز إذا كان قادرًا على أخذه) فلا بد أن يكون المدين قد أقر بالدين، أما إذا كان منكرًا وجاء إنسانٌ وقال: أنا أريد أن أشتري دين فلانٍ الذي هو لك وهو منكرٌ ولم يقر، ولكن قال: أخاطر فأشتريه وأطالبه عند القاضي؛ فلا يجوز؛ لأنه مخاطرةٌ، لكن كلامنا فيما إذا باع دينًا في ذمة مقر على شخصٍ قادرٍ على استخراجه؛ فالصواب: أنه جائزٌ؛ لأنه لا دليل على منعه، والأصل حل البيع. (¬2) الأقرب إلى مقصود الناس: عدم التعيين؛ إذ إن البائع لا يهمه أن تكون هذه العشرة أو العشرة الأخرى. (¬3) على القول بأن الدراهم لا تتعين بالتعيين: إذا تبين أن الدراهم التي عينها مغصوبةٌ أو مسروقةٌ - أو ما أشبه ذلك - فهنا لا يبطل العقد، ويرد المغصوب إلى مالكه، ويلزم المشتري ببدله.

ومعيبةً من جنسها: أمسك أو رد (¬1). ويحرم الربا بين المسلم والحربي، وبين المسلمين مطلقًا بدار إسلامٍ وحربٍ. ¬

_ (¬1) هذا كله بناءً على أن الدنانير والدراهم تتعين بالتعين بالعقد، أما إذا قلنا: إنها لا تتعين؛ فإنه إذا وجدها معيبةً يبقى العقد على ما هو عليه، ويطالب ببدلها سليمًا.

باب بيع الأصول والثمار

باب بيع الأصول والثمار إذا باع دارًا: شمل أرضها، وبناءها، وسقفها، والباب المنصوب، والسلم والرف المسمورين، والخابية المدفونة (¬1)؛ دون ما هو مودعٌ فيها من كنزٍ (¬2) وحجرٍ (¬3) ومنفصلٍ منها - كحبلٍ ودلو وبكرةٍ وقفلٍ وفرشٍ ومفتاحٍ (¬4) -. ¬

_ (¬1) ما ذكره المؤلف - رحمه الله - ليس له دلالةٌ شرعيةٌ، وإنما له دلالةٌ عرفيةٌ؛ فهذه الأمور في أعرافهم لا تدخل؛ فلا يكون البيع شاملًا لها، لكن لو اختلف العرف [في شيءٍ من هذه الأمور؛ فإن البيع سيكون شاملًا لها]، فلو اختلف العرف، وصار الباب داخلًا في المبيع - سواءٌ كان منصوبًا أو غير منصوبٍ -؛ [فسيدخل في المبيع]. وكذلك - أيضًا - مسألة الرف الذي مثلنا به؛ فعضائد الرف مسمرةٌ ثابتةٌ، ولكن الخشب الذي يوضع على هذه العضائد غير مسمرٍ، [وقد] جرت العادة والعرف أنه تبعٌ، فيدخل. وأيضًا: الرحى؛ فالطبقة السفلى منها مسمرةٌ بالأرض أو مبنيةٌ عليها، والعليا غير مسمرةٍ؛ فعلى كلام المؤلف: العليا لا تدخل، ولكن لا شك أن الطبقة العليا تدخل؛ لأنه لا يمكن أن تكون رحًى بدون طبقٍ أعلى، ثم إذا أخذ البائع هذه العليا فلن ينتفع بها إلا بالسفلى. فالصواب - أيضًا - في مسألة الرحى أنها داخلةٌ إذا كانت منصوبةً في الأرض - يعني: مثبتةً -؛ فإنه يدخل الأعلى كما يدخل الأسفل. (¬2) يكون لصاحبه إذا كان مكتوبًا عليه - أو ما أشبه ذلك -، وإن لم يكن مكتوبًا عليه فإنه لمن يجده. (¬3) أما الحجر الذي من طبيعة الأرض فيدخل؛ لأنه من طبيعة الأرض. (¬4) ظاهر كلام المؤلف: أن البكرة لا تدخل وإن كانت مسمرةً، وفي هذا نظرٌ؛ لأنها إن كانت مسمرةً فقد أعدت للبقاء؛ فهي كالرف المسمر - ولا فرق - ... [وكذلك] القفل الذي في الأبواب نفسها؛ فهو تبعٌ للأبواب، إن دخلت دخل وإن لم تدخل لم يدخل. و [كذلك] الفرش فيها تفصيلٌ؛ فما كان ملصقًا ثابتًا - كما يوجد الآن - فهو داخلٌ، وما كان منفصلًا ينقل فهو غير داخلٍ. وكذا المفتاح: فلا شك أن المفاتيح داخلةٌ؛ فلا يوجد مفتاحٌ بدون قفلٍ، والأقفال مثبتةٌ؛ إذن فهي فرعٌ عن الأقفال، فتكون تابعةً للأقفال - بلا شك -، وعليه: فإن المفاتيح إذا كانت لأقفالٍ مثبتةٍ فهي داخلةٌ في البيع وإلا فلا.

وإن باع أرضًا ولو لم يقل بحقوقها: شمل غرسها (¬1) وبناءها، وإن كان فيها زرعٌ - كبر وشعيرٍ - فلبائعٍ مبقى، وإن كان يجز أو يلقط مرارًا فأصوله للمشتري، والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع، وإن اشترط المشتري ذلك صح. فصلٌ ومن باع نخلًا تشقق طلعه: فلبائعٍ مبقى إلى الجذاذ، إلا أن يشترطه مشترٍ (¬2)، وكذلك شجر العنب والتوت والرمان - وغيره -، وما ظهر من نوره - كالمشمش ¬

_ (¬1) إن كانت الأرض بيضاء ليس فيها بناءٌ ولا غرسٌ ولا زرعٌ، فإذا باع هذه الأرض؛ [فلا يدخل فيها] ما أنبته الله - تعالى - من الكلإ؛ لأنه لا يملك بملك الأرض ... ، أما ما غرسه الآدمي فيدخل. (¬2) المؤلف علق الحكم بالتشقق؛ فمتى باع البائع نخلًا متشققًا طلعه؛ فالطلع له؛ سواءٌ أبره أو لم يؤبره ... والصواب: أن الحكم معلقٌ بالتأبير ... ، فإذا باع نخلًا تشقق طلعه قبل أن يؤبره فالثمر للمشتري، وإن أبره فهو للبائع.

والتفاح -، وما خرج من أكمامه - كالورد والقطن -. وما قبل ذلك، والورق: فلمشترٍ. ولا يباع ثمرٌ قبل بدو صلاحه (¬1)، ولا زرعٌ قبل اشتداد حبه (¬2)، ولا رطبةٌ وبقلٌ ولا قثاءٌ - ونحوه كباذنجانٍ - دون الأصل إلا بشرط: القطع في الحال (¬3)، أو جزةً جزةً، أو لقطةً لقطةً (¬4). ¬

_ (¬1) النفي هنا للتحريم وإن كان يحتمل الكراهة، لكن الاستدلال بالحديث يدل على أن الفقهاء - رحمهم الله - أرادوا التحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري. (¬2) هذا ما لم يبع للعلف؛ فإن بيع للعلف فإنه لا يشترط أن يشتد حبه؛ بل مجرد ما يبلغ الحصاد يباع، ولا حرج في ذلك. (¬3) الصحيح: أنه لا يشترط ذلك إذا كان قطعه في وقتٍ يقطع مثله؛ لأن تأخير الحصاد لمدة يومٍ أو يومين أو أسبوعٍ عند الناس لا يعتبر جهالةً ولا يوجب نزاعًا ... فالصواب: أنه إذا كان ذلك بعد تمام نمائها؛ فإنها إذا بيعت فلا يشترط القطع في الحال؛ بل يجزها المشتري بحسب ما جرت به العادة ... وإذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها واشترط المشتري أن يجزها في الحال؛ كان ذلك جائزًا؛ لأن المشتري لا يريد أن يبقيها حتى يبدو صلاحها، ولكن يشترط في هذه الحال أن تكون الثمرة مما ينتفع به إذا قطعت في الحال، فإن لم تكن مما ينتفع به فإن البيع باطلٌ؛ لأنه سبق لنا أن من شروط البيع: أن يقع على عينٍ فيها نفعٌ مباحٌ. (¬4) أي: اللقطة الحاصلة الآن، أما ما لم يوجد فإنه مجهولٌ، وينطبق عليه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.

والحصاد واللقاط على المشتري (¬1). وإن باعه مطلقًا، أو بشرط البقاء، أو اشترى ثمرًا لم يبد صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا، أو جزةً أو لقطةً فنمتا (¬2)، أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها (¬3)، أو عريةً فأتمرت: بطل، والكل للبائع. وإذا بدا ما له صلاحٌ في الثمرة واشتد الحب: جاز بيعه مطلقًا وبشرط التبقية، وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ (¬4)، ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل. ¬

_ (¬1) لكن لو اشترط المشتري على البائع أن يكون ذلك عليه؛ فصحيحٌ. (¬2) الصواب: أنه إذا نمت الجزة أو اللقطة برضا البائع فإن البيع لا يبطل ... ؛ لأن الزيادة في الأصل للبائع ... ، وأما إذا كان بغير رضاه - بأن تهاون المشتري حتى كبرت ونمت -؛ فله الخيار؛ إن شاء أمضى البيع ... ، وإن شاء فسخ. (¬3) إذا حصلت الثمرة واشتبهت بالأولى، فنقول: (اصطلحا)، فإن تنازل من له الثمرة الثانية، فقال: (الكل عندي سواءٌ، والثمرة التي حصلت بعد هي له)؛ فحينئذٍ نقول: البيع يبقى، ولا نزاع ولا خصومة. وإذا أبيا أن يصطلحا وأبى من له الثمرة الثانية أن يهبها للأول ... ؛ فيقول الفقهاء الذين قالوا بعدم بطلان البيع: يجبرون على الصلح؛ فيجبر المشتري ومن له الثمرة الجديدة على الصلح؛ لأنه لا يمكن الانفكاك منه إلا بهذا ... ، فإن أبيا إلا بثالثٍ يصلح بينهما قلنا: لا بأس، فنقيم ثالثًا يصلح بينهما وتنتهي المشكلة. (¬4) لكن هذا ليس على إطلاقه؛ بل يقال: بشرط ألا يتضرر الأصل بعد تأخيره عن وقت الحصاد والجذاذ، فإن تضرر فليس له ذلك.

وإن تلفت بآفةٍ سماويةٍ (¬1) رجع على البائع (¬2)، وإن أتلفه آدمي خير مشترٍ بين: الفسخ، والإمضاء ومطالبة المتلف (¬3). وصلاح بعض الشجرة صلاحٌ لها ولسائر النوع الذي في البستان (¬4). ¬

_ (¬1) الآفة السماوية أعم مما يظهر من لفظها؛ إذ إن المراد بها ما لا يمكن المشتري تضمينه؛ سواءٌ كان بآفةٍ سماويةٍ لا صنع للآدمي فيه أو بصنع آدمي لا يمكن أن يضمن؛ إما لسلطته أو لجهالته؛ كما لو نزل الجند الأعداء فيما حول البلد وأتلفوا البساتين؛ فهؤلاء لا يمكن تضمينهم، فيكون إتلافهم كالتلف بالآفة السماوية، وهذا قولٌ وجيهٌ. (¬2) يستثنى من ذلك: ما إذا أخر المشتري جذها عن العادة؛ فإن الضمان عليه لا على البائع. (¬3) لكن لو قيل: بأنه لا يستحق الفسخ لكان له وجهٌ؛ لأن حقيقة الأمر أن الثمرة تلفت في ملكه، ومطالبة المتلف ممكنةٌ، فلا يرجع على البائع. نعم، لو تبين أن البائع مفرطٌ - كما سبق - ورأى الرجل قد صعد الشجرة ليجذ الثمرة؛ فحينئذٍ نقول: القول بأنه يخير بين الفسخ وبين الإمضاء ومطالبة المتلف: قولٌ وجيهٌ. (¬4) ظاهر كلام المؤلف: أنه سواءٌ بيع النوع جميعًا أو بيع تفريدًا؛ بأن بعنا التي بدا صلاحها وانتقل ملكها إلى المشتري، ثم بعنا البقية من نوعها على آخرين؛ فالكل صحيحٌ ... ، وهذا أحد القولين في مذهب الإمام أحمد ... أما المذهب: فإنه إذا بيع النوع جميعًا؛ فصلاح بعض الشجرة صلاحٌ للنوع ... ، أما إذا أفرد فإنك إذا بعت ما بدا صلاحه ثم جددت عقدًا لما لم يبد صلاحه؛ [فقد] صدق عليك أنك بعت ثمرةً قبل بدو صلاحها ... ، والمذهب أصح مما هو ظاهر كلام المؤلف. وقال بعض العلماء: إن صلاح الشجرة صلاحٌ لها ولنوعها ولجنسها؛ فمثلًا: إذا كان عند إنسانٍ بستانٌ فيه عشرة أنواعٍ من النخل، وبدا الصلاح في نوعٍ منها؛ جاز بيع الجميع صفقةً واحدةً - الذي من نوعه والذي ليس من نوعه -، لكن المذهب لا يعتبرون ذلك؛ [بل] يعتبرون النوع، والمذهب أحوط وإن كان هذا القول قويا.

وبدو الصلاح في ثمر النخل: أن تحمر أو تصفر، وفي العنب: أن يتموه حلوًا (¬1)، وفي بقية الثمر: أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله (¬2). ومن باع عبدًا له مالٌ: فماله لبائعه؛ إلا أن يشترطه المشتري، فإن كان قصده المال اشترط علمه وسائر شروط البيع، وإلا فلا. وثياب الجمال للبائع، والعادة للمشتري (¬3). ¬

_ (¬1) عبر بعض العلماء بقولهم: (العنب أن يسود) قياسًا على تلوين النخل، وهذا صحيحٌ بالنسبة لما صلاحه باسوداده، لكن هناك عنبٌ لا يسود ولو بلغ الغاية في النضوج. وربما يوجد - أيضًا - ... عنبٌ قاسٍ ولو كان قد بدا صلاحه. ولهذا عبر بعض أهل العلم بعبارةٍ جامعةٍ، قال: (أن يطيب أكله) كما ذكره المؤلف في بقية الثمار، ولذلك يوجد الآن عنبٌ في الأسواق ليس متموهًا ولا مسودا؛ بل أخضر قاسٍ، ومع ذلك هو حلوٌ يطيب أكله. (¬2) حتى ثمار النخيل وثمار العنب - وغيرهما -؛ [تدور] على إمكان أكله واستساغته؛ لأنه إذا وصل إلى هذا الحد أمكن الانتفاع به. (¬3) وتختلف الأعراف في هذا ... ، ولا شك أن هذا يتبع العادة في ذلك، فيقال: إن عد هذا من ثياب الجمال فهو للبائع، وإن عد من ثياب العادة فهو للمشتري.

باب السلم

باب السلم وهو: عقدٌ على موصوفٍ في الذمة، مؤجلٍ (¬1) بثمنٍ مقبوضٍ بمجلس العقد. ويصح بألفاظ: البيع، والسلم، والسلف (¬2)؛ بشروطٍ سبعةٍ: أحدها: انضباط صفاته بمكيلٍ وموزونٍ ومذروعٍ. وأما المعدود المختلف؛ كالفواكه، والبقول، والجلود (¬3)، والرؤوس، والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط - كالقماقم - (¬4)، والأسطال الضيقة ¬

_ (¬1) اختلف العلماء - رحمهم الله -؛ فمنهم من قال: لا بد أن يكون له أجلٌ، ومنهم من قال: لا بأس أن يكون بدون أجلٍ. والذي يظهر لي أنه يصح بدون أجلٍ، ونقول: سمه بما شئت: سلمًا أو بيعًا؛ لأن هذا ليس فيه غررٌ ولا ربًا ولا ظلمٌ ... وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إلى أجلٍ معلومٍ» يعود إلى علم الأجل، لا إلى أجلٍ مجهولٍ، وهو الراجح. (¬2) جميع العقود تنعقد بما دل عليه اللفظ عرفًا وأنها لا تتقيد بشيءٍ؛ لأن هذه الأمور لم يرد الشرع بتعيينها وتقييدها، وليست من أمور العبادة التي يتقيد الإنسان فيها باللفظ ... ، فجميع العقود تنعقد بكل ما دل عليها من قولٍ أو فعلٍ. (¬3) قال بعض الفقهاء: يصح في الجلود إذا قال - مثلًا -: جلد رباعيةٍ أو ثنيةٍ، وعين السن؛ فإن هذا لا بأس به؛ لأن الاختلاف يسيرٌ. (¬4) أما الآن فالصناعة بالآلات، فإذا قلت: (أسلمت إليك بأوانٍ من طراز كذا وكذا) فيمكن ضبطه؛ بل وأشد ضبطًا من المكيل والموزون، أما فيما سبق؛ فلما كانت الأواني تصنع باليد كان ضبطها صعبًا.

الرؤوس (¬1)، والجواهر، والحامل من الحيوان، وكل مغشوشٍ (¬2)، وما يجمع أخلاطًا غير متميزةٍ - كالغالية والمعاجين (¬3) -: فلا يصح السلم فيه. ويصح في: الحيوان (¬4)، والثياب المنسوجة من نوعين، وما خلطه غير مقصودٍ - كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها -. الثاني: ذكر الجنس والنوع (¬5)، وكل وصفٍ يختلف به الثمن ظاهرًا، وحداثته، وقدمه. ¬

_ (¬1) أما إذا كانت الصناعة بالآلات - كما هو الموجود الآن - فإنه يمكن انضباطها ولو كانت ضيقة الرؤوس، ولهذا فالأباريق المعروفة الآن يمكن أن تحكم عليها بالدقة إذا قلت: (من نوع كذا، حجم كذا)؛ فإنها سوف تنضبط تمامًا. (¬2) هذا - أيضًا - يقال فيما سبق؛ فإنه كانت توجد فضةٌ مغشوشةٌ وذهبٌ مغشوشٌ، ولا يعلم قدر الغش، أما الآن فإن قدر الغش معلومٌ، يحكم عليه بأدق ما يكون، فيقال: هذا الذهب من عيار كذا، وهذا من عيار كذا، وهذه الفضة فيها غش ونسبته كذا، لكن إذا وجد مغشوشاتٌ أخرى لا يمكن انضباطها فلا يصح السلم فيها. (¬3) هذه المعاجين يستعملها الناس للمرضى ... ، والصحيح: أنه يصح السلم فيها؛ لأنه وإن كانت النسبة مجهولةً لكنها قليلةٌ، والغرض من ذلك: منفعتها. (¬4) لكن لا بد من ضبطه، فيقال: (ثني أو رباعٌ أو جذعٌ، سمينٌ، ضعيفٌ، متوسطٌ)، فلا بد أن يضبط بكل وصفٍ يختلف به الثمن. (¬5) الصواب: أنه لا يشترط ذكر الجنس؛ لأن ذكر النوع كافٍ.

ولا يصح شرط الأردإ والأجود (¬1)؛ بل جيدٌ ورديءٌ، فإن جاء بما شرط، أو أجود منه من نوعه (¬2) ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه: لزمه أخذه. الثالث: ذكر قدره بكيلٍ، أو وزنٍ، أو ذرعٍ يعلم. وإن أسلم في المكيل وزنًا، أو في الموزون كيلًا: لم يصح (¬3). الرابع: ذكر أجلٍ معلومٍ (¬4) له وقعٌ في الثمن (¬5): فلا يصح حالا، ولا إلى ¬

_ (¬1) القول الثاني: يصح شرط الأردإ دون الأجود بأن يشترطه المسلم إليه ... ، وهذا هو القول الصحيح. (¬2) إذا لم يكن عليه ضررٌ بالمنة لزمه الأخذ وإلا لم يلزمه. (¬3) الصواب: أنه يصح أن يسلم في المكيل وزنًا وفي الموزون كيلًا؛ لأنه معلومٌ، والتساوي هنا ليس بشرطٍ؛ وإنما وجب في بيع الربوي بجنسه أن يقدر في المعيار الشرعي لأنه يشترط فيه المساواة. (¬4) هذا الذي ذكره المؤلف هو ظاهر الحديث [- «... إلى أجلٍ معلومٍ» -]، وقد سبق أن الصحيح: أن الحديث نص في اشتراط الأجل المعلوم؛ بمعنى: أنه إذا كان مؤجلًا فلا بد أن يكون الأجل معلومًا. (¬5) أما اشتراط أن يكون له وقعٌ في الثمن؛ فليس في الحديث ما يدل عليه؛ ففي الحديث: «إلى أجلٍ معلومٍ»، وليس فيه قيدٌ أن يكون له وقعٌ في الثمن، ولذلك لم يشترطه كثيرٌ من الفقهاء، وقد تبين أن اشتراط أن يكون له وقعٌ في الثمن مبني على تعليلٍ ... فمن نظر إلى الحديث قال: هذا لا دليل عليه، ومن نظر إلى العلة التي من أجلها شرع السلم قال: هذا الاشتراط لا بد منه؛ لأنه إذا كان من الصباح إلى المساء والأسعار تختلف في هذه المدة القصيرة فلا فائدة من السلم؛ فهو في الحقيقة كالذي ليس له أجلٌ.

الحصاد والجذاذ (¬1)، ولا إلى يومٍ (¬2)؛ إلا في شيءٍ يأخذه منه كل يومٍ - كخبزٍ ولحمٍ ونحوهما -. الخامس: أن يوجد غالبًا في محله ومكان الوفاء، لا وقت العقد فإن تعذر - أو بعضه -: فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض، ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه. السادس: أن يقبض الثمن تاما، معلومًا قدره ووصفه قبل التفرق (¬3)، وإن قبض البعض ثم افترقا: بطل فيما عداه. وإن أسلم في جنسٍ إلى أجلين - أو عكسه -: صح إن بين كل جنسٍ وثمنه وقسط كل أجلٍ. السابع: أن يسلم في الذمة: فلا يصح في عينٍ (¬4)، ويجب الوفاء موضع العقد، ويصح شرطه في غيره (¬5). ¬

_ (¬1) الصحيح: أنه يصح إلى الحصاد والجذاذ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (¬2) قوله: (ولا إلى يومٍ): لأنه ليس له وقعٌ في الثمن، [وقد سبق التعليق على مسألة اشتراط أن يكون له وقعٌ في الثمن]. (¬3) وعندنا قاعدةٌ، وهي: أنه يشترط في الثمن والمثمن ألا يكون بينهما ربا نسيئةٍ؛ فإن كان بينهما ربا نسيئةٍ لم يصح إسلام أحدهما في الآخر. (¬4) هذا الشرط فيه نظرٌ؛ بل إنه يصح أن يسلم في عينٍ، وتبقى هذه العين عند المسلم إليه حتى يحل أجلها ... ؛ فالأصل الصحة حتى يقوم دليلٌ على الفساد. (¬5) فإن تسامحا فالحق لهما وذهب بعض أهل العلم إلى أن المرجع في ذلك إلى العرف؛ فيجب الوفاء في المكان الذي دل العرف على وجوب الوفاء به ...

وإن عقد ببر أو بحرٍ: شرطاه (¬1). ولا يصح: بيع المسلم فيه قبل قبضه (¬2)، ولا هبته (¬3)، ولا الحوالة به، ولا عليه (¬4)، ولا أخذ عوضه (¬5). ولا يصح: الرهن، والكفيل به (¬6). ¬

_ (¬1) القول الثاني في المسألة: أن يرجع في ذلك إلى العرف، والعرف: أن يسلم في بلد المسلم، وعلى هذا: فلا حاجة إلى التعيين؛ اعتمادًا على ما جرى به العرف. (¬2) يجوز بيعه على المسلم إليه، وعند شيخ الإسلام: يجوز بيعه حتى على أجنبي، لكن فيه نظرٌ ... ؛ فالتوسع غير ظاهرٍ لي جدا. وشيخ الإسلام يجوز بيع الدين على غير من هو عليه، ولكنه يشترط القدرة على أخذه؛ لكن إن باعه على المسلم إليه فإنه يشترط ثلاثة شروطٍ: الأول: ألا يربح؛ بأن يبيعه بسعر يومه ... الثاني: أن يحصل التقابض قبل التفرق فيما إذا باعه بشيءٍ يجري فيه ربا النسيئة ... الثالث: ألا يجعله ثمنًا لسلمٍ آخر ... فالراجح: أن بيعه جائزٌ، لكن بالشروط الثلاثة المذكورة. (¬3) القول الصحيح: أنه يجوز هبة المسلم فيه؛ سواءٌ وهبته للمسلم إليه أو لآخر. (¬4) الصواب: أنه يصح؛ فيصح أن يحال به وأن يحال عليه. (¬5) إذا أخذ عوضه فلا بأس؛ لكن بالشروط الثلاثة السابقة. (¬6) الصواب: جواز أخذ الرهن والكفيل والضمين به، كلها جائزةٌ؛ لأنه ليس فيها محظورٌ ولا ربًا ولا ظلمٌ ولا غررٌ ولا جهالةٌ، وهذه عقود توثقةٍ، والأصل في العقود الحل.

باب القرض

باب القرض وهو مندوبٌ (¬1). وما يصح بيعه صح قرضه؛ إلا بني آدم. ويملك بقبضه؛ فلا يلزم رد عينه؛ بل يثبت بدله في ذمته حالا ولو أجله (¬2)، فإن رده المقترض لزم قبوله (¬3). وإن كانت مكسرةً، أو فلوسًا فمنع السلطان المعاملة بها: فله القيمة وقت القرض (¬4). ¬

_ (¬1) هذا بالنسبة للمقرض، أما بالنسبة للمستقرض فهو مباحٌ ... ويجب القرض أحيانًا فيما إذا كان المقترض مضطرا، لا تندفع ضرورته إلا بالقرض، ولكن لا يجب إلا على من كان قادرًا عليه من غير ضررٍ عليه في مؤونته ولا مؤونة عياله، كما أنه يكون أحيانًا حرامًا إذا كان المقترض اقترض لعملٍ محرمٍ ... ، ولكنه من حيث الأصل هو بالنسبة للمقرض مندوبٌ؛ لأنه من الإحسان، وأما بالنسبة للمستقرض فإنه مباحٌ، ولا يقال: إنه من المسألة المذمومة. (¬2) الصحيح: أنه إذا أجله ورضي المقرض فإنه يثبت الأجل ويكون لازمًا، ولا يحل للمقرض أن يطالب المستقرض حتى يحل الأجل - وهو اختيار شيخ الإسلام -. (¬3) القول الثاني: أنه لا يلزم المقرض قبوله - سواءٌ تغير أم لم يتغير - ... ، وهذا القول هو الصحيح. (¬4) أقرب شيءٍ: أن المعتبر القيمة وقت المنع.

ويرد المثل في المثليات، والقيمة في غيرها (¬1)، فإن أعوز المثل فالقيمة إذن. ويحرم كل شرطٍ جر نفعًا. وإن بدأ به بلا شرطٍ، أو أعطاه أجود (¬2)، أو هديةً بعد الوفاء: جاز. وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيءٍ لم تجر عادته به: لم يجز؛ إلا أن ينوي مكافأته (¬3)، أو احتسابه من دينه. ¬

_ (¬1) المثلي - على كلام الأصحاب رحمهم الله -: كل مكيلٍ أو موزونٍ يصح السلم فيه، وليس فيه صناعةٌ مباحةٌ ... والصحيح: المثلي: ما كان له مثيلٌ مقاربٌ، وليس بلازمٍ أن يكون مطابقًا ... ، وعلى هذا: فإذا استقرض بعيرًا [فقد] ثبت في ذمته بعيرٌ مثله، وإذا استقرض إناءً [فقد] ثبت في ذمته إناءٌ مثله، وهذا أقرب من القيمة. إذن: خالفنا المؤلف في هذه المسألة في معنى المثل، لكننا نتفق معه في أن [المستقرض] يرد المثل في المثليات والقيمة في غيرها. (¬2) علم من قول المؤلف: (أو أعطاه أجود): أنه لو أعطاه أكثر بلا شرطٍ فإنه - على المذهب - لا يجوز، والفرق: أن الأجود في الصفة، والأكثر في الكمية. والصحيح: أنه جائزٌ بشرط ألا يكون مشروطًا؛ بأن يقترض منه عشرةً ثم عند الوفاء يعطيه أحد عشر فإنه لا بأس؛ لأنه إذا جازت الزيادة في الصفة [فقد] جازت في العدد ... لكن قد يقول قائلٌ: إذا جوزنا هذا لزم أن نجوز الفوائد البنكية؟! ... فالجواب على هذا: أن البنك زيادته تعتبر مشروطةً شرطًا عرفيا، والشرط العرفي كالشرط اللفظي. (¬3) بمثل قيمتها أو أكثر ... ، أما أقل من ذلك ... ؛ فلا يجوز؛ لأنها ليست مكافأةً.

وإن أقرضه أثمانًا فطالبه بها ببلدٍ آخر: لزمته (¬1)، وفيما لحمله مؤونةٌ: قيمته إن لم تكن ببلد القرض أنقص (¬2). ¬

_ (¬1) إذا كان في بلدٍ يختلف عن البلد الذي أقرضه فيه؛ فهنا قد يلحقه ضررٌ؛ فقد تكون قيمته أغلى، وحينئذٍ نقول: لا يلزمه الموافقة، إن وافق فذلك المطلوب وإن لم يوافق فلا يلزمه. (¬2) يعتبر كلام المؤلف - رحمه الله - فيه سبق قلمٍ؛ حيث قال: (إن لم تكن ببلد القرض أنقص)، ولهذا تعقبه صاحب «الروض» بقوله: (صوابه: أكثر)؛ لأنها إذا كانت القيمة في بلد القرض أكثر فلا ضرر عليه في هذه الحال أن يشتري المثل ويرده.

باب الرهن

باب الرهن يصح في كل عينٍ يجوز بيعها - حتى المكاتب - مع الحق وبعده (¬1) بدينٍ ثابتٍ (¬2). ويلزم في حق الراهن فقط. ويصح رهن المشاع. ويجوز رهن المبيع - غير المكيل والموزون (¬3) - على ثمنه وغيره. ¬

_ (¬1) كلام المؤلف يدل على أنه لا يصح [قبل الحق]؛ لأنه قال: (مع الحق وبعده) ... والصواب: أن الرهن جائزٌ مع الحق وقبل الحق وبعد الحق، وأنه لا مانع؛ لأنه عقد توثقةٍ. (¬2) القول الراجح: أنه يصح الرهن بالدين غير الثابت، ويكون الرهن تبعًا للدين؛ فإن استقر الدين وثبت؛ [فقد] ثبت الرهن واستقر، وإلا فلا؛ لأن الرهن فرعٌ عن الدين، فإذا كان الدين غير ثابتٍ صار الرهن كذلك غير ثابتٍ حتى يثبت الدين. وقوله: (بدينٍ ثابتٍ): ظاهره: أن الرهن بالعين لا يصح ... والصحيح: أنه يصح أن يؤخذ رهنٌ بالأعيان؛ لأن ذلك عقدٌ جائزٌ لا يتضمن شيئًا محظورًا، وليس فيه ضررٌ، وليس هذا كالتأمين. (¬3) وهذا إنما يستثنى فيما إذا رهنه قبل القبض؛ لأن المكيل والموزون لا يجوز بيعهما إلا بعد القبض ... والصحيح: الجواز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بيع المبيع قبل قبضه على غير بائعه؛ والحكمة من ذلك: لئلا يربح فيما لم يدخل في ضمانه، ولئلا يربح ربحًا يغار منه البائع ويحاول فسخ البيع؛ أما إذا رهنه على البائع وهو مكيلٌ أو موزونٌ؛ فالصحيح أنه جائزٌ.

وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه؛ إلا: الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع. ولا يلزم الرهن إلا بالقبض (¬1). واستدامته شرطٌ، فإن أخرجه إلى الراهن باختياره زال لزومه، فإن رده إليه عاد لزومه إليه (¬2). ولا ينفذ تصرف واحدٍ منهما فيه بغير إذن الآخر (¬3)؛ إلا عتق الراهن فإنه يصح مع الإثم، وتؤخذ قيمته رهنًا مكانه (¬4). ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه: ملحقٌ به، ومؤونته على الراهن وكفنه وأجرة مخزنه. ¬

_ (¬1) القول الثاني: أنه يلزم بالعقد في حق من هو لازمٌ في حقه؛ بدون قبضٍ، وأن القبض من التمام. (¬2) هذا كله مبني على أن القبض شرطٌ في لزوم الرهن، وأن استدامته شرطٌ كذلك ... ، والصواب: خلاف هذا؛ فليس القبض شرطًا، ولا استدامته شرطًا. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: سواءٌ كان هذا التصرف نقلًا لملكية العين أو لمنافعها؛ فمعناه: أن الراهن لا يبيع المرهون ولا يؤجره، وعلى هذا: فيبقى الرهن معطلًا إذا امتنع كل منهما أن يأذن للآخر ... والصواب: أنه إذا طلب أحدهما عقدًا لا يضر بحق المرتهن فإن الواجب إجابته، وأن الممتنع منهما يجبر على استغلال هذا النفع. (¬4) هذا القول ضعيفٌ جدا، والصواب: أن عتقه حرامٌ، ولا يصح.

وهو أمانةٌ في يد المرتهن؛ إن تلف من غير تعد منه (¬1) فلا شيء عليه، ولا يسقط بهلاكه شيءٌ من دينه (¬2)، وإن تلف بعضه فباقيه رهنٌ بجميع الدين. ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين، وتجوز الزيادة فيه دون دينه (¬3). وإن رهن عند اثنين شيئًا فوفى أحدهما، أو رهناه شيئًا فاستوفى من أحدهما: انفك في نصيبه. ومتى حل الدين وامتنع من وفائه: فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفى الدين وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن، فإن لم يفعل باعه الحاكم ووفى دينه. فصلٌ ويكون عند من اتفقا عليه، وإن أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد، وإن قبض الثمن فتلف في يده فمن ضمان الراهن (¬4). ¬

_ (¬1) ينبغي أن يزاد: (... ولا تفريطٍ)، والفرق بين التعدي والتفريط: أن التعدي: فعل ما لا يجوز، والتفريط: ترك ما يجب. (¬2) لكن يجب أن يلاحظ أنه لا يسقط إذا لم يكن بتعدٍ أو تفريطٍ، فإن كان بتعد أو تفريطٍ ألزم المرتهن بالضمان، وحينئذٍ لا بد أن يسقط من الدين بمقدار ما لزمه من ضمانه. (¬3) الصواب: الجواز، وأنه لا بأس بزيادة الدين؛ لأنه برضا الطرفين وفيه مصلحةٌ للراهن، وهو قولٌ لبعض العلماء. (¬4) لكن يشترط في ذلك: أن يكون بلا تعد ولا تفريطٍ، فإن كان بتعد أو تفريطٍ صار هناك ضامنٌ آخر، وهو العدل الذي وكل من قبل الطرفين.

وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره ولا بينة ولم يكن بحضور الراهن: ضمن (¬1) كوكيلٍ (¬2). وإن شرط ألا يبيعه إذا حل الدين (¬3)، أو إن جاءه بحقه في وقت كذا وإلا فالرهن له (¬4): لم يصح الشرط وحده. ويقبل قول الراهن في: قدر الدين (¬5)، والرهن (¬6)، ورده، وكونه عصيرًا لا ¬

_ (¬1) لكن لو أن العدل استأذن من الراهن ... ؛ فهنا لا يضمن العدل، وكذلك لو كان بحضور الراهن الذي عليه الدين فلا ضمان على العدل؛ لأن المفرط - هنا - الراهن الذي عليه الحق، فلماذا لم يطلب شهودًا يشهدون أنه أوفى؟! فيرجع المرتهن على الراهن؛ لأن الدين ثابتٌ لم يثبت قضاؤه، ولا يرجع الراهن على العدل. (¬2) قوله: (كوكيلٍ): يعني: كما لو فعل الوكيل في قضاء الدين، وقال: إني وفيت، وأنكر الدائن ولم يكن هناك بينةٌ، ولم يكن بحضور الموكل فإنه يضمن ... لكن ينبغي أن يقال: لكل مقامٍ مقالٌ؛ فالدراهم الخطرة الكثيرة لا بد أن يشهد عليها، فإن لم يفعل فهو مفرطٌ، أما الشيء اليسير الذي جرت العادة أنه لا يشهد عليه فإنه لا يعد مفرطًا، والرجل المدين قد ائتمنه ورضي بأمانته، فالصحيح في هذا: أنه لا يضمن. (¬3) لو أن أحدًا قال بعدم صحة الرهن والشرط لكان له وجهٌ. (¬4) الصحيح: أنه إذا رهنه شيئًا، وقال: (إن جئتك بحقك في الوقت الفلاني وإلا فالرهن لك): أن هذا شرطٌ صحيحٌ ولازمٌ. (¬5) هذا مقيدٌ بما إذا لم يكن للمرتهن بينةٌ، أما إذا كان للمرتهن بينةٌ فالقول قول من شهدت له البينة ... كذلك - أيضًا - يقبل قول الراهن مع يمينه؛ فلا بد أن يحلف. (¬6) القول قول من يشهد له العرف، فإذا كان قول أحدهما تدل القرينة على صدقه كان أولى.

خمرًا (¬1). وإن أقر أنه: ملك غيره، أو أنه جنى: قبل على نفسه، وحكم بإقراره بعد فكه؛ إلا أن يصدقه المرتهن. فصلٌ وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته بلا إذنٍ. وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه لم يرجع، وإن تعذر رجع ولو لم يستأذن الحاكم، وكذا وديعةٌ، ودواب مستأجرةٌ هرب ربها. ولو خرب الرهن فعمره بلا إذنٍ: رجع بآلته فقط (¬2). ¬

_ (¬1) لكن هذا في صورةٍ معينةٍ؛ في عقدٍ شرط فيه الرهن، ولهذا لا بد من القيد: (في عقدٍ شرط فيه الرهن). (¬2) قال بعض العلماء: بل يرجع بالجميع؛ لأنه ليس كالإنفاق على الحيوان ... وفصل بعضهم، فقال: إن عمره بما يكفي لتوثيق دينه فقط [فإنه] يرجع، وإن كان بأزيد لم يرجع؛ لأنه ليس في ضرورةٍ إلى أن يعمره بأكثر مما يوثق الدين ... وبعض العلماء يقول: إذا كان لو تركه - أي التعمير - لتداعى بقية البيت - وهذا واردٌ - ... ؛ فهنا يرجع بالجميع؛ لأن هذا لحفظ البيت كله، وأما إذا كان ما بقي من البيت لا يتأثر بما انهدم فعلى التفصيل الذي سبق.

باب الضمان

باب الضمان لا يصح إلا من جائز التصرف، ولرب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت (¬1). فإن برئت ذمة المضمون عنه: برئت ذمة الضامن - لا عكسه -. ولا يعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه، ولا له؛ بل رضا الضامن. ¬

_ (¬1) ظاهره: أنه لا فرق بين أن يتمكن صاحب الحق من استيفاء الحق من المضمون عنه أو لا يتمكن ... والقول الثاني في المسألة: أنه لا يملك مطالبة الضامن إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه بموتٍ أو غيبةٍ أو مماطلةٍ أو فقرٍ، فإذا تعذرت مطالبة المضمون عنه فله أن يطالب الضامن ... وهذا اختيار شيخنا عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -، وعمل الناس اليوم على هذا القول، أما في المحاكم فالظاهر أنهم يحكمون بالمذهب، وأن صاحب الحق إذا طالب الضامن ألزم بأن يدفع عنه الحق الذي ضمنه ... وعلم من كلام المؤلف: أن المضمون عنه لا تبرأ ذمته لو التزم به الضامن؛ لأنه قال: (له مطالبتهما جميعًا). وقال بعض العلماء: إذا ضمن عن الميت برئت ذمة الميت؛ لأن الميت لا ذمة له؛ فإذا ضمن عنه صارت الذمة واحدةً وهي ذمة الضامن؛ لأن ذمته عامرةٌ؛ بخلاف الميت ... وهذا القول لا شك أن له قوته.

ويصح ضمان: المجهول إذا آل إلى العلم، والعواري (¬1)، والمغصوب، والمقبوض بسومٍ (¬2)، وعهدة مبيعٍ، لا ضمان الأمانات؛ بل التعدي فيها. فصلٌ وتصح الكفالة بكل عينٍ مضمونةٍ، وببدن من عليه دينٌ، لا حد (¬3)، ولا قصاص (¬4). ويعتبر رضا الكفيل لا مكفولٍ به (¬5). فإن مات، أو تلفت العين بفعل الله - تعالى -، أو سلم نفسه: برئ الكفيل. ¬

_ (¬1) القول الثاني: أن العارية لا تضمن إلا بتعد أو تفريطٍ ... ، وهذا القول هو الراجح. (¬2) القول الثاني - وهو الصحيح -: أنه لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط. (¬3) قد يقول قائلٌ: ... يمكن أن يفرق بين شخصٍ له القدرة التامة على إحضار بدن من عليه حد، وبين شخصٍ عادي لا يستطيع؛ فالأول قد يقال بصحة كفالته، والثاني: لا تصح - بلا شك -. (¬4) من صحح الكفالة في الحد فيمن يستطيع إحضار المكفول فإنه يصحح الكفالة فيمن عليه قصاصٌ من باب أولى، وذلك لأنه إذا تعذر القصاص لعدم حضور الكفيل؛ فإنه يمكن أن يعاد إلى الدية. (¬5) إذا كان يترتب على هذا سوء سمعةٍ بالنسبة للمكفول فإنه لا يجوز أن يتقدم أحدٌ في كفالته؛ لأن ذلك يضر بسمعته.

باب الحوالة

باب الحوالة لا تصح إلا على دينٍ مستقر، ولا يعتبر استقرار المحال به. ويشترط اتفاق الدينين جنسًا ووصفًا (¬1) ووقتًا (¬2) وقدرًا، ولا يؤثر الفاضل. وإذا صحت: نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه، وبرئ المحيل. ويعتبر رضاه، لا رضا المحال عليه، ولا المحتال على مليءٍ (¬3). وإن كان مفلسًا ولم يكن رضي: رجع به (¬4). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا يصح أن يحيل جيدًا على رديءٍ، ولا رديئًا على جيدٍ. وفي هذا نظرٌ؛ لأنه لا محظور من ذلك، فإذا أحال بجيدٍ على رديءٍ وقبل المحال الرديء عن الجيد فما المانع ما دام الجنس واحدًا والقدر واحدًا؟! فليس فيه ربًا ولا غررٌ. (¬2) هذا - أيضًا - فيه نظرٌ؛ فأي مانعٍ يمنع إذا أحلت عشرة دراهم تحل بعد شهرٍ على عشرة دراهم لا تحل إلا بعد شهرين ورضي المحال؟! فليس في ذلك ضررٌ، والصحيح: أنه جائزٌ (¬3) الصواب: أنه لا بد من رضا المحتال؛ سواءٌ كان على مليءٍ أم على غير مليءٍ، وهو قول الجمهور. (¬4) [ظاهر كلام المؤلف]: أنه إن رضي وهو لا يعلم بحاله، ثم تبين أنه مفلسٌ ... ؛ فلا يرجع؛ لأنه قيد ذلك بما إذا لم يكن رضي، وهذا الرجل رضي ... والراجح فيه تفصيلٌ، وهو: أننا إذا علمنا أن المحيل قد غر المحتال بحيث يكون عالمًا بإفلاس المحال عليه ولم يخبره، أو كان المحتال قد بنى على حال المحال عليه من قبل - حيث كان غنيا ثم اجتيح ماله - فإن له أن يرجع.

ومن أحيل بثمن مبيعٍ، أو أحيل به عليه فبان البيع باطلًا: فلا حوالة. وإذا فسخ البيع: لم تبطل، ولهما أن يحيلا.

باب الصلح

باب الصلح إذا أقر له بدينٍ أو عينٍ، فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي: صح إن لم يكن شرطاه، وممن لا يصح تبرعه. وإن وضع بعض الحال وأجل باقيه: صح الإسقاط فقط (¬1). وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالا (¬2)، أو بالعكس، أو أقر له ببيتٍ فصالحه على سكناه، أو يبني له فوقه غرفةً، أو صالح مكلفًا ليقر له بالعبودية، أو امرأةً لتقر له بالزوجية بعوضٍ: لم يصح. وإن بذلاهما له صلحًا عن دعواه: صح. وإن قال: (أقر بديني وأعطيك منه كذا)، ففعل: صح الإقرار لا الصلح (¬3). ¬

_ (¬1) الصواب: أنه يصح الوضع، وأن الحال يتأجل بالتأجيل، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لأنه عهدٌ ووعدٌ. (¬2) الصواب: أنه جائزٌ، وأن الإنسان إذا أخذ البعض في المؤجل وأسقط الباقي فإن ذلك صحيحٌ ... ، لكن لو أجبر أحدهما الآخر على هذا الفعل فإنه لا يصح. (¬3) الصحيح: أن في هذا تفصيلًا؛ فإذا كان المدين أبى أن يقر إلا بهذا فالصلح باطلٌ والإقرار ثابتٌ، فيطالب به ظاهرًا، وأما إذا كان غير ممانعٍ وهو مقر فإن إسقاط بعضه يكون من باب الوعد، والصحيح أن الوفاء بالوعد واجبٌ، وأنه لا يجوز للإنسان أن يخلف الوعد؛ لأن إخلاف الوعد من صفات المنافقين؛ ما لم يكن هناك ضررٌ.

فصلٌ ومن ادعي عليه بعينٍ أو دينٍ فسكت، أو أنكر وهو يجهله ثم صالح بمالٍ: صح. وهو للمدعي بيعٌ، يرد معيبه ويفسخ الصلح ويؤخذ منه بشفعةٍ، وللآخر إبراءٌ فلا رد ولا شفعة. وإن كذب أحدهما: لم يصح في حقه باطنًا، وما أخذه حرامٌ. ولا يصح بعوضٍ عن: حد سرقةٍ، وقذفٍ (¬1)، ولا حق شفعةٍ (¬2)، ولا ترك شهادةٍ، وتسقط الشفعة والحد (¬3). وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله، فإن أبى لواه إن أمكن، ¬

_ (¬1) القول الثاني: أنه يصح بالعوض [عن حد القذف]؛ لأن الذي سوف تسود صحيفته به هو المقذوف، فبدلًا من هذا يقول: (أعطني مئة ألف ريالٍ، وأنا - إن شاء الله - سأدافع عن نفسي فيما يتعلق بالقذف). وهذا القول له وجهة نظرٍ؛ لأنه حق لآدمي - في الواقع -، ولهذا لا يقام حد القذف إلا بمطالبةٍ من المقذوف. أما إذا قلنا: إنه حق محضٌ لله، وأنه لا تشترط مطالبة المقذوف؛ فإنه لا يصح بعوضٍ. (¬2) الصواب في هذه المسألة: أنه يصح أن يصالح عن حق الشفعة، وتسقط الشفعة. (¬3) الصحيح أنه - كما قلنا -: تجوز المصالحة بعوضٍ عن إسقاط الشفعة. وأما بالنسبة للقذف؛ فتقدم حكم الصلح عنه، لكن للمقذوف أن يطالب بحقه إذا علم أن الصلح غير صحيحٍ؛ لأنه أسقطه بناءً على أن الصلح صحيحٌ وأنه سيأخذ عوضًا عنه، فإذا لم يكن هناك عوضٌ فلا يمكن أن يفوت حقه بالمطالبة بحد القاذف.

وإلا فله قطعه. ويجوز في الدرب النافذ فتح الأبواب للاستطراق (¬1)، لا إخراج روشنٍ، وساباطٍ (¬2)، ودكةٍ (¬3)، وميزابٍ (¬4). ولا يفعل ذلك في ملك جارٍ ودربٍ مشتركٍ بلا إذن المستحق. وليس له وضع خشبه على حائط جاره إلا عند الضرورة إذا لم يمكنه التسقيف إلا به، وكذلك المسجد - وغيره -. وإذا انهدم جدارهما أو خيف ضرره فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه: أجبر عليه، وكذا: النهر، والدولاب، والقناة. ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن يفتحه في مقابل باب جاره أو في غير مقابل باب جاره؛ لأن الطريق ملكٌ للجميع، وهو كذلك؛ فلا فرق بين أن يكون أمام باب جاره أو لا، إلا إذا كان الجار يتأذى بفتح بابٍ أمامه؛ فحينئذٍ لا يحل له أن يفتحه أمام باب بيت جاره. (¬2) الصحيح: أنه لا بأس أن يخرج ما جرت به العادة مما لا يضر الناس وبإذن الإمام، فإن كان مما يضرهم فإنه لا يجوز حتى لو أذن من له الولاية على البلد - كرئيس البلدية مثلًا -. (¬3) هذه - أيضًا - يقال فيها ما قلنا في الروشن والساباط، وهو أنه إذا لم يكن في ذلك ضررٌ - بأن كان الطريق واسعًا والعتبة منخفضةً -، ولا ضرر فيها على أحدٍ، وأذن الإمام؛ فله أن يفعل ذلك كما جرت به العادة. (¬4) الصواب: أنه يجوز أن يخرج الميزاب بشرط ألا يكون في ذلك ضررٌ، والضرر: أن يكون الميزاب نازلًا يضرب رأس الراكب - وما أشبه ذلك -.

باب الحجر

باب الحجر ومن لم يقدر على وفاء شيءٍ من دينه: لم يطالب به، وحرم حبسه. ومن ماله قدر دينه: لم يحجر عليه وأمر بوفائه، فإن أبى حبس (¬1) بطلب ربه، فإن أصر ولم يبع ماله باعه (¬2) الحاكم وقضاه (¬3)، ولا يطالب بمؤجلٍ. ومن ماله لا يفي بما عليه حالا: وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم. ويستحب إظهاره. ولا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر (¬4)، ولا إقراره عليه، ومن باعه أو أقرضه ¬

_ (¬1) الصحيح: أن العقوبة مطلقةٌ ترجع إلى اجتهاد القاضي. (¬2) هذا مقيدٌ بما إذا لم يكن المال عنده من جنس الدين، فإن كان من جنس الدين فلا حاجة لبيعه. (¬3) لو رأى ولي الأمر من قاضٍ أو أميرٍ أن ضربه [مع الحبس] قد يفيد فله أن يضربه ضربًا غير مبرحٍ، وعلى هذا: نجعل الضرب ليس لازمًا؛ بل هو راجعٌ إلى المصلحة ... ولو كان أحدٌ من العلماء يقول بأنه: (لا يحبس ولا يضرب، وإنما يتولى الحاكم الوفاء مباشرةً مما عنده) لكان له وجهٌ؛ لأن في ذلك مصلحةً للطرفين. (¬4) يؤخذ من [قوله: (بعد الحجر)]: أن تصرفه قبل الحجر صحيحٌ ولو أضر بالغرماء ... واختار شيخ الإسلام - رحمه الله - أن تصرفه قبل الحجر إن كان مضرا بالغرماء فهو غير صحيحٍ ولا نافذٍ، وإن كان غير مضر فهو صحيحٌ نافذٌ، وهذا أصح.

شيئًا بعده: رجع فيه إن جهل حجره وإلا فلا. وإن تصرف في ذمته، أو أقر بدينٍ أو جنايةٍ توجب قودًا أو مالًا: صح، ويطالب به بعد فك الحجر عنه، ويبيع الحاكم ماله (¬1) ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه. ولا يحل: مؤجلٌ بفلسٍ، ولا بموتٍ إن وثق ورثته برهنٍ أو كفيلٍ مليءٍ. وإن ظهر غريمٌ بعد القسمة: رجع على الغرماء بقسطه. ولا يفك حجره إلا حاكمٌ. فصلٌ ويحجر على: السفيه، والصغير (¬2)، والمجنون؛ لحظهم. ومن أعطاهم ماله بيعًا أو قرضًا رجع بعينه، وإن أتلفوه لم يضمنوا، ويلزمهم أرش الجناية، وضمان مال من لم يدفعه إليهم. ¬

_ (¬1) لكن بشرط ألا يكون ماله من جنس الدين، فإن كان من جنس الدين فإنه لا يبيعه؛ لأنه لا حاجة للبيع حينئذٍ، ولأن البيع قد يضر هذا المحجور عليه؛ فربما يباع الشيء بأقل من قيمته، والبيع يحتاج إلى نقلٍ وتفريغٍ وأجرة دلالٍ، وهذا ضررٌ على المحجور عليه. (¬2) لكن لا بأس أن نعطيه ما يتصرف به مما جرت به العادة لنختبره ... ؛ بمعنى: أننا لا نحجر عليه حجرًا تاما؛ بل نعطيه ما يتصرف به بقدره؛ حتى نعرف أنه يحسن التصرف، فإذا بلغ أعطيناه ماله ... والسفيه البالغ كالمراهق؛ بمعنى: أننا لا نمكنه من التصرف في ماله كما يريد، ولكن نعطيه مما جرت به العادة من الأشياء اليسيرة.

وإن تم لصغيرٍ خمس عشرة سنةً، أو نبت حول قبله شعرٌ خشنٌ أو أنزل، أو عقل مجنونٌ ورشد، أو رشد سفيهٌ: زال حجرهم بلا قضاءٍ، وتزيد الجارية في البلوغ بالحيض، وإن حملت حكم ببلوغها. ولا ينفك قبل شروطه. والرشد: الصلاح في المال؛ بأن يتصرف مرارًا، فلا يغبن غالبًا، ولا يبذل ماله في حرامٍ أو في غير فائدةٍ (¬1). ولا يدفع إليه حتى يختبر قبل بلوغه بما يليق به (¬2). ووليهم حال الحجر: الأب، ثم وصيه، ثم الحاكم (¬3). ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأحظ، ويتجر له مجانًا (¬4)، وله دفع ماله ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أنه يحجر على [من يبذل أمواله في حرامٍ] ... وفي هذا نظرٌ ... ، والأولى أن نقول: السفيه: هو الذي لا يحسن التصرف في ماله؛ بأن يغبن ويغر ويخدع، أو يبذله في شيءٍ لا ينتفع به. (¬2) لو قيل: (حتى يختبر بما يدل على رشده في ماله) لكان أحسن؛ لأننا الآن نتكلم عن المال وليس عن الأعمال. فيكون الصواب أن يقال: ولا يدفع إليه حتى يختبر قبل بلوغه فيما يتعلق بتصرف المال حتى يعلم به رشده في التصرف في ماله. (¬3) القول الثاني في المسألة: أن الولاية تكون لأولى الناس به ولو كانت الأم - إذا كانت رشيدةً -؛ لأن المقصود حماية هذا الطفل الصغير أو حماية المجنون أو السفيه، فإذا وجد من يقوم بهذه الحماية من أقاربه فهو أولى من غيره، وهذا هو الحق - إن شاء الله تعالى -. (¬4) ظاهر [كلام المؤلف]: مطلقًا؛ سواءٌ شغله عن أشغاله الخاصة أم لا، ولكن ينبغي أن يقيد بما لم يشغله عن أشغاله الخاصة ويأبى أن يتجر إلا بسهمٍ، فحينئذٍ نقول: لا بأس، ولكن ترفع المسألة إلى القاضي ليقرر ما يراه مناسبًا.

مضاربةً بجزءٍ من الربح (¬1). ويأكل الولي الفقير من مال موليه الأقل من كفايته أو أجرته مجانًا (¬2). ويقبل قول الولي (¬3) والحاكم بعد فك الحجر في: النفقة، والضرورة، والغبطة، والتلف، ودفع المال (¬4). وما استدان العبد: لزم سيده إن أذن له، وإلا ففي رقبته؛ كاستيداعه، وأرش جنايته، وقيمة متلفه. ¬

_ (¬1) لكن بشرط أن يرى أن هذا أحسن ما يكون في مال هذا الصبي. (¬2) يأكل كفايته؛ سواءٌ كانت بقدر الأجرة أو أقل أو أكثر. (¬3) يشترط لقبول قول الولي: ألا يخالف العادة، فإن خالف العادة فإنه لا يقبل إلا ببينةٍ. (¬4) قال بعض أهل العلم: إنه لا يقبل قول الولي في دفع المال إلى المحجور عليه إلا ببينةٍ ... ولو قال قائلٌ: (أنا أريد أن أتوسط بين القولين، فإذا كان الولي معروفًا بالورع والتقوى والصدق فالقول قوله، وإن كان الأمر بالعكس فلا يقبل قوله، مع أننا لا نقبل قوله إلا بيمينٍ)؛ لكان وسطًا، ولأخذ بقول بعض هؤلاء وقول بعض هؤلاء.

باب الوكالة

باب الوكالة تصح بكل قولٍ يدل على الإذن (¬1). ويصح القبول على الفور والتراخي بكل قولٍ أو فعلٍ دال عليه. ومن له التصرف في شيءٍ فله التوكيل والتوكل فيه (¬2). ويصح التوكيل في كل حق آدمي من: العقود، والفسوخ، والعتق، والطلاق، والرجعة، وتملك المباحات من الصيد (¬3)، والحشيش ونحوه - لا الظهار واللعان ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف أن [التوكيل لا يصح بالفعل] ... والصحيح: أنه يصح التوكيل بالفعل، ويصح التوكيل بالكتابة ... فالقول الراجح: أن الوكالة تصح بالقول والكتابة والفعل، وتصح مطلقةً ومقيدةً، ومؤقتةً ومؤبدةً. (¬2) فمن ليس له أن يتصرف في شيءٍ فليس له أن يتوكل فيه. ولكن يستثنى من هذا أشياء؛ فمثلًا: فقيرٌ وكل غنيا في قبض الزكاة له فإنه يجوز، فجاز أن يتصرف لغيره بالوكالة، ولا يجوز أن يتصرف بنفسه. مثالٌ آخر: امرأةٌ لا يجوز أن تطلق نفسها، فوكلها زوجها في طلاق نفسها، [فهذا] يجوز؛ لأن هذا لمعنًى يتعلق بالزوج، والزوج قد أذن فيه. فحقوق الآدميين تنقسم إلى ثلاثة أقسامٍ: قسمٌ يصح التوكيل فيه مطلقًا، وقسمٌ لا يصح مطلقًا، وقسمٌ يصح عند العذر. (¬3) القول الثاني: أنه لا يجوز التوكيل في تملك المباحات؛ لأن الموكل حين التوكيل لا يملكها، فلا يملك التصرف فيها.

والأيمان -، وفي كل حق تدخله النيابة من العبادات (¬1) والحدود في إثباتها واستيفائها. وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه؛ إلا أن يجعل إليه (¬2). والوكالة عقدٌ جائزٌ، وتبطل: بفسخ أحدهما (¬3)، وموته، وعزل الوكيل، وبحجر السفه. ومن وكل في بيعٍ أو شراءٍ: لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده (¬4). ¬

_ (¬1) القاعدة: أن الأصل في العبادات منع التوكيل فيها؛ لأن التوكيل فيها يفوت المقصود من العبادة، وهو التذلل لله - عز وجل - والتعبد له، ويقتصر فيها على ما ورد. (¬2) [ويدخل في هذا الاستثناء أيضًا حالتان - عرفًا -، وهما: إذا كان مثله لا يتولاه عادةً، وإذا كان يعجز عن القيام بمثله عادةً]. (¬3) ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله -: أنها تبطل بفسخ أحدهما مطلقًا ولو مع الضرر، لكن يجب أن نقيد هذا بما إذا لم تتضمن ضررًا، فإن تضمنت ضررًا فإنه ليس لأحدهما أن يضر صاحبه ... وظاهر [كلامه أيضًا: أنها تبطل بفسخ أحدهما]؛ سواءٌ علم الوكيل أم لم يعلم ... والقول الثاني: أنه لا ينفسخ إلا بعد العلم ... ، وهذا القول هو الراجح، وهو روايةٌ عن أحمد، لا سيما وهو في هذه الحال تعلق به حق المشتري، أما إذا لم يتعلق به حق أحدٍ فقد يقال بفسخ الوكالة. (¬4) قال بعض العلماء: إنه يجوز أن يبيع على ولده ووالده وأمه وجدته وبنته وبنت بنته، إلا إذا ظهرت المحاباة ... ، وهذا القول هو الصحيح؛ إلا إذا كان شريكًا لهم.

ولا يبيع بعرضٍ (¬1)، ولا نساءٍ (¬2)، ولا بغير نقد البلد (¬3). وإن باع بدون ثمن المثل (¬4)، أو دون ما قدره له، أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل، أو مما قدره له: صح، وضمن النقص والزيادة. وإن باع بأزيد (¬5)، أو قال: (بع بكذا مؤجلًا) فباع به حالا، أو (اشتر بكذا حالا) فاشترى به مؤجلًا، ولا ضرر فيهما: صح، وإلا فلا. ¬

_ (¬1) الفلوس من العرض عند الفقهاء، والأوراق النقدية من العرض؛ لأن النقد عندهم هو الدرهم والدينار فقط؛ يعني: الذهب والفضة، وعلى هذا فالأوراق النقدية عند الفقهاء عرضٌ ... ، ولكننا نقول: أصبحت النقود الورقية الآن عند الناس نائبةً مناب الدينار والدرهم، فإذا باعها بالفلوس التي هي الأوراق صح البيع. (¬2) لكن كلام المؤلف هنا ينبغي أن يقيد بما إذا لم يدل العرف على التأخير، والآن عند الناس لو بعت عليك شيئًا اليوم [فإنك] يمكن أن تذهب به ولا آخذ الثمن منك إلا بعد يومٍ أو يومين، [وذلك] بحسب كثرة الثمن وقلته، وبحسب حال المشتري، إلا إذا كان المشتري لا يعرف؛ فإنه إذا لم يبعه نقدًا يدًا بيدٍ فهو ضامنٌ؛ لأنه مفرطٌ. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا يبيع بغير نقد البلد ولو باع بنقدٍ أغلى ... [والصواب]: أنه إذا كان تصرف الوكيل فيه خيرٌ للموكل فينبغي أن ينفذ؛ لأن مطالبة الموكل بنقد البلد مع أن ما باع به أغلى: ما هو إلا إضرارٌ. (¬4) ظاهر كلام المؤلف: أنه ضامنٌ مطلقًا حتى وإن اجتهد وتصرف تصرفًا تاما لكن تبين أن السلع قد زادت وهو لا يعلم. والصحيح: أنه لا يضمن في هذه الحال؛ لأنه مجتهدٌ وحريصٌ. (¬5) لكن لو عين من يبيعها عليه، فقال: (بعها على فلانٍ بأربعين)، ثم باعها بخمسةٍ وأربعين؛ فهنا لا يصح.

فصلٌ وإن اشترى ما يعلم عيبه لزمه إن لم يرض موكله، فإن جهل رده. ووكيل البيع يسلمه، ولا يقبض الثمن بغير قرينةٍ (¬1)، ويسلم وكيل المشتري الثمن (¬2)، فلو أخره بلا عذرٍ وتلف ضمنه (¬3). وإن وكله في بيعٍ فاسدٍ فباع صحيحًا، أو وكله في كل قليلٍ وكثيرٍ (¬4)، أو شراء ما شاء (¬5)، أو عينًا بما شاء ولم يعين (¬6): لم يصح. والوكيل في الخصومة لا يقبض (¬7). ¬

_ (¬1) الذي عليه عمل الناس أن الوكيل وكيلٌ في البيع وقبض الثمن، وهذا هو القول الراجح. (¬2) وهل يقبض المبيع أم لا؟ المذهب: لا يقبضه إلا بإذنٍ أو قرينةٍ، والصحيح: أنه يستلمه مطلقًا. (¬3) الصواب أن يقال: إن أخر تسليم الثمن تأخيرًا يعد به مفرطًا فهو ضامنٌ، وإلا فلا. (¬4) أما لو عين النوع، وقال - مثلًا -: (اشتر لي أرزا قليلًا كان أو كثيرًا، ولو أتيت لي بكل ما في السوق)، فهنا الخطر قليلٌ؛ فالصحيح أنه جائزٌ؛ لأن الموكل أراد أن يشتري جميع ما في السوق لأجل أن يوزعه على الفقراء في وقت الحاجة. (¬5) أما لو عين النوع، وقال - مثلًا -: (أنا وكلتك لتشتري شاةً لوليمةٍ)، فيشمل الصغيرة والكبيرة والسمينة والهزيلة؛ فهذا الخطر فيه قليلٌ، ويتسامح فيه؛ لأنه مما جرت به العادة. (¬6) [قوله: (أو عينًا بما شاء ولم يعين)]: ... فيه نظرٌ ... والضابط في ذلك: أن كل ما دل عليه العرف أو القرينة مما يحتمله كلام الموكل وليس فيه محظورٌ شرعي فإنه صحيحٌ. (¬7) على القول الراجح: لا تخلو المسألة من ثلاث حالاتٍ: الأولى: أن يقول: (أنت وكيلي في الخصومة والقبض)؛ فهنا يملك الخصومة والقبض. الثانية: أن يقول: (أنت وكيلي في الخصومة لا في القبض)؛ فيكون وكيلًا في الخصومة ولا يقبض. الثالثة: أن يسكت؛ فالمؤلف يرى أنه لا يقبض. والراجح: أنه يرجع في ذلك إلى قرائن الأحوال، فإن دلت القرينة على أنه يقبض قبض، وإلا فلا. وإذا قلنا بهذا القول ولم يقبض صار مفرطًا، فيكون عليه الضمان.

والعكس بالعكس (¬1)، و (اقبض حقي من زيدٍ) لا يقبض من ورثته، إلا أن يقول: (الذي قبله). ولا يضمن وكيل الإيداع إذا لم يشهد (¬2). فصلٌ والوكيل أمينٌ؛ لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريطٍ (¬3)، ويقبل قوله في نفيه ¬

_ (¬1) [أي]: الوكيل في القبض له أن يخاصم ... وهذا الكلام الذي قاله المؤلف فيه نظرٌ؛ بل نقول: إذا وكله في القبض فإنه لا يملك الخصومة، إلا إذا قال: وإن احتجت إلى خصومةٍ فخاصم. (¬2) في كلامه نظرٌ، والصحيح: أنه يضمن، إلا في حالين: الأولى: إذا كان المودع شيئًا زهيدًا لم تجر العادة بالإشهاد عليه. الثانية: إذا كان المودع رجلًا مبرزًا في العدالة، وجرت العادة ألا يشهد عليه إذا أودع؛ لأنه أمينٌ عند الناس كلهم ... فالصواب أن يقال: إن الوكيل في الإيداع إذا لم يشهد: إن عد مفرطًا فهو ضامنٌ وإلا فلا. (¬3) ولا تعد، وإنما لم يذكر المؤلف التعدي لأنه إذا كان يضمن بالتفريط فضمانه بالتعدي من باب أولى، ولكن مع هذا: الأولى أن يذكر.

والهلاك مع يمينه (¬1). ومن ادعى وكالة زيدٍ في قبض حقه من عمرٍو لم يلزمه دفعه إن صدقه ولا اليمين إن كذبه، فإن دفعه فأنكر زيدٌ الوكالة حلف وضمنه عمرٌو، وإن كان المدفوع وديعةً أخذها، فإن تلفت ضمن أيهما شاء. ¬

_ (¬1) لكن لو أنه ادعاه بسببٍ ظاهرٍ، وقال: (الدكان احترق)، أو (الأمطار هطلت وهدمت البناء) - أو ما أشبه ذلك -؛ نقول: أقم بينةً على أنه حصل الحريق، أو أقم بينةً أنه حصل الهدم. فإذا ادعى الموكل أن المال لم يكن مع ما احترق؛ فالقول قول الوكيل؛ لأنه مؤتمنٌ.

باب الشركة

باب الشركة وهي اجتماعٌ في استحقاقٍ أو تصرفٍ. وهي أنواعٌ: فشركة عنانٍ: أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم ولو متفاوتًا ليعملا فيه ببدنيهما (¬1)، فينفذ تصرف كل منهما فيهما بحكم الملك في نصيبه وبالوكالة في نصيب شريكه. ويشترط: أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين (¬2) - ولو مغشوشين يسيرًا -، وأن يشترطا لكل منهما جزءًا من الربح مشاعًا معلومًا. ¬

_ (¬1) قوله: (ببدنيهما): بناءً على الغالب، وإلا فإنه يجوز أن يكون أحدهما شريكًا في المال، وببدن خادمه أو عمه أو ابن عمه - أو ما أشبه ذلك -. (¬2) القول الثاني في المسألة: أنه يصح أن يكون رأس المال من غير النقدين المضروبين، ولكن تقدر قيمته بالنقدين عند عقد الشركة؛ ليرجع كل واحدٍ منهما إلى قيمة ملكه عند فسخ الشركة، وهذا القول هو الراجح، وعليه العمل ... وظاهر [كلامه]: ولو كان أحدهما ذهبًا والآخر فضةً، وهذا مبني على أن سعر الفضة لا يتغير كما في الزمن السابق ... ، لكن في الوقت الحاضر وقبل هذا الوقت لا يستقيم هذا؛ لأن الذهب والفضة ليسا مستقرين؛ فقد ترتفع قيمة الذهب وقد ترتفع قيمة الفضة، وعلى هذا فلا يصح أن يأتي أحدهما بذهبٍ والآخر بفضةٍ، إلا على القول بأنه لا بأس أن يأتي أحدهما بعروضٍ وتقدر قيمتها عند انعقاد الشركة.

فإن لم يذكرا الربح، أو شرطا لأحدهما جزءًا مجهولًا، أو دراهم معلومةً، أو ربح أحد الثوبين: لم تصح. وكذا: مساقاةٌ، ومزارعةٌ، ومضاربةٌ. والوضيعة على قدر المال. ولا يشترط خلط المالين، ولا كونهما من جنسٍ واحدٍ (¬1). فصلٌ الثاني: المضاربة لمتجرٍ به ببعض ربحه. فإن قال: (والربح بيننا) فنصفان. وإن قال: (ولي أو لك ثلاثة أرباعه أو ثلثه) صح، والباقي للآخر. وإن اختلفا لمن المشروط: فلعاملٍ (¬2). وكذا: مساقاةٌ، ومزارعةٌ (¬3)، ومضاربةٌ. ¬

_ (¬1) يعني في النقدين ... ، ولكن هذا مبني على أن سعر الذهب والفضة لا يتفاوت ... وفي الوقت الحاضر: الدنانير (الذهب) غير مقدرٍ، فبناءً على ذلك: فإنه لا يصح أن يكون أحدهما دنانير والآخر دراهم، إلا على القول الذي أشرنا إليه فيما سبق أنه يجوز أن يكون رأس المال عرضًا ولكن يقدر بقيمته، فحينئذٍ يؤتى بالدنانير والدراهم، لكن تقدر الدنانير بدراهم. (¬2) الصحيح: أنه للعامل ما لم يدع خلاف العادة، فإن ادعى خلاف العادة فلا يقبل. (¬3) إذا اختلفا لمن المشروط في المساقاة والمزارعة؛ فللعامل - على المذهب -. وعلى الراجح: ينظر إلى القرائن فيعمل بها.

ولا يضارب بمالٍ لآخر إن أضر الأول ولم يرض (¬1)، فإن فعل رد حصته في الشركة (¬2). ولا يقسم مع بقاء العقد إلا باتفاقهما. وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف، أو خسر: جبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه (¬3). الثالث: شركة الوجوه: أن يشتريا في ذمتيهما بجاههما، فما ربحا فبينهما، وكل واحدٍ منهما وكيل صاحبه وكفيلٌ عنه بالثمن، والملك بينهما على ما شرطاه. والوضيعة على قدر ملكيهما، والربح على ما شرطاه. الرابع: شركة الأبدان: أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما، فما تقبله أحدهما من عملٍ يلزمهما فعله. ¬

_ (¬1) المؤلف لم يفصح تمامًا بالحكم، فهل هو مكروهٌ أو حرامٌ؟ ... والفقهاء صرحوا بأن ذلك حرامٌ، فيحرم أن يضارب بمالٍ لآخر بالشرطين المذكورين: أن يضره، وألا يرضى، فإن لم يضره فلا بأس، وإن رضي فلا بأس. (¬2) القول الراجح: أنه لا يضيف ربحه من المضاربة الثانية إلى ربح المضاربة الأولى؛ بل هو له، لكنه آثمٌ. (¬3) الصحيح: أنه إن كان التنضيض يعني فسخ الشركة، أو يعني المطالبة بالقسمة؛ فكما قال المؤلف. وأما إذا كان التنضيض (التصفية) من أجل أن يشتري بضاعةً أخرى ... ؛ فهنا لا نقول: إن التنضيض يعتبر كالقسمة؛ لأن العامل ورب المال كليهما يعتقدان أن هذا ليس فسخًا ولا قسمةً.

وتصح في: الاحتشاش، والاحتطاب، وسائر المباحات. وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما (¬1)، وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه. الخامس: شركة المفاوضة: أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرفٍ مالي وبدني من أنواع الشركة. والربح على ما شرطاه، والوضيعة بقدر المال. فإن أدخلا فيها كسبًا، أو غرامةً نادرين (¬2)، أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصبٍ - أو نحوه -: فسدت. ¬

_ (¬1) لو ترك العمل لغير عذرٍ؛ مثل إنسانٍ لا يهتم ولا يعمل، بدون عذرٍ؛ فالمذهب الكسب بينهما؛ لأنه يمكن للشريك أن يطالب شريكه بمن يقوم مقامه. ولكن في هذا نظرٌ، والصواب: أن ما كسبه صاحبه في اليوم له، يختص به؛ لأن هذا ترك العمل بغير عذرٍ، والآخر انفرد بالكسب. (¬2) إذا قال الكاسب الذي كسب النادر - سواءٌ بفعله أو بغير فعله -: (أنا أدخله في الشركة وأجعله تبرعًا مني لصاحبي) فيجوز، لكن أن تجعله في ضمن العقد فلا يجوز، فإذا قال: (أنا راضٍ أن أجعله في ضمن العقد)، قلنا: ربما ترضى اليوم ولكن إذا جاءت الدراهم لن ترضى وتندم، لهذا نقول: إن الشركة تكون فاسدةً إذا أدخل فيها كسبًا نادرًا، ولو قيل بفساد الشرط لا العقد لكان له وجهٌ.

باب المساقاة

باب المساقاة تصح على شجرٍ له ثمرٌ يؤكل (¬1)، وعلى ثمرةٍ موجودةٍ، وعلى شجرٍ يغرسه ويعمل عليه حتى يثمر بجزءٍ من الثمرة (¬2)، ويشترط أن يكون الجزء معلومًا مشاعًا. وهي عقدٌ جائزٌ، فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة فللعامل الأجرة (¬3)، وإن فسخها هو فلا شيء له (¬4). ويلزم العامل: كل ما فيه صلاح الثمرة من حرثٍ وسقيٍ وزبارٍ وتلقيحٍ وتشميسٍ وإصلاح موضعه وطرق الماء وحصادٍ - ونحوه -. ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: إنه يجوز على شجرٍ لا ثمر له إذا كانت أغصانه ينتفع بها ... ، وهذا القول هو الصحيح. (¬2) هناك صورةٌ رابعةٌ: وهي لو ساقاه على الشجر بكل الثمرة، فقال: (لك كل الثمرة)؛ فالمذهب أن هذا لا يجوز، والصحيح أنه جائزٌ بلا شك؛ لأنه إذا جازت المساقاة بجزءٍ من الثمرة جازت بكل الثمرة؛ لأن ذلك أحظ للعامل. (¬3) لو قيل بأنه يعطى بالقسط من السهم الذي شرط له؛ لكان قولًا له وجهٌ. (¬4) القول الثاني في هذه المسألة: أن المساقاة عقدٌ لازمٌ كالإجارة. وبناءً على هذا القول: يتعين تعيين المدة ... ؛ لأن العقد اللازم لا بد أن يحدد حتى لا يكون لازمًا مدى الدهر ... ، ولا يمكن لأحدٍ منهما فسخها ما دامت المدة باقيةً، فإن تعذر العمل عليه لمرضٍ أو غيره أقيم من يقوم بالعمل على نفقة العامل، وله السهم المتفق عليه، وهذا هو الصحيح.

وعلى رب المال: ما يصلحه؛ كسد حائطٍ وإجراء الأنهار والدولاب - ونحوه -. فصلٌ وتصح المزارعة بجزءٍ معلوم النسبة مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل والباقي للآخر. ولا يشترط كون البذر والغراس من رب الأرض، وعليه عمل الناس.

باب الإجارة

باب الإجارة تصح بثلاثة شروطٍ: معرفة المنفعة؛ كسكنى دارٍ، وخدمة آدمي، وتعليم علمٍ (¬1). الثاني: معرفة الأجرة. وتصح في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما (¬2). وإن دخل حمامًا، أو سفينةً، أو أعطى ثوبه قصارًا أو خياطًا بلا عقدٍ: صح بأجرة العادة. ¬

_ (¬1) يجب أن نقيد العلم هنا بما ليس بمحرمٍ ... ؛ فلو استأجره ليعلمه علماً محرماً كعلم النجوم - وأقصد بذلك: علم التأثير لا علم التسيير -؛ فهنا الأجرة حرامٌ. [أما الاستئجار لتعليم القرآن]؛ فهو أيضًا حرامٌ - على المذهب -، والراجح أنه ليس بحرامٍ، وأنه يجوز ... نعم، نجيزه وهو قربةٌ؛ لأن إجازتنا إياه من أجل انتفاع المستأجر، ولهذا لو أننا استأجرنا شخصًا ليقرأ القرآن فقط لكانت الإجارة حرامًا، أما التعليم فلا. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا تصح في المركوب بطعامه وشرابه وما يلزم لبقاء حياته؛ لأنه خص هذه المسألة في الآدمي وفي الظئر - أيضًا -. والصواب: أنه يجوز أن يستأجر حيوانًا بالقيام عليه بالتغذية من طعامٍ وشرابٍ ووقايةٍ من البرد والحر؛ لأنه لا فرق بينه وبين الأجير.

الثالث: الإباحة في العين؛ فلا تصح على نفعٍ محرمٍ؛ كالزنا، والزمر، والغناء (¬1)، وجعل داره كنيسةً، أو لبيع الخمر. وتصح إجارة حائطٍ لوضع أطراف خشبه عليه. ولا تؤجر المرأة نفسها بغير إذن زوجها. فصلٌ ويشترط في العين المؤجرة: - معرفتها برؤيةٍ أو صفةٍ في غير الدار - ونحوها - (¬2). - وأن يعقد على نفعها دون أجزائها؛ فلا تصح إجارة الطعام للأكل، ولا الشمع ليشعله (¬3)، ولا حيوانٍ ليأخذ لبنه إلا في الظئر (¬4)، ونقع البئر وماء الأرض يدخلان ¬

_ (¬1) المراد - هنا -: الغناء المحرم، وهو يدور على شيئين: إما أن يكون موضوع الأغنية موضوعًا فاسدًا، وإما أن تكون مصحوبةً بآلة لهوٍ محرمةٍ ... أما الغناء المباح؛ فمثل حداء الإبل، أو الغناء على الأعمال المباحة يستعان به على التعب ... ؛ فالعمل الذي يستعان به على مصلحةٍ شرعيةٍ أو غرضٍ صحيحٍ لا بأس به. (¬2) هناك قولٌ ثانٍ، وهو أنه ... يجوز أن تؤجر الدار بالصفة؛ بأن يصفها له تمامًا ولو على الخارطة، وله الخيار إذا رآها. (¬3) اختار شيخ الإسلام - رحمه الله - أن ذلك جائزٌ، ولكن كلام الشيخ - رحمه الله - يحتاج إلى تحريرٍ. والتحرير أن نقول: إما أن يقدر بمساحة الشمعة، فيقول - مثلًا -: (مساحتها شبرٌ بعشرة ريالاتٍ، وما نقص من الشبر فبقدره)، هذه تكون معلومةً، أو يقدرها بالساعة ... ، فهذا - أيضًا - يكون معلومًا. (¬4) استئجار الحيوان لأخذ لبنه جائزٌ بالقياس على الظئر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وهو الصواب.

تبعًا (¬1). - والقدرة على التسليم؛ فلا تصح إجارة الآبق، والشارد. - واشتمال العين على المنفعة؛ فلا تصح إجارة بهيمةٍ زمنةٍ لحملٍ، ولا أرضٍ لا تنبت للزرع. - وأن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذونًا له فيها. وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه، لا بأكثر منه ضررًا. وتصح إجارة الوقف، فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ (¬2)، ¬

_ (¬1) [نعم، هذا جائزٌ، لكن لا يقال: (يدخلان تبعًا)]؛ فهذا غير صحيحٍ؛ لأن المقصود هو الماء ... والصواب الذي يظهر: هو ما اختاره شيخ الإسلام - رحمه الله -؛ حيث قال: إن الأجزاء التي تتولد وتتابع شيئًا فشيئًا بمنزلة المنافع تمامًا، ولهذا اختار - رحمه الله - أنه يجوز استئجار الحيوان لأخذ لبنه، واستئجار البئر لأخذ مائها، واستئجار الأرض لأخذ مائها ... ، فالقول الراجح: هو ما اختاره شيخ الإسلام - رحمه الله - في هذه المسألة. (¬2) المذهب، واختيار شيخ الإسلام: أنها تنفسخ. وعمل الناس الآن عندنا أنها لا تنفسخ، لكن ... إذا قلنا بأنها لا تنفسخ - كما هو عمل القضاة وعمل الناس اليوم - ... ؛ فلا يجوز للبطن المستحقين أن يؤجروا مدةً يغلب على الظن أنهم لا يعيشون إليها ... وللقاضي أن يؤجر مدةً طويلةً إن رأى المصلحة في تأجيرها ... ، وإلا أجر في نحو سنتين أو ثلاثٍ؛ حتى لا يحرم أصحاب البطون الأخرى.

وللثاني حصته من الأجرة (¬1). وإن أجر الدار - ونحوها - مدةً ولو طويلةً يغلب على الظن بقاء العين فيها: صح. وإن استأجرها لعملٍ - كدابةٍ لركوبٍ إلى موضعٍ معينٍ، أو بقرٍ لحرثٍ، أو دياس زرعٍ، أو من يدله على طريقٍ -: اشترط معرفة ذلك، وضبطه بما لا يختلف. ولا تصح على عملٍ يختص أن يكون فاعله من أهل القربة (¬2). وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع؛ كزمام الجمل، ورحله، وحزامه، والشد عليه، وشد الأحمال، والمحامل، والرفع، والحط، ولزوم البعير (¬3)، ومفاتيح الدار، وعمارتها. فأما تفريغ البالوعة والكنيف: فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغةً (¬4). ¬

_ (¬1) لكن يجب علينا أن نعرف الفرق في قيمة المنفعة؛ فقد تكون في بعض السنوات أكثر من بعضٍ، ولكن يقال: إن كل منفعةٍ قد قبضها أصحابها ... ، فإذا حددوا فواضحٌ ... ، وإن لم يحددوا فربما ينظر في الموضوع ويعتبر فرق السعر بين الأول والثاني. (¬2) القاعدة: أن كل عملٍ لا يقع إلا قربةً فلا يصح عقد الإجارة عليه، وما كان نفعه متعديًا من القرب صح عقد الإجارة عليه؛ بشرط أن يكون العاقد لا يريد التعبد لله - تعالى - بهذه القربة، وإنما يريد نفع الغير الذي استأجره لاستيفاء هذه المنفعة. (¬3) إذا كان الجمال مع الجمال فإنه يلزمه ما قاله المؤلف، أما إذا أجر الدابة فقط فلا يلزمه شيءٌ من ذلك. (¬4) في الوقت الحاضر ليس هناك بالوعةٌ ولا كنيفٌ في أكثر البلاد، فيقال: على المؤجر إصلاح المواسير - أي: المجاري -؛ لأن هذا يبقى، لكن لو تسددت هذه المجاري فإنها على المستأجر؛ لأنها تسددت بفعله. وكل هذا الذي قاله الفقهاء - رحمهم الله - يمكن أن يقال: إنه يرجع إلى العرف فيما جرت العادة أنه على المستأجر أو على المؤجر، فإن تنازع الناس فربما نرجع إلى كلام الفقهاء، وأما بدون تنازعٍ وكون العرف مطردًا بأن هذا على المؤجر وهذا على المستأجر؛ فالواجب الرجوع إلى العرف.

فصلٌ وهي عقدٌ لازمٌ، فإن آجره شيئًا ومنعه كل المدة أو بعضها فلا شيء له (¬1)، وإن بدأ الآخر قبل انقضائها: فعليه. وتنفسخ: بتلف العين المؤجرة، وبموت الرضيع، والراكب إن لم يخلف بدلًا، وانقلاع ضرسٍ أو برئه - ونحوه -، لا: بموت المتعاقدين أو أحدهما، ولا بضياع نفقة المستأجر (¬2) - ونحوه -. ¬

_ (¬1) ظاهر كلام [المؤلف] أنه لا فرق بين أن يمنعه بعض المدة لعذرٍ أو لغير عذرٍ؛ لأن حقوق الآدميين لا يفرق فيها بين العذر وغيره. وقد يقال: إنه إذا كان لعذرٍ فإنه يلزم المستأجر أجرة بقية المدة. (¬2) [أما ضياع نفقة المستأجر]؛ فاختار شيخ الإسلام - رحمه الله - أنها تنفسخ؛ لأن هذا عذرٌ لا حيلة فيه ... ، وقاسه - رحمه الله - على وضع الجوائح ... وما ذهب إليه الشيخ - رحمه الله - أولى؛ لا سيما إذا كان المؤجر [مثلًا] يعلم أن هذا إنما استأجر البيت لبيع هذا المتاع الذي احترق، أما إذا كان لا يدري؛ مثل: لو جاءه إنسانٌ واستأجر منه الدكان ولم يقل له شيئًا؛ فهنا قد يتوجه ما قاله المؤلف - رحمه الله - بأن الإجارة تنفسخ؛ لأن المؤجر لا يعلم.

وإن اكترى دارًا فانهدمت، أو أرضًا لزرعٍ فانقطع ماؤها، أو غرقت: انفسخت الإجارة في الباقي (¬1). وإن وجد العين معيبةً، أو حدث بها عيبٌ: فله الفسخ، وعليه أجرة ما مضى (¬2). ولا يضمن أجيرٌ خاص ما جنت يده خطًا، ولا حجامٌ وطبيبٌ وبيطارٌ لم تجن أيديهم إن عرف حذقهم (¬3)، ولا راعٍ لم يتعد. ويضمن المشترك ما تلف بفعله، ولا يضمن ما تلف من حرزه، أو بغير فعله، ولا أجرة له (¬4). ¬

_ (¬1) إن قال قائلٌ: ألا يؤيد هذا ما سبق - وقلنا: إنه الصحيح - فيما إذا استأجر دكانًا لبيع سلعةٍ ثم تلفت فإن الإجارة تنفسخ؟ الجواب: إن هذا يؤيد ذلك من بعض الوجوه، ولكن الفرق: أن هذا لخللٍ في المعقود عليه لا في المعقود له؛ ففي المسألة الأولى تعذر الانتفاع في المعقود له، وهنا تعذر الانتفاع في المعقود عليه - وهو الأرض والدار -. ومع ذلك فقد نقول: إن هذا الفرق غير مؤثرٍ؛ لأن الانتفاع قد تعذر في هذا وفي هذا بغير إرادة الإنسان. (¬2) هذا فيما إذا كان المؤجر غير مدلسٍ، فإن كان مدلسًا فإنه - على الصحيح - ليس له شيءٌ من الأجرة. (¬3) وهناك شرطٌ ثالثٌ لعدم ضمان [الحجام والطبيب والبيطار] لم يذكره المؤلف، وهو: أن يكون عملهم بإذن مكلفٍ؛ أي: بالغٍ عاقلٍ، أو ولي غير مكلفٍ؛ فلو أن صبيا ذهب إلى ختانٍ، وقال له: (اختني)، فختنه ختانًا طبيعيا، ولكن الصبي مات لتعفن الجرح؛ فهنا يضمن. (¬4) الصحيح: أن له الأجرة؛ لأنه وفى بما استؤجر عليه، وما دام لا يضمن لك الثوب فإنه لا يضمن لك العمل في الثوب؛ لأننا إذا قلنا: ليس له أجرةٌ؛ فمعناه أننا ضمناه العمل في الثوب وذهب عليه خسارةً، ولأنه غير متعد ولا مفرطٍ، وقد قام بالعمل الذي عليه، وتلف الثوب - مثلًا - على حساب صاحبه المالك، أما الأجير فقد أدى ما عليه، فكيف نقول: لا أجرة له؟!

وتجب الأجرة بالعقد إن لم تؤجل، وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة. ومن تسلم عينًا بإجارةٍ فاسدةٍ وفرغت المدة: لزمه أجرة المثل (¬1). ¬

_ (¬1) لكن إن كان مغرورًا؛ فما زاد على الأجرة التي تم العقد عليها فعلى من غره.

باب السبق

باب السبق يصح: على الأقدام، وسائر الحيوانات (¬1)، والسفن، والمزاريق. ولا تصح بعوضٍ إلا في: إبلٍ، وخيلٍ، وسهامٍ (¬2). ولا بد من تعيين المركوبين (¬3)، واتحادهما، والرماة، والمسافة بقدرٍ معتادٍ (¬4). وهي جعالةٌ، لكل واحدٍ فسخها (¬5). ¬

_ (¬1) إن كان في ذلك أذيةٌ ... ؛ فهذا حرامٌ ولا يجوز ... ، فكل ما فيه أذيةٌ للحيوان فإن المسابقة فيه محرمةٌ. (¬2) لما فيها من المصلحة العامة من الجهاد في سبيل الله ... ويقاس عليها ما يشبهها من آلات الحرب الحاضرة؛ فالدبابات ونحوها تشبه الإبل، والصواريخ وشبهها تشبه السهام، والطائرات وشبهها تشبه الخيل؛ فهذا القسم يجوز بعوضٍ وبدونه ... ولا يشترط أن يوجد محللٌ. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا يشترط تعيين الراكبين؛ لأنه قال: (المركوبين)، والصحيح: أنه شرطٌ، وهو مذهب الشافعي. (¬4) هذه الشروط التي ذكرت هي لجواز أخذ العوض في المسابقة، أما إذا لم يكن عوضٌ فالأمر واسعٌ. (¬5) يشترط لذلك أن لا يظهر الفضل لأحدهما، فإن ظهر الفضل لأحدهما فإنه يمتنع على صاحبه أن يفسخ؛ لئلا يؤدي إلى التلاعب؛ [بمعنى: أنه] إذا فسخ [الغالب] فلا بأس، وإن فسخ المغلوب فليس له ذلك إلا إذا رضي صاحبه.

وتصح المناضلة على معينين (¬1) يحسنون الرمي. ¬

_ (¬1) قوله: (معينين): يدل على اشتراط أن يكونوا ثلاثةً فأكثر ... ؛ لأنه - على المذهب -: لا بد من اثنين وثالثٍ محللٍ، وأما على القول الراجح فيصح أن تكون المناضلة بين اثنين.

باب العارية

باب العارية وهي: إباحة نفع عينٍ تبقى بعد استيفائه. وتباح إعارة كل ذي نفعٍ مباحٍ؛ إلا: البضع، وعبدًا مسلمًا لكافرٍ، وصيدًا - ونحوه - لمحرمٍ، وأمةً شابةً لغير امرأةٍ أو محرمٍ (¬1). ولا أجرة لمن أعار حائطًا حتى يسقط (¬2)، ولا يرد إن سقط إلا بإذنه. وتضمن العارية (¬3) بقيمتها (¬4) يوم تلفت، ولو شرط نفي ضمانها (¬5)، وعليه ¬

_ (¬1) الصواب في هذه المسألة: أنه لا تجوز إعارة أمةٍ لرجلٍ غير محرمٍ مطلقًا؛ حتى لو كانت عجوزًا لشيخٍ كبيرٍ. (¬2) هذا الكلام من المؤلف مقيدٌ بما إذا لم يجب تمكين الجار من وضع الخشب على الجدار، فإن وجب تمكين الجار من وضع الخشب على الجدار فإنه ليس له حق في طلب الأجرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعن جارٌ جاره أن يغرز خشبه - أو قال: خشبةً - على جداره». (¬3) أفادنا المؤلف أن العارية مضمونةٌ بكل حالٍ؛ لقوله: (وتضمن) ولم يفصل. وقال بعض العلماء: إن العارية لا تضمن إلا بواحدٍ من أمورٍ ثلاثةٍ: الأول: أن يتعدى، الثاني: أن يفرط، الثالث: أن يشترط الضمان ... ، وهو الصحيح، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (¬4) التعبير - هنا - (بقيمتها) فيه قصورٌ، وكان الواجب أن يقول: (وتضمن العارية ببدلها يوم تلفت)؛ لأنه إذا قال: (ببدلها)؛ فالبدل: يشمل القيمة والمثل. والقاعدة عندنا في ضمان المتلفات: (أن المثلي يضمن بمثله، والمتقوم يضمن بقيمته). (¬5) الصواب: أنه وإن لم يشترط أن لا ضمان عليه إذا تلفت بلا تعد ولا تفريطٍ؛ فلا ضمان على المستعير؛ لأنه قبضها من صاحبه بإذنه؛ فيده يد أمانةٍ.

مؤونة ردها، لا المؤجرة. ولا يعيرها (¬1)، فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها، وعلى معيرها أجرتها، ويضمن أيهما شاء. وإن أركب منقطعًا للثواب: لم يضمن. وإذا قال: (أجرتك)، قال: (بل أعرتني)، أو بالعكس عقب العقد: قبل قول مدعي الإعارة (¬2)، وبعد مضي مدةٍ: قول المالك (¬3) بأجرة المثل (¬4). وإن قال: (أعرتني) أو قال: (أجرتني)، قال: (بل غصبتني)، أو قال: (أعرتك)، قال: (بل أجرتني والبهيمة تالفةٌ)، أو اختلفا في رد: فقول المالك (¬5). ¬

_ (¬1) لكن إذا علم أن المالك يأذن ... ؛ فله أن يفعل، وكل إنسانٍ يعلم من صاحبه الرضا بتصرفه، فلا حرج عليه أن يتصرف. (¬2) [لكن] مع يمينه. (¬3) مع يمينه. (¬4) يقبل [قول المالك] بالنسبة للمدة الماضية، ولا يقبل بالنسبة للمدة المستقبلة. (¬5) كل كلام المؤلف في هذه الخلافات فيما إذا لم يكن هناك بينةٌ، أما إذا كان هناك بينةٌ فالبينة قاضيةٌ على كل شيءٍ.

باب الغصب

باب الغصب وهو الاستيلاء على حق غيره قهرًا بغير حق - من عقارٍ ومنقولٍ -. وإن غصب كلبًا يقتنى، أو خمر ذمي: ردهما، ولا يرد جلد ميتةٍ (¬1). وإتلاف الثلاثة هدرٌ (¬2). وإن استولى على حر لم يضمنه، وإن استعمله كرهًا أو حبسه (¬3) فعليه أجرته. ويلزم: رد المغصوب بزيادته - وإن غرم أضعافه (¬4) -. ¬

_ (¬1) القول الراجح في هذه المسألة: أنه يجب عليه أن يرد جلد الميتة؛ وذلك لإمكان معالجته حتى يصبح طاهرًا. (¬2) بالنسبة للكلب والخمر: الأمر فيهما واضحٌ؛ فليس لهما قيمةٌ شرعًا، أما بالنسبة لجلد الميتة إن كان قد دبغ فإن بيعه يجوز، وحينئذٍ يضمنه متلفه بالقيمة أو بالمثل إن كان له مثلٌ؛ لأنه إذا دبغ صار طاهرًا، فيجوز الانتفاع به في كل شيءٍ، أما قبل الدبغ فمحل نظرٍ؛ قد نقول: إنه يضمنه لأنه إذا كان يمكن تطهيره فهو كالثوب النجس، والثوب النجس يجوز بيعه، وقد نقول: إنه لا يضمنه؛ لأنه إلى الآن ليس مما يباح استعماله، وصاحبه قد يدبغه وقد لا يدبغه، فيرجع في هذا إلى نظر القاضي. (¬3) ظاهر كلامه - رحمه الله - أن عليه أجرته مطلقًا حتى وإن حبسه في وقتٍ لا ينتفع به ... والصواب: أن يقيد بما إذا كان هذا الرجل يعمل، أو في وقتٍ ينتفع به. (¬4) قوله: (وإن غرم أضعافه): ... قال بعض أهل العلم: إذا كان الضرر كثيرًا وليس لصاحبه غرضٌ صحيحٌ بعينه فإنه يعطى مثله أو قيمته؛ خصوصًا إذا علمنا أن قصد المالك المضارة بالغاصب. وهذا القول له وجهٌ ... ، لكن لو كان هذا التضمين سبيلًا لتقليل الغصب والعدوان على الناس فالقول بالمذهب أقوى ... ، وهذا هو الراجح.

وإن بنى في الأرض أو غرس: لزمه القلع (¬1)، وأرش نقصها، وتسويتها، والأجرة (¬2). ولو غصب جارحًا، أو عبدًا، أو فرسًا (¬3)، فحصل بذلك صيدًا: فلمالكه. وإن ضرب المصوغ، ونسج الغزل، وقصر الثوب أو صبغه (¬4)، ونجر الخشب - ونحوه -، أو صار الحب زرعًا، أو البيضة فرخًا، والنوى غرسًا: رده وأرش نقصه، ولا شيء للغاصب، ويلزمه ضمان نقصه، وإن خصى الرقيق رده مع قيمته (¬5). ¬

_ (¬1) ليس على إطلاقه؛ بل نقيده بما إذا لم يتبين أن المقصود به المضارة، فإن تبين ذلك فإنه يمنع؛ فلا ضرر ولا ضرار. (¬2) [إذا حصلت الأجرة ببناء الغاصب وبأرض المالك] ... ؛ فهنا لو قال قائلٌ: (بأن لكل من الغاصب والمالك قسطه من الأجرة) لكان جيدًا. (¬3) الراجح في مسألة الفرس: أن الصيد للغاصب؛ لأنه هو الذي باشر الصيد، لكن عليه أجرة الفرس، وربما تكون أجرة الفرس أكثر من قيمة الصيد. (¬4) ينبغي أن يقال [هنا]: للغاصب قيمة صبغه، لكن لو نقص الثوب بالصبغ بأن حوله إلى صبغٍ تنقص به القيمة فعلى الغاصب ضمان النقص. (¬5) قال بعض أهل العلم: إن الجناية على العبد تقوم بما نقص، وبناءً على هذا الرأي نقول: ما دام العبد زاد بالخصاء فإن الغاصب لا يضمن شيئًا. وسيأتي - إن شاء الله - في القصاص أن القول الراجح أن الجناية على العبد كالجناية على البهيمة؛ تقدر بما نقص.

وما نقص بسعرٍ لم يضمن (¬1)، ولا بمرضٍ عاد ببرئه، وإن عاد بتعليم صنعةٍ ضمن النقص. وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي أو هزل فنقصت: ضمن الزيادة كما لو عادت من غير جنس الأول، ومن جنسها: لا يضمن إلا أكثرهما. فصلٌ وإن خلط بما لا يتميز - كزيتٍ أو حنطةٍ بمثلهما - (¬2)، أو صبغ الثوب، أو لت سويقًا بدهنٍ - أو عكسه -، ولم تنقص القيمة ولم تزد: فهما شريكان بقدر ماليهما فيه، وإن نقصت القيمة: ضمنها، وإن زادت قيمة أحدهما: فلصاحبه. ولا يجبر من أبى قلع الصبغ، ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض: رجع على بائعها بالغرامة (¬3). وإن أطعمه لعالمٍ بغصبه: فالضمان عليه، وعكسه بعكسه. وإن أطعمه لمالكه، أو رهنه، أو أودعه، أو آجره إياه: لم يبرأ إلا أن يعلم، ويبرأ بإعارته (¬4). ¬

_ (¬1) القول الصحيح: أنه إذا نقص السعر فإن الغاصب يضمن النقص. (¬2) المذهب: يلزمه مثل المغصوب من غير المشترك، فيقال: (اشتر مثل الذي غصبت) ... وما ذهب إليه الأصحاب أقرب إلى الصواب مما ذهب إليه المؤلف. (¬3) ولو علم المشتري أن الأرض مغصوبةٌ ... ؛ لا يرجع؛ لأنه دخل على بصيرةٍ. (¬4) هذا مبني على أن المستعير ضامنٌ بكل حالٍ؛ سواءٌ فرط أو تعدى، أو لم يتعد ولم يفرط. وقد سبق أن القول الراجح أن المستعير كغيره ممن يكون المال تحت يده بإذنٍ من المالك أو إذنٍ من الشارع، وأن يد المستعير يد أمانةٍ، وعلى هذا: لو تلف تحت يد مالكه في إعارةٍ فالضمان على الغاصب، إلا أن يعلم المالك أنه ملكه فيبرأ به، فإن تعدى أو فرط ضمن وإلا فلا.

وما تلف أو تغيب من مغصوبٍ مثلي: غرم مثله إذن، وإلا فقيمته يوم تعذر (¬1)، ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه، وإن تخمر عصيرٌ فالمثل، فإن انقلب خلا دفعه ومعه نقص قيمته عصيرًا. فصلٌ وتصرفات الغاصب الحكمية باطلةٌ (¬2). والقول في قيمة التالف أو قدره أو صفته: قوله (¬3)، وفي رده وعدم عيبه: قول ربه. وإن جهل ربه: تصدق به عنه مضمونًا. ومن أتلف محترمًا، أو فتح قفصًا، أو بابًا، أو حل وكاءً أو رباطًا أو قيدًا، فذهب ما فيه، أو أتلف شيئًا - ونحوه -: ضمنه. ¬

_ (¬1) ولو قيل: إن عليه الضمان بالقيمة وقت الاستيفاء منه لكان له وجهٌ. (¬2) تصرفات الغاصب صحيحةٌ، أما إن أجازها المالك فهذا أمرٌ واضحٌ مثل الشمس، وأما إذا لم يجزها؛ فالصحيح - أيضًا - صحتها، لكن إذا كان عين مال المالك باقيًا؛ فله أن يسترده ويقول: هذا عين مالي أريده، وأنت أيها المشتري اذهب إلى الغاصب. (¬3) لكن كل من قلنا: القول قوله - وهو يتعلق بحقوق الآدميين - فإنه لا بد من اليمين.

وإن ربط (¬1) دابةً بطريقٍ ضيقٍ فعثر به إنسانٌ: ضمن (¬2)؛ كالكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه، أو عقره خارج منزله. وما أتلفت البهيمة من الزرع (¬3) ليلًا ضمنه صاحبها، وعكسه النهار؛ إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادةً. ¬

_ (¬1) ظاهر كلامه - رحمه الله -: أنه لو أوقفها بلا ربطٍ فلا ضمان عليه ... ، ولكن في هذا الظاهر نظرٌ، والصواب: أن إيقافها كربطها. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنه لو ربطها بطريقٍ واسعٍ فلا ضمان عليه، وهذا متجهٌ إذا لم يربطها في طريق المارة، فإن ربطها في طريق المارة فهو كما لو ربطها في طريقٍ ضيقٍ؛ [أي] عليه الضمان. (¬3) يفهم منه أن غير الزرع ليس هذا حكمه؛ فثمر النخل والتين والبرتقال - وغيرها - ... ، وكذلك الأطعمة من حبوبٍ وغيرها ليس هذا حكمها؛ لأن المؤلف خصه بالزرع ... وهذه المسألة فيها ... أقوالٌ؛ [منها]: أن جميع ما أتلفت من زرعٍ وثمارٍ وأموالٍ: حكمها حكم ما أتلفت من الزرع، وهذا هو المذهب ... وهذا القول أصح ... والمذهب - أيضًا -: التفريق بين المفرط في حفظ البهيمة وغير المفرط؛ يعني: أن الإنسان في الليل إذا حفظ البهيمة إما برباطٍ أو قيدٍ أو شبكٍ أو سورٍ، ثم انطلقت مع تمام التحفظ فإنه لا ضمان على صاحبها؛ لأن الرجل لم يفرط، والعادة جرت أن الناس يحفظون مواشيهم ثم ينامون، فإذا انطلقت بأن عضت القيد حتى انقطع - مثلًا - أو تسورت الجدار الذي لا تتسور مثله البهائم فلا ضمان. وهذا في الحقيقة قد يقال: إنه قولٌ لا بأس به؛ لأن الإنسان لم يفرط ولم يتعد.

وإن كانت بيد راكبٍ أو قائدٍ أو سائقٍ: ضمن جنايتها بمقدمها لا بمؤخرها (¬1)، وباقي جنايتها هدرٌ (¬2)؛ كقتل الصائل عليه (¬3)، وكسر مزمارٍ (¬4)، وصليبٍ (¬5)، ¬

_ (¬1) هذا [الكلام] في النفس منه شيءٌ؛ لأن البعير إذا رأت طعامًا؛ تنقض عليه انقضاض الطير على اللحم وتأكل هذا الطعام، فهل نقول في هذه الحال: على صاحبها الضمان؟ ظاهر كلام المؤلف: أن عليه الضمان، ولكن في النفس من هذا شيءٌ؛ لأن صاحبها في هذه الحال لا يتمكن منها. فلهذا ينبغي أن يقال: إذا كانت بيد راكبٍ أو قائدٍ أو سائقٍ وأتلفت شيئًا بناءً على تفريطه أو تعديه فعليه الضمان، وأما إذا كان بغير تعد ولا تفريطٍ فلدينا قاعدةٌ أسسها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: «العجماء جبارٌ». فينبغي أن نجعل مناط الحكم في هذا - أي فيما يتعلق بالبهائم من الجنايات - هو التعدي أو التفريط، فإذا كان متعديًا أو مفرطًا فعليه الضمان وإلا فلا. (¬2) [أي]: كل جنايتها هدرٌ ما عدا ما استثني، وما استثني - كما تبين - مبني على التعدي أو التفريط، فإن لم يكن تعد ولا تفريطٌ فلا ضمان على صاحبها. (¬3) لكن يجب أن يدافعه بالأسهل فالأسهل، فإذا اندفع بالتهديد فلا يضربه، وإذا اندفع بالضرب الخفيف فلا يضربه ضربًا شديدًا، وإذا اندفع بالضرب الشديد فلا يقتله، وإذا لم يندفع إلا بالقتل فله قتله. (¬4) لكن إتلافه يضمن؛ لأن إتلافه غير كسره؛ لأن كسره يمنع من استعماله في المحرم، ولكن تبقى مادة هذا المزمار ينتفع بها في إيقاد نارٍ إذا كان من خشبٍ أو صنع قدورٍ وأوانٍ إذا كان من حديدٍ. (¬5) لكن لو أتلفه ضمن. وهل يضمنه بقيمته صليبًا أو بقيمته مكسرًا؟ يضمنه بقيمته مكسرًا؛ لأنه ليس له قيمةٌ شرعًا.

وآنية ذهبٍ وفضةٍ (¬1)، وآنية خمرٍ غير محترمةٍ (¬2). ¬

_ (¬1) [هذا القول] بناءً على أن آنية الذهب والفضة يحرم استعمالها واتخاذها. وهذه المسألة فيها خلافٌ، وظاهر السنة: أن المحرم الأكل والشرب بها فقط دون بقية الاستعمالات ودون اتخاذها زينةً ... [ولهذا] لا يجوز كسر آنية الذهب والفضة إلا لمن يستعملها في الأكل والشرب؛ لأن الأصل في جواز كسر آنية الذهب والفضة وعدم ضمانها بالإتلاف أنها محرمة الاستعمال. وعلى القول بجواز اتخاذها فإنه يضمنها إذا كسرها؛ لأنه حال بين صاحبها وبين أمرٍ مباحٍ له. (¬2) قال بعض العلماء: إنه إذا كسر آنية خمرٍ فهو ضامنٌ؛ لأن الآنية محترمةٌ، ويمكن إتلاف الخمر دون إتلافها، إلا إذا لم يمكن إتلاف الخمر إلا بإتلافها ... ، وهذا هو الصحيح؛ لأن الأصل في مال المسلم أنه محترمٌ ... [أما] قول المؤلف: (غير محترمةٍ)؛ فهذه صفةٌ ل-: (خمرٍ) وليست صفةً ل-: (آنية) ...

باب الشفعة

باب الشفعة وهي: استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه (¬1) بعوضٍ مالي (¬2) بثمنه الذي استقر عليه العقد. فإن انتقل بغير عوضٍ (¬3)، أو كان عوضه صداقًا أو خلعًا (¬4)، أو صلحًا عن دم ¬

_ (¬1) في هذا التعريف نظرٌ؛ لأن الشفعة - حقيقةً - انتزاع الحصة، وليس استحقاقًا؛ لأن هذا المستحق لو لم ينتزع لم تثبت الشفعة، لكن لا يستحق الانتزاع إلا بشروطٍ. فالصواب أن يقال في التعريف: (الشفعة: انتزاع حصة الشريك ممن انتقلت إليه ... إلى آخره) دون أن يقال: (استحقاق). (¬2) إذا انتقل بغير عوضٍ على وجهٍ اختياري - كالهبة -؛ فظاهر كلام المؤلف - بحسب المفهوم - أنه لا شفعة ... ، والصحيح أن فيها الشفعة ... والذي نرى: أنه كلما خرج الشقص بالاختيار فإن للشريك أن يأخذ الشفعة؛ سواءٌ كان العوض ماليا أو غير مالي، فإن كان العوض ماليا فواضحٌ أنه يأخذه بعوضه، وإن كان غير مالي قدر بقيمته في السوق. (¬3) القول الراجح: أنه إذا انتقلت بغير عوضٍ؛ فإن كان قهريا فلا شفعة، وإن كان اختياريا ففيه الشفعة. (¬4) [إن كان عوضه صداقًا]؛ فالقول الراجح: أن له أن يشفع ... ، ويأخذه الشريك المشفع بقيمته؛ بمعنى أنه يقوم ويؤخذ بقيمته؛ سواءٌ زاد على مثل مهر المرأة أو نقص أو ساوى ... [وكذلك في الخلع]؛ فالصحيح: أنه يشفع؛ لأن القاعدة التي تظهر لي من السنة أنه متى انتقل الملك على وجهٍ اختياري؛ ففيه الشفعة بأي حالٍ من الأحوال ... ، وتكون القيمة بالتقويم.

عمدٍ (¬1): فلا شفعة. ويحرم التحيل لإسقاطها (¬2). وتثبت لشريكٍ في أرضٍ (¬3) تجب قسمتها (¬4)، ويتبعها: الغراس، والبناء، لا الثمرة والزرع (¬5)، فلا شفعة لجارٍ (¬6). ¬

_ (¬1) والقول الراجح - الذي رجحناه -: أن فيه الشفعة، وتقدر قيمة هذا الشقص عند أهل الخبرة. (¬2) ولا تسقط [إذا تحيل]؛ بل متى ظهر أن في الأمر حيلةً فإن للشريك أن يشفع. (¬3) خرج بذلك: الشريك في غير الأرض ... ؛ فإنه لا شفعة له ... ومن [العلماء] من قال: الشفعة في كل شيءٍ إلا ما أمكن قسمته من المنقولات فإنه لا شفعة فيه؛ لإمكان قسمته من دون ضررٍ؛ ككيسٍ من البر - ونحو ذلك -. وهذا القول أرجح. (¬4) كان الأولى أن يقال: الأرض التي لا تجب قسمتها ولا تقسم إلا بالاختيار أولى بثبوت الشفعة من الأرض التي تقسم إجبارًا، وهذا هو المعقول. (¬5) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن تكون حين البيع مثمرةً أو مزروعةً، أو كان الثمر والزرع بعد ذلك، ولكن الصحيح أنه إذا كانت الثمرة موجودةً حين البيع وشفع الشريك والثمرة موجودةٌ فإنها تتبع، وكذلك يقال في الزرع. (¬6) القول الراجح: أن الجار له الشفعة في حالٍ وليس له الشفعة في حالٍ؛ فإذا كانت الطريق واحدةً، أو الماء الذي يسقى به الزرع واحدًا، أو أي شيءٍ اشتركا فيه من حق الملك فإن الشفعة ثابتةٌ، وإذا لم يكن بينهما حق مشتركٌ فلا شفعة ... ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.

وهي على الفور وقت علمه (¬1)، فإن لم يطلبها إذن بلا عذرٍ بطلت. وإن قال للمشتري: (بعني) أو (صالحني)، أو كذب العدل، أو طلب أخذ البعض: سقطت (¬2). والشفعة لاثنين: بقدر حقيهما، فإن عفا أحدهما أخذ الآخر الكل أو ترك. وإن اشترى اثنان حق واحدٍ - أو عكسه -، أو اشترى واحدٌ شقصين من أرضين صفقةً واحدةً: فللشفيع أخذ أحدهما. وإن باع شقصًا وسيفًا، أو تلف بعض المبيع: فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن. ¬

_ (¬1) القول الراجح: أنها ليست على الفور؛ بل هي على التراخي، ولا تسقط إلا بما يدل على الرضا. ووجه هذا القول: أنه حق جعله الشارع للشريك، فلا يسقط إلا برضاه. (¬2) هذه المسقطات مبنيةٌ على أنه لا بد أن يطالب بها فور علمه، [لكن سبق البيان بأن القول الراجح: أنها ليست على الفور؛ بل هي على التراخي]. لكن [حتى على القول بالفورية] فينبغي أن يقال [- في اللوازم المذكورة التي دلت على أنه أقر البيع -]: إذا وقع هذا من عالمٍ فنعم، وإن وقع من جاهلٍ لا يدري وقال: أنا أريد المصالحة دفعًا للمطالبة وكسر قلبه - وما أشبه ذلك -؛ فإنه لا ينبغي أن تسقط الشفعة، فيفرق بين من يفهم ويعلم، وبين من لا يفهم ولا يعلم ... ، وكما عذروا من لم يطلبها على الفور بما عذروه به؛ فهذه مثلها. والخلاصة: أن الشفعة حق للشفيع، لا تسقط إلا بما يدل على رضاه.

ولا شفعة بشركة وقفٍ (¬1)، ولا غير ملكٍ سابقٍ، ولا لكافرٍ على مسلمٍ (¬2). فصلٌ وإن تصرف مشتريه بوقفه، أو هبته، أو رهنه (¬3) - لا بوصيةٍ -: سقطت ¬

_ (¬1) القول الراجح في هذه المسألة: أن له الشفعة؛ أي: للشريك الذي نصيبه الوقف أن يأخذ بالشفعة؛ لأن العلة الثابتة فيما إذا كان الملك طلقًا هي العلة الثابتة فيما إذا كان وقفًا؛ بل العلة فيما إذا كان وقفًا أوضح. (¬2) قال بعض أهل العلم: بل للكافر شفعةٌ على المسلم؛ لأن الشفعة من حق التملك وليست من حق المالك، وإذا كان الكافر له الخيار - أي: خيار المجلس -، ويمكن أن يفسخ العقد كرهًا على المسلم؛ لأن هذا حق ملكٍ، فكذلك الشفعة ... فالمسألة فيها خلافٌ بين العلماء، ولو قلنا برجوع هذا إلى نظر الحاكم - أي القاضي - لكان هذا جيدًا. ويظهر هذا بالقرائن، فإذا عرفنا أن الكافر سوف يفتخر بأخذ الشفعة من المسلم ويرى أنه علا عليه فحينئذٍ لا نمكنه، أما إذا علمنا أن الكافر مهادنٌ، وأنه لم يأخذ الشفعة إلا لأنه مضطر إليها لمصلحة ملكه؛ فإننا نمكنه منها. (¬3) الصحيح: أنها لا تسقط بالرهن؛ لأن الملك لم ينتقل للمرتهن - وهو المذهب -، لكن يقال: إن أوفى الراهن دينه أخذ الشريك بالشفعة وإن لم يوف وبيع الرهن فحينئذٍ نرجع إلى انتقاله ببيعٍ. وقيل: بل يأخذه ولا ينتظر، وحينئذٍ ينفسخ الرهن، ولا يكون للمرتهن حق في هذا المرهون؛ لأنه إنما رهن عينه وقد استحقت للغير، فيبطل الرهن ... ومثل ذلك: لو آجر النصيب الذي اشتراه ... ؛ فالصحيح: أنها لا تنفسخ الإجارة وأنها باقيةٌ، ولكن للشفيع الأجرة من حين أخذه بالشفعة.

الشفعة (¬1)، وببيعٍ: فله أخذه بأحد البيعين، وللمشتري: الغلة، والنماء المنفصل (¬2)، والزرع (¬3)، والثمرة الظاهرة (¬4). فإن بنى أو غرس فللشفيع: تملكه بقيمته، وقلعه، ويغرم نقصه، ولربه أخذه بلا ضررٍ (¬5). وإن مات الشفيع قبل الطلب بطلت، وبعده: لوارثه (¬6). ¬

_ (¬1) القول الراجح في هذه المسألة: أنه إذا تصرف المشتري بهبته أو وقفه أو جعله صداقًا - أو ما أشبه ذلك - فإن للشفيع أن يشفع. وفي مسألة الهبة والوقف: لا حق للموهوب له أو للموقوف عليه في الرجوع على الواهب أو الواقف، ولكن إذا جعله الزوج صداقًا وقلنا بالقول الراجح - وهو أن للشريك أن يشفع فشفع - بطل كونه صداقًا، ولكن يقوم الشقص وتعطى ما قوم به. (¬2) علم من قول المؤلف: (النماء المنفصل): أن النماء المتصل يتبع وليس للمشتري منه شيءٌ ... ، لكن القول الراجح - بلا شك -: أن النماء المتصل كالمنفصل؛ يكون لمن انتقل إليه الملك، ولا فرق، وهذا هو العدل؛ لأن الرجل تعب عليه، ونما بسبب عمله. (¬3) الزرع للمشتري ما دام قد ظهر، أما إذا كان حبا مدفونًا في الأرض فإنه يتبعها. (¬4) في هذا الموضع لم يفرقوا بين المؤبر وغير المؤبر، وجعلوا الثمرة الظاهرة نماءً منفصلًا، ولكن الصحيح: أنها إذا لم تؤبر فإنها تتبع قياسًا على البيع. (¬5) [وكذلك] إذا كان المشتري لا ينتفع بها، فنكون زدنا على كلام المؤلف: (بلا ضررٍ): إن كان يمكنه الانتفاع بها؛ لأنه إذا كان ضررٌ فإنه لا يمكن أن يقع الإنسان في ضررٍ لأجل مصلحةٍ؛ لأن دفع الضرر مقدمٌ على المصلحة، وإن لم يكن ضررٌ لكن يفسد هذا الغراس والبناء فإننا لا نمكن المشتري من ذلك؛ لأن هذا من باب إضاعة المال والسفه. (¬6) القول الراجح في هذه المسألة: أنه ينتقل حق المطالبة بالشفعة إلى الوارث؛ لأن هذا تابعٌ للملك، فإذا مات الشفيع ولم يطالب فللوارث أن يطالب؛ لأن هذا من حقوق الملك، وإذا كان من حقوق الملك فإن الملك ينتقل بحقوقه.

ويأخذ بكل الثمن، فإن عجز عن بعضه سقطت شفعته. والمؤجل يأخذه المليء به، وضده بكفيلٍ مليءٍ. ويقبل في الخلف مع عدم البينة: قول المشتري (¬1)، فإن قال: (اشتريته بألفٍ) أخذ الشفيع به ولو أثبت البائع أكثر (¬2)، وإن أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري وجبت (¬3). وعهدة الشفيع على المشتري، وعهدة المشتري على البائع (¬4). ¬

_ (¬1) يجب هنا أن ننتبه إلى شيئين: الأول: كل من قلنا: (القول قوله) فلا بد من يمينه. الثاني: أن لا تكون دعواه مخالفةً للعرف، فإن كانت مخالفةً للعرف سقطت. (¬2) القول الثاني: أنه إذا ثبت بالبينة أنه بأكثر؛ وجب الأخذ به. وهذا القول تطمئن إليه النفس؛ لأن النسيان والغلط واردان. (¬3) الصواب أن نقول في التعبير: (المدعى عليه الشراء)؛ لأنه لم يثبت أنه مشترٍ فلا شيء عليه، ولكن تثبت الشفعة، فيقال للبائع: (بكم بعت؟) فإن قال: (بعت بألفٍ)؛ فإن الشفيع يأخذه بألفٍ. (¬4) إلا فيما ادعى البائع البيع وأنكر المشتري؛ فإن الشفيع ليس له عهدةٌ على المشتري.

باب الوديعة

باب الوديعة إذا تلفت من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط: لم يضمن. ويلزمه حفظها في حرز مثلها، فإن عينه صاحبها فأحرزها بدونه ضمن، وبمثله أو أحرز فلا. وإن قطع العلف عن الدابة بغير قول صاحبها: ضمن (¬1). وإن عين جيبه فتركها في كمه أو يده: ضمن، وعكسه بعكسه. وإن دفعها إلى من يحفظ ماله (¬2) أو مال ربها (¬3): لم يضمن. ¬

_ (¬1) علم من قول المؤلف أنه لو قال صاحبها: (لا تنفق عليها) فتلفت؛ فإنه لا يضمن، وذلك بناءً على أن ضمان البهيمة - إذا تلفت جوعًا أو عطشًا - من ضمان الأموال الصامتة التي لا روح فيها ... ، لكن فيه نظرٌ. والقول الثاني: أنه يضمن؛ لأن هذه نفسٌ محترمةٌ ليست كالمال، فالمال لا يتألم لكن هذه نفسٌ تتألم، فتركها تموت عطشًا وجوعًا إثمٌ يعذب عليه الإنسان في النار ... فالصواب: أنه يضمن، ولكنه يجعل ما ضمنه في بيت المال، ويحرم إياه صاحبها ولا يعطى شيئًا؛ لأنها تلفت بقولٍ من صاحبها وقد رضي بتلفها عليه. (¬2) إلا إذا نص صاحبها عليه، وقال: (لا تعطها أحدًا، هي مني إليك، ومنك إلي)؛ فهنا يضمن؛ لأنه عين حرزًا أقوى من حرز العادة. (¬3) هذه المسألة فيها خلافٌ؛ فمن العلماء من يقول: إنه إذا دفعها إلى من يحفظ مال ربها بغير إذن ربها فإنه ضامنٌ والذي ينبغي: أن يرجع في ذلك إلى العرف؛ فما جرى به العرف اتبع وما لم يجر به العرف لم يتبع. فالأشياء الثمينة جرت العادة أنها لا ترد الوديعة منها إلا إلى صاحبها نفسه، والأشياء العادية - كالأواني والفرش والبهائم - جرت العادة أنه يتولى قبولها عند ردها من يحفظ مال ربها، فيرجع في ذلك إلى العرف؛ فما جرى العرف بأنه يدفع إلى من يحفظ مال ربها فدفعها إليهم فلا ضمان عليه، وما جرى العرف بأنه لا بد أن يسلم إلى نفس المودع فإن عليه الضمان.

وعكسه: الأجنبي والحاكم، ولا يطالبان إن جهلا (¬1). وإن حدث خوفٌ أو سفرٌ ردها على ربها، فإن غاب حملها معه إن كان أحرز، وإلا أودعها ثقةً. ومن أودع دابةً فركبها لغير نفعها، أو ثوبًا فلبسه، أو دراهم فأخرجها من محرزٍ ثم ردها (¬2)، أو رفع الختم (¬3)، أو خلطها بغير متميزٍ فضاع الكل: ضمن. فصلٌ ويقبل قول المودع في: ردها إلى ربها، أو غيره بإذنه، وتلفها (¬4)، وعدم ¬

_ (¬1) المذهب: أن له أن يطالب وإن جهل، وحجتهم: أن المال تلف تحت يده، وعلى ما مشى عليه الماتن فليس له أن يطالبه، وحجته: أنه جاهلٌ ومحسنٌ. (¬2) اللهم إلا إذا كان قد قال له صاحبها: (إن رأيت مصلحةً في بيعٍ وشراءٍ أو غير ذلك فتصرف)، فيكون حينئذٍ غير ضامنٍ. (¬3) الضابط: أنه إذا أزال المودع ما فيه كمال الحفظ أو أصل الحفظ؛ فعليه الضمان. (¬4) لكن لو ادعى التلف بأمرٍ ظاهرٍ كالحريق؛ بأن قال: (احترق الدكان وهي في الدكان)؛ فهنا لا يقبل قوله إلا إذا أثبت أن الدكان قد احترق؛ لأن هذا أمرٌ ظاهرٌ لا يخفى على أحدٍ.

التفريط (¬1). فإن قال: (لم تودعني)، ثم ثبتت ببينةٍ أو إقرارٍ، ثم ادعى ردا أو تلفًا سابقين لجحوده: لم يقبلا ولو ببينةٍ (¬2)؛ بل: في قوله: (ما لك عندي شيءٌ) - ونحوه -، أو بعده بها. وإن ادعى وارثه الرد منه أو من مورثه: لم يقبل إلا ببينةٍ. وإن طلب أحد المودعين نصيبه من مكيلٍ أو موزونٍ ينقسم: أخذه (¬3). وللمستودع، والمضارب، والمرتهن، والمستأجر: مطالبة غاصب العين. ¬

_ (¬1) [لكن] إن أقر الجميع بالسبب لكن ادعى صاحبها أنه تفريطٌ وهو يقول: (ليس بتفريطٍ) فنرجع إلى العرف، ويعرض على أهل الخبرة، فإذا قالوا: (الرجل الذي حفظها في هذا المكان غير مفرطٍ) فهو غير مفرطٍ، وإذا قالوا: (إنه تفريطٌ) فهو تفريطٌ. وهذا التفصيل هو القول الراجح. (¬2) لكن بعض العلماء يقول: إذا قامت البينة فليعمل بها؛ لأنه تبين أنه هو الكاذب، لكن في هذه الحال ينبغي للقاضي أن يحكم عليه بالتعزير لكذبه وخيانته، وإتعابه المودع بإقامة الدعوى وإشغال القاضي وإشغال الشهود؛ فهو مستحق للتعزير من عدة أوجهٍ. (¬3) الصحيح: أنه لا يلزمه تسليمه، ويقال له: (أحضر صاحبك، أو هات منه موافقةً، وإلا فلا).

باب إحياء الموات

باب إحياء الموات وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصومٍ. فمن أحياها ملكها - من مسلمٍ وكافرٍ (¬1) - بإذن الإمام وعدمه (¬2)، في دار الإسلام وغيرها. والعنوة كغيرها. ويملك بالإحياء ما قرب من عامرٍ، إن لم يتعلق بمصلحته. ومن أحاط مواتًا، أو حفر بئرًا فوصل إلى الماء، أو أجراه إليه من عينٍ ونحوها، أو حبسه عنه ليزرع: فقد أحياه (¬3). ويملك حريم البئر العادية: خمسين ذراعًا من كل جانبٍ، وحريم البدية: نصفها. ¬

_ (¬1) المراد بقوله: (كافرٍ): أي: معصومٍ، وأيضًا نزيد شرطًا ثانيًا في الكافر، وهو: أن يكون ممن يصح تملكه الأرض، فإن كان لا يصح فإنه لا يملكها. (¬2) القول الراجح: أنه يملكها بدون إذن الإمام إلا إذا أصدر الإمام أمره بألا يحيي أحدٌ أرضًا إلا بإذنه، فلا تحيا إلا بإذنه. (¬3) من العلماء من يقول: يرجع في هذا إلى العرف؛ فما عده الناس إحياءً فهو إحياءٌ، وما لم يعدوه إحياءً فليس إحياءً ... وهذا القول ليس ببعيدٍ عما قاله المؤلف - رحمه الله -، لكن ربما تتغير الأحوال وتختلف.

وللإمام إقطاع مواتٍ لمن يحييه، ولا يملكه، وإقطاع الجلوس في الطرق الواسعة - ما لم يضر بالناس، ويكون أحق بجلوسها، ومن غير إقطاعٍ لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال (¬1) -. وإن سبق اثنان: اقترعا. ولمن في أعلى الماء المباح: السقي، وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه (¬2). وللإمام دون غيره: حمى مرعًى لدواب المسلمين - ما لم يضرهم -. ¬

_ (¬1) قوله: (وإن طال): فيها إشارة خلافٍ ... . والصحيح: أن ذلك يرجع إلى رأي ولي الأمر، فإن رأى من المصلحة أن يبقى فلا بأس، وإن رأى من المصلحة رفعه فإنه يرفعه. (¬2) إلا إذا كان الأعلى أتى أخيرًا فإنه يقدم الأسفل.

باب الجعالة

باب الجعالة وهي أن يجعل شيئًا معلومًا لمن يعمل له عملًا معلومًا أو مجهولًا مدةً معلومةً أو مجهولةً؛ كرد عبدٍ، ولقطةٍ، وخياطةٍ، وبناء حائطٍ. فمن فعله بعد علمه بقوله استحقه، والجماعة يقتسمونه، وفي أثنائه: يأخذ قسط تمامه (¬1). ولكل فسخها؛ فمن العامل: لا يستحق شيئًا (¬2)، ومن الجاعل بعد الشروع: للعامل أجرة عمله (¬3). ومع الاختلاف في أصله أو قدره: يقبل قول الجاعل (¬4). ¬

_ (¬1) [لكن بالقيمة وليس بالأجزاء]. (¬2) لكن لو فرض أن الجاعل سيتضرر كثيرًا ... ؛ ففي هذه الحال لو قيل بتضمين العامل ما يلحق الجاعل من الضرر لكان له وجهٌ ... وهناك قولٌ آخر: أنه إذا تضمن ضررًا على الجاعل فيلزم العامل بإتمام العمل إلا من عذرٍ، وعلى هذا القول نستريح، ولا نحتاج إلى نسبةٍ ولا شيءٍ. (¬3) أجرة العمل منسوبةٌ إلى الأجرة العامة - على ظاهر كلام المؤلف - ... ؛ فعلى هذا: ننسب ما يعطاه بقسط الأجرة؛ سواءٌ زادت على حصة الجعالة أم لم تزد ... . والراجح: أننا نعطيه نسبة الجعالة. (¬4) لكن في هذا - أيضًا - تفصيلٌ: إذا اختلفا في القدر وادعى الجاعل قدرًا لا يمكن أن يقام العمل بمثله، وادعى العامل قدرًا يمكن أن يقام بمثله؛ فهنا نقول: (إن دعوى الجاعل دعوى تكذبها العادة والعرف، فلا يقبل قوله، ويقبل قول العامل)، ولو ادعى العامل شيئًا كثيرًا فإنه لا يقبل؛ لأنه ادعى ما يخالف العادة ولأنه ادعى على الغارم ما لم يعترف به، فيقبل قول الجاعل.

ومن رد لقطةً، أو ضالةً، أو عمل لغيره عملًا بغير جعلٍ: لم يستحق عوضًا؛ إلا دينارًا أو اثني عشر درهمًا عن رد الآبق (¬1)، ويرجع بنفقته - أيضًا -. ¬

_ (¬1) ويستثنى أمران آخران - أيضًا -: الأول: من أنقذ مال المعصوم من الهلكة؛ فإنه يستحق أجرة المثل ... الثاني: إن أعد الإنسان نفسه للعمل.

باب اللقطة

باب اللقطة وهي مالٌ، أو مختص ضل عن ربه، وتتبعه همة أوساط الناس. فأما الرغيف والسوط - ونحوهما -: فيملك بلا تعريفٍ. وما امتنع من سبعٍ صغيرٍ - كثورٍ وجملٍ ونحوهما -: حرم أخذه. وله التقاط غير ذلك من حيوانٍ - وغيره - إن أمن نفسه على ذلك، وإلا فهو كغاصبٍ (¬1). ويعرف الجميع في مجامع الناس غير المساجد (¬2) حولًا، ويملكه بعده حكمًا (¬3)، لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها (¬4)، فمتى جاء طالبها فوصفها لزم دفعها إليه. ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله -: أنه لا فرق بين لقطة مكة وغيرها؛ لأنه لم يفصل، وهذا هو المشهور من المذهب. والصحيح: أن لقطة مكة لا تحل إلا لمنشدٍ يريد أن يعرفها مدى الدهر. (¬2) أما المصليات فلا تدخل في هذا. (¬3) هناك قولٌ آخر: أنها لا تدخل في ملكه إلا إذا شاء، وعلى هذا القول: تبقى في يده أمانةً. (¬4) وينبغي أن يشهد على صفاتها، لكن يشهد من يثق به؛ لأنه إذا أشهد سلم من صاحبها لو ادعى أنها على وجهٍ أكمل، وهذا الإشهاد من وسائل الضبط.

والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما (¬1). ومن ترك حيوانًا بفلاةٍ لانقطاعه، أو عجز ربه عنه: ملكه آخذه (¬2). ومن أخذ نعله - ونحوه - ووجد موضعه غيره: فلقطةٌ (¬3). ¬

_ (¬1) أما الصبي فواضحٌ، وأما السفيه ففي النفس منه شيءٌ؛ لأن السفيه ليس كالصبي، وكل الناس إذا رأوا هذا الرجل الملتحي يعرف لقطةً فإنه يبعد أن يظن أنه يتلاعب. فإن تمت السنة ولم يأت أحدٌ لهذه اللقطة فإنها تكون للواجد ولو كان سفيهًا أو صغيرًا. (¬2) القول الراجح: أنه يفرق بين من تركه عجزًا ومن تركه لانقطاعه؛ فمن تركه لانقطاعه ملكه آخذه، ومن تركه عجزًا لم يملكه آخذه وله أجرة المثل؛ لأنه أنقذه من هلكةٍ، أما المتاع فإنه لمالكه، فإن تركه بالفلاة فإن من أحضره إليه ليس له أجرة المثل، إلا إذا أحضره إليه إنقاذًا له من الضياع فله أجرة المثل، والفرق بين المتاع والحيوان: أن الحيوان يهلك، وهذا لا يهلك. (¬3) القول الثاني: أنه ينظر للقرائن؛ فإذا وجدت قرائن تدل على أن صاحب النعل أخذ نعلك وأبقى لك هذا النعل؛ فإنه لا يكون لقطةً وإنما يكون لواجده، ولكن في هذه الحال ينبغي أن يتأنى بعض الشيء لعل صاحبه يرجع، فإذا أيس منه أخذه، فإن كان أدنى من نعله اكتفى به، وإن كان أعلى وجب عليه أن يتصدق بالفرق بين قيمتي النعلين، وعلى هذا يكون كلام المؤلف مقيدًا بمثل هذه الصورة.

باب اللقيط

باب اللقيط وهو طفلٌ لا يعرف نسبه، ولا رقه، نبذ أو ضل (¬1). وأخذه: فرض كفايةٍ (¬2). وهو حر. وما وجد معه، أو تحته - ظاهرًا أو مدفونًا، طريا أو متصلًا به؛ كحيوانٍ وغيره -، أو قريبًا منه (¬3): فله، وينفق عليه منه، وإلا فمن بيت المال. وهو مسلمٌ، وحضانته لواجده الأمين، وينفق عليه بغير إذن حاكمٍ، وميراثه وديته لبيت المال (¬4)، ووليه في العمد: الإمام؛ يخير بين القصاص والدية. ¬

_ (¬1) ظاهر [قوله: (أو ضل)]: أن من وجده أخذه على أنه لقيطٌ، ولكن هذا فيه نظرٌ؛ فالصواب: أن اللقيط طفلٌ لا يعرف نسبه ولا رقه، نبذ فقط، ولا نقول: (أو ضل)؛ بل نقول: إن الضال يبحث عن أهله. (¬2) لكن يجب على أول من يجده أن يأخذه، إلا إذا رأى شخصًا آخر يقول: (دعه لي)؛ فهنا نقول: حصلت الكفاية. (¬3) هذا مسلمٌ إذا كان هناك قرينةٌ تدل على أنه له، وإلا فيكون القريب منه لقطةً؛ لأن الأصل عدم الملك. (¬4) القول الثاني: أن ميراثه وديته لواجده، وهو الصحيح ... ، وهو اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله -.

وإن أقر رجلٌ أو امرأةٌ ذات زوجٍ (¬1) - مسلمٍ أو كافرٍ - (¬2) أنه ولده: لحق به - ولو بعد موت اللقيط (¬3) -. ولا يتبع الكافر في دينه إلا ببينةٍ تشهد أنه ولد على فراشه. وإن اعترف بالرق مع سبق منافٍ (¬4)، أو قال: (إنه كافرٌ): لم يقبل منه. وإن ادعاه جماعةٌ قدم ذو البينة، وإلا فمن ألحقته القافة به. ¬

_ (¬1) قولٌ آخرٌ: إن كانت ذات زوجٍ؛ لم يلحق بها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش)، وهنا الزوج لم يدع أنه ولده، وإذا ألحقناه بها صار في ذلك عارٌ على الزوج، فيلزم أن تكون زانيةً أو موطوءةً بشبهةٍ. وهذا أحسن الأقوال. (¬2) إن كان كافرًا فإننا نلحقه به لكننا لا نمكنه من حضانته ... ، والفائدة من إلحاقه به: النسب. (¬3) القول الثاني: أنه بعد موت اللقيط لا نطلق أنه يقبل؛ بل في ذلك تفصيلٌ؛ إن كان هناك تهمةٌ فإنه لا يلحق به، والتهمة: مثل أن يكون لهذا اللقيط أموالٌ كثيرةٌ، فيدعي بعد موت اللقيط أن اللقيط ولده من أجل أن يرث هذه الأموال؛ فهذا لا نقبل دعواه ... وهذا القول هو الصواب؛ أنه بعد موت اللقيط إذا قامت التهمة والقرينة - مثلًا - على أنه إنما يريد المال فإننا لا نلحقه به. (¬4) أما إذا لم يسبق منافٍ فإنه يقبل [على كلام المؤلف] ... والقول الثاني - وهو المذهب -: أنه لا يقبل؛ لأن الحرية والرق حق لله - عز وجل -؛ إلا إذا أقام بينةً على أنه رقيقه؛ فإننا نحكم بالبينة لا بإقرار اللقيط. وهذا أحسن مما ذهب إليه المؤلف.

كتاب الوقف

كتاب الوقف وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه؛ كمن جعل أرضه مسجدًا وأذن للناس في الصلاة فيه، أو مقبرةً وأذن في الدفن فيها. وصريحه: (وقفت)، و (حبست)، و (سبلت). وكنايته: (تصدقت) و (حرمت) و (أبدت) (¬1). فتشترط: - النية مع الكناية. - أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة. - أو حكم الوقف (¬2). ¬

_ (¬1) الصحيح: أن جميع صيغ العقود القولية أمرٌ يرجع فيه إلى العرف؛ فقد يكون هذا اللفظ صريحًا عند قومٍ وكنايةً عند آخرين، وقد لا يدل على المعنى إطلاقًا عند غيرهم. فالصحيح: أنه يرجع إلى عرف الناس، فما اطرد عند الناس أنه دال على هذا المعنى فهو صريحٌ، وما لم يطرد ولكنه يراد به أحيانًا فهو كنايةٌ، وما لا يدل على المعنى أصلًا فليس بشيءٍ. (¬2) التعبير ب-: (أو بما يدل على الوقف) أولى من قوله: (أو حكم الوقف)؛ لأن حكم الوقف غير شاملٍ.

ويشترط فيه: - المنفعة دائمًا من معينٍ (¬1) ينتفع به مع بقاء عينه (¬2): كعقارٍ وحيوانٍ - ونحوهما -. - وأن يكون على بر (¬3): كالمساجد والقناطر والمساكين والأقارب من مسلمٍ وذمي، غير حربي وكنيسةٍ ونسخ التوراة والإنجيل وكتب زندقةٍ، وكذا الوصية، والوقف على نفسه (¬4). ¬

_ (¬1) مثل أن يقول: (وقفت أحد بيتي)؛ فهذا لا يصح لأنه مبهمٌ غير معينٍ. وظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن تكون القيم متساويةً أو غير متساويةٍ؛ لأنه لم يعينه، والصحيح: أنه إذا كانت متساويةً فإنه يثبت الوقف. (¬2) الصواب: أنه يجوز وقف الشيء الذي ينتفع به مع تلف عينه ... ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (¬3) هذا الشرط فيه تفصيلٌ؛ فإن كان على جهةٍ عامةٍ فإنه يشترط أن يكون على بر، وإن كان على معينٍ فإنه لا يشترط أن يكون على بر، لكن يشترط ألا يكون على إثمٍ. (¬4) القول الثاني: أنه يصح الوقف على النفس، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وجماعةٌ من العلماء المحققين؛ لأن الوقف على النفس فيه فائدةٌ، وهي الامتناع من التصرف فيه، فلا يبيعه ولا يهبه ولا يرهنه، وأنه إذا مات صرف مصرف الوقف المنقطع، ولم يكن ميراثًا للورثة. ولكن لو فعل هذا تحيلًا لإسقاط حق الغرماء ... ؛ فالوقف هنا غير صحيحٍ، حتى لو وقفه على غير نفسه حيلة ألا يباع في الدين فإنه لا يصح الوقف.

- ويشترط في غير المسجد - ونحوه -: أن يكون على معينٍ (¬1) يملك؛ لا ملكٍ وحيوانٍ (¬2) وحملٍ (¬3) وقبرٍ؛ لا: قبوله (¬4) ولا إخراجه عن يده. فصلٌ ويجب العمل بشرط الواقف (¬5) في: جمعٍ وتقديمٍ، وضد ذلك، واعتبار وصفٍ ¬

_ (¬1) فإذا قال: (هذا وقفٌ على زيدٍ أو عمرٍو) أو (على أحد هذين الرجلين) ... ؛ فقال بعض العلماء: يصح ويخرج أحدهما بقرعةٍ؛ لأن هذا أقرب إلى المقصود ... وهذا القول أقرب للصواب اتباعًا لمقصود الواقف. (¬2) أما لو قال: (هذا وقفٌ على خيول الجهاد)؛ فهذه جهةٌ وليست بمعينٍ؛ فيصح؛ لأنها عامةٌ، وكلامنا على المعين، فلا بد أن يكون ممن يملك ... فالقول الثاني في الحيوان: أنه إذا كان هذا الحيوان مما ينتفع به في الدين، أو له عمل بر، فلا بأس أن يوقف عليه، ويصرف في مصالحه في رعيه، أو في بناء حجرةٍ له في الشتاء أو الصيف - أو ما أشبه ذلك -. (¬3) لكن يصح تبعًا؛ كما لو قال: (على فلانٍ ومن يولد له) فلا بأس، وأما استقلالًا ... ؛ فلو ذهب ذاهبٌ إلى صحة الوقف على الحمل أصالةً؛ لم يكن بعيدًا، ونقول: إن خرج هذا الحمل حيا حياةً مستقرةً استحق الوقف، وإلا بطل الوقف ما لم يذكر له مآلًا. (¬4) من العلماء من قال: إن الوقف على معينٍ يشترط قبول المعين له. وهذا القول جيدٌ ... ، فالقول بأنه لا بد من قبول المعين قولٌ قوي، أقوى من القول بعدم اشتراطه. (¬5) من العلماء من يقول: إن الواقف إذا شرط شروطًا في الوقف، ورأى الناظر أن غير هذه الشروط أنفع للعباد وأكثر أجرًا للموقف؛ فإنه لا بأس أن يصرفه إلى غيره ... وهذا القول هو الصحيح؛ أنه يجوز أن يغير شرط الواقف إلى ما هو أفضل ما لم يكن الوقف على معينٍ، فإن كان على معينٍ فليس لنا أن نتعدى.

وعدمه، وترتيبٍ، ونظرٍ - وغير ذلك -. فإن أطلق ولم يشترط: استوى الغني والذكر وضدهما، والنظر: للموقوف عليه (¬1). وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين فهو: لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته (¬2)؛ كما لو قال: (على ولد ولده) (¬3)، و (ذريته لصلبه)، ولو قال: (على بنيه) أو (بني فلانٍ) اختص بذكورهم (¬4)؛ إلا أن يكونوا ¬

_ (¬1) [لكن] إذا كان الوقف على جهةٍ عامةٍ - مثل المساكين والأئمة والمؤذنين وطلاب العلم - فهؤلاء إذا لم يشترط الواقف ناظرًا فالنظر للحاكم؛ لأنه لا يمكن أن نأتي بكل من كان فقيرًا أو طالب علمٍ ونقول له: (انظر في هذا الوقف)، فهذا متعذرٌ. وكذلك لو كان الوقف على ما لا يملك - كالوقف على المساجد -؛ فهذا النظر فيه - أيضًا - للحاكم؛ ما لم يعين الواقف ناظرًا خاصا. (¬2) لكن هذا عند مطلق الوقف، أما إذا دلت القرينة على أن أولاد البنت أرادهم الواقف أو صرح بذلك؛ فإنه يعمل بها تبعًا لشرط الواقف. (¬3) الصحيح أنه إذا قال: (على ولد ولده): فإنه يدخل أولاد البنين وأولاد البنات دون أولاد بنات البنات؛ لأن كلمة (ولده) الثانية تشمل الذكور والإناث. (¬4) لكن هل يجوز للإنسان أن يوقف على بنيه دون بناته؟ الجواب: لا، والفقهاء - رحمهم الله - إنما يتكلمون على مدلول الألفاظ دون حكم الوقف ... ، ولا شك أن من وقف على بنيه دون بناته أنه جورٌ. وعلى هذا: فلو وجدنا شخصًا وقف على بنيه ومات ... ؛ فالقول الراجح: أننا نلغي هذا الوقف ولا نصححه، ويعود ملكًا للورثة ... ، وقد يقال: يبقى وقفًا على البنين والبنات ... ، ولكن الاحتمال الأول أقرب - وهو إبطال الوقف -.

قبيلةً؛ فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم. والقرابة (¬1) وأهل بيته (¬2) وقومه (¬3): يشمل الذكر والأنثى من أولاده، وأولاد أبيه، وجده، وجد أبيه. وإن وجدت قرينةٌ تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن: عمل بها. وإذا وقف على جماعةٍ يمكن حصرهم: وجب تعميمهم والتساوي، وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم. ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: إذا كان من عادته أنه يصل قرابة أمه [فقد] دخلوا في لفظ القرابة؛ لأن كونه قد اعتاد أن يصلهم [فهذا] يدل على أنه أراد أن ينتفعوا بهذا الوقف. وهذا قولٌ قوي. (¬2) المذهب: أن الزوجات لا يدخلن [في أهل بيت زوجهن]؛ لأن أهل بيته مثل القرابة تمامًا. والصحيح: أن زوجاته إذا لم يطلقهن [فإنهن] يدخلن في أهل بيته، ولا شك في هذا ... ، ولو قيل: إن أهل بيته هم زوجاته ومن يعولهم فقط لكان قولًا قويا؛ لأن هذا هو عرف الناس. (¬3) جعلها المؤلف كلفظ القرابة وأهل البيت؛ لكن هذا القول بعيدٌ من الصواب؛ لأن القوم في عرف الناس - وفي اللغة أيضًا - أوسع من القرابة، اللهم إلا على قول من يقول: إن القرابة تشمل كل من يجتمع معه في الاسم الأول، فالفخذ من القبيلة قرابةٌ، فهنا ربما نقول: إن القوم والقرابة بمعنًى واحدٍ، أما إذا قلنا: إن القرابة هم أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه؛ فإن القوم - بلا شك - أوسع، ولهذا يرسل الله الرسل إلى أقوامهم وهم ليسوا من قراباتهم، فإذا كان للقوم معنًى مطردٌ عرفًا ولا ينصرف الإطلاق إلا إليه [فقد] وجب أن يتبع.

فصلٌ والوقف عقدٌ لازمٌ، لا يجوز فسخه (¬1)، ولا يباع؛ إلا أن تتعطل منافعه (¬2)، ويصرف ثمنه في مثله، ولو أنه مسجدٌ وآلته وما فضل عن حاجته: جاز صرفه إلى مسجدٍ آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين (¬3). ¬

_ (¬1) أما الوقف المعلق بالموت - كما لو قال: (هذا وقفٌ بعد موتي) -؛ فالمذهب أنه لازمٌ من حين قوله، ولا يمكن فسخه، لكن مع ذلك لا ينفذ منه إلا ما كان من ثلث المال فأقل، فيجعلونه وصيةً من وجهٍ ووقفًا من وجهٍ. وهذا غير صحيحٍ ... ، والصواب: أنه لا ينفذ إلا بعد الموت، وأنه ما دام حيا فله التغيير والتبديل والإلغاء، فإذا مات فإن أجازه الورثة نفذ، وإن لم يجيزوه نفذ منه قدر التركة فقط ... وظاهر كلام المؤلف [- أيضًا -]: أنه لا فرق بين أن يكون الإنسان مدينًا أو غير مدينٍ ... والقول الثاني - وهو الأرجح -: أن الوقف في هذه الصورة ليس بلازمٍ ولا يجوز تنفيذه؛ لأن قضاء الدين واجبٌ والوقف تطوعٌ، ولا يجوز أن نضيق على واجبٍ لتطوعٍ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. أما إذا حدث الدين بعد الوقف فالأرجح أن الوقف يمضي، والدين ييسر الله أمره. (¬2) واختار شيخ الإسلام - رحمه الله - جواز بيعه للمصلحة [أيضًا]؛ بحيث ينقل إلى ما هو أفضل ... وما اختاره شيخ الإسلام - رحمه الله - هو الصواب، لكن في هذه الحال يجب أن يمنع من بيعه أو إبداله إلا بإذن الحاكم؛ لأنه قد يتعجل الموقوف عليه، ويقول: (أبيعه لأنقله إلى ما هو أفضل)، ويكون الأمر على خلاف ظنه، فلا بد من الرجوع إلى الحاكم - يعني القاضي - في هذه الحال؛ لئلا يتلاعب الناس بالأوقاف. (¬3) هذا القول ضعيفٌ جدا؛ لأن المساجد نفعها مستمر، والصدقة نفعها مؤقتٌ؛ لأن نفعها مقطوعٌ؛ ينتفع بها الموجودون الحاضرون، ولا ينتفع بها من بعدهم. فالصواب: أن ما فضل عن حاجة المسجد فيجب أن يصرف في مسجدٍ آخر ما لم يتعذر أو ما لم يكن الناس في مجاعةٍ فهم أولى؛ لأن حرمة الآدمي أشد من حرمة المسجد - ولا شك - ... والخلاصة: أنه متى جاز بيع الوقف فإنه يجب أن يصرف إلى أقرب مقصود الواقف؛ بحيث يساوي الوقف الأول أو يقاربه بحسب الإمكان.

باب الهبة والعطية

باب الهبة والعطية وهي التبرع بتمليك ماله المعلوم (¬1) الموجود في حياته غيره. وإن شرط فيها عوضًا معلومًا: فبيعٌ. ولا يصح مجهولًا (¬2)؛ إلا ما تعذر علمه (¬3). وتنعقد: بالإيجاب والقبول، والمعاطاة الدالة عليها. وتلزم: بالقبض بإذن واهبٍ؛ إلا ما كان في يد متهبٍ. ووارث الواهب يقوم مقامه. ومن أبرأ غريمه من دينه بلفظ: الإحلال، أو الصدقة، أو الهبة - ونحوها -: برئت ذمته ولو لم يقبل. وتجوز هبة: كل عينٍ تباع (¬4)، وكلبٍ يقتنى. ¬

_ (¬1) قوله: (المعلوم): خرج به المجهول. ولكن هذا غير صحيحٍ؛ فالصحيح: جواز هبة المجهول. (¬2) يعني: لا يصح أن يهب شيئًا مجهولًا ... والقول الثاني - وهو الصواب -: أنه يصح أن يهب المجهول. (¬3) الصواب: أنه يصح هبة المجهول؛ سواءٌ تعذر علمه أم لم يتعذر. (¬4) ظاهر كلامه: أن ما لا يصح بيعه - ولو لجهالته أو عدم القدرة عليه - لا تصح هبته. والصحيح في هذا: أن ما لا يصح بيعه لجهالته أو الغرر فيه فإن هبته صحيحةٌ ...

فصلٌ يجب التعديل في عطية أولاده بقدر إرثهم. فإن فضل بعضهم: سوى برجوعٍ أو زيادةٍ. فإن مات قبله: ثبتت (¬1). ولا يجوز لواهبٍ أن يرجع في هبته اللازمة إلا الأب (¬2)، وله (¬3) أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه. فإن تصرف في ماله - ولو فيما وهبه له - ببيعٍ، أو عتقٍ أو إبراءٍ (¬4)، أو أراد أخذه قبل رجوعه، أو تملكه بقولٍ أو نيةٍ وقبضٍ معتبرٍ: لم يصح؛ بل بعده. ¬

_ (¬1) الصواب: أنه إذا مات وجب على المفضل أن يرد ما فضل به في التركة، فإن لم يفعل خصم من نصيبه - إن كان له نصيبٌ -. (¬2) قوله: (إلا الأب) ... : يستثنى من ذلك ما لم يكن حيلةً على التفضيل فلا يجوز؛ كأن يعطي ولديه كل واحدٍ سيارةً ثم عاد وأخذ من أحدهما سيارته؛ فهذا الرجوع لا يصح لأنه يراد به تفضيل الولد الآخر. (¬3) أي: للأب، ونضيف وصفًا: (الحر)، ووصفًا آخر: (الموافق في الدين) على رأي كثيرٍ من العلماء، أو على الأصح: ألا يكون كافرًا يأخذ من مال المسلم. (¬4) قال بعض العلماء: إن تصرف الوالد في مال ولده ببيعٍ أو عتقٍ أو إبراءٍ صحيحٌ ... والظاهر أن الحديث يدل على صحة تصرف الأب في مال ابنه إذا لم يضره أو يحتاجه، وأما الإبراء فليس له ذلك؛ لأن قوله: «أنت ومالك لأبيك» لا يدخل فيه الدين؛ لأن الدين لا يكون مالًا للابن حتى يقبضه.

وليس للولد مطالبة أبيه بدينٍ (¬1) - ونحوه -؛ إلا بنفقته الواجبة عليه؛ فإن له مطالبته بها وحبسه عليها. فصلٌ من مرضه غير مخوفٍ - كوجع ضرسٍ وعينٍ وصداعٍ يسيرٍ -: فتصرفه لازمٌ كالصحيح ولو مات منه. وإن كان مخوفًا - كبرسامٍ، وذات الجنب، ووجع قلبٍ، ودوام قيامٍ، ورعافٍ، وأول فالجٍ، وآخر سل، والحمى المطبقة، والربع -، وما قال طبيبان مسلمان عدلان: إنه مخوفٌ (¬2)، ومن وقع الطاعون ببلده، ومن أخذها الطلق: لا يلزم تبرعه لوارثٍ بشيءٍ ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها (¬3) إن مات منه. ¬

_ (¬1) مفهوم كلام المؤلف يدل على أن له أن يطالب أمه بدينه ... ولكن الصحيح: أنه لا يملك أن يطالب أمه ... وأصل مسألة الأب خلافيةٌ؛ فبعض أهل العلم يقول: له أن يطالب أباه بالدين. (¬2) الصواب في هذه المسألة: أنه إذا قال طبيبٌ ماهرٌ: (إن هذا مرضٌ مخوفٌ) قبل قوله؛ سواءٌ كان مسلمًا أو كافرًا ... فالمعتبر: حذق الطبيب، والثقة بقوله، والأمانة - ولو كان غير مسلمٍ - ... وحتى العدالة؛ فلو أننا اشترطناها في أخبار الأطباء ما عملنا بقول طبيبٍ واحدٍ - إلا أن يشاء الله -؛ لأن أكثر الأطباء لا يتصفون بالعدالة؛ فأكثرهم لا يصلي مع الجماعة، ويدخن، ويحلق لحيته، فلو اشترطنا العدالة لأهدرنا قول أكثر الأطباء. وكذلك العدد؛ فالمؤلف اشترط أن يكون اثنين فأكثر، ولكن الصحيح أن الواحد يكفي؛ لأن هذا من باب الخبر المحض، ومن باب التكسب بالصنعة، فخبر الواحد كافٍ في ذلك. (¬3) وقيل: إنه إذا كان مريضًا مرضًا مخوفًا فإن إجازتهم جائزةٌ وهذا القول هو الراجح، ولا مانع من اعتباره. فعلى هذا نقول: تصح إجازة الورثة في مرض الموت المخوف؛ لأن سبب إرثهم قد انعقد، وهم أحرارٌ.

وإن عوفي فكصحيحٍ. ومن امتد مرضه بجذامٍ أو سل (¬1) أو فالجٍ ولم يقطعه بفراشٍ: فمن كل ماله، والعكس بالعكس. ويعتبر الثلث عند موته، ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ويبدأ بالأول فالأول في العطية، ولا يملك الرجوع فيها، ويعتبر القبول لها عند وجودها، ويثبت الملك إذن. والوصية بخلاف ذلك. ¬

_ (¬1) الآن صار يمكن أن يقضى على السل - ولله الحمد -؛ لا سيما في أوله.

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا يسن (¬1) لمن ترك خيرًا - وهو المال الكثير - أن يوصي بالخمس (¬2). ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا لوارثٍ بشيءٍ؛ إلا بإجازة الورثة لهما بعد الموت، فتصح تنفيذًا (¬3). وتكره وصية فقيرٍ وارثه محتاجٌ، وتجوز بالكل لمن لا وارث له، وإن لم يف الثلث بالوصايا فالنقص بالقسط. ¬

_ (¬1) القول الراجح ... : أن الوصية للأقارب غير الوارثين واجبةٌ ... ، فالصحيح: أن آية الوصية محكمةٌ، وأنه يجب العمل بها، لكن نسخ منها من كان وارثًا من هؤلاء المذكورين - فإنه لا يوصى له -، وبقي من ليس بوارثٍ. (¬2) الدليل على تعين الخمس: هو ما ورد عن أبي بكرٍ - رضي الله عنه - ... ، ولكن ليس بلازمٍ. (¬3) ظاهر كلامه - رحمه الله -: أنه إذا أجازها الورثة صارت حلالًا. وفيه نظرٌ، والصواب: أنها حرامٌ، لكن من جهة التنفيذ تتوقف على إجازة الورثة، فتصح تنفيذًا لا ابتداء عطيةٍ ... و [ظاهر كلامه - أيضًا -: أن الورثة] إن أجازوها قبل الموت فلا عبرة بإجازتهم ... والقول الصحيح: أنهم إذا أذنوا بالوصية بما زاد على الثلث أو لأحد الورثة فلا بأس إذا كان في مرض الموت المخوف ... - إلا إذا علمنا أنهم إنما أذنوا حياءً وخجلًا فلا عبرة بهذا الإذن -، أما في الصحة فلا عبرة بإجازتهم [على جميع الأحوال].

وإن أوصى لوارثٍ فصار عند الموت غير وارثٍ: صحت، والعكس بالعكس. ويعتبر القبول بعد الموت وإن طال، لا قبله (¬1)، ويثبت الملك به عقب الموت (¬2)، ومن قبلها ثم ردها لم يصح الرد (¬3)، ويجوز الرجوع في الوصية. وإن قال: (إن قدم زيدٌ فله ما أوصيت به لعمرٍو)، فقدم في حياته: فله، وبعدها لعمرٍو. ويخرج الواجب كله - من دينٍ وحج (¬4) وغيره - من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به. فإن قال: (أدوا الواجب من ثلثي) بدئ به، فإن بقي منه شيءٌ أخذه صاحب التبرع، وإلا سقط. ¬

_ (¬1) يستثنى من ذلك: ما إذا كانت الوصية لغير عاقلٍ أو لغير محصورٍ. (¬2) قال بعض العلماء - وهو المشهور من المذهب -: إنه لا يثبت الملك إلا بالقبول ... والمسألة محتملةٌ؛ فكلام المؤلف - رحمه الله - له قوةٌ ... ، والمذهب له وجهة نظرٍ - أيضًا - ... ، فالمسألة مترددةٌ بين هذا وهذا ... والأولى والأحسن والأحوط: أن يصطلح الورثة والموصى له في مثل هذه الحال. (¬3) لكن لو قبلها الورثة - أي قبلوا رده للوصية - صار ابتداءً هبةً لهم من الموصى له. (¬4) ظاهر كلامه - رحمه الله - ... : أنه يحج عنه وإن كان الرجل قد ترك الحج لا يريد الحج. ولكن في هذا نظرًا؛ فإن القول الراجح: أنه إذا ترك الحج لا يريد الحج فإنه لا يقضى عنه، ويترك لربه يعاقبه يوم القيامة ... ، أما لو فرض أن الرجل متهاونٌ، يقول: (أحج العام القادم) وهكذا؛ فهذا يتوجب القول بقضاء الحج عنه.

باب الموصى له

باب الموصى له تصح لمن يصح تملكه. ولعبده بمشاعٍ كثلثه، ويعتق منه بقدره، ويأخذ الفاضل، وبمئةٍ أو معينٍ لا تصح له. وتصح: بحملٍ، ولحملٍ تحقق وجوده قبلها. وإذا أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه بألفٍ: صرف من ثلثه مؤونة حجةٍ بعد أخرى حتى ينفد (¬1). ولا تصح: لملكٍ وبهيمةٍ (¬2) وميتٍ (¬3)، فإن وصى لحي وميتٍ يعلم موته فالكل ¬

_ (¬1) الناس في هذه المسألة اختلفوا اختلافًا عظيمًا، ونحن أدركنا من يحج بخمسين ريالًا، أما الآن فلا يحج إلا بثلاثة آلافٍ أو خمسة آلافٍ، فتغير الحال، فربما يكون هذا الموصي الذي قال: (يحج عني حجةٌ بألفٍ) ظن أنه لا يوجد من يحج إلا بألفٍ، فإذا وجدنا من يحج بخمس مئةٍ فالمذهب أن الزائد للورثة، فإن نقصت الألف عن الحجة فماذا نصنع؟ الجواب: إذا كان سبب زيادة الحج معلومًا يرجى زواله فإننا ننتظر ... ، أما لو كان السبب غير طارئٍ ونعلم أنه إن لم تزد قيمة الحجة لم تنقص ولم نجد أحدًا يمكن أن يحج من مكة ففي هذه الحال إما أن نبطل الوصية أو نصرفها في أعمال بر أخرى، وهذا هو المتعين. (¬2) لكن ذكر بعض العلماء أنه يصح الوقف على بهيمةٍ ويصرف في علفها ومؤونتها، فيخرج من هذا أن تصح الوصية للبهيمة، ويصرف ذلك في علفها ومؤونتها. (¬3) وقيل: تصح الوصية للميت وتصرف صدقةً له في أعمال الخير، وهذا القول هو الراجح.

للحي (¬1)، وإن جهل فالنصف. وإن وصى بماله لابنيه وأجنبي فردا: فله التسع. ¬

_ (¬1) على القول الذي رجحناه: يكون للحي النصف، وللميت النصف، ويكون صدقةً له.

باب الموصى به

باب الموصى به تصح بما يعجز عن تسليمه - كآبقٍ وطيرٍ في هواءٍ -، وبالمعدوم - كبما يحمل حيوانه وشجرته أبدًا أو مدةً معينةً -، فإن لم يحصل منه شيءٌ بطلت الوصية. وتصح: بكلب صيدٍ - ونحوه -، وبزيتٍ متنجسٍ، وله ثلثهما - ولو كثر المال (¬1) - إن لم تجز الورثة. وتصح بمجهولٍ - كعبدٍ، وشاةٍ -. ويعطى ما يقع عليه الاسم العرفي. وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالًا - ولو ديةً -: دخل في الوصية. ومن أوصي له بمعينٍ فتلف بطلت، وإن تلف المال غيره فهو للموصى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة. ¬

_ (¬1) إشارةٌ إلى خلافٍ، وهو أن من العلماء من يقول: إنه إذا لم يزد على الثلث - لو فرضنا له قيمةٌ - فإنه لا تعتبر إجازة الورثة، ويعطى الموصى له بكل حالٍ.

باب الوصية بالأنصباء والأجزاء

باب الوصية بالأنصباء والأجزاء إذا أوصى بمثل نصيب وارثٍ معينٍ: فله مثل نصيبه مضمومًا إلى المسألة. فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث، وإن كانوا ثلاثةً فله الربع، وإن كان معهم بنتٌ فله التسعان. وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين: كان له مثل ما لأقلهم نصيبًا؛ فمع ابنٍ وبنتٍ ربعٌ، ومع زوجةٍ وابنٍ تسعٌ، وبسهمٍ من ماله فله سدسٌ (¬1)، وبشيءٍ أو جزءٍ أو حظ أعطاه الوارث ما شاء (¬2). ¬

_ (¬1) وهذا مروي عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم -، فأخذ به الفقهاء توقيفًا لا تعليلًا، وقال بعضهم: إنه تعليلٌ؛ لأن السهم في اللغة العربية السدس. ولكن في القلب شيءٌ من هذا؛ لأن السهم يقتضي أن يكون أقل سهمٍ ... وأما السدس فلعلها قضايا أعيانٍ وردت عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم -، فظن أنها توقيفٌ. وما دامت المسألة ليس فيها نص شرعي ولا حقيقةٌ شرعيةٌ فينبغي أن يرجع في ذلك إلى المسألة ويقال: أدنى سهمٍ فيها هو الواجب للموصى له. (¬2) ظاهر كلامهم - رحمهم الله -: أنه يعطيه ما شاء مطلقًا، حتى ولو كان بعيدًا أن يكون مرادًا ... ولكن ينبغي أن يقال: ما لم يخالف ذلك العرف، فإن خالف العرف رجعنا إلى ما تقتضيه الوصية ... ؛ فهذه المسائل يرجع فيها إلى العرف، لا إلى مطلق المعنى؛ لأن الناس لهم أعرافٌ ولهم إراداتٌ تخصص العام أو تعمم الخاص، أو تطلق المقيد - أو ما أشبه ذلك -.

باب الموصى إليه

باب الموصى إليه تصح وصية المسلم إلى كل مسلمٍ مكلفٍ عدلٍ (¬1) رشيدٍ (¬2) - ولو عبدًا (¬3)، ويقبل بإذن سيده -. وإذا أوصى إلى زيدٍ وبعده إلى عمرٍو ولم يعزل زيدًا: اشتركا (¬4)، ولا ينفرد أحدهما بتصرفٍ لم يجعله له. ¬

_ (¬1) إن أوصى لفاسقٍ فالمذهب: أنه لا تصح الوصية إليه ... ، ولكن ينبغي أن يقال: إن هذا مبني على الشهادة ... ولهذا نقول: إن اشتراط العدالة فيه تفصيلٌ: فإن كانت العدالة تخدش في تصرفه فهي شرطٌ، وإن كانت لا تخدش في تصرفه وأنه يتصرف تصرفًا تاما ليس فيه أي إشكالٍ فإنها ليست بشرطٍ، وهذا هو الصحيح في مفهوم قوله: (عدلٍ). (¬2) الرشد لا بد منه، لكن الرشد في كل موضعٍ بحسبه ... ؛ فالرشيد في المال ليس الرشيد في ولاية النكاح، والرشيد في النكاح ليس الرشيد في المال. (¬3) إشارة خلافٍ ... ؛ [فمنهم] من يقول: لا تصح الوصية إلى العبد مطلقًا ... والقول الثالث: التفصيل؛ فالوصية إلى عبد نفسه جائزةٌ، والوصية إلى عبد غيره غير جائزةٍ ... وهذا القول وسطٌ بين القول بالمنع مطلقًا والقول بالجواز مطلقًا، ومع ذلك لا بد من إذن السيد. (¬4) وقيل: إن الوصية للأخير ... ، وهذا القول هو الراجح.

ولا تصح وصيةٌ إلا في تصرفٍ معلومٍ (¬1) يملكه الموصي؛ كقضاء دينه وتفرقة ثلثه (¬2) والنظر لصغاره. ولا تصح بما لا يملكه الموصي؛ كوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر - ونحو ذلك - (¬3). ومن وصي في شيءٍ: لم يصر وصيا في غيره. وإن ظهر على الميت دينٌ يستغرق تركته بعد تفرقة الوصي: لم يضمن (¬4). وإن قال: (ضع ثلثي حيث شئت): لم يحل له ولا لولده. ومن مات بمكانٍ لا حاكم به ولا وصي: حاز بعض من حضره من المسلمين تركته، وعمل الأصلح حينئذٍ فيها من بيعٍ وغيره. ¬

_ (¬1) [أي]: إن كان في تصرفٍ مجهولٍ فإنه لا يصح ... ، [لكن] إذا أوصى بشيءٍ وأطلق - مثل أن يقول: (أوصيت بخمسي إلى فلانٍ) ولم يذكر شيئًا -؛ فالصحيح أنه جائزٌ، ويصرف فيما اعتاده أهل البلد، أو على الأصح فيما يرى أنه أفضل. (¬2) ليت [المؤلف] قال: (تفرقة خمسه)؛ لأنه في أول الوصايا قال: (تسن بالخمس)، وإذا كان هذا هو الأفضل فينبغي أن يكون هو مورد التمثيل؛ لأن الثلث مباحٌ والخمس أفضل، وإذا كان كذلك فينبغي أن نذكر الأفضل حتى يعتاد عليه الناس. (¬3) في المسألة قولٌ آخر: وهو أنها تصح ولايتها ومن ثم وصيتها ... ، وكثيرٌ من النساء تكون رعايتها لأولادها أفضل بكثيرٍ من رعاية الرجال. (¬4) [لكن] لو علم الوصي له أن على الميت دينًا ولكنه أخذ الموصى به وتصرف فيه فإنه يضمن.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض وهي العلم بقسمة المواريث. أسباب الإرث: رحمٌ، ونكاحٌ، وولاءٌ. والورثة: ذو فرضٍ، وعصبةٍ، ورحمٍ. فذو الفرض عشرةٌ: الزوجان، والأبوان، والجد والجدة، والبنات، وبنات الابن، والأخوات من كل جهةٍ، والإخوة من الأم. فللزوج النصف، ومع وجود ولدٍ أو ولد ابنٍ وإن نزل الربع، وللزوجة فأكثر نصف حاليه فيهما، ولكل من الأب والجد السدس بالفرض مع ذكور الولد أو ولد الابن، ويرثان بالتعصيب مع عدم الولد وولد الابن، وبالفرض والتعصيب مع إناثهما. فصلٌ (¬1) والجد لأبٍ وإن علا مع ولد أبوين أو أبٍ: كأخٍ منهم، فإن نقصته المقاسمة عن ثلث المال أعطيه. ¬

_ (¬1) هذا الفصل عقده المؤلف لميراث الجد مع الإخوة. واعلم أن القول الصحيح أن الإخوة لا يرثون مع الجد، وحينئذٍ كل هذا الفصل الذي ذكره المؤلف لا حاجة إليه.

ومع ذي فرضٍ بعده: الأحظ من المقاسمة، أو ثلث ما بقي، أو سدس الكل. فإن لم يبق سوى السدس: أعطيه، وسقط الإخوة - إلا في الأكدرية -. ولا يعول ولا يفرض لأختٍ معه إلا بها. وولد الأب إذا انفردوا معه: كولد الأبوين. فإن اجتمعوا فقاسموه: أخذ عصبة ولد الأبوين ما بيد ولد الأب، وأنثاهم تمام فرضها، وما بقي لولد الأب. فصلٌ وللأم السدس مع ولدٍ، أو ولد ابنٍ، أو اثنين من إخوةٍ أو أخواتٍ. والثلث مع عدمهم. والسدس مع زوجٍ وأبوين. والربع مع زوجةٍ وأبوين. وللأب مثلاهما (¬1). فصلٌ ترث: أم الأم، وأم الأب، وأم أب الأب - وإن علون أمومةً -: السدس. ¬

_ (¬1) هذا التعبير غير صحيحٍ، وهو تساهلٌ كبيرٌ جدا من المؤلف - رحمه الله - لأنه لم يرد في القرآن ولا في السنة أن الأم لها الربع أبدًا؛ فالأم إما لها الثلث وإما السدس، هذا الذي في القرآن، والصواب أن نقول: وثلث الباقي مع زوجٍ وأبٍ، أو زوجةٍ وأبٍ.

فإن تحاذين: فبينهن. ومن قربت فلها وحدها. وترث أم الأب والجد معهما: كالعم. وترث الجدة بقرابتين: ثلثي السدس. فلو تزوج بنت خالته فأتت بولدٍ فجدته: أم أم أم ولدهما، وأم أم أبيه. وإن تزوج بنت عمته فجدته: أم أم أمه، وأم أبي أبيه. فصلٌ والنصف: فرض بنتٍ وحدها، ثم هو لبنت ابنٍ وحدها، ثم لأختٍ لأبوين، أو لأبٍ وحدها، والثلثان لثنتين من الجميع فأكثر إذا لم يعصبن بذكرٍ. والسدس: لبنت ابنٍ فأكثر مع بنتٍ، ولأختٍ فأكثر لأبٍ مع أختٍ لأبوين، مع عدم معصبٍ فيهما. فإن استكمل الثلثين بناتٌ أو هما: سقط من دونهن إن لم يعصبهن ذكرٌ بإزائهن أو أنزل منهن. وكذا الأخوات من الأب مع الأخوات لأبوين إن لم يعصبهن أخوهن. والأخت فأكثر: ترث بالتعصيب ما فضل عن فرض البنت فأزيد. وللذكر أو الأنثى من ولد الأم: السدس. ولاثنين فأزيد: الثلث بينهم بالسوية.

فصلٌ يسقط: الأجداد بالأب، والأبعد بالأقرب، والجدات بالأم، وولد الابن بالابن، وولد الأبوين بابنٍ وابن ابنٍ وأبٍ، وولد الأب بهم وبالأخ لأبوين، وولد الأم بالولد وبولد الابن وبالأب وأبيه، ويسقط به كل ابن أخٍ وعم.

باب العصبات

باب العصبات وهم كل من لو انفرد لأخذ المال بجهةٍ واحدةٍ. ومع ذي فرضٍ: يأخذ ما بقي. فأقربهم: ابنٌ فابنه - وإن نزل -، ثم الأب، ثم الجد - وإن علا - مع عدم أخٍ لأبوين أو لأبٍ (¬1)، ثم هما، ثم بنوهما أبدًا، ثم عم لأبوين، ثم عم لأبٍ، ثم بنوهما كذلك، ثم أعمام أبيه لأبوين، ثم لأبٍ، ثم بنوهم كذلك، ثم أعمام جده، ثم بنوهم كذلك. لا يرث بنو أبٍ أعلى مع بني أبٍ أقرب وإن نزلوا. فأخٌ لأبٍ أولى من عم وابنه وابن أخٍ لأبوين، وهو أو ابن أخٍ لأبٍ أولى من ابن ابن أخٍ لأبوين، ومع الاستواء يقدم من لأبوين. فإن عدم عصبة النسب: ورث المعتق، ثم عصبته. فصلٌ يرث الابن، وابنه، والأخ لأبوين، أو لأبٍ مع أخته: مثليها. وكل عصبةٍ غيرهم: لا ترث أخته معه شيئًا. وابنا عم أحدهما أخٌ لأم أو زوجٌ: له فرضه، والباقي لهما. ويبدأ: بذوي الفروض، وما بقي للعصبة، ويسقطون في الحمارية. ¬

_ (¬1) هذا الشرط مبني على القول الضعيف أن الإخوة يرثون مع الجد، أما على القول الراجح فلا حاجة لهذا القيد؛ بل نقول: (ثم الأب ثم الجد).

باب أصول المسائل

باب أصول المسائل الفروض ستةٌ: نصفٌ، وربعٌ، وثمنٌ، وثلثان، وثلثٌ، وسدسٌ. والأصول سبعةٌ: فنصفان أو نصفٌ وما بقي من اثنين، وثلثان أو ثلثٌ وما بقي أو هما من ثلاثةٍ وربعٌ، أو ثمنٌ وما بقي، أو مع النصف من أربعةٍ ومن ثمانيةٍ؛ فهذه أربعةٌ لا تعول. والنصف مع الثلثين أو الثلث أو السدس أو هو وما بقي: من ستةٍ، وتعول إلى عشرةٍ شفعًا ووترًا. والربع مع الثلثين أو الثلث أو السدس: من اثني عشر، وتعول إلى سبعة عشر وترًا. والثمن مع سدسٍ أو ثلثين: من أربعةٍ وعشرين، وتعول إلى سبعةٍ وعشرين. وإن بقي بعد الفروض شيءٌ ولا عصبة: رد على كل فرضٍ بقدره غير الزوجين.

باب التصحيح والمناسخات وقسمة التركات

باب التصحيح والمناسخات وقسمة التركات إذا انكسر سهم فريقٍ عليهم: ضربت عددهم إن باين سهامهم، أو وفقه إن وافقه بجزءٍ - كثلثٍ ونحوه - في أصل المسألة وعولها إن عالت، فما بلغ صحت منه، ويصير للواحد ما كان لجماعته أو وفقه. فصلٌ إذا مات شخصٌ ولم تقسم تركته حتى مات بعض ورثته: فإن ورثوه كالأول: كإخوةٍ؛ فاقسمها على من بقي. وإن كان ورثة كل ميتٍ لا يرثون غيره: كإخوةٍ لهم بنون؛ فصحح الأولى، واقسم سهم كل ميتٍ على مسألته، وصحح المنكسر كما سبق. وإن لم يرثوا الثاني كالأول: صححت الأولى، وقسمت أسهم الثاني على ورثته، فإن انقسمت صحت من أصلها، وإن لم تنقسم ضربت كل الثانية أو وفقها للسهام في الأولى، ومن له شيءٌ منها فاضربه فيما ضربته فيها، ومن له من الثانية شيءٌ فاضربه فيما تركه الميت أو وفقه فهو له، وتعمل في الثالث فأكثر عملك في الثاني مع الأول. فصلٌ إذا أمكن نسبة سهم كل وارثٍ من المسألة بجزءٍ: فله كنسبته.

باب ذوي الأرحام

باب ذوي الأرحام يرثون بالتنزيل الذكر والأنثى سواءٌ (¬1). فولد البنات، وولد بنات البنين، وولد الأخوات: كأمهاتهم (¬2). وبنات الإخوة، والأعمام لأبوين أو لأبٍ، وبنات بنيهم، وولد الإخوة لأم: كآبائهم. والأخوال، والخالات، وأبو الأم: كالأم. والعمات، والعم لأم: كأبٍ. وكل جدةٍ أدلت بأبٍ بين أمين هي إحداهما: كأم أبي أم، أو بأبٍ أعلى من الجد: كأم أبي الجد (¬3)، وأبو أم أبٍ، وأبو أم أم، وأخواهما، وأختاهما بمنزلتهم، فيجعل حق كل وارثٍ لمن أدلى به، فإن أدلى جماعةٌ بوارثٍ واستوت منزلتهم منه بلا سبقٍ، كأولاده، فنصيبه لهم. ¬

_ (¬1) القول الثاني في المسألة: أنهم إن أدلوا بمن ذكرهم وأنثاهم سواءٌ فذكرهم وأنثاهم سواءٌ، وإن أدلوا بمن يختلف فيه الذكر عن الأنثى فهم يختلفون ... ، وهذا مقتضى قولنا: ننزلهم منزلة من أدلوا به. (¬2) وعلى القول الثاني: للذكر مثل حظ الأنثيين. (¬3) قد مر علينا أن الصحيح أنها وارثةٌ، وأن كل جدةٍ أدلت بوارثٍ فهي وارثةٌ، وكل جدةٍ أدلت بغير وارثٍ فهي غير وارثةٍ.

فابنٌ وبنتٌ لأختٍ مع بنتٍ لأختٍ أخرى، لهذه حق أمها وللأوليين حق أمهما. وإن اختلفت منازلهم منه: جعلتهم معه كميتٍ اقتسموا إرثه. فإن خلف ثلاث خالاتٍ متفرقاتٍ، وثلاث عماتٍ متفرقاتٍ: فالثلث للخالات أخماسًا، والثلثان للعمات أخماسًا، وتصح من خمسة عشر. وفي ثلاثة أخوالٍ متفرقين: لذي الأم السدس، والباقي لذي الأبوين. فإن كان معهم أبو أم: أسقطهم (¬1). وفي ثلاث بنات عمومةٍ متفرقين: المال للتي للأبوين. وإن أدلى جماعةٌ بجماعةٍ: قسمت المال بين المدلى بهم، فما صار لكل واحدٍ أخذه المدلي به، وإن سقط بعضهم ببعضٍ عملت به. والجهات: أبوةٌ، وأمومةٌ، وبنوةٌ. ¬

_ (¬1) لو كان معهم جد أم فعلى القول الراجح: يسقط الإخوان.

باب ميراث الحمل والخنثى المشكل

باب ميراث الحمل والخنثى المشكل من خلف ورثةً فيهم حملٌ فطلبوا القسمة: وقف للحمل الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين، فإذا ولد أخذ حقه وما بقي فهو لمستحقه، ومن لا يحجبه يأخذ إرثه كالجدة، ومن ينقصه شيئًا اليقين، ومن سقط به لم يعط شيئًا. ويرث ويورث: إن استهل صارخًا، أو عطس، أو بكى، أو رضع، أو تنفس - وطال زمن التنفس -، أو وجد دليل حياته غير حركةٍ واختلاجٍ. وإن ظهر بعضه فاستهل ثم مات وخرج: لم يرث. وإن جهل المستهل من التوأمين واختلف إرثهما: يعين بقرعةٍ. والخنثى المشكل: يرث نصف ميراث ذكرٍ، ونصف ميراث أنثى.

باب ميراث المفقود

باب ميراث المفقود من خفي خبره بأسرٍ أو سفرٍ غالبه السلامة - كتجارةٍ -: انتظر به تمام تسعين سنةً منذ ولد، وإن كان غالبه الهلاك - كمن غرق في مركبٍ، فسلم قومٌ دون قومٍ، أو فقد من بين أهله أو في مفازةٍ مهلكةٍ -: انتظر به تمام أربع سنين منذ فقد (¬1)، ثم يقسم ماله فيهما. فإن مات مورثه في مدة التربص: أخذ كل وارثٍ - إذن - اليقين ووقف ما بقي. فإن قدم: أخذ نصيبه. وإن لم يأت: فحكمه حكم ماله، ولباقي الورثة أن يصطلحوا على ما زاد عن حق المفقود فيقتسمونه. ¬

_ (¬1) القول الراجح في هذه المسألة أنه يرجع فيه إلى اجتهاد الإمام أو من ينيبه الإمام في القضاء.

باب ميراث الغرقى

باب ميراث الغرقى إذا مات متوارثان - كأخوين لأبٍ - بهدمٍ أو غرقٍ أو غربةٍ أو نارٍ، وجهل السابق بالموت ولم يختلفوا فيه: ورث كل واحدٍ من الآخر من تلاد ماله دون ما ورثه منه؛ دفعًا للدور (¬1). ¬

_ (¬1) القول الثاني: أنه لا توارث بينهم؛ كل واحدٍ منهم لا يرث الآخر، وإنما يرثه الورثة الآخرون ... وهذا القول مع كونه أصح وأوفق للأدلة الشرعية، فهو - أيضًا - أهون وأقطع للنزاع.

باب ميراث أهل الملل

باب ميراث أهل الملل لا يرث المسلم الكافر إلا بالولاء، ولا الكافر المسلم إلا بالولاء (¬1). ويتوارث: الحربي، والذمي، والمستأمن. وأهل الذمة يرث بعضهم بعضًا مع اتفاق أديانهم لا مع اختلافها، وهم مللٌ شتى. والمرتد لا يرث أحدًا، وإن مات على ردته: فماله فيءٌ (¬2). ويرث المجوس بقرابتين إن أسلموا أو تحاكموا إلينا قبل إسلامهم، وكذا حكم المسلم يطأ ذات رحمٍ محرمٍ منه بشبهةٍ (¬3). ولا إرث بنكاح ذات رحمٍ محرمٍ، ولا بعقدٍ لا يقر عليه لو أسلم. ¬

_ (¬1) هذا الاستثناء لا دليل عليه، ولا يصح أثرًا ولا نظرًا. (¬2) هذا ما ذهب إليه الفقهاء - رحمهم الله -، وهم أسعد بالدليل مما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فإنه - رحمه الله - يرى أن المرتد يورث ... والمسألة ليست عندي بذاك المسألة البينة، إذن نبقى على الأصل، وهو: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم). (¬3) وقيل: يرث بأقوى الجهتين ميراثًا واحدًا.

باب ميراث المطلقة

باب ميراث المطلقة من أبان زوجته في صحته أو مرضه غير المخوف ومات به، أو المخوف ولم يمت به (¬1): لم يتوارثا؛ بل: في طلاقٍ رجعي لم تنقض عدته. وإن أبانها في مرض موته المخوف متهمًا بقصد حرمانها، أو علق إبانتها في صحته على مرضه، أو على فعلٍ له ففعله في مرضه ونحوه: لم يرثها (¬2)، وترثه في العدة وبعدها - ما لم تتزوج أو ترتد -. ¬

_ (¬1) هذه المسألة تحتاج إلى تحريرٍ؛ لأن كونه طلقها في مرض موته المخوف واضحٌ أنه أراد الحرمان، فإذا شفي ثم عاد المرض ومات ففي حرمانها نظرٌ؛ لأن التهمة قائمةٌ. (¬2) لو علقه على فعلٍ ففعلته في مرضه؛ ففيه تفصيلٌ: إن كان هذا الفعل لا بد لها منه شرعًا أو حسا فإنها تطلق وترث لأنها لا بد أن تفعل؛ فلو قال: (إن صليت الظهر فأنت طالقٌ) وجاء وقت الظهر وجب أن تصلي، فصلت؛ تطلق وترث ... ، لكن لو قال: (إن أكلت الأرز فأنت طالقٌ)، فلما مرض أكلت الأرز؛ هذه تطلق ولا ترث.

باب الإقرار بمشارك في الميراث

باب الإقرار بمشاركٍ في الميراث إذا أقر كل الورثة - ولو أنه واحدٌ - بوارثٍ للميت وصدق، أو كان صغيرًا أو مجنونًا والمقر به مجهول النسب (¬1): ثبت نسبه وإرثه. وإن أقر أحد ابنيه بأخٍ مثله: فله ثلث ما بيده. وإن أقر بأختٍ: فلها خمسه. ¬

_ (¬1) والشرط الثالث: إمكان صدق الدعوى.

باب ميراث القاتل والمبعض والولاء

باب ميراث القاتل والمبعض والولاء من انفرد بقتل مورثه، أو شارك فيه مباشرةً، أو سببًا بلا حق: لم يرثه إن لزمه قودٌ أو ديةٌ أو كفارةٌ، والمكلف وغيره سواءٌ (¬1). وإن قتل بحق - قودًا أو حدا أو كفرًا - (¬2)، أو ببغيٍ أو صيالةٍ أو حرابةٍ أو شهادة وارثه، أو قتل العادل الباغي - وعكسه - (¬3): ورثه. ولا يرث الرقيق، ولا يورث. ويرث: من بعضه حر ويورث، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية. ومن أعتق عبدًا: فله عليه الولاء (¬4) وإن اختلف دينهما (¬5). ولا يرث النساء بالولاء إلا من أعتقن، أو أعتقه من أعتقن. ¬

_ (¬1) القول الراجح في مسألة القتل: أنه إذا تعمد الوارث قتل مورثه عمدًا لا شك فيه فإنه لا يرث، وإن كان خطأً فإنه يرث. (¬2) هذا على القول بأن الولاء لا يمنع فيه اختلاف الدين فتصح هذه الصورة، أو القول بأن المرتد يرثه أقاربه كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (¬3) وقيل: إن قتل الباغي العادل فإنه لا يرث؛ لأنه ليس بحق، وهو الراجح. (¬4) ظاهر كلام المؤلف: سواءٌ أعتقه تطوعًا، أو أعتقه في زكاةٍ، أو أعتقه في كفارةٍ؛ فالولاء له ... وقال بعض أهل العلم: الولاء في غير التطوع يكون للجهة التي أعتقه من أجلها. (¬5) القول الثاني: أنه لا توارث بينهما وإن ثبت الولاء ... ، وهذا القول هو الراجح.

كتاب العتق

كتاب العتق وهو من أفضل القرب. ويستحب عتق من له كسبٌ، وعكسه بعكسه (¬1). ويصح تعليق العتق بموتٍ، وهو التدبير. ¬

_ (¬1) ومن باب أولى: إذا كان هذا العبد معروفًا بالشر والفساد فإننا نقول: (لا تعتقه)؛ لأنك إذا أعتقته ذهب يفسد في الأرض.

باب الكتابة

باب الكتابة وهي: بيع عبده نفسه بمالٍ مؤجلٍ (¬1) في ذمته. وتسن (¬2) مع أمانة العبد وكسبه، وتكره مع عدمه. ويجوز بيع المكاتب، ومشتريه يقوم مقام مكاتبه، فإن أدى له عتق، وولاؤه له، وإن عجز عاد قنا. ¬

_ (¬1) الكتابة يجوز أن تكون بحالٍ إذا كان من غير العبد، أما من العبد فهذا متعذرٌ لأنه لا يملك. (¬2) قال بعض العلماء - ومنهم الظاهرية -: إن الكتابة تجب إذا طلبها العبد بهذا الشرط: (إن علمتم فيهم خيرًا) ... وهذا القول قوي جدا؛ أي: وجوب إجابة العبد إلى الكتابة إذا طلبها بشرط أن نعلم فيه خيرًا.

باب أحكام أمهات الأولاد

باب أحكام أمهات الأولاد إذا أولد حر أمته - أو أمةً له ولغيره، أو أمةً لولده (¬1) -، خلق ولده حرا، حيا ولد أو ميتًا، قد تبين فيه خلق الإنسان، لا مضغةٍ أو جسمٍ بلا تخطيطٍ: صارت أم ولدٍ له، تعتق بموته من كل ماله. وأحكام أم الولد أحكام الأمة من: وطءٍ، وخدمةٍ، وإجارةٍ - ونحوه -، لا: في نقل الملك في رقبتها، ولا بما يراد له - كوقفٍ وبيعٍ ورهنٍ ونحوها -. ¬

_ (¬1) [أي]: إذا أولد أمةً لولده صارت أم ولدٍ، والمؤلف أطلق، فيقتضي أنه لا فرق بين أن يكون الولد وطئها أو لا. وفي هذا نظرٌ؛ لأن الولد إذا وطئها صارت من حلائله فلا تحل للأب، كما أن القول الراجح: أنه لا يحل للأب أن يطأ أمة ولده إلا بعد أن ينوي التملك، أما أن يطأها ونيته أنها باقيةٌ في ملك الولد فهذا حرامٌ ... ، لكن لنقل: إنه جامع أمة ولده بشبهةٍ فإنها تكون أم ولدٍ.

كتاب النكاح

كتاب النكاح وهو سنةٌ. وفعله مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة. ويجب على من يخاف زنًا بتركه (¬1). ويسن نكاح: - واحدةٍ (¬2). ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: إنه واجبٌ مطلقًا ... ، ولكن لا بد من شرطٍ على هذا القول، وهو الاستطاعة ... والقول بالوجوب عندي أقرب، وأن الإنسان الذي له شهوةٌ ويستطيع أن يتزوج فإنه يجب عليه النكاح. (¬2) هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم: فمن العلماء من قال: إنه ينبغي أن يتزوج أكثر من واحدةٍ ما دام عنده قدرةٌ ماليةٌ وطاقةٌ بدنيةٌ بحيث يقوم بواجبهن؛ فإن الأفضل أن يتزوج أكثر؛ تحصيلًا لمصالح النكاح ... لكن من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعدد الزوجات من أجل قضاء الوطر، وإنما من أجل المصلحة العامة؛ حتى يكون له في كل قبيلةٍ صلةٌ ... ؛ لأن المصاهرة قسيم النسب وعديل النسب ... ، ومن جهةٍ أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلمأراد أن يكثر الأخذ عنه في الأعمال الخفية التي لا تكون إلا في البيوت، فزوجاته تأخذن عنه، ولهذا كان كثيرٌ من السنن التي لا يعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم تؤخذ من زوجاته - رضي الله عنهن - ... فعلى كل حالٍ نقول: التعدد خيرٌ لما فيه من المصالح، ولكن بالشرط الذي ذكره الله - عز وجل -، وهو أن يكون الإنسان قادرًا على العدل. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يسن أن يقتصر على واحدةٍ، وعلل ذلك بأنه أسلم للذمة من الجور؛ لأنه إذا تزوج اثنتين أو أكثر فقد لا يستطيع العدل بينهما، ولأنه أقرب إلى منع تشتت الأسرة ... ، ولأنه أقرب إلى القيام بواجبها - من النفقة وغيرها - ... وعلى هذا نقول: الاقتصار على الواحدة أسلم، ولكن مع ذلك إذا كان الإنسان يرى من نفسه أن الواحدة لا تكفيه ولا تعفه فإننا نأمره بأن يتزوج ثانيةً وثالثةً ورابعةً حتى تحصل له الطمأنينة وغض البصر وراحة النفس.

- دينةٍ. - أجنبيةٍ (¬1). - بكرٍ (¬2). - ولودٍ. - بلا أم (¬3). ¬

_ (¬1) لكن إذا وجد في الأقارب من أفضل منها بالاعتبارات الأخرى فإنه يكون أفضل. (¬2) لكن قد يختار الإنسان الثيب لأسبابٍ - مثل ما فعل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما - ... ، فإذا اختار الإنسان ثيبًا لأغراضٍ أخرى فإنها تكون أفضل. (¬3) لا ينبغي أن نقول: إنه يختار امرأةً لا أم لها؛ بل نقول: يختار امرأةً أمها صالحةٌ، أما أن نقول: (بلا أم)؛ فهذا فيه نظرٌ؛ لأن من الأمهات من تكون خيرًا على بناتهن وعلى أزواجهن.

وله (¬1) نظر ما يظهر غالبًا (¬2)، مرارًا، بلا خلوةٍ (¬3). ويحرم التصريح بخطبة المعتدة من وفاةٍ، والمبانة - دون التعريض -. ويباحان لمن أبانها دون الثلاث؛ كرجعيةٍ (¬4). ويحرمان منها على غير زوجها. والتعريض: (إني في مثلك لراغبٌ)، وتجيبه: (ما يرغب عنك) - ونحوهما - (¬5). ¬

_ (¬1) اللام للإباحة ... ، وظاهر كلام المؤلف - هنا -: أن النظر للمخطوبة مباحٌ وليس بمطلوبٍ ... ، فإن كان المؤلف أراد دفع توهم المنع فلا إشكال، وإن كان أراد إثبات حكم الإباحة فالمسألة فيها قولٌ آخر، وهو أنه سنةٌ، وهو الصواب. (¬2) كلمة (غالبًا) مربوطةٌ بعرف السلف الصالح، لا بعرف كل أحدٍ؛ لأننا لو جعلناها بعرف كل أحدٍ لضاعت المسألة واختلف الناس اختلافًا عظيمًا، لكن المقصود: ما يظهر غالبًا وينظر إليه المحارم فللخاطب أن ينظر إليه، وأهم شيءٍ في الأمر هو الوجه. (¬3) [ولا يجوز له مكالمتها]؛ لأن المكالمة أدعى للشهوة والتلذذ بصوتها، ولهذا قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «أن ينظر منها»، ولم يقل: (أن يسمع منها). (¬4) هذا التمثيل فيه نظرٌ؛ لأن الرجعية بالنسبة لزوجها ما تخطب؛ بل يراجعها ... ، لكنه ذكر ذلك تمهيدًا لقوله: (ويحرمان منها على غير زوجها). (¬5) فهم من كلام المؤلف أنه يجوز للإنسان أن يخاطب مخطوبته، وعليه فنقول: هذا الإطلاق من المؤلف يجب أن يقيد بأن لا يحدث شهوةٌ أو تلذذٌ بمخاطبتها، فإن حصل ذلك فإنه لا يجوز؛ لأن الفتنة يجب أن يبتعد عنها الإنسان.

فإن أجاب ولي مجبرةٍ، أو أجابت غير المجبرة لمسلمٍ (¬1): حرم على غيره خطبتها (¬2). وإن رد، أو أذن (¬3)، أو جهل الحال (¬4): جاز. ¬

_ (¬1) علم منه أنها لو أجابت لغير مسلمٍ فإنه يجوز خطبتها، فيخطب على خطبة غير المسلم؛ كامرأةٍ نصرانيةٍ - مثلًا - خطبها نصراني؛ فظاهر كلام المؤلف أنه يجوز للمسلم أن يخطب على خطبة هذا النصراني ... وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم؛ فمنهم من قال: إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خطبة أخيه» من باب الأغلب، والغالب أن الخاطب مسلمٌ، ومعلومٌ أن القيد إذا كان للأغلب فلا مفهوم له، وعلى هذا لا يجوز للرجل أن يخطب على خطبة النصراني؛ لأن النصراني له حقوقٌ. وهذا القول أصح ... ، أما إذا كان حربيا فليس له حق. (¬2) علم من كلام المؤلف أن النساء قسمان: مجبراتٌ وغير مجبراتٍ، وهذا مبني على المذهب ... والصحيح: أنه ليس هناك امرأةٌ تجبر على النكاح. نعم؛ لو زوج صغيرةً وقلنا بجواز تجويز الصغيرة فهذه لا تعتبر إجابتها؛ إنما المعتبر إجابة الولي، لكن نحن نمشي على كلام المؤلف، وكونها تجبر أو لا تجبر فسيأتي - إن شاء الله - في بابه؛ فالمعتبر إجابة غير المجبرة وإجابة ولي المجبرة. (¬3) لكن إذا علمنا أنه أذن حياءً وخجلًا لا اختيارًا فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا الإذن كعدمه، أو علمنا أنه أذن خوفًا لأن الذي استأذنه رجلٌ شريرٌ لو لم يأذن له لآذاه؛ فلا يجوز الإقدام. (¬4) الصحيح: أنه إذا جهل الحال حرمت الخطبة؛ لأن هذا اعتداءٌ على حقه، وربما يكون أهل الزوجة قد ركنوا إلى هذا الخاطب إلا أنهم ما أجابوه، فإذا جاءت خطبةٌ أخرى عدلوا عنه.

ويسن العقد: يوم الجمعة مساءً (¬1) بخطبة ابن مسعودٍ. فصلٌ وأركانه: الزوجان الخاليان من الموانع، والإيجاب، والقبول. ولا يصح ممن يحسن العربية بغير لفظ: (زوجت)، أو (أنكحت)، و (قبلت هذا النكاح)، أو (تزوجتها)، أو (تزوجت)، أو (قبلت) (¬2). ومن جهلهما لم يلزمه تعلمهما، وكفاه معناهما الخاص بكل لسانٍ (¬3). فإن تقدم القبول لم يصح (¬4)، وإن تأخر عن الإيجاب صح ما داما في المجلس، ¬

_ (¬1) لا أعلم في هذا سنةً، وقد عللوا ذلك بأن يوم الجمعة آخره فيه ساعة الإجابة ... [ومسألةٌ أخرى ذكرها ابن القيم، وهي:] أنه ينبغي أن يكون في المسجد - أيضًا - لشرف الزمان والمكان. وهذا فيه نظرٌ في المسألتين جميعًا ... والصواب: أنه متى تيسر العقد؛ سواءٌ في المسجد أو البيت أو السوق أو الطائرة - ونحو ذلك -. (¬2) القاعدة: أن جميع العقود تنعقد بما دل عليها عرفًا؛ سواءٌ كانت بلفظ الوارد أو بغير اللفظ الوارد، وسواءٌ كان ذلك في النكاح أو في غير النكاح، هذا هو القول الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (¬3) ويستثنى من ذلك: إذا تزوجها وهي مملوكةٌ وجعل عتقها صداقها، فلا يحتاج إلى اللغة العربية، ولا إلى لفظ التزويج أو الإنكاح؛ بل يقول: (أعتقتك وجعلت عتقك صداقك). (¬4) القول الراجح: أنه إذا تقدم القبول على وجهٍ يحصل به فإنه يصح.

ولم يتشاغلا بما يقطعه (¬1)، وإن تفرقا قبله بطل. فصلٌ وله شروطٌ: أحدها: تعيين الزوجين، فإن أشار الولي إلى الزوجة، أو سماها، أو وصفها بما تتميز به، أو قال: (زوجتك بنتي) وله واحدةٌ لا أكثر: صح. فصلٌ الثاني: رضاهما؛ إلا البالغ المعتوه، والمجنونة، والصغير (¬2)، والبكر ولو ¬

_ (¬1) فإن تشاغلا بما يقطعه بغير اختيارٍ؛ مثل أن قال له: (زوجتك بنتي)؛ فمن شدة الفرح قام يبكي وأطال [البكاء] حتى قال: (قبلت) فإنه يصح؛ لأن هذا بغير اختياره، أو أصابته سعلةٌ ثم قال: (قبلت) فهذا لا بأس به لأن هذا الانفصال كان لعذرٍ. (¬2) في [مسألة الصغير] نظرٌ؛ صحيحٌ أن الصغير لا إذن له معتبرٌ لأنه يحتاج إلى ولي، لكن هل هو في حاجةٍ إلى الزواج؟ غالبًا ليس بحاجةٍ، والصغر علةٌ يرجى زوالها بالبلوغ، فلننتظر حتى يبلغ، أما المجنون والمعتوه فعلتهما لا ينتظر زوالها ... والمذهب يقولون: ربما يحتاج الصغير إلى زوجةٍ؛ كأن تكون أمه ميتةً والزوجة ستقوم بحاجاته ومصالحه، ... ، فهذا [- على المذهب -] يجوز أن يعقد الأب له الزواج على هذه المرأة لتقوم بمصالحه. ولو قلنا بعدم الصحة وأن هذه المصالح يمكن إدراكها باستئجار هذه المرأة لتقوم بمصالحه ولا نلزمه بزوجةٍ يلزمه مؤونتها والإنفاق عليها وترثه لو مات ويترتب عليه أمورٌ أخرى ... لكان له وجهٌ، فكوننا نلزم هذا الصغير بأمرٍ لا يلزمه مع أنه يمكن أن نقوم بمصالحه على وجهٍ آخر؛ [فهذا] محل نظرٍ. فإن كان قريبًا من البلوغ فله إذنٌ لأنه صار يعرف مصالح النكاح فيمكن أن يستأذن.

مكلفةً (¬1) - لا الثيب -؛ فإن الأب ووصيه (¬2) في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم؛ كالسيد مع إمائه، وعبده الصغير. ولا يزوج باقي الأولياء صغيرةً دون تسعٍ، ولا صغيرًا، ولا كبيرةً عاقلةً (¬3)، ولا بنت تسعٍ إلا بإذنهما، وهو: صمات البكر، ونطق الثيب. فصلٌ الثالث: الولي. وشروطه: التكليف، والذكورية، والحرية (¬4)، والرشد في العقد، واتفاق الدين ¬

_ (¬1) القول الراجح: أن البكر المكلفة لا بد من رضاها، وأما غير المكلفة - وهي التي تم لها تسع سنين ... - فالصحيح أيضًا أنه يشترط رضاها ... ، وأما من دون تسع سنين ... ؛ فنقول: هذه بكرٌ، فلا نزوجها حتى تبلغ السن الذي تكون فيه أهلًا للاستئذان، ثم تستأذن ... فالصواب: أن الأب لا يزوج بنته حتى تبلغ، وإذا بلغت فلا يزوجها حتى ترضى ... (¬2) علم من قول المؤلف: (ووصيه) أن ولاية النكاح تستفاد بالوصية ... ، والصحيح: أنها لا تستفاد بالوصية، وأنها تسقط بموت صاحبها. (¬3) علم من قول المؤلف: (كبيرةً عاقلةً) أنهم يزوجون الكبيرة المجنونة، ولكن هذا مقيدٌ بالحاجة، وذلك إذا عرفنا أنها تميل إلى الرجال؛ ففي هذه الحال يزوجها الأولياء بدون إذنها لدفع حاجتها؛ لأنها مجنونةٌ، فلا إذن لها. (¬4) الصحيح أن [الحرية] ليست بشرطٍ؛ لأن هذا ليس مالًا أو تصرفًا ماليا حتى نقول: (إن العبد لا يملك)، ولكن هذه ولايةٌ؛ فهو أبٌ.

- سوى ما يذكر -، والعدالة (¬1). فلا تزوج امرأةٌ نفسها ولا غيرها. ويقدم: أبو المرأة في إنكاحها، ثم وصيه فيه (¬2)، ثم جدها لأبٍ - وإن علا -، ثم ابنها، ثم بنوه - وإن نزلوا -، ثم أخوها لأبوين، ثم لأبٍ، ثم بنوهما كذلك، ثم عمها لأبوين، ثم لأبٍ، ثم بنوهما كذلك، ثم أقرب عصبةٍ نسبًا - كالإرث -، ثم المولى المنعم، ثم أقرب عصبته نسبًا، ثم ولاءً، ثم السلطان. فإن عضل الأقرب، أو لم يكن أهلًا، أو غاب غيبةً منقطعةً لا تقطع إلا بكلفةٍ ومشقةٍ (¬3): زوج الأبعد. ¬

_ (¬1) [المراد بالعدالة]: استقامة الدين، والمروءة ... والصواب في هذه المسألة: أنه لا بد أن يكون الولي مؤتمنًا على موليته، هذا أهم الشروط، وذلك لأنه يتصرف لمصلحة غيره ... ، أما عدالته ودينه فهذا إليه هو. وكثيرٌ من الآباء تجده فاسقًا من أفسق عباد الله؛ يشرب الخمر، ويزني، ويحلق لحيته، ويشرب (الدخان)، ويعامل بالغش، ويغتاب الناس، وينم بين الناس، لكن بالنسبة لمصلحة بنته لا يمكن أن يفرط فيها أبدًا. (¬2) الصحيح في هذه المسألة: أن الولاية تنقطع بالموت، وأن الولي ليس له أن يوصي بعد موته، وحتى لو أوصى فالوصية باطلةٌ؛ لأن الولاية مستفادةٌ من الشرع وليست من فعل الإنسان. (¬3) هذا يختلف باختلاف الأزمان؛ ففيما سبق كانت المسافات بين المدن لا تقطع إلا بكلفةٍ ومشقةٍ، والآن بأسهل السبل؛ فربما لا يحتاج إلى سفرٍ ... ، فالمسألة تغيرت ... والصواب: أنه متى أمكن مراجعة الولي الأقرب فهو واجبٌ، وإذا لم يمكن وكان يفوت به الكفء فليزوجها الأبعد.

وإن زوج الأبعد، أو أجنبي من غير عذرٍ: لم يصح. فصلٌ الرابع: الشهادة (¬1)؛ فلا يصح إلا: بشاهدين، عدلين، ذكرين، مكلفين، سميعين (¬2)، ناطقين (¬3). ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: إنه يشترط إما الإشهاد وإما الإعلان ... ، وأنه إذا وجد الإعلان كفى ... ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -؛ بل قال: إن وجود الإشهاد بدون إعلانٍ في النكاح في صحته نظرٌ ... وبعد النظر في هذا: يتبين لنا أن الإشهاد ليس بشرطٍ، لكن ينبغي الإشهاد ويتأكد لا سيما في بلادٍ كبلادنا يحكمون بأن الإشهاد شرطٌ؛ لأن هذه المسألة لو يحصل خلافٌ وترفع إلى المحاكم حكموا بفساد النكاح، وحينئذٍ نقع في مشاكل، فكل مسألةٍ من مسائل النكاح يحتاط فيها الإنسان، لا سيما إذا كان فيها موافقةٌ للحكام في بلده. فالأحوال أربعةٌ: الأول: أن يكون إشهادٌ وإعلانٌ، وهذا لا شك في صحته، ولا أحد يقول بعدم الصحة. الثانية: أن يكون إشهادٌ بلا إعلانٍ؛ ففي صحته نظرٌ. الثالثة: أن يكون إعلانٌ بلا إشهادٍ، وهذا على القول الراجح جائزٌ وصحيحٌ. الرابعة: ألا يكون إشهادٌ ولا إعلانٌ؛ فهذا لا يصح النكاح. (¬2) [احترازًا من الأصمين]؛ لأنهما لا يسمعان الإيجاب والقبول ... وظاهر كلام المؤلف: ولو كانا بصيرين يقرآن، وكتب العقد كتابةً؛ كما لو أخذ الولي ورقةً فكتب: (زوجتك بنتي)، ثم أعطاها الزوج، فكتب تحتها: (قبلت النكاح)، وقرأها الشاهدان ... والصحيح: أنه يصح؛ لأن الشهادة تحصل بذلك، فوصول العلم إلى هذين الأصمين صار عن طريق البصر، والمقصود: وصول العلم. (¬3) احترازًا من الأخرسين وظاهر كلام المؤلف: ولو كانا سميعين بصيرين، وظاهر كلامه: ولو كانا يحسنان الكتابة عند أداء الشهادة، وهذا فيه نظرٌ. والصواب: أنهما إذا كانا يمكن أن يعبرا عما شهدا به بكتابةٍ أو بإشارةٍ معلومةٍ فإن شهادتهما تصح.

وليست الكفاءة - وهي دينٌ (¬1) ومنصبٌ، وهو النسب والحرية -: شرطًا في صحته. فلو زوج الأب عفيفةً بفاجرٍ (¬2)، أو عربيةً بعجمي: فلمن لم يرض من المرأة أو الأولياء الفسخ (¬3). ¬

_ (¬1) الصحيح: أن الدين شرطٌ لصحة عقد النكاح إذا كان الخلل من حيث العفاف؛ فإذا كان الزوج معروفًا بالزنا ولم يتب فإنه لا يصح أن يزوج، وإذا كانت الزوجة معروفةً بالزنا ولم تتب فإنه لا يصح أن تزوج - لا من الزاني ولا غيره -. (¬2) الصواب في هذه المسألة بالذات: أن النكاح فاسدٌ. (¬3) الصحيح: أنه ليس لأحدٍ الحق في فسخ النكاح ما دام النكاح صحيحًا ... فالصواب - بلا شك -: أن الكفاءة ليست شرطًا للصحة ولا للزوم ... ، لكن في مسألة الزنا قد نجعله من الموانع.

باب المحرمات في النكاح

باب المحرمات في النكاح تحرم أبدًا: الأم، وكل جدةٍ - وإن علت -، والبنت، وبنت الابن، وبنتاهما من حلالٍ وحرامٍ - وإن سفلت -، وكل أختٍ، وبنتها، وبنت ابنتها، وبنت كل أخٍ، وبنتها، وبنت ابنه، وبنتها - وإن سفلت -، وكل عمةٍ وخالةٍ - وإن علتا -، والملاعنة على الملاعن، ويحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب إلا أم أخته وأخت ابنه. ويحرم بالعقد: زوجة أبيه، وكل جد، وزوجة ابنه وإن نزل، دون بناتهن وأمهاتهن. وتحرم: أم زوجته وجداتها بالعقد، وبنتها وبنات أولادها بالدخول. فإن بانت الزوجة، أو ماتت بعد الخلوة: أبحن. فصلٌ وتحرم إلى أمدٍ: أخت معتدته، وأخت زوجته (¬1)، وبنتاهما، وعمتاهما، وخالتاهما. ¬

_ (¬1) هذا تسامحٌ من المؤلف - رحمه الله -[من حيث التعبير]؛ لأن أخت معتدته وأخت زوجته لا تحرم عليه ... ؛ فالمحرم هو الجمع [بين الأختين]، أما نفس الأخت فليست موصوفةً بأنها حرامٌ ... إذن: أخت الزوجة حرامٌ، وأما أخت المعتدة ... فالصحيح: أنه إذا كانت بائنةً بينونةً كبرى فإنها تحل له؛ لأن البائنة بينونةً كبرى لا يمكنه الرجوع إليها.

فإن طلقت وفرغت العدة: أبحن (¬1). وإن تزوجهما في عقدٍ أو عقدين معًا: بطلا. فإن تأخر أحدهما، أو وقع في عدة الأخرى وهي بائنٌ أو رجعيةٌ: بطل. وتحرم: المعتدة، والمستبرأة من غيره، والزانية حتى تتوب (¬2) وتنقضي عدتها، ومطلقته ثلاثًا حتى يطأها زوجٌ غيره (¬3)، والمحرمة حتى تحل (¬4). ولا ينكح كافرٌ مسلمةً، ولا مسلمٌ - ولو عبدًا - كافرةً إلا حرةً كتابيةً. ولا ينكح حر مسلمٌ أمةً مسلمةً؛ إلا أن يخاف عنت العزوبة - لحاجة المتعة أو ¬

_ (¬1) ظاهر [كلامه] أنه ما دامت العدة باقيةً فهن حرامٌ ... ، ولكن نعود إلى ما سبق أن الراجح إذا كانت بينونةً كبرى فلا حرج؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهن، أما البينونة الصغرى والرجعية فلا يجوز. (¬2) لم يذكر المؤلف الزاني حتى يتوب؛ لأن فقهاءنا - رحمهم الله - يرون أن الزاني له أن يتزوج ولو كان زانيًا - والعياذ بالله -، ولو كان مصرا على الزنا!! ... والقول الراجح - بلا شك -: أنه لا يجوز أن يجوز الزاني حتى نعلم أنه تاب بالقرائن. (¬3) بعقدٍ صحيحٍ؛ حتى يخرج ما لو تزوجها بعقدٍ فاسدٍ؛ كما لو نوى التحليل؛ لأن نية التحليل تفسد العقد. (¬4) وقيل: إن عقد النكاح الأول صحيحٌ وليس حرامًا؛ لأن المحرم النساء، وهذا عقدٌ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام - رحمه الله -، وهو أصح ... ، لكن نقول للإنسان: احتط لنفسك، المسألة ليست هينةً؛ لأنه ربما تقدم على النكاح بعد التحلل الأول، ثم بعدئذٍ يوسوس لك الشيطان، ويقول: (زوجتك حرامٌ)، ويدخل عليك شكوكًا، فنقول له: (انتظر حتى تحل)؛ لأنك حتى لو عقدت الآن فلن تدخل عليها؛ لأن النساء حرامٌ عليك.

الخدمة - ويعجز عن طول حرةٍ أو ثمن أمةٍ. ولا ينكح عبدٌ سيدته، ولا سيدٌ أمته. وللحر نكاح أمة أبيه (¬1) دون أمة ابنه (¬2)، وليس للحرة نكاح عبد ولدها (¬3). وإن اشترى أحد الزوجين أو ولده (¬4) الحر أو مكاتبه (¬5) الزوج الآخر أو بعضه: ¬

_ (¬1) بشرط ألا يكون الأب قد جامعها، فإن جامعها الأب فإنها لا تحل للابن؛ لأنها مما نكح أبوه. (¬2) هذا القول ضعيفٌ ... ، والصواب في هذه المسألة: أنه يجوز للأب أن يتزوج أمة ابنه إذا تم في حقه شروط جواز نكاح الإماء. (¬3) هذا القول مبني على قولٍ ضعيفٍ ... والقول الثاني في هذه المسألة: أنه يجوز للحرة أن تنكح عبد ولدها، ولا حرج فيه ... وهذا القول هو الصحيح. (¬4) قوله: (أو ولده): هذا مبني على أن الإنسان لا يتزوج أمة ابنه، والقول الراجح جواز ذلك ... فسبق أن القول الراجح أن للأب أن يتزوج أمة ابنه إذا تملكها، وأنه لا ينفسخ النكاح. (¬5) [عللوا ذلك] بأن أصل المكاتب لا يكون حرا إلا إذا أدى الكتابة، وما دام لم يؤد الكتابة فهو عبدٌ، فإذا اشترى زوجة سيده صار السيد هو الذي ملك زوجته في الواقع؛ لأن ملك المكاتب ملك سيده، هكذا قالوا. وفي هذا التعليل نظرٌ ... وكل هذه مبنيةٌ على تعليلاتٍ بعضها له وجهٌ وبعضها لا وجه له، وليس هناك أدلةٌ.

انفسخ نكاحهما. ومن حرم وطؤها بعقدٍ: حرم بملك يمينٍ؛ إلا أمةً كتابيةً (¬1). ومن جمع بين محللةٍ ومحرمةٍ في عقدٍ: صح فيمن تحل. ولا يصح نكاح خنثى مشكلٍ قبل تبين أمره. ¬

_ (¬1) علم من قول المؤلف: (أمةً كتابيةً): أن الأمة غير الكتابية لا تحل بملك اليمين ... لكن هذا خلاف ظاهر القرآن، وهو قولٌ ضعيفٌ، والصواب: أن الأمة المملوكة وطؤها حلالٌ؛ سواءٌ كانت كتابيةً أم غير كتابيةٍ.

باب الشروط والعيوب في النكاح

باب الشروط والعيوب في النكاح إذا شرطت: طلاق ضرتها (¬1)، أو أن لا يتسرى، أو لا يتزوج عليها، أو لا يخرجها من دارها (¬2) أو بلدها، أو شرطت نقدًا معينًا، أو زيادةً في مهرها: صح، فإن خالفه فلها الفسخ (¬3). وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته، ففعلا ولا مهر (¬4): بطل ¬

_ (¬1) هذا القول ضعيفٌ ... ؛ فهذا الشرط يدخل في الشروط الفاسدة لا في الشروط الصحيحة. (¬2) لكن يجوز فيما بعد أن يسألها إسقاط هذا الشرط ولو بعوضٍ - على القول الراجح -. (¬3) قد يقال: إن ظاهر كلام المؤلف أن مخالفة الشرط ليست حرامًا، وأن الوفاء به ليس بواجبٍ - وهو المذهب - ... ولكن الصحيح: أن الوفاء به واجبٌ ... ، لكن إذا لم يف به - سواءٌ قلنا: إن الوفاء سنةٌ، أو قلنا: إنه واجبٌ - فلها الفسخ. وإذا قلنا: (لها الفسخ)؛ فالصواب: أن لها أن تفسخ بدون إذن الحاكم؛ لأن هذا شرطٌ لا اختلاف لها فيه، وقد امتنع من عليه الشرط من التزامه به، فلا حاجة للحاكم؛ لأننا نحتاج إلى الحاكم في الفسوخ التي فيها الخلاف. (¬4) قوله: (ولا مهر ...) مفهومه: أنه إن كان بينهما مهرٌ صح العقد، وظاهر كلامه: سواءٌ كان المهر قليلًا أم كثيرًا؛ لأنه قال: (ولا مهر)، فعلم منه أنه إذا كان بينهما مهرٌ فالنكاح صحيحٌ وقال بعض العلماء بالتفصيل: وهو أنه إذا كان المهر مهر مثلها ولم ينقص، والمرأة قد رضيت بالزوج وهو كفءٌ لها؛ فإن هذا صحيحٌ. وهو الصحيح عندنا؛ أنه إذا اجتمعت شروطٌ ثلاثةٌ، وهي: الكفاءة، ومهر المثل، والرضا؛ فإن هذا لا بأس به ... لكن وإن قلنا: إن هذا صحيحٌ من حيث النظر فإنه لا ينبغي فتح الباب للعامة؛ لأن الإنسان الذي ليس عنده خوفٌ من الله إذا كان يهوى أن يتزوج ببنت هذا الرجل فهي وإن كرهت الزوج فسيجبرها، فسد الباب في مثل هذا الوقت أولى، وأن يقال: متى شرط أن يزوجه الآخر فإنه يجب فسخه درءًا للمفسدة، أما من حيث المعنى ومن حيث النظر فإن ظاهر الأدلة يقتضي أنه إذا وجد مهر العادة والرضا والكفاءة فلا مانع.

النكاحان، فإن سمي لهما مهرٌ صح (¬1). وإن تزوجها: بشرط أنه متى حللها للأول طلقها، أو نواه بلا شرطٍ، أو قال: (زوجتك إذا جاء رأس الشهر) (¬2)، أو (إن رضيت أمها) (¬3)، أو (إذا جاء غدٌ فطلقها)، أو وقته بمدةٍ: بطل الكل. ¬

_ (¬1) قد سبق بيان ذلك. (¬2) هذا هو المشهور من المذهب في هذه المسألة وغيرها، أن جميع العقود - غير الولايات والوكالات وما جرى مجراها - لا يصح تعليقها ... والصحيح: أن في ذلك تفصيلًا؛ فإن كان مجرد تعليقٍ فالقول بعدم صحة العقد صحيحٌ، أما إن كان التعليق فيه غرضٌ مقصودٌ فالنكاح صحيحٌ. (¬3) القول الراجح في هذه المسألة: أنه جائزٌ أن يقول: (زوجتك إذا رضيت أمها)؛ لأن في ذلك غرضًا صحيحًا، ولأن مدته الغالب أنها تكون قليلةً.

فصلٌ وإن شرط أن لا مهر لها (¬1)، أو لا نفقة، أو أن يقسم لها أقل من ضرتها (¬2) أو أكثر (¬3)، أو شرط فيه خيارًا (¬4)، أو إن جاء بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما (¬5): بطل الشرط، وصح النكاح. وإن شرطها مسلمةً فبانت كتابيةً (¬6)، أو شرطها بكرًا (¬7)، أو ¬

_ (¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إن شرط عدم المهر فاسدٌ مفسدٌ ... وما ذهب إليه الشيخ - رحمه الله - هو الصحيح. (¬2) المذهب: لا يصح [الشرط]، والصحيح: أنه يصح. (¬3) إذا رضيت القديمة فلا حرج. (¬4) [الصحيح]: تصحيح الخيار للزوج والزوجة، وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وقال: إنه يصح شرط الخيار له ولها - أيضًا -. (¬5) الصواب: أنه يجوز، وأنه إذا مضت المدة انفسخ النكاح. ويثبت المهر إذا حصل الدخول، فإذا وجدت مقررات المهر استقر المهر، وإن قالوا: لا يمكن أن تدخل إلا أن تسلم المهر فلهم ذلك. (¬6) علم من كلامه أنه إذا لم يشترط أنها مسلمةٌ فبانت كتابيةً فلا فسخ له ... ، لكن لاحظ أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي ... ، فإذا كان في بيئةٍ أهلها مسلمون فلا يحتاج أن يشترط أنها مسلمةٌ؛ لأنه معروفٌ أنها مسلمةٌ، فلو تبين أنها غير مسلمةٍ فله الفسخ، ولا إشكال. (¬7) علم من كلامه أنه إذا لم يشترط أنها بكرٌ فلا فسخ له، حتى لو علم أنها لم تتزوج من قبل ... ولو قيل بأن هذا شرطٌ عرفي لكان له وجهٌ ... ، فالصحيح في هذه المسألة: أن من لم يعلم أنها تزوجت فإن اشتراط كونها بكرًا معلومٌ بالعرف، ولو شرط لعده الناس سفهًا ... وظاهر [كلامه]: أن هذا الشرط للزوج، وأن المرأة لو شرطت ذلك على الزوج فلا عبرة به، فلو شرطته بكرًا فبان غير بكرٍ فلا يضر، لكن إن شرطته شابا فبان شيخًا فلها ذلك، وهذا هو الصحيح.

جميلةً (¬1)، أو نسيبةً، أو نفي عيبٍ لا ينفسخ به النكاح، فبانت بخلافه (¬2): فله الفسخ. وإن عتقت تحت حر فلا خيار لها؛ بل تحت عبدٍ (¬3). فصلٌ ومن وجدت زوجها مجبوبًا، أو بقي له ما لا يطأ به: فلها الفسخ. وإن ثبتت عنته بإقراره، أو ببينةٍ على إقراره: أجل سنةً منذ تحاكمه، فإن وطئ فيها وإلا فلها الفسخ (¬4). ¬

_ (¬1) وإذا شرطته جميلًا فبان قبيحًا فلا خيار لها على المذهب ... والقول المتعين الراجح: أنها إذا اشترطت في الزوج صفةً مقصودةً من جمالٍ أو طولٍ أو سمنٍ - أو ما أشبه ذلك - فإنه إذا تبين بخلافه فلها الفسخ. (¬2) فإن لم يشترط الانتفاء ... ؛ فالصحيح أن له الخيار [- أيضًا -]. (¬3) اختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن لها الخيار مطلقًا إذا عتقت ... ، وهو الراجح. (¬4) يحتمل أنه حكمٌ قضائي، وحينئذٍ يكون راجعًا إلى اجتهاد القاضي، وقد يختلف من زمانٍ إلى آخر. ويحتمل أنه حكمٌ تشريعي، وهذا ينبني على قول الصحابي هل هو حجةٌ أو ليس بحجةٍ؟ والصحيح: أن قول عمر وأبي بكرٍ - رضي الله عنهما - حجةٌ ... فإن قلنا: إنه من باب التشريع فلا نخالفه، حتى لو قال لنا الأطباء: إننا نعلم علم اليقين أن هذا الرجل لن تعود إليه قوة الجماع؛ فإننا لا نأخذ به؛ بل نؤجله. وإذا قلنا: إنه من باب القضاء الخاضع للاجتهاد؛ فإنه إذا قرر الأطباء من ذوي الكفاءة والأمانة أنه لن تعود إليه قوة الجماع فلا فائدة من التأجيل.

وإن اعترفت أنه وطئها: فليس بعنينٍ (¬1). ولو قالت في وقتٍ: (رضيت به عنينًا): سقط خيارها أبدًا. فصلٌ والرتق، والقرن، والعفل، والفتق (¬2)، واستطلاق بولٍ، ونجوٍ، وقروحٌ سيالةٌ في فرجٍ، وباسورٌ، وناصورٌ، وخصاءٌ، وسل، ووجاءٌ، وكون أحدهما خنثى واضحًا، ¬

_ (¬1) هذا القول ضعيفٌ يخالفه الواقع؛ فإن العنة تحدث بلا ريبٍ؛ لأن الإنسان معرضٌ لفقد قواه كلها أو بعضها ... فالصواب - بلا شك -: أنه متى ثبتت العنة - ولو طارئةً - وعلم أنها لن تعود شهوة النكاح فإن لها الفسخ، أما إذا كانت العنة أمرًا طارئًا يزول فإننا لا نمكنها من الفسخ؛ لعدم اليأس من قدرته على الجماع. (¬2) ظاهر كلام المؤلف أن الفتق عيبٌ ولو أمكن إزالته. ونحن نقول: إذا لم يمكن إزالته إلا بعد عمليةٍ طويلةٍ فهو عيبٌ ... ، لكن إذا كان الطب قد ترقى وقالوا: (هذا سهلٌ، يزول خلال أسبوعٍ)؛ فظاهر كلامهم في كتاب البيوع أنه إذا زال العيب سريعًا في السلعة فلا خيار، فيقال: هذا كذلك. وقد يقال: هناك فرقٌ؛ لأن تصور الزوج أن امرأته أجرت عمليةً في هذا المكان سوف يمنعه من كمال اللذة، وعليه نقول: هو عيبٌ ولو أمكن إزالته.

وجنونٌ - ولو ساعةً -، وبرصٌ، وجذامٌ: يثبت لكل واحدٍ منهما الفسخ (¬1) ولو حدث ¬

_ (¬1) هذه العيوب إذا تأملناها وجدنا منها ما يمكن معالجته، ومنها ما لا يمكن معالجته ... فالرتق يمكن معالجته بعمليةٍ، ولكن هل العملية تجعل الفرج كالطبيعي؟ الظاهر ليس كذلك. وكذلك - أيضًا - القرن، ولا ندري هل يكون كالطبيعي أم لا؟ والعفل يمكن علاجه؛ لأنه ما دام ورمًا فإنه يمكن علاجه بدون عمليةٍ، فإن كانت تبرأ بعد عشر سنين فلا يلزمه الانتظار، لكن إذا كان في وقتٍ لا تفوت به مصلحة الزوج فإنه لا خيار له؛ لا سيما مع عدم الغش، أما مع الغش فلا ينبغي أن يعامل الغاش بالأخف والأيسر؛ لأنه ليس محلا للرحمة. وأما استطلاق البول والنجو؛ فما أمكن علاجه بسرعةٍ بحيث لا تفوت به مصلحة الزوج فإنه لا يثبت به الفسخ. والقروح السيالة في الفرج واضحٌ أنه يمكن معالجتها. والباصور يمكن معالجته، والناسور يمكن لكنه يعود. والخصاء والسل والوجاء لا يمكن معالجتها. وكون أحدها خنثى واضحًا لا يمكن، وإذا كان ليس له إلا ذكرٌ فقط، وجميع مميزات المرأة موجودةٌ فيه ما عدا الآلة، وقالوا: (يمكن أن تجرى له عمليةٌ بكل سهولةٍ)؛ فهذا يمكن إزالة العيب بدون أي ضررٍ ما دام أن الفرج سليمٌ. وأما الجنون فنوعان: نوعٌ له سببٌ محسوسٌ فهذا - لا شك - أنه إذا عولج فبرئ منه فإنه لا خيار، وهو ما يسمى عند الناس الوشرة ... ، والنوع الثاني: ما ليس له علاجٌ؛ فهذا يثبت الفسخ. والبرص ما أظنه يبرأ؛ فهو عيبٌ يثبت الفسخ بكل حالٍ. والجذام لا يبرأ كذلك.

بعد العقد (¬1) أو كان بالآخر عيبٌ مثله (¬2). ومن رضي بالعيب، أو وجدت منه دلالته مع علمه: فلا خيار له (¬3). ولا يتم فسخ أحدهما إلا بحاكمٍ (¬4). ¬

_ (¬1) هذا إشارة خلافٍ؛ حيث إن بعض أهل العلم يقول: إن العيب إذا حدث بعد العقد وهو لا يتعدى ضرره فإنه لا خيار ... وهذا القول يكون متوجهًا في بعض العيوب، أما بعضها فإنه لا ينبغي أن يكون فيه خلافٌ. (¬2) إلا أن بعض الأصحاب استثنوا من ذلك ما لو كان مجبوبًا وهي رتقاء؛ فإنه لا خيار لأحدهما؛ لأنه في هذه الحال إذا وجدها رتقاء إنما يثبت له الفسخ لفوات الاستمتاع بالجماع، وإذا وجدته مجبوبًا فإنما يثبت لها الفسخ لفوات الاستمتاع بالجماع، وهنا لا فائدة ... ، وعلى هذا فلا خيار لهما، وهذا وجيهٌ. (¬3) قال بعض أهل العلم: إن هذا لا يسقط الفسخ؛ لأنها قد تمكنه وهي غير راضيةٍ، لكن تفكر في أمرها هل توافق أو ترفض. وبعضهم استثنى مسألة العنين ... وعلى هذا يقال: يجب أن نتحقق بأنها فعلت ما يدل على الرضا، فإذا شككنا وصار هذا التمكين غير صريحٍ على الرضا؛ فالأصل عدم الرضا وبقاء حقها ... وعلم من [قوله: (مع علمه)]: أنه لو كان جاهلًا بالعيب فالخيار لا يسقط، أما الجهل بالحكم فظاهر كلام المؤلف أنه يسقط الخيار ... وهذا القول ليس بصحيحٍ، والصواب: أن الجهل بالحكم كالجهل بالحال. (¬4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: عند التنازع يفسخه الحاكم، وعند الاتفاق لا حاجة إلى الحاكم. وما قاله الشيخ - رحمه الله - هو الحق ... ، وهذا القول في وقتنا يزداد قوةً، والسبب: صعوبة الوصول إلى المحاكم.

فإن كان قبل الدخول فلا مهر (¬1)، وبعده لها المسمى، ويرجع به على الغار إن وجد (¬2). والصغيرة، والمجنونة (¬3)، والأمة (¬4): لا تزوج واحدةٌ منهن بمعيبٍ. فإن رضيت الكبيرة مجبوبًا أو عنينًا: لم تمنع؛ بل من مجنونٍ، ومجذومٍ، وأبرص (¬5). ومتى علمت العيب، أو حدث به: لم يجبرها وليها على الفسخ. ¬

_ (¬1) الصحيح في ذلك: أنه إذا كان العيب في الزوج وفسخ قبل الدخول فلها نصف المهر؛ لأن الزوج هو السبب. (¬2) إذا كان التغرير منها ومن وليها؛ فالراجح أن الضمان على الولي. (¬3) ظاهر كلام المؤلف [في المجنونة]: ولو كان ذلك لمصلحتها ... وفي هذا نظرٌ، ويقال: إن المجنونة تزوج بمعيبٍ إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ بشرط ألا يكون في ذلك عليها ضررٌ، وألا يتعدى عيبه لنسلها. (¬4) ظاهر كلام المؤلف في الأمة: ولو رضيت ورضي سيدها ... ومسألة الأمة فيها نظرٌ؛ فالأمة إذا كانت كبيرةً عاقلةً ورضي سيدها بذلك فلا مانع؛ لأنها كالحرة. (¬5) الصحيح في مسألة البرص: أنها لا تمنع؛ لأنه ثبت أن البرص لا يعدي ... ، أما مسألة الوراثة فهذا - أيضًا - غير صحيحٍ.

باب نكاح الكفار

باب نكاح الكفار حكمه كنكاح المسلمين، ويقرون على فاسده إذا اعتقدوا صحته في شرعهم ولم يرتفعوا إلينا، فإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا، وإن أتونا بعده أو أسلم الزوجان والمرأة تباح إذن أقرا. وإن كانت ممن لا يجوز ابتداء نكاحها: فرق بينهما. وإن وطئ حربي حربيةً فأسلما، وقد اعتقداه نكاحًا: أقرا، وإلا فسخ. ومتى كان المهر صحيحًا أخذته، وإن كان فاسدًا وقبضته استقر، وإن لم تقبضه ولم يسم فرض لها مهر المثل. فصلٌ وإن أسلم الزوجان معًا، أو زوج كتابيةٍ فعلى نكاحهما، فإن أسلمت هي أو أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل، فإن سبقته فلا مهر، وإن سبقها فلها نصفه (¬1). ¬

_ (¬1) في المذهب قولٌ بأن الفرقة تكون من المتأخر إسلامه؛ فعلى هذا: إذا أسلمت هي ولم يسلم فالفرقة منه، فيجب عليه نصف المهر؛ لأننا نقول: (أنت الذي فرطت؛ لم لم تسلم؟)، وإن كانت هي التي تأخرت وهو أسلم فالفرقة من قبلها، فلا يكون لها شيءٌ؛ يعني عكس ما قاله المؤلف. وهذا يشجع على الإسلام، وهذا من الناحية الدينية فيه حث على الإسلام أقوى من المذهب، ومن ناحية التقعيد فالمذهب أقعد.

وإن أسلم أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة (¬1)، فإن أسلم الآخر فيها دام النكاح، وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول. وإن كفرا - أو أحدهما - بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة، وقبله بطل (¬2). ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: إنه إذا حصل اختلاف دينٍ على وجهٍ لا يقران عليه بطل النكاح بمجرد الاختلاف، ولا ينتظر ... وهناك قولٌ ثالثٌ عكس هذا الأخير: أنه لا ينفسخ النكاح إذا شاءت المرأة؛ أي: إذا أسلمت المرأة بعد الدخول وانقضت العدة لا نقول: (انفسخ النكاح)، فقبل انقضاء العدة لا يمكن أن تتزوج؛ لأنها في عدة الغير، فنحبسها عن الزواج، وبعد انقضاء العدة نقول لها: (إن شئت تزوجي، وإن شئت انتظري حتى يسلم زوجك؛ فلعله يسلم فترجعي إليه. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله -، وحسنه الشوكاني - رحمه الله - في «نيل الأوطار»؛ بل إن شيخ الإسلام لا يفرق بين ما قبل الدخول وبعده؛ لأن الأصل بقاء النكاح ما دام أنه معقودٌ على وجهٍ صحيحٍ ... وهذا الذي قاله [شيخ الإسلام] هو الذي تشهد له الأدلة، ولأنه القياس حقيقةً. (¬2) شيخ الإسلام يرى في هذه المسألة ما رآه في المسألة الأولى؛ يقول: قبل انقضاء العدة تمنع المرأة من النكاح، وبعد انتهاء العدة لها أن تنكح، لكن لو أرادت ألا تنكح لعل زوجها يسلم فلها ذلك؛ فحينئذٍ يكون الأمر في الارتداد في الكفر كالأمر في الإسلام؛ إلا أنه في مسألة الردة ما نقول: إن ارتد الآخر؛ بل نقول: إن رجع الأول عن ردته تبينا بقاء النكاح.

باب الصداق

باب الصداق يسن: تخفيفه، وتسميته في العقد (¬1)؛ من أربعمائة درهمٍ إلى خمسمائةٍ. وكل ما صح ثمنًا أو أجرةً صح مهرًا وإن قل. وإن أصدقها تعليم قرآنٍ لم يصح (¬2)؛ بل فقهٍ وأدبٍ وشعرٍ مباحٍ معلومٍ. وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح، ولها مهر مثلها. ومتى بطل المسمى وجب مهر المثل. فصلٌ وإن أصدقها ألفًا إن كان أبوها حيا، وألفين إن كان ميتًا: وجب مهر المثل (¬3). ¬

_ (¬1) إذا كنا في بلدٍ لم يعتادوا التسمية ويرون أن في التسمية نقصًا، وأنه إذا سمي الصداق فكأنها أمةٌ بيعت فلا نسميه؛ لأن الله - تعالى - قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. (¬2) القول الثاني: أنه إذا أصدقها تعليم قرآنٍ فإنه يصح؛ لأن التعليم ليس هو القرآن. نعم؛ لو أراد أن يقرأ شخصٌ بأجرٍ فإنه لا يجوز؛ لأن قراءة القرآن من الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة لا يمكن أن يأخذ الإنسان عليها أجرًا من الدنيا، لكن هذا رجلٌ يريد أن يعلم، والتعليم عملٌ وتفرغٌ للمعلم. (¬3) القول الراجح: أن التسمية صحيحةٌ، وذلك لأن لها غرضًا في هذا، فإذا كان أبوها ميتًا فستحتاج إلى زيادة المهر؛ لأنها قد تحتاج نفقةً أو دواءً لمرضٍ - أو ما أشبه ذلك -، فإذا كان أبوها حيا استغنت به، وكفاها المهر القليل.

وعلى: (إن كانت لي زوجةٌ بألفين، أو لم تكن بألفٍ): يصح بالمسمى. وإذا أجل الصداق أو بعضه صح، فإن عينا أجلًا وإلا فمحله الفرقة. وإن أصدقها مالًا مغصوبًا، أو خنزيرًا - ونحوه -: وجب مهر المثل (¬1). وإن وجدت المباح معيبًا: خيرت بين أرشه وقيمته (¬2). وإن تزوجها على ألفٍ لها وألفٍ لأبيها: صحت التسمية (¬3)، فلو طلق قبل الدخول وبعد القبض رجع بالألف، ولا شيء على الأب لهما (¬4)، ولو شرط ذلك لغير ¬

_ (¬1) [فإن] كانا يجهلان أنه من المحرم فلها مثله أو قيمته، وكذلك - على القول الراجح - إذا كانت هي تجهله. (¬2) [أي]: إذا أصدقها بعيرًا ثم وجدته يعرج فنقول: لك الخيار، إن شئت أخذت القيمة، وإن شئت أخذت الأرش ... ، وهذا إذا كان متقومًا. والصحيح: أنه لا خيار لها في الأرش، فيقال: (إما أن تأخذيه معيبًا أو ترديه)، وتعطى بدله؛ لأن الأرش - في الحقيقة - عقدٌ جديدٌ، فكيف نلزم الطرف الثاني به؟! وهذا كما قلنا في البيع. أما إذا [كان] مثليا فإنها تعطى مثله؛ مثل أن يصدقها مئة صاعٍ من البر فأخذتها على أنها سليمةٌ ثم وجدتها مسوسةً فتعطى مئة صاعٍ سليمةً لأنه مثلي، وإذا قيل بأن الحيوان مثلي - وهو الصحيح - فإنه تعطى مثل البعير. (¬3) وقيل - وهو الصواب -: إن ما كان قبل العقد فهو للزوجة مطلقًا، ثم إذا ملكته فللأب أن يتملك بالشروط المعروفة، وما كان بعده فهو لمن أهدي إليه. (¬4) في المسألة قولٌ آخر: أنه يرجع بنصف المهر، فيأخذ من كل منهما نصف ما دفع ... وهذا - لا شك - أقرب إلى العدل.

الأب فكل المسمى لها. ومن زوج بنته - ولو ثيبًا - بدون مهر مثلها صح (¬1)، وإن زوجها به ولي غيره بإذنها صح، وإن لم تأذن فمهر المثل (¬2). وإن زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أكثر (¬3) صح في ذمة الزوج، وإن كان ¬

_ (¬1) [إن كان ذلك] لمراعاة مصلحة البنت، أما مجرد هوًى فإن هذا لا يجوز إلا برضاها؛ سواءٌ كانت بكرًا أم ثيبًا. (¬2) قد يقال: إن الزوج مفرطٌ؛ لأنه ينبغي إذا قال له الولي: (سأزوجك بدون مهر المثل) أن يسأل: هل هي راضيةٌ أو لم ترض؟ وقد يقال - هنا -: إن الولي حصل منه غرورٌ، لكن - أيضًا - حصل منه تفريطٌ ... وهذه المسألة - في الحقيقة - اكتنفها التغرير من الولي بتزويجه بأقل، والأمر الثاني: تفريط الزوج. وعلى كل حالٍ: ما دامت المسألة يكتنفها هذان الأمران فالأصل أن الزوج يلزمه المهر كاملًا، ولو أن الزوج أبى وقال [- مثلًا -]: (أنت زوجتني بخمسة آلافٍ، أنا لا أعطيك عشرة آلافٍ)، فنقول حينئذٍ: ترجع على الولي ... ؛ فأقرب الأقوال: أنه يلزم الزوج؛ لأنه لا يوجد نكاحٌ إلا بمهرٍ ... فعلى هذا نقول ... : ترجع هي على الزوج بتتمة مهرها، فإن لم يمكن وتعذر لفقره أو مماطلته فإنها ترجع على وليها. (¬3) كونه يصح بأكثر من مهر المثل في ذمة الزوج: فيه نظرٌ. بل الصواب: أنه لا يصح في ذمة الزوج إلا مهر المثل، والزائد يتحمله الأب لأنه هو الذي التزم به، [إلا إذا كان] من مصلحة الابن ... ؛ فحينئذٍ يكون الأب تصرف لمصلحة الابن، فيجب المهر المسمى على الابن ولو زاد على مهر المثل ... ، فيكون في ذمة الزوج لازمًا له.

معسرًا لم يضمنه الأب (¬1). فصلٌ وتملك المرأة صداقها بالعقد، ولها نماء المعين قبل القبض، وضده بضده. وإن تلف فمن ضمانها إلا أن يمنعها زوجها قبضه فيضمنه. ولها التصرف فيه، وعليها زكاته (¬2). وإن طلق قبل الدخول أو الخلوة فله نصفه حكمًا دون نمائه المنفصل، وفي المتصل له نصف قيمته بدون نمائه. وإن اختلف الزوجان أو ورثتهما في قدر الصداق، أو عينه (¬3)، أو فيما يستقر ¬

_ (¬1) الصواب: أنه إذا كان الأب قد أبلغ الزوجة أو أولياءها بأن ابنه معسرٌ وأنه ليس ضامنًا فهنا قد دخلوا على بصيرةٍ؛ فليس لهم شيءٌ، أما إذا لم يخبرهم فلا شك أنه ضامنٌ؛ لأننا نعلم علم اليقين أن الزوجة وأولياءها لو علموا بإعسار الابن ما زوجوه. (¬2) المذهب يقولون: الطلاق عارضٌ، والأصل بقاء العقد، والطلاق الذي يسقط النصف أمرٌ نادرٌ فلا عبرة به. ومن ثم ذهب الأصحاب - رحمهم الله - إلى أن الزوجة لا تملك إلا نصفه فقط، والباقي يكون مراعًى، فإن ثبت ما يقرر المهر تبين أنها ملكته جميعه وإلا فالنصف هو المتيقن. وهذا القول له وجهة نظرٍ قويةٌ. (¬3) لو عينت شيئًا يمكن أن يكون مهر مثلها وعين هو شيئًا دون مهر مثلها فلا شك أن القول قولها ... فينبغي أن يقال: إن كلام المؤلف على إطلاقه فيه نظرٌ؛ فينظر إلى ما هو أقرب إلى مهر المثل.

به (¬1): فقوله، وفي قبضه: فقولها (¬2). فصلٌ يصح تفويض البضع بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة (¬3)، أو تأذن امرأةٌ لوليها أن يزوجها بلا مهرٍ. وتفويض المهر: بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما أو أجنبي، فلها مهر المثل بالعقد، ويفرضه الحاكم بقدره، وإن تراضيا قبله جاز، ويصح إبراؤها من مهر المثل قبل فرضه. ومن مات منهما قبل الإصابة والفرض: ورثه الآخر، ولها مهر نسائها. وإن طلقها قبل الدخول (¬4) فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره، ويستقر مهر المثل بالدخول، وإن طلقها بعده فلا متعة (¬5). ¬

_ (¬1) إن وجدت قرينةٌ على [ما يستقر به المهر] ثم [أنكر] فالقول قول الزوجة بالقرينة. (¬2) هذا - أيضًا - ينظر فيه إلى القرائن. (¬3) ينبغي أن يلاحظ أنه على القول الصحيح لا إجبار، لكن على المذهب تقدم أن الأب يجوز له أن يجبر البكر. (¬4) هذا فيه شيءٌ من القصور؛ لأنه تقدم لنا أن الخلوة والنظر إلى فرجها ومسها وتقبيلها بشهوةٍ يثبت المهر، ولو قال المؤلف: (وإن طلقها قبل استقرار المهر) أو (قبل وجود ما يستقر به المهر) لكان أحسن وأشمل. (¬5) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: تجب المتعة لكل مطلقةٍ حتى بعد الدخول ... وما قاله الشيخ - رحمه الله - قوي جدا فيما إذا طالت المدة، أما إذا طلقها في الحال فهنا نقول: أولًا: أن تعلق المرأة بالرجل في المدة اليسيرة قليلٌ جدا. ثانيًا: أن المهر حتى الآن لم يفارق يدها ... أما إذا طالت المدة سنةً أو سنتين أو أشهرًا؛ فهنا يتجه ما قاله شيخ الإسلام - رحمه الله -، فيكون هذا القول وسطًا بين قولين: الاستحباب مطلقًا، والوجوب مطلقًا، وهذا هو الراجح.

وإذا افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر، وبعد أحدهما يجب المسمى (¬1). ويجب مهر المثل لمن وطئت بشبهةٍ (¬2)، أو زنًا كرهًا (¬3) - ولا يجب معه أرش ¬

_ (¬1) اختار الموفق وجماعةٌ من الأصحاب أنه لا يجب لها شيءٌ بالخلوة؛ لأن هذا عقدٌ فاسدٌ، لا أثر له، وهو كما لو خلا بامرأةٍ لم يعقد عليها. وهذا القول هو الصحيح؛ أن الخلوة في العقد الفاسد لا توجب شيئًا لأنه لا يمكن إلحاق الفاسد بالصحيح. (¬2) الصواب: أنه إذا كانت الشبهة شبهة عقدٍ، وسمى لها صداقًا فلها صداقها المسمى؛ سواءٌ كان مثل مهر المثل، أو أكثر، أو أقل. أما الموطوءة بشبهة اعتقادٍ فيجب لها مهر المثل؛ لأنه ليس لها مهرٌ مسمى للإجماع، ولولا الإجماع لكان القياس يقتضي أن لا شيء لها؛ لأن هذا وطءٌ بغير عقدٍ، وهو معذورٌ فيه، فكيف يجب عليه مهر المثل؟! فإن كان أحدٌ يقول: إنه لا شيء لها فهو أحق بالاتباع. (¬3) هذا ما قرره المؤلف منطوقًا ومفهومًا؛ فالمنطوق وجوب المهر لمن زني بها كرهًا، والمفهوم عدم وجوب المهر لمن زني بها مطاوعةٍ. والصحيح: أنه لا مهر لها؛ لا في هذا، ولا في هذا ... ، لأن الله - تعالى - أوجب في الزنا حدا معلومًا، فلا نزيد على ما أوجب الله، ولا يمكن أن نقيس هذا الجماع الذي يعتقد المجامع أنه حرامٌ على الحلال.

بكارةٍ (¬1) -. وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال، فإن كان مؤجلًا أو حل قبل التسليم (¬2) أو سلمت نفسها تبرعًا (¬3) فليس لها منعها، فإن أعسر بالمهر الحال فلها الفسخ (¬4) ولو بعد الدخول، ولا يفسخه إلا حاكمٌ (¬5). ¬

_ (¬1) على القول الذي رجحنا - وهو أن المزني بها كرهًا أو طوعًا لا مهر لها - نقول: يجب عليه أرش البكارة إذا كانت بكرًا وزنى بها كرهًا لأنه أتلف البكارة بسببٍ يتلفها عادةً. (¬2) القول الثاني في المسألة: أن الحال قبل التسليم كغير المؤجل؛ يعني: إذا حل الأجل ولم تسلم نفسها وطلب التسليم فلها أن تمنع نفسها. (¬3) إذا سلمت نفسها تبرعًا ... ؛ فالصحيح: أن لها أن تمنع نفسها. (¬4) قد تقدم أن الفراق إذا كان لعيبه فالفرقة من قبله هو - على الصحيح -، والمذهب أنه من قبلها. (¬5) سبق لنا أن شيخ الإسلام - رحمه الله - قال: لو قيل: إن الفسخ يثبت بتراضيهما وبفسخ الحاكم لكان له وجهٌ. يعني: إذا رضي الزوج والزوجة بالفسخ فلا حاجة للحاكم. وما قاله شيخ الإسلام هو الصحيح.

باب وليمة العرس

باب وليمة العرس تسن (¬1) بشاةٍ فأقل (¬2) وتجب في أول مرةٍ إجابة مسلمٍ يحرم هجره إليها إن عينه ولم يكن ثم منكرٌ (¬3). فإن دعاه الجفلى (¬4)، أو في اليوم الثالث (¬5)، أو دعاه ذمي (¬6): كرهت الإجابة. ¬

_ (¬1) وقيل: هي واجبةٌ؛ للأمر بها في حديث عبد الرحمن بن عوفٍ - رضي الله عنه -. والجمهور يرون أنها سنةٌ، وقالوا: ... لأنه ليس دفع ضرورةٍ كالنفقة فتجب، وليس دفعًا لزكاةٍ أو نذرًا فيجب، وإنما هو سرورٌ، فلا يكون واجبًا. (¬2) الصواب: أنها للغني ولو بشاةٍ، فإن كان غناه كبيرًا؛ فيجعل شاتين أو ثلاثًا بحسب حاله والعرف، لكن بشرط أن لا يخرج إلى حد الإسراف والمباهاة؛ فالإسراف محرمٌ، والمباهاة مكروهةٌ. (¬3) [وثمة] شرطٌ لا بد منه، وهو أن نعلم أن دعوته عن صدقٍ ... ، وضد ذلك: أن يكون حياءً أو خجلًا أو مجرد إعلامٍ؛ فلا يجب ... ؛ بل لو قيل بالتحريم لكان له وجهٌ. (¬4) الصواب: أنها ليست بمكروهةٍ وليست بواجبةٍ، لكن إذا علم أحد المدعوين أن صاحب الدعوة يسر بحضوره فينبغي له أن يجيب. (¬5) إذا لم تكن رياءً وسمعةً؛ مثل أن يكون له أقارب ما حضروا إلا في اليوم الثالث؛ فمثل هذه الصورة لا تكره الإجابة فيها؛ لأن الوليمة في اليوم الثاني أو الثالث ليس للعرس ولكن للضيوف، ولكن ينبغي لمن أجاب أولًا أن يقتصر على الإجابة الأولى ... ؛ إلا أن يكون هناك سببٌ خاص. (¬6) الصواب: أنه لا تكره إجابة [الذميين] ... ؛ لا سيما إذا كان في ذلك تأليفٌ لهم ومصلحةٌ. وهذا في إجابتهم في الأمور العادية - كالزواج، والقدوم من سفرٍ، وما أشبه ذلك -، أما الإجابة إلى الشعائر الدينية فإنه لا يجوز.

ومن صومه واجبٌ دعا وانصرف، والمتنفل يفطر إن جبر، ولا يجب الأكل (¬1)، وإباحته متوقفةٌ على صريح إذنٍ أو قرينةٍ (¬2). وإن علم أن ثم منكرًا يقدر على تغييره حضر وغيره وإلا أبى (¬3)، وإن حضر ثم علم به أزاله، فإن دام لعجزه عنه انصرف، وإن علم به ولم يره ولم يسمعه خير. وكره النثار (¬4) والتقاطه، ومن أخذه أو وقع في حجره فله. ¬

_ (¬1) الصحيح: أن الأكل واجبٌ إلا على من صومه واجبٌ ... ولنا أن نقول: إن الأكل فرض كفايةٍ لا فرض عينٍ، فإذا قام به من يكفي ويجبر قلب الداعي؛ فالباقي لا يجب عليهم الأكل، وهو الصواب، أما أن نقول: لا يجب الأكل على الآخرين فهذا فيه نظرٌ. (¬2) عادة الناس اليوم على أنه يحتاج إلى ألفاظٍ صريحةٍ، فلو تقدمت للمائدة ولم تكتمل؛ عد ذلك جشعًا. فما دام الداعي لم يقل: (تفضلوا) فلننتظر، أما إذا جاء بإناء الطعام وقدمه بين يديك فهذا إذنٌ لا يحتاج إلى لفظٍ صريحٍ. والحاصل: أن هذه الأمور تكون بالألفاظ الصريحة والقرائن الواضحة الدالة عليها. (¬3) والأولى أن يبين السبب. (¬4) لو قيل بالتحريم في مسألة الدراهم - أي الأوراق النقدية - لكان له وجهٌ؛ لأنه عرضةٌ لإتلاف المال وإضاعته.

ويسن إعلان النكاح (¬1)، والدف فيه للنساء (¬2). ¬

_ (¬1) وقيل: إنه يجب إعلان النكاح؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به. (¬2) قوله: (للنساء): ظاهره أن [الدف] لا يسن للرجال، لكن قال في «الفروع»: وظاهر الأخبار ونص الإمام أحمد: أنه لا فرق بين النساء والرجال، وأن الدف فيه للرجال كما هو للنساء ... والذين قالوا بتخصيصه بالنساء وكرهوه للرجال يقولون: لأن ضرب الرجال بالدف تشبهٌ بالنساء لأنه من خصائص النساء. وهذا يعني أن المسألة راجعةٌ للعرف؛ فإذا كان العرف أنه لا يضرب بالدف إلا النساء فحينئذٍ نقول: إما أن يكره أو يحرم تشبه الرجال بهن، وإذا جرت العادة بأنه يضرب بالدف من قبل الرجال والنساء فلا كراهة؛ لأن المقصود الإعلان، وإعلان النكاح بدف الرجال أبلغ من إعلانه بدف النساء؛ لأن النساء إذا دففن فإنما يدففن في موضعٍ مغلقٍ حتى لا تظهر أصواتهن، والرجال يدففون في موضعٍ واضحٍ بارزٍ؛ فهو أبلغ في الإعلان، هذا هو ظاهر نص الإمام أحمد - رحمه الله - ... ، وأنه لا فرق بين الرجال والنساء في مسألة الدف. ولكن لو ترتب على هذا مفسدةٌ نمنعه، لا لأنه دف، وإنما نمنعه للمفسدة.

باب عشرة النساء

باب عشرة النساء يلزم الزوجين: العشرة بالمعروف. ويحرم مطل كل واحدٍ بما يلزمه للآخر، والتكره لبذله. وإذا تم العقد لزم تسليم الحرة التي يوطأ مثلها (¬1) في بيت الزوج (¬2) إن طلبه ولم تشترط دارها أو بلدها. ¬

_ (¬1) قال العلماء: وهي بنت تسعٍ. والحقيقة: أن التقييد بالسن في هذا المقام فيه نظرٌ؛ لأن من النساء من تبلغ تسع سنين ولا يمكن وطؤها لصغر جسمها أو نحافتها - وما أشبه ذلك -، ومن النساء من يكون لها ثماني سنين وتكون صالحةً للوطء؛ فالصواب: أنه لا يقيد بالسن؛ بل يقال: هي التي يمكن وطؤها والاستمتاع بها، فهذه يجب تسليمها. وظاهر كلام المؤلف: ولو كانت حائضًا فإنه يجب تسليمها، والمذهب: لا يجب. ولكن هذا مشروطٌ بأن لا يخشى من الزوج، فإن خشي منه بحيث نعرف أن الرجل ليس بذاك المستقيم، وأننا لو سلمنا المرأة له ربما يطؤها فهذه لا نسلمها حتى تطهر، وكذلك لو فرض أن المرأة مريضةٌ والزوج ممن لا يخاف الله ونخشى عليها أن يجامعها وهي مريضةٌ، فيضرها ذلك؛ فإننا لا نسلمها. (¬2) أي: يجب أن تسلم في بيت الزوج. وهذا يوافق عرف بعض البلاد ... ، ولكن هذا الكلام مقيدٌ بما إذا لم يخالف العادة ... ، فإذا كان من عادة الناس أن الزوج هو الذي يأتي لبيت الزوجة فيلزمه ذلك.

وإذا استمهل أحدهما: أمهل العادة وجوبًا، لا لعمل جهازٍ. ويجب تسليم الأمة ليلًا فقط (¬1)، ويباشرها ما لم يضر بها أو يشغلها عن فرضٍ، وله السفر بالحرة ما لم تشترط ضده. ويحرم وطؤها في الحيض والدبر، وله إجبارها على غسل حيضٍ، ونجاسةٍ (¬2)، وأخذ ما تعافه النفس من شعرٍ وغيره. ولا تجبر الذمية (¬3) على غسل الجنابة (¬4). ¬

_ (¬1) الصحيح في هذه المسألة أنه يلزم تسليمها؛ وذلك لأن حق الزوج طارئٌ على حق السيد؛ فهو مقدمٌ عليه، وأن سيدها متى زوجها فقد انقطعت منافعه منها؛ فالزوج هو السيد ... ، لكن لو اشترط السيد على الزوج أن الأمة تبقى في النهار عنده فعلى ما شرط. (¬2) هذا الذي ذكره المؤلف فيه نظرٌ؛ فإنه لا يجبرها على غسل النجاسة إلا في حالين: الأولى: إذا كانت تفوت عليه كمال الاستمتاع. الثانية: إذا كان وقت صلاةٍ لأجل أن تصلي طاهرةً. (¬3) لو أن المؤلف - رحمه الله - قال: (الكتابية) لكان أولى من وجهين: الأول: أن الكتابية يجوز نكاحها وإن لم تكن ذميةً. الثاني: أن غير الكتابية لا يجوز نكاحها ولو كانت ذميةً. (¬4) هذه المسألة خالف فيها الماتن المشهور من المذهب ... والصواب: ما عليه المذهب؛ أن الذمية تجبر على غسل الجنابة؛ لأن هذا شيءٌ يتعلق بالاستمتاع، ولهذا أمر بالاغتسال عند إعادة الجماع، ولأنها إذا لم تغتسل بقيت فاترةً بالنسبة للجماع، كما تجبر على غسل الحيض، وذلك لأن الحيض يتعلق بمحل الاستمتاع، ولا يخفى أن له رائحةً منتنةً تكرهها النفس.

فصلٌ ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلةً من أربعٍ، وينفرد إن أراد في الباقي (¬1). ويلزمه الوطء - إن قدر - كل ثلث سنةٍ مرةً (¬2)، وإن سافر فوق نصفها وطلبت قدومه وقدر لزمه، فإن أبى أحدهما فرق بينهما بطلبها (¬3). وتسن: التسمية عند الوطء، وقول الوارد. ¬

_ (¬1) هذا الذي قضى به كعب بن [سورٍ] بحضرة عمر - رضي الله عنه - وأقره عليه ... ، [وهذا القضاء حجةٌ] بإقرار عمر - رضي الله عنه -؛ لأنه أحد الخلفاء الراشدين. وقال بعض العلماء: إنه يجب عليه أن يبيت عندها بالمعروف؛ لقوله - تعالى -: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وليس المعروف أن يكون الزوج في حجرةٍ ثلاث ليالٍ من أربعٍ، وفي ليلةٍ مع هذه الزوجة، فكلٌ يعرف أن هذا جنفٌ ... ، فيجب عليه أن يبيت عندها ما جرت به العادة. والظاهر: أن ما جرت به العادة يكون مقاربًا لما قضى به كعب بن [سورٍ] عند التشاح والتنازع، أما في المشورة والإرشاد والنصح فإنه ينبغي أن يشار على الزوج ... ، وهذا القول هو الصواب. (¬2) الصواب: أنه يجب أن يطأها بالمعروف، ويفرق بين الشابة والعجوز، فتوطأ كل واحدةٍ منهما بما يشبع رغبتها. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أن الحاكم لا يحتاج إلى أن يراجع الزوج أو يراسله؛ بل يفسخ وإن لم يراسله. وقال بعض أهل العلم: أنه لا يجوز أن يفسخ حتى يراسل الزوج ... وهذا القول أصح؛ لأن الزوج ربما لا يبين العذر لزوجته، فإذا راسله القاضي وعرف أن المسألة وصلت إلى حد يوجب الفراق فربما يبين العذر.

ويكره: كثرة الكلام (¬1)، والنزع قبل فراغها (¬2)، والوطء بمرأى أحدٍ (¬3)، والتحدث به (¬4). ويحرم جمع زوجتيه في مسكنٍ واحدٍ بغير رضاهما (¬5). وله منعها من الخروج من منزله (¬6). ¬

_ (¬1) [الحديث الوارد في هذا] ضعيفٌ ... ولا شك أن كثرة الكلام في هذه الحال ما تنبغي؛ لأن الإنسان كاشفٌ فرجه وكذلك المرأة، لكن الكلام اليسير الذي يزيد في ثوران الشهوة لا بأس به، وقد يكون من الأمور المطلوبة. (¬2) الحديث الذي ذكروه [في النزع] ضعيفٌ، ولكنه من حيث النظر صحيحٌ؛ فكما أنك لا تحب أن تنزع قبل أن تنزل؛ فكذلك هي ينبغي أن لا تعجلها. (¬3) هذا من أغرب ما يكون أن يقتصر فيه على الكراهة!! ... والصحيح في هذه المسألة أنه يحرم الوطء بمرأى أحدٍ، اللهم إذا كان الرائي طفلًا لا يدري ولا يتصور؛ فهذا لا بأس به، أما إن كان يتصور ما يفعل فلا ينبغي - أيضًا - أن يحصل الجماع بمشاهدته ولو كان طفلًا؛ لأن الطفل قد يتحدث بما رأى عن غير قصدٍ. (¬4) وهذا - أيضًا - فيه نظرٌ ظاهرٌ!! والصواب: أن التحدث به حرامٌ ... ؛ بل لو قيل: إنه من كبائر الذنوب لكان أقرب إلى النص ... ، وهذا من هفوات بعض العلماء - رحمهم الله -. (¬5) أما إذا كان في بيتٍ له شققٌ، وجعل لكل واحدةٍ في شقةٍ فهذا لا بأس به؛ لأن كل امرأةٍ مستقلةٌ بمسكنها. (¬6) في هذا تفصيلٌ: أولًا: إذا كان لا ضرر عليه في خروجها فلا ينبغي أن يمنعها؛ لأن منعها كبتٌ لحريتها من وجهٍ، ولأن ذلك قد يفسدها عليه ... ثانيًا: أن يكون في خروجها ضررٌ عليه أو عليها؛ فحينئذٍ له أن يمنعها ثالثًا: أن لا يكون في خروجها خيرٌ ولا شر؛ فالأفضل أن يشير عليها أن لا تخرج. لكن لو أصرت على أن تخرج؛ فهنا الأفضل أن لا يمنعها؛ بل يعطيها شيئًا من الحرية حتى تزداد محبتها له وتكون العشرة بينهما طيبةً، فلكل مقامٍ مقالٌ، والعاقل الحكيم يعرف كيف يتصرف في هذا الأمر.

ويستحب إذنه أن تمرض محرمها (¬1)، وتشهد جنازته (¬2). وله منعها من إجارة نفسها (¬3)، ومن إرضاع ولدها من غيره إلا لضرورته (¬4). ¬

_ (¬1) لكن قد يجب أن يأذن، وذلك فيما إذا لم يكن لمحرمها من يمرضه وكان في حاجةٍ إلى ذلك. أما عيادتهم فالصحيح أنه يجب أن يأذن لها، وفرقٌ بين التمريض والعيادة؛ فالعيادة تعود وترجع، لكن التمريض تبقى عند المريض حتى يأذن الله بشفائه أو موته. وقوله: (محرمها): ظاهره: سواءٌ كان قريبًا جدا كالأب والابن - وما أشبه ذلك - أو بعيدًا، ولكن ينبغي أن يفرق بين القريب والبعيد؛ فمثلًا إذا كان لها عم بعيدٌ فليس كالابن وليس كالأب، ولكل مقامٍ مقالٌ. (¬2) هذا فيه نظرٌ. فإن أراد أن تشهد الصلاة عليها وتتبعها فقد قالت أم عطية - رضي الله عنها -: «نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا»، فمن العلماء من قال: يؤخذ من هذا الحديث أن اتباع الجنائز للنساء مكروهٌ ... ، ومنهم من قال: إنه محرمٌ. وإن أراد أن تبقى هناك بعد موته فهذا يخشى منه النياحة والندب. فشهود الجنازة لا وجه له إطلاقًا. (¬3) أما إذا استؤجرت على عملٍ وهي في بيت زوجها فليس له المنع إلا إذا قصرت في حقه. (¬4) [وثمة حالةٌ ثانيةٌ مستثناةٌ، وهي]: أن تشترط ذلك على زوجها الثاني، فإذا وافق لزمه.

فصلٌ وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم، لا في الوطء (¬1). وعماده: الليل لمن معاشه النهار، والعكس بالعكس. ويقسم: لحائضٍ، ونفساء (¬2)، ومريضةٍ (¬3)، ومعيبةٍ، ومجنونةٍ مأمونةٍ، وغيرها (¬4). ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: بل يجب عليه أن يساوي بينهن في الوطء إذا قدر. وهذا هو الصحيح، والعلة تقتضيه ... ، فما لا يمكنه القسم فيه فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وما يمكنه فإنه يجب عليه أن يقسم. (¬2) العرف - عندنا - أن النفساء لا تبقى في بيت زوجها؛ بل تكون عند أهلها حتى تطهر، وأيضًا العرف - عندنا - أنه لا قسم لها؛ أي: إن الزوج لا يذهب لها ليلةً وللأخرى ليلةً ... وعلى هذا نقول: مقتضى قول الله - تعالى -: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أن لا قسم للنفساء، أما الحائض فعندنا جرت العادة أنه يقسم لها، وأن الزوج لا يفرق؛ يذهب إلى كل واحدةٍ في ليلتها؛ سواءٌ كانت طاهرًا أم حائضًا. (¬3) هذا القول وجيهٌ؛ بل ربما لو نقول: إنه أوجب من القسم للصحيحة لكان له وجهٌ ... ، فإن عافت نفسه هذه المريضة، وقال: (أنا لا أطيق)؛ قلنا: (إذن استسمح منها وطيب قلبها)؛ لأنه أحيانًا يكون المرض لا يطيقه الإنسان وأحيانًا يطيقه، فنقول: إذا كانت مريضةً مرضًا لا تطيقه أو تخشى من العدوى؛ فحينئذٍ استأذن منها. (¬4) الصواب: أن يقسم للمجنونة بشرط أن تكون مأمونةً، فإن لم تكن مأمونةً فلا يقسم لها.

وإن سافرت بلا إذنه، أو بإذنه في حاجتها (¬1)، أو أبت السفر معه (¬2)، أو المبيت عنده في فراشه (¬3): فلا قسم لها، ولا نفقة. ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه، أو له فجعله لأخرى جاز، فإن رجعت قسم لها مستقبلًا (¬4). ولا قسم لإمائه، وأمهات أولاده؛ بل يطأ من شاء متى شاء. وإن تزوج بكرًا أقام عندها سبعًا ثم دار، وثيبًا ثلاثًا، وإن أحبت سبعًا فعل وقضى مثلهن للبواقي. فصلٌ النشوز: معصيتها إياه فيما يجب عليها. ¬

_ (¬1) أما كون [التي سافرت بإذنه لحاجتها] ليس لها قسمٌ فلا شك في ذلك؛ لأنها اختارت ذلك بسفرها، وأما أنه لا نفقة لها ... فهذا فيه نظرٌ؛ لأن المرأة لم تمنع زوجها من نفسها إلا بعد أن أذن. (¬2) إلا إن كانت قد اشترطت عند العقد ألا يسافر بها؛ فإن لها النفقة، ولها أن تطالبه بالقسم - أيضًا -، ويحتمل - أيضًا - ألا تطالبه بالقسم لأن من ضرورة سفره ألا يقسم لها، وهي إذا طالبته بالقسم فإن ذلك [فيه] ضررٌ على الزوجات الأخرى. (¬3) في هذه الحال له أن يعاملها معاملةً أخرى أشد من هذا، وهي أن يعظها ويهجرها ويضربها. (¬4) لكن ينبغي أن يكون مشروطًا بما إذا لم يكن هناك صلحٌ، فإن كان هناك صلحٌ فينبغي أن لا تملك الرجوع.

فإذا ظهر منها أماراته؛ بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع (¬1)، أو تجيبه متبرمةً، أو متكرهةً: وعظها، فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء (¬2)، وفي الكلام ثلاثة أيامٍ، فإن أصرت ضربها غير مبرحٍ. ¬

_ (¬1) ظاهر قوله: (بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع) أنها لو أبت أن تجيبه إلى الخدمة المعروفة؛ مثل لو قال: (اغسلي ثوبي) (اطبخي طعامي) (ارفعي فراشي) فإن ذلك ليس بنشوزٍ ... والصحيح: أنه يلزمها أن تخدم زوجها بالمعروف. (¬2) ليس على إطلاقه؛ بل المقصود أن يهجرها حتى تستقيم حالها.

باب الخلع

باب الخلع من صح تبرعه من زوجةٍ وأجنبي: صح بذله لعوضه (¬1). فإذا كرهت خلق زوجها، أو خلقه، أو نقص دينه، أو خافت إثمًا بترك حقه: أبيح الخلع، وإلا كره ووقع (¬2). فإن عضلها ظلمًا للافتداء، ولم يكن لزناها، أو نشوزها، أو تركها فرضًا ففعلت، أو خالعت الصغيرة (¬3)، والمجنونة، والسفيهة، أو الأمة بغير إذن سيدها: لم يصح الخلع، ووقع الطلاق رجعيا إن كان بلفظ الطلاق أو نيته (¬4). فصلٌ والخلع بلفظ صريح الطلاق، أو كنايته، وقصده (¬5): طلاقٌ بائنٌ. ¬

_ (¬1) ويجوز أن تجعل عوض الخلع غير المال - كخدمته مثلًا -؛ إلا إذا كان العوض محرمًا؛ فهذا لا يجوز. (¬2) إذا كان الخلع لغير سببٍ فإن الصحيح أنه محرمٌ، وأنه لا يقع. (¬3) إن خالع وليها عنها من مالها لتضررها بهذا الزوج جاز؛ لأن ذلك لمصلحتها. (¬4) هذا ما ذهب إليه المؤلف بناءً على أن الخلع إذا وقع بلفظ الطلاق فهو طلاقٌ. والصواب: أنه لا يقع شيءٌ؛ لا طلاقٌ ولا خلعٌ، أما عدم وقوع الخلع فلأنه ليس هناك عوضٌ، وأما عدم وقوع الطلاق فلأن الخلع ليس بطلاقٍ، حتى لو وقع بلفظ الطلاق. (¬5) القول الراجح: أنه ليس بطلاقٍ وإن وقع بلفظ الصريح ... ، ولهذا ذهب ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - إلى أن كل فراقٍ فيه عوضٌ فهو خلعٌ وليس بطلاقٍ، حتى لو وقع بلفظ الطلاق.

وإن وقع بلفظ الخلع، أو الفسخ، أو الفداء، ولم ينوه طلاقًا: كان فسخًا لا ينقص عدد الطلاق (¬1). ولا يقع بمعتدةٍ من خلعٍ طلاقٌ ولو واجهها به (¬2). ولا يصح شرط الرجعة فيه. ¬

_ (¬1) قولٌ آخر: أنه فسخٌ بكل حالٍ، ولو وقع بلفظ الطلاق. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وهو المنصوص عن أحمد، وقول قدماء أصحابه ... وعلى هذا فلا عبرة باللفظ؛ بل العبرة بالمعنى؛ فما دامت المرأة قد بذلت فداءً لنفسها، فلا فرق أن يكون بلفظ الطلاق، أو بلفظ الخلع، أو بلفظ الفسخ. وهذا القول قريبٌ من الصواب، لكنه ما زال يشكل عندي قول الرسول - عليه الصلاة والسلام - لثابت بن قيسٍ - رضي الله عنه -: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقةً» بهذا اللفظ، إلا أن الرواة اختلفوا في نقل هذا الحديث؛ فالحديث الذي فيه «طلقها تطليقةً» كأن البخاري يميل إلى أنه مرسلٌ وليس متصلًا، وأما الأحاديث الأخرى: «فاقبل الحديقة وفارقها» بهذا اللفظ، فإذا تبين أن الراجح من ألفاظ الحديث: «اقبل الحديقة وفارقها» فلا شك أن الصواب قول ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - ومن تابعه، وأما إذا صحت اللفظة: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقةً» فإنه واضحٌ أنه طلاقٌ، ولا يمكن للإنسان أن يحيد عنه. (¬2) ذهب بعض أهل العلم إلى أن المختلعة لا تعتد، وإنما تستبرأ. وهذا القول هو الصحيح؛ أنه لا عدة عليها، وإنما عليها استبراءٌ، فإذا حاضت مرةً واحدةً انتهت عدتها.

وإن خالعها بغير عوضٍ، أو بمحرمٍ: لم يصح (¬1). ويقع الطلاق رجعيا إن كان بلفظ الطلاق أو نيته. وما صح مهرًا صح الخلع به، ويكره بأكثر مما أعطاها (¬2). وإن خالعت حاملٌ بنفقة عدتها: صح. ويصح بالمجهول؛ فإن خالعته على حمل شجرتها، أو أمتها، أو ما في يدها، أو بيتها من دراهم، أو متاعٍ، أو على عبدٍ: صح. وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقل مسماه، ومع عدم الدراهم ثلاثةٌ (¬3). ¬

_ (¬1) قال شيخ الإسلام: يصح أن يخالعها على غير عوضٍ ... وما قاله الشيخ - رحمه الله - جيدٌ؛ لأنه في الحقيقة خلعٌ على عوضٍ، وهو إسقاط النفقة عنه. (¬2) هذه المسألة مما اختلف فيه العلماء؛ فقال بعض العلماء: إنه يجوز بالمال قل أم كثر ... وقال آخرون: لا يزيد على ما أعطاها ... ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى ثابت بن قيسٍ - رضي الله عنه - أن يزيد في خلعه، فقال له: «خذ الحديقة ولا تزدد» ... وأجاب القائلون بالجواز عن الحديث بأنه ضعيفٌ ... والأرجح: أن له أن يأخذ أكثر مما أعطى إلا إذا صح الحديث، ولكن الحديث لا يصح، فإن وجد له شواهد وإلا فهو بسنده المعروف ضعيفٌ، لكن المروءة تقتضي ألا يأخذ منها أكثر مما أعطاها. (¬3) كل هذه المسائل الأخيرة مسائل فرعيةٌ؛ يعني: هذه غالبًا لا تقع، لكن الفقهاء يفرضون أشياء وإن كانت غير واقعةٍ للتمرين على القواعد العامة، ولهذا فإن بعض الأصحاب - رحمهم الله - قال: هذه المسألة لا تصح لكثرة الغرر والجهالة فيها. فمثل هذه الأمور التي يعظم فيها الخطر ينبغي ألا نصححها؛ لأن الزوج في هذه الصور يكون من جنس المغبون في البيع والشراء، والمغبون في البيع والشراء له الخيار.

فصلٌ وإذا قال: (متى)، أو: (إذا)، أو: (إن أعطيتني ألفًا فأنت طالقٌ): طلقت بعطيته وإن تراخى. وإن قالت: (اخلعني على ألفٍ)، أو (بألفٍ)، أو (ولك ألفٌ)، ففعل (¬1): بانت، واستحقها. و (طلقني واحدةً بألفٍ)، فطلقها ثلاثًا: استحقها (¬2)، وعكسه بعكسه (¬3) إلا في واحدةٍ بقيت. وليس للأب خلع زوجة ابنه الصغير، ولا طلاقها (¬4)، ولا خلع ابنته بشيءٍ من ¬

_ (¬1) الفاء هنا للترتيب والتعقيب؛ [فعلى كلام المؤلف] إن فعل الآن استحق، وإن تأخر فإنه لا يستحق ... وقال بعض الأصحاب - رحمهم الله -: إنه يستحق العوض وإن تأخر. (¬2) قال بعض الأصحاب: لا يستحق الألف ... وهذا القول هو الصحيح؛ أنه لا يستحقها إلا على القول الراجح بأن الثلاث واحدةٌ. (¬3) يعني: لو قالت: (طلقني ثلاثًا بألفٍ)، فطلقها واحدةً فإن الطلاق يقع، لكن لا يستحق الألف؛ لأنها طلبت طلاقًا ثلاثًا ... والصحيح في هذه المسألة أنه يستحقها. (¬4) الصحيح في هذه المسألة: أنه إذا كان لمصلحة الابن فلا حرج عليه أن يخالع أو يطلق؛ سواءٌ كان من مال الابن أو من ماله هو.

مالها (¬1). ولا يسقط الخلع غيره من الحقوق. وإن علق طلاقها بصفةٍ، ثم أبانها فوجدت، ثم نكحها فوجدت بعده: طلقت (¬2) كعتقٍ، وإلا فلا. ¬

_ (¬1) القول الصحيح: أنه يجوز للأب أن يخلع ابنته بشيءٍ من مالها إذا كان ذلك لمصلحتها. وهذا القول هو الصحيح. (¬2) عند شيخ الإسلام في هذه المسألة: أنها لا تطلق؛ لأن الظاهر أنه أراد وقوع الصفة في النكاح الأول الذي علق عليه. وفي الحقيقة: أنك إذا تدبرت الأمر وجدت أن هذا القول أرجح من غيره؛ لأن الظاهر من هذا الزوج أنه لم يطرأ على باله أن هذا التعليق يشمل النكاح الجديد؛ اللهم إذا كان علقها على صفةٍ يريد ألا تتصف بها مطلقًا؛ فهذا قد يقال: إنها تعود الصفة.

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق يباح للحاجة، ويكره لعدمها، ويستحب للضرر، ويجب للإيلاء، ويحرم للبدعة. ويصح من زوجٍ مكلفٍ، ومميزٍ يعقله. ومن زال عقله معذورًا لم يقع طلاقه، وعكسه الآثم (¬1). ومن أكره عليه ظلمًا بإيلامٍ له أو لولده، أو أخذ مالٍ يضره، أو هدده بأحدها قادرٌ يظن إيقاعه به فطلق تبعًا لقوله (¬2): لم يقع. ويقع الطلاق في نكاحٍ مختلفٍ فيه، ومن الغضبان (¬3). ووكيله كهو، ويطلق واحدةً ومتى شاء (¬4)، إلا أن يعين له وقتًا وعددًا. ¬

_ (¬1) مثاله: السكران باختياره ... ، [لكن] قال بعض أهل العلم: إن السكران لا يقع طلاقه ... وهذا القول أصح، وهو الذي رجع إليه الإمام أحمد - رحمه الله -. (¬2) علم من قوله: (تبعًا لقوله) أنه لو طلق بقصد إيقاع الطلاق فإنه يقع الطلاق ... ، [لكن] ذهب بعض أهل العلم - وقولهم أقرب إلى الصواب - إلى أنه بالإكراه يزول الحكم مطلقًا ما لم يطمئن إلى الشيء، وهذا بعيدٌ. (¬3) القول بعدم وقوع طلاق الغضبان نظريا هو القول الراجح، لكن - عمليا وتربويا - نمنع الفتوى به إلا في حالاتٍ معينةٍ نعرف فيها صدق الزوج. (¬4) لكن بشرط ألا يكون في حيضٍ، أو طهرٍ جامع فيه الزوج.

وامرأته كوكيله في طلاق نفسها (¬1). فصلٌ إذا طلقها مرةً، في طهرٍ لم يجامع فيه (¬2)، وتركها حتى تنقضي عدتها: فهو سنةٌ. فتحرم الثلاث إذن. وإن طلق من دخل بها (¬3) في حيضٍ، أو طهرٍ وطئ فيه: فبدعةٌ (¬4) يقع (¬5)، ¬

_ (¬1) هذه المسألة فيها خلافٌ بين أهل العلم - سلفًا وخلفًا -؛ فمنع منها أهل الظاهر وجماعةٌ من السلف والخلف، وقالوا: ما يمكن أن يكون الطلاق بيد الزوجة بالوكالة؛ لأن الزوجة تختلف عن الأجنبي بأنها سريعة العاطفة والتأثر، ولا تتروى في الأمور ... فحتى على القول بالجواز - كما هو المذهب - لا ينبغي للإنسان أن يوكل امرأته في طلاق نفسها أبدًا؛ لأنها - كما علل المانعون - ضعيفة التفكير، سريعة التأثر والعاطفة، فكل هذه الأسباب توجب أن يتوقف الإنسان في توكيلها. (¬2) لو أضاف المؤلف - رحمه الله - قيدًا خامسًا لكان أولى، فيقول: (في طهرٍ لم يجامعها فيه ولم يتبين حملها)؛ لأنه إذا تبين حملها جاز طلاقها ولو كان قد جامعها. (¬3) لو قال المؤلف: (من لزمتها عدةٌ) لكان أعم؛ لأن المرأة تلزمها العدة إذا دخل بها؛ يعني: جامعها، أو خلا بها، أو مسها بشهوةٍ، أو قبلها. (¬4) وإن شئت فقل: (إنه محرمٌ)، وهذا أليق في اصطلاح الفقهاء. (¬5) مسألة الطلاق في الحيض من أكبر مهمات هذا الباب، ويجب على الإنسان أن يحققها بقدر ما يستطيع حتى يصل فيها إلى ما يراه صوابًا؛ لأن المسألة ليس فيها احتياطٌ؛ بل المسألة خطيرةٌ ... ومن أحسن من رأيت كتب في الموضوع: ابن القيم - رحمه الله - في «زاد المعاد».

وتسن رجعتها (¬1). ولا سنة ولا بدعة: لصغيرةٍ، وآيسةٍ، وغير مدخولٍ بها (¬2)، ومن بان حملها. وصريحه: لفظ الطلاق، وما تصرف منه - غير أمرٍ، ومضارعٍ، و (مطلقةٍ) اسم فاعلٍ -، فيقع به وإن لم ينوه (¬3)، جاد أو هازلٌ. فإن نوى بطالقٍ من وثاقٍ، أو في نكاحٍ سابقٍ منه، أو من غيره، أو أراد طاهرًا فغلط: لم يقبل حكمًا. ولو سئل: (أطلقت امرأتك؟)، فقال: (نعم): وقع (¬4)، أو: (ألك امرأةٌ؟)، فقال: لا، وأراد الكذب: فلا. ¬

_ (¬1) وعلى القول بأن الطلاق لا يقع؛ نقول ... : هي زوجةٌ لم تنفك عن زوجها حتى نقول: راجعها. (¬2) لو زاد المؤلف: (أو مخلو بها)، أو قال بدلًا من هذا: (لمن لا عدة لها) لكان أولى وأعم. (¬3) قال بعض أهل العلم: أنه إذا لم ينوه فإنه لا يقع؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - يقول: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}، مع أن اليمين له حكمٌ معلقٌ عليه، فإذا حلف الإنسان تعلق الحكم بيمينه، ومع ذلك لم يجعله الله - سبحانه وتعالى - معتبرًا إلا إذا نواه، فإذا كان اليمين لا ينعقد إلا بالنية فالطلاق - أيضًا - لا ينعقد إلا بالنية ... وهذا القول تعليله قوي جدا. (¬4) إذا أراد الكذب فإنه لا يقع، وإن أراد الطلاق فإنها تطلق.

فصلٌ وكناياته الظاهرة (¬1) نحو: (أنت خليةٌ) (¬2)، و (بريةٌ)، و (بائنٌ)، و (بتةٌ)، و (بتلةٌ)، و (أنت حرةٌ) (¬3)، و (أنت الحرج) (¬4). والخفية نحو: (اخرجي)، و (اذهبي)، و (ذوقي)، و (تجرعي)، و (اعتدي)، و (استبرئي)، و (اعتزلي)، و (لست لي بامرأةٍ)، و (الحقي بأهلك) - وما أشبهه -. ¬

_ (¬1) فقهاؤنا - رحمهم الله - قسموا [كنايات الطلاق] إلى قسمين: ظاهرةٍ وخفيةٍ؛ فالظاهرة تختلف عن الخفية في أنها صريحةٌ في البينونة، ولهذا يوقعون بها ثلاثًا، والخفية غير صريحةٍ في البينونة فلا يوقعون بها إلا واحدةً ما لم ينو أكثر. ولا دليل على هذا التقسيم ... ، لكن يقال: الكنايات نوعان: كناياتٌ بينةٌ قريبةٌ من معنى الطلاق، وكناياتٌ بعيدةٌ، وحكمها واحدٌ. (¬2) لكن بلغتنا - نحن في القصيم - يعتبرونها صريحًا، حتى العامة لا يقولون: (فلانٌ طلق زوجته)؛ بل يقولون: (فلانٌ خلى زوجته) ... وقد سبق أن الصواب ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، [وذلك] أن الألفاظ ثيابٌ للمعاني، وإذا كانت ثيابًا لها فإنها تختلف بحسب العرف والزمان ... ، فإذن قد يكون اللفظ عند قومٍ صريحًا، وعند قومٍ آخر غير صريحٍ؛ بل قد يكون عند قومٍ لا يدل عليه أصلًا. (¬3) عندي أنها بعيدةٌ إلا إذا سألت الطلاق؛ بل حتى لو سألته وألحت عليه، وقال: (أنت حرةٌ) فأنا عندي أنه ما يتم الطلاق أبدًا، وأن فهم الطلاق منها بعيدٌ. (¬4) عندنا سبع كلماتٍ ... ، لكن مع ذلك ليست على سبيل الحصر ... وسبق لنا أن الأعراف تختلف؛ فإننا ننزل الضابط على حسب عرف هذا الزوج، فنقول: (ما عرفك؟) (ماذا يراد بكلمة كذا في عرفك؟)، فإن قال: يراد بها أنها بانت منه، نقول: إذن هو من الكنايات الظاهرة.

ولا يقع بكنايةٍ - ولو ظاهرةً - طلاقٌ إلا بنيةٍ مقارنةٍ للفظ إلا حال خصومةٍ، أو غضبٍ، أو جواب سؤالها، فلو لم يرده، أو أراد غيره في هذه الأحوال: لم يقبل حكمًا (¬1). ويقع مع النية بالظاهرة ثلاثٌ وإن نوى واحدةً (¬2)، وبالخفية ما نواه (¬3). فصلٌ وإن قال: (أنت علي حرامٌ) (¬4)، أو (كظهر أمي) (¬5): فهو ظهارٌ ولو نوى به ¬

_ (¬1) الصحيح: أن الكناية لا يقع بها الطلاق إلا بنيةٍ حتى مع في هذه الأحوال ... ، فالصحيح: أنه لا يقع إلا بنيةٍ. (¬2) الصحيح: أنه لا يقع إلا واحدةً حتى لو نوى ثلاثًا. (¬3) هذا مبني على وقوع الطلاق الثلاث جملةً، وسبق الصواب، وأنه لا يوجد طلاقٌ ثلاثٌ إلا بتكرارٍ بعد رجعةٍ أو عقدٍ جديدٍ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وهو الصحيح. وإذا كان باللفظ الصريح لا يقع المكرر إلا واحدةً؛ فبالكناية من باب أولى. (¬4) على القول الراجح: إذا قال لزوجته: (أنت علي حرامٌ) ونوى الخبر دون الإنشاء؛ فإننا نقول: (كذبت، وليس بشيءٍ)؛ لأنها حلالٌ ... وإذا نوى الإنشاء - أي: تحريمها -؛ فهذا إن نوى به الطلاق فهو طلاقٌ ... ، وإن نوى به الظهار فهو ظهارٌ، وإن نوى به اليمين فهو يمينٌ. (¬5) على القول الراجح: أنه قد يجرى مجرى اليمين؛ أي: منع نفسه ولم يرد أن يحرم زوجته ويجعلها كظهر أمه.

الطلاق، وكذلك: (ما أحل الله علي حرامٌ) (¬1). وإن قال: (ما أحل الله علي حرامٌ أعني به الطلاق) طلقت ثلاثًا، وإن قال: (أعني به طلاقًا) فواحدةً (¬2). وإن قال: (كالميتة)، و (الدم)، و (الخنزير) وقع ما نواه من طلاقٍ وظهارٍ ويمينٍ، وإن لم ينو شيئًا فظهارٌ (¬3). وإن قال: (حلفت بالطلاق)، وكذب: لزمه حكمًا. وإن قال: (أمرك بيدك) ملكت ثلاثًا ولو نوى واحدةً (¬4) - ويتراخى - ما لم يطأ، أو يطلق، أو يفسخ. ويختص: (اختاري نفسك) بواحدةٍ (¬5)، وبالمجلس المتصل؛ ما لم يزدها فيهما، فإن ردت أو وطئ أو طلق أو فسخ: بطل خيارها. ¬

_ (¬1) هو يمينٌ على الراجح؛ حتى لو نوى الزوجة. (¬2) الصحيح في هذه المسألة: أنها تطلق طلقةً واحدةً ولو قال: (أعني به الطلاق)؛ لأن الطلاق الثلاث لا يقع إذا كانت كل واحدةٍ مستقلةً عن الأخرى. (¬3) قد بينا الصواب فيما سبق، وأن تحريم المرأة يمينٌ؛ إلا أن يكون بلفظ الظهار. (¬4) وقيل: إنه على حسب نيته ... ، ولو قيل في هذه المسألة: إنه يدين كغيرها من شبيهاتها، فيقال: عندنا لفظٌ ظاهرٌ ونيةٌ باطنةٌ، اللفظ الظاهر هو: (أمرك بيدك)، والنية الباطنة، فإذا لم ترافعه إلى الحاكم رجعنا إلى قوله وإلى نيته. (¬5) في المسألة قولٌ آخر: أنه إذا قال لها: (اختاري نفسك)، واختارت الفراق البائن فلها ذلك.

باب ما يختلف به عدد الطلاق

باب ما يختلف به عدد الطلاق يملك من كله حر أو بعضه ثلاثًا، والعبد اثنتين (¬1) - حرةً كانت زوجتاهما أو أمةً (¬2) -. فإذا قال: (أنت الطلاق)، أو (طالقٌ)، أو (علي) (¬3)، أو (يلزمني) (¬4): وقع ¬

_ (¬1) القول الآخر في هذه المسألة: أن العبد له ثلاثٌ لعدم الأدلة. (¬2) هذه المسألة فيها خلافٌ ... ؛ فالمشهور من المذهب: أنه يعتبر بالرجال، وقيل: المعتبر الزوجة، وقيل: إنه يعتبر بهما، وقيل: يملك الزوج ثلاثًا؛ سواءٌ كان حرا أم رقيقًا، وسواءٌ كانت الزوجة حرةً أم رقيقةً ... ، والحمد لله أن هذه المسألة في أوقاتنا فرضيةٌ، إلا أن يفتح الله - تعالى - على المسلمين جهادًا في سبيله، ويحصل الاسترقاق. (¬3) قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: إن هذا يمينٌ باتفاق أهل اللغة والعرف، وليس بطلاقٍ، وقال بعضهم - وهو الأصح -: إن هذا ليس بشيءٍ إذا لم يذكر متعلقًا؛ لأن قوله: (علي الطلاق) التزامٌ به، وهو إن كان خبرًا بالالتزام فإنه لا يقع، وإن كان التزامًا به فإنه - أيضًا - لا يقع إلا بوجود سببه؛ مثل ما لو قال: (علي أن أبيع هذا البيت)، فما ينعقد البيع، فإذا قال: (علي الطلاق)، نقول: (ما دام أنك أوجبته على نفسك طلق)، وإذا لم تطلق فإنه لا يقع الطلاق. وهذا القول هو الصحيح أنه ليس بطلاقٍ، وليس يمينًا إلا إن ذكر المحلوف عليه؛ بأن قال: (علي الطلاق لأفعلن كذا)، لكن لو صار في العرف عند الناس أن الإنسان إذا قال: (علي الطلاق) مثل قوله: (أنت طالقٌ) فحينئذٍ نرجع إلى القاعدة العامة أن كلام الناس يحمل على ما يعرفونه من كلامهم ولغتهم العرفية، وعلى هذا فيكون طلاقًا، أما بالنظر للمعنى اللغوي فإنه ليس بطلاقٍ. (¬4) القول الصحيح: أن هذا التزامٌ وليس بإيقاعٍ؛ إن كان خبرًا عن أمرٍ مضى نقول: (بأي شيءٍ لزمك؟) وإن كان التزامًا بشيءٍ مستقبلٍ نقول له: (أوجد السبب أو طلق حتى تطلق).

ثلاثًا بنيتها، وإلا فواحدةٌ (¬1). ويقع بلفظ كل الطلاق، أو أكثره، أو عدد الحصى، أو الريح - أو نحو ذلك -: ثلاثٌ ولو نوى واحدةً (¬2). وإن طلق عضوًا، أو جزءًا مشاعًا، أو معينًا، أو مبهمًا، أو قال: (نصف طلقةٍ)، أو (جزءًا من طلقةٍ): طلقت، وعكسه: الروح (¬3)، والسن، والشعر، والظفر - ونحوه -. وإذا قال لمدخولٍ بها: (أنت طالقٌ) وكرره: وقع العدد، إلا أن ينوي تأكيدًا يصح، أو إفهامًا (¬4). وإن كرره ب- (بل)، أو ب- (ثم)، أو بالفاء، أو قال: (بعدها) أو (قبلها) أو (معها ¬

_ (¬1) القول الراجح في هذه المسائل كلها: أنه ليس هناك طلاقٌ ثلاثٌ أبدًا إلا إذا تخلله رجعةٌ أو عقدٌ، وإلا فلا يقع الثلاث. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وهو الصحيح. (¬2) القول الراجح: أنه يقع واحدةً ولو نوى ثلاثًا، [أي] عكس كلام المؤلف تمامًا. (¬3) القول الصحيح في هذه المسألة: أنه إذا أضاف الطلاق إلى روحها طلقت؛ إذ لا يمكن أن تنفصل الروح إلا بالموت. (¬4) على القول الراجح في هذه المسائل: أنه لا يقع إلا طلقةً واحدةً، حتى لو قال: (أردت الطلاق بالثانية وبالثالثة) قلنا: هذه إرادةٌ فاسدةٌ، ولا تؤثر شيئًا.

طلقةٌ): وقع اثنتان. وإن لم يدخل بها بانت بالأولى، ولم يلزمه ما بعدها. والمعلق كالمنجز في هذا. فصلٌ ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات (¬1). فإذا قال: (أنت طالقٌ طلقتين إلا واحدةً): وقعت واحدةٌ. وإن قال: (ثلاثًا إلا واحدةً): فطلقتان. وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات (¬2): صح دون عدد الطلقات. وإن قال: (أربعكن إلا فلانة طوالق): صح الاستثناء. ولا يصح استثناءٌ لم يتصل عادةً، فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بطل (¬3)، ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: إن استثناء أكثر من النصف لا بأس به ... وهذا هو القول الراجح؛ أنه يصح استثناء أكثر من النصف. (¬2) إذا استثنى من عدد المطلقات [فلذلك] صورتان: الأولى: أن يذكر ذلك بلفظٍ عام بدون عددٍ، ويستثني بقلبه شيئًا منه؛ مثل أن يقول: (نسائي طوالق) وينوي: (إلا هندًا) فيصح ... الثانية: أن يذكر ذلك بصريح العدد ويستثني بقلبه شيئًا من المعدود؛ مثل أن يقول: (نسائي الأربع طوالق)؛ فهذا صريحٌ، وينوي (إلا هندًا)، فظاهر كلام المؤلف أن ذلك صحيحٌ، ولكن كلامه ليس بصحيحٍ. والصواب: أن الاستثناء لا يصح؛ لأن النية لا تؤثر في الصريح. (¬3) هذه المسألة فيها خلافٌ بين أهل العلم؛ فمنهم من قال باشتراطه، ومنهم من لم يقل باشتراطه ... والصحيح: أنه مادام الكلام واحدًا وهو في مجلسه وما زال يتحدث فإنه يعتبر كلامًا متصلًا، ويصح الاستثناء فيه.

وشرطه النية قبل كمال ما استثني منه (¬1). ¬

_ (¬1) الصواب: أن النية قبل تمام المستثنى منه ليست بشرطٍ، وأنه يجوز أن ينوي ولو بعد أن تم الكلام؛ سواءٌ تذكر هو بنفسه أو ذكره أحدٌ.

باب الطلاق في الماضي والمستقبل

باب الطلاق في الماضي والمستقبل إذا قال: (أنت طالقٌ أمس)، أو (قبل أن أنكحك)، ولم ينو وقوعه في الحال (¬1): لم يقع. وإن أراد بطلاقٍ سبق منه، أو من زيدٍ، وأمكن: قبل. فإن مات، أو جن، أو خرس قبل بيان مراده: لم تطلق. وإن قال: (طالقٌ ثلاثًا قبل قدوم زيدٍ بشهرٍ)، فقدم قبل مضيه لم تطلق، وبعد شهرٍ وجزءٍ تطلق فيه يقع، فإن خالعها بعد اليمين بيومٍ، وقدم بعد شهرٍ ويومين صح الخلع وبطل الطلاق، وعكسها بعد شهرٍ وساعةٍ. وإن قال: (طالقٌ قبل موتي) طلقت في الحال، وعكسه معه أو بعده. فصلٌ وإن قال: (أنت طالقٌ إن طرت)، أو (صعدت السماء)، أو (قلبت الحجر ذهبًا) - ونحوه من المستحيل -: لم تطلق. وتطلق في عكسه فورًا، وهو النفي في المستحيل؛ مثل: (لأقتلن الميت)، أو (لأصعدن السماء) - ونحوهما - (¬2). ¬

_ (¬1) [ظاهر كلامه]: إن نوى وقوعه في الحال ... فإنه يقع ... ، والصحيح: أنه لا يقع. (¬2) الصواب في مسألة (لأقتلن الميت) أو (لأصعدن السماء) - ونحوهما - أنه قسمٌ، وأنه لا تطلق الزوجة، ولكن عليه كفارة يمينٍ.

و (أنت طالقٌ اليوم إذا جاء غدٌ): لغوٌ. وإذا قال: (أنت طالقٌ في هذا الشهر)، أو (اليوم): طلقت في الحال. وإن قال: (في غدٍ)، أو (السبت)، أو (رمضان): طلقت في أوله. وإن قال: (أردت آخر الكل): دين، وقبل. و (أنت طالقٌ إلى شهرٍ): طلقت عند انقضائه، إلا أن ينوي في الحال فيقع. و (طالقٌ إلى سنةٍ): تطلق باثني عشر شهرًا، فإن عرفها باللام طلقت بانسلاخ ذي الحجة.

باب تعليق الطلاق بالشروط

باب تعليق الطلاق بالشروط لا يصح إلا من زوجٍ. فإذا علقه بشرطٍ لم تطلق قبله ولو قال: (عجلته) (¬1). وإن قال: (سبق لساني بالشرط، ولم أرده): وقع في الحال. وإن قال: (أنت طالقٌ)، وقال: (أردت إن قمت): لم يقبل حكمًا. وأدوات الشرط: (إن)، و (إذا)، و (متى)، و (أي)، و (من)، و (كلما) وهي وحدها للتكرار؟ وكلها و (مهما) بلا (لم) أو نية فورٍ أو قرينةٍ: للتراخي، ومع (لم): للفور؛ إلا (إن) مع عدم نية فورٍ أو قرينةٍ. فإذا قال: (إن قمت)، أو (إذا)، أو (متى)، أو (أي وقتٍ)، أو (من قامت)، أو (كلما قمت فأنت طالقٌ): فمتى وجد طلقت. وإن تكرر الشرط لم يتكرر الحنث، إلا في (كلما). و (إن لم أطلقك فأنت طالقٌ) ولم ينو وقتًا، ولم تقم قرينةٌ بفورٍ، ولم يطلقها: طلقت في آخر حياة أولهما موتًا. و (متى لم)، أو (إذا لم)، أو (أي وقتٍ لم أطلقك فأنت طالقٌ)، ومضى زمنٌ ¬

_ (¬1) والقول الثاني: أنه يتعجل ... ، فإذا قال: (عجلته) تعجل، ويلغى الشرط، وتطلق.

يمكن إيقاعه فيه ولم يفعل: طلقت. و (كلما لم أطلقك فأنت طالقٌ)، ومضى ما يمكن إيقاع ثلاثٍ مرتبةٍ فيه: طلقت المدخول بها ثلاثًا، وتبين غيرها بالأولى. و (إن قمت فقعدت)، أو (ثم قعدت)، أو (إن قعدت إذا قمت)، أو (إن قعدت إن قمت فأنت طالقٌ): لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد، وبالواو تطلق بوجودهما ولو غير مرتبين، وب- (أو) بوجود أحدهما. فصلٌ إذا قال: (إن حضت فأنت طالقٌ): طلقت بأول حيضٍ متيقنٍ (¬1). و (إذا حضت حيضةً): تطلق بأول الطهر من حيضةٍ كاملةٍ. وفي: (إذا حضت نصف حيضةٍ): تطلق في نصف عادتها. فصلٌ إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهرٍ: طلقت منذ حلف. وإن قال: (إن لم تكوني حاملًا فأنت طالقٌ): حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضةٍ في البائن، وهي عكس الأولى في الأحكام. وإن علق طلقةً: (إن كانت حاملًا بذكرٍ، وطلقتين بأنثى)، فولدتهما: طلقت ثلاثًا، وإن كان مكانه: (إن كان حملك) أو (ما في بطنك): لم تطلق بهما. ¬

_ (¬1) مع أن هذا الطلاق حرامٌ وبدعةٌ، لكن المذهب يرون أن الطلاق البدعي يقع، وسبق أن الصحيح أنه لا يقع.

فصلٌ إذا علق طلقةً على الولادة بذكرٍ، وطلقتين بأنثى، فولدت ذكرًا ثم أنثى حيا أو ميتًا: طلقت بالأول، وبانت بالثاني، ولم تطلق به. وإن أشكل كيفية وضعهما فواحدةً. فصلٌ إذا علقه على الطلاق ثم علقه على القيام، أو علقه على القيام ثم على وقوع الطلاق، فقامت: طلقت طلقتين فيهما. وإن علقه على قيامها ثم على طلاقه لها فقامت: فواحدةً. وإن قال: (كلما طلقتك) أو (كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالقٌ)، فوجدا: طلقت في الأولى طلقتين، وفي الثانية ثلاثًا. فصلٌ إذا قال: (إذا حلفت بطلاقك فأنت طالقٌ)، ثم قال: (أنت طالقٌ إن قمت): طلقت في الحال، لا إن علقه بطلوع الشمس - ونحوه -؛ لأنه شرطٌ لا حلفٌ. و (إن حلفت بطلاقك فأنت طالقٌ)، أو (إن كلمتك فأنت طالقٌ)، وأعاده مرةً أخرى: طلقت واحدةً، ومرتين فثنتان، وثلاثًا فثلاثٌ. فصلٌ إذا قال: (إن كلمتك فأنت طالقٌ فتحققي)، أو قال: (تنحي)، أو (اسكتي): طلقت.

و (إن بدأتك بكلامٍ فأنت طالقٌ)، فقالت: (إن بدأتك به فعبدي حر): انحلت يمينه ما لم ينو عدم البداءة في مجلسٍ آخر. فصلٌ إذا قال: (إن خرجت بغير إذني)، أو (إلا بإذني)، أو (حتى آذن لك)، أو (إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالقٌ)، فخرجت مرةً بإذنه، ثم خرجت بغير إذنه (¬1)، أو أذن لها ولم تعلم (¬2)، أو خرجت تريد الحمام وغيره، أو عدلت منه إلى غيره: طلقت في الكل، لا إن أذن فيه كلما شاءت، أو قال: (إلا بإذن زيدٍ)، فمات زيدٌ ثم خرجت. فصلٌ إذا علقه بمشيئتها ب- (إن) - أو غيرها من الحروف -: لم تطلق حتى تشاء ولو تراخى. فإن قالت: (قد شئت إن شئت)، فشاء: لم تطلق. وإن قال: (إن شئت وشاء أبوك أو زيدٌ): لم يقع حتى يشاءا معًا، وإن شاء أحدهما فلا. و (أنت طالقٌ أو عبدي حر إن شاء الله): وقعا (¬3). ¬

_ (¬1) وقيل: لا تطلق إلا إذا نوى أنه إنما أذن لها هذه المرة، فهو على نيته وإلا فلا تطلق ... ، وهذا أصح. (¬2) هذا مبني على مسألة: هل ينعزل الوكيل قبل العلم أو لا ينعزل؟ وفيه خلافٌ. (¬3) [قولٌ آخر]: إن أراد بقوله: (إن شاء الله)؛ أي: إن شاء الله أن تطلقي بهذا القول فإن الطلاق يقع ... ، وإن أراد بقوله: (إن شاء الله) أي: في طلاق المستقبل فإنه لا يقع حتى يوقعه مرةً ثانيةً في المستقبل. وهذا هو الصواب.

و (إن دخلت الدار فأنت طالقٌ إن شاء الله): طلقت إن دخلت. و (أنت طالقٌ لرضا زيدٍ) أو (لمشيئته): طلقت في الحال، فإن قال: (أردت الشرط) قبل حكمًا. و (أنت طالقٌ إن رأيت الهلال)، فإن نوى رؤيتها لم تطلق حتى تراه، وإلا طلقت بعد الغروب برؤية غيرها. فصلٌ وإن حلف لا يدخل دارًا أو لا يخرج منها، فأدخل أو أخرج بعض جسده، أو دخل طاق الباب، أو لا يلبس ثوبًا من غزلها فلبس ثوبًا فيه منه، أو لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه: لم يحنث. وإن فعل المحلوف عليه ناسيًا أو جاهلًا: حنث في طلاقٍ وعتاقٍ فقط (¬1). وإن فعل بعضه: لم يحنث إلا أن ينويه. وإن حلف ليفعلنه: لم يبر إلا بفعله كله (¬2). ¬

_ (¬1) الصواب في هذه المسألة: أنه لا حنث عليه؛ لا في الطلاق ولا في العتق. (¬2) اعلم أن ما ذكره المؤلف - هنا - تحكم فيه النية؛ فإذا نوى شيئًا حكم به؛ لأن أول ما نرجع في الأيمان إلى نية الحالف.

باب التأويل في الحلف

باب التأويل في الحلف ومعناه: أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره. فإذا حلف وتأول يمينه نفعه إلا أن يكون ظالمًا. فإن حلفه ظالمٌ: (ما لزيدٍ عندك شيءٌ) وله عنده وديعةٌ بمكانٍ فنوى غيره أو ب- (ما) الذي، أو حلف (ما زيدٌ ها هنا) ونوى غير مكانه، أو حلف على امرأته (لا سرقت مني شيئًا) فخانته في وديعةٍ ولم ينوها: لم يحنث في الكل.

باب الشك في الطلاق

باب الشك في الطلاق من شك في طلاقٍ أو شرطه: لم يلزمه، وإن شك في عدده فطلقةٌ، وتباح له. فإذا قال لامرأتيه: (إحداكما طالقٌ): طلقت المنوية، وإلا من قرعت؛ كمن طلق إحداهما بائنًا ونسيها. وإن تبين أن المطلقة غير التي قرعت: ردت إليه ما لم تتزوج أو تكن القرعة بحاكمٍ. وإن قال: (إن كان هذا الطائر غرابًا ففلانة طالقٌ، وإن كان حمامًا ففلانة) وجهل: لم تطلقا. وإن قال لزوجته وأجنبيةٍ اسمهما هندٌ: (إحداكما أو هندٌ طالقٌ): طلقت امرأته. وإن قال: (أردت الأجنبية): لم يقبل حكمًا إلا بقرينةٍ. وإن قال لمن ظنها زوجته: (أنت طالقٌ): طلقت الزوجة، وكذا عكسها (¬1). ¬

_ (¬1) قوله: (وكذا عكسها): طلق زوجته يظنها غير زوجته؛ تطلق الزوجة، والصحيح: أنها لا تطلق؛ لأنه ما أراد طلاق زوجته.

باب الرجعة

باب الرجعة من طلق بلا عوضٍ زوجةً مدخولًا بها أو مخلوا بها دون ما له من العدد: فله رجعتها في عدتها ولو كرهت. بلفظ: (راجعت امرأتي) - ونحوه -، لا: (نكحتها) - ونحوه - (¬1). ويسن: الإشهاد (¬2). وهي زوجةٌ، لها وعليها حكم الزوجات، لكن لا قسم لها. وتحصل الرجعة - أيضًا - بوطئها (¬3)، ولا تصح معلقةً بشرطٍ (¬4). فإذا طهرت من الحيضة الثالثة ولم تغتسل: فله رجعتها (¬5). ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: يصح بلفظ: (نكحتها) - ونحوه - إذا علم أن مراده المراجعة ... وهذا القول قوي جدا؛ لأن العبرة في الألفاظ بمعانيها. (¬2) يحتمل أن يقال: في هذا تفصيلٌ، إن راجعها بحضرتها فلا حاجة للإشهاد، وإن راجعها في غيبتها وجب الإشهاد ... ، والصواب: هذا التفصيل. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: أن الرجعة تحصل بجماعها؛ سواءٌ نوى بذلك الرجعة أم لم ينو ... والقول الثاني: أنها لا تحصل الرجعة بالوطء إلا بنية المراجعة ... وهذا هو الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (¬4) قال بعض أهل العلم: إنها تصح الرجعة معلقةً بشرطٍ، وهذا القول أصح. (¬5) هذه المسألة فيها قولان لأهل العلم، وهي من المسائل الكبيرة التي تكاد الأدلة فيها أن تكون متكافئةً.

وإن فرغت عدتها قبل رجعتها: بانت وحرمت قبل عقدٍ جديدٍ. ومن طلق دون ما يملك ثم راجع أو تزوج: لم يملك أكثر مما بقي، وطئها زوجٌ غيره أو لا. فصلٌ وإن ادعت انقضاء عدتها في زمنٍ يمكن انقضاؤها فيه (¬1)، أو بوضع الحمل الممكن وأنكره: فقولها. وإن ادعته الحرة بالحيض في أقل من تسعةٍ وعشرين يومًا ولحظةٍ: لم تسمع دعواها. وإن بدأته فقالت: (انقضت عدتي)، فقال: (كنت راجعتك)، أو بدأها به فأنكرته: فقولها. فصلٌ إذا استوفى ما يملك من الطلاق: حرمت عليه حتى يطأها زوجٌ في قبلٍ ولو مراهقًا. ويكفي: تغييب الحشفة - أو قدرها مع جب - في فرجها مع انتشارٍ وإن لم ينزل. ¬

_ (¬1) وهذا على المذهب: تسعةٌ وعشرون يومًا ولحظةٌ ... أما على القول الراجح فقد سبق أنه لا حد لأقل الحيض ولا لأقل الطهر، ولكن لا شك أن كون امرأةٍ تحيض ثلاثة أيامٍ ثلاث مراتٍ في شهرٍ؛ فهذا بعيدٌ جدا، ولهذا حتى لو ادعت أنها انقضت في شهرٍ فلا بد من بينةٍ.

ولا تحل بوطء دبرٍ، وشبهةٍ، وملك يمينٍ، ونكاحٍ فاسدٍ، ولا في حيضٍ، ونفاسٍ، وإحرامٍ، وصيام فرضٍ (¬1). ومن ادعت مطلقته المحرمة - وقد غابت - نكاح من أحلها، وانقضاء عدتها منه: فله نكاحها إن صدقها وأمكن. ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: إنها تحل بالوطء في هذه الأحوال ... ، وهذا القول أصح.

كتاب الإيلاء

كتاب الإيلاء وهو حلف زوجٍ بالله - تعالى - أو صفته (¬1) على ترك وطء زوجته في قبلها أكثر من أربعة أشهرٍ (¬2). ويصح من كافرٍ، وقن، ومميزٍ (¬3)، وغضبان (¬4)، وسكران (¬5)، ومريضٍ مرجو برؤه (¬6)، وممن لم يدخل بها، لا من مجنونٍ، ومغمًى عليه، وعاجزٍ عن وطءٍ لجب ¬

_ (¬1) علم من قول المؤلف: (بالله - تعالى - أو صفته) أن الإيلاء لا يكون بالتحريم أو بالنذر أو بالطلاق وإن كانت أيمانًا ... ، ولكن الصواب هو القول الثاني في المذهب في هذه المسألة، وهو أن الحلف سواءٌ بالله، أو صفته، أو بصيغةٍ حكمها حكم اليمين؛ فإن الإيلاء يثبت ... ؛ فالحاصل: أن كل ما له حكم اليمين فإنه يحصل به الإيلاء. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنه لو آلى أن لا يطأها لمدة أربعة أشهرٍ فليس بإيلاءٍ، أو لمدة ثلاثة أشهرٍ فليس بإيلاءٍ، والصواب: أنه إيلاءٌ. (¬3) قال بعض أهل العلم: إن المميز لا يصح منه الإيلاء لأنه لا يصح منه الحلف؛ إذ لا يمين له؛ فهو غير مكلفٍ، ولكن المشهور من المذهب أنه يصح الإيلاء من المميز كالحلف. (¬4) ليس على إطلاقٍ - كما بينا -. (¬5) الصواب خلاف هذا؛ فالسكران لا حكم لأقواله؛ لا طلاقه ولا إيلائه ولا ظهاره ولا عتقه ولا وقفه؛ فلا يؤاخذ بشيءٍ أبدًا لأنه فاقد العقل؛ فهو كالمجنون. (¬6) كلام المؤلف - رحمه الله - فيه إيهامٌ، وقد تبع في هذه العبارة أصل هذا الكتاب - وهو «المقنع» -. والصواب: أن تكون العبارة: (وعاجزٌ عن الوطء عجزًا يرجى برؤه).

كاملٍ أو شللٍ. فإذا قال: (والله لا وطئتك أبدًا)، أو عين مدةً تزيد على أربعة أشهرٍ، أو (حتى ينزل عيسى)، أو (يخرج الدجال)، أو (حتى تشربي الخمر) (¬1)، أو (تسقطي دينك)، أو (تهبي مالك) - ونحوه -: فمولٍ. فإذا مضى أربعة أشهرٍ (¬2) من يمينه - ولو قنا -: فإن وطئ ولو بتغييب حشفةٍ فقد فاء (¬3) وإلا أمر بالطلاق (¬4)، فإن أبى طلق ¬

_ (¬1) هذا يؤمر بالجماع وإلا يفسخ النكاح منه. وظاهر كلام المؤلف مطلقًا، ولكن ينبغي أن يحمل على ما إذا لم تكن نصرانيةً أو يهوديةً لأنهم يعتقدون حل شرب الخمر؛ فهي تشربه، فإذا قال: (والله لا أطؤك حتى تشربي الخمر) لا تمتنع. (¬2) هذا مبني على القول بأن الرجل لا يلزمه أن يجامع زوجته إلا في كل أربعة أشهرٍ مرةً ... ، لكن هذا القول في غاية الضعف ... والقول الراجح في هذه المسألة: أنه يجب أن يجامع زوجته بالمعروف إلا إذا كان هناك سببٌ؛ كضعفٍ فيه أو مرضٍ أو شيءٍ في الزوجة يتكره منه - أو ما أشبه ذلك -. (¬3) [أي]: إذا حصل الإيلاج ولو بقدر الحشفة فإنه يثبت الرجوع، ويقال: إن هذا الرجل فاء؛ يعني: رجع. ولكن هل يحصل به كمال اللذة؟ لا، ولو أن الرجل صار لا يجامع زوجته إلا بمقدار الحشفة لقلنا: إنه لم يعاشرها بالمعروف، وإذا كان قد جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجل أن ينزع قبل أن تقضي المرأة حاجتها ولا يعجلها؛ فكيف نقول: إن هذا الرجل قد فاء إلى المعاشرة بالمعروف لمجرد أنه غيب الحشفة؟! (¬4) ظاهر كلام المؤلف: أن [الحاكم] يأمره بالطلاق وإن لم تطلب، لكن هذا غير مرادٍ؛ بل لا حق له أن يأمره بالطلاق حتى تطلب المرأة؛ لأن الحق لها.

حاكمٌ عليه واحدةً أو ثلاثًا (¬1) أو فسخ، وإن وطئ في الدبر أو دون الفرج فما فاء، وإن ادعى بقاء المدة أو أنه وطئها وهي ثيبٌ صدق مع يمينه (¬2)، وإن كانت بكرًا أو ادعت البكارة وشهد بذلك امرأةٌ عدلٌ صدقت، وإن ترك وطأها إضرارًا بها بلا يمينٍ ولا عذرٍ فكمولٍ (¬3). ¬

_ (¬1) [سبق أن] القول الراجح: أنه وإن طلق ثلاثًا فالثلاث واحدةٌ. (¬2) يستثنى من ذلك: إذا دلت القرينة على كذبه. (¬3) وقيل: إنه ليس كمولٍ ... ، وهذا أصح ... فالصواب في هذا أن يقال: إن من ترك وطأها إضرارًا بها وليس له عذرٌ فإنه يطالب بالرجوع فورًا والمعاشرة بالمعروف، وإلا فيطلق عليه.

كتاب الظهار

كتاب الظهار وهو محرمٌ. فمن شبه زوجته، أو بعضها ببعض أو بكل من تحرم عليه أبدًا بنسبٍ أو رضاعٍ من ظهرٍ أو بطنٍ أو عضوٍ آخر لا ينفصل؛ بقوله لها: (أنت علي - أو معي، أو مني - كظهر أمي)، أو (كيد أختي)، أو (وجه حماتي) - ونحوه -، أو (أنت علي حرامٌ) (¬1)، أو (كالميتة) و (الدم): فهو مظاهرٌ. وإن قالته لزوجها: فليس بظهارٍ، وعليها كفارته (¬2). ¬

_ (¬1) قد سبق لنا في هذه المسألة تفصيلٌ؛ فالمذهب أنه ظهارٌ في كل حالٍ ولو نوى الطلاق أو اليمين. والصواب أن في ذلك تفصيلًا: أولًا: إذا قال: (أنت علي حرامٌ) فالأصل أنه يمينٌ، وإذا كان الأصل أنه يمينٌ صار حكمه حكم اليمين، فيكفر كفارة يمينٍ وتحل له ... ثانيًا: إذا قصد الإنشاء، فإن نوى اليمين فهو يمينٌ، وإن نوى الطلاق صار طلاقًا ... ثالثًا: أن يقول: (أنت علي حرامٌ) مخبرًا بتحريمها؛ يعني: أنت علي حرامٌ بدل أن تكوني حلالًا؛ فهنا نقول: (كذبت)، إلا أن تكون في حالٍ يحرم عليه جماعها كالحائض والنفساء، فنقول: (صدقت)، وهذا القسم ليس فيه كفارةٌ؛ لأنه إما كاذبٌ وإما صادقٌ؛ فلا حنث فيه. هذا هو القول الراجح في هذه المسألة. (¬2) الصواب: أن عليها كفارة يمينٍ فقط.

ويصح من كل زوجةٍ. فصلٌ ويصح الظهار معجلًا، ومعلقًا بشرطٍ. فإذا وجد صار مظاهرًا ومطلقًا ومؤقتًا. فإن وطئ فيه كفر، وإن فرغ الوقت زال الظهار. ويحرم قبل أن يكفر: وطءٌ (¬1) - ودواعيه (¬2) - ممن ظاهر منها. ولا تثبت الكفارة في الذمة إلا بالوطء - وهو العود (¬3) -، ويلزم إخراجها قبله ¬

_ (¬1) ظاهر قول المؤلف: (قبل أن يكفر): أنه لا فرق بين أن تكون الكفارة عتقًا أو صومًا أو إطعامًا ... [وثمة] توجيهٌ قوي جدا - وهو أحد القولين في هذه المسألة -: أنه إذا كان الواجب في الكفارة الإطعام فإنه يجوز أن يجامع قبل أن يكفر. وقال الآخرون: لا يجوز أن يجامع حتى يكفر بالإطعام - أيضًا - ... وهذا القول وإن كان ضعيفًا من حيث النظر، لكنه قوي من حيث الاحتياط؛ فالأحوط أن لا يقربها حتى يكفر بالإطعام، كما لا يقربها حتى يكفر بالصيام والعتق. (¬2) قال بعض أهل العلم: إن دواعي الجماع لا تحرم ... ، وعلى هذا فيجوز له أن يقبلها ويضمها ويخلو بها ويكرر نظره إليها؛ إلا إذا كان لا يأمن على نفسه؛ فحينئذٍ تكون له فتوى خاصةٌ بالمنع، وإلا فالأصل الجواز. وهذا القول أصح. (¬3) [قولٌ آخر]: أن العود هو العزم على الوطء؛ يعني: يعزم على أن يطأ زوجته ... وهذا القول هو الصحيح ... ، إلا أن الكفارة لا تثبت في الذمة إلا بالوطء.

عند العزم عليه. وتلزمه كفارةٌ واحدةٌ بتكريره قبل التكفير من واحدةٍ، ولظهاره من نسائه بكلمةٍ واحدةٍ، وإن ظاهر منهن بكلماتٍ فكفاراتٌ (¬1). فصلٌ وكفارته: عتق رقبةٍ، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينًا. ولا تلزم الرقبة إلا لمن ملكها، أو أمكنه ذلك بثمن مثلها (¬2)، فاضلًا عن كفايته دائمًا، وكفاية من يمونه، وعما يحتاجه من مسكنٍ وخادمٍ ومركوبٍ وعرض بذلةٍ وثياب تجملٍ، ومالٍ يقوم كسبه بمؤونته، وكتب علمٍ (¬3) ووفاء دينٍ. ولا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبةٌ مؤمنةٌ، سليمةٌ من عيبٍ يضر بالعمل ضررًا بينًا (¬4)؛ كالعمى، والشلل ليدٍ أو رجلٍ، أو أقطعهما، أو أقطع الإصبع الوسطى، ¬

_ (¬1) قال بعض الأصحاب: إنه يلزمه كفارةٌ واحدةٌ؛ بناءً على أن الكفارات تتداخل، وأن الأيمان إذا تكررت وموجبها واحدٌ لزمه كفارةٌ واحدةٌ، وهذا هو المذهب في الأيمان. (¬2) الصحيح: أن ظاهر قوله: (فإن لم يجد) أنه متى صار واجدًا على وجهٍ لا يضره ولا تجحف بماله فإنه يجب عليه أن يعتق لأنه ما اشترط إلا عدم الوجود. (¬3) لكن بشرط أن يحتاج إليها. (¬4) قال بعض أهل الظاهر: إن المعيب يجزئ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - ما ذكر في القرآن إلا الإيمان فقط ... ولكن جمهور العلماء - حتى إن بعضهم ذكره إجماعًا - يقولون: لا بد أن يكون سليمًا مما يضر بالعمل ضررًا بينًا.

أو السبابة، أو الإبهام، أو الأنملة من الإبهام، أو أقطع الخنصر والبنصر من يدٍ واحدةٍ. ولا يجزئ: مريضٌ ميؤوسٌ منه - ونحوه -، ولا أم ولدٍ. ويجزئ: المدبر، وولد الزنا، والأحمق، والمرهون (¬1)، والجاني (¬2)، والأمة الحامل - ولو استثنى حملها -. فصلٌ يجب التتابع في الصوم، فإن تخلله رمضانٌ، أو فطرٌ يجب - كعيدٍ، وأيام تشريقٍ، وحيضٍ (¬3)، وجنونٍ، ومرضٍ مخوفٍ (¬4)، ونحوه -، أو أفطر ¬

_ (¬1) لا يصح إعتاق [العبد المرهون] في الكفارة. (¬2) في النفس من هذا شيءٌ ... ؛ فالمسألة فيها نظرٌ، ولهذا فبعض العلماء يقول: إن الجاني لا يصح أن يعتق في الكفارة؛ لأن الجاني يطالب بأن يقتل؛ فهو ناقص القيمة. (¬3) [هذا مبني على] أن المؤلف يرى أن المرأة إذا قالت لزوجها: (أنت علي كظهر أمي) فليست مظاهرةً، وعليها كفارة الظهار. وسبق أن هذا القول ضعيفٌ، وأن الصواب: أنه ليس عليها إلا كفارة يمينٍ. لكن يمكن أن يلزمها صيام شهرين متتابعين في القتل الخطإ، وفيما لو جامعها زوجها وهي راضيةٌ في نهار رمضان وهي صائمةٌ، المهم أن هذا فطرٌ يجب فلا يقطع التتابع. (¬4) تقييده بالمخوف فيه نظرٌ. والصحيح: أن المرض إذا كان يبيح الفطر - سواءٌ كان مخوفًا أم غير مخوفٍ -: عذرٌ في إسقاط التتابع.

ناسيًا (¬1)، أو مكرهًا (¬2)، أو لعذرٍ يبيح الفطر: لم ينقطع. ويجزئ التكفير بما يجزئ في فطرةٍ فقط (¬3). ولا يجزئ من البر أقل من مد، ولا من غيره أقل من مدين، لكل واحدٍ (¬4) ممن يجوز دفع الزكاة إليهم (¬5). وإن غدى المساكين أو عشاهم: لم يجزئه (¬6). وتجب النية في التكفير من صومٍ وغيره (¬7). ¬

_ (¬1) في هذا التعبير نظرٌ ظاهرٌ؛ لأنه بالنسيان لا فطر ... ؛ فكل من تناول المفطر ناسيًا فصومه صحيحٌ، وبناءً على هذا لا يكون قد أفطر ولا ينقطع التتابع. (¬2) هذا - أيضًا - التمثيل به على المذهب مشكلٌ؛ لأنه لا يفطر بالإكراه ... ؛ فالصواب: أنه لا فطر أصلًا، وأن التتابع مستمر. (¬3) الصحيح في هذه المسألة: أنه يجزئ التكفير بما يكون طعامًا للناس ... ؛ فيرجع في ذلك لما جرى به العرف ... ، فيطعمون بما يطعم الناس في وقتهم، وعندنا اليوم الأرز. (¬4) الصواب: أننا إذا أردنا أن نقدر؛ إما أن نقدر بنصف الصاع، وإما أن نقدر بما يكفي الفقير من كل الأصناف - يعني: من البر ومن غير البر -، أما أن نفرق بدون دليلٍ من الشرع فإن هذا لا ينبغي. (¬5) ظاهر كلام الماتن: الإطلاق، وأن كل من جاز دفع الزكاة إليه ولو كان غنيا - كالمؤلفة قلوبهم والغارم لإصلاح ذات الدين - فإنها تجزئ. والصحيح: أنه يقيد (ممن يجوز دفع الزكاة إليهم) لحاجتهم. (¬6) الصواب في هذه المسألة: أنه إذا غداهم أو عشاهم أجزأه ... ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. (¬7) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا بد من التعيين، ولو لم يكن عليه سواها؛ كرجلٍ عليه كفارة عتقٍ عن ظهارٍ فقط، فأعتق بنية أنه عن الواجب عليه، لكن ما عين أنه عن الظهار؛ فظاهر كلام المؤلف أن هذا لا يجزئ. ولكن الصحيح أنه يجزئ؛ لأن هذا تعيينٌ؛ إذ لم يكن عليه غيره.

وإن أصاب المظاهر منها ليلًا أو نهارًا انقطع التتابع (¬1)، وإن أصاب غيرها ليلًا لم ينقطع (¬2). ¬

_ (¬1) الصحيح: أنه إذا أصابها ليلًا فهو آثمٌ، ولكنه لا ينقطع التتابع. (¬2) الصحيح: أنه إذا أصاب غيرها جاهلًا أو ناسيًا في النهار فإنه لا ينقطع بناءً على أنه لا يفطر بذلك.

كتاب اللعان

كتاب اللعان يشترط في صحته: أن يكون بين زوجين، ومن عرف العربية لم يصح لعانه بغيرها (¬1)، وإن جهلها فبلغته. فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان (¬2)، فيقول قبلها - أربع مراتٍ -: (أشهد بالله لقد زنت (¬3) زوجتي هذه)، ويشير إليها، ومع غيبتها يسميها وينسبها، وفي الخامسة: (وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين). ثم تقول هي - أربع مراتٍ -: (أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا) (¬4)، ثم تقول في الخامسة: (وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين). ¬

_ (¬1) القول الثاني: أنه يصح بلغتهما وإن عرفا العربية، وهذا هو المقطوع به. (¬2) قوله: (فله إسقاط الحد باللعان): فيه تسامحٌ، والصواب أن يقال: فله إسقاط الحد أو التعزير؛ لأنها إن كان محصنةً فعليه حد القذف، وإن كانت غير محصنةٍ فعليه التعزير. (¬3) لو قال: (أشهد بالله أن زوجتي هذه زانيةٌ) فعلى المذهب لا يصح. وقال بعض أهل العلم: إن ذلك يصح ... ، فإذا أتى بما يدل على ذلك - سواءٌ بلفظ (زنت) أو (زانيةٌ)، المهم أنه صريحٌ بالزنا سواءٌ كان فعلًا أو اسمًا - فإنه يصح. وهذا هو الصحيح. (¬4) ليس في القرآن ما يدل على ذلك؛ فلو قالت: (أشهد بالله إنه لمن الكاذبين) فقط لصح - على القول الراجح -. أما المذهب فلا بد أن تصرح بأنه كاذبٌ فيما رماها به من الزنا.

فإن بدأت باللعان قبله، أو نقص أحدهما شيئًا من الألفاظ الخمسة، أو لم يحضرهما حاكمٌ، أو نائبه، أو أبدل لفظة (أشهد) ب- (أقسم)، أو (أحلف)، أو لفظة اللعنة بالإبعاد، أو الغضب بالسخط: لم يصح. فصلٌ وإن قذف زوجته الصغيرة، أو المجنونة: عزر، ولا لعان. ومن شرطه: قذفها بالزنا لفظًا، ك- (زنيت)، أو (يا زانية)، أو (رأيتك تزنين في قبلٍ)، (أو دبرٍ). فإن قال: (وطئت بشبهةٍ)، أو (مكرهةً)، أو (نائمةً)، أو قال: (لم تزن، ولكن ليس هذا الولد مني) (¬1)، فشهدت امرأةٌ ثقةٌ (¬2) أنه ولد على فراشه: لحقه نسبه، ولا لعان. وإذا تم: سقط عنه الحد، والتعزير، وثبتت الفرقة بينهما بتحريمٍ مؤبدٍ. فصلٌ من ولدت زوجته من أمكن كونه منه: لحقه؛ بأن تلده بعد نصف سنةٍ منذ ¬

_ (¬1) الصواب: أنه يصح أن يلاعن لنفي الولد. (¬2) هذا ما مشى عليه المؤلف، وهي جادة المذهب في أن الأشياء التي لا يطلع عليها غالبًا إلا النساء يكفي فيها شهادة امرأةٍ واحدةٍ ... ولكن في النفس من هذا بعض الشيء ... ، ولهذا فالقول الثاني في هذه المسألة: أنه لا يقبل إلا شهادة امرأتين أنه ولد على فراشه، فإذا شهدتا أنه ولد على فراشه لحقه نسبه.

أمكن (¬1) وطؤه، أو دون أربع سنين (¬2) منذ أبانها، وهو ممن يولد لمثله كابن عشرٍ، ولا يحكم ببلوغه إن شك فيه. ومن اعترف بوطء أمته في الفرج أو دونه، فولدت لنصف سنةٍ أو أزيد: لحقه ولدها؛ إلا أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه. وإن قال: (وطئتها دون الفرج)، أو (فيه ولم أنزل)، أو (عزلت): لحقه. وإن أعتقها، أو باعها بعد اعترافه بوطئها، فأتت بولدٍ لدون نصف سنةٍ: لحقه، والبيع باطلٌ (¬3). ¬

_ (¬1) قوله: (أمكن): [أي]: لا يشترط تحقق اجتماع الزوجين؛ يعني: سواءٌ تحققنا أنهما اجتمعا أم لم نتحقق، فما دام الأمر ممكنًا فالولد له ... [وقولٌ آخر]: أنها لا تكون فراشًا له حتى يتحقق اجتماعه بها ووطؤه إياها ... ، وعلى هذا القول: إذا عقد عليها ولم يدخل بها وأتت بولدٍ لأكثر من ستة أشهرٍ فليس ولدًا له. وهذا القول هو الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (¬2) بناءً على المشهور من المذهب أن أكثر مدة الحمل أربع سنين ... والصحيح: أنه لا حد لأكثره، وأنه خاضعٌ للواقع؛ فما دمنا علمنا أن الولد الذي في بطنها من زوجها وما جامعها أحدٌ غيره وبقي في بطنها أربع سنين أو خمس سنين أو عشر سنين فهو لزوجها. (¬3) [بطلان البيع] مبني على القول بأنه يحرم بيع أمهات الأولاد، والمسألة خلافيةٌ.

كتاب العدد

كتاب العدد تلزم العدة: كل امرأةٍ فارقت زوجًا خلا بها مطاوعةً (¬1) مع علمه بها وقدرته على وطئها ولو مع ما يمنعه منهما أو من أحدهما حسا أو شرعًا، أو وطئها، أو مات عنها، حتى في نكاحٍ فاسدٍ فيه خلافٌ، وإن كان باطلًا وفاقًا لم تعتد للوفاة. ومن فارقها حيا قبل وطءٍ وخلوةٍ، أو بعدهما - أو بعد أحدهما - وهو ممن لا يولد لمثله (¬2)، أو تحملت بماء الزوج (¬3)، أو قبلها، أو لمسها بلا خلوةٍ: فلا عدة. فصلٌ والمعتدات ست: الحامل، وعدتها: من موتٍ وغيره إلى وضع كل الحمل بما تصير به أمةٌ أم ولدٍ. فإن لم يلحقه لصغره، أو لكونه ممسوحًا، أو ولدت لدون ستة أشهرٍ منذ نكحها - ونحوه - وعاش لم تنقض به. ¬

_ (¬1) هذا فيه نظرٌ؛ لأن الرجل إذا خلا بالمرأة فهو مظنة الجماع؛ سواءٌ كانت مطاوعةً أو غير مطاوعةٍ. (¬2) هذه المسألة في النفس منها شيءٌ؛ لقوله - تعالى -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}، وهذا الصبي قد مس وهو زوجٌ، وكوننا نقول: (لا يولد لمثله) ليس هذا هو العلة، ولهذا لو كان عنينًا وجامعها - بل لو خلا بها - فعليها العدة ... ، فعلى الأقل نجعلها كمسألة الخلوة. (¬3) القول الثاني في هذه المسألة - وهو الصواب -: أنه تجب العدة إذا تحملت بماء الزوج.

وأكثر مدة الحمل أربع سنين (¬1)، وأقلها ستة أشهرٍ، وغالبها تسعة أشهرٍ. ويباح إلقاء النطفة قبل أربعين يومًا بدواءٍ مباحٍ (¬2). فصلٌ الثانية: المتوفى عنها زوجها بلا حملٍ منه - قبل الدخول أو بعده -: للحرة أربعة أشهرٍ وعشرةٌ، وللأمة نصفها (¬3). فإن مات زوج رجعيةٍ في عدة طلاقٍ: سقطت، وابتدأت عدة وفاةٍ منذ مات. وإن مات في عدة من أبانها في الصحة: لم تنتقل. وتعتد من أبانها في مرض موته الأطول من عدة وفاةٍ وطلاقٍ (¬4) ما لم تكن أمةً ¬

_ (¬1) الصواب: أنه لا حد لأكثره. (¬2) إلقاء الحمل حال النطفة: إما مكروهٌ أو محرمٌ - على القول الراجح -، وعلى ما مشى به المؤلف في الكتاب: مباحٌ. وبعد أن يكون علقةً فإلقاؤه محرمٌ - حتى على كلام المؤلف - إلا إذا دعت الضرورة إليه. وإذا كان مضغةً مخلقةً فإلقاؤه محرمٌ إلا إذا دعت الضرورة إليه. فإذا نفخت فيه الروح فإلقاؤه محرمٌ ولو دعت الضرورة إليه؛ لأنه قتل نفسٍ. (¬3) الصواب: أنه لا فرق بين الحرة والأمة، إلا إذا منع من ذلك إجماعٌ، ولكن الإجماع لم يمنع منه؛ فإنه قد نقل عن الأصم وعن الحسن أنهما كانا يريان ذلك. (¬4) القول الثاني: أنها تكمل عدة الطلاق؛ لأنه لا علاقة بينه وبينها؛ بدليل أنه لا يرث منها لو ماتت وأنها بائنةٌ منه؛ فلا يجوز أن يخلو بها ولا أن يسافر بها ولا أن تكشف له وجهها ... وهذا القول قوي جدا.

أو ذميةً أو جاءت البينونة منها فلطلاقٍ لا غير. وإن طلق بعض نسائه مبهمةً أو معينةً ثم أنسيها، ثم مات قبل قرعةٍ: اعتد كل منهن - سوى حاملٍ - الأطول منهما. الثالثة: الحائل ذات الأقراء - وهي الحيض - المفارقة في الحياة: فعدتها إن كانت حرةً أو مبعضةً ثلاثة قروءٍ كاملةٌ، وإلا قرءان. الرابعة: من فارقها حيا ولم تحض لصغرٍ أو إياسٍ: فتعتد حرةٌ ثلاثة أشهرٍ، وأمةٌ شهرين، ومبعضةٌ بالحساب (¬1) - ويجبر الكسر -. الخامسة: من ارتفع حيضها ولم تدر سببه: فعدتها سنةٌ؛ تسعة أشهرٍ للحمل وثلاثةٌ للعدة، وتنقص الأمة شهرًا. وعدة من بلغت ولم تحض، والمستحاضة الناسية (¬2)، والمستحاضة المبتدأة: ثلاثة أشهرٍ، والأمة شهران. وإن علمت ما رفعه من مرضٍ أو رضاعٍ - أو غيرهما -: فلا تزال في عدةٍ حتى يعود الحيض فتعتد به، أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته (¬3). ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: عدة المبعضة ثلاثة أشهرٍ، وتعليله بأن الأشهر بدلٌ عن القروء. (¬2) قول المؤلف - رحمه الله -: (والمستحاضة الناسية): ينبغي أن نقول: ما لم يكن تمييزٌ، فإن كان لها تمييزٌ فعدتها ثلاثة قروءٍ كغيرها؛ لأن التمييز يعتبر حيضًا صحيحًا. (¬3) قال بعض أهل العلم: إنها تعتد سنةً بعد زوال السبب المانع؛ لأنها لما زال المانع صارت مثل التي ارتفع حيضها ولم تدر سببه، والتي ارتفع حيضها ولم تدر سببه: تعتد سنةً؛ تسعة أشهرٍ للحمل وثلاثةً للعدة. وهذا القول أقرب للصواب؛ لأن علته معقولةٌ، ولأنه أبعد عن الحرج والمشقة التي لا تأتي بمثلها الشريعة. ولكن بقي أن يقال: إن التي علمت ما رفعه ينبغي أن نقسمها إلى قسمين: الأول: أن تعلم أنه لن يعود الحيض. الثاني: أن تكون راجيةً لعود الحيض. فإن كانت تعلم أنه لن يعود؛ فهذه لا تعتد سنةً، وإنما تعتد ثلاثة أشهرٍ لأنها آيسةٌ ... ، وإن كانت ترجو أن يعود؛ فهذه تنتظر حتى يزول المانع ثم تعتد بسنةٍ، وقيل: تعتد إذا زال المانع بثلاثة أشهرٍ ... ، لكن الأحوط أن تعتد بسنةٍ.

السادسة: امرأة المفقود تتربص (¬1) ما تقدم في ميراثه (¬2) ثم تعتد للوفاة. وأمةٌ كحرةٍ في التربص، وفي العدة نصف عدة الحرة. ولا تفتقر إلى حكم حاكمٍ (¬3) بضرب المدة وعدة الوفاة. ¬

_ (¬1) كلام المؤلف - هنا - مقيدٌ بما إذا أرادت أن تتزوج، وأن تتخلص من هذا الزوج المفقود، وأما إذا قالت: (سأنتظر حتى أتيقن موته)؛ فما نلزمها بأن تتربص وتعتد. (¬2) الذي تقدم في ميراثه - على المذهب -: إن كان ظاهر غيبته الهلاك انتظر به أربع سنين منذ فقد، وإن كان ظاهر غيبته السلامة انتظر به تمام تسعين سنةً منذ ولد ... والصحيح ... : أن الأمر في ذلك راجعٌ إلى اجتهاد القاضي في كل قضيةٍ بعينها. (¬3) القول الثاني في المذهب - وهو مذهب الأئمة الثلاثة - أنه لا بد من مراجعة القاضي، وهو الذي يتولى هذا الأمر. وهذا متعينٌ؛ لا سيما على القول الراجح، وهو أنه يرجع في الحكم بموته إلى اجتهاد القاضي. إلا أنه ربما نقول: إن عدة الوفاة لا تحتاج إلى حكم الحاكم، فإذا ضرب الحاكم مدة التربص فلازم ذلك أنها إذا تمت فتبتدئ عدة الوفاة، ولا حاجة أن يحكم القاضي.

وإن تزوجت فقدم الأول قبل وطء الثاني فهي للأول، وبعده له أخذها زوجةً بالعقد الأول ولو لم يطلق الثاني (¬1)، ولا يطأ قبل فراغ عدة الثاني (¬2)، وله تركها معه من غير تجديد عقدٍ، ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني، ويرجع الثاني عليها بما أخذه منه (¬3). فصلٌ ومن مات زوجها الغائب، أو طلقها اعتدت منذ الفرقة، وإن لم تحد. وعدة موطوءةٍ بشبهةٍ، أو زنا، أو بعقدٍ فاسدٍ: كمطلقةٍ (¬4). وإن وطئت معتدةٌ بشبهةٍ أو نكاحٍ فاسدٍ: فرق بينهما، وأتمت عدة الأول، ولا يحتسب منها مقامها عند الثاني، ثم اعتدت للثاني، وتحل له بعقدٍ بعد انقضاء العدتين (¬5). ¬

_ (¬1) الصحيح: أن الزوج الأول يخير على كل حالٍ - كما هو الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم -. (¬2) الصواب: أنها تعتد بحيضةٍ واحدةٍ، ثم يطؤها الزوج الأول. (¬3) الصحيح: أنه لا يرجع عليها بشيءٍ إلا أن تكون قد غرته. (¬4) اختار شيخ الإسلام - رحمه الله - في هذا كله أنه لا عدة، وإنما هو استبراءٌ. وهو القول الراجح؛ لأن الله - تعالى - إنما أوجب ثلاث حيضٍ على المطلقات من أزواجهن، وعليه فلا عدة بالقروء الثلاثة إلا للمطلقة فقط. (¬5) ظاهر كلام المؤلف - بل صريحه -: أنها تحل للثاني ولا تحرم عليه ... وقال بعض العلماء: لا تحل له أبدًا، وهذا مروي عن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -؛ عقوبةً له على فعله؛ حيث نكحها وهي في العدة وقال بعض العلماء: تحل له إذا شرعت في عدته، فإذا انقضت عدة الأول حلت للثاني؛ لأن العدة له والماء ماؤه فتحل له ... ومن حيث القواعد: فالراجح أنها تحل له بعقدٍ بعد انقضاء عدة الأول؛ لا سيما إذا تاب إلى الله - عز وجل - وأناب لأن العدة له، لكن إذا رأى الإمام أو الحاكم الشرعي أن يمنعه منها مطلقًا على حد ما روي عن عمر - رضي الله عنه - فإن له ذلك.

وإن تزوجت في عدتها لم تنقطع حتى يدخل بها، فإذا فارقها بنت على عدتها من الأول، ثم استأنفت العدة من الثاني. وإن أتت بولدٍ من أحدهما: انقضت منه عدتها به، ثم اعتدت للآخر. ومن وطئ معتدته البائن بشبهةٍ: استأنفت العدة بوطئه، ودخلت فيها بقية الأولى. وإن نكح من أبانها في عدتها ثم طلقها قبل الدخول بها: بنت. فصلٌ يلزم الإحداد - مدة العدة - كل متوفى عنها زوجها في نكاحٍ صحيحٍ (¬1) - ولو ذميةً (¬2) -، أو أمةً، أو غير مكلفةٍ. ¬

_ (¬1) [أي]: تجب العدة ولا يجب الإحداد إذا كان النكاح فاسدًا. ولكن ما ذهب إليه المؤلف ليس بصحيحٍ، والصواب: أنه تجب العدة ويجب الإحداد لمن يعتقد صحته، أما من لا يعتقد صحته فلا عدة، لكن إن حصل وطءٌ وجب إما الاستبراء أو العدة - بحسب ما تقدم من الخلاف -. (¬2) قوله: (ولو ذميةً): فيه تساهلٌ، والصواب أن يقال: (ولو كتابيةً) لأنه لا يشترط في جواز نكاح الكتابية أن تكون ذميةً، ولأن الذمة تعقد لغير أهل الكتاب - كالمجوس -، ومع ذلك لا يحل نكاح المجوسية، فهذا التعبير فيه نظرٌ - طردًا وعكسًا -.

ويباح لبائنٍ من حي، ولا يجب على رجعيةٍ وموطوءةٍ بشبهةٍ، أو زنًا، أو في نكاحٍ فاسدٍ، أو باطلٍ، أو ملك يمينٍ. والإحداد: اجتناب ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها من الزينة، والطيب (¬1)، والتحسين، والحناء، وما صبغ للزينة، وحلي، وكحلٍ أسود، لا: توتيا - ونحوها -، ولا نقابٍ، وأبيض - ولو كان حسنًا (¬2) -. فصلٌ وتجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت، فإن تحولت خوفًا أو قهرًا أو بحق انتقلت حيث شاءت، ولها الخروج لحاجتها نهارًا لا ليلًا، وإن تركت الإحداد أثمت، وتمت عدتها بمضي زمانها. ¬

_ (¬1) استثنى الشارع إذا طهرت من الحيض فإنه لا بأس أن تتبخر. (¬2) الصواب - بلا شك -: أن الأبيض لا يجوز للمحادة لبسه إذا عد للزينة.

باب الاستبراء

باب الاستبراء من ملك أمةً يوطأ مثلها من صغيرٍ (¬1) وذكرٍ - وضدهما (¬2) -: حرم عليه وطؤها ومقدماته (¬3) قبل استبرائها. واستبراء الحامل بوضعها، ومن تحيض بحيضةٍ، والآيسة والصغيرة بمضي شهرٍ. ¬

_ (¬1) يعني: ملكها من صغيرٍ؛ بأن اشتراها منه ... ؛ فيجب على المشتري أن يستبرئها ... والقول الثاني: أنه لا يجب الاستبراء في هذه الحال؛ لأن الاستبراء طلب براءة الرحم من الولد، وهنا لا يمكن أن تلد حتى لو وطئها هذا الصغير. (¬2) على كلام المؤلف: إذا ملك أمةً من امرأةٍ فيجب الاستبراء ... ولكن القول الصحيح - الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -: أنه لا يجب الاستبراء، قال: لأن المرأة ما تطؤها. [وكذلك] لو ملكها من رجلٍ ولكنها بكرٌ، وبكارتها لا زالت موجودةً؛ فقال شيخ الإسلام: إنه لا يجب الاستبراء فيما إذا كانت بكرًا. [وكذلك] لو ملك أمةً من رجلٍ صدوقٍ أمينٍ، وقال له: إنه لم يطأ ... ؛ فعند شيخ الإسلام لا يجب الاستبراء. (¬3) أي: مقدمات الوطء؛ كالتقبيل، واللمس، والجماع دون الفرج .. [والصحيح]: أن الأصل في ملك اليمين أنه يجوز لك أن تتمتع فيها بما شئت، وحرم الوطء لدلالة الحديث عليه، فيبقى ما عداه داخلًا في المباح ... نعم؛ لو فرض أن الرجل ضعيف العزيمة، ويخشى على نفسه خشيةً محققةً لو أنه أتى بمقدمات الجماع أن يجامعها فحينئذٍ يمنع، ويكون لكل مسألةٍ حكمها.

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. والمحرم: خمس رضعاتٍ في الحولين (¬1). والسعوط، والوجور، ولبن الميتة (¬2)، والموطوءة بشبهةٍ أو بعقدٍ فاسد أو باطلٍ، أو بزنًا: محرمٌ. وعكسه: البهيمة، وغير حبلى (¬3) ولا موطوءةٍ (¬4). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أن الرضاع في الحولين مؤثرٌ؛ سواءٌ فطم الصبي أم لم يفطم، حتى لو فرض أنه فطم في سنةٍ، وفي السنة الثانية كان يأكل الخبز والجبن وكل شيءٍ ورضع؛ فالرضاع يؤثر ... واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن العبرة بالفطام؛ فما كان قبل الفطام فهو مؤثرٌ ولو كان بعد الحولين، وما كان بعد الفطام فليس بمؤثرٍ ولو في الحولين ... فالقول الراجح: أن العبرة بالفطام؛ سواءٌ كان قبل الحولين أو بعد الحولين. (¬2) قال بعض أهل العلم: إن لبن الميتة ليس بمحرمٍ ... ، وهذا أقرب إلى الصواب. (¬3) [أي]: حصل من غير حملٍ ... والصواب الذي عليه الأئمة الثلاثة أنه محرمٌ، وأن الطفل إذا شرب من امرأةٍ خمس مراتٍ فإنه يكون ولدًا لها؛ سواءٌ كانت بكرًا، أم آيسةً، أم ذات زوجٍ. (¬4) ظاهر كلامه أن الموطوءة إذا حصل منها لبنٌ فإن لبنها محرمٌ، ولكن هذا يخالف قوله: (غير حبلى) لأننا ما دمنا اشترطنا أن تكون حبلى فالحبل لا يكون إلا من وطءٍ، ولهذا فعبارة: (ولا موطوءةٍ) ليست موجودةً في الكتب المعتمدة في المذهب؛ فالمعتمد في المذهب أنه لا بد أن يكون ناتجًا عن حملٍ. [وقد تقدم الصواب: أن الطفل إذا شرب من امرأةٍ خمس مراتٍ فإنه يكون ولدًا لها؛ سواءٌ كانت بكرًا، أم آيسةً، أم ذات زوجٍ].

فمتى أرضعت امرأةٌ طفلًا: صار ولدها في النكاح، والنظر، والخلوة، والمحرمية، وولد من نسب لبنها إليه بحملٍ أو وطءٍ (¬1). ومحارمه محارمه، ومحارمها محارمه، دون: أبويه وأصولهما وفروعهما؛ فتباح المرضعة لأبي المرتضع وأخيه من النسب، وأمه وأخته من النسب لأبيه وأخيه. ومن حرمت عليه بنتها فأرضعت طفلةً: حرمتها عليه، وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجةً. وكل امرأةٍ أفسدت نكاح نفسها برضاعٍ قبل الدخول فلا مهر لها، وكذا إن كانت طفلةً فدبت فرضعت من نائمةٍ، وبعد الدخول مهرها بحاله (¬2). ¬

_ (¬1) هذا يمكن أن يكون فيما لو تزوج امرأةً، ومع الجماع درت وصار فيها لبنٌ بدون حملٍ؛ فظاهر كلام المؤلف: أن هذا اللبن محرمٌ لأنه نتج عن وطءٍ. وقد سبق لنا أن القول الراجح أنه متى وجد اللبن ناشئًا عن حملٍ أو وطءٍ أو لعبٍ بالثدي حتى در - أو غير ذلك - فإنها تكون أما له، لكن من ليس لها سيدٌ ولا زوجٌ تثبت الأمومة دون الأبوة. (¬2) قال شيخ الإسلام: إذا أفسدته بعد الدخول فإنه لا مهر لها؛ لا لأنه لم يستقر، ولكن من أجل الضمان؛ لأنها لما فوتت نفسها على زوجها ضمنته بالمهر ... وهذا القول لا شك أنه قوي.

وإن أفسده غيرها فلها على الزوج نصف المسمى قبله، وجميعه بعده، ويرجع الزوج به على المفسد (¬1). ومن قال لزوجته: (أنت أختي لرضاعٍ): بطل النكاح (¬2)، فإن كان قبل الدخول وصدقته فلا مهر، وإن كذبته فلها نصفه، ويجب كله بعده. وإن قالت: (هي ذلك) وأكذبها: فهي زوجته حكمًا. وإذا شك في الرضاع، أو كماله، أو شكت المرضعة، ولا بينة: فلا تحريم. ¬

_ (¬1) سبق اختيار شيخ الإسلام أن المرأة إذا أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول فإنه لا مهر لها ... وكلام شيخ الإسلام أقرب إلى القياس من المذهب. (¬2) [لكن] إن علمنا بالقرائن أنه يمزح لم يؤاخذ ... ، وإن لم نعلم فإنه يؤاخذ بإقراره؛ لأن الأصل في الإقرار أنه صحيحٌ.

كتاب النفقات

كتاب النفقات يلزم الزوج نفقة زوجته: قوتًا، وكسوةً، وسكناها بما يصلح لمثلها. ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما (¬1) عند التنازع. فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها من أرفع خبز البلد، وأدمه، ولحمًا عادة الموسرين بمحلهما، وما يلبس مثلها من حريرٍ وغيره، وللنوم فراشٌ ولحافٌ وإزارٌ ومخدةٌ، وللجلوس حصيرٌ جيدٌ وزلي. وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد، وأدمٍ يلائمه، وما يلبس مثلها، ويجلس عليه. وللمتوسطة مع المتوسط، والغنية مع الفقير - وعكسها -: ما بين ذلك عرفًا. وعليه مؤونة نظافة زوجته دون خادمها، لا دواءٌ (¬2)، وأجرة طبيبٍ (¬3). فصلٌ ونفقة المطلقة الرجعية، وكسوتها، وسكناها: كالزوجة، ولا قسم لها. ¬

_ (¬1) الصواب: أن المعتبر حال الزوج عند النزاع، وهو مذهب الشافعي. (¬2) لو قيل: إن الدواء يلزمه إلا إذا كان الدواء كثيرًا فهذا قد نقول: إنه لا يلزم به؛ كأن تحتاج إلى السفر إلى الخارج؛ فهنا قد تكلفه مشقةٌ كبيرةٌ، أما الشيء اليسير الذي يعتبر الامتناع عنه من ترك المعاشرة بالمعروف فإنه ينبغي أن يلزم به. (¬3) الصحيح: أنه يلزم بذلك؛ لأنه من المعاشرة بالمعروف.

والبائن بفسخٍ أو طلاقٍ: لها ذلك إن كانت حاملًا (¬1)، والنفقة للحمل لا لها من أجله. ومن حبست - ولو ظلمًا - (¬2)، أو نشزت، أو تطوعت بلا إذنه بصومٍ (¬3) أو حج، أو أحرمت بنذر حج (¬4) أو صومٍ، أو صامت عن كفارةٍ (¬5) أو قضاء رمضان مع سعة وقته (¬6)، أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه (¬7): سقطت. ¬

_ (¬1) أي: للبائن بفسخٍ أو طلاقٍ النفقة إن كانت حاملًا، وإن لم تكن حاملًا فلا شيء لها. [وقال بعض أهل العلم]: أن لها السكنى دون النفقة، إلا أن تكون حاملًا، وهذا مذهب مالكٍ والشافعي ... وهذا - لا شك - أنه أقرب الأقوال؛ لأنه ظاهر سياق القرآن، وإن كانت المسألة لم تتضح عندي بعد، ولم أجزم فيها برأيٍ. (¬2) الصحيح: أن [من حبست ظلمًا] لا تسقط نفقتها؛ لأن تعذر استمتاعه بها ليس من قبلها، فيكون كما لو تعذر استمتاعه بها لمرضٍ - أو نحو ذلك -. (¬3) إذا كان حاضرًا وتطوعت بالصوم بغير إذنه فإن سقوط نفقتها ظاهرٌ، لكن إذا كان غائبًا فإنه لا تسقط النفقة. (¬4) إن أذن لها بالنذر فليس لها النفقة - على المذهب -، والصحيح: أن لها النفقة. (¬5) الصواب: أنه لا تسقط نفقتها بالكفارة. (¬6) الصواب: أنه إذا صامت لقضاء رمضان فلا تسقط نفقتها؛ سواءٌ كان ذلك مع سعة الوقت أو ضيقه، وهذا قولٌ في مذهب الإمام أحمد. وكل ما سبق فيما لو كان بدون إذن الزوج، أما مع إذنه فإنه لا تسقط نفقتها لأنه هو الذي رضي بنقص استمتاعه من زوجته، والحق له. (¬7) الصواب: أنه إذا أذن فإن نفقتها باقيةٌ؛ لأنه هو الذي وافق.

ولا نفقة ولا سكنى لمتوفى عنها. ولها أخذ نفقة كل يومٍ من أوله (¬1)، لا قيمتها ولا عليها أخذها (¬2). فإن اتفقا عليه، أو على تأخيرها، أو تعجيلها - مدةً طويلةً أو قليلةً -: جاز. ولها الكسوة كل عامٍ مرةً في أوله (¬3). وإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى. وإن أنفقت في غيبته من ماله فبان ميتًا: غرمها الوارث ما أنفقته بعد موته. ¬

_ (¬1) [أي]: يأتيها بالفطور والغداء والعشاء من أول اليوم؛ يعني: إذا طلعت الشمس تقول لزوجها: أريد الفطور والغداء والعشاء الآن!. لكن هذا قولٌ بعيدٌ من الصواب ... ، والصواب في هذه المسألة: أنه يرجع في ذلك إلى العرف. (¬2) لكن لو جرى العرف بأن الرجل يعطي زوجته قيمة النفقة فهنا لا بأس، لكن المحظور أن يلزم الحاكم أو القاضي الزوج بالقيمة. (¬3) لو دخل عامٌ جديدٌ وكسوتها للعام الماضي باقيةٌ فالمذهب: أنها تلزمه بكسوةٍ جديدةٍ ... ولكن هذا قولٌ ضعيفٌ، والصواب: أن نرجع في ذلك إلى ما دل عليه الكتاب والسنة، وهو الإنفاق بالمعروف، وليس هذا من المعروف؛ فليس من المعروف أن يأتي الإنسان لزوجته بالثياب مع صلاحية الثياب الأولى للاستعمال، والعادة والعرف أنه كلما صارت الثياب لا تصلح للاستعمال جددها الزوج ... فالصحيح: أن المرجع إلى العرف، وأنه متى كانت المرأة محتاجةً إلى الكسوة أو النفقة تبذل لها.

فصلٌ ومن تسلم زوجته أو بذلت نفسها - ومثلها يوطأ -: وجبت نفقتها (¬1) ولو مع صغر زوجٍ ومرضه وجبه وعنته، ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال، فإن سلمت نفسها طوعًا ثم أرادت المنع لم تملكه (¬2). وإذا أعسر بنفقة القوت، أو الكسوة، أو ببعضها، أو المسكن (¬3): فلها فسخ النكاح (¬4). ¬

_ (¬1) [أي]: إذا كانت هي صغيرةً لا يوطأ مثلها فلا تجب عليه النفقة لعدم تمكنه من الاستمتاع، ولكننا إذا نظرنا إلى ظاهر الكتاب والسنة وقلنا: إن هذه زوجةٌ؛ فالقرآن والسنة ليس فيهما تقييدٌ بأنه يوطأ مثلها ... ثم إن هذا الزوج الذي عقد على هذه الصغيرة دخل على بصيرةٍ، ويعرف أنه لن يستمتع بها، لكنه يريد أن يحجزها حتى لا تتزوج غيره. وهذا كله مبني على أنه يصح تزويج الصغيرة، وقد سبق الخلاف في هذه المسألة، لكن على تقدير صحة تزويج الصغيرة في بعض الصور فإن ظاهر الكتاب والسنة يدل على أنه يجب الإنفاق عليها لأنه دخل على بصيرةٍ وهي زوجةٌ. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنها إذا مكنته - حتى لو خدعها - أنه لا حق لها. ولكن الصحيح: أنه إذا خدعها فلها الحق. (¬3) المراد: إذا أعسر عن المسكن - ملكًا أو استئجارًا -؛ فإذا استأجر لها بيتًا فليس لها حق المطالبة ببيت ملكٍ. (¬4) الأحوال ثلاثةٌ: الحال الأولى: أن يكون معسرًا ولم تعلم بإعساره ... الحال الثانية: إذا تزوجها وهو معسرٌ عالمةٌ بعسرته الحال الثالثة: تزوجته وهو موسرٌ ثم افتقر بأمر الله لا بيده ... واختار ابن القيم - رحمه الله - أنه لا فسخ لها إلا في الصورة الأولى ... والقول الذي أطمئن إليه: أنها لا تملك الفسخ، لكن لا يملك منعها من التكسب، وهذا في غير الصورة الأولى، وهي ما إذا تزوجته ولم تعلم بإعساره.

فإن غاب ولم يدع لها نفقةً، وتعذر أخذها من ماله، واستدانتها عليه (¬1): فلها الفسخ بإذن الحاكم. ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أنها لا بد أن تحاول الاستدانة، وفي النفس من هذا شيءٌ.

باب نفقة الأقارب والمماليك والبهائم

باب نفقة الأقارب والمماليك والبهائم تجب - أو تتمتها -: لأبويه وإن علوا، ولولده وإن سفل - حتى ذوي الأرحام منهم؛ حجبه معسرٌ أو لا -، ولكل من يرثه بفرضٍ أو تعصيبٍ لا برحمٍ سوى عمودي نسبه (¬1) - سواءٌ ورثه الآخر كأخٍ، أو لا كعمةٍ وعتيقٍ -: بمعروفٍ، مع فقر من تجب له، وعجزه عن تكسبٍ (¬2)، إذا فضل عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه يومه وليلته وكسوةٍ وسكنى من حاصلٍ أو متحصلٍ، لا من رأس مالٍ وثمن ملكٍ وآلة صنعةٍ. ومن له وارثٌ غير أبٍ: فنفقته عليهم على قدر إرثهم؛ فعلى الأم الثلث، والثلثان على الجد، وعلى الجدة السدس، والباقي على الأخ، والأب ينفرد بنفقة ولده. ومن له ابنٌ فقيرٌ، وأخٌ موسرٌ: فلا نفقة له عليهما. ومن أمه فقيرةٌ، وجدته موسرةٌ: فنفقته على الجدة. ومن عليه نفقة زيدٍ: فعليه نفقة زوجته؛ كظئرٍ لحولين (¬3). ¬

_ (¬1) الصواب: أنها تجب النفقة حتى لمن يرثه بالرحم من غير عمودي النسب ... ، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا يجب الإنفاق على قادرٍ على التكسب حتى لو كان التكسب بالنسبة لمثله مزريًا ... ، لكن في هذا نظرًا. (¬3) الصحيح في هذه المسألة أن يقال: كظئرٍ لحاجة الطفل، لا لحولين؛ لأن بعض الأطفال لا يكفيه الرضاع لمدة الحولين، وبعضهم يكفيه الرضاع لمدة حولٍ ونصفٍ، فيختلفون. فالصواب: أن الحكم هنا منوطٌ بحاجة الرضيع.

ولا نفقة مع اختلاف دينٍ إلا بالولاء (¬1). وعلى الأب أن يسترضع لولده، ويؤدي الأجرة (¬2)، ولا يمنع أمه إرضاعه (¬3)، ولا يلزمها إلا لضرورةٍ كخوف تلفه (¬4)، ولها طلب أجرة المثل (¬5) ولو أرضعه غيرها ¬

_ (¬1) الصواب: أنه مع اختلاف الدين لا نفقة - لا بالولاء ولا بالقرابة -، وأن اشتراط الدين لا يستثنى منه شيءٌ. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أن عليه أن يؤدي الأجرة؛ سواءٌ كانت الأم معه أو بائنًا منه ... واختار شيخ الإسلام: أنه إذا كانت المرأة تحت الزوج فليس لها إلا الإنفاق فقط، وليس لها طلب الأجرة. وما قاله الشيخ أصح. (¬3) لا ينبغي أن يكون على الإطلاق؛ بل إذا كان في الأم مرضٌ يخشى من تعديه إلى الولد فإنه في هذه الحال يجب عليه أن يمنعها. (¬4) ظاهر كلام المؤلف: أن الضرورة تنحصر بخوف التلف، وأما خوف الضرر فليس بضرورةٍ. والصواب: أن الضرورة لا تنحصر بخوف التلف؛ بل إما بخوف التلف أو بخوف الضرر ... وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يلزمها؛ سواءٌ كانت في عصمة الزوج أو بائنًا منه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بل إذا كانت في عصمة الزوج فيجب عليها أن ترضعه. وما قاله الشيخ أصح، إلا إذا تراضت هي والوالد بأن يرضعه غيرها؛ فلا حرج. (¬5) أما إذا كانت في غير حبال الزوج فهو ظاهر القرآن ... ، أما إذا كانت مع الزوج فإنه تقدم أن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا أجرة لها.

مجانًا، بائنًا كانت أو تحته (¬1)، وإن تزوجت آخر فله منعها من إرضاع ولد الأول ما لم يضطر إليها (¬2). فصلٌ وعليه نفقة رقيقه طعامًا وكسوةً وسكنى، وأن لا يكلفه مشقا كثيرًا. وإن اتفقا على المخارجة جاز. ويريحه وقت القائلة، والنوم، والصلاة، ويركبه في السفر عقبةً (¬3). وإن طلب نكاحًا: زوجه، أو باعه. وإن طلبته أمةٌ: وطئها، أو زوجها، أو باعها (¬4). فصلٌ وعليه علف بهائمه، وسقيها، وما يصلحها، وأن لا يحملها ما تعجز عنه، ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها. ¬

_ (¬1) سبق أن شيخ الإسلام - رحمه الله - يخالف في هذه المسألة، ويقول: إذا كانت تحته فليس لها أجرةٌ. (¬2) [لكن] إذا اشترطته عليه عند العقد - بأن قالت: (أشترط عليك أن أرضع ابني من زوجي الأول) -؛ فليس له منعها. (¬3) إذا كان هذا الرقيق نشيطًا ولا يهمه أن يمشي؛ فإنه لا يلزمه أن يعقبه، ولكنه على سبيل الأفضل والتواضع. (¬4) قوله: (أو باعها): ليس على إطلاقه؛ بل لا بد أن يبيعها على من يمكنه أن يعفها إما بوطئها أو بكونه صاحب تقوى.

فإن عجز عن نفقتها: أجبر على بيعها (¬1)، أو إجارتها، أو ذبحها - إن أكلت -. ¬

_ (¬1) بشرط أن يبيعها على شخصٍ يغلب على ظنه أنه يقوم بالواجب من النفقة.

باب الحضانة

باب الحضانة تجب لحفظ: صغيرٍ، ومعتوهٍ، ومجنونٍ. والأحق بها: أم، ثم أمهاتها القربى فالقربى، ثم أبٌ، ثم أمهاته كذلك، ثم جد، ثم أمهاته كذلك، ثم أختٌ لأبوين، ثم لأم، ثم لأبٍ، ثم خالةٌ لأبوين، ثم لأم، ثم لأبٍ، ثم عماتٌ كذلك، ثم خالات أمه، ثم خالات أبيه، ثم عمات أبيه، ثم بنات إخوته وأخواته، ثم بنات أعمامه وعماته، ثم بنات أعمام أبيه وبنات عمات أبيه، ثم لباقي العصبة، الأقرب فالأقرب (¬1). فإن كانت أنثى: فمن محارمها، ثم لذوي أرحامه، ثم لحاكمٍ. وإن امتنع من له الحضانة، أو كان غير أهلٍ: انتقلت إلى من بعده. ¬

_ (¬1) هذا الترتيب الذي ذكره المؤلف ليس مبنيا على أصلٍ من الدليل ولا من التعليل، وفيه شيءٌ من التناقض، والنفس لا تطمئن إليه. ولهذا اختلف العلماء في الترتيب في الحضانة على أقوال متعددةٍ، ولكنها كلها ليس لها أصلٌ يعتمد عليه. لذلك ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله -: إلى تقديم الأقرب مطلقًا؛ سواءٌ كان الأب أو الأم أو من جهة الأب أو من جهة الأم، فإن تساويا قدمت الأنثى، فإن كان ذكرين أو أنثيين فإنه يقرع بينهما في جهةٍ واحدةٍ، وإلا تقدم جهة الأبوة.

ولا حضانة لمن فيه رق (¬1)، ولا لفاسقٍ (¬2)، ولا لكافرٍ، ولا لمزوجةٍ بأجنبي من محضونٍ من حين عقدٍ (¬3). فإن زال المانع: رجع إلى حقه. وإن أراد أحد أبويه سفرًا طويلًا (¬4) إلى بلدٍ بعيدٍ ليسكنه، وهو وطريقه آمنان: فحضانته لأبيه. وإن بعد السفر لحاجةٍ، أو قرب لها أو للسكنى: فلأمه (¬5). ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: إن له الحضانة إذا وافق السيد. (¬2) الصواب أن يقال: إن كان فسقه يؤدي إلى عدم قيامه بالحضانة فإنه يشترط أن يكون عدلًا، وإن كان لا يؤدي إلى ذلك فإنه ليس بشرطٍ. (¬3) لو قيل: إن العبرة بالدخول، وأنها لو اشترطت على زوجها الجديد عدم الدخول حتى تنتهي الحضانة ... لم تسقط الحضانة؛ لم يكن بعيدًا. (¬4) قوله: (سفرًا طويلًا): ظاهره الإطلاق، ولكن يجب أن يقيد فيقال: لغير قصد الإضرار بالآخر؛ لأنه قد يسافر لأخذ الولد من الآخر إضرارًا به لا لمصلحة الطفل، فيقيد ذلك بغير الإضرار كما قيده شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله - ... لكن الصحيح في هذه المسألة: أننا إذا علمنا أن الولد بحاجةٍ إلى الأم، أو أن الوالد سيضر بالولد فإنه لا ريب أن الأم أحق بالحضانة من الأب؛ لأن وجود الطفل مع أمه يرضع من لبنها أنفع له من الرضاعة من لبن غيرها، والحضانة ينظر فيها إلى ما هو أصلح للطفل. (¬5) اعلم أن هذه المسائل يجب فيها مراعاة المحضون قبل كل شيءٍ، فإذا كان لو ذهب مع أحدهما أو بقي مع أحدهما كان عليه ضررٌ في دينه أو دنياه فإنه لا يقر في يد من لا يصونه ولا يصلحه؛ لأن الغرض الأساسي من الحضانة هو حماية الطفل عما يضره، والقيام بمصالحه.

فصلٌ وإذا بلغ الغلام سبع سنين عاقلًا: خير بين أبويه، فكان مع من اختار منهما. ولا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه. وأبو الأنثى أحق بها بعد السبع (¬1)، ويكون الذكر بعد رشده حيث شاء (¬2)، والأنثى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها (¬3). ¬

_ (¬1) الراجح عندي: أنها تبقى عند أمها حتى يتسلمها زوجها؛ لأن الأم أشفق بكثيرٍ من غيرها؛ حتى من الأب؛ لأنه سيخرج ويقوم بمصالحه وكسبه وتبقى هذه البنت في البيت، ولا نجد أحدًا أشد شفقةً وأشد حنانًا من الأم. (¬2) لكن ... إذا خيف عليه من الفساد يجب أن تجعل الرعاية لأبيه، والذي يجعلها للأب هو الحاكم الشرعي، لكن الأصل أن الأب لا يلزمه بالبقاء عنده إن كان بالغًا راشدًا. (¬3) قبل هذا [كله] يجب أن نعرف أن أهم شيءٍ هو رعاية مصالح المحضون، وأما من كان أحق لكنه يهمل ويضيع المحضون فإنها تسقط حضانته؛ لأن من شروط الحاضن أن يكون قادرًا على القيام بواجب الحضانة، وقائمًا بواجب الحضانة، فإن لم يكن كذلك فإنه لا حق له.

كتاب الجنايات

كتاب الجنايات وهي: عمدٌ يختص القود به بشرط القصد، وشبه عمدٍ، وخطأٌ. فالعمد: أن يقصد من يعلمه آدميا معصومًا، فيقتله بما يغلب على الظن موته به؛ مثل: أن يجرحه بما له مورٌ في البدن (¬1)، أو يضربه بحجرٍ كبيرٍ ونحوه (¬2)، أو يلقي عليه حائطًا، أو يلقيه من شاهقٍ، أو في نارٍ أو ماءٍ يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما، أو يخنقه، أو يحبسه ويمنع عنه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدةٍ يموت فيها غالبًا، أو يقتله بسحرٍ، أو بسم، أو شهدت عليه بينةٌ بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا: (عمدنا قتله) - ونحو ذلك -. وشبه العمد: أن يقصد جنايةً لا تقتل غالبًا ولم يجرحه بها؛ كمن ضربه في غير مقتلٍ بسوطٍ، أو عصا صغيرةٍ، أو لكزه - ونحوه -. ¬

_ (¬1) أما لو بطه في مكانٍ متطرفٍ من البدن فليس هذا بعمدٍ ... ، وما أكثر الجروح التي تصيب الرجل من مسمارٍ أو زجاجةٍ - أو نحو ذلك -، ولا يقول الناس: إن هذا يقتل. (¬2) ومعرفة كون الحجر يقتل أو لا يقتل: يرجع في ذلك إلى العرف؛ فمتى قالوا: إن هذا الحجر يقتل لو ضرب به الإنسان ولو في غير مقتلٍ فيكون القتل بهذا الحجر عمدًا.

والخطأ: أن يفعل ما له فعله (¬1)؛ مثل: أن يرمي ما يظنه صيدًا (¬2) أو غرضًا أو شخصًا فيصيب آدميا لم يقصده، وعمد الصبي والمجنون. فصلٌ تقتل الجماعة بالواحد، وإن سقط القود أدوا ديةً واحدةً. ومن أكره مكلفًا على قتل مكافئه (¬3) فقتله: فالقتل أو الدية عليهما (¬4). وإن أمر بالقتل غير مكلفٍ، أو مكلفًا يجهل تحريمه، أو أمر به السلطان ظلمًا ¬

_ (¬1) علم من قوله: (أن يفعل ما له فعله): أنه لو فعل ما ليس له فعله بجنايةٍ تقتل غالبًا فهو عمدٌ ... لكن هذا الظاهر فيه نظرٌ ... ، والصواب أن يقال: أن يفعل ما له فعله فيصيب آدميا، أو يفعل ما ليس له فعله فيصيب من حرمته دون حرمة الآدمي. (¬2) لكن إن كانت الحكومة قد منعت ذلك فليس له فعله؛ لأن الله أوجب علينا طاعة ولي الأمر في غير المعصية، ومنع الصيد في زمنٍ معينٍ أو مكانٍ معينٍ ليس بمعصيةٍ، فيجب علينا طاعته فيه، وأنا أعتبر أن منع الدولة من المنع الشرعي الواجب اتباعه إذا لم يكن معصيةً. (¬3) قوله: (على قتل مكافئه): يحتاج إلى قيدٍ، وهو أن يكون مكرهًا على قتل معينٍ؛ بأن يقول له: (اقتل فلانًا وإلا قتلتك)، وأما لو قال: (اخرج إلى السوق وأتني برأس رجلٍ من المارة، فإن لم تفعل قتلتك)، فذهب وقتل شخصًا في السوق؛ فهذا غير معينٍ؛ فالقصاص هنا - على المذهب - يكون على القاتل. (¬4) الصواب: أنه إما على المكره أو عليهما جميعًا، وحينئذٍ ينظر القاضي إلى ما هو أصلح للناس في هذه المسألة، فإن قتلهما جميعًا ورأى أن المصلحة تقتضي ذلك فليفعل.

من لا يعرف ظلمه فيه فقتل: فالقود أو الدية على الآمر (¬1). وإن قتل المأمور المكلف عالمًا بتحريم القتل: فالضمان عليه دون الآمر. وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفردًا لأبوةٍ - أو غيرها -: فالقود على الشريك (¬2)، فإن عدل إلى طلب المال: لزمه نصف الدية. ¬

_ (¬1) هذا القول فيه نظرٌ؛ لا سيما إذا كان هذا السلطان معروفًا بالظلم؛ لأنه لا يجوز للمأمور أن يقدم على قتل من أمره السلطان بقتله حتى يغلب على ظنه أو يعلم أنه مباح الدم، أما مجرد أن يقال: (اقتل فلانًا) فيقتله؛ فهذا فيه نظرٌ ... [فإن كنا] لا ندري هل هو مباح الدم أو محترم الدم؛ فهذه المسألة فيها خلافٌ؛ فالمذهب: أنه يجوز تنفيذ أمر السلطان؛ لأن الأصل في السلطان المسلم أنه لا يستبيح قتل مسلمٍ إلا بحقه. والقول الثاني: لا يجوز حتى نعلم أنه مباح الدم. (¬2) كاشتراك أبٍ وأجنبي في قتل الولد، أو مسلمٍ وكافرٍ في قتل كافرٍ، ورقيقٍ وحر في قتل رقيقٍ. [أما] لو اشترك عامدٌ ومخطئٌ في قتل إنسانٍ؛ فعلى العامد القتل وعلى المخطئ نصف الدية ... ، هذا ما مشى عليه الماتن. وأما المذهب: فإنه إذا اشترك عامدٌ ومخطئٌ فإنه لا قصاص عليهما؛ لأن جناية أحدهما لا تصلح للقصاص وهي الخطأ، ولا نعلم هل مات بالخطإ أو بالعمد، وحينئذٍ نرفع القصاص ... والماتن - رحمه الله - لم يفرق بين الصورتين.

باب شروط القصاص

باب شروط القصاص وهي أربعةٌ: - عصمة المقتول؛ فلو قتل مسلمٌ، أو ذمي - حربيا أو مرتدا (¬1) -: لم يضمنه بقصاصٍ ولا ديةٍ. - الثاني: التكليف؛ فلا قصاص على صغيرٍ ولا مجنونٍ. - الثالث: المكافأة؛ بأن يساويه في: الدين والحرية والرق (¬2)؛ فلا يقتل مسلمٌ بكافرٍ، ولا حر بعبدٍ (¬3)، وعكسه يقتل، ويقتل الذكر بالأنثى، والأنثى بالذكر. ¬

_ (¬1) إن قتل مرتدا لم يضمنه ولا يقتل به لأنه غير معصوم الدم؛ لكنه يعاقب على قتله، فيعزره الإمام؛ لأنه ليس لأحدٍ أن يفتات على الإمام أو نائبه. (¬2) كلام المؤلف - رحمه الله - في المساواة فيه نظرٌ. والصواب: ألا يفضل القاتل المقتول في الدين والحرية والملك. فلا يقتل مسلمٌ بكافرٍ؛ لأن القاتل أفضل من المقتول في الدين، ولا يقتل حر بعبدٍ لأن القاتل أفضل من المقتول في الحرية، ولا يقتل مكاتبٌ بعبده - مع أن كليهما عبدٌ -، لكن المكاتب أفضل؛ لأنه مالكٌ له. ولهذا قلنا: إن صواب العبارة في الحرية والملك. (¬3) ذهب أبو حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية - وهو روايةٌ عن أحمد - إلى أن الحر يقتل بالعبد ... وهذا القول هو الصواب.

- الرابع: عدم الولادة؛ فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل (¬1)، ويقتل الولد بكل منهما. ¬

_ (¬1) الراجح في هذه المسألة: أن الوالد يقتل بالولد، والأدلة التي استدلوا بها ضعيفةٌ لا تقاوم النصوص الصريحة الدالة على العموم.

باب استيفاء القصاص

باب استيفاء القصاص يشترط له ثلاثة شروطٍ: - أحدها: كون مستحقه مكلفًا، فإن كان صبيا أو مجنونًا: لم يستوف، وحبس الجاني إلى البلوغ والإفاقة (¬1). - الثاني: اتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه، وليس لبعضهم أن ينفرد به، وإن كان من بقي غائبًا أو صغيرًا أو مجنونًا: انتظر القدوم والبلوغ والعقل. - الثالث: أن يؤمن في الاستيفاء أن يتعدى الجاني، فإذا وجب على حاملٍ أو حائلٍ فحملت: لم تقتل حتى تضع الولد، ثم إن وجد من يرضعه وإلا تركت حتى تفطمه، ولا يقتص منها في الطرف حتى تضع، والحد في ذلك كالقصاص. فصلٌ ولا يستوفى قصاصٌ إلا: بحضرة سلطانٍ أو نائبه، وآلةٍ ماضيةٍ. ¬

_ (¬1) استثنى بعض العلماء من هذه المسألة ما إذا كان القتل غيلةً - أي أن يقتله على غرةٍ - فإنه يقتل القاتل بكل حالٍ؛ سواءٌ اختار أولياء المقتول القتل أم الدية؛ فإنه لا خيار لهم في ذلك، وهذا مذهب الإمام مالكٍ، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وبناءً على هذا القول: فإنه لا يحبس الجاني حتى يبلغ أولياء المقتول. وإنما اختار ذلك مالكٌ وشيخ الإسلام؛ لأن قتل الغيلة فيه مفسدةٌ عظيمةٌ، ولأنه لا يمكن التحرز منه؛ إلا أن يكون ملكًا أو أميرًا له جنودٌ وحاشيةٌ يحرسونه فيمكنه التحرز منه، لكن عامة الناس لا يمكنهم التحرز منه.

ولا يستوفى في النفس إلا بضرب العنق بسيفٍ - ولو كان الجاني قتله بغيره (¬1) -. ¬

_ (¬1) الصواب - ولا شك -: أن يفعل به كما فعل .... ؛ إلا إذا قتله بوسيلةٍ محرمةٍ فإننا لا نقتله بها؛ مثل أن يقتله باللواط - والعياذ بالله -، أو بالسحر، أو أن يقتله بإسقاء الخمر حتى يموت فإنه لا يفعل به كذلك.

باب العفو عن القصاص

باب العفو عن القصاص يجب بالعمد: القود، أو الدية، فيخير الولي بينهما، وعفوه مجانًا أفضل (¬1). فإن اختار القود، أو عفا عن الدية فقط: فله أخذها، والصلح على أكثر منها (¬2). وإن اختارها، أو عفا مطلقًا (¬3)، أو هلك الجاني: فليس له غيرها. ¬

_ (¬1) ظاهر كلامه أنه أفضل مطلقًا؛ سواءٌ كان هذا الجاني ممن عرف بالظلم والفساد، أم ممن لم يعرف بذلك. لكن الصواب - بلا شك - ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -؛ حيث قال: إن العفو إحسانٌ، والإحسان لا يكون إحسانًا حتى يخلو من الظلم والشر والفساد، فإذا تضمن هذا الإحسان شرا وفسادًا أو ظلمًا لم يكن إحسانًا ولا عدلًا. وعلى هذا: فإذا كان هذا القاتل ممن عرف بالشر والفساد فإن القصاص منه أفضل. (¬2) رجح ابن القيم - رحمه الله - أنه ليس له إلا الدية فقط؛ لأنه ورد في حديثٍ رواه الإمام أحمد - لكن في سنده محمد ابن إسحاق وقد عنعن - أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: القود أو الدية أو العفو، ثم قال: «فإن اختار الرابعة فخذوا على يديه»؛ أي: لا توافقوه. ولهذا رجح ابن القيم أنه ليس له أن يصالح بأكثر من الدية؛ لأن الشرع ما جعل له إلا هذا أو هذا؛ فإما أن تقتص أو الدية، والغالب في هذا أنه إذا قيل له: (ما لك إلا الدية)؛ فإنه يختار القود. (¬3) ربما نقول: إذا وجدت قرينةٌ تدل على أن المراد بالعفو العفو عن القصاص لا مطلقًا عمل بها. وأما إذا نظرنا إلى مجرد اللفظ فإن مجرد اللفظ يقتضي العفو مطلقًا؛ فلا يستحق ديةً ولا قصاصًا.

وإذا قطع إصبعًا عمدًا فعفا عنها، ثم سرت إلى الكف أو النفس، وكان العفو على غير شيءٍ فهدرٌ، وإن كان العفو على مالٍ فله تمام الدية. وإن وكل من يقتص ثم عفا، فاقتص وكيله ولم يعلم: فلا شيء عليهما. وإن وجب لرقيقٍ قودٌ (¬1)، أو تعزير قذفٍ (¬2): فطلبه وإسقاطه إليه، فإن مات فلسيده. ¬

_ (¬1) [لكن] ليس له أن يعفو مجانًا؛ بل لا بد أن يكون عفوه على مالٍ؛ لأننا إنما أبحنا له القصاص لأجل التشفي، فإذا لم يرد التشفي فلا يمكن أن تضيع المالية على سيده. (¬2) هذه المسألة في النفس منها شيءٌ؛ أي كوننا نجعل للعبد الخيار بين إسقاط تعزير القذف وعدم إسقاطه. ووجه ذلك: أن الضرر ليس عليه وحده؛ بل الضرر عليه وعلى سيده؛ فإنه إذا قيل: (إنه قد زنا) ولم يأخذ بحقه بتعزير القاذف؛ فإنه سيرخص في أعين الناس ولا يريده أحدٌ ... فالصواب: أن الحق للعبد ولكن ليس له إسقاطه.

باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس

باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس من أقيد بأحدٍ في النفس: أقيد به في الطرف والجراح، ومن لا فلا. ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس. وهو نوعان: - أحدهما: في الطرف؛ فتؤخذ: العين، والأنف، والأذن، والسن، والجفن، والشفة، واليد، والرجل، والإصبع، والكف، والمرفق، والذكر، والخصية، والألية، والشفر، كل واحدٍ من ذلك بمثله. وللقصاص في الطرف شروطٌ: الأول: الأمن من الحيف بأن يكون القطع من مفصلٍ، أو له حد ينتهي إليه، كمارن الأنف، وهو ما لان منه (¬1). ¬

_ (¬1) [على كلام المؤلف]: لو أن أحدًا قطع شخصًا من الحد اللين اقتص منه لأنه يمكن الاستيفاء منه، ولو أن رجلًا قطع يد رجلٍ من مفصل اليد تمامًا فإنه يقتص منه، ولو قطعه من نصف الذراع فلا يقتص منه؛ لأن القطع ليس من مفصلٍ ... ويحتمل أن نقول: يقتص من المفصل الذي دونه ويؤخذ منه أرش الزائد ... ، وهذا إذا لم يمكن القصاص من مكان القطع، فإن أمكن القصاص من مكان القطع اقتص منه ... ، بل لو قال المجني عليه: (أنا أتنازل؛ فهو قطع يدي من نصف الذراع، وأنا أقطعها من ثلث الذراع، وأتنازل عن الزائد) فما المانع؟! فعندنا ثلاثة احتمالاتٍ على خلاف كلام المؤلف: الأول: أن يقتص من المفصل الذي دون القطع، ويأخذ أرش الزائد. الثاني: أن يقتص من مكان القطع إن أمكن. الثالث: أن يقتص من دون محل القطع وفوق المفصل، ويسقط المجني عليه الزائد ...

الثاني: المماثلة في الاسم والموضع؛ فلا تؤخذ يمينٌ بيسارٍ، ولا يسارٌ بيمينٍ، ولا خنصرٌ ببنصرٍ، ولا أصلي بزائدٍ، ولا عكسه، ولو تراضيا لم يجز. الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال (¬1)؛ فلا تؤخذ صحيحةٌ بشلاء (¬2)، ولا كاملة الأصابع بناقصةٍ (¬3)، ولا عينٌ صحيحةٌ بقائمةٍ (¬4)، ويؤخذ عكسه (¬5) ولا ¬

_ (¬1) قول المؤلف ليس بدقيقٍ، والتعبير الدقيق أن يقول: (أن لا يكون طرف الجاني أكمل من طرف المجني عليه). (¬2) هذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، ومنهم المذاهب الأربعة، وحكاه بعضهم إجماعًا ... وقال داود الظاهري - رحمه الله -: إنها تؤخذ اليد السليمة بالشلاء ... والمسألة تحتاج إلى بحثٍ؛ لأن دليل داود قوي جدا. (¬3) هذه المسألة أضعف من المسألة السابقة؛ وذلك لأن أصابع اليد الناقصة فيها منفعةٌ - كالحركة والإحساس - ... ؛ فالقول بأنه يقتص من كاملة الأصابع بالناقصة أقوى من الأول؛ لأن الشلل تعطل المنفعة بالكلية، أما هذا فإنه نقصٌ. (¬4) لعل هذا الحكم يختلف في هذا الزمن؛ لأن العين القائمة يمكن أن تجرى لها جراحةٌ ويركب لها قرنيةٌ وتصبح صحيحةً، أما إذا كان الخلل في أعصاب العين فالغالب أنه لا تنفعه العملية، وهذا إذا قاله الأطباء، فإن كانت منفعة العين قليلةً فإنه يقتص لها، فتؤخذ عين الرجل القوي النظر بعين الأعمش ما دام أن فيها منفعةً. (¬5) لكن بشرط رضا من له الحق.

أرش. فصلٌ النوع الثاني: الجراح، فيقتص في كل جرحٍ ينتهي إلى عظمٍ؛ كالموضحة، وجرح العضد، والساق، والفخذ، والقدم. ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح غير كسر سن، إلا أن يكون أعظم من الموضحة؛ كالهاشمة، والمنقلة، والمأمومة؛ فله أن يقتص موضحةً، وله أرش الزائد (¬1). وإذا قطع جماعةٌ طرفًا، أو جرحوا جرحًا يوجب القود: فعليهم القود (¬2). وسراية الجناية: مضمونةٌ في النفس فما دونها، وسراية القود: مهدورةٌ. ولا يقتص (¬3) من عضوٍ وجرحٍ قبل برئه، كما لا تطلب له ديةٌ. ¬

_ (¬1) الصحيح: أنه يقتص من كل جرحٍ. (¬2) لم يذكر [المؤلف] حكم ما إذا تمالؤوا عليه، والصحيح: أنهم لو تمالؤوا عليه فكما لو تشاركوا فيه. ومعنى: (تمالؤوا عليه)؛ أي: اتفقوا عليه؛ بأن قالوا: (نريد قطع يد فلانٍ)؛ فقال أحدهم: (اجلس أنت في مكان كذا، وأنت الآخر اجلس في مكان كذا، حتى إذا أقبل أحدٌ تخبرونني)، واتفقوا على ذلك فقد تشاركوا في الإثم ... ، فإذا اختار المجني عليه الدية فعليهم ديةٌ واحدةٌ لذلك الطرف أو الجرح. (¬3) لم يبين - رحمه الله - هل هذا حرامٌ أو مكروهٌ ... ، والمشهور من المذهب أنه حرامٌ ... ودليل ذلك: حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده: أن رجلًا طعن رجلًا بقرنٍ في ركبته، فجاء المطعون وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتص منه، ولكنه نهاه، فألح عليه، فاقتص منه، ثم جاء الرجل المجني عليه بعد مدةٍ، فقال: يا رسول الله، عرجت - أي إن الجناية سرت -، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك»، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرحٍ حتى يبرأ صاحبه. والقول الثاني: أن النهي للكراهة والإرشاد ... ، وهذا أحد قولي الشافعي أنه يجوز أن يقتص قبل البرء، واستدل لقوله بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقاد الرجل، ولو كان حرامًا ما أقاده. ولكننا نقول: في نفس الحديث: «ثم نهى رسول الله أن يقتص من جرحٍ حتى يبرأ».

كتاب الديات

كتاب الديات كل من أتلف إنسانًا بمباشرةٍ أو سببٍ: لزمته ديته. فإن كانت عمدًا محضًا: ففي مال الجاني حالةً، وشبه العمد والخطأ على عاقلته. وإن غصب حرا صغيرًا فنهشته حيةٌ، أو أصابته صاعقةٌ، أو مات بمرضٍ (¬1)، أو غل حرا مكلفًا وقيده فمات بالصاعقة أو الحية: وجبت الدية (¬2). فصلٌ وإذا أدب الرجل ولده، أو سلطانٌ رعيته، أو معلمٌ صبيه (¬3)، ولم يسرف: لم يضمن ما تلف به. ولو كان التأديب لحاملٍ فأسقطت جنينًا: ضمنه المؤدب. ¬

_ (¬1) إطلاق كلام المؤلف مرجوحٌ، والصواب: إذا مات بمرضٍ يختص بتلك البقعة؛ لأنه هو السبب في مجيئه لهذه البقعة الموبوءة، وهذا إذا كان حرا، أما إن كان عبدًا فإنه يضمنه مطلقًا؛ لأن ضمان العبد ضمان أموالٍ. (¬2) إن مات بمرضٍ فظاهر كلام المؤلف أنه لا ضمان؛ لأنه قال: (فمات بالصاعقة أو الحية)، ولكن الصحيح أنه إن مات بمرضٍ يختص بتلك البقعة فإنه يضمنه؛ لأنه لا فرق بين الصغير وبين المكلف الذي غله وقيده. (¬3) أما تأديب المعلم صبيه فالظاهر لي: أن المعلم له أن يؤدب كل من يدرس عنده؛ حتى لو كان أكبر منه.

وإن طلب السلطان امرأةً لكشف حق الله - تعالى - (¬1)، أو استعدى عليها رجلٌ بالشرط في دعوى له (¬2) فأسقطت: ضمنه السلطان، والمستعدي، ولو ماتت فزعًا لم يضمنا. ومن أمر شخصًا مكلفًا أن ينزل بئرًا، أو يصعد شجرةً فهلك به: لم يضمنه (¬3). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: سواءٌ طلبها لحق الله - عز وجل - وهي ظالمةٌ، أو طلبها وهو الظالم، أو طلبها قبل أن يتبين الأمر، فيضمنها السلطان مطلقًا في الأحوال الثلاثة. ولكن بعض أصحابنا - رحمه الله - قيد هذا بما إذا لم تكن ظالمةً ... ، وهذا القول له وجهٌ قوي ... . ثم على القول بالضمان فظاهر كلام المؤلف: أن السلطان يضمنها ضمانًا شخصيا، لا ضمان ولايةٍ ... ، ولكن القول الراجح ... : أن الدية في بيت المال؛ لأن السلطان يتصرف لحقوق المسلمين بالولاية ... نعم؛ لو تيقنا أن السلطان ظالمٌ فهنا يتوجه أن يكون الضمان عليه أو على عاقلته؛ بحسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية. (¬2) ظاهر كلام المؤلف - أيضًا -: ولو كان المستعدي مستحقا للاستعداء، وكانت هي ظالمةً؛ فإن الضمان على المستعدي. ولكن في هذا نظرٌ؛ فإنه إذا كان على حق ولم يعلم عن حال المرأة فكيف نضمنه؟! أما إذا كان يعلم أن هذه المرأة من النساء اللاتي يفزعن، وأنه يخشى على حملها؛ فربما يقال: إن تضمينه له وجهٌ. (¬3) إذا كان الآمر يعلم أن في البئر ما يكون سببًا للهلاك ولم يخبره ... فعليه الضمان؛ لأنه غره وعلى هذا فكلام المؤلف يحتاج إلى قيدٍ، وهو إذا لم يكن منه تفريطٌ بإعلامه بما يكون سببًا لهلاكه، فإن كان منه تفريطٌ في ذلك فعليه الضمان ... وعلم من قول المؤلف: (ومن أمر) أنه لو أكرهه على ذلك فعليه الضمان ... وعلم من قول المؤلف [- أيضًا -]: (من أمر شخصًا مكلفًا) أنه لو أمر غير مكلفٍ فعليه الضمان مطلقًا، وهذا هو المشهور من المذهب. لكن ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا كان المأمور مميزًا - أي: يفهم الخطاب - له سبع سنواتٍ أو نحوها، وكان هذا الأمر مما جرت به العادة أن يؤمر مثله فإنه لا ضمان ... ؛ لأنه ما زال الناس منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يرسلون المميزين في مثل هذه الأشياء القليلة السهلة، ولا يعدون ذلك عدوانًا، وما ترتب على المأذون فليس بمضمونٍ.

ولو أن الآمر سلطانٌ: كما لو استأجره سلطانٌ أو غيره (¬1). ¬

_ (¬1) الصحيح في مسألة السلطان: أنه إذا كان السلطان ممن يخشى شره بحيث إذا أبيت حبسك أو ضربك أو هضمك مالًا أو ظلمك في أهلك؛ فإن أمره مثل الإكراه، وعلى هذا فيكون ضامنًا. أما إذا كان السلطان من ذوي العدل والرحمة الذين إذا قلت: لا أستطيع، قال: إذن نطلب غيرك؛ فإنه لا ضمان عليه في هذه الحال لأنه كسائر الناس؛ فلم يكرهه.

باب مقادير ديات النفس

باب مقادير ديات النفس دية الحر المسلم: مئة بعيرٍ، أو ألف مثقالٍ ذهبًا، أو اثنا عشر ألف درهمٍ فضةً، أو مئتا بقرةٍ، أو ألفا شاةٍ، هذه أصول الدية (¬1). فأيها أحضر من تلزمه: لزم الولي قبوله. ففي قتل العمد وشبهه: خمسٌ وعشرون بنت مخاضٍ، وخمسٌ وعشرون بنت لبونٍ، وخمسٌ وعشرون حقةً، وخمسٌ وعشرون جذعةً. وفي الخطإ تجب أخماسًا: ثمانون من الأربعة المذكورة، وعشرون من بني مخاضٍ. ولا تعتبر القيمة في ذلك؛ بل السلامة. ودية الكتابي نصف دية المسلم، ودية المجوسي والوثني ثماني مئة درهمٍ (¬2)، ¬

_ (¬1) وهي [- على كلام المؤلف -]: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة؛ فهذه هي أصول الدية، وهذا الذي مشى عليه المؤلف [هو] إحدى الروايات عن الإمام أحمد - رحمه الله -. والرواية الثانية: أن هناك أصلًا سادسًا وهو الحلل. والرواية الثالثة: أن الأصل الإبل فقط، وما عداها فهو مقومٌ بها وليس أصلًا ... ، وهذا هو ظاهر كلام الخرقي - رحمه الله -، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعةٌ من الأصحاب، وهذا هو الذي عليه العمل عندنا؛ فلا يزال الناس من قديم الزمان يحكمون بأن الأصل في الدية الإبل. (¬2) خص المؤلف [المجوس] بالذكر لأن لهم أحكامًا خاصةً كأخذ الجزية منهم دون غيرهم من المشركين - على رأي أكثر أهل العلم -. والصحيح: أن المشركين ولو كانوا غير مجوسٍ تؤخذ منهم الجزية ... وقوله: (ثماني مئة درهمٍ): ... هذا مروي عن عمر وعثمان وابن مسعودٍ - رضي الله عنهم - ... ، ولكن قال بعض العلماء: إنه توقيفٌ، وقال آخرون: إنه تقديرٌ. وذهب بعض أهل العلم إلى أن دية الكتابي وغيره كدية المسلم ... وذهب آخرون إلى قولٍ وسطٍ، وهو أن الكفار - كلهم - على النصف من دية المسلم. وعلى كل حالٍ: فالقول الثالث هو أرجح الأقوال عندي، وهو: أن دية الكافر على النصف من دية المسلم.

ونساؤهم على النصف كالمسلمين (¬1)، ودية قن قيمته، وفي جراحه ما نقصه بعد البرء. ويجب في الجنين - ذكرًا كان أو أنثى -: عشر دية أمه غرةٌ (¬2)، وعشر قيمتها إن كان مملوكًا (¬3)، وتقدر الحرة أمةً. وإن جنى رقيقٌ خطًا أو عمدًا لا قود فيه، أو فيه قودٌ واختير فيه المال، أو أتلف مالًا بغير إذن سيده: تعلق ذلك برقبته؛ فيخير سيده بين أن يفديه بأرش جنايته، أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه، أو يبيعه ويدفع ثمنه. ¬

_ (¬1) هذه المسألة لم أحررها تمامًا. (¬2) وهذا ما لم يسقط حيا ثم يموت، فإن سقط حيا ثم مات ففيه ديةٌ كاملةٌ، ولكن لو مات في بطنها ثم سقط ففيه عشر دية أمه، غرةٌ. (¬3) ذهب بعض العلماء إلى أن دية جنين الأمة ما نقصها؛ بمعنى أن تقدر حاملًا وحائلًا، وما بين القيمتين فهو دية الجنين. وهذا القول أقرب إلى القياس؛ كما لو أن أحدًا جنى على بهيمةٍ حاملٍ وأسقطت البهيمة؛ فإن الشاة - مثلًا - تقدر حاملًا وحائلًا، فما بين القيمتين فهو قيمة الجنين.

باب ديات الأعضاء ومنافعها

باب ديات الأعضاء ومنافعها من أتلف ما في الإنسان منه شيءٌ واحدٌ - كالأنف واللسان والذكر -: ففيه دية النفس. وما فيه منه شيئان - كالعينين، والأذنين، والشفتين، واللحيين، وثديي المرأة، وثندؤتي الرجل، واليدين، والرجلين، والأليتين، والأنثيين، وإسكتي المرأة -: ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها. وفي المنخرين ثلثا الدية، وفي الحاجز بينهما ثلثها. وفي الأجفان الأربعة الدية، وفي كل جفنٍ ربعها. وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين، وفي كل أصبعٍ عشر الدية، وفي كل أنملةٍ ثلث عشر الدية. والإبهام مفصلان، وفي كل مفصلٍ نصف عشر الدية؛ كدية السن. فصلٌ وفي كل حاسةٍ ديةٌ كاملةٌ، وهي: السمع، والبصر، والشم، والذوق (¬1). ¬

_ (¬1) المؤلف لم يعد من الحواس إلا أربعًا، والمعروف أن الحواس خمسٌ، فأسقط اللمس ... والأقرب عندي أن يقال: إن أذهب لمسه بالكلية من جميع البدن فعليه الدية كاملةً، وإلا فعليه حكومةٌ، ولا يصح أن يقاس إذهاب اللمس على الشلل؛ لأن بينهما فرقًا عظيمًا.

وكذا في: الكلام، والعقل، ومنفعة المشي، والأكل، والنكاح، وعدم استمساك البول أو الغائط. وفي كل واحدٍ من الشعور الأربعة الدية، وهي: شعر الرأس، واللحية، والحاجبين، وأهداب العينين (¬1)، فإن عاد فنبت سقط موجبه. وفي عين الأعور: الدية كاملةً، وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمدًا فعليه ديةٌ كاملةٌ ولا قصاص. وفي قطع يد الأقطع: نصف الدية - كغيره -. ¬

_ (¬1) ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه الشعور الأربعة لا تجب فيها الدية، وقالوا: إنه لا منفعة منها إلا الجمال؛ فهي كاليد الشلاء والعين القائمة، وعلى هذا ففيها حكومةٌ ... ولكن المشهور من المذهب أنه يجب فيها الدية؛ بخلاف الشعور الأخرى فإنه يجب فيها حكومةٌ، والظاهر أن المذهب أصح؛ لا سيما شعر الرأس واللحية.

باب الشجاج وكسر العظام

باب الشجاج وكسر العظام الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصةً، وهي عشرٌ: - الحارصة: التي تحرص الجلد، أي: تشقه قليلًا ولا تدميه. - ثم البازلة: الدامية الدامعة وهي التي يسيل منها الدم. - ثم الباضعة، وهي التي تبضع اللحم. - ثم المتلاحمة، وهي الغائصة في اللحم. - ثم السمحاق، وهي: ما بينها وبين العظم قشرةٌ رقيقةٌ. فهذه الخمس: لا مقدر فيها؛ بل حكومةٌ. - وفي الموضحة - وهي: ما توضح اللحم (¬1) وتبرزه -: خمسة أبعرةٍ. - ثم الهاشمة، وهي: التي توضح العظم وتهشمه، وفيها عشرة أبعرةٍ. - ثم المنقلة، وهي: ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها، وفيها خمس عشرة من الإبل. - وفي كل واحدةٍ من المأمومة والدامغة: ثلث الدية (¬2). ¬

_ (¬1) قوله: (توضح اللحم): هو خطأٌ - بلا شك -؛ فلعله سبق قلمٍ من المؤلف، والصواب: أنه توضح العظم. (¬2) القول الراجح في المسألة: أن الدامغة تجب فيها ثلث الدية مع الأرش.

- وفي الجائفة ثلث الدية، وهي التي تصل إلى باطن الجوف. - وفي الضلع وكل واحدةٍ من الترقوتين: بعيرٌ. - وفي كسر الذراع - وهو الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد والفخذ والساق - إذا جبر ذلك مستقيمًا: بعيران (¬1). وما عدا ذلك من الجراح وكسر العظام ففيه حكومةٌ. والحكومة: أن يقوم المجني عليه كأنه عبدٌ لا جناية به، ثم يقوم وهي به قد برئت، فما نقص من القيمة فله مثل نسبته من الدية؛ كأن قيمته عبدًا سليمًا ستون، وقيمته بالجناية خمسون؛ ففيه سدس ديته، إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدرٌ، فلا يبلغ بها المقدر (¬2). ¬

_ (¬1) الضلع والترقوة والزند فيها آثارٌ عن الصحابة - رضي الله عنهم -، وأما البقية فإنها بالقياس ... ، وأما الذراع فقد ورد عن عمر - رضي الله عنه - أثرٌ أن في الزند الواحد بعيرين ... وقال بعض فقهائنا: إنه لا تقدير إلا فيما ورد به الأثر؛ أي: الضلع، والترقوة، والزند، والباقي حكومةٌ ... وذهب أكثر أهل العلم: إلى أن الجميع فيه حكومةٌ، وحملوا ما ورد عن عمر في ذلك على أنه من باب التقويم ... والراجح عندي في هذه المسألة أن نقول: إن فيها حكومةً في الجميع، ويحمل ما ورد عن عمر على أنه من باب التقويم. (¬2) ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز أن نبلغ المقدر أو أكثر في هذه المسألة ... ولكن المشهور من المذهب أنه إذا كانت في موضعٍ له مقدرٌ فلا يبلغ بها المقدر.

باب العاقلة وما تحمل

باب العاقلة وما تحمل عاقلة الإنسان عصباته كلهم من النسب والولاء، قريبهم وبعيدهم حاضرهم وغائبهم، حتى عمودي نسبه. ولا عقل على: رقيقٍ، وغير مكلفٍ، ولا فقيرٍ، ولا أنثى، ولا مخالفٍ لدين الجاني. ولا تحمل العاقلة عمدًا محضًا، ولا عبدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا لم تصدقه به، ولا ما دون ثلث الدية التامة. فصلٌ من قتل نفسًا (¬1) محرمةً خطأً مباشرةً أو تسببًا بغير حق: فعليه الكفارة (¬2). ¬

_ (¬1) هذا يشمل حتى لو قتل نفسه ... ؛ فإن عليه الكفارة وليس عليه الدية؛ لعموم قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} ... وهذا هو المشهور من المذهب، وجزموا به، وقالوا: إنه يجب أن تؤدى الكفارة من تركته. والقول الثاني: أن الكفارة لا تجب على من قتل نفسه ... ؛ فسياق الآية يدل على أن المراد من قتل غيره. وهذا القول أرجح. (¬2) أما إذا كان غير بالغٍ ولا عاقلٍ فإن في المسألة خلافًا بين أهل العلم؛ فذهب أبو حنيفة وجماعةٌ من العلماء إلى أنه لا كفارة على الصغير والمجنون ... وما ذهب إليه أبو حنيفة أقرب إلى الصواب مما ذهب إليه جمهور أهل العلم - وإن كان قولهم له حظ من النظر - ...

باب القسامة

باب القسامة وهي أيمانٌ مكررةٌ في دعوى قتل (¬1) معصومٍ. من شرطها اللوث، وهو العداوة الظاهرة؛ كالقبائل التي يطلب بعضها بعضًا بالثأر (¬2). فمن ادعي عليه القتل من غير لوثٍ: حلف يمينًا واحدةً وبرئ. ويبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم، فيحلفون خمسين يمينًا (¬3)، فإن نكل الورثة، أو كانوا نساءً (¬4): حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرئ. ¬

_ (¬1) أفادنا المؤلف أن القسامة لا تكون في دعوى جرحٍ ولا في دعوى مالٍ، وإنما تكون في دعوى قتلٍ فقط ... وقال بعض أهل العلم: بل تجري القسامة في دعوى قطع الأعضاء والجروح. (¬2) الرأي الذي يقول: (إن اللوث كل ما يغلب على الظن القتل بسببه) هو الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله -. (¬3) المؤلف يرى - وهو المذهب - أن المقصود خمسون يمينًا ولو من رجلٍ واحدٍ ... فما ذهب إليه المؤلف - وهو المذهب -: أن الأيمان الخمسين توزع على الذكور من الورثة، وأنه لو لم يكن إلا واحدٌ حلف الخمسين كلها ... والقول الثاني في المسألة: إنه لا بد من خمسين رجلًا؛ يحلف كل واحدٍ يمينًا واحدةً ... وهذا القول أقرب إلى ظاهر الأدلة؛ أنه لا بد من حلف خمسين رجلًا. (¬4) قوله: (أو كانوا نساءً): أي: فإن كان الورثة نساءً ... فلا تجري القسامة؛ لأنه لا مدخل للنساء في القسامة ... ، وهذه المسألة تحتاج إلى تحريرٍ.

كتاب الحدود

كتاب الحدود لا يجب الحد إلا على بالغٍ، عاقلٍ، ملتزمٍ، عالمٍ بالتحريم. فيقيمه الإمام أو نائبه في غير مسجدٍ (¬1). ويضرب الرجل في الحد قائمًا بسوطٍ لا جديدٍ ولا خلقٍ، ولا يمد، ولا يربط، ولا يجرد (¬2)؛ بل يكون عليه قميصٌ أو قميصان (¬3)، ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد، ويفرق الضرب على بدنه، ويتقى الرأس والوجه والفرج والمقاتل (¬4). والمرأة كالرجل فيه إلا أنها تضرب جالسةً، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها لئلا تنكشف. وأشد الجلد: جلد الزنا، ثم القذف، ثم الشرب، ثم التعزير. ¬

_ (¬1) لكن بشرط أن يشهده طائفةٌ من المؤمنين. (¬2) إلا إذا جعل فيها ما يمنع الضرب؛ فيجب أن يجرد مما يمنعه. (¬3) فإن كان عليه ثلاثةٌ فالظاهر أننا نخلع الثالث، فإن كان هناك بردٌ ننظر إن كانت الثلاثة خفيفةً لا تمنع الضرب فإننا نتركها؛ المهم أن يصل ألم الضرب إلى بدنه. (¬4) لكن إذا كان الضرب تعزيرًا ليس حدا فلا حرج أن يضرب الإنسان على رأسه؛ كما لو أن إنسانًا - مثلًا - صفع ابنه على رأسه، وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه ضرب رجلًا على رأسه حتى أدماه، فهذا يدل على أن الضرب على الرأس في غير الحد لا بأس به، أما في الحد فإن جلده شديدٌ ومضر.

ومن مات في حد: فالحق قتله. ولا يحفر للمرجوم في الزنا (¬1). ¬

_ (¬1) هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة؛ أنه لا يسن الحفر له، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على حسب اختلاف الروايات فيها ... والذي يظهر لي: أن الأمر راجعٌ إلى اجتهاد الحاكم، فإن رأى من المصلحة الحفر حفر، وإلا فلا.

باب حد الزنا

باب حد الزنا إذا زنا المحصن: رجم حتى يموت (¬1). والمحصن: من وطئ امرأته المسلمة - أو الذمية (¬2) - في نكاحٍ صحيحٍ، وهما بالغان عاقلان حران. فإن اختل شرطٌ منها في أحدهما: فلا إحصان لواحدٍ منهما (¬3). وإذا زنا الحر غير المحصن: جلد مئة جلدةٍ، وغرب عامًا - ولو امرأةً (¬4) -، والرقيق خمسين جلدةً (¬5)، ولا يغرب (¬6). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا يسبق رجمه جلدٌ؛ فيرجم بدون جلدٍ، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم ... ، [وقول المؤلف] هو القول الراجح. (¬2) هذا التعبير فيه نظرٌ، والصواب أن يقول: (أو الكتابية)؛ لأن الكتابية سواءٌ كانت ذميةً أو معاهدةً يجوز للإنسان أن يتزوجها. (¬3) ليس هناك شيءٌ بينٌ في الأدلة، اللهم إلا اشتراط النكاح والوطء ... ، وأما البقية فإنها مأخوذةٌ من التعليل. (¬4) إذا لم يوجد محرمٌ فلا يجوز أن تغرب. (¬5) ذهب بعض أهل العلم إلى أن حد الزاني الرقيق إذا كان ذكرًا كحد الحر ... فالمسألة فيها خلافٌ ... ، وأنا إلى الآن ما تبين لي أي القولين أصح، لكن جمهور أهل العلم أن الجلد بالنسبة للرقيق ينصف مطلقًا. (¬6) اختار كثيرٌ من أصحابنا - رحمهم الله - أنه يغرب بنصف عامٍ ... ، وهذا القول أصح.

وحد لوطي كزانٍ (¬1). ولا يجب الحد إلا بثلاثة شروطٍ (¬2): - أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها في قبلٍ أو دبرٍ أصليين حرامًا محضًا من آدمي حي (¬3). - الثاني: انتفاء الشبهة؛ فلا يحد بوطء أمةٍ له فيها شركٌ أو لولده، أو وطئ امرأةً ظنها زوجته أو سريته، أو في نكاحٍ باطلٍ اعتقد صحته، أو نكاحٍ أو ملكٍ مختلفٍ فيه - ونحوه -، أو أكرهت المرأة على الزنا (¬4). - الثالث: ثبوت الزنا. ولا يثبت إلا بأحد أمرين (¬5): ¬

_ (¬1) الصواب: أن حده القتل بكل حالٍ؛ سواءٌ أكان محصنًا أو كان غير محصنٍ، لكن لا بد من شروط الحد السابقة الأربعة: (عاقلٌ، بالغٌ، ملتزمٌ، عالمٌ بالتحريم)، فإذا تمت شروط الحد الأربعة العامة فإنه يقتل. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين الزنا بذوات المحارم وغيرهم، ولكن الصحيح أن الزنا بذوات المحارم فيه القتل بكل حالٍ؛ لحديثٍ صحيحٍ ورد في ذلك. (¬3) قوله: (آدمي حي): احترازًا من الميت؛ يعني لو زنا بميتةٍ - وهذا يحصل - فإنه لا يحد ... وقيل: إن الذي يأتي الميتة يزني بها عليه حدان؛ مرةً للزنا، ومرةً لانتهاك حرمة الميت ... وهو - لا شك - أمرٌ مستبشعٌ غاية الاستبشاع، ولا أقل من أن نلحق الميتة بالحية. (¬4) علم من كلامه أنه لو أكره الرجل أقيم عليه الحد ... ، ولكن القول الراجح - بلا شك - أنه لا حد عليه ... ، وأن الإكراه في حق الرجل ممكنٌ. (¬5) الأول: الإقرار، والثاني: البينة (الشهود). والقول الراجح أن لثبوت الزنا ثلاثة طرقٍ؛ هذان الطريقان، والثالث الحمل.

أحدهما: أن يقر به أربع مراتٍ (¬1) في مجلسٍ أو مجالس، ويصرح بذكر حقيقة الوطء، ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد (¬2). الثاني: أن يشهد عليه في مجلسٍ واحدٍ (¬3) بزنا واحدٍ يصفونه أربعةٌ ممن تقبل شهادتهم فيه، سواءٌ أتوا الحاكم جملةً أو متفرقين (¬4). وإن حملت امرأةٌ لا زوج لها ولا سيد: لم تحد بمجرد ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يشترط الإقرار أربعًا، وأن الإقرار بالزنا كغيره؛ إذا أقر به مرةً واحدةً وتمت شروط الإقرار - بأن كان بالغًا عاقلًا ليس فيه بأسٌ - فإنه يثبت الزنا. وهذا القول أرجح ... ولكن القولين يتفقان في أنه إذا قام عند الحاكم شبهةٌ فإن الواجب التأكد والاستثبات. ولو قال قائلٌ بقولٍ وسطٍ بأنه: إذا اشتهر الأمر واتضح فإنه يكتفى فيه الإقرار مرةً واحدةً؛ بخلاف ما لم يشتهر فإنه لا بد فيه من تكرار الإقرار أربعًا، وعلى هذا يكون هذا القول آخذًا بالقولين؛ فيشترط التكرار في حالٍ، ولا يشترط في حالٍ أخرى. (¬2) قالت الظاهرية: لا يقبل رجوعه عن الإقرار، ويجب إقامة الحد عليه ... ومن حيث النظر بالأدلة فلا شك أن الراجح هو قول الظاهرية، ولا سيما إذا وجد قرائن. (¬3) قوله: (في مجلسٍ واحدٍ): على القول الراجح ليس بشرطٍ. (¬4) سبق الكلام على هذا، وأن بعض العلماء يقول: لا بد أن يأتوا الحاكم في مجلسٍ واحدٍ جملةً، والصواب: أنه لا يشترط المجلس الواحد. (¬5) [قولٌ آخر]: أنه يجب عليها الحد ما لم تدع شبهةً؛ مثل أن تدعي أنها اغتصبت ... وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وهو الحق بلا ريبٍ.

باب حد القذف

باب حد القذف إذا قذف المكلف محصنًا: جلد ثمانين جلدةً إن كان حرا، وإن كان عبدًا أربعين (¬1)، والمعتق بعضه بحسابه. وقذف غير المحصن يوجب التعزير، وهو حق للمقذوف. والمحصن - هنا -: الحر المسلم العاقل العفيف الملتزم (¬2) الذي يجامع مثله، ولا يشترط بلوغه. وصريح القذف: (يا زانٍ)، (يا لوطي) - ونحوه -. وكنايته: (يا قحبة)، (يا فاجرة)، (يا خبيثة)، (فضحت زوجك)، أو (نكست رأسه)، أو (جعلت له قرونًا) - ونحوه -، وإن فسره بغير القذف قبل. وإن قذف أهل بلدٍ أو جماعةً لا يتصور منهم الزنا عادةً: عزر. ويسقط حد القذف بالعفو، ولا يستوفى بدون الطلب (¬3). ¬

_ (¬1) قالوا: لأن العبد يتنصف الحد عليه ... والصحيح - عندي -: أنه يجلد ثمانين جلدةً؛ سواءٌ كان حرا أو عبدًا. (¬2) قوله: (الملتزم): هذه في الحقيقة لا داعي لها، والظاهر - والله أعلم - أنها سهوٌ من المؤلف؛ لأن قيد الإسلام يغني عن قيد الالتزام. (¬3) ظاهر كلامهم: لا يعزر لأنه حق للمقذوف، والمقذوف ما طالب ... لكن إن رأى ولي الأمر أن يعزره فعل باعتبار إصلاح المجتمع على سبيل العموم، وعدم إلقاء مثل هذه العبارات عندهم.

باب حد المسكر

باب حد المسكر كل شرابٍ أسكر كثيره فقليله حرامٌ. وهو خمرٌ من أي شيءٍ كان. ولا يباح شربه للذةٍ ولا لتداوٍ ولا عطشٍ ولا غيره، إلا لدفع لقمةٍ غص بها ولم يحضره غيره. وإذا شربه المسلم مختارًا، عالمًا أن كثيره يسكر: فعليه الحد (¬1)؛ ثمانون جلدةً مع الحرية (¬2)، وأربعون مع الرق (¬3). ¬

_ (¬1) القول الثاني: أن عقوبة حد المسكر من باب التعزير ... وهذا هو الراجح عندي، وهو ظاهر كلام ابن القيم في «إعلام الموقعين»، وهو أنه تعزيرٌ، لكن لا ينقص عن أقل تقديرٍ وردت به السنة، وأما الزيادة فلا حرج إذا رأى الحاكم المصلحة في ذلك. (¬2) هذا بناءً على قضاء عمر - رضي الله عنه -؛ حيث رفع العدد إلى ثمانين جلدةً ... واختار كثيرٌ من أهل العلم أن ما بين الأربعين إلى الثمانين راجعٌ إلى نظر الحاكم، فإن رأى المصلحة أن يبلغ الثمانين بلغ، وإلا فأربعون. (¬3) بناءً على القاعدة التي سبقت، وهي أن الرقيق عقوبته على النصف من عقوبة الحر ...

باب التعزير

باب التعزير وهو التأديب، وهو واجبٌ (¬1) في كل معصيةٍ (¬2) لا حد فيها ولا كفارة؛ كاستمتاعٍ لا حد فيه، وسرقةٍ لا قطع فيها، وجنايةٍ لا قود فيها، وإتيان المرأة المرأة، والقذف بغير الزنا - ونحوه -. ولا يزاد في التعزير على عشر جلداتٍ (¬3). ومن استمنى بيده بغير حاجةٍ: عزر. ¬

_ (¬1) الصحيح: أنه ليس بواجبٍ على الإطلاق، وأن للإمام أو لمن له التأديب أن يسقطه إذا رأى غيره أنفع منه وأحسن. (¬2) الصحيح أن التأديب - ولعله مراد المؤلف - واجبٌ في كل معصيةٍ؛ سواءٌ كانت تلك المعصية بترك الواجب أو بفعل المحرم. (¬3) قال بعض أهل العلم: بل يجوز الزيادة على عشر جلداتٍ، وعشرين، وثلاثين، وأربعين، ومئةٍ، ومئتين، وألفٍ، وألفين؛ بقدر ما يحصل به التأديب ... وهذا القول هو الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعةٍ من أهل العلم المحققين، وهو الذي يتعين العمل به.

باب القطع في السرقة

باب القطع في السرقة إذا أخذ الملتزم نصابًا، من حرز مثله، من مال معصومٍ، لا شبهة له فيه، على وجه الاختفاء: قطع. فلا قطع على: منتهبٍ، ولا مختلسٍ، ولا غاصبٍ، ولا خائنٍ في وديعةٍ، أو عاريةٍ (¬1)، أو غيرها. ويقطع الطرار الذي يبط الجيب - أو غيره - ويأخذ منه. ويشترط: - أن يكون المسروق مالًا محترمًا؛ فلا قطع بسرقة آلة لهوٍ، ولا محرمٍ كالخمر. - ويشترط أن يكون نصابًا، وهو: ثلاثة دراهم، أو ربع دينارٍ، أو عرضٌ قيمته كأحدهما (¬2). ¬

_ (¬1) هذا ما مشى عليه المؤلف وهو قول جمهور أهل العلم: أن الخائن في العارية لا يقطع. ولكن المذهب خلاف ما ذهب إليه المؤلف؛ فالمذهب: أن الخائن في العارية يقطع، واستدلوا بحديث المخزومية أنها كانت تستعير المتاع فتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. (¬2) القول الثاني في المسألة: أن النصاب ربع دينارٍ فقط، وليس ثلاثة دراهم؛ فإذا سرق شيئًا يساوي ثلاثة دراهم لكن لا يساوي ربع دينارٍ فليس عليه القطع، وإذا سرق ما يساوي ربع دينارٍ فعليه القطع وإن كان لا يساوي ثلاثة دراهم. وهذا القول أصح.

وإذا نقصت قيمة المسروق، أو ملكها السارق: لم يسقط القطع. وتعتبر قيمتها وقت إخراجها من الحرز؛ فلو ذبح فيه كبشًا، أو شق فيه ثوبًا فنقصت قيمته عن نصابٍ، ثم أخرجه، أو أتلف فيه المال: لم يقطع. - وأن يخرجه من الحرز (¬1)، فإن سرقه من غير حرزٍ فلا قطع. وحرز المال: ما العادة حفظه فيه، ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه: فحرز الأموال والجواهر والقماش (¬2): في الدور والدكاكين والعمران وراء الأبواب، والأغلاق الوثيقة. وحرز البقل وقدور الباقلاء - ونحوهما -: وراء الشرائج إذا كان في السوق حارسٌ (¬3). ¬

_ (¬1) قوله: (وأن يخرجه من الحرز): الصواب أن يقول: (وأن يكون من حرزٍ)؛ لأن الإخراج قد سبق فيما قبل، وهذا هو الشرط الرابع. (¬2) أظن أن هذه الأمور الثلاثة تختلف حتى لو كانت في الدكاكين وراء الأبواب المغلقة؛ فلو أن رجلًا هتك الدكان وكسر الباب وسرق من القماش قطعت يده، ولو سرق من الدراهم ولم تكن الدراهم في الصناديق فلا يقطع؛ فيقطع في الثياب ولا يقطع في الدراهم؛ لأنه جرت العادة أن الدراهم لا تجعل هكذا على الطاولة في الدكان. ويمكن أن نفرق بين الدراهم الكثيرة والقليلة؛ فالكثيرة لا توضع على الطاولة، والقليلة يتساهلون في وضعها. إذن نرجع إلى القاعدة: أن حرز المال ما جرت العادة بحفظه فيه. (¬3) إذا كان السلطان قويا فإنه قد يكتفى بالشرائج أو بالحارس، ولهذا عندنا هنا يعتبر حرزًا، وفي بعض البلاد ربما تكون أبواب الزجاج حرزًا للذهب والدراهم.

وحرز الحطب والخشب: الحظائر (¬1). وحرز المواشي: الصير، وحرزها في المرعى: بالراعي ونظره إليها غالبًا (¬2). - وأن تنتفي الشبهة، فلا قطع بالسرقة من مال أبيه - وإن علا -، ولا من مال ولده - وإن سفل -، والأب والأم في هذا سواءٌ. ويقطع الأخ وكل قريبٍ بسرقة مال قريبه (¬3). ولا يقطع أحدٌ من الزوجين بسرقته من مال الآخر ولو كان محرزًا عنه (¬4). ¬

_ (¬1) عندنا الحطب - ولله الحمد - لا يحتاج إلى حرزٍ، وحرزه: أن يوضع في مكان البيع. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنه لا يشترط في [الراعي] البلوغ والعقل، ولكن في هذا نظرٌ؛ لأن الراعي الصغير ليس بحرزٍ. (¬3) الأقوال [في هذه المسألة] أربعةٌ: الأول - وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد -: أن السرقة من الأصول أو الفروع ليس فيها قطعٌ. الثاني: أن السرقة من جميع الأقارب فيها القطع؛ إلا الأب من مال ولده. الثالث: السرقة من مال الأقارب فيها القطع، إلا إذا كان ذا رحمٍ محرمٍ. الرابع: أنه إن وجبت النفقة فلا قطع، وإن لم تجب قطع فيما عدا الأب. ونحن إلى رجعنا إلى العمومات وجدنا أن أقرب الأقوال القول الثاني الذي يمنع القطع بالنسبة للأب وما عدا ذلك فإنه يقطع، أو القول الرابع الذي يخصه بوجوب النفقة. ومع هذا فالمسألة عندي فيها شيءٌ من الثقل. (¬4) لكن - في الحقيقة - يجب أن نلاحظ مسألةً أخرى، وهي الفرق بين أن يكون مال الزوج في نفس البيت، وبين أن يكون في الدكان وشبهه؛ لأن كونه في البيت فيه نوع ائتمانٍ للزوجة، وإذا كان في الخارج فهي وغيرها سواءٌ، فلا يظهر لي أن في ذلك شبهةً إذا كان قد قام بما يلزم ولم يقصر في النفقة. وأما سرقة الزوج من مال زوجته ... فالصحيح: أن سرقة الزوج من مال زوجته المحرز توجب القطع.

وإذا سرق عبدٌ من مال سيده، أو سيدٌ من مال مكاتبه، أو حر مسلمٌ (¬1) من بيت المال، أو من غنيمةٍ لم تخمس، أو فقيرٌ من غلة وقفٍ على الفقراء، أو شخصٌ من مالٍ فيه شركةٌ له، أو لأحدٍ ممن لا يقطع بالسرقة منه: لم يقطع. ولا يقطع إلا: بشهادة عدلين، أو إقرارٍ مرتين (¬2)، ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع (¬3). ¬

_ (¬1) قوله: (حر مسلمٌ): فهم منه أنه ... لو سرق مسلمٌ عبدٌ من بيت المال فإنه يقطع، ولكن سيأتينا في آخر العبارة أنه لا يقطع؛ لأن العبد سرق من مالٍ لا يقطع منه سيده، فإذا كان العبد المسلم لمسلمٍ وسرق من بيت المال فإنه لا يقطع؛ لأنه سرق من مالٍ لو سرق منه سيده لم يقطع. الخلاصة في مسألة السرقة من بيت المال: أن الأصل فيها القطع حتى توجد شبهةٌ بينةٌ، وهي إما فقره، أو قيامه بمصلحةٍ من مصالح المسلمين؛ كالتدريس والإمامة - وما أشبهها -. (¬2) قد سبق لنا بيان أن تكرار الإقرار ليس بشرطٍ في باب حد الزنا، فهذا مثله وأولى. (¬3) قاسوا ذلك على الزنا، وقد سبق أن القول الراجح أنه لا يشترط، وأنه إذا أقر الإنسان على نفسه ثبت عليه الحكم بمقتضى إقراره، ولا يقبل رجوعه ... وعلى هذا نقول: الصحيح أنه لا يشترط لثبوت السرقة تكرار الإقرار، ولا الاستمرار في الإقرار.

- وأن يطالب المسروق منه بماله (¬1). وإذا وجب القطع: قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت. ومن سرق شيئًا من غير حرزٍ - ثمرًا كان أو كثرًا أو غيرهما -: أضعفت عليه القيمة، ولا قطع. ¬

_ (¬1) ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أنه لا تشترط المطالبة، وأنه إذا ثبتت السرقة قطع؛ لأن القطع لحفظ الأموال، وليس حقا خاصا لهذا الرجل ... ؛ بخلاف القصاص؛ فإذا لم يطالب لا يقطع.

باب حد قطاع الطريق

باب حد قطاع الطريق وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء أو البنيان، فيغصبونهم المال مجاهرةً لا سرقةً. فمن منهم قتل مكافيًا أو غيره - كالولد والعبد والذمي -، وأخذ المال: قتل، ثم صلب حتى يشتهر (¬1). وإن قتل ولم يأخذ المال: قتل حتمًا ولم يصلب. وإن جنوا بما يوجب قودًا في الطرف: تحتم استيفاؤه (¬2). وإن أخذ كل واحدٍ من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق ولم يقتلوا: قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى (¬3) في مقامٍ واحدٍ، وحسمتا، ثم خلي. ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف - بل صحيحه -: أنه يقتل قبل الصلب. والقول الثاني: أنه يصلب قبل القتل. وينبغي أن ينظر في هذا إلى المصلحة؛ فإذا رأى القاضي أن المصلحة أن يصلب قبل أن يقتل فعل. (¬2) هذا الذي مشى عليه المؤلف خلاف المذهب؛ فالمذهب أنهم إذا جنوا بما يوجب قودًا في الطرف فإنه لا يتحتم استيفاؤه، ويكون الخيار للمجني عليه. (¬3) اشترط المؤلف - رحمه الله - في القطع أن يأخذوا من المال قدر ما يقطع به السارق، وظاهر كلامه أنهم لو أخذوا دون ذلك فلا قطع، وإنما يحكم لهم بحكم من لم يأخذ شيئًا، وهذا أحد القولين في المسألة. والقول الثاني: أنهم إذا أخذوا المال ولو أقل مما يقطع به السارق فإنه يتحتم قطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ؛ لأن هذا ليس بسرقةٍ بل جنايةٌ أعظم، ولا يقاس الأعظم على الأدنى ... وهذا مذهب مالكٍ، وهو الصحيح، وعموم الأثر الوارد عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - يدل على ذلك.

فإن لم يصيبوا نفسًا ولا مالًا يبلغ نصاب السرقة: نفوا (¬1)؛ بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلدٍ. ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه: سقط عنه ما كان لله من نفيٍ وقطعٍ وصلبٍ وتحتم قتلٍ، وأخذ بما للآدميين من نفسٍ وطرفٍ ومالٍ (¬2)؛ إلا أن يعفى له عنها. ومن صال على نفسه أو حرمته أو ماله آدمي أو بهيمةٌ: فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به. فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك ولا ضمان عليه، فإن قتل فهو شهيدٌ. ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: إن النفي هو الحبس ... ونقول: إذا أمكن اتقاء شرهم بتشريدهم فعلنا اتباعًا لظاهر النص، وإذا لم يمكن فإننا نحبسهم؛ لأن هذا أقرب إلى دفع شرهم. (¬2) كان على المؤلف - رحمه الله - أن يقول: (وتحتم قطعٍ)؛ لأن المؤلف يرى أنهم إذا قطعوا قطعًا يوجب القصاص تحتم استيفاؤه - خلافًا للمذهب -.

ويلزمه الدفع عن نفسه (¬1) وحرمته دون ماله (¬2). ومن دخل منزل رجلٍ متلصصًا: فحكمه كذلك. ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: يستثنى من ذلك حال الفتنة إذا اضطرب الناس وافتتنوا، وصار بعضهم يقتل بعضًا، لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قتل ... ؛ ففي هذه الحال لا يلزمه الدفع ... والصواب: أن الفتنة إذا كان يترتب على المدافع فيها شر أكبر، أو كانت المدافعة لا تجدي لكثرة الغوغاء؛ ففي هذه الحال لا يجب الدفع. (¬2) وقال بعض العلماء: أنه إذا كان المال يسيرًا فإنه لا يجوز أن يدافع عنه مدافعةً تصل إلى القتل ... ولكن هذا القول ضعيفٌ؛ لأن الأحاديث عامةٌ: «من قتل دون ماله فهو شهيدٌ»، وهو عام، وقال الرجل: إن طلب مني مالي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تعطه»، وهذا عمومٌ - أيضًا -. فالصواب: العموم، وليست المسألة من باب المقابلة والمكافأة؛ لأنه لو كانت من باب المقابلة والمكافأة لقلنا: إنه لا يجوز المدافعة إلا إذا كان المال الذي صيل عليه بقدر الدية، وهذا لم يقل به أحدٌ؛ بل المقاتلة من أجل انتهاك حرمة المال.

باب قتال أهل البغي

باب قتال أهل البغي إذا خرج قومٌ لهم شوكةٌ ومنعةٌ على الإمام بتأويلٍ سائغٍ: فهم بغاةٌ. وعليه أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه، فإن ذكروا مظلمةً أزالها، وإن ادعوا شبهةً كشفها، فإن فاءوا وإلا قاتلهم (¬1). وإن اقتتلت طائفتان لعصبيةٍ أو رئاسةٍ: فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدةٍ ما أتلفت على الأخرى. ¬

_ (¬1) فإذا لم يكشف الشبهة ولم يزل المظلمة؛ بأن قالوا: (نريد إزالة المظلمة الفلانية)، قال: (لا أزيلها)، أو: (نريد أن تكشف لنا ما فعلت، ووجه حكمه من الكتاب والسنة)، قال: (لا)؛ ففي هذه الحال إن فاؤوا فالأمر واضحٌ وانتهى الإشكال، لكن إن أبوا، فقالوا: (ما دمت لم تزل المظلمة ولم تكشف الشبهة لنا فإننا سنقاتل) فليس لهم قتاله ... ، إلا أن يرى كفرًا بواحًا عنده فيه من الله برهانٌ. وهل يجوز له قتالهم درءًا للمفسدة أم لا؟ ... أنا أتوقف في هذا.

باب حكم المرتد

باب حكم المرتد وهو الذي يكفر بعد إسلامه. فمن أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، أو صفةً من صفاته (¬1)، أو اتخذ لله صاحبةً أو ولدًا، أو جحد بعض كتبه أو رسله، أو سب الله أو رسوله: فقد كفر. ومن جحد تحريم الزنا، أو شيئًا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها بجهلٍ: عرف ذلك، وإن كان مثله لا يجهله: كفر. ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يكفر مطلقًا لأنه أطلق، لكن تمثيله في الشرح يدل على أن المراد الصفات الذاتية التي لا ينفك عنها؛ كالعلم والقدرة، ومع ذلك ففيه نظرٌ؛ فالجاحد للصفات معناه المنكر لها، والمنكر للصفات يجب أن نقول: إنه ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يجحدها تكذيبًا. الثاني: أن يجحدها تأويلًا. فإذا جحدها تكذيبًا فهو كافرٌ بكل حالٍ ... أما القسم الثاني: وهو جحد التأويل؛ بأن يجحد صفةً من صفاته على سبيل التأويل وليس على سبيل التكذيب ... ؛ فهذا على قسمين: إن كان هذا التأويل له وجهٌ في اللغة العربية فإنه لا يكفر ... ؛ إلا إذا تضمن هذا التأويل نقصًا لله - عز وجل -، فإن تضمن فإنه يكفر ... وإن لم يكن له مساغٌ في اللغة العربية فهو كافرٌ ... ، فصار كلام المؤلف - هنا - ليس على إطلاقه.

فصلٌ فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلفٌ مختارٌ - رجلٌ أو امرأةٌ -: دعي إليه ثلاثة أيامٍ، وضيق عليه، فإن لم يسلم قتل بالسيف (¬1). ولا تقبل توبة من سب الله (¬2) أو رسوله (¬3)، ولا من تكررت ردته (¬4)؛ بل يقتل بكل حالٍ. ¬

_ (¬1) هاتان المسألتان فيهما ثلاث رواياتٍ عن أحمد: الأولى: أنه يقتل بلا تأجيلٍ ولا استتابةٍ ... الثانية: أنه يدعى إلى الإسلام، لكن بدون تأجيلٍ. الثالثة: أن يستتاب مع التأجيل، وهذا هو المشهور من المذهب، ولكن يضيق عليه ... والصحيح من هذه الروايات الثلاث أنه يقتل فورًا، إلا إذا رأى الإمام المصلحة في تأجيله ثلاثة أيامٍ فإنه يستتاب، وأما الآثار الواردة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وغيره في الاستتابة فإنها تحمل على أنهم رأوا في ذلك مصلحةً. (¬2) الصحيح: أن من سب الله - عز وجل - إذا علمنا صدق توبته فإنه تقبل توبته ويحكم بإسلامه. (¬3) نقول كما قلنا في سب الله - عز وجل -: إن القول الراجح في هذه المسألة أننا إذا علمنا صدق توبته وأن توبته حقيقيةٌ ورأيناه يعظم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ويدافع عن شرعه؛ فإننا نقبل توبته ... ، ولكن يجب علينا أن نقتله ... ؛ لأن قتله حق له صلى الله عليه وسلم، والرسول - عليه الصلاة والسلام - لا نعلم هل عفا عن حقه أو لم يعف؛ بخلاف من سب الله - عز وجل - فإن قتله حق لله، والله - تعالى - أعلمنا بأنه يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب، فيسقط - عمن سب الله - القتل. (¬4) الصواب: أن من تكررت ردته فإن توبته تقبل.

وتوبة المرتد وكل كافرٍ: إسلامه؛ بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله (¬1). ومن كان كفره بجحد فرضٍ - ونحوه -: فتوبته مع الشهادتين إقراره بالمجحود به، أو قوله: (أنا بريءٌ من كل دينٍ يخالف الإسلام) (¬2). ¬

_ (¬1) اختلف العلماء: هل توبة المرتد والكافر بقول: (لا إله إلا الله) فقط، ثم يطالب بشهادة أن محمدًا رسول الله، فإن شهد وإلا قتل، أو لا يدخل في الإسلام حتى يشهد الشهادتين ... قال بعض العلماء: إذا كان هذا الإنسان مقرا بأن محمدًا رسول الله، ولكنه مشركٌ؛ فإنه يكفي في توبته أن يشهد أن لا إله إلا الله؛ لأنه يشهد أن محمدًا رسول الله ... وفي الحقيقة أن هذين القولين لا يخرجان عما سبق؛ لأن لازمهما أن هذا الذي أسلم قد أتى بالشهادتين جميعًا. والظاهر لي من الأدلة: أنه إذا شهد أن لا إله إلا الله فقد دخل في الإسلام، ثم يؤمر بشهادة أن محمدًا رسول الله، فإن شهد وإلا فهو مرتد يحكم بردته ويقتل مرتدا، فتكون الأولى هي الأصل، والثانية شرطًا في عصمة دمه وفي صحة الأولى - أيضًا -. (¬2) قوله: «أو قوله: (أنا بريءٌ من كل دينٍ يخالف الإسلام)»: هذه الكلمة من المؤلف فيها نظرٌ ظاهرٌ؛ لأنه قد يكون محكومًا بردته من أجل فعلٍ يعتقد هو أنه من الإسلام وليس من الإسلام في شيءٍ؛ فمثل هذا لا نقبل منه حتى يصرح بأنه رجع عما حكمنا عليه بكفره من أجله.

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة الأصل فيها الحل؛ فيباح كل طاهرٍ لا مضرة فيه من حب وثمرٍ - وغيرهما -، ولا يحل نجسٌ - كالميتة والدم (¬1) -، ولا ما فيه مضرةٌ كالسم (¬2) - ونحوه -. وحيوانات البر مباحةٌ إلا: - الحمر الأهلية. - وما له نابٌ يفترس به - غير الضبع (¬3) -: كالأسد، والنمر، والذئب، والفيل، والفهد، والكلب، والخنزير، وابن آوى، وابن عرسٍ، والسنور، والنمس، والقرد، والدب. - وما له مخلبٌ من الطير يصيد به: كالعقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والباشق، والحدأة، والبومة. - وما يأكل الجيف (¬4): كالنسر، والرخم، واللقلق، والعقعق، والغراب ¬

_ (¬1) ونضيف إليه ثالثًا: الخنزير. (¬2) إذا خلطت بعض الأدوية بأشياء سامةٍ لكن على وجهٍ لا ضرر فيه فإنها تباح. (¬3) كلام المؤلف يدل على أن الضبع من ذوات الناب التي تفترس بنابها، ولكن هذا غير مسلمٍ؛ فإن كثيرًا من ذوي الخبرة يقولون: إن الضبع لا تفترس بنابها، وليست بسبعٍ، ولا تفترس إلا عند الضرورة أو عند العدوان عليها. (¬4) كالجلالة، وهي التي أكثر علفها النجاسة، وفيها للعلماء قولان: الأول: أنها حرامٌ؛ لأنها تغذت بنجسٍ، فأثر في لحمها. الثاني: أنها حلالٌ، وهو مبني على طهارة النجس بالاستحالة؛ قالوا: إن هذه النجاسة التي أكلتها استحالت إلى دمٍ ولحمٍ - وغير ذلك مما ينمو به الجسم -، فيكون طاهرًا، وحينئذٍ يكون ما يأكل الجيف حلالًا. ونظير ذلك من بعض الوجوه: الشجر إذا سمد بالعذرة - أي: بالنجاسة - ... ، فجمهور العلماء على أنه لا يحرم ثمره؛ لأن النجاسة استحالت، إلا إذا ظهرت رائحة النجاسة أو طعم النجاسة في الثمر، فيكون حرامًا. وهذا القول هو الصحيح - بلا شك -؛ أنه لا يحرم ما سمد بالنجس ما لم يتغير.

الأبقع، والغداف - وهو أسود صغيرٌ أغبر -، والغراب الأسود الكبير. - وما يستخبث (¬1): كالقنفذ، والنيص، والفأرة والحية (¬2)، والحشرات كلها، والوطواط. - وما تولد من مأكولٍ وغيره: كالبغل. فصلٌ وما عدا ذلك فحلالٌ: كالخيل، وبهيمة الأنعام، والدجاج، والوحشي من الحمر، والبقر، والضب، والظباء، والنعامة، والأرنب، وسائر الوحش. ويباح حيوان البحر كله؛ إلا الضفدع والتمساح والحية (¬3). ¬

_ (¬1) الصواب: خلافه، وأن ما يستخبث حلالٌ، إلا إذا دخل في أحد الضوابط السابقة فيكون حرامًا. (¬2) هنا قاعدةٌ للحية والفأرة - وشبهها - ينبغي أن نجعلها بدل قاعدة المؤلف (الاستخباث)، وهي: (أن كل ما أمر الشارع بقتله أو نهى عن قتله فهو حرامٌ). (¬3) الصواب: أنه لا يستثنى من ذلك شيءٌ، وأن جميع حيوانات البحر التي لا تعيش إلا في الماء حلالٌ - حيها وميتها -.

ومن اضطر إلى محرمٍ - غير السم -: حل له منه ما يسد رمقه. ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه لدفع بردٍ، أو استسقاء ماءٍ، ونحوه: وجب بذله له مجانًا. ومن مر بثمر بستانٍ في شجرةٍ، أو متساقطٍ عنه، ولا حائط عليه ولا ناظر: فله الأكل منه مجانًا (¬1) من غير حملٍ. وتجب ضيافة المسلم (¬2) المجتاز به في القرى (¬3) يومًا وليلةً. ¬

_ (¬1) ونزيد شرطًا رابعًا للأكل، وهو: أن ينادي ثلاثًا، فإن أجيب استأذن، وإن لم يجب أكل. (¬2) الصحيح أنه يعم المسلم وغير المسلم ... ؛ فإذا نزل بك الذمي وجب عليك أن تكرمه بضيافته. (¬3) [أي]: دون الأمصار ... ، وهذا - أيضًا - خلاف القول الصحيح ... ؛ فلو نزل بك ضيفٌ ولو في الأمصار فالصحيح الوجوب.

باب الذكاة

باب الذكاة لا يباح شيءٌ من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاةٍ (¬1) إلا: الجراد (¬2)، والسمك، وكل ما لا يعيش إلا في الماء. ويشترط للذكاة أربعة شروطٍ: - أهلية المذكي؛ بأن يكون عاقلًا مسلمًا أو كتابيا - ولو مراهقًا (¬3)، أو امرأةً، أو أقلف، أو أعمى -. ولا تباح ذكاة: سكران، ومجنونٍ، ووثني، ومجوسي، ومرتد. الثاني: الآلة؛ فتباح الذكاة بكل محددٍ ولو مغصوبًا من حديدٍ وحجرٍ وقصبٍ ¬

_ (¬1) قوله: (المقدور عليه بغير ذكاةٍ): هذا فيه نظرٌ ... ؛ لأن الذكاة إنهار الدم من بهيمةٍ تحل؛ إما في العنق إن كان مقدورًا عليها، أو في أي محل آخر من بدنه إن كان غير مقدورٍ عليها ... ، وحينئذٍ لا نحتاج إلى تقييد ذلك بقولنا: (المقدور عليه)؛ لأن الذكاة تكون حتى في غير المقدور عليه. (¬2) ولو وجدنا غير الجراد مما أباح الله وليس فيه دمٌ فحكمه حكم الجراد. ويوجد الآن أشياء تطير في المزارع شبيهةٌ بالجراد؛ فهذه - أيضًا - إذا أخذ منها شيءٌ وجمع، وأكل بعد أن يشوى بالنار أو يغلى بالماء صار حلالًا. (¬3) ظاهر كلام الماتن أن المميز - الذي دون المراهقة - لا تحل ذبيحته، ولكن المذهب خلاف ذلك، وأن المميز تحل ذبيحته؛ لأنه عاقلٌ يصح منه القصد.

وغيره، إلا السن (¬1) والظفر. الثالث: قطع الحلقوم والمريء (¬2)، فإن أبان الرأس بالذبح لم يحرم المذبوح. وذكاة ما عجز عنه من الصيد، والنعم المتوحشة، والواقعة في بئرٍ ونحوها: بجرحه في أي موضعٍ كان من بدنه، إلا أن يكون رأسه في الماء ونحوه فلا يباح. الرابع: أن يقول عند الذبح: (باسم الله)، لا يجزيه غيرها (¬3)، فإن تركها سهوًا ¬

_ (¬1) تعليل النبي صلى الله عليه وسلم فيه إشكالٌ بالنسبة لقول المؤلف: [إلا السن]؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «أما السن فعظمٌ»، ولم يقل: (أما السن فسن) ... [ولهذا] قال بعض العلماء - ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -: إن الذكاة لا تصح بجميع العظام ... والراجح: ما اختاره شيخ الإسلام؛ لأن التعليل واضحٌ، والقاعدة الشرعية: أن الحكم يدور مع علته - وجودًا وعدمًا -. (¬2) أما حكم قطع الودجين - على ما ذهب فقهاؤنا - فهو سنةٌ وليس بشرطٍ لحل الذبيحة ... وقيل: إن الشرط قطع الودجين وإن لم يقطع الحلقوم والمريء. ومنهم من قال: لا بد من قطع الأربعة جميعًا: الحلقوم، والمريء، والودجان. ومنهم من قال: لا بد من قطع ثلاثةٍ من أربعةٍ ... والخلاف في هذا طويلٌ متشعبٌ ... ، لكن أقرب الأقوال عندي: أن الشرط هو إنهار الدم فقط، وما عدا ذلك فهو مكملٌ، ولا شك أن الإنسان إذا قطع الأربعة فقد حلت بالإجماع، فإن لم يقطع الودجين ولا المريء ولا الحلقوم فتكون الذبيحة حرامًا بإجماع العلماء. (¬3) الصحيح: أنه يجزئ ... ؛ فلو قال: (باسم الرحمن)، أو (باسم رب العالمين)، أو (باسم الخلاق) - أو ما أشبه ذلك مما يختص بالله فإنه يجزئ -.

أبيحت لا عمدًا (¬1). ويكره: أن يذبح بآلةٍ كالةٍ (¬2)، وأن يحدها والحيوان يبصره، وأن يوجهه إلى غير القبلة (¬3)، وأن يكسر عنقه أو يسلخه قبل أن يبرد (¬4). ¬

_ (¬1) الصواب: ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، و [هو] أن التسمية لا تسقط؛ لا سهوًا ولا جهلًا، كما لا تسقط عمدًا. (¬2) القول الراجح في هذه المسألة: أن الذبح بالآلة الكالة حرامٌ، ولكن لو ذبح بها فالذبيحة حلالٌ. (¬3) لم يذكر الفقهاء - رحمهم الله - دليلًا على ذلك، وغاية ما فيه: ما ذكر عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه حين وجه أضحيته، قال: «بسم الله والله أكبر»؛ فقوله: «حين وجه أضحيته» يعني: وجهها إلى القبلة، وهذا يدل على أن التوجيه سنةٌ، ولا يلزم من ترك السنة الكراهة - كما ذكره أهل العلم - ... ؛ فالقول بالكراهة يحتاج إلى دليلٍ، ولا أعلم للفقهاء - رحمهم الله - في هذه المسألة دليلًا. (¬4) الصحيح: أن كسر العنق والسلخ قبل الموت: حرامٌ؛ لأنه إيلامٌ بلا حاجةٍ.

باب الصيد

باب الصيد لا يحل الصيد المقتول في الاصطياد إلا بأربعة شروطٍ: أحدها: أن يكون الصائد من أهل الذكاة. الثاني: الآلة وهي نوعان: - محددٌ يشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح، وأن يجرح، فإن قتله بثقله لم يبح. - وما ليس بمحددٍ - كالبندق والعصا والشبكة والفخ -: لا يحل ما قتل به. والنوع الثاني: الجارحة؛ فيباح ما قتلته إذا كانت معلمةً. الثالث: إرسال الآلة قاصدًا، فإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه لم يبح، إلا أن يزجره فيزيد في عدوه في طلبه فيحل. الرابع: التسمية (¬1) عند إرسال السهم أو الجارحة، فإن تركها عمدًا أو سهوًا لم يبح، ويسن أن يقول معها: (الله أكبر)، كالذكاة. ¬

_ (¬1) سبق لنا في باب الذكاة أنه لا بد أن نضيف كلمة اسمٍ إلى لفظ الجلالة (الله)، وأنه لو أضافها إلى (الرحمن) أو (العزيز) أو (الجبار) - أو ما أشبه ذلك مما لا يسمى به إلا الله - لم يصح، وذكرنا أن الصحيح جواز ذلك، وأن قوله: (باسم الله)؛ أي: باسم هذا المسمى، فإذا أضيفت كلمة (اسمٍ) إلى ما يختص بالله - عز وجل - فلا فرق بين لفظ الجلالة وغيره.

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان واليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث هي: اليمين بالله، أو صفةٍ من صفاته، أو بالقرآن، أو بالمصحف. والحلف بغير الله محرمٌ، ولا تجب به كفارةٌ. ويشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروطٍ: الأول: أن تكون اليمين منعقدةً، وهي التي قصد عقدها على مستقبلٍ ممكنٍ (¬1). فإن حلف على أمرٍ ماضٍ كاذبًا عالمًا (¬2): فهي الغموس. ولغو اليمين: الذي يجري على لسانه بغير قصدٍ؛ كقوله: (لا والله)، و (بلى والله)، وكذا يمينٌ عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافه (¬3)، فلا كفارة في الجميع. الثاني: أن يحلف مختارًا، فإن حلف مكرهًا لم تنعقد يمينه. ¬

_ (¬1) [أي]: إذا حلف على أمرٍ مستحيلٍ فعلى كلام المؤلف أنها لا تنعقد. والمذهب: إن كان على فعله فهو حانثٌ في الحال وتجب عليه الكفارة، وإن كان على عدمه فهي لغوٌ غير منعقدةٍ؛ لأنه حلف على أمرٍ لا يمكن وجوده. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: ولو كان ناسيًا، وليس كذلك؛ بل إذا كان ناسيًا فهو كالجاهل ... فلا تكون يمينه غموسًا. (¬3) الصحيح: أنها ليست من لغو اليمين، وأنها يمينٌ منعقدةٌ، لكن لا حنث فيها.

الثالث: الحنث في يمينه؛ بأن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله مختارًا ذاكرًا، فإن فعله مكرهًا أو ناسيًا فلا كفارة (¬1). ومن قال في يمينٍ مكفرةٍ: (إن شاء الله): لم يحنث. ويسن الحنث في اليمين إذا كان خيرًا. ومن حرم حلالًا - سوى زوجته (¬2) - من أمةٍ أو طعامٍ أو لباسٍ أو غيره: لم يحرم، وتلزمه كفارة يمينٍ إن فعله. فصلٌ يخير من لزمته كفارة يمينٍ بين: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو عتق رقبةٍ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ متتابعةٍ. ومن لزمته أيمانٌ قبل التكفير موجبها واحدٌ: فعليه كفارةٌ واحدةٌ (¬3). ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف - هنا -: أنه لو حنث جاهلًا فعليه الكفارة ... ، لكن سبق لنا في مسائل متفرقةٍ من أبواب الطلاق أنه إذا كان جاهلًا فلا حنث عليه، حتى على المذهب، وهو الصحيح. (¬2) الصحيح أن تحريم الزوجة كغيرها، وحكمه كحكم اليمين. (¬3) هذه المسألة لها ثلاث حالاتٍ: الأولى: أن تتعدد اليمين، والمحلوف عليه واحدٌ ... ؛ فهذا يجزئه كفارةٌ واحدةٌ - قولًا واحدًا -، ولا إشكال فيه. الثانية: أن تكون اليمين واحدةً، والمحلوف عليه متعددًا ... ؛ فهذا - أيضًا - تجزئه كفارةٌ واحدةٌ - قولًا واحدًا -؛ لأن اليمين واحدةٌ. الثالثة: أن تتعدد الأيمان والمحلوف عليه، وهذا هو محل الخلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: إنه يجزئه كفارةٌ واحدةٌ - وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله -، ومنهم من قال: إنه لا بد لكل يمينٍ من كفارةٍ، وهذا مذهب الجمهور. والظاهر: ما ذهب إليه الجمهور؛ أنه إذا كانت اليمين على أفعالٍ فإن لكل فعلٍ حكمًا ما لم يكن على الصفتين السابقتين.

وإن اختلف موجبها - كظهارٍ ويمينٍ بالله -: لزماه، ولم يتداخلا.

باب جامع الأيمان

باب جامع الأيمان يرجع في الأيمان إلى: نية الحالف إذا احتملها اللفظ، فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها، فإن عدم ذلك رجع إلى التعيين. فإذا حلف: - (لا لبست هذا القميص) فجعله سراويل أو رداءً أو عمامةً ولبسه، - أو (لا كلمت هذا الصبي) فصار شيخًا، أو (زوجة فلانٍ هذه) أو (صديقه فلانًا) أو (مملوكه سعيدًا) فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم، أو (لا أكلت لحم هذا الحمل) فصار كبشًا، أو (هذا الرطب) فصار تمرًا أو دبسًا أو خلا، أو (هذا اللبن) فصار جبنًا أو كشكًا أو نحوه، ثم أكله: حنث في الكل، إلا أن ينوي ما دام على تلك الصفة. فصلٌ فإن عدم ذلك رجع إلى ما يتناوله الاسم، وهو ثلاثةٌ: شرعي، وحقيقي، وعرفي. فالشرعي: ما له موضوعٌ في الشرع، وموضوعٌ في اللغة. فالمطلق ينصرف إلى الموضوع الشرعي الصحيح. فإذا حلف: لا يبيع أو لا ينكح، فعقد عقدًا فاسدًا: لم يحنث. وإن قيد يمينه بما يمنع الصحة - كأن حلف لا يبيع الخمر أو الحر -: حنث

بصورة العقد (¬1). والحقيقي: هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته كاللحم (¬2). فإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل شحمًا أو مخا أو كبدًا - أو نحوه -: لم يحنث (¬3). وإن حلف: لا يأكل أدمًا: حنث بأكل البيض والتمر والملح والخل والزيتون - ونحوه -، وكل ما يصطبغ به. و: لا يلبس شيئًا، فلبس ثوبًا أو درعًا أو جوشنًا أو نعلًا: حنث. وإن حلف: لا يكلم إنسانًا: حنث بكلام كل إنسانٍ. و: لا يفعل شيئًا، فوكل من فعله: حنث، إلا أن ينوي مباشرته بنفسه. والعرفي: ما اشتهر مجازه فغلب الحقيقة؛ كالراوية والغائط - ونحوهما -، ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: إنه يحنث إذا باع ما يحرم بيعه ولو قيده بما يمنع الصحة؛ لوجود التناقض ... فمن نظر إلى الصورة حنثه، ومن نظر إلى الحقيقة لم يحنثه، والمسألة فيها قولان للعلماء، وعلى المذهب: إنه يحنث بصورة العقد. (¬2) يجب أن نعرف أن العلماء ذكروا أن من العيب التعريف بالعدم أو بالنفي ... ولهذا التعريف الصحيح للحقيقة أن يقال: هو اللفظ المستعمل في حقيقته اللغوية، أو إن شئت فقل: اللفظ الذي استعمل فيما وضع له لغةً. (¬3) لكن لو علم أن غرضه من ذلك تجنب الدسم ... ، فأكل هذه الأشياء فإنه يحنث؛ لأن النية مقدمةٌ.

فتتعلق اليمين بالعرف. فإذا حلف على وطء زوجته أو وطء دارٍ: تعلقت يمينه بجماعها، وبدخول الدار. وإن حلف: لا يأكل شيئًا، فأكله مستهلكًا في غيره؛ كمن حلف لا يأكل سمنًا فأكل خبيصًا فيه سمنٌ لا يظهر فيه طعمه، أو لا يأكل بيضًا فأكل ناطفًا: لم يحنث، وإن ظهر طعم شيءٍ من المحلوف عليه: حنث. فصلٌ وإن حلف: لا يفعل شيئًا، ككلام زيدٍ، ودخول دارٍ - ونحوه -، ففعله مكرهًا: لم يحنث. وإن حلف على نفسه أو غيره ممن يقصد منعه - كالزوجة والولد -، ألا يفعل شيئًا، ففعله ناسيًا أو جاهلًا: حنث في الطلاق والعتاق فقط (¬1). وعلى من لا يمتنع بيمينه من سلطانٍ وغيره ففعله: حنث مطلقًا (¬2). وإن فعل هو أو غيره ممن قصد منعه بعض ما حلف على كله: لم يحنث، ما لم تكن له نيةٌ. ¬

_ (¬1) الصواب: أنه لا حنث عليه؛ لا في الطلاق، ولا في العتق، ولا في النذر، ولا في اليمين. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أنه يحنث مطلقًا؛ سواءٌ قصد الإلزام أو قصد الإكرام ... واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه إذا قصد الإكرام فإنه لا يحنث بالمخالفة.

باب النذر

باب النذر لا يصح إلا من بالغٍ عاقلٍ - ولو كافرًا -. والصحيح منه خمسة أقسامٍ. - المطلق: مثل أن يقول: (لله علي نذرٌ)، ولم يسم شيئًا: فيلزمه كفارة يمينٍ. - الثاني: نذر اللجاج والغضب، وهو تعليق نذره بشرطٍ يقصد المنع منه، أو الحمل عليه، أو التصديق أو التكذيب: فيخير بين فعله وكفارة يمينٍ. - الثالث: نذر المباح - كلبس ثوبه، وركوب دابته -: فحكمه كالثاني. وإن نذر مكروهًا من طلاقٍ أو غيره: استحب أن يكفر ولا يفعله. - الرابع: نذر المعصية - كشرب خمرٍ، وصوم يوم الحيض والنحر -: فلا يجوز الوفاء به، ويكفر. - الخامس: نذر التبرر مطلقًا أو معلقًا؛ كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوه؛ كقوله: (إن شفى الله مريضي أو سلم مالي الغائب فلله علي كذا)، فوجد الشرط: لزمه الوفاء به، إلا إذا نذر الصدقة بماله كله، أو بمسمى منه يزيد على ثلث الكل فإنه يجزئه قدر الثلث (¬1)، وفيما عداها يلزمه المسمى. ¬

_ (¬1) ذهب بعض العلماء إلى أنه يجب عليه أن يتصدق بجميع ماله ولا شك أن الإنسان إذا أوفى بنذره وتصدق بجميع ماله - مع حسن ظنه بربه وصدق اعتماده عليه، وأن له جهاتٍ يمكن أن يقوم بواجب كفايته وكفاية عائلته - ... [هو] أبرأ لذمته وأحوط، وأما الاقتصار على الثلث مطلقًا ففي النفس منه شيءٌ ... [أما] أن ينذر الصدقة بشيءٍ معينٍ يزيد على الثلث؛ فالمذهب يلزمه أن يتصدق به ولو زاد على الثلث، والذي مشى عليه المؤلف أنه لا يلزمه أكثر من الثلث.

ومن نذر صوم شهرٍ: لزمه التتابع (¬1)، وإن نذر أيامًا معدودةً: لم يلزمه إلا بشرطٍ أو نيةٍ. ¬

_ (¬1) نذر صوم الشهر على قسمين: الأول: أن ينذر شهرًا بعينه - كربيعٍ الأول مثلًا -؛ فهذا يلزمه التتابع ... الثاني: أن ينذر شهرًا مطلقًا؛ فيقول: (لله علي نذرٌ أن أصوم شهرًا) ... والصحيح في القسم الثاني أنه لا يلزمه التتابع.

كتاب القضاء

كتاب القضاء وهو فرض كفايةٍ. يلزم الإمام أن ينصب في كل إقليمٍ قاضيًا، ويختار أفضل من يجده علمًا وورعًا، ويأمره بتقوى الله، وأن يتحرى العدل، ويجتهد في إقامته، فيقول: (وليتك الحكم)، أو (قلدتك) - ونحوه -، ويكاتبه في البعد. وتفيد ولاية الحكم العامة: الفصل بين الخصوم، وأخذ الحق لبعضهم من بعضٍ، والنظر في أموال غير المرشدين، والحجر على من يستوجبه لسفهٍ أو فلسٍ، والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها، وتنفيذ الوصايا، وتزويج من لا ولي لها، وإقامة الحدود، وإمامة الجمعة والعيد، والنظر في مصالح عمله بكف الأذى عن الطرقات وأفنيتها - ونحوه - (¬1). ويجوز أن يولى عموم النظر في عموم العمل، وأن يولى خاصا فيهما أو في أحدهما. ويشترط في القاضي عشر صفاتٍ: - كونه بالغًا. ¬

_ (¬1) هذه الأمور العشرة التي ذكرها المؤلف ليست أمورًا منصوصًا عليها من الشرع بحيث لا نتجاوزها ولا نقصر عنها، لكنها أمورٌ عرفيةٌ ... ، فإذا تغيرت الأحوال وصار مقتضى أو موجب عقد القضاء أن القاضي لا يلزم أن يقوم بهذه الأعمال كلها؛ فعلى حسب العرف.

- عاقلًا. - ذكرًا. - حرا (¬1). - مسلمًا. - عدلًا (¬2). - سميعًا (¬3). - بصيرًا (¬4). ¬

_ (¬1) ليس هناك دليلٌ من الكتاب ولا من السنة يمنع أن يكون الرقيق قاضيًا، ولهذا فالقول الراجح: أن الرقيق يصح أن يكون قاضيًا إذا توفرت فيه شروط القضاء، وهي القوة والأمانة، فإذا كان عنده علمٌ وعنده أمانةٌ وصدقٌ، فما المانع من أن يكون قاضيًا؟! أما التعليل بأنه مشغولٌ بخدمة سيده فإننا نقول: إذا أذن سيده أن يكون قاضيًا فأين الشغل؟! نعم؛ لو أبى سيده أن يكون قاضيًا فله الحق، وحينئذٍ يمتنع أن يولى الرقيق، لا من جهة أنه غير صالحٍ، لكن من جهة أنه مملوكٌ لغيره. (¬2) لكن يجب أن نعلم أن هذا الشرط يطبق - أو يعمل به - بحسب الإمكان؛ فإذا لم نجد إلا حاكمًا فاسقًا فإننا نوليه، ولكن نختار أخف الفاسقين فسقًا ... ، وإلا فلو نظرنا لمجتمعنا اليوم لم نجد أحدًا يسلم من خصلةٍ يفسق بها - إلا من شاء الله -. (¬3) إذا أمكن أن تصل حجة الخصمين إلى هذا القاضي بأي وسيلةٍ؛ زالت العلة، وإذا زالت العلة زال الحكم. (¬4) الصحيح: أنه لا يشترط أن يكون بصيرًا، وأن الأعمى يصح أن يكون قاضيًا.

- متكلمًا (¬1). - مجتهدًا - ولو في مذهبه (¬2) -. وإذا حكم اثنان بينهما رجلًا (¬3) يصلح للقضاء (¬4): نفذ حكمه في المال والحدود واللعان - وغيرها -. ¬

_ (¬1) إن اشتراط كون القاضي متكلمًا فيه نظرٌ، وأنه يجوز أن يولى الأخرس بشرط أن تكون إشارته معلومةً، أو كتابته مقروءةً، فإذا حصل هذا أو هذا؛ صح أن يكون قاضيًا. (¬2) هذا الشرط الأخير - (الاجتهاد ولو في المذهب) - نقول: هو شرطٌ لكن بحسب الإمكان، فإذا لم نجد إلا قاضيًا مقلدًا فإنه خيرٌ من العامي المحض؛ لأن العامي المحض ما يستفيد شيئًا ولا يفيد، والمقلد معتمدٌ على بعض كتب المذهب الذي يقلده، فعنده شيءٌ من العلم، ولكن يقدم المجتهد في النصوص على المجتهد في أقوال الأئمة. (¬3) فلو حكمت امرأةٌ أو حكمت امرأتان امرأةً فإن ذلك لا بأس به، وهو جائزٌ، فلو فرض أن امرأةً عندها علمٌ وأمانةٌ وثقةٌ ومعرفةٌ، فتحاكم إليها رجلان فحكمت بينهما فلا بأس، ولا مانع؛ لأن هذه الولاية ليست ولايةً عامةً ... ، وهذا التحكيم يشبه المصالحة من بعض الوجوه. (¬4) هذا الشرط الذي اشترطه المؤلف فيه نظرٌ ظاهرٌ ... ، ولهذا نص على هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وقال: إنه لا يشترط في المحكم ما يشترط في القاضي.

باب آداب القاضي

باب آداب القاضي ينبغي أن يكون: قويا من غير عنفٍ، لينًا من غير ضعفٍ، حليمًا ذا أناةٍ وفطنةٍ. وليكن مجلسه في وسط البلد فسيحًا، ويعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه (¬1) ومجلسه، ودخولهما عليه. وينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب، ويشاورهم فيما يشكل عليه (¬2). ويحرم القضاء وهو: غضبان كثيرًا، أو حاقنٌ، أو في شدة جوعٍ، أو عطشٍ، أو هم، أو مللٍ، أو كسلٍ، أو نعاسٍ، أو بردٍ مؤلمٍ، أو حر مزعجٍ. وإن خالف فأصاب الحق: نفذ. ويحرم قبول رشوةٍ وكذا هديةٍ، إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته إذا لم تكن له حكومةٌ (¬3). ويستحب أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود، ولا ينفذ حكمه لنفسه (¬4)، ولا لمن ¬

_ (¬1) لكن إذا أساء أحد الخصمين الأدب في مجلس الحكم فللقاضي أن يوبخه. (¬2) الصحيح: أن هذا ليس بمستحب؛ بل تركه هو المستحب. (¬3) الصحيح: أن الهدية إذا لم تكن ممن له حكومةٌ وإن لم يهاده من قبل فلا بأس بها. (¬4) إذا رضي [الخصم] بذلك فلا حرج.

لا تقبل شهادته له. ومن ادعى على غير برزةٍ: لم تحضر، وأمرت بالتوكيل، وإن لزمها يمينٌ أرسل من يحلفها، وكذا المريض (¬1). ¬

_ (¬1) الذي يستطيع مع [المرض] أن يحضر إلى مجلس الحكم؛ فيلزمه الحضور.

باب طريق الحكم وصفته

باب طريق الحكم وصفته إذا حضر إليه خصمان قال: (أيكما المدعي؟)، فإن سكت حتى يبدأ جاز، فمن سبق بالدعوى قدمه، فإن أقر له حكم له عليه. وإن أنكر قال للمدعي: (إن كان لك بينةٌ فأحضرها إن شئت)، فإن أحضرها سمعها (¬1) وحكم بها، ولا يحكم بعلمه (¬2). وإن قال المدعي: (ما لي بينةٌ)، أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه على صفة جوابه، فإن سأل إحلافه أحلفه وخلى سبيله، ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي (¬3)، وإن نكل قضى عليه، فيقول: (إن حلفت وإلا قضيت عليك)، فإن لم ¬

_ (¬1) ظاهره: أنه يسمعها مطلقًا، ولكنه مقيدٌ بما إذا كانت البينة ذات عدلٍ، فإن كان القاضي يعلم أن هذه البينة ليست ذات عدلٍ فإنه لا يسمعها أصلًا، وإذا لم يسمعها لم يحكم بها. (¬2) ظاهر كلام المؤلف: أن القاضي لا يحكم بعلمه مطلقًا، ولكن هنا ثلاث مسائل استثناها العلماء ... : الأولى: عدالة الشهود وجرح الشهود ... الثانية: ما علمه في مجلس الحكم فإنه يحكم به ... الثالثة: إذا كان الأمر مشتهرًا واضحا بينًا؛ يستوي في علمه الخاص والعام، القاضي وغيره. (¬3) لكن إذا جرى عرف القضاة بأنه لا يحتاج إلى مسألة المدعي وحلفوه بدون مسألته فإن الطلب العرفي كالطلب اللفظي.

يحلف قضى عليه (¬1)، وإن حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينةً حكم بها ولم تكن اليمين مزيلةً للحق. فصلٌ ولا تصح الدعوى إلا محررةً (¬2)، معلومة المدعى به؛ إلا ما نصححه مجهولًا ¬

_ (¬1) ظاهر كلام المؤلف: أن اليمين لا ترد على المدعي؛ بل يحكم للمدعي بمجرد نكول المدعى عليه ... وهذه المسألة فيها أربعة أقوالٍ: الأول: أنه لا ترد مطلقًا، وهو المذهب. الثاني: أنها ترد مطلقًا، وهو قولٌ آخر في المذهب. الثالث: أنها ترد على من كان محيطًا بالشيء دون من لم يكن محيطًا به، وهذا اختيار شيخ الإسلام. الرابع: وهو احتمال أن يقال: يرجع هذا إلى اجتهاد القاضي، فإن رأى اليمين على المدعي فعل، وإن لم ير لم يفعل ... وهذا القول [الرابع] عندي هو الأرجح، وإن كنت لم أطلع على قائلٍ به، ولكن ما دام قولًا مفصلًا يأخذ بقول من يقول بالرد من وجهٍ، وبقول من لا يقول بالرد من وجهٍ؛ فيكون بعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء. وهو لا ينافي قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -؛ لأن حقيقة الأمر أنه إذا كان المدعي يحيط بالشيء دون المدعى عليه فإنه يترجح أن نرد اليمين عليه؛ لأن هذا المنكر إنما امتنع من اليمين تورعًا، وهذا يمكنه الإحاطة، فلماذا لا نرده عليه؟!. (¬2) وقيل: تصح الدعوى غير محررةٍ، ويسمعها القاضي، ويطلب من المدعي تحريرها ... ، وهذا أصح.

كالوصية وبعبدٍ من عبيده مهرًا - ونحوه -. وإن ادعى عقد نكاحٍ أو بيعٍ - أو غيرهما -: فلا بد من ذكر شروطه (¬1). وإن ادعت امرأةٌ نكاح رجلٍ لطلب نفقةٍ أو مهرٍ - أو نحوهما -: سمعت دعواها، وإن لم تدع سوى النكاح لم تقبل (¬2). وإن ادعى الإرث: ذكر سببه. وتعتبر عدالة البينة ظاهرًا وباطنًا (¬3). ومن جهلت عدالته سئل عنه، وإن علم عدالته عمل بها، وإن جرح الخصم ¬

_ (¬1) الصحيح: أنه ليس بشرطٍ، وأنها تصح الدعوى بالعقد بدون ذكر الشروط. (¬2) لكن لو طلبت أن يلزم بالطلاق فلها ذلك من أجل أن تتخلص من هذا الأمر، وللقاضي في مثل هذا إذا علم من قرائن الأحوال أن المرأة كاذبةٌ أن يصرف النظر عن هذه الدعوى. (¬3) ولشيخ الإسلام - رحمه الله - رأيٌ آخر في الموضوع؛ يقول: إن العدالة الشرعية التي يشترط فيها فعل الطاعات وترك المحرمات ليست شرطًا في الشهود؛ بل من رضيه الناس في الشهادة فهو مقبول الشهادة، ويفرق بين التحمل والأداء؛ فعند التحمل: لا نشهد إلا من هو عدلٌ شرعًا وعرفًا حتى لا نقع في ورطةٍ فيما بعد، وعند الأداء: نقبل من يرضاه الناس وإن لم يكن عدلًا في دينه. فعلى رأي شيخ الإسلام: تقبل شهادة الرجل المعروف بالغيبة ... ، وحالق اللحية ... ، ومن يأكل بالسوق في بلدٍ لم تجر العادة فيه بالأكل في السوق. والحاصل: أن العدالة معتبرةٌ ظاهرًا وباطنًا - على المذهب - إلا في مسائل محدودةٍ كعقد النكاح والأذان، وعلى القول الثاني: العدالة معتبرةٌ ظاهرًا فقط إذا لم يكن متهمًا في ريبةٍ؛ فلا تقبل شهادته حتى يتبين زوال هذا الاتهام.

الشهود كلف البينة به (¬1) وأنظر له ثلاثًا إن طلبه (¬2)، وللمدعي ملازمته (¬3)، فإن لم يأت ببينةٍ حكم عليه، وإن جهل حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم، ويكفي فيها عدلان يشهدان بعدالته. ولا يقبل في الترجمة والتزكية والجرح والتعريف والرسالة (¬4) إلا قول عدلين. ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق (¬5)، وإن ادعى على حاضرٍ بالبلد غائبٍ عن مجلس الحكم، وأتى ببينةٍ: لم تسمع الدعوى ولا البينة (¬6). ¬

_ (¬1) إما أن يشهد عن رؤيةٍ أو سماعٍ أو مباشرةٍ أو عن استفاضةٍ. (¬2) إلا إذا رضي خصمه؛ فالحق له. (¬3) الملازمة - في الحقيقة - صعبةٌ جدا إذا كان الحق يسيرًا؛ فقد لا يلازمه، لكن إذا كان الشيء كبيرًا فإنه يلازمه؛ إما بنفسه وإما بمن يقيمه مقام نفسه. (¬4) هذه خمسة أشياء ... ، والذي اختاره شيخ الإسلام أنه يكفي فيها واحدٌ؛ لأن المقصود فيها البيان والتعريف؛ فهي خبرٌ وليست بشهادةٍ، ولهذا تصح حتى بالكتابة. (¬5) في المسألة خلافٌ ... ، والحقيقة: أن القولين كليهما له وجهة نظرٍ، والذي أرى أن يرجع إلى رأي الحاكم في هذه المسألة؛ فقد يجد الحاكم من القرائن ما يقتضي الحكم على الغائب. (¬6) إلا إذا كان مستترًا ومختفيًا ... ؛ فالمستتر في حكم الغائب؛ فتسمع الدعوى والبينة ويحكم عليه.

باب كتاب القاضي إلى القاضي

باب كتاب القاضي إلى القاضي يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق؛ حتى القذف، لا في حدود الله - كحد الزنا ونحوه - (¬1). ويقبل فيما حكم به لينفذه وإن كان في بلدٍ واحدٍ، ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به؛ إلا أن يكون بينهما مسافة قصرٍ (¬2). ويجوز أن يكتب إلى قاضٍ معينٍ، وإلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين، ولا يقبل إلا أن يشهد به القاضي الكاتب شاهدين (¬3)، فيقرؤه عليهما، ثم يقول: (اشهدا أن هذا كتابي إلى فلانٍ ابن فلانٍ) ثم يدفعه إليهما. ¬

_ (¬1) الصواب: ما ذهب إليه شيخ الإسلام؛ أن كتاب القاضي إلى القاضي مقبولٌ في كل ما ينفذ فيه حكم القاضي من الحقوق التي لله، والتي لعباد الله. (¬2) قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: يجوز أن يكتب فيما ثبت عنده ليحكم به وإن كانا في بلدٍ واحدٍ ... وهذا هو الصحيح، وأنه لا فرق بين الصورتين، وأن كتابة القاضي إلى القاضي جائزةٌ وإن كانا في بلدٍ واحدٍ مطلقًا. (¬3) [وعلى] قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: أنه يكفي إرسال واحدٍ ... وهذه الأمور التي ذكرها الفقهاء - رحمهم الله - الظاهر أنه عفا عليها الدهر، وأصبحت الكتب ترسل بطريق البريد المسجل تسجيلًا رسميا بعددٍ وتاريخٍ، وهذا من أحفظ ما يكون، وأسلم من الضياع، وأسلم من التعديل أو التبديل، وأسرع.

باب القسمة

باب القسمة لا تجوز قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلا بضررٍ أو رد عوضٍ إلا برضا الشركاء - كالدور الصغار، والحمام والطاحون الصغيرين، والأرض التي لا تتعدل بأجزاءٍ ولا قيمةٍ كبناءٍ أو بئرٍ في بعضها -، فهذه القسمة في حكم البيع، ولا يجبر من امتنع من قسمتها. وأما ما لا ضرر ولا رد عوضٍ في قسمته - كالقرية والبستان والدار الكبيرة والأرض والدكاكين الواسعة، والمكيل والموزون من جنسٍ واحدٍ كالأدهان والألبان ونحوها -: إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها، وهذه القسمة إفرازٌ لا بيعٌ. ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم (¬1) وبقاسمٍ ينصبونه، أو يسألوا الحاكم نصبه وأجرته على قدر الأملاك (¬2)، فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة، وكيف اقترعوا جاز. ¬

_ (¬1) لكن بشرط أن يكون لديهم معرفةٌ بالقسمة لتخرج عن شبه القمار. (¬2) [القول الثاني]: على قدر الملاك ... والقول الثالث: على الشرط، وبدون الشرط على قدر الأملاك، فإذا قال أحدهما للآخر: (الأجرة أنصافٌ لأننا اثنان) فرضي بذلك جاز، وإلا فعلى قدر الأملاك، وهذا القول أصح.

باب الدعاوى والبينات

باب الدعاوى والبينات المدعي: من إذا سكت ترك، والمدعى عليه: من إذا سكت لم يترك (¬1). ولا تصح الدعوى والإنكار إلا من جائز التصرف. وإذا تداعيا عينًا بيد أحدهما فهي له مع يمينه، إلا أن تكون له بينةٌ فلا يحلف. وإن أقام كل واحدٍ بينةً أنها له: قضي للخارج ببينته، ولغت بينة الداخل (¬2). ¬

_ (¬1) قال بعضهم: المدعي من يضيف الشيء إلى نفسه، والمدعى عليه من ينكره؛ سواءٌ ترك أم لم يترك، فإذا أضفت شيئًا لنفسك على غيرك وأنكر فأنت المدعي وهو المدعى عليه، وهذا هو الذي يوافق الحديث ... ، وعليه فيكون هذا التعريف أقرب من تعريف المؤلف. (¬2) قال بعض العلماء: بل تكون للداخل مع يمينه بناءً على أن البينتين تعارضتا، وليست إحداهما أولى من الأخرى ... ، ويبقى اليمين على من أنكر، فيحلف المدعى عليه بأنه له ولم ينتقل ملكه عنها وتكون له ... وهذا القول عليه كثيرٌ من أهل العلم، وهو أقرب في النظر من الأول.

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات تحمل الشهادة في غير حق الله فرض كفايةٍ (¬1)، وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه، وأداؤها فرض عينٍ على من تحملها متى دعي إليه وقدر بلا ضررٍ في بدنه أو عرضه (¬2) أو ماله أو أهله، وكذا في التحمل. ولا يحل كتمانها (¬3)، ولا أن يشهد إلا بما يعلمه برؤيةٍ أو سماعٍ (¬4) أو باستفاضةٍ فيما يتعذر علمه بدونها؛ كنسبٍ، وموتٍ، وملكٍ مطلقٍ، ونكاحٍ، ووقفٍ (¬5) - ونحوها -. ¬

_ (¬1) لكن لو فرض أن امتناعك يتضمن ضررًا على هذا الذي دعاك فربما نقول: يجب؛ دفعًا للضرر، أما إذا لم يكن ضررٌ فإن تحملها في حق الله ليس بواجبٍ. (¬2) العرض فيه تفصيلٌ: إذا كان الضرر محققًا وكبيرًا فهذا قد يسقط الواجب من أداء الشهادة أو تحملها، وإذا كان الضرر ليس كبيرًا أو قد لا يوجد ضررٌ أبدًا ... فإن ذلك لا يمنع من وجوب الشهادة تحملًا أو أداءً. (¬3) ويشترط - أيضًا - شرطٌ لم يذكره المؤلف، وهو أن تكون الشهادة مقبولةً لدى الحاكم، فإن لم تكن مقبولةً لم يلزمه أن يشهد - لا تحملًا ولا أداءً -. (¬4) إنما خص [المؤلف] هذين النوعين من الحواس لأن الغالب هو هذا، وإلا فيجوز أن يشهد بما يعلمه عن طريق الشم ... أو بالذوق ... أو باللمس. (¬5) الوقف نوعان: الأول: وقفٌ خاص، وهذا لا نشهد عليه بالاستفاضة ... الثاني: وقفٌ مطلقٌ ... ؛ فهذا الوقف يشهد الإنسان فيه بالاستفاضة.

ومن شهد بنكاحٍ - أو غيره من العقود -: فلا بد من ذكر شروطه (¬1). وإن شهد برضاعٍ (¬2) أو سرقةٍ أو شربٍ (¬3) أو قذفٍ فإنه يصفه. ويصف الزنا بذكر: الزمان، والمكان، والمزني بها (¬4). ويذكر ما يعتبر للحكم، ويختلف به في الكل (¬5). فصلٌ وشروط من تقبل شهادته ستةٌ: ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: إنه لا يشترط ذكر الشروط، ولكن للمدعى عليه أن يبين إن كان هناك فوات شرطٍ ... وهذا القول هو الراجح. (¬2) إذا علمنا - أو غلب على ظننا - أن هذه المرأة لا تعرف شروط الرضاع المحرم فلا بد من الاستفصال. (¬3) الصواب: أنه يكفي أن يقول: أشهد أنه شرب الخمر؛ لأن العقوبة مرتبةٌ على مجرد شرب الخمر. (¬4) قال بعض أهل العلم: إن الزنا فاحشةٌ يعاقب عليه بالحد الشرعي، ولا ضرورة إلى ذكر المزني بها؛ فمتى ثبت الزنا فقد ثبتت الفاحشة، وعلى هذا فلا يشترط ذكر المزني بها ... وهذا القول أرجح. (¬5) كل هذا ذكره العلماء - رحمهم الله - تحريًا للشهادة، ولكن سبق لنا أن الأصل في الأشياء الواقعة من أهلها الصحة، فيكتفى فيها بالشهادة على الوقوع، ثم إن ادعي فقد شرطٍ أو وجود مانعٍ فحينئذٍ ينظر في القضية من جديدٍ.

- البلوغ؛ فلا تقبل شهادة الصبيان (¬1). - الثاني: العقل؛ فلا تقبل شهادة مجنونٍ ولا معتوهٍ، وتقبل ممن يخنق أحيانًا في حال إفاقته. - الثالث: الكلام؛ فلا تقبل شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته (¬2)، إلا إذا أداها بخطه. - الرابع: الإسلام (¬3). - الخامس: الحفظ. - السادس: العدالة، ويعتبر لها شيئان: الصلاح في الدين - وهو أداء الفرائض بسننها الراتبة -، واجتناب المحارم - بأن لا يأتي كبيرةً، ولا يدمن على صغيرةٍ -، فلا ¬

_ (¬1) الأصل أن شهادة الصبيان فيما لا يطلع عليها إلا الصبيان غالبًا مقبولةٌ ما لم يتفرقوا، فإن تفرقوا كان ذلك محل نظرٍ؛ قد تقوم القرينة بصدق شهادتهم، وقد تقوم القرينة بعدم صدق الشهادة، وقد تكون الحال احتمالًا بدون ترجيحٍ. (¬2) القول الراجح المتعين: أن شهادة الأخرس تقبل إذا فهمت إشارته. (¬3) لو جاءت شهادة الكافر بواسطة التصوير؛ ككافرٍ معه (كاميرا) وصور المشهد - وأنا عندي أن التصوير في الواقع عرضٌ لصورة الحال -، فلو أعطانا الصورة ولم يتكلم؛ فكأنه رفع لنا القضية برمتها؛ يعني: رفع لنا صورة الواقع؛ فهنا لا نعتمد على خبره؛ بل نعتمد على الصورة التي أمامنا ... إذن شهادة الكافر إذا كانت مستندةً على مجرد خبره فهي غير مقبولةٍ - لا شك - وليس مؤتمنًا، لكن إذا كان يصور لنا الواقع صورةً لا ارتياب فيها فنحن لا نقبل خبره هو، لكن نقبل الذي أمامنا.

تقبل شهادة فاسقٍ (¬1). الثاني: استعمال المروءة، وهو فعل ما يجمله ويزينه، واجتناب ما يدنسه ويشينه. ومتى زالت الموانع، فبلغ الصبي، وعقل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق: قبلت شهادتهم. ¬

_ (¬1) [أما مسألة العدالة في هذا الباب]؛ فمتى كان ذا عدلٍ في الشهادة فإنه يقبل ... أما بالنسبة للفاسق؛ فالفاسق لم يأمر الله برد خبره، لكن قال: {فَتَبَيَّنُوا}، فإذا شهد الفاسق بما دلت القرينة على صدقه فقد تبينا وتبين لنا أنه صادقٌ، وإذا شهد فاسقان يقوى خبرهما إذا لم يكن بينهما مواطأةٌ ... أما العدالة في الولاية فهي شيءٌ آخر ... ولا تشترط العدالة ظاهرًا وباطنًا في جميع المواضع؛ يعني أن في بعضها تشترط العدالة ظاهرًا فقط؛ كولاية النكاح والشهادة به، والأذان، والشهادة بثبوت رمضان وغير ذلك من المواضع التي قد تبلغ سبع أو ثماني صورٍ يكتفى فيها بالعدالة الظاهرة فقط.

باب موانع الشهادة وعدد الشهود

باب موانع الشهادة وعدد الشهود لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعضٍ (¬1)، ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه (¬2) - وتقبل عليهم -، ولا من يجر إلى نفسه نفعًا أو يدفع عنها ضررًا، ولا عدو على عدوه (¬3) - كمن شهد على من قذفه، أو قطع الطريق عليه -. ومن سره مساءة شخصٍ، أو غمه فرحه فهو عدوه (¬4). ¬

_ (¬1) شهادة الأصول للفروع وبالعكس - على القول الراجح -: أنه إذا صار الأصل أو الفرع مبرزًا في العدالة لا تلحقه تهمةٌ فإن الواجب قبول شهادته إذا تمت الشروط لأنه لا يوجد إلا التعليل، والتعليل إذا انتفى انتفى الحكم، ولا يوجد دليلٌ على رد الشهادة في عمودي النسب مطلقًا. (¬2) نقول في هذه المسألة كما قلنا في المسألة الأولى - بل أولى -: إنه إذا كان الزوج أو الزوجة مبرزًا في العدالة فإن الشهادة تقبل. (¬3) نرجع إلى ما قلنا في الأصول والفروع، وهو: إذا كان هذا العدو مبرزًا في العدالة، لا يمكن أن يشهد على أي إنسانٍ إلا بحق حتى ولو كان عدوه فإننا نقبل شهادته ... ثم اعلم أن هذا الباب مستثنًى من عموماتٍ بعللٍ لا بمسموعاتٍ، وهذه العلل قد تقوى على تخصيص العموم، وقد تضعف، وقد تتوسط؛ فهي مع قوة التخصيص مخصصةٌ، ومع ضعف التخصيص لا تخصص قطعًا، ومع التساوي محل نظرٍ، والقاضي في القضية المعينة يمكنه أن يحكم بقبول الشهادة أو ردها بهذه الأمور. (¬4) هذه العبارة تعتبر ضابطًا في تعريف العداوة، لكن بشرط أن يكون هذا الشيء لشخصٍ معينٍ إذا أتاه ما يسره ساء الآخر، وإذا فرح فإنه يغتم، وليس المراد إذا كان هذا عادة الإنسان مع جميع الناس؛ لأنه لو كان ذلك لكان الحاسد لا تقبل شهادته ... على كل حالٍ: هذه المسألة - في الحقيقة - لو أنها وكلت إلى القضاة وقيل: إن الحاكم بإمكانه أن يعرف الأمور بالقرائن لكان له وجهٌ؛ لأن الضابط - هنا - مشكلٌ.

فصلٌ ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعةٌ، ويكفي على من أتى بهيمةً رجلان، ويقبل في بقية الحدود، والقصاص، وما ليس بعقوبةٍ ولا مالٍ ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالبًا كنكاحٍ وطلاقٍ ورجعةٍ (¬1) وخلعٍ ونسبٍ وولاءٍ وإيصاءٍ إليه: يقبل فيه رجلان. ويقبل في المال وما يقصد به - كالبيع والأجل والخيار فيه ونحوه -: رجلان، أو رجلٌ وامرأتان، أو رجلٌ ويمين المدعي (¬2). ¬

_ (¬1) بعض أهل العلم يقول: إن الطلاق والرجعة مما يطلع عليه النساء غالبًا. (¬2) لو أتي بأربع نساءٍ فإنه لا يقبل - على المشهور من المذهب -، ولو أتي بامرأتين ويمينٍ فإنه لا يقبل، ولو أتي بامرأةٍ ويمينٍ فمن باب أولى ألا يقبل ... والقول الصحيح [في شهادة المرأة]: أن المرأتين تقومان مقام الرجل مطلقًا، إلا في الحدود ... ؛ فالمال يثبت برجلين، وأربع نساءٍ، ورجلٍ وامرأتين، ورجلٍ ويمين المدعي، وامرأتين ويمين المدعي. واختار شيخ الإسلام - أيضًا -: وامرأةٍ ويمين المدعي، فقال: إن المرأة إذا كانت ذاكرةً للشهادة ومتيقنةً فالعلة التي ذكرها الله عز وجل - وهي أن تضل إحداهما - انتفت، فتكون طرق إثبات المال ستةً، والسابعة: القرائن الظاهرة.

وما لا يطلع عليه الرجال - كعيوب النساء تحت الثياب، والبكارة والثيوبة، والحيض، والولادة، والرضاع، والاستهلال ونحوه -: تقبل فيه شهادة امرأةٍ عدلٍ، والرجل فيه كالمرأة. ومن أتى برجلٍ وامرأتين، أو شاهدٍ ويمينٍ، فيما يوجب القود: لم يثبت به قودٌ ولا مالٌ، وإن أتى بذلك في سرقةٍ: ثبت المال دون القطع، وإن أتى بذلك في خلعٍ: ثبت له العوض، وتثبت البينونة بمجرد دعواه. فصلٌ ولا تقبل الشهادة على الشهادة، إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي (¬1). ولا يحكم بها إلا أن تتعذر شهادة الأصل بموتٍ أو مرضٍ أو غيبةٍ مسافة قصرٍ. ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهد الأصل (¬2)، فيقول: ¬

_ (¬1) سبق [قول المؤلف] أن كتاب القاضي إلى القاضي لا يكون إلا في حقوق الآدميين، أما حقوق الله - كالحدود - فلا يقبل أن يكتب القاضي إلى القاضي، وسبق - أيضًا - هناك أن القول الراجح صحة كتاب القاضي إلى القاضي حتى في الحدود، وأن هذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. وإذا كان هذا فرعًا على ذاك فيكون الصحيح - هنا -: صحة الشهادة على الشهادة على الحدود - وغيرها -. (¬2) الذي يظهر لي في المسألة الأخيرة: أنه يجوز أن يشهد، لكن لا يقول: (أشهدني فلانٌ)، وإنما يقول: (أشهد على شهادة فلانٍ بكذا وكذا).

(اشهد على شهادتي بكذا)، أو يسمعه يقر بها عند الحاكم، أو يعزوها إلى سببٍ من قرضٍ أو بيعٍ - أو نحوه -. وإذا رجع شهود المال بعد الحكم: لم ينقض (¬1)، ويلزمهم الضمان (¬2) دون من زكاهم. وإن حكم بشاهدٍ ويمينٍ، ثم رجع الشاهد: غرم المال كله. ¬

_ (¬1) لكن قال الفقهاء: لو رجع الشاهدان بقصاصٍ بعد الحكم وقبل الاستيفاء لم يقتص من المشهود عليه؛ لأن القصاص خطيرٌ، لكن تجب الدية؛ فصار هنا ينقض من وجهٍ ولم ينقض من وجهٍ آخر. (¬2) [يلزمهم الضمان] إلا في صورتين: الأولى: إذا صدقهم المشهود له بالرجوع، فلا يجوز أن يأخذ شيئًا يعتقد أنه ليس له. الثانية: إذا أبرئ المشهود عليه فإنه لا يرجع عليهما؛ لأننا نقول: (أنت لم تضمن شيئًا حتى تضمنهما، وما دمت لم تضمن شيئًا لغيرك فلا شيء لك).

باب اليمين في الدعاوى

باب اليمين في الدعاوى لا يستحلف في العبادات، ولا في حدود الله. ويستحلف المنكر في كل حق لآدمي، إلا النكاح، والطلاق، والرجعة، والإيلاء، وأصل الرق، والولاء، والاستيلاد، والنسب، والقود، والقذف (¬1). واليمين المشروعة: اليمين بالله. ولا تغلظ إلا فيما له خطرٌ (¬2). ¬

_ (¬1) هذه المسائل [المستثناة] غالبها خلافيةٌ؛ لأن من أهل العلم من يقول بعموم حديث: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر»، وهذا المنكر إن كان صادقًا لم يضره اليمين، وإذا امتنع من اليمين كان ذلك قرينةً على أن المدعي صادقٌ؛ فحينئذٍ نرد اليمين على المدعي، فإذا حلف حكم له. (¬2) الصحيح: أن هذا يرجع إلى اجتهاد الحاكم، فإن رأى التغليظ غلظ وإلا فلا.

كتاب الإقرار

كتاب الإقرار يصح من مكلفٍ (¬1)، مختارٍ، غير محجورٍ عليه (¬2). ولا يصح من مكرهٍ. وإن أكره على وزن مالٍ فباع ملكه لذلك صح. ومن أقر في مرضه بشيءٍ فكإقراره في صحته، إلا في إقراره بالمال لوارثٍ؛ فلا يقبل (¬3). وإن أقر لامرأته بالصداق: فلها مهر المثل بالزوجية لا بإقراره (¬4)، ولو أقر أنه ¬

_ (¬1) إطلاق المؤلف - رحمه الله - كلمة (مكلفٍ) فيه شيءٌ من النظر ... ؛ فمفهوم قول المؤلف أن غير المكلف لا يصح إقراره؛ فيشمل المجنون والصغير. أما المجنون فلا استثناء فيه. وأما الصغير ففيه استثناءٌ ... ؛ فالضابط في إقراره أن ما صح منه إنشاؤه صح به إقراره ... ؛ فمن صح تصرفه في شيءٍ صح إقراره به وعليه. (¬2) لا يصح إقرار المحجور عليه في أعيان ماله لأنه ممنوعٌ من التصرف فيها، ويصح إقراره في ذمته؛ لأنه لا ضرر على الغرماء في هذا الإقرار. (¬3) ظاهر كلام المؤلف: ولو كان لسببٍ معلومٍ ... ، ولكن في هذا نظرٌ ... ؛ فالصحيح - هنا - أنه يصح. (¬4) هذه المسألة تدل على ما سبق من قولنا: إنه إذا وجد لإقراره بالمال للوارث سببٌ يمكن إحالة الحكم عليه فإنه يقبل إقراره بالمال للوارث.

كان أبانها في صحته لم يسقط إرثها (¬1). وإن أقر لوارثٍ فصار عند الموت أجنبيا لم يلزم إقراره لا أنه باطلٌ، وإن أقر لغير وارثٍ أو أعطاه صح وإن صار عند الموت وارثًا (¬2). وإن أقرت امرأةٌ على نفسها بنكاحٍ ولم يدعه اثنان: قبل (¬3). وإن أقر وليها المجبر بالنكاح، أو الذي أذنت له: صح. وإن أقر بنسب صغيرٍ أو مجنونٍ مجهول النسب أنه ابنه ثبت نسبه، فإن كان ميتًا ورثه (¬4). وإذا ادعى على شخصٍ بشيءٍ فصدقه: صح. فصلٌ إذا وصل بإقراره ما يسقطه؛ مثل أن يقول: (له علي ألفٌ لا تلزمني) - ونحوه -: لزمه الألف (¬5). ¬

_ (¬1) فإن أتى ببينةٍ أو أقرت هي بما أقر به الزوج فإن إرثها يسقط. (¬2) القول الثاني - وهو المذهب -: أن العطية كالوصية ... ، والأرجح أنها كالوصية. (¬3) معلومٌ أن هذا الحكم إذا لم يكن هناك بينةٌ، أما إذا وجدت بينةٌ لإحداهما فهي لصاحب البينة. (¬4) إن وجدت قرينةٌ تدل على أنه متهمٌ فإنه لا يرثه، وإلا ورث. (¬5) فإن أقام بينةً على أنه له عليه ألفٌ، وأنه أوفاه إياه - أو ما أشبه ذلك - بحيث يصح قوله: (لا تلزمني)، ويكون قوله: (له علي ألفٌ) باعتبار أول الأمر، وقوله: (لا تلزمني) باعتبار ثاني الحال ... ؛ فإنه يقبل.

وإن قال: (كان له علي وقضيته): فقوله بيمينه؛ ما لم تكن بينةٌ، أو يعترف بسبب الحق. وإن قال: (له علي مئةٌ) ثم سكت سكوتًا يمكنه الكلام فيه، ثم قال: (زيوفًا أو مؤجلةً): لزمه مئةٌ جيدةٌ حالةٌ. وإن أقر بدينٍ مؤجلٍ، فأنكر المقر له الأجل: فقول المقر مع يمينه. وإن أقر أنه وهب أو رهن وأقبض، أو أقر بقبض ثمنٍ أو غيره، ثم أنكر القبض، ولم يجحد الإقرار، وسأل إحلاف خصمه: فله ذلك. وإن باع شيئًا (¬1) أو وهبه أو أعتقه، ثم أقر أن ذلك كان لغيره: لم يقبل قوله ولم ينفسخ البيع ولا غيره، ولزمته غرامته. وإن قال: (لم يكن ملكي ثم ملكته بعد) وأقام بينةً: قبلت، إلا أن يكون قد أقر أنه ملكه أو أنه قبض ثمن ملكه: لم يقبل. فصلٌ إذا قال: (له علي شيءٌ)، أو (كذا)، قيل له: فسره، فإن أبى حبس حتى يفسره، فإن فسره بحق شفعةٍ أو بأقل مالٍ قبل، وإن فسره بميتةٍ أو خمرٍ أو قشر جوزةٍ لم يقبل، ويقبل بكلبٍ مباحٍ نفعه أو حد قذفٍ (¬2). ¬

_ (¬1) لكن إذا أتى ببينةٍ قبلت وانفسخ البيع، و [كذلك] إذا صدق المشتري [البائع] انفسخ البيع مؤاخذةً له بإقراره؛ لأنه هو الذي اعترف بأن البيع غير صحيحٍ. (¬2) وقيل: إنه لا يقبل - أي: في الأمرين جميعًا -، قالوا: لأنه لا يتمول.

وإن قال: (له علي ألفٌ) رجع في تفسير جنسه إليه، فإن فسره بجنسٍ أو أجناسٍ قبل منه، وإن قال: (له علي ما بين درهمٍ وعشرةٍ) لزمه ثمانيةٌ، وإن قال: (ما بين درهمٍ إلى عشرةٍ)، أو (من درهمٍ إلى عشرةٍ): لزمه تسعةٌ (¬1). وإن قال: (له علي درهمٌ أو دينارٌ): لزمه أحدهما. وإن قال: (له علي تمرٌ في جرابٍ)، أو (سكينٌ في قرابٍ)، أو (فص في خاتمٍ) - ونحوه -: فهو مقر بالأول. والله - سبحانه وتعالى - أعلم. ¬

_ (¬1) مسألة الإقرارات يرجع فيها إلى العرف لا إلى ما تقتضيه اللغة ... ، وقد سبق لنا في كتاب الأيمان وفي كتاب الوصايا أن العرف مقدمٌ على الحقيقة اللغوية ... ، فعندنا ثلاث مراتب: ما أراده [المقر]، وما جرى به العرف ثم بعد ذلك الحقيقة اللغوية، وهذا هو الصحيح في هذه المسائل.

§1/1