الجيل الموعود بالنصر والتمكين

مجدي الهلالي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى للناشر 1429هـ - 2008م رقم الإيداع: 27133/ 2007 الترقيم الدولي: I.S.B.N. 6-96-6142-977 دار الأندلس الجديدة للنشر والتوزيع ------------------------ 18 شارع مطر - أحمد حلمي - شبرا مصر - ت:0101068135 [email protected]

المقدمة

رب يسر وأعن يا كريم المقدمة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فلقد وعد الله طائفة من عباده المؤمنين بأن يورثهم الأرض، ويمكنهم فيها {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف:128). ولم يحدد الله عز وجل زمانًا ولا مكانًا لظهور تلك الطائفة المنصورة، بل حدد شروطًا وصفات إذا ما حققها جيل من الأجيال في أي زمان وأي مكان فإن وعده سبحانه وتعالى سيتحقق لهم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55). ومهما اجتهد المجتهدون، وتحرك العاملون للإسلام هنا وهناك، فإن هذا لا يكفي لإعادة مجد الإسلام من جديد، إلا إذا تضمنت حركتهم واجتهادهم العمل على استكمال صفات الجيل الموعود بالنصر والتمكين. إن وعد الله لا يتخلف: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء:105)، هذا الوعد ينتظر من يستوفي شروط استدعائه لكي يتحقق. ويحكي لنا التاريخ أن جيلًا من الأجيال قد استطاع أن يحقق الشروط المطلوبة لتنفيذ الوعد الإلهي، هو جيل الصحابة رضوان الله عليهم فكان الوفاء السريع والكريم من الله عز وجل لهذا الجيل، فأورثهم الأرض، ومكن لهم فيها، وملكهم ممالكها في سنوات قليلة: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (التوبة:111). فحري بنا ونحن نعيش مرحلة دقيقة من تاريخ أمتنا، حيث الليل الدامس الذي يغشانا، والنفق المظلم الذي نسير فيه، والدم النازف من جسد الأمة العاني .. حريّ بنا أن نتكاتف جميعًا لإيجاد هذا الجيل الموعود بالنصر والتمكين، وأن نضحي في سبيل تكوينه بالغالي والرخيص، وأن نكثر من التأمل في جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - وكيف استطاعوا أن يستكملوا متطلبات النصر والتأييد الإلهي، لنحذو حذوهم ونتشبه بهم .. وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالرجال فلاح وحول هذا الموضوع - الجيل الموعود بالنصر والتمكين - يدور الحديث في هذه الصفحات والتي نسأل الله أن يلهمنا فيها الرشد والسداد، وأن يتقبلها منا بكرمه وفضله .. {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة:32).

الفصل الأول لماذا الجيل الموعود؟!

الفصل الأول لماذا الجيل الموعود؟!

أملنا في الله وحده

الفصل الأول لماذا الجيل الموعود؟! ما يحدث لأمتنا الإسلامية من ذل وهوان لا يخفى على أحد، فالجراح تملأ جسد الأمة، والضعف والوهن قد أصابه، ولم يعد المسلمون على قلب رجل واحد، ولا راية واحدة، بل تعددت راياتهم، واختلفت وجهاتهم، وتكالب عليهم أعداؤهم من كل مكان. لقد صرنا أذل أهل الأرض .. لا قيمة لنا، ولا اعتبار لوجودنا، ويكفي ما يفعله بنا إخوان القردة والخنازير وحلفاؤهم الذين وضعونا تحت أقدامهم وسامونا سوء العذاب ... يقتلون أبناءنا، ويهدمون بيوتنا، ويعتقلون شبابنا .. كل ذلك يحدث تحت سمع وبصر العالم أجمع .. وضع مخزٍ ومرير تعيشه أمة والإسلام، فإلى متى سيستمر ذلك؟! - أملنا في الله وحده: مما يزيد الأمر تعقيدًا أن التفوق المادى والتكنولوجي الذي أحرزه أعداؤنا يجعل من الصعب علينا أن نلحق بهم، وفي نفس الوقت فإن الواقع يُخبرنا بأنهم لن يسمحوا لنا بالاقتراب منهم، فضلًا عن التفوق عليهم، فالمساحة التي أتاحوا لنا الحركة فيها محدودة جدًا. معنى ذلك أن الحسابات المادية تثبت وتؤكد حقيقة استمرار الوضع البائس الذي تعيشه الأمة الإسلامية، بل وستزداد الأوضاع سوءًا نتيجة المطوحات غير المحدودة للصهيونية والصليبية العالمية في بلاد الإسلام. نعم هذه هي حسابات أهل الأرض، أما حسابات أهل الإيمان فتخبرنا بأن هناك قوة عظيمة لا يمكن للعقل البشري أن يتصور مداها .. هذه القوة إن ساندت أحدًا مهما كان ضعفه؛ فالنصر يكون حليفه بغض النظر عن قوة أعدائه .. إنها القوة الإلهية، قوة الجبار - سبحانه وتعالى - الذي له جنود السماوات والأرض، والذي يملك كل شئ، يملك الريح والعواصف، والرعد والبرق، والزلال والبراكين و .. ويملك أنفاس أعدائنا. هذه القوة هي أملنا الوحيد في مواجهة هجمات أعدائنا الشرسة، وإعادة مجدنا، وريادتنا للبشرية من جديد. هذه القوة هي التي ساندت الفئة الضعيفة من بني إسرائيل ضد فرعون الطاغية وقومه فماذا حدث؟! {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف:137). - هل نترك الأسباب: ليس معنى القول بأن أملنا في الله وحده أن نترك الأسباب المادية بدعوى عدم جدواها، وبأن أعداءنا لن يسمحوا لنا بمنافستهم أو الاقتراب منهم في مجالات التقدم العلمي، بل المطلوب هو العكس ... أن نملأ كل فراغ يُتاح أمامنا، ونتغلغل في كل القطاعات، ونجتهد غاية الاجتهاد في امتلاك أسباب القوة، لا لأننا سننتصر بها، ولكن لأن الله عز وجل طالبنا بذلك: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال:60). وعلى قدر اجتهادنا في الأخذ بما يُتاح أمامنا من أسباب نكون قد حققنا شرطًا من شروط النصر والتغيير، مع الأخذ في الاعتبار أن الأسباب بعينها لن تحقق لنا النصر، بل الذي سيحققه هو الله ... أليس هو القائل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (الأنفال:10)، والقائل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران:160). - متى نصر الله؟! فإن كان أملنا في الله وحده، فمتى إذن يتحقق هذا الأمل، فدافع الله عنا، وينصرنا على أعدائنا ويُمكَّن لنا في الأرض؟!

بث الروح

أفاض القرآن في الإجابة على هذا السؤال، وأخبرتنا آياته أن للنصر والتمكين شروطًا، بها يُستدعى ويُستجلب، منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11)، وقوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:7)، وقوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (آل عمران:120). فلابد إذن من نصرة الله على نفوسنا، وتغيير ما بها، والانتقال من كل حال يغضب الله عز وجل إلى الحال الذي يرضيه ... لابد من تغيير عميق يضرب في أعماق الأمة ويعيدها إلى الله إن أردنا الخروج من حالة التيه التي نمر بها. - بث الروح: ولكي يتغير حال الأمة من المرض إلى الصحة لابد من وجود من يأخذ بيدها، ويدلها على الدواء، ويعينها على تغيير ما تلبست به مما يغضب الله عز وجل. لابد من جود طائفة أو جيل ينطلق وسط الأمة فيبث الروح والأمل، ويبين لها طريق الصلح مع الله، وبخاصة أن الأمة الإسلامية الآن مهيأة لذلك أكثر من أي وقت آخر، فلقد أسفر أعدؤها عما كانوا يعملون على إخفائه من عداوة وكراهية وحقد أسود. فآلات الذبح لإخواننا المسلمين تُجهزَّ أمام أعيننا، ومخططاتهم الرامية لتذويب شخصيتنا يخبروننا بها قبل تنفيذها إمعانًا في إذلالنا، والقضاء على أي أمل يراودنا ... - توجيه العاطفة: نعم، ليست الأمة كلها في غيبوبة، بل هناك عاطفة جياشة تجاه الإسلام، تتنامى بمرور الأيام، ولعل من تلك العاطفة: امتلاء المساجد بالشباب والشيوخ، والإقبال على حلقات القرآن، ودروس العلم، ومنها كذلك: انتشار الحجاب بين المسلمات. عاطفة جيدة توجد الآن في ربوع الأمة، ولكنها وحدها لا تكفي، بل لابد من حُسن توجيهها إلى الاتجاه الصحيح .. اتجاه التغيير الحقيقي لما في النفس من جوانب عدة ليشمل التصورات والاهتمامات، والسر والعلن، والأقوال والأفعال .. تغييرًا يعيد تشكيل العقل، ويُمكِّن للإيمان في القلب، ويطرد منه حب الدنيا، فينعكس ذلك على السلوك بالمسارعة في الخيرات، والطمع في الدرجات العلى في الجنة، والتعلق بالله عز وجل، وقطع الطمع مما في أيدى الناس، مع بذل غاية الجهد في حُسن الإعداد، وامتلاك أسباب القوة. هذه المهمة - مهمة توجيه العاطفة لإحداث التغيير الحقيقي في النفوس - تحتاج إلى مجهود ضخم، وتعاهد، ومتابعة .. وهنا يأتي دور الجيل الموعود، فهو الجيل المنوط به مهمة تغيير الأمة، وتهيئة أرضها لاستقبال المدد الإلهي. نعم، إنها مهمة صعبة، ولن يكون الطريق إلى تحقيقها مفروشًا بالورود، فسيقف أمامها أهواء الناس، وحبهم للدنيا وعدم رغبتهم في التضحية ولو بشيء يسير منها، ولكن مع الإصرار ووجود القدوة الصالحة في أبناء جيل التغيير، ومع تأكد من حولهم من صدقهم وحرصهم على مصلحتهم وعدم طلبهم أجرًا وراء أفعالهم .. كل ذلك وغيره من شأنه أن يُعيد الأمة إلى الله شيئًا فشيئًا، وبخاصة إذا ما انتهج أبناء الجيل الموعود أسلوب الحكمة في الدعوة، وتقديم مفهوم التغيير للناس بصورة محببة ومبسطة يستطيعها الجميع. - قيادة الأمة في الضراء: على قدر الجهد الذي سيبذله أبناء الجيل الموعود في إيقاظ الأمة، وبث الروح فيها وحُسن توجيه عاطفتها تجاه التغيير الحقيقي والصلح مع الله .. على قدر ذلك كله يكون المدد والتأييد من الله عز وجل، والذي سيأتي حتمًا لتبدأ تباشير الفجر في البزوغ، وتشرق شمس الإسلام من جديد في أجزاء متفرقة من الأمة. فماذا سيحدث عند ذلك؟

مع الجيل الأول

يخبرنا التاريخ أنه بمجرد ظهور شعاع النور، وإعلان بداية استيقاظ المارد وتململه من القمقم الذي وضع فيه، فإن جميع القوى الكافرة والتي تحيط بأمتنا ستتوحد ضدنا، وتعمل على إطفاء هذا النور، وإجهاض الأمل، والقضاء على المشروع الإسلامي ... ** ستكون مقاطعة شاملة من الجميع، وستزداد الضغوط على كل مكان تُرفع فيه راية الإسلام. ** ستكون ضغوطًا شديدة لتفت في عضد الأمة، وتعمل على تركيعها، ومن المتوقع أن تُحدث هذه الضغوط ضيقًا وتذمرًا بين عموم الناس، فهم إن كانوا قد أعلنوا تأييدهم للإسلام، واستعدادهم للتضحية من أجله، فإنهم قد لا يستطيعون تحمل توابع المقاطعة، كحرمانهم من بعض احتياجاتهم الأساسية فضلًا عن الترفيهية والكمالية .. هنا يأتي دور الجيل الموعود الذي سيعمل جاهدًا على توفير احتياجات الناس، وبث روح الأمل في نفوسهم، والعمل على تثبيتهم، ورفع معنوياتهم، وربطهم بالله عز وجل. معنى ذلك أن هؤلاء الخُلَّص لن يناموا في هذه الظروف إلا بعد أن ينام الناس، ولن يأكلوا إلا بعد أن يطمئنوا أن الطعام قد وصل للجميع. ** دور خطير ينتظر هذا الجيل في بداية وجود الدولة الإسلامية، لو لم ينهض به لضاع كل شئ، ولعادت الأمور إلى أسوأ مما هي عليه والعياذ بالله. - مع الجيل الأول: هذه المراحل، وهذه الأوضاع الصعبة، مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه من الجيل الأول .. جيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين كانوا بمثابة الركائز التي قام عليها المجتمع المسلم في المدينة ... هذا المجتمع تعرض في بداية تكوينه إلى ضغوط شديدة، ومحاصرة، ومقاطعة، وتهديدات، وحروب ... قال أبو العالية في تفسير قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55). قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوًا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده لا شريك له سرًا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يُمْسون في السلاح ويُصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلًا من الصحابة قال: يا رسول الله ... أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟! أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تصبروا إلا يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا ليست فيه حديدة) وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فآمنوا ووضعوا السلاح .... وقال البراء بن عازب: نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد (¬1). - لماذا الضراء؟ إذن فهناك فترة قاسية ستمر بها الأمة وبخاصة في الأماكن التي سترتفع فيها راية الإسلام .... فإن قلت: ولماذا تمر الأمة الصاعدة بهذه الفترة، ولماذا ستُترك لهذه الفتنة العظيمة وهي تقف بمفردها أمام العالم أجمع؟! كان الجواب في قوله تعالى: {الم ? أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ? وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:1 - 3). ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير 3/ 283 - مكتبة العبيكان - الرياض.

قيادة الأمة في السراء

فهذه الفترة تُعد بمثابة امتحان لمدى صدق الأمة في حبها لله وتعلقها به وتوكلها عليه، ومدى استعدادها للتضحية من أجله، وهي فترة المخاض الأخيرة لولادة الأمة الفتية القوية .. ومن فوائدها كذلك أنها تقطع تعلق القلوب بما سوى الله، وتُجَرُّدها له سبحانه .. فعندما تنقطع الأسباب المادية، وينعدم الصبر، وتشتد الخطوب، لا تجد الأمة أمامها إلا الله عز وجل فتهرع إليه، وتدعوه دعاء المضطر المشرف على الغرق .. حينئذ يأتي الفرج، ويأتي النصر والتمكين: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214). - قيادة الأمة في السراء: وبعد فترة الضيق والشدائد، سيأتي الفرج - بإذن الله - وتبدأ الأمة في التوحد شيئًا فشيئًا، وتتساقط رايات الباطل بسهولة ويسر، وهنا يظهر لجيل التغيير دور جديد ألا وهو العمل على تجميع الأمة على راية واحدة، وقيادتها لإقامة الخلافة الإسلامية، واسترداد كل الديار المغتصبة، وإنقاذ المسلمين المستضعفين في شتى بقاع العالم ... ويستمر دور الجيل الموعود بعد ذلك في نشر الإسلام وأستاذية العالم وتحقيق وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببلوغ هذا الدين الآفاق، وفتح روما لتُصبح الدولة الإسلامية بذلك هي القوة الأولى في العالم، تنشر الأمن والأمان، وتنقذ البشرية من الضلالة، وتخرجها من الظلمات إلى النور. نعم سيحدث ذلك - بإذن الله - كما حدث مع الجيل الأول، الذي بدأ بأفراد مطاردين مضطهدين في مكة، يقرأون القرآن، ويستمعون إلى آيات الوعد بالنصر والتمكين، وأقصى أمانيهم في ذلك الوقت أن يبيتوا آمنين، وألا يتعرض أحد منهم لأذى ... هؤلاء هم أنفسهم الذين رأو التمكين بأم أعينهم، وشاهدوا عز الإسلام ومجده، ويا للعجب أن يصبح خوفهم بعد ذلك على أنفسهم من فتنة بسط الدنيا عليهم .. أخرج البخاري في صحيحه أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أُتي بطعام وكان صائما، فقال: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكُفِّن في بُردة أن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطي رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا في الدنيا ما بُسط، أو قال: أُعطينا من الدنيا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عُجِّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام. وهذا خباب بن الأرت - رضي الله عنه - يعود نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون له: أبشر يا عبد الله، إخوانك تُقم عليهم غدًا، فبكى وقال: أما إنه ليس بي جزع، ولكنكم ذكَّرتموني أقوامًا وسميتم لي إخوانًا، وإن أولئك قد مَضَوا بأجورهم كما هي، وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا بعدهم (¬1). - الاستفادة من الدروس السابقة: على جيل التغيير ألا يتخلى عن مهمته في قيادة الأمة حتى بعد أن يتم لها السيادة وأستاذية العالم، بل عليه أن يستمر في بناء الأجيال، والحفاظ عليها من أمراض الأمم مثل الترف والظلم، ومن ثَّم البعد عن الله عز وجل، والخروج من دائرة معيته وولايته. ¬

_ (¬1) حياة الصحابة لمحمد يوسف الكاندهلوى 1/ 100، 101 - دار صادر - بيروت.

وخلاصة القول: إن حاجة الأمة الآن لوجود جيل التغيير - الجيل الموعود بالنصر والتمكين - حاجة شديدة وماسة تستلزم تكاتف كل الجهود من أجل تكوينه، ولِمَ لا وهو الجيل الذي سيبث الروح في الأمة -بإذن الله- ويوجه عاطفتها توجيهًا صحيحًا نحو التغيير الحقيقي، وسيستمر جيل التغيير في قيادة الأمة فترة الضيق والكرب والمقاطعة المتوقعة من أعداء الإسلام، وسيستمر كذلك في فترة السراء والفتوحات والخلافة وأستاذية العالم، ولن يضع سلاحه أو يركن إلى الدعة بعد ذلك، بل سيواصل بناء الأجيال والحفاظ على المجد والعزة والعمل على نشر الدين الحق في كل مكان ...

الفصل الثاني مع صفات الجيل الموعود

الفصل الثاني مع صفات الجيل الموعود

ليس كلاما نظريا

الفصل الثاني مع صفات الجيل الموعود أخبرنا الله عز وجل في كتابه بأن هناك صفات وشروطًا ينبغي أن تتوفر في الطائفة أو الجيل الذي سيمكنه سبحانه ويمده بمدده وتأييده، وينصره على أعدائه .. ولا يشترط لذلك مكان أو زمان بعينه، فالأمر متاح للجميع عبر الزمان والمكان، المطلوب فقط هو استيفاء الشروط المؤهِّلة للدخول في معية الله وكفايته ونصره. - ليس كلامًا نظريًا: وقبل أن ينتقل الحديث عن صفات الجيل الموعود، هناك أمر جدير بلفت الانتباه إليه وهو أن الكلام عن الجيل الموعود، وما يمكن أن يحققه الله له ليس كلامًا نظريًا افتراضيًا تُسَوَّد به الصفحات، وليس أماني أو أحلامًا نحلم بها، ونهرب من خلالها من واقعنا المر .. لا والله، بل هي حقائق يمكنها أن تحدث وبأسرع مما قد يتخليه البعض لو اجتهدنا جميعًا في استكمال الشروط المطلوبة، وانتفضنا لتحقيق صفات الجيل الموعود في أنفسنا وفيمن حولنا: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (الحج:15). ويحكي لنا تاريخ أمتنا بأن هناك جيلًا من الأجيال قام بتحقيق تلك الشروط في نفسه فحقق الله وعده معه ... ذلكم هو جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - والذين كانوا قبل إسلامهم غاية في الجاهلية والفرقة والتشرذم، ليأتي الإسلام، ويدخل نوره في قلوبهم، ويحدث التغيير الداخلي فتعاد صياغة شخصياتهم من جديد، ويحققون ما طلبه الله منهم، فيحدث الوفاء السريع والكريم منه سبحانه فيمكن لهم في الأرض، ليحطموا الإمبراطوريات الظالمة، وليصبحوا في سنوات قليلة القوة الأولى في العالم، وينقلوا البشرية إلى عهد جديد زاهر. هذا الجيل كان قبل إسلامه أبعد بكثير عن الله مما نحن عليه الآن، ومع ذلك فإنه غيَّر ما بنفسه، واستوفى الشروط المؤهلة للنصر والتمكين ساد الأرض، وصنع المجد العظيم للإسلام. إذن فالأمر الآن بين أيدينا .. لا نحتاج لإعدادات ضخمة، أو مساعدات خارجية، أو ..... ، بل نحتاج إلى أن نُغير ما بأنفسنا ليظهر من بيننا الجيل الموعود الذي يقود الأمة إلى العز والسيادة كما حدث مع الجيل الأول. - ضياع المجد: ولأن وعد الله لا يُخلف: فعندما حققت طائفة من البشر الصفات والشروط المؤهلة للنصر - مع قلة الأسباب المادية لديها - نصرها الله عز وجل، ومكنها في الأرض، وعندما بدأت الأجيال التالية لها في التنازل شيئًا فشيئًا عن تلك الصفات، كان الخذلان والخسارة، والعودة مرة أخرى إلى الوراء، ليعلو شأن الكفار من جديد ويصل الوضع إلى ما نحن فيه الآن من بؤس وضياع. وما فتئ الزمان يدور حتى ... مضى بالمجد قوم آخرونا وأصبح لا يُرى في الركب قومي ... وقدعاشوا أئمته سنينا

سنة الله في بني إسرائيل

- سنة الله في بني إسرائيل: ولقد تحقق وعد الله وجرت سنته بشقيها على بني إسرائيل، فعندما حقق جيل من أجيالهم الشروط المؤهلة للدخول في المعية الإلهية كان العون والمدد والنصر منه سبحانه: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف:137). هذا التمكين الإلهي إنما حدث لبني إسرائيل عندما حققوا ما طلبه الله منهم، فهل حافظوا عليه؟! يخبرنا القرآن بأنهم بعد ذلك بدأوا بالانحراف والابتعاد التدريجي عن الحال الذي أَهلَّهم للدخول في دائرة المعية والتفضيل الإلهي، وبدأ الكِبر والظلم، بل والشرك يظهر بينهم ... فأمهلهم الله عز وجل وتجاوز عنهم مرة ومرة لعلهم يعودون لسابق عهدهم، لكنهم تمادوا في غيهم، وأصروا على ظلمهم واستكبارهم فكان عقابهم الأليم من الله عز وجل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران:112). - الكرامة على قدر الاستقامة: إذن فالدخول في دائرة التأييد الإلهي يستلزم شروطًا، والاستمرار في الوجود فيها يتطلب الثبات على هذه الشروط، فكرامة العباد عند ربهم بمقدار استقامتهم وتقواهم، واستمرار الكرامة باستمرار الاستقامة. ألم يقل سبحانه لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} (الرعد:37). إنه قانون سماوي {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف:49). - مع صفات جيل التغيير: مما سبق يتبين لنا أنه لابد من وجود جيل تتحقق فيه الصفات التي تؤهله للدخول في دائرة المعية والنصر والتأييد الإلهي .. نعم، قد تتوفر هذه الصفات في أفراد هنا أو هناك، ولكن هذا وحده لا يكفي، بل لابد من وجود جيل مترابط يتنزل عليه النصر والتمكين. أما صفات جيل التمكين فلقد تحدث عنها القرآن في العديد من آياته، فعلينا أن نبحث عنها ونتأملها ونستخرج منه ما تدل عليه من صفات .... وإليك أخي القارئ بعضًا من هذه الآيات: 1 - قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55). في هذه الآية نجد أن الله عز وجل قد وعد طائفة من عباده المؤمنين بالاستخلاف والتمكين وربط هذا الوعد بعبادته وعدم الشرك به، أي أن من صفات الجيل الموعود: العبادة، والإخلاص التام لله عز وجل.

2 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ? إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ? وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة:54 - 56). هذه الآيات تتحدث عن بعض صفات حزب الله الذي يُكرمه سبحانه بالغلبة والنصر ... هذه الصفات هي: أولًا: حب الله. ثانيًا: التواضع. ثالثًا: الجهاد المتواصل. رابعًا: العبادة. خامسًا: الموالاة والتآخي. 3 - قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال:60). تتناول هذه الآية صفة الجهاد بمفهومها الواسع من بذل الجهد في الإعداد المادي بكل صوره المتاحة، وفي حدود الاستطاعة. 4 - قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ... رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ? وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (إبراهيم:13 - 14). هنا تركز الآيات على الخوف من الله عز وجل كصفة أساسية من صفات التمكين. 5 - قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ? إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (الأنبياء:105، 106). من خلال هذه الآيات نجد أن العبادة والصلاح لابد وأن يكونا من صفات جيل التمكين. 6 - قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف:137)، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة:24). في هذه الآيات نجد الصبر والثبات على الحق من أهم صفات الطائفة المنصورة: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود:49). 7 - قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ? وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (هود:112، 113). هنا نجد الوجه الإلهي للفئة المؤمنة بضرورة التحلي بصفة الوسطية والاعتدال، فالطغيان يمثل التشدد، والركون يمثل التفريط والترخص أما الاستقامة فهي بينهما، وبدونها يبتعد المؤمنون عن دائرة الولاية والنصرة الإلهية كما بينت الآيات. ومما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة:143).

8 - وفي مقابل الآيات التي تتحدث عن صفات الجيل الموعود بالنصر والتمكين، نجد أن هناك آيات تتحدث عن أسباب الهزيمة والخروج من دائرة المعية والتأييد الإلهي، ويُفهم من هذه الآيات ضرورة التخلي عن هذه الصفات لمن يريد النصر والتمكين ... منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ? إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة:38،39). فالتعلق بالدنيا من أخطر الأسباب التي تؤدي إلى الخروج من دائرة المعية والنُصرة الإلهية، ومن ثَّم فمن الضروري أن يكون الزهد في الدنيا وعدم التعلق بها من صفات الجيل الموعود. - الصفات العشر: فإذا ما أردنا أن نجمع الصفات التي دلت عليها الآيات السابقة لوجدناها: 1 - الإخلاص لله عز وجل. 2 - محبة الله. 3 - الخوف من الله. 4 - العبادة. 5 - التواضع. 6 - الزهد في الدنيا. 7 - الجهاد في سبيل الله. 8 - الصبر والثبات. 9 - المولاة والتآخي. تبقى صفة عاشرة لها أهمية كبيرة وينبغي أن تتوفر في جيل التغيير ألا وهي صفة الوسطية والاعتدال ... هذه الصفة طالب الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ومن معه بالتحقق بها وهم لا يزالون في مكة مطاردين ومضطهدين .. قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ? وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (هود:112، 113). فالطغيان يمثل التشدد، والركون يمثل التفريط والترخص، أما الاستقامة فهي بينهما، وبدونها يبتعد المؤمنون عن دائرة الولاية والنصرة الإلهية كما بينت الآيات. - بين الفردية والجماعية: الملاحظ في الصفات السابقة أن بعضًا منها يأخذ طابعًا فرديًا، بمعنى أنها تخص كل فرد على حدة وينبغي عليه أن يحققها في نفسه كالإخلاص لله وحبه والخوف منه، والبعض الآخر من الصفات يأخذ طابعًا جماعيًا بمعنى أنه لا يمكن تحقيقه إلا من خلال مجموع الأفراد بعضهم مع بعض كالإعداد والمؤاخاة، وهذا ما يؤكد عليه القرآن في خطابه الموجه للفئة المؤمنة، والذي نلحظ فيه أنه يخاطبهم بصيغة الجمع باعتبار أن العديد من الصفات الرئيسية لجيل التمكين لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تكاتف الأفراد مع بعضهم البعض، وانصهارهم في بوتقة واحدة .. تأمل معي قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج:41). وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:71). - هل يمكن إضافة صفات أخرى؟!

أولا: الإخلاص لله عز وجل

قبل الانتقال للحديث عن هذه الصفات العشر بشيء من التفصيل هناك ملاحظة جديرة بلفت الانتباه إليها، وهي أن البعض منا قد يرى أن هناك صفات أخرى يمكنه إضافتها إلى هذه الصفات، سواء كانت فردية كالعلم والتوكل على الله، أو جماعية كالانضباط والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نعم، لا بأس من ذلك وبخاصة أن هذه الصفات - كما سيأتي بيانه - ما هي إلا ثمار تنطلق من محاور عدة، هذه المحاور عندما تتحقق في الجيل الموعود فإنها ستثمر بمشيئة الله هذه الصفات العشر وغيرها مما قد يضيفه، وبطريقة طبيعية وسلسة. معنى هذا أن تلك الصفات ليست على سبيل الحصر، وإن كانت تشكل أهم ما يميز الجيل الموعود من سمات. وفي الصفحات المقبلة سيتم - بعون الله - إلقاء الضوء على الصفات العشر للجيل الموعود، مع عرض لنماذج من الجيل الأول والذي تحققت فيه هذه الصفات. أولًا: الإخلاص لله عز وجل (جيل مخلص) قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55). فالآية تخاطب المؤمنين وتبشرهم بالوعد الإلهي بالتمكين والاستخلاف في الأرض شريطة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. والملاحظ أن الآية ذكرت كلمة "شَيْئًا" لتخرج بالشرك من الدائرة الضيقة -دائرة الشرك الظاهر- إلى الدائرة الواسعة التي تتضمن كل أنواع الشرك سواء كان ذلك في التوجه أو الاستعانة ... - شرك التوجه والقصد: وشرك التوجه هو أن يقصد المرء من أفعاله رضا الله من ناحية، ومن ناحية أخرى يريد بتلك الأفعال رضا الناس وحبهم له، وعلو منزلته عندهم ... ، أو يقصد بأعماله رضا الله، وكذلك الحصول على مغنم أو جاه، أو أي فائدة دنيوية. فكل ما ينافي التوجه التام والمطلق لله عز وجل فهو شرك. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه) (¬1). وعن شداد بن أوس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، فقلت ما يبكيك يا رسول الله؟! قال: (إني تخوفت على أمتي الشرك أما أنهم لا يعبدون صنمًا ولا شمسًا ولا قمرًا ولا حجرًا ولكنهم يراءون بأعمالهم) (¬2). - شرك الاستعانة: وكما أننا مطالبون بإخلاص التوجه لله عز وجل، وأن يكون رضاه وحده هو المقصد في جميع أعمالنا، فإننا كذلك مطالبون بأن نستعين به وحده على أداء أي عمل، فلا حول ولا قوة لأحد إلا بالله، وعندما يستعين المرء بغير ربه ويظن أنه يصل لهدفه بدونه سبحانه فقد أشرك به ... ومن الصور الخفية للاستعانة بغير الله: الاستعانة بالنفس والاعتقاد بما حباها الله من إمكانات على أنها ملك ذاتّي للعبد يفضُلُ بها غيره، أو أنه يمكنه استخدامها والاعتماد عليها وقتما شاء، فإذا ما وصل لهدفه فرح بنفسه ونظر إليها بعين الرضا والإعجاب ... فهذا هو الإعجاب بالنفس الذي يُعد من أخطر أنواع الشرك بالله. إذن فالشرك بالله يشمل كل شيء يشترك في توجه العبد بأعماله إلى الله، ويشمل كذلك كل شيء يستعين به العبد على القيام بتلك الأعمال. يقول ابن تيمية: الرياء من باب الإشراك بالخلق، والعُجب من باب الإشراك بالنفس. ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه ابن ماجه الحاكم.

ويقول: المعجب بنفسه لا يحقق إياك نستعين، كما أن المرائي لا يحقق إياك نعبد (¬1). - خطورة الشرك الخفي: أما خطورة الشرك الخفي من رياء أو عجب وما يؤديان إليه من غرورو وكبر ونفاق فكبيرة، أقلها إحباط العمل، فكل عمل يخالطه رياء أو عجب فقد أُحبط، وصار هباءً منثورًا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} (البقرة:264). ومع إحباط العمل فإن العجب يؤدي إلى غضب الله ومقته، قال صلى الله عليه وسلم: (من تَعظَّم في نفسه، واختال في مشيته، لقي الله وهو عليه غضبان) (¬2) .. وقال: (النادم ينتظر الرحمة، والمعجب ينتظر المقت) (¬3). ويؤدي العُجب أيضًا إلى الخذلان وحرمان التوفيق والتعرض للفتن، ولنا في قصة غزوة حنين أبلغ مثال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (التوبة:25). فليست القضية فقط في إخلاص التوجه لله، بل لابد كذلك من الاستعانة الصادقة به سبحانه، وعدم رؤية العمل أو رؤية النفس بعين الفرح والرضا والإعجاب ... من هنا يتأكد لدينا ضرورة وجود صفة الإخلاص التام لله عز وجل في التوجه والاستعانة لأبناء الجيل الموعود وإلا فلا نصر ولا تمكين. - من مظاهر الإخلاص: عندما يسير العبد في طريق الإخلاص لله عز وجل فإن هذا من شأنه أن يترك عليه آثارًا وعلامات يشعر بها بداخله، ويلاحظها عليه من حوله ... - من هذه العلامات أن العبد لن ينتظر من وراء عمله رضا رؤسائه عنه، أو توجيه الثناء له، أو خلع الألقاب عليه، أو تقديمه على غيره من زملائه. - ومنها أن يسعى لإخفاء مكانه وعمله غاية الإمكان، فلا يتحدث به تلميحًا ولا تصريحًا. - ومنه أنه لن يسعى لمعرفة رأي الناس في أعماله، بل يعمل العمل ويجتهد في نسيانه وإخفائه وعدم التحدث به. - ومنها أيضًا: أن يخاف على نفسه من فتنة الشهرة والأضواء، فيدفعها عن نفسه غاية الإمكان. - ومنها: أنه يستوي عنده العمل في المقدمة، مع العمل في المؤخرة، بل إن عمله في المؤخرة سيكون أحب إليه حيث لا يتعرض لنظر الناس أو ثنائهم عليه. - ومنها: استواء المدح والذم لديه، حتى إنه ليدفع مدح الناس لخوفه على نفسه من آثاره السلبية. - ومنها: عدم ضيقه إذا ما نُسب عمله إلى غيره. - ومنها: مساعدته للآخرين في أعمالهم والعمل على إنجاحها دون أن يشعر به أحد. - ومنها: وجود خبيئة من أعمال صالحة بينه وبين الله لا يعلمها أحد سواه. - ومنها: أنه لن يضيق صدره إذا ما تخطاه الاختيار للقيام بعمل له فيه سابقة خبرة أكثر من غيره، بل إنه يساعد من اختير لذلك ويقدم له نصائحه وخبرته. - ومنها: أنه لن يهتم برضا الناس عنه أو سخطهم عليه. - ومنها: أنه لن يتحدث عن نفسه بما يزكيها، ولا يكثرمن قول أنا ... لي ... عندي ... . - ومنها: أنه لن يفتخر على أحد بشيء حباه الله به. - ومنها: أنه لن يُحاول إظهار كل إمكاناته وما يعلمه أمام الآخرين. - ومنها: أنه لن ينظر إلى مغنم من وراء عمله، ولن يستغل منصبه في تحقيق منافع دنيوية له أو لأقاربه وأصدقائه. - ومنها: عدم المنِّ بالعطايا على الآخرين، وعدم تذكيرهم بها بأي شكل من الأشكال. ¬

_ (¬1) العُحب لعمرو بن موسى الحافظ /11 نقلًا عن مجموع الفتاوى لابن تيمية 10/ 277. (¬2) صحيح. رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عمرو، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح (6157). (¬3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7245).

- ومنها: أنه يكثر من الاستغفار بعد أعماله الصالحة. - ومنها: أنه يجاهد نفسه ولا يستسلم لخواطر العُجب، بل يعالجها ويسقيها الشراب المضاد الذي يعيد لها التوازن ويضعها في قالب العبودية. - ومنها أنه لن يرى أنه مخلص، بل يسيء دومًا الظن بنفسه، ويتهمها بالنفاق و ... و ... وأشياء كثيرة تدل على الإخلاص التام لله عز وجل في التوجه والاستعانة. - الجيل الأول والإخلاص: الناظر والمدقق في سيرة الصحابة - رضوان الله عليهم - وهم الجيل الذي تحقق فيهم وعد الله بالاستخلاف والتمكين، يجد أن مظاهر صفة الإخلاص قد تجلت فيهم بوضوح. انظر مثلًا إلى حرصهم على إخفاء أعمالهم والذي يتجلى في هذا الأثر: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، قال: فنقبت أقدامنا، فنقبت قدماي، وسقطت أظافري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق. قال أبو بريدة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك، كأنه يكره أن يكون شيئًا من عمله أفشاه (¬1). وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدخل المسجد فيرى معاذ بن جبل رضي الله عنه يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن اليسير من الرياء شرك، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يُعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة) (¬2). لقد كانوا شديدي الحذر من أنفسهم، وكانوا يقفون بالمرصاد أمام كل خواطر العُجب، يقول عروة: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتتني الوفود بالسمع والطاعة دخَلَت في نفسي نخوة، فأحببت أن أكسرها، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها ... وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يبعث برسالة إلى خالد بن الوليد -رضي الله عنه- بعد انتصاراته في العراق يقول له فيها: فليهنك أبا سليمان النية والحظوة فأتمم يتم الله لك، ولا يدخلنك عُجب فتخسر وتُخذل، وإياك أن تُدل بعمل فإن الله له المن وهو ولي الجزاء (¬3). وهذا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يؤم قومًا، فلما انصرف قال: مازال الشيطان بي آنفًا حتى رأيت أن لي فضلًا على من خلفي، لا أَؤم أبدًا (¬4). وكانوا يتدافعون المدح ولا يستسلمون له فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول لما أُثني عليه: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرًا مما يظنون. وقال رجل يومًا لابن عمر رضي الله عنهما: يا خير الناس، وابن خير الناس، فقال: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تُهلكوه. أما خوفهم على أنفسهم من النفاق فإليك هذا الخبر: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لحذيفة رضي الله عنه: أُنشدك الله هل سمَّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني من المنافقين؟ فيقول: لا، ولا أُزكِّي بعدك أحدًا (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) أخرجه الطبراني والحاكم واللفظ له، وقال صحيح الإسناد. (¬3) الأخفياء لوليد سعيد بالحكم / 129 - دار الأندلس الخضراء - جدة - نقلًا عن تاريخ الطبري 3/ 385. (¬4) الزهد لابن المبارك برقم (834) ص 287. (¬5) الداء والدواء لابن القيم / 83 - دار ابن كثير - دمشق.

ثانيا: تمكن حب الله من القلب

ثانيًا: تمكن حب الله من القلب (جيل محب لله عز وجل) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ? وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة:54 - 56). فالآيات تتحدث عن الجيل والطائفة التي يحبها الله عز وجل ويرضى عنها ويكتب لها الغلبة على أعدائها .. هذا الطائفة لها عدة صفات بينتها الآيات السابقة، وأول هذه الصفات هي حبهم لله عز وجل {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. فإن قلت: ولكن المسلمين جميعًا يحبون الله عز وجل، فما الداعي لوجود هذه الصفة؟! نعم، هناك حب لله في القلوب، ولكن الحب الذي يريده - سبحانه - من الجيل الموعود حبٌ يهيمن على القلب، ويتمكن منه حتى يصير الله أحبّ إليه من كل شيء {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (البقرة:165). هذا الحب الصادق له علامات يُعرف بها ... منها: 1 - طاعة المحبوب والعمل على مرضاته: العبد المحب لله يسارع ويبادر إلى نيل رضاه .. انظر إلى موسى عليه السلام وهو يترك بني إسرائيل وراءه ذاهبًا للقاء ربه قائلًا: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (طه:84). ولا يزال المحب الصادق يحرص على إرضاء ربه، وإن بذل في سبيل ذلك كل ما يملك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} (البقرة:207). 2 - سرعة الإنابة: من علامات الحب الصادق مسارعة العبد بالتوبة والاستغفار، والاعتذار، وسكب العبرات، واسترضاء مولاه إذا ما وقع في ذنب، أو قصَّر في أداء واجب لخوفه الدائم من غضب ربه عليه .. انظر إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو يناجي ربه ويسترضيه بعد ما حدث له في الطائف من تكذيب وإعراض، وخوفه من أن يكون سبب ذلك منه ... يقول صلى الله عليه وسلم: ( ... إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسع لي ... أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحلّ علىَّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ... ). 3 - الشكر على عطاياه: المحب الصادق في حبه يتلقى هدايا وعطايا ربه بفرح وسعادة وامتنان، وينسب إليه كل فضل وخير يأتيه، ونراه دائمًا ذاكرًا لأنعمه، حامدًا شاكرًا له عليها. 4 - الصبر على البلايا والرضا بالقضاء: فالمحب الصادق لله يتحمل إبتلاء ربه له ويرضى بقضائه، فهو يعلم أنه لا يريد به إلا الخير وأنه ما ابتلاه إلا ليطهره، ويقربه إليه: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} (الرعد:22). 5 - كثرة المناجاة: من علامات الحب الصادق لله حب الخلوة به، وكثرة مناجاته والثناء عليه، والانطراح بين يديه .. ولما كانت المناجاة تخص المحبوب وحده، فإن المحب دائمًا ينتظر حتى تهدأ الأصوات، وتنام العيون، ويخلو المكان، حتى يهرع إلى ربه، ويأنس به، وما أجمل لحظات الأنس في رحاب الصلاة، وبالأخص في السجود .. لذلك كانت أفضل صلاة بعد المكتوبة قيام الليل حيث يتهيأ الجو للاتصال ... في هذا الوقت ينزل ربنا إلى السماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله وكماله .. فكيف بمن يدعي حب الله أن يعرض عن لقاء حبيبه، أو يتركه وينام؟!!

أخذ الفضيل بن عياض بيد الحسين بن زياد وقال: يا حسين، ينزل الله تعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا، فيقول الرب: ((كذب من ادعى محبتي، فإذا جَنَّه الليل نام عني .. أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه؟ ها أنذا مطلع على أحبائي إذا جَنَّهُم الليل، مثلتُ نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة، وكلموني على الحضور، غدًا أقرُّ عين أحبائي في جنتي)) (¬1). 6 - حب الرسول صلى الله عليه وسلم لله: ومن علامات الحب الصادق: حب ما يحبه سبحانه، وأحب ما يحبه الله عز وجل .. رسول الله صلى الله عليه وسلم. والترجمة العملية لحب الله والرسول صلى الله عليه وسلم: طاعته صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من ربه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران:31). ولقد اشتد حب الله في قلوب الصحابة فذهب بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبروه بذلك ويقولون له: يا رسول الله، والله إنا لنحب ربنا، فأنزل الله عز وجل قوله {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬2). ويعلق الحافظ ابن كثير على هذه الآية فيقول: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله ليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، قال الحسن: زعم قوم أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية (¬3). 7 - ومن علامات الحب الصادق: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما: فكل حب آخر من حب للزوجة أو الأولاد أو الآباء أو الأمهات ... ينبغي أن يكون تابعًا لهذا الحب ... لايزاحمه، ولا يعارضه، ويظهر هذا جليًا عند تعارض حب الله ورسوله ومقتضياتهما مع حب شيء آخر كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة:24) (¬4). 8 - ومن علامات الحب الصادق: الحب في الله والبغض في الله: فالمحب الصادق في دعواه يحب ما يحبه مولاه، ويبغض ما يبغضه. ¬

_ (¬1) رهبان الليل لسيد العفاني 1/ 408. (¬2) الجامع لأحكام القرآن العظيم للقرطبي 4/ 40 دار الكتب العلمية. (¬3) تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير 1/ 314 مكتبة العبيكان. (¬4) يقول ابن القيم: لا عيب على الرجل في محبته لأهله، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له، محبة الله ورسوله، بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة، وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قواتها، فهي محمودة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الشراب البارد الحلو ويحب الحلواء والعسل، وكان أحب الثياب إليه القميص، وكان يحب الدباء، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع فيه صاحبها وقصده بفعل ما يحبه، فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة، وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل والمجرد لم يُثب ولم يُعاقب، وإن فاته درجة من فعله متقربًا به إلى الله. فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، والمحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله واجتناب معاصيه. والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة تقطع محبته عن محبة الله أو تنقصها، فهذه ستة أنواع، عليها مدار محاب الخلق ا. هـ انظر إغاثة اللهفان2/ 196 - 197 بتصرف يسير.

قال صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله) (¬1). فيُحب أي إنسان على قدر ما يحبه الله فيه من صفات. قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا في الله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار) (¬2). معنى ذلك أن هذا العبد يحب المسلمين، ويكره الكافرين، ويحب المسلم الملتزم بأوامر الله أكثر من المقصر في جنبه، ويحب المؤمن القوي أكثر من المؤمن الضعيف، ويحب أهل المساجد المحافظين على الجمع والجماعات المتبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن لا يحافظون على ذلك. ويحب أهل الجهاد السائرين في الطريق الصحيح لتمكين دين الله في الأرض أكثر من غيرهم ممن قعد عن الجهاد أو انحرف عن طريقه، ويحب في القاعدين التزامهم بالأوامر الأخرى أكثر من غيرهم من المسلمين الشاردين .. وهكذا. 9 - ومن علامات الحب الصادق: حب القرآن: من يحب الله حبًا صادقًا من البديهي أن يحب كلامه ويلتذ به، ويُكثر من قراءته، والاستماع إليه وفهم المراد به. قال ابن مسعود – رضي الله عنه – لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فمن أحب القرآن فهو يحب الله ورسوله (¬3). إن كنت تزعم حبي ... لم هجرت كتابي أما تأملت ما فيه ... من لذيذ خطابي 10 - كثرة ذكره: ومن علامات حب الله: كثرة ذكره. فالمحب يُكثر من ذكر محبوبه، لذلك ترى لسانه دومًا رطبًا بذكر الله فهو لقلبه كالماء للسمك قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت) (¬4). 11 - الدعوة إلى الله: ومن علامات حب الله: دعوة الناس إلى الله، وتحبيبهم فيه ودلالتهم عليه، قال أبو الدرداء: لما أهبط الله آدم إلى الأرض قال له: يا آدم أحبني وحببني إلى خلقي ... قال صلى الله عليه وسلم: (خيار أمتي من دعا إلى الله وحبب إليه عباده) (¬5). 12 - ومنها الغضب لله: والغيرة عليه إذا ما انتهكت محارمه، وعُطِّل شرعه، ونُحَّي كتابه. 13 - ومنها حب الجهاد والشهادة في سبيل الله: فالجهاد في سبيل الله هو بذل الجهد والطاقة من أجل رضا الله عز وجل، أما الشهادة فهي تعد بمثابة أكبر دليل على أن حبه سبحانه أحب للعبد من كل شئ. - الصحابة وحبهم لله: امتلأت قلوب الصحابة بحب الله، وظهرت آثار ذلك الحب في سلوكهم، وتجلت بوضوح عند تعارضها مع المحاب الأخرى. ولقد تعارضت هذه المحبة مع محبة الآباء والأبناء والإخوان وذلك في معركة بدر فماذا حدث؟! لقد قتل أبو عبيدة رضي الله عنه أباه المشرك حين لاقاه في المعركة، وهمَّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقتل ابنه عبد الرحمن، أما مصعب بن عمير رضي الله عنه فقد قتل أخاه عبيد بن عمير، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل قريبًا له، و .... ¬

_ (¬1) صحيح، رواه الطبراني عن ابن عباس، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (2539). (¬2) متفق عليه. (¬3) اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى لابن رجب. (¬4) رواه البخاري. (¬5) رواه ابن النجار عن أبي هريرة مرسلًا – انظر كنز العمال 44069.

ثالثا: الخوف الشديد من الله عز وجل

وفيهم نزل قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة:22). وتجلى تمكن حب الله في قلوب الصحابة عند الهجرة من مكة إلى المدينة، فلقد ترك المهاجرون أموالهم وديارهم وهاجروا فرارًا بدينهم وامتثالًا لأوامر رسولهم صلى الله عليه وسلم، كل ذلك ما كان ليحدث لو لم يكن حب الله عز وجل مهيمنًا على قلوبهم. عن الزبير رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا بقُباء ومعه نفر، فقام مصعب بن عمير رضي الله عنه، عليه بُردة ما تكاد تواريه، ونكَّس القوم، فجاء فسلَّم فردوا عليه، فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا وأثنى عليه، ثم قال: (لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يكرمانه وينعمانه، وما فتى من فتيان قريش مثله، ثم خرج من ذلك ابتغاء مرضاة الله ونصرة رسوله .. ) (¬1). - حب الرسول: أما حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم، فالأمثلة كثيرة ... أخرج الطبراني عن عروة ابن الزبير أن المشركين الذين قتلوا خبيب بن عدي رضي الله عنه نادوه قبل قتله وهو مصلوب: أتحب أن محمدًا مكانك؟ فقال: لا والله العظيم! ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه. أما سرعة مبادرتهم للجهاد في سبيل الله فإليك ما فعله حنظلة رضي الله عنه، فحينما استشهد في أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن صاحبكم حنظلة لتغسله الملائكة فأسالوا أهله ما شأنه) فسُئلت صاحبته (زوجته)، فقالت: خرج وهو جُنُب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لذلك غسلته الملائكة) (¬2). أما حبهم للشهادة فلا تسل عنه، فلقد كانوا يسابقون إليها تسابقًا عجيبًا، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأخيه يوم أحد: خذ درعي يا أخي. قال: أريد الشهادة مثل الذي تريد، فتركاها جميعًا (¬3). وهذا عبد الله بن جحش رضي الله عنه يدعو الله قبل معركة أحد فيقول: اللهم إني أقسم عليك أن القى العدو غدًا، فيقتلني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني بم ذالك؟ فأقول: فيك (¬4). أما معاذ بن جبل رضي الله عنه فأمره عجيب في حبه لربه، فعندما اشتد به النزع بعد إصابته بالطاعون كان كلما أفاق فتح طوقْه ثم قال: اخنقني خنقك، فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك (¬5). ثالثًا: الخوف الشديد من الله عز وجل (جيل خاشع، خائف من الله) قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ? وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (إبراهيم:13،14). وقال تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف:128). وقال تعالى مخاطبًا رسوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود:49). ¬

_ (¬1) رواه الحاكم ... انظر حياة الصحابة 3/ 120. (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية. (¬3) حياة الصحابة 1/ 32. (¬4) حياة الصحابة 1/ 389. (¬5) الرقة والبكاء لابن قدامة / 252، وانظر طبقات ابن سعد.

نماذج من خوف الصحابة

من خلال هذه الآيات يتبين لنا أن الخوف من الله ينبغي أن يملأ قلوب أبناء الجيل الموعود بالنصر والتمكين ... خوف مبعثه الإجلال والتعظيم والمهابة لله عز وجل، ومبعثه كذلك الشعور بالتقصير في القيام بحقوق العبودية ... وخوف من عاقبة الذنوب التي لا ينفك عنها بشر ... ومن التعرض لسوء الخاتمة، ومن سكرات الموت وحساب القبر، ومن أهوال يوم القيامة، ومن العرض على الله والتعرض للحساب، وعدم رجحان كفة الحسنات، وعدم الجواز على الصراط ... وفارق كبير بين خوف عارض يهز المشاعر، ويُرسل العبرات، ثم يمضي إلى حال سبيله، وبين خوف دائم يملأ القلب ويجعله دائمًا في حالة من التذكر والانتباه .... إن الخوف المطلوب وجوده في قلوب أبناء جيل التمكين هو الخوف الذي يدفع للعمل ويثمر التقوى والحذر والورع في كل الأقوال والأفعال، فيتحرى صاحبه الدقة في كلامه، ويترك الكثير من المباح مخافة الوقوع في الحرام ... المطلوب هو خوف يدفع صاحبه لتعظيم شعائر الله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32). ويجعله مسارعًا في الخيرات: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ? وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ?وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ?وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ? أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (المؤمنون:57، 61). معنى ذلك أن الخوف من الله له دور كبير في استقامة العبد على الصراط المستقيم ومن ثّم دخوله إلى دائرة الولاية والنصرة والكفاية الإلهية {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (آل عمران:120). - نماذج من خوف الصحابة: وعندما نبحث عن هذه الصفة في جيل الصحابة نجد أنها قد تمكنت منهم تمكنًا شديدًا، وظهرت آثارها على حياتهم وسلوكهم، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو خير من في الأمة بعد الأنبياء وبعد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا ليتني كنت شجرة تؤكل ثم تعضد. وذُكر عنه أنه كان يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد، وكان بيكي كثيرًا ويقول: ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا (¬1). وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عند موته: والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن آراه ... وكانت آخر كلماته قبل موته: ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي. وهذا عثمان رضي الله عنه يقول: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير. قال أبو عبيدة الجراح رضي الله عنه: وددت أني كبش فذبحني أهلي وأكلوا لحمي وحسوا مرقي. وكان عبد الله بن عباس أسفل عينيه مثل الشراك البالي من الدموع .. وهذا أبو ذر يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد، وددت أني لم أُخلق (¬2). وقال رجل عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقربين أحب إلىَّ. فقال عبد الله: لكن ههنا رجل ودَّ لو أنه مات لم يُبعث ... يعني نفسه. وكان شداد بن أوس الأنصاري رضي الله عنه إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم فيقول: اللهم إنَّ النار أذهبت منى النوم، فيقوم فيصلي حتى يُصبح. وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: والله لوددت أني شجرة، والله لوددت أني كنت مَدَرة، والله لوددت أنَّ الله لم يكن خلقني شيئًا قط (¬3). ¬

_ (¬1) الداء والدواء لابن القيم 80 - 84. (¬2) حياة الصحابة 2/ 372، 373.

رابعا: جيل عابد

ودخل عليها ابن عباس رضي الله عنهما وهي تموت فأثنى عليها، فقالت: دعني منك، فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيًا منسيًا (¬1). رابعًا: جيل عابد قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ? إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (الأنبياء:105،106). - فجيل التمكين جيل عابد لله عز وجل ... كثير الذكر، كثير الطاعة، ... جيل تعرفه الملائكة، وتشهد له المساجد بأنه من عمَّارها وأوتادها. - يبكر للصلاة، ويحافظ على السنن .. لا يفوته قيام الليل مهما كان تعبه ... - له أوراد يحافظ عليها من نوافل وصلوات وكذلك الأذكار وقراءة القرآن. - قرة عينه في الصلاة .. يطيل الركوع والسجود، ويكثر مناجاة ربه .. - كثير الإنفاق .. كثير الصيام .. كثير الدعاء .. - لا يشغله اهتمامه بالناس ودعوتهم عن اهتمامه بنفسه، فهو دومًا يحافظ على توازنه، وزاده الإيماني. - هكذا كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: يصف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الصحابة فيقول: لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلم أر اليوم شيئًا يشبههم، لقد كانوا يُصبحون شُعثًا غُبرًا، بين أعينهم أمثال رُكب المعزى، قد باتوا لله سُجدًا وقيامًا، يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهَملَتْ أعينهم حتى تبلّ ثيابهم ... (¬2). لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم شديدي الحرص على العبادة وعلى الصلاة وبخاصة صلاة الجماعة بالمسجد، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم - عليه الصلاة والسلام - سُنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهرَّ فيُحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف". ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن (¬3). - رهبان الليل: ومع شدة حرصهم على صلاة الجماعة، كانوا كذلك حريصين على قيام الليل، وكانوا يتعاملون معه على أنه مصدر أنسهم وسعادتهم، ولم يكن يصرفهم عنه تعب ولا سفر .. . فكانوا كما وُصفوا رهبانًا بالليل، فرسانًا بالنهار .. يحيون ليلهم بطاعة ربهم، بتلاوة، وتضرع، وسؤال وعيونهم تجري بفيض دموعهم، مثل انهمال الوابل الهطال، في الليل رهبان، وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال، وإذا بدا علم الرهان رأيتهم بصالح الأعمال. جاءت هند زوج أبي سفيان - رضي الله عنه - زوجها صبيحة فتح مكة، فقالت له أريد أن أبايع محمدًا صلى الله عليه وسلم، قال أبو سفيان: قد رأيتك تكفرين، قالت: أي والله، والله ما رأيت الله تعالى عُبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قيامًا وركوعًا وسجودًا (¬4). ¬

_ (¬1) الخوف من الله تعالى لمحمد شومان الرملي / 80 دار ابن عفان - مصر. (¬2) صلاح الأمة في علو الهمة لسيد العفاني 4/ 195 - مؤسسة الرسالة - بيروت. (¬3) حياة الصحابة 3/ 39، 40. (¬4) رهبان الليل لسيد العفاني 1/ 310.

خامسا: التواضع

خامسًا: التواضع (جيل متواضع) من أهم الصفات التي ينبغي أن تتوفر في الجيل الموعود بالنصر والتمكين: التواضع، والتي يؤكد عليها ما جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة:54). فالذلة للمؤمنين وخفض الجناح لهم يدل على تواضع صاحبه. وحقيقة التواضع أن يكون المرء عند نفسه صغيرًا ... وهي حالة قلبية يعيشها العبد وتظهر آثارها في سلوكه وتعاملاته مع ربه، ومع نفسه، ومع الناس. - مع الله: تواضع العبد في علاقته مع ربه تنطلق من رؤيته لحقيقته وأصله، وأنه مخلوق عاجز، ضعيف، جاهل ... أصله هو التراب، والماء المهين ... وتنطلق كذلك من استشعاره لعظمة ربه، وجلاله، وكماله، وعظيم فضله عليه. هذه الحالة القلبية ينبغي لها أن يترجمها العبد في صورة تذلل ومسكنة وخضوع لله عز وجل، وإظهار لعظيم افتقاره وحاجته إليه، وأنه مهما أوتي من أشكال الصحة أو القوة أو الجمال أو الثراء .. فهو كما هو: عبد ذليل لرب جليل، وأن هذه الأشياء لم تغير من حقيقته شيئًا. - مع النفس: وحقيقة التواضع مع النفس هو استصغار المرء لها، ورؤيتها بعين النقص، ووضعها دائمًا في منزلة أقل مما ينبغي أن تكون، وحسبك في ذلك ما فعله موسى - عليه السلام - عندما استصغر نفسه، واستكثر أن يتحمل الرسالة بمفرده، وطلب من ربه أن يساعده في حملها أخوه هارون - عليه السلام -: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُو} (القصص:34). مع أن الواقع يدل على أنه - عليه السلام - قد قام بها خير القيام. ومن صور تواضع المرء: عدم تقديم نفسه للقيام بعمل ما، وكذلك رؤيته لنفسه أنها ليست أهلًا للعمل الذي يتم ترشيحه له .... ومنها أنه يمشي على الأرض هونًا، فلا يتبختر أو يختال. - مع الناس: تواضع المرء مع الناس ينطلق من رؤيته لهم على أنهم أفضل منه مهما كانت أعماله أو رتبته، فهو دائمًا ينظر إلى الجانب الإيجابي لكل من يتعامل معه ويستشعر أفضليته عليه. ويظهر ذلك في سلوكه معه .. فهو لا يستنكف عن خدمة أهله، ويخفض جناحه للمؤمنين، ويجيب دعوة الفقراء والضعفاء، ويكثر من الجلوس مع المساكين، ويسعى في قضاء حوائج الناس و ... . - تواضع الصحابة: لقد تجلت هذه الصفة وظهرت آثارها بوضوح في جيل الصحابة رضوان الله عليهم ... انظر إلى أبي بكر رضي الله عنه وقد استمر في حلب الأغنام لجيرانه بعد توليه الخلافة، ويقول لهم بعد أن ظنوا أنه لن يستمر في ذلك: بل لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خُلق كنت عليه، فاستمر يحلب لهم (¬1). وفي أول خطبة بعد توليه الخلافة يقول للناس: قد وليت عليكم ولست بخيركم .. مع أنه - رضي الله عنه - خير الناس جميعًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه استصغار النفس. وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يدخل بيت المقدس فاتحًا فماذا كان حاله؟ ¬

_ (¬1) سير السلف الصالح للأصبهاني 1/ 83 دار الهداية - الرياض.

سادسا: الزهد في الدنيا

كان بينه وبين الغلام الذي معه مناوبة .. فلما قرب من الشام كانت نوبة ركوب الغلام، فركب الغلام وأخذ عمر بزمام الناقة فاستقبله الماء في الطريق، فجعل عمر يخوض في الماء، ونعله تحت إبطه اليسرى، وهو آخذ بزمام الناقة، فخرج أبو عبيدة الجراح رضي الله عنه وكان أميرًا على الشام، وقال: يا أمير المؤمنين إن عظماء الشام يخرجون إليك، فلا يحسن أن يروك على هذه الحالة، فقال عمر: إنما أعزنا الله بالإسلام، فلا نبالي بمقالة الناس (¬1). ومر يومًا على امرأة وهي تعصد العصيدة، فقال: ليس هكذا يُعصد، ثم أخذ المسوط، فقال: هكذا (¬2). وعند موته - رضي الله عنه - قال لابنه عبد الله رضي الله عنه: اطرح وجهي يا بني بالأرض لعل الله يرحمني .. قال: فمسح خديه بالتراب (¬3). ورُئي عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يركب على بغلة، وخلفه غلامه نائل وهو خليفة، ورُئي كذلك نائمًا في المسجد في ملحفة وليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين (¬4). ولما بعث عمر أبا هريرة أميرًا للبحرين دخلها وهو راكب على حمار، وجعل يقول: طرِّقوا للأمير، طرّقوا للأمير (¬5). وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لا يُعرف من بين عبيده أي من تواضعه في الزي (¬6). وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه أميرًا بالمدائن، ومر برجل من عظمائها قد اشترى شيئًا، فحسب سلمان حمالًا، فقال: تعالى فاحمل هذا، فحمله سلمان، فجل يتلقاه الناس ويقولون: أصلح الله الأمير، نحن نحمل عنك، فأبى أن يدفع لهم، فقال الرجل في نفسه: ويحك إني لم أسخر إلا الأمير، فجعل يعتذر إليه ويقول: لم أعرفك أصلحك الله، فقال: انطلق، فذهب به إلى منزله، ثم قال: لا أسخر أحدًا أبدًا (¬7). سادسًا: الزهد في الدنيا (جيل زاهد) جيل التغيير جيل زاهد في الدنيا بمفهوم الزهد الحقيقي ألا وهو انصراف الرغبة عن الدنيا ومجافاتها كما قال صلى الله عليه وسلم: (مالي والدنيا ومالي!) (¬8). وكيف لا يكون الجيل الموعود بالنصر والتمكين كذلك، وحب الدنيا والرغبة فيها من أهم العوائق التي تحول بين العبد وبين الدخول في دائرة المعية الإلهية. وما أصاب الأمة ما أصابها من ضعف وذل إلا بحبها للدنيا ورغبتها فيها، وإيثارها إياها على الآخرة، ولقد تنبأ رسولنا صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله! فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يُجعل الوهن في قلوبكم، ويُنزع الرعب من قلوب عدوكم، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت) (¬9). لابد إذن من توافر هذه الصفة في الجيل الموعود، وأن يخرج حب الدنيا من قلوب أبنائه ... عليه أن يكون شعاره في الحياة "ما قل وكفى خير مما كثر وألهى". لا ينبغي عليه أن يفكر كثيرًا في المال، بل ينظر إليه على حقيقته في أنه وسيلة يستجلب بها حاجاته وحاجات أهله الأساسية، ويصون بها وجهه عن سؤال الناس واستجدائهم. - طموح ولكن .. !!: إن جيل التمكين جيل طموح، ولكن ماهي طموحاته؟! هل في العلاوة والمنصب والجاه .. هل في شراء أرض لبناء عقار لأبنائه؟! .... هل في زيادة رصيده في البنك؟! ¬

_ (¬1) تنبيه الغافلين /141 - مؤسسة التاريخ العربي - بيروت. (¬2) صلاح الأمة في علو الهمة 5/ 433. (¬3) الزهد لابن المبارك / 147. (¬4) الزهد للإمام أحمد / 127. (¬5) تنبيه الغافلين / 142. (¬6) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا / 170. (¬7) تنبيه الغافلين / 142. (¬8) صحيح أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح (5669). (¬9) صحيح، أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود عن ثوبان وصححه الألباني في صحيح الجامع ح (8183).

لا، فهذه كلها طموحات دنيوية لا قيمة لها، ولن تفيده في مستقبله الحقيقي هناك في الدار الآخرة. أما طموحاته الحقيقية فهي عند الله عز وجل، في الفردوس الأعلى ... في رؤية مولاه ... في مصاحبة رسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم. طموحاته في الشهادة في سبيل الله وأن تكون روحه في حواصل طير خضر ... من هنا فإنه يتعامل مع الدنيا على حقيقتها بأنها مزرعة للآخرة ... . - لا يُساوم: إن جيل التغيير جيل عابد لله عز وجل، وحر من كل ما سواه ... لا يأسره شيء من حطام الدنيا .. لا تأسره وظيفة يخاف من فقدانها، أو منصب يخشى فواته ... . جيل وضحت عنده الغاية، وتعلق بصره بالسماء، فهدفه الأسمى رضا الله وجنته، أما ما دون ذلك فهو زاهد فيه ... لا يعنيه كثيرًا إن كان غنيًا أو فقيرًا ... أن رُزق بأولاد أو لم يرزق ... أن كان في منصب رفيع أو وضيع. ومن آثار حرية هذا الجيل أنه غير مقيد بأثقال تمنعه من الحركة: أنه لا يساوم على شيء من هذه الدنيا، فنتيجة المساومة معروفة. ومما يعين هذا الجيل على الحرية من أسر الدنيا: ألا يتشعب في المشاريع الاقتصادية، وأن يكون زاده في الدنيا كزاد الراكب، فلا يتوسع في كماليات تحتاج منه إلى مصاريف كثيرة تصبح أداةً تضغط عليه، وأثقالًا تربط قلبه بالدنيا. وليس معنى هذا أن يكون جيل التمكين جيلًا فقيرًا، بل المقصد ألا تشغل الدنيا فكره أو تأسر قلبه، فالمهمة العظيمة المنوطة به تستدعي منه عدم التعلق بشيء سوى الله ... تأمل معي هذا الحديث النبوي الشريف لتعرف أهمية عدم تعلق القلب بالدنيا ... . قال صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فقال لقومه: لا ينبعني رجل ملك بُضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن بها، ولا أحد بنى بيوتًا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنمًا أو خلفات وهو ينتظر أولادها ... ) (¬1). فهنا اشترط هذا النبي شروطًا لمن يريد الخروج معه، القاسم المشترك لهذه الشروط هو عدم وجود ما يشغل الذهن، أو يكون وسيلة ضغط على الشخص تجعله متثاقلًا في حركته، يتمنى عدم الموت لكي يعود ويتفقد أشغاله. من هنا ندرك قيمة توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا) (¬2). - من لوازم الحرية: ومن أخطر الأشياء التي يمكنها أن تجذب أبناء جيل التمكين إلى الأرض وتحد من حريتهم، وتضع الأثقال في قلوبهم، أن لا تكون زوجته وأولاده على مستواه من الفهم، ووضوح الغاية مما يشكل أمامه عائقًا كبيرًا يعوق حركته وتجرده، ولقد بين لنا القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (التغابن:14). وقال صلى الله عليه وسلم: (الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة) (¬3). من هنا كان من الضروري أن يختار أبناء هذا الجيل لأنفسهم زوجات يشعُرنْ بهموم الأمة، ويدركن حاجتها إلى جيل جديد يُخرجها - بإذن الله - من النفق المظلم الذي تسير فيه منذ زمن طويل، ويدركن أيضًا أن هذا الجيل ليس كبقية الناس في أحلامه وطموحاته الدنيوية، لذلك فلن يطالبن بفرش وثير ومسكن واسع، وسيارة حديثة و ... بل سيطالبن أزواجهم ببذل المزيد من الجهد في العمل المطلوب منهم، وليس ذلك فحسب بل سيكُنَّ بجوارهم معينات ومؤازرات، فجيل التمكين ليس قاصرًا على الرجال فقط، بل الرجال والنساء سواءً بسواء ... ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) صحيح، رواه الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح (7214). (¬3) صحيح، رواه أبو يعلى في مسنده، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح (7160).

- الزهاد الأوائل: كان الصحابة أكثر الخلق عبودية لله عز وجل بعد الرسل، ومن ثَّم كانوا أكثر الخلق حرية من الدنيا، لقد كانت صفة الزهد في الدنيا من أبرز الصفات التي ميزتهم عما سواهم ... يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - لمن بعده من التابعين: أنتم أكثر صومًا وصلاة من أصحاب محمد وهم كانوا خيرًا منكم. فقالوا: وبمَ ذلك؟، قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب في الآخرة (¬1). لقد كانوا يخافون من بسط الدنيا، فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أتته غنائم القادسية، فجعل يتصفحها وينظر إليها وهو يبكي ومعه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فقال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين هذا يوم فرح وسرور، فقال: أجل، ولكن لم يؤت هذا قوم قط إلا أورثتهم العداوة والبغضاء (¬2). وهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يدخل على سلمان رضي الله عنه يعوده، فبكى سلمان، فقال سعد: ما يبكيك؟ تلقى أصحابك، وترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الحوض، وتُوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض! فقال: ما أبكي جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فقال: (ليكن بُلغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب) وهذه الأوساد حولي، وإنما حوله مِطْهرة أو إنجاتة (¬3) ونحوها. - مفهوم التهلكة: لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يدركون أن التهلكة ليست في الموت في سبيل الله بل في الركون إلى الدنيا. عن أبي عمران رضي الله عنه قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا. صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة:195)، فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد (¬4). - جيل الأحرار: حاولت قريش مساومة صهيب الرومي رضي الله عنه على عدم الهجرة إلى المدينة أو ترك ماله الذي جمعه نظير عمله عندهم فماذا فعل صهيب؟! قال لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تتخلون عني؟ قالوا: نعم، يقول صهيب: فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال (ربح صهيب، ربح صهيب) مرتين، وفيه وفي أمثاله نزلت الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} (البقرة:207) (¬5). - الزهد في المال: ومما يدل على أن طموح الصحابة كان في زيادة رصيدهم من نعيم الآخرة هو كثرة إنفاقهم للمال مع شدة حاجتهم إليه، فإن كنت في شك من هذا فتأمل معي هذا الخبر: لما أتى عمر الشام، طاف بها ونزل بحمص، فأمر أن يكتبوا له فقراءهم، فرُفع إليه الكتاب، فإذا فيه سعيد بن عامر " أميرها ". قال: من سعيد بن عامر؟ قالوا: أميرنا! قال: أميركم؟ قالوا: نعم، فعجب عمر فقال: كيف يكون أميركم فقيرًا؟ أين عطاؤه؟ وأين رزقه؟، قالوا: يا أمير المؤمنين، لا يمسك شيئًا، فبكى عمر، ثم عمد إلى ألف دينار، فصرَّها - أي وضعها في صُرَّة - ثم بعث إليه بها، وقال: أقرئه السلام وقل: بعث بها إليك أمير المؤمنين تستعين بها على حاجتك. ¬

_ (¬1) حياة الصحابة 2/ 96. (¬2) حياة الصحابة 2/ 97. (¬3) إناء تغسل فيه الثياب. (¬4) حياة الصحابة 1/ 360. (¬5) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 216.

سابعا: جيل مجاهد

فجاء بها إليه الرسول، فنظر، فإذا هي دنانير، فجعل يسترجع! وتقول له امرأته: ما شأنك؟ أمات أمير المؤمنين؟ قال: بل أعظم من ذلك، قالت: فما شأنك؟ قال: الدنيا أتتني! الفتنة دخلت عليَّ! قال: فاصنع فيها ما شئت. قال: عندك عَوْن؟ قالت: نعم. فأخذ ذريعة له، فصر دنانير فيها صُررًا، ثم جعلها في مِخلاة، ثم اعترض بها جيشًا من جيوش المسلمين، فأمضاها كلها (¬1). سابعًا: جيل مجاهد من سمات الجيل الموعود أنه جيل مجاهد في سبيل الله، يبذل جهده ووسعه وطاقته من أجل رضا ربه، ينطبق عليه قوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (المائدة:54). لقد وضحت الرؤية لهذا الجيل، ورُفع له علم الخلافة وأستاذية العالم، فشمَّر للوصول إليه، وجعل حياته وإمكاناته وفقًا لتنفيذ هذا الهدف، ولا ينتظر من ذلك إلا رضا مولاه عنه. جيل لا يبخل بأي جهد يبذله للوصول إلى هدفه، ولِمَ لا وهو يعلم أن إقامة هذا الدين لن تكون إلا بجهد البشر في البداية ليأتي التأييد الإلهي تبعًا لوجود هذا الجهد كما قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:7). من هنا يعلم أبناء هذا الجيل أن أي جهد يبذلونه - مهما كان ضئيلًا - فإنه يمثل خطوة مهمة في بناء المشروع الإسلامي، لذلك فهم يصلون الليل بالنهار من أجل الوصول إلى أهدافهم دون الإخلال بواجباتهم تجاه أنفسهم أو أهليهم. لقد أوقف هذا الجيل حياته من أجل هدفه، وجعل كل شيء آخر على هامش تفكيره .. أجلَّ الكثير من متع نفسه من أجل مشروعه ومشروع الأمة العظيم، يدفعه لذلك الحُرقة الشديدة التي تملأ قلبه على أحوال أمته وما يحدث لها من ذل وهوان لم يسبق له مثيل. تراه دومًا على استعداد تام للتضحية بأي شيء من أجل رضا الله وتحكيم شرعه ورفع رايته. على استعداد لأن يبذل ماله ووقته وجهده وراحته ... وعلى استعداد كذلك للتضحية بالمنصب والعقود المغرية التي من شأنها أن تُحسن وضعه المالي. هيأ نفسه وبيته للبذل وتحمل خشونة العيش وكذلك المضايقات والإيذاءات التي من المتوقع أن يتعرض لها. وتتصاعد التضحية لتصل إلى درجة التضحية بالنفس طمعًا في رضا ربه والفوز بمكانة الشهداء عنده. - مع الصحابة وجهادهم في سبيل الله: لقد أوقف الصحابة حياتهم من أجل الله وجاهدوا في سبيله وتحملوا خشونة العيش والجوع والأذى رغبة فيما عنده سبحانه وتعالى. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " لو رأيتنا ونحن مع نبينا صلى الله عليه وسلم، لحسبت أنما ريحنا ريح الضأن، إنما لباسنا الصوف وطعامنا الأسودان التمر والماء" (¬2). وعن محمد بن سيرين قال: " كان الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأتي عليه ثلاثة أيام لا يجد شيئًا يأكله فيأخذ الجلدة فيشويها فيأكلها فإذا لم يجد شيئًا أخذ حجرًا فشد صلبه" (¬3). - وضوح الهدف: لقد كان أبناء الجيل الأول يعلم بوضوح هدفه في الدنيا، وأن الله عز وجل قد اختارهم لينشروا دينه، ويقوموا بالشهادة على الناس، ويسعوا لإخراجهم من الظلمات إلى النور، لذلك انتشروا في الأرض يدعون الخلق إلى الله، ويجاهدون في سبيله .. لم يركنوا إلى الدنيا، ولم ينقطعوا للعبادة، أو مجاورة الحرم .. لم يقيموا في مدينة نبيهم صلى الله عليه وسلم، مع ما في ذلك من فضل عظيم، لأنهم علموا أن الله عز وجل يريد منهم الدعوة والجهاد وتعبيد الأرض له سبحانه. ¬

_ (¬1) الرقة والبكاء لابن قدامة المقدسي / 258، 2599 - دار القلم - دمشق. (¬2) رواه الطبراني في الأوسط. (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع.

ثامنا: الصبر والثبات

تأمل معي ربعيّ بن عامر رضي الله عنه وهو أحد عامة جيش المسلمين الذين ذهبوا لفتح بلاد فارس وهو يخاطب رستم قائد الفرس، فحين سأله رستم: " ما جاء بكم؟ " قال: " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله، وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى" .. (¬1). - وضوح الغاية: أما غايتهم - رضوان الله عليهم - فقد كانت واضحة أمامهم تمام الوضوح، وتمثل في رضا الله وبلوغ جنته ... لقد اقتربت الجنة أمام أعينهم، فازداد شوقهم إليها، ومن ثَّم العمل على دخولها .. تأمل معي ما حدث لحرام بن ملحان رضي الله عنه وهو أحد القراء الذين استشهدوا في بئر معونة ... لقد ذهب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه وأمر رجلًا فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حِرَام: " الله أكبر، فزت ورب الكعبة". وفي بدر وقف صلى الله عليه وسلم يُحرض أصحابه على القتال فقال لهم: (والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة)، وقال وهو يحضهم على القتال: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، وحينئذ قال عمير بن الحمام: " بخ بخ "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يحملك على قول بخ بخ؟) قال: " لا، والله يارسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها "، قال: (فإنك من أهلها)، فأخرج ثمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: " لئن أنا حييت آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل". وكذلك سأله عوف بن الحارث بن العفراء، فقال: " يا رسول الله ما يضحك الرب من بعده "! قال: (غمسه يده في العدو حاسرًا)، فنزع درعًا كان عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل (¬2). وهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يعقر فرسه في مؤتة ويقاتل الروم حتى قتل وهو يقول: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردة شرابها والروم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها علىَّ إذا لاقيتها ضرابها (¬3) ثامنًا: الصبر والثبات (جيل صابر) من الصفات الأساسية للجيل الموعود بالنصر والتمكين أنه جيل صابر .. يتحمل ما يلاقيه من ضغوط، ويجتاز ما يقابله من عقبات، ويثبت أمام المحن والبلايا التي يتعرض لها في طريقه لتحقيق هدفه المنشود. لقد علم أبناء هذا الجيل بأن الطريق الذي يوصلهم إلى هدفهم ليس مفروشًا بالورود والرياحين، بل طريق صعب، مرير، طويل ... ملئ بالأشواك والعقبات ... يقف على جانبيه شياطين الإنس والجن يعملون جاهدين على إيقاف المسيرة، والحيلولة دون وصولهم إلى غايتهم التي نذروا حياتهم من أجلها في رضا مولاهم والفوز بجنته. علم أبناء هذا الجيل طبيعة الطريق فوطنوا أنفسهم على ذلك، واعتصموا بربهم، وعاهدوه على المُضى قُدمًا في هذا الطريق، فإما أن يموتوا فيه مجاهدين في سبيل مولاهم، صابرين، ثابتين على عهدهم، أو يصلوا إلى هدفهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب:23). ¬

_ (¬1) حياة الصحابة 1/ 167. (¬2) الرحيق المختوم لصفي الرخمن المباركفوري / 242 - مؤسسة علوم القرآن - بيروت. (¬3) حياة الصحابة 1/ 407.

طريق أصحاب الدعوات

- طريق أصحاب الدعوات: إن طريق أصحاب الدعوات الصادقة - طريق التمكين - طريق واحد لا ثاني له، سار عليه الرسل وأتباعهم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214). يقول الصلابي: "الإبتلاء مرتبط بالتمكين ارتباطًا وثيقًا، فلقد جرت سنة الله تعالى ألا يُمكِّن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختيار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف، فقد شاء الله تعالى أن يبتلى المؤمنين، ويختبرهم، ليمحص إيمانهم، ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك، ولذلك جاء المعنى على لسان الإمام الشافعي - رحمه الله - حين سأله رجل، أيهما أفضل للمرء ـ أن يُمكن أو يبتلى؟ فقال الإمام الشافعي: " لا يُمكَّن حتى يُبتلى"، فإن الله تعالى ابتلى نوحًا، وإبراهيم، وموسى، ومحمدًا - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة" (¬1). إذن فسنة الإبتلاء من لوازم طريق التمكين: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد:31) ... ولا يوجد خيار آخر للتعامل معها غير الصبر والثبات والاعتصام بالله عز وجل ... {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:250). - الصبر والثبات عند الجيل الأول: عندما نتأمل سيرة الجيل الأول نجد أنهم قد تعرضوا لفتن وابتلاءات عظيمة كان من أشدها ما تعرض له المسلمون في الأوائل في مكة فصبروا وتحملوا وثبتوا على عهدهم مع الله ... انظر ما حدث لبلال - رضي الله عنه - وما فعله معه عدو الله أمية بن خلف إذ كان يُخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له، لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول - وهو في ذلك البلاء -: " أحد، أحد" (¬2). ويقول عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء إذ بعمَّار وأبيه وأمه يُعذبون في الشمس ليرتدوا عن الإسلام، فقال أبو عمّار: " يا رسول الله، الدهر كله هكذا؟ " فقال: (صبرًا آل ياسر. اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت) (¬3). لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم يراهم يُعذَّبون فكان يأمرهم بالصبر لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أن طريق الدعوات لابد وأن يصاحبه إيذاء ومضايقات وعقبات، ولا بديل عن الصبر والتحمل واجتياز تلك العقبات حتى يأذن الله بالفرج ... تأمل معي ما قال صلى الله عليه وسلم عندما جاءه خباب بن الأرت رضي الله عنه عند الكعبة يشكو إليه شدة ما لاقوه من الأذى، ويطلب منه أن يدعو الله لهم، فأحمر وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد كان من قبلكم ليُمشط بأمشاط من حديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه!! وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلا الله عز وجل والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) (¬4). ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لعلي الصلابي 1/ 262، 263 - دار الإيمان - الإسكندرية. (¬2) حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 221 نقلًا عن حلية الأولياء. (¬3) أخرجه الحاكم وابن عساكر، وابن سعج في طبقاته ... انظر حياة الصحابة 1/ 221، 222. (¬4) رواه البخاري.

تاسعا: الاعتدال والتوازن

وفي غزوة الأحزاب، ومع شدة البلاء، واجتماع المشركين على المؤمنين من كل جانب، وتضييق الخناق عليهم، تذكر هؤلاء ما أخبر به الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم عما سيلاقونه من متاعب وهم في طريقهم لإقامة الدولة الإسلامية العالمية، فزادهم ذلك إيمانًا وتسليمًا لله عز وجل وصبرًا واحتسابًا لما عنده {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (الأحزاب:22). تاسعًا: الاعتدال والتوازن من أهم سمات هذا الجيل أنه جيل معتدل ومتوازن في أموره كلها ... في عباداته ومعاملاته، في فهمه وحركته .. يُعطي كل ذي حق حقه، لا يضخم صغيرًا، أو يصغر كبيرًا يضع كل شيء في مكانه الصحيح {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة:269). يوازن بين متطلبات إصلاح نفسه وبين متطلبات بيته ومجتمعه، ويعلم أن الدائرة الأَوْلى هي نفسه، ثم بيته ثم مجتمعه. لا يتشدد فيما لا ينبغي التشدد فيه، ولا يكلف نفسه ما لا يطيق. - عالم بزمانه: جيل التمكين ليس جيلًا منعزلًا عن الناس، فلا تراه يعيش في خلوة بعيدًا عنهم، بل هو ابن بيئته، يعرف زمانه جيدًا، ويُحسن التعامل مع متغيرات الحياة، ووسائل العلم الحديث ... مثقف الفكر .. يعيش هموم أمته، ويعي جيدًا كيف يخطط أعداؤه. يستخدم كل جديد لتبليغ دعوته، والوصول إلى هدفه. - منشغل ببناء الحق: الجيل الموعود كذلك ينشغل ببناء الحق، ويصب جهده في إعادة بناء الأمة وبث الروح فيها، هذه المهمة تستدعي منه عدم الانشغال كثيرًا بهدم الباطل .. فإن قلت: ولماذا لا ينشغل أيضًا بهدم الباطل؟!! جاءك الجواب بأن الباطل وهو في عنفوانه له الكثير من الأعوان، ولو انشغل بهدمه لاستنُفذت قواه، ولضاع مجهودهُ سدى ... ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في ذلك، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يطوف حول الكعبة وحولها من الأصنام ما يبلغ ثلاثمائة وستين صنمًا، ومع ذلك لم يحاول هدمها، بل كان عمله صلى الله عليه وسلم مُنصبًا على بناء التوحيد في النفوس، وإقامة الدولة الإسلامية ليأتي بعد ذلك هدم الباطل بسهولة ويسر ... لقد انشغل صلى الله عليه وسلم ببناء الأمة، ويومًا بعد يوم ارتفع الصرح الإسلامي وتضاءل الباطل، حتى جاء اليوم الذي زهق فيه تمامًا، وأزيلت الأصنام من الجزيرة العربية كلها .. وهذا هو المطلوب: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ? وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ? وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (هود:121 - 123). - مع الجيل الأول: إن قضية الفهم الصحيح للإسلام لمن الأهمية بمكان لجيل التمكين، فإن كان الإيمان هو الدافع الحقيقي للأعمال، فإن الفهم الصحيح هو الذي يمنع جنوح هذه الأعمال خارج أُطر الاستقامة .. ولقد تمثلت هذه الصفة جيدًا في جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - وظهرت مظاهرها في الكثير من أقوالهم وأفعالهم، ولعل من أقوى المظاهر تأخرهم في دفن رسولهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا من اختيار خليفة وإمام لهم، خشية أن يبيتوا ليلة بغير إمام، ولما في ذلك من مفسدة عظيمة للأمة.

عاشرا: جيل مترابط متآخ

وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما حان الأجل وجاءته ساعة الوفاة يوصي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن استخلفه مكانه خليفة للمسلمين فيقول له: " إن لله تعالى حقًا بالنهار لا يقبله بالليل، ولله في الليل حق لا يقبله بالنهار، وإنه لا تقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة" (¬1). ولقد ترك عثمان بن عفان رضي الله عنه قصر الصلاة في الحج، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر في الحج، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اعتقاد العامة أن الصلاة ركعتان في جميع الأوقات والظروف. وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول: " لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلىَّ من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود" (¬2). عاشرًا: جيل مترابط متآخ ٍ هذا الجيل - جيل التمكين - ليس مجرد أفراد متناثرين هنا وهناك لا يشعر أحدهم بالآخر، بل هو جيل مترابط متآخٍ كالبنيان المرصوص يشد بعضه أزر بعض. فالأخوة هي الرباط الذي يربط أفراده ليشكلوا جميعًا صفًا واحدًا لا أعوجاج فيه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصف:4). هذا الترابط الذي ينبغي أن يكون بين أبناء الجيل الموعود، له دور كبير في تحقيق الهدف المنشود، فهو وسيلة عظيمة لحماية الأفراد من الفتور أو التأثر السلبي بالهجمات التغريبية التي تتعرض لها الأمة، وهو كذلك يعينهم على الثبات ومواصلة السير، ومن خلاله يكون التنافس على الخير، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. - نماذج مشرفة: ولأن الجيل الأول هو النموذج الذي نراه أمامنا وقد تحقق فيه وعد الله بالنصر والتمكين فإن من الطبيعي أن نرى هذه الصفة وقد تجلت فيه بوضوح، وظهرت آثارها في أقوال وأفعال أبنائه، ولقد قام صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة من مكة إلى المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا سبعين رجلًا نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، وعلى أن يتوارثوا بعد الموت دون ذوى الأرحام، إلى حين واقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (الأنفال:75). رد التوارث دون عقد الأخوة (¬3). وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدًا لا لفظًا فارغًا، وعملًا يتربط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر، وكانت عواطف الإيثار والمواساة والؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال (¬4). روى البخاري أن المهاجرين لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع رضي الله عنهما، فقال سعد لعبد الرحمن: "إني أكثر الأنصار مالًا، فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ... ". ¬

_ (¬1) الزهد لعبد الله بن المبارك (119). (¬2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام - ابن تيمية - 28/ 6. (¬3) زاد المعاد لابن القيم 2/ 56. (¬4) فقه السيرة لمحمد الغزالي / 179، 180.

الإيثار مع الحاجة

- الإيثار مع الحاجة: إن رابطة الأخوة والحب في الله لمن أوثق الروابط التي تجمع بين المؤمنين بصفة عامة، وبين جيل التمكين بصفة خاصة .. هذه الرابطة يمكنها أن تشتد وتشتد حتى تصل لآفاق عالية لا يمكن لعقل أن يصدقها ... تأمل وصف الله للأنصار وكيف تعاملوا مع إخوانهم المهاجرين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر:9). يقول القرطبي: كان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم منازلهم، وإشراكهم في أموالهم ثم قال: (إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليَّ من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ماهم عليه من السكن في مساكنهم وأموالهم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم) فقال سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ: بل نقسمه بين المهاجرين، ويكونوا في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار). لقد آثروهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم لا عن غنى، بل مع احتياجهم إليها (¬1). ومما يؤكد على أن الإيثار كان سمة عامة في تعامل الجيل الأول مع بعضهم البعض ما أخبر به ابن عمر رضي الله عنهما أنه أُهدى لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: " أخي فلان أحوج مني إليه، فبعث بها إليه، فبعث ذلك الإنسان إلى آخر فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول بعد أن داوله سبعة" (¬2). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/ 17 - 19. (¬2) إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي 2/ 271.

الفصل الثالث كيف تحقق صفات الجيل الموعود؟!!

الفصل الثالث كيف تحقق صفات الجيل الموعود؟!!

الفصل الثالث كيف تحقق صفات الجيل الموعود؟ عند إجالة النظر في الصفات العشر السابقة التي تشكل الحد الأدنى لما ينبغي أن يكون عليه الجيل الموعود بالنصر والتمكين نجد أن التحقق بهذه الصفات أمر في غاية الصعوبة، وإذا ما تكلف الواحد منا بعضها فترة من الفترات فإنه سرعان ما يعود لسابق عهده، والواقع هو خير دليل على ذلك، فالكثير منا يتمنى أن يكون زاهدًا في الدنيا، راغبًا فيما عند الله، مشمرًا للجنة، مخلصًا لله، خائفًا منه، محبًا له ... لكنه لا يستطيع. نقرأ أخبار الصالحين فنتأثر بها ونحلم أن نكون مثلهم ولا نستطيع تحويل الحلم إلى حقيقة .. لماذا؟! لأننا نريد أن نقفز إلى الثمرة مباشرة ولا نبدأ الأمر من أوله، وبما أن مرحلة الإثمار هي آخر مراحل الإنبات، وتسبقها مراحل كثيرة من الرعاية والعناية، كذلك الصفات العشر السابقة، لابد لها -حتى تظهر- من عمل وبناء وتغيير داخلي يتصاعد شيئًا فشيئًا حتى تبدو الآثار وتينع الثمار. فعلى سبيل المثال: لا يمكن للإنسان أن يتكلف أعمال المخلصين لله عز وجل ويستمر على ذلك فترة من الزمان، فالإخلاص ماهو إلا صورة من صور تعامل العبد مع ربه، ولابد أن تنطلق من داخله بصورة تلقائية، وكذلك الحب والخوف والرجاء والتعظيم ..

المعاملة بقدر المعرفة

- المعاملة بقدر المعرفة: فإن قلت: وكيف يمكن للعبد أن يعامل ربه بهذه المعاملات، وأن يستمر على ذلك طيلة حياته؟! كانت الإجابة بأنه من الأمور المعروفة بين الناس أنه على قدر معرفة الشخص بشخص آخر تكون درجة معاملته له، فلو قُدِّر لإنسان ما أن يجلس بجوار آخر في قطار مسافر إلى بلدة بعيدة، وبدأ الحديث بين الشخصين .. في بداية الحديث يكون الكلام بينهما فيه الكثير من التحفظ، ومع استمرار التعارف وتجاذب أطراف الحديث يزول التكلف وتتحسن درجة المعاملة كل منهما للآخر .. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه لو اكتشف أحدهما أن الآخر صاحب منصب مرموق فإن نظرته له ستختلف عما كانت عليه في البداية وسينعكس ذلك - بلا شك - على طريقة تعامله معه. - الجهل بالله: فإذا ما نظرنا إلى معاملتنا وعلاقتنا بالله عز وجل فسنجدها معاملة جافة، وعلاقة محدودة .. فالذي يحكمها ويؤثر فيها هو درجة معرفتنا به سبحانه، فلو يعلم الناس قدر ربهم لخافوه ولاستقاموا على أمره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (الأنعام:91). وكلما ازداد جهل العباد بالله ازداد تصورهم الخاطئ عنه - سبحانه - وانكعس ذلك على شكل التعامل بينهم وبينه. انظر - مثلًا - لقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة:142). فلقد سمى القرآن هؤلاء الذين يسألون هذا السؤال بالسفهاء الجهلة لأنهم لا يعرفون الله، ولا يعرفون أن له ملك السموات والأرض، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. ومثال ذلك أيضًا: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ? حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ?وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ? وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (فصلت:19 - 23). فظن هؤلاء المحدود والقاصر عن الله عز وجل جعلهم يبتعدون عن صراطه المستقيم، مما أوردهم النار والعياذ بالله. - مع موسى عليه السلام: تأمل معي هذا الموقف الذي حدث لموسى عليه السلام: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف:143). في هذا الموقف طلب موسى - عليه السلام - من ربه رؤيته، فأخبره الله عز وجل بأنه لا يستطيع أن يراه وأقام له - سبحانه وتعالى - الدليل على ذلك بأنه لو تجلى سبحانه للجبل واستقر ذلك الجبل مكانه ولم يحدث له شيء فسوف يستطيع أن يراه ... ثم تجلى الله عز وجل للجبل فدكَّ الجبل وتحطم. فماذا حدث لموسى عليه السلام؟!

المعرفة المطلوبة

صُعق مما رآه من منظر رهيب، ثم أفاق " وقد ازدادت " معرفته بعظمة ربه وجلاله فانعكست تلك المعرفة على كلامه ومعاملته لربه، فلما آفاق قال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}. لقد تاب موسى عليه السلام إلى الله عز وجل من تقصيره في حقه سبحانه، وحق تعظيمه وإجلاله وتقديسه، ومن طلب لرؤيته ... هذه التوبة كانت نتيجة المعرفة التي ازدادات لديه بعد ما رأى آثار عظمة الله عز وجل جلاله. إذن فمعاملة الله بالإخلاص، والحب، والخوف، والمهابة، والتعظيم، والتقوى، والاستسلام .. كل ذلك نتاج قوة المعرفة به سبحانه. معنى ذلك أن أول محور ينبغي أن تنطلق منه صفات الجيل الموعود بالنصر والتمكين هو معرفة الله عز وجل. - المعرفة المطلوبة: نعم، المعاملة على قدر المعرفة، ولكن المعرفة المطلوب وجودها لكي تُحدث تغييرًا في المعاملة مع الله عز وجل لابد وأن تكون معرفة قوية وراسخة وعميقة ومستمرة .. المطلوب معرفة بالله عز وجل، تتمكن من يقين الإنسان وعقله الباطن، وتؤثر في مشاعره، وتشكل جزءًا أصيلًا من إيمانه. - المعرفة والإيمان: كما نعلم أن المصدر الموجه لأفعال الإنسان هو القلب، وأن القلب هو مجمع المشاعر من حب وكره، ورغبة ورهبة، وفرح وسرور، و ... هذه المشاعر يتجاذبها طرفان: إيمان وهوى .. إيمان بما في العقل من حقائق، وهوى بما تميل إليه النفس وتريده .. وعلى قدر قوة أحدهما وقت اتخاذ القرار يكون الفعل من نصيبه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يقتل وهو مؤمن) (¬1). فلحظات الزنى والسرقة وشرب الخمر عكست انتصار الهوى على الإيمان. معنى ذلك أنه لابد من زيادة الإيمان بالله في القلب ليثمر ذلك أعمالًا صالحة بالجوارح. وزيادة الإيمان بالله عز وجل تعني زيادة اتجاه المشاعر إليه سبحانه، أي زيادة اتجاه الحب والخشية والمهابة و ... . وكلما تغيرت المشاعر واتجهت إلى الله تحسنت معاملة العبد القلبية لربه، ومن ثم انعكس ذلك بسهولة على جوارحه، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32). وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك) (¬2). فعلى قدر الخشية يكون ترك المعاصي .. هذه الخشية ما هي إلا معاملة قلبية من العبد لربه تزيد وتنقص بحسب قوة المعرفة بالله عز وجل. - الفكر والعاطفة: لكي تؤثر المعرفة بالله عز وجل في المشاعر وتصبح جزءًا من إيمان الفرد، لابد وأن تكون عميقة ومؤثرة .. تخاطب الفكر والعاطفة، وأن تكون كذلك متواصلة لتستمر المشاعر في التوجه إلى الله عز وجل. إذن فالإيمان بالله يعني: معرفة بالله تؤثر في المشاعر مما يجعل القلب يتجه بهذا الجزء من المشاعر إلى الله عز وجل. أما زيادة الإيمان فتعني زيادة اتجاه المشاعر إليه سبحانه، واستكمال الإيمان يعني اتجاه المشاعر بالكلية إلى الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان). من هنا تظهر قيمة حضور العقل والقلب معًا في الأعمال الصالحة التي يقوم بها العبد لكي يزداد إيمانه، وأنه على قدر تحرك المشاعر القلبية مع الطاعة تكون زيادة الإيمان الناتج عنها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه والإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس. (¬2) حسن، رواه الترمذي والحاكم عن ابن عمرو وأورده الألباني في صحيح الجامع برقم (1268).

معرفة النفس

معنى ذلك أن الطاعة التي تزيد الإيمان هي الطاعة التي يتحرك معها القلب، وإلا فمهما أدى العبد من طاعات كثيرة بجوارحه دون أن يتحرك قلبه معها كان الأثر الناتج عنها ضعيفًا في زيادة الإيمان، ومن ثم لا يصبح لها تأثير إيجابي على سلوك صاحبها. وخلاصة القول أن المحور الأول الذي تنطلق منه صفات الجيل الموعود بالنصر والتمكين هو معرفة الله عز وجل ... هذه المعرفة لابد وأن تكون عميقة وراسخة يزداد بها الإيمان وتتأثر بها المشاعر، فتتوجه إلى الله، ومن ثم تتحسن المعاملة القلبية معه سبحانه، مما يثمر أعمالًا ومظاهر تعكس تحسن هذه المعاملة. - معرفة النفس: وكما أن قاعدة " المعاملة على قدر المعرفة " تنطبق على علاقتنا بالله عز وجل وطريقة معاملتنا له سبحانه، فإنها كذلك تنطبق على نظرتنا لأنفسنا، وأسلوب التعامل معها، فالملاحظ على البعض أنه يتعامل مع نفسه بالإعجاب والرضا، ويستشعر علوها وتميزها على الآخرين .. هذه المعاملة الخاطئة مع النفس تنطلق من الجهل بحقيقتها .. فلو عرف الواحد منا حقيقة أصله، ومدى ضعفه، وإحتياجه لربه، وشدة فقره إليه .. ولو عرف هذا كله معرفة تترسخ في يقينه وتتشابك مع إيمانه لاشتد حذره من نفسه، وخوفه منها، واشتد شعوره بالاحتياج إلى الله .. معنى ذلك أن معرفة النفس معرفة حقيقية سيؤدي إلى مزيد من الإخلاص لله عز وجل والتوكل الصادق عليه، وسيثمر كذلك صفة التواضع، فأصل التواضع هو استصغار العبد لنفسه، ورؤيتها بعين النقص، ورؤية غيره أفضل منه .. ومن هنا يتضح لنا أن معرفة النفس هي المحور الثاني الذي تنطلق منه صفات الجيل الموعود بالنصر والتمكين .. هذا المحور بلا شك له ارتباط وثيق بمحور معرفة الله عز وجل، فكلما ازداد العبد معرفة بربه صغرت نفسه عنده، وكلما نسى ربه ازداد نسيانه لخطورة نفسه عليه، ومن ثم ازداد ركونه إليها، وهذا ما يؤكده قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} (الحشر:19). - معرفة الدنيا: ما الذي يجعلنا نطمع في الدنيا، ونكثر من التفكير في مستقبلنا؟! ما سبب لهفتنا على المال، والفرح بزيادته، والحزن على نقصانه؟ ما الذي يجعلنا نمد أعيننا إلى من فضلوا علينا في الرزق، ونتمنى أن نكون مثلهم؟ إنه الجهل بالدنيا وحقيقتها وكونها مجرد محطة لنستريح فيها استراحة المسافر، وأنها مرحلة من مراحل رحلة العودة إلى الله. إنه كذلك الجهل بطبيعتها وحقيقة زينتها وزيفها. هذا الجهل جعلنا نتعامل معها بطريقة خاطئة، فبدلًا من مجافاتها، وعدم الركون إليها، أحببناها وحرصنا عليها. تخيل أن أحدًا من الناس قد دعاك أنت وأسرتك لقضاء العطلة الصيفية في بلدته، عزمت على السفر ولكنك أردت بعض المعلومات عن هذه البلدة، فبحثت عنها وسألت العارفين بها فوجدت أن طقسها في الصيف حار جدًا، والكهرباء تنقطع عنها باستمرار، وأمراض الصيف تنتشر فيها بكثرة، ونسبة الرطوبة عالية جدًا، واللصوص وقطاع الطرق يملأون طرقاتها، ... فماذا سيكون رد فعلك بعد سماع هذه الأخبار؟! هل ستسافر إلى هذه البلدة أم ستنصرف رغبتك عنها؟! بلا شك أنك ستزهد في الذهاب إليها، وستنصرف عنها رغبتك بالكلية نتيجة معرفتك بحقيقتها. وكذلك الدنيا، فالسبب الرئيسي لتعلقنا بها ناتج عن جهلنا بحقيقتها .. نعم، نسمع عن بعض صفاتها بين الحين والحين فنتمنى الزهد فيها ولكننا لا نستطيع، لأن المعرفة لابد أن تكون عميقة وراسخة تدخل في يقين الإنسان وتؤثر في إيمانه حتى يكون لها مردود إيجابي ومستمر في تعامله معها بالزهد فيها والعزوف عنها.

الإيمان بالآخرة

إذن فمعرفة الدنيا هي المحور الثالث الذي تنطلق منها صفات الجيل الموعود، وبخاصة صفة الزهد وما شابهها من صفات. - الإيمان بالآخرة: وعلى عكس تعاملنا مع الدنيا نتعامل مع الآخرة، فعلى الرغم من كون الآخرة هي دار القرار وأن في الجنة من صور النعيم ما لا يمكن أن يدركه العقل البشري المحدود، وأن في النار من صور العذاب ما لا يتحمله بشر إلا أننا لا نتعامل مع هذه الحقيقة كما ينبغي، فلا ترانا مشمرين للجنة، بل زاهدين فيها وفي كل ما يقرب إليها، ولا ترانا كذلك خائفين وجلين من النار، أو عاملين على الهروب منها، وهذا بلا شك ناتج عن الجهل بحقيقتهما. إن وضوح الرؤية بالنسبة للجنة وعدم غياب حقيقتها عن ذهن المسلم له دور كبير في التشمير لها، فينعكس ذلك على تصرفاته، من المسارعة في الخيرات، والإكثار من العبادة، والجهاد في سبيل الله، والصبر على مشاق الطريق. معنى ذلك أن معرفة الآخرة والإيمان بها يشكل المحور الرابع، الذي تنطلق منه صفات الجيل الموعود بالنصر والتمكين. - المعارف الأربعة: إذن فهناك أربعة معارف تشكل المنطلقات الأساسية لأغلب صفات جيل التمكين، هذه المعارف هي: معرفة الله عز وجل، ومعرفة النفس، ومعرفة الدنيا، ومعرفة الآخرة، مع الأخذ في الاعتبار بأن المعرفة المطلوبة ينبغي أن تكون معرفة عميقة راسخة في يقين الإنسان وعقله الباطن، تؤثر في مشاعره لتصبح جزءًا أصيلًا من إيمانه يدفعه للتعامل الصحيح مع الله، ومع النفس، ومع الدنيا، ومع الآخرة، مما يثمر إخلاصًا لله عز وجل، وحبًا له، وخوفًا منه، وإكثارًا من عبادته، وتواضعًا، وزهدًا في الدنيا، وجهادًا، وتضحية، وصبرًا وثباتًا، وطاعة، وتجردًا، وتوكلًا على الله عز وجل. - الحكمة ثمرة الفهم: أما صفة الاعتدال والتوازن وهي الصفة العاشرة فهي ثمرة للفهم الصحيح للدين وشموله، ومراتب أحكامه، وهي ثمرة كذلك لمعرفة فقه الأولويات، وفقه الموازنات، وفقه الواقع، وفقه المقاصد، وفقه الخلاف، مع الأخذ في الاعتبار أهمية هذا المحور -محور الفهم- كضابط يمنع جنوح الأعمال التي قد تدفع إليها قوة الإيمان بالله واليوم الآخر، وقوة الحذر من الدنيا والنفس. فمن المتوقع أن هذه المعارف الأربعة عندما تتمكن من العبد فإن من شأنها أن تدفعه إلى ترك الدنيا أو التشديد على النفس ومنعها من بعض حظوظها المباحة، وقد تدفعه إلى التشدد فيما لا ينبغي التشدد فيه، والترخص فيما لا ينبغي الترخص فيه. ومن هنا كانت الحكمة والاعتدال والتوازن والوسطية ثمرات طيبة للفهم الصحيح للدين. معنى ذلك أن الفهم الصحيح للإسلام هو المحور الخامس الذي تنطلق منه صفات الجيل الموعود بالنصر والتمكين. - الأخوة: تبقي صفة الأخوة والترابط وموالاة المؤمنين .. هذه الصفة ماهي إلا ثمرة من ثمرات الإيمان بالله عز وجل، ولازمة من لوازمه، وكلما تمكن الإيمان بالله في القلب ازداد الحب في الله .. تأمل معي حال الأنصار عندما تمكن الإيمان من قلوبهم حتى وصلوا إلى الدرجة التي قال عز وجل عنها: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} (الحشر:9). فكأنهم دخلوا بكليتهم في الإيمان، فاختلط بلحومهم، ودمائهم فضلًا عن تمكنه من قلوبهم. هذا المستوى العجيب من الإيمان ماذا أثمر؟ أثمر حبًا في الله تجاه المهاجرين ظهرت آثاره بأفعال لم يعهدها البشر: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9).

وسائل تكوين المحاور

والعجيب أنهم فعلوا ذلك كله عن فقر وحاجة لا غنى ويسر. - وسائل تكوين المحاور: تبين لنا مما سبق أن صفات الجيل الموعود بالنصر والتمكين ماهي إلا ثمار طبيعية لمعارف خمسة وهي: معرفة الله، ومعرفة النفس، ومعرفة الدنيا، ومعرفة الآخرة، ومعرفة أصول الفهم الصحيح للدين. هذه المعارف لابد وأن تترسخ في يقين المسلم وتؤثر في مشاعره وتجتذب إيمانه، حتى تثمر الصفات التي يريدها الله عز وجل من عباده بصورة تلقائية ومستمرة. فإن كان الأمر كذلك، يبقي السؤال: كيف يمكننا تكوين هذه المعارف وبالصورة المطلوبة؟ حول الإجابة عن هذا السؤال يدور الحديث في الصفحات المقبلة. كيف نتعرف على الله عز وجل؟! معرفة الله عز وجل هي أهم محور من المحاور الخمسة اللازمة لتكوين الجيل الموعود، وعلى قدر تلك المعرفة تكون الثمار الطيبة والصفات الحميدة التي نسعى جميعًا إلى التحلي بها، ولم لا والإخلاص والحب والخوف والرجاء والتوكل والاستعانة و .. كل هذه ثمار مباركة للمعرفة العميقة بالله عز وجل .. وفي المقابل فضعف تلك المعرفة يخلف العديد من الآثار السلبية على العبد فتراه خائفًا من المخلوقين، قلقًا على رزقه، مستعينًا بغيره من البشر في قضاء حوائجه، مرتكبًا للكثير من المعاصي .. - العلم الحقيقي: من هنا كان العلم النافع الحقيقي الذي ينبغي أن يشمر إليه ويبدأ به طلبة العلم بصفة خاصة وجميع المسلمين بصفة عامة هو العلم بالله عز وجل، فمن خلال هذا العلم تتحسن معاملة العبد لربه فيخشاه ويتقيه ويحذره ويتوكل عليه ويرجوه و ... ، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:28). وعلى قدر هذه المعاملات القلبية وقوتها يكون قرب العبد من ربه: {أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13). من هنا فُضِّل العلم بالله على غيره .. وبعد العلم بالله يأتي العلم بأحكامه ليثمر ذلك قيام العبد بأوامره سبحانه على الوجه الذي شرعه. - كيف نعرف الله؟! الله عز وجل أخبرنا بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:11). وأنه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (الأنعام:103). وأنه {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (طه:110). - فكيف لنا أن نعرفه؟ نعم، لا يعرف الله إلا الله، ولا يستطيع أحد من المخلوقات أن يعرفه سبحانه حق المعرفة، ومع ذلك فلقد أتاح الله عز وجل لنا جزءًا من المعلومات عنه من خلال ما أخبرنا به من أسماء حسنى سمى بها نفسه - سبحانه - وأودع آثارها ومظاهرها في كونه ومخلوقاته، فالله عز وجل أخبرنا أنه رحيم، وأظهر لنا الكثير من الآثار التي تدل على صفة الرحمة من نزول المطر، وقبول التوبة، والحلم على العصاة، ومن شريعته التي شرعها لعباده وما فيها من دلائل الرحمة، وهكذا. وأخبرنا أيضًا أنه قهار، ومن آثار صفة القهر التي أظهرها في مخلوقاته: نوع المولود، وشكله، ولونه، ... ومنها النوم، والمرض، والنسيان. إذن فالطريق إلى معرفة الله عز وجل يبدأ برؤية آثار أسمائه وصفاته، وكلما ازدادت المعرفة به سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق:12). - آيات الله: ما من مخلوق خلقه الله عز وجل إلا ويحمل رسالة تعريف به سبحانه إلى البشر، وما علينا إلا أن نحسن قراءة تلك الرسائل لتزداد معرفتنا بربنا {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} (الأعراف:185).

أحداث الحياة

من هنا ندرك أهمية عبادة التفكر وقيمتها العظمى في تعريف العبد بربه وما تؤدي إليه من حسن تعامله معه. تأمل معي قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ? الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:190، 191). فعندما تفكر هؤلاء المؤمنون - الذين ذكرتهم الآية - في المخلوقات وما تحمل من آيات ودلائل وعِبَر أثمر هذا التفكر بالله عز وجل: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}، وأثمرت هذه المعرفة تنزيهًا وخشية له {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. إذن فطريق المعرفة يبدأ بالتفكر في مخلوقات الله وما تحمله من رسائل تعريف به سبحانه وبأسمائه وصفاته. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة:164). - أحداث الحياة: ومع آيات الله الدالة عليه، وعلى أسمائه وصفاته، والمبثوثة في مخلوقاته، تأتي صورة أخرى للآيات من خلال الرسائل التي يُرسلها - سبحانه وتعالى - لعباده والتي تتخلل مجريات وأحداث حياتهم اليومية، فما من يوم يمر على الإنسان - أي إنسان - إلا وفيه عدة رسائل موجهة إليه من ربه تعرفه به، وتذكره ببعض من صفاته. فمن تلك الرسائل: رسائل الرحمة وما تدل عليه من أنه سبحانه وتعالى رحيم، لطيف، ومثال ذلك: ما يعتري الإنسان في يومه من أحداث كنسيان موعد من المواعيد فلا يذهب إليه ليكون ذلك سببًا في عدم تعرضه لمشاكل أو مخاطر كثيرة، وأيضًا قد ينفذ الوقود من سيارته في الوقت ذاته الذي يجد نفسه فيه أمام محطة تزويد وقود. ومن الرسائل: رسائل الحكمة وما تدل عليه من أنه سبحانه وتعالى حكيم، ومثال ذلك: من يذهب إلى مكان من الأماكن وهو غير راغب في ذلك فيترتب على ذهابه خير كثير له. ومنها: رسائل التخويف: وما تدل عليه من أنه سبحانه وتعالى عظيم، جبار، ... ويدل عليها قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (الإسراء:59). ومثال ذلك الرعد، والبرق، والعواصف، الحر الشديد، الكسوف والخسوف ... ومنها رسائل التأييد والجزاء السريع والحسن من الله عز وجل كتيسير الأمور، وانشراح الصدر، ... والتي يدل عليها قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ? وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ? فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (الليل: 5 - 7). هذا التأييد وهذا التيسير، مرتبط باستقامة العبد وطاعته لربه، وعندما يحسن قراءة تلك الرسائل فإن ذلك من شأنه أن يدفعه لمزيد من الاستقامة. ومنها رسائل العقوبة كجزاء للتفريط والعصيان وصور ذلك كثيرة، منها: تعسر الأمور، وضيق الصدر، والحرمان من الرزق، ... ويدل عليها قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (النساء:123). فهذه أنواع ست للرسائل الإلهية التي تأتي العبد في يومه، وتحمل في طياتها دلائل تعرفه بالله عز وجل: {وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} (غافر:81).

دليل المعرفة

هذه الرسائل تأتي من الله عز وجل لعباده باستمرار لينتبهوا من رقدتهم ويفيقوا من غفلتهم: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد:2). وكلما ربط العبد أحداث حياته بالله عز وجل، ازدادت معرفته وتعلقه به سبحانه، وتحسنت علاقته ومعاملته له، وازداد زهده في الناس، ولم لا وهو لا يرى إلا الله وراء كل ما يحدث له، فإذا تغيرت عليه زوجته وساء خلقها معه رأى في ذلك عقوبة من الله عز وجل فسارع بالاستغفار والتوبة، وإذا ما تأخر حدوث شيء يتمناه رأى حكمة الله وراء هذا التأخير، وإذا ساعده أحد في إنجاز عمله رأى التأييد والتيسير الإلهي من وراء ذلك. وهكذا يربط أحداث حياته بالله عز وجل، فيثمر ذلك إخلاصًا تامًا وصدقًا حقيقيًا في التوجه إليه، واستشعار قربه سبحانه منه، فيعبده وكأنه يراه، وتصير مناجاته والخلوة به من أحب الأشياء إليه، ويؤدي ذلك أيضًا إلى الزهد في الناس وقطع الطمع فيما في أيديهم. - دليل المعرفة: هذا الكون الفسيح وما فيه من مخلوقات لا تعد ولا تحصى، وهذه الأحداث اليومية المتعاقبة والمتشابكة قد لا يحسن العبد الاعتبار بها وفهمها عن الله عز وجل، مما يستلزم وجود مرجع ودليل يدل العبد على كيفية معرفة الله، وحسن التعامل مع آياته .. من هنا كانت الحاجة إلى دليل يدل الناس ويعلمهم كيفية قراءة الآيات الكونية وفك شفرتها، والاستدلال من خلالها على الله عز وجل .. من أجل هذا كانت الرسالة الإلهية الأخيرة والتي أرسلها الله عز وجل للبشرية جمعاء وتحمل في طياتها مفاتيح السعادة والهداية والشفاء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57). ومن أهم ما تحمله هذه الرسالة للبشر: تعريفهم بربهم، وبأسمائه وصفاته وآثارها من الناحية النظرية، مع تعريفهم كذلك بكيفية ربط هذه المعرفة النظرية بالمعرفة العملية في الكون المنظور فتتشابك المعرفة النظرية بالعملية ليتمكن بذلك مدلولها في يقين الإنسان وإيمانه. مثال: الله عز وجل أخبر عباده بأنه قادر على نصرة المظلوم بقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} وأعطى لعباده أدلة من الكون المنظور على ذلك فقال سبحانه وتعالى في الآية التالية للآية السابقة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج:60،61). فالذي يستطيع أن يأتي بالليل والنهار كل يوم، يستطيع بلا شك أن يفعل ما دون ذلك من نصرة المظلوم وإقامة الحق والعدل. ومثال آخر: أن الله عز وجل أخبر رسوله بأنه قد استهزئ برسل من قبله، فكان العقاب الأليم لهؤلاء المستهزئين، هذا من الناحية النظرية أما من الناحية العملية فتأتي الآية التالية لتحثنا على السير في الأرض والبحث عن مآل هؤلاء ليترسخ هذا المفهوم لدينا: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ? قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (الأنعام:10، 11). إذن فالقرآن هو دليلنا إلى معرفة الله عز وجل، والكون هو التطبيق العملي للمعرفة القرآنية: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53).

كيف نعرف أنفسنا؟!

كيف نعرف أنفسنا؟! ثاني تلك المحاور التي تنطلق منها صفات جيل التمكين هو معرفة النفس، فعلى ضوء معرفة الإنسان بنفسه تكون معاملته لها، وتنقسم جوانب هذه المعرفة إلى قسمين: معرفة حقيقة الإنسان، ومعرفة طبيعة النفس. فمعرفة حقيقة الإنسان تنطلق من معرفة أصله الحقير وأنه من التراب ومن الماء المهين: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (المرسلات:20). وتنطلق كذلك من رؤية حجمه الصغير بالنسبة للكون المحيط به: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (غافر:57). هذا الإنسان خلق ضعيفًا في كل شئ .. في بنيانه ومدى مقاومته وتحمله .. ضعيف أمام الأمراض، وأمام الشهوات، وأمام وساوس الشيطان .. ومع ضعفه الشديد فإنه كذلك عاجز لا يستطيع جلب النفع لنفسه أو دفع الضر عنها. وكذلك جاهل بعواقب الأمور، لا يعلم ماذا سيحدث له بعد أقل من ثانية .. وهو أيضًا لا يمكن أن يقيم نفسه، أو يحفظ أجهزة جسمه أو ... فهو يحتاج إلى من يتولى حفظه وإمداده بمقومات الحياة .. يحتاج دومًا إلى الهواء وإلا هلك، ويحتاج إلى الطعام، والماء .. يحتاج إلى النوم وإلا فقد اتزانه .. يحتاج إلى استمرار عمل القلب، وجريان الدم في عروقه بسيولة معينة، يحتاج ويحتاج .. هذا الإنسان الحقير، الصغير، الجاهل، الضعيف، العاجز، الفقير، يحتاج إلى من يحميه، ويعلمه، ويقويه، ويصرف عنه الأخطار، ويمده بأسباب الحياة لحظة بلحظة. ومن يملك أن يفعل ذلك سوى الله عز وجل؟! {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (يونس:31). - طبيعة النفس: ومع كون الإنسان بهذه الصفات إلا أن لنفسه طبيعة تتنافى معها. فهي نفس شحيحة تحب الاستئثار بكل خير: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} (النساء:128). لديها قابلية للفجور والطغيان .. تحب العلو التميز عن الآخرين. ترغب دومًا في الراحة، وتكره المشاق والتكاليف ... تريد شهوتها وحظها من كل فعل يقوم به العبد، فإن لم يكن الفعل يخدم شهواتها في الراحة والكسل والاستمتاع بالمحاب الظاهرة حرصت على تحصيل شهواتها الخفية من خلال ما يقوم به العبد من أفعال حسنة وذلك من خلال دفعه لحمدها والرضا عنها والفرح بها والاعتقاد في قدراتها وإمكاناتها، وأنه بها يفعل ما يريد، ويتميز على غيره، ويعلو عنهم، وهذا من أسمى ما تلتذ به النفس وتطرب وتنتشي .. - أهمية معرفة النفس: إذن فعندما يجهل الإنسان حقيقته وصفاته التي جُبِل عليها من ضعف وعجز وجهل واحتياج، فإنه بلا شك سينسى ربه، ولن يتعامل معه معاملة الفقير المحتاج الذليل الضعيف الجاهل الذي يعلم أن قيامه وحمايته وهدايته وحفظه و .. كل ذلك بيد مولاه. وعندما يجهل الإنسان طبيعة نفسه فإنه يستسلم لها، ويحمدها على أفعالها، ويعجب بها ويسعى إلى إرضائها، ويغضب لها، ويستعين بها في أعماله، فتعظم في عينه، وتكبر، ويصغر في المقابل قدر الناس عنده فيؤدي ذلك إلى غروره وتكبره ومن ثم هلاكه. من هنا يتبين لنا أهمية معرفة النفس معرفة راسخة تدخل في يقين الإنسان وتنعكس على مشاعره بدوام الحذر منها. - كيف نعرف أنفسنا؟ من رحمة الله عز وجل بعباده تذكيره الدائم لهم بحقيقتهم وطبيعة أنفسهم، وذلك من خلال رسائله اليومية التي يرسلها لهم، ومن هذه الرسائل:

دور القرآن

1 - أنت ضعيف: وذلك عندما يتركنا الله عز وجل لضعفنا ولا يساعدنا في مقاومة ما نواجهه: مثل المرض، ووساوس الشيطان، وخواطر السوء، وكثرة الأكل، والنظر إلى النساء .. 2 - أنت جاهل: وهذه الرسالة يمثلها قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف:188). ومن أمثلتها: عندما تأكل شيئًا فيتسبب في مرضك ولو كنت تعلم الغيب ما أكلته، وكذلك عندما تتعطل المركبة في الطريق، أو تكسر الآنية ... 3 - أنت عاجز: ليس لك من الأمر من شئ .. تريد النوم مباشرة فلا تستطيع، تريد تذكر شيء ما، فلا تقدر .. تريد ولدًا فتلد زوجتك بنتًا .. وهكذا .. 4 - أنت فقير: لا غنى لك عن الله طرفة عين وأمثلة هذه الرسالة كثيرة، ولا يخلو يوم منها، ومثال ذلك: زيادة خفقان القلب لتدرك مدى احتياجك لربك في حفظ القلب ورعايته واستمراره في الخفقان بمستوى معين، وأيضًا دخول رمش في عينك أو اختلاج عضلة من عضلاتك، أو رعشة اليدين، أو ... كل ذلك رسائل تذكير بحقيقة فقرك ومدى احتياجك لمولاك، وأنك لو تُركت طرفة عين لتدبر أمورك بمفردك لهلكت. إذن فالوسيلة الأساسية لمعرفة حقيقة الإنسان هي اعتباره وحسن معاملته مع الرسائل الإلهية التي تأتيه باستمرار من خلال مجريات الحياة والاعتبار بها. أما طبيعة النفس من حب الفجور والعلو، فمما لا شك فيه أن تتبع خواطرها لنا وإلحاحها علينا بتأخير القيام بحق من الحقوق، أو دفعها لنا لارتكاب محظور، له دور كبير في معرفة خطورتها ومن ثم الحذر منها. - دور القرآن: هذه الحقائق السابقة تحتاج دومًا إلى تذكير وإلا فالإنسان من طبعه النسيان، وغالبًا ما تمر عليه أحداث الحياة دون أن يعتبر بها أو يتخذها وسيلة لزيادة معرفته بنفسه ومدى حاجته لربه .. من هنا يأتي دور القرآن كوسيلة عظيمة لدوام تعريف الإنسان بحقيقته وطبيعة نفسه بما يفعله من مزج الفكر بالعاطفة، وبما يعرضه من نماذج عملية، وقصص للسابقين سواء كانوا صالحين أحسنوا التعامل مع أنفسهم، أو كانوا طالحين استسلموا لها فأهلكتهم. وخلاصة القول: أن وسائل التعرف على النفس هي القرآن وأحداث الحياة. كيف نوقن بالآخرة؟ من الأهمية بمكان معرفة مراحل رحلة الإنسان إلى الله عز وجل والدار الآخرة، ومعرفة طبيعة مرحلة الحياة الدنيا وعلاقتها بالآخرة .. فعلى ضوء هذه المعرفة سيكون انتباه العبد وتشميره للجنة. - الوظيفة الأساسية: لقد أنزلنا الله عز وجل إلى الأرض لأداء وظيفة محدودة ألا وهي عبوديته سبحانه وتعالى بالغيب، ومن ينجح في أداء هذه الوظيفة يفز بالجنة، ومن يفشل يعاقب بالحبس في النار والعياذ بالله. فما الدنيا إلا دار امتحان: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الكهف:7). والمطلوب من الإنسان - أي إنسان - أن يطيع ربه، ويتبع شرعه، ويقوم بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، والمطلوب منه كذلك أن يحسن التعامل مع الإمكانات والأدوات التي يعطيها الله له أو يمنعها عنه .. ففي حالة العطاء والإمداد بالنعم المختلفة فإن المطلوب من العبد هو الشكر وذلك من خلال حمد الله على نعمه، وعدم الطغيان بها، والشعور بالامتنان نحوه سبحانه، والإكثار من التذلل له، وعدم التكبر على الآخرين، أو الشعور بالأفضلية عليهم. أما في حالة المنع من بعض النعم كحرمان من الأولاد أو الرزق الوفير أو الأمان .. فإن المطلوب من العبد هو الصبر فلا يتسخط، ولا يتشكى، ولا يعترض على قضاء الله.

استراحة المسافر

هذا الامتحان يبدأ من سن البلوغ إلى لحظات الاحتضار ونزع الروح، ومن خلال الأعمال الصالحة والإجابات الصحيحة التي يقوم بها العبد يكون جزاؤه في الآخرة. ونعيمه في الجنة: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} (الروم:44). أما الرقابة على الامتحان فيتولاها الله عز وجل بنفسه فهو الرقيب الشهيد: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء:1). والملائكة يقومون بتسجيل الإجابات: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:18). بل الجسد نفسه يشهد على صاحبه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النور:24). هذا الامتحان يمكن أن ينتهي في أي وقت، فلابد أن يكون العبد مستعدًا دومًا للحظة النهاية حتى لا يخسر آخرته. وبعد الموت تكون المرحلة البرزخية، ثم البعث ويوم القيامة، وما فيه من أحداث عظيمة وحساب للبشر جميعًا عن المهمة التي طولبوا بأدائها، وبعد الحساب يتم ذهاب الناجحين للجنة، وَ سَوْق الراسبين إلى النار والعياذ بالله. وفي الجنة يكون النعيم الذي لا يمكن لعقل أن يدرك كنهه، ومع النعيم المقيم يكون الخلود بلا موت، وفي النار والعياذ بالله عذاب لا يحتمل ولا ينتهي: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (الزخرف:75). معنى ذلك أن أي إنسان عاقل عليه أن يكون منتهى طموحه هناك في الجنة، وأن يعمل على الفوز بها، والتنعم بنعيمها، وأن يبحث عن الأسباب المؤدية لذلك، وأهم هذه الأسباب استغلال كل ما يقع تحت يديه من أشياء ليجعلها وسيلة تحقق له هدفه. - استراحة المسافر: هذه الحقائق تحتاج إلى دوام انتباه ويقظة ووضوح رؤية لحقيقة الدنيا وأنها دار ممر وامتحان، وأننا لم ننزل إليها لنمكث فيها، بل لنمضي فيها بعض الوقت ثم نتركها ونرحل، كالمسافر الذي يرتاح من عناء السفر في أي استراحة تقابله على الطريق. هذا المسافر لن يفكر إلا في التزود بما ينفعه في رحلته، ويبلغه هدفه وبغيته .. وكذلك الدنيا ماهي إلا محطة من محطات السفر إلى الآخرة علينا أن نتزود منها بما ينفعنا هناك. فإن قلت: إننا جميعًا نعلم ذلك، ولكننا ننساه في خضم أحداث الحياة المتلاحقة فكيف لنا أن يدوم تذكرنا وانتباهنا لهذه الحقائق (¬1)؟! الحل يكمن في ثلاث وسائل: الأولى: الاعتبار بمن سبقنا، وكثرة التفكير في الموت وزيارة المقابر، والتفكر في أحوال أهلها وكيف أن ملك الموت جاءهم دون أن يكونوا مستعدين للقائه، واستشعار ندمهم على تضييعهم للفرصة التي كانت بين أيديهم، وتذكر أمانيهم التي تنحصر في العودة إلى الدنيا ولو للحظة واحدة يسبحون الله فيها أو يستغفرونه .. قال صلى الله عليه وسلم: (ركعتان خفيفتان مما تحقرون أو تنفِّلون، يزيدها هذا - يشير إلى قبر - في عمله أحب إليه من بقية دنياكم) (¬2). ¬

_ (¬1) قد يقول قائل إن هذا الكلام يتنافى مع مفهوم عمارة الأرض وصناعة الحياة التي طالبنا الله بها، نعم .. يتنافى لو كان المقصود من عمارة الأرض هو الركون إلى الدنيا والاستمتاع بها ونسيان الآخرة، كما كان حال عاد وقد ذمهم على ذلك نبيهم هود} أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ? وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ {(الشعراء:128، 129). أما إذا كان المقصود من عمارة الأرض الانتفاع بكنوزها وقوانين التسخير فيها لزيادة معرفة الله عز وجل من ناحية، ولتيسير الحياة على الناس ليتيسر تبعًا لذلك أداءهم للعبادة من ناحية أخرى، فهذا بلا شك .. أمر محمود يثاب عليه فاعله. (¬2) أورده الألباني في السلسلة الصحيحة ح (1288).

كيف نزهد في الدنيا؟!

الثانية: كثرة قراءة القرآن وتدبر معانيه: فالملاحظ أن الحديث عن الآخرة ويوم الحساب ونعيم الجنة، وعذاب القبر، وطبيعة الوجود في الدنيا، وحث الناس على التسابق إلى الجنة .. كل هذا يحتل مساحة كبيرة من القرآن، ولا تكاد تخلو سورة منها، ليؤدي ذلك إلى اليقين بتلك الأمور: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ? لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} (التكاثر:5، 6). فإذا أيقن الإنسان بهذه الحقائق فسينعكس ذلك على تصرفاته وطريقة تعامله مع مفردات الحياة، فتراه مجاهدًا، عابدًا، مشمرًا لفعل الخيرات، محسنًا في تعاملاته مع الآخرين .. الثالثة: الصحبة الصالحة، فمع الاعتبار بمن حولنا وتذكر الموت، ومع المداومة على تدبر القرآن، يأتي التذكير بين المؤمنين لهذه الحقائق كوسيلة تعين العبد على دوام يقظته وانتباهه وحسن استعداده للموت كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف:28). إن وجود المرء في بيئة طيبة، وصحبة صالحة من شأنه أن يستثير همته للسباق نحو الجنان .. انظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحرصه على أن يسبق أبا بكر الصديق رضي الله عنه في الإنفاق .. يقول رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، فجئت رسول الله بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟) فقلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟)، قال: "أبقيت لهم الله ورسوله"، قلت: لا أسابقك لشيء أبدًا" (¬1). هذه الوسائل وغيرها تزيد الإيمان بالآخرة في القلب وتدفع للمساعرة والتشمير للجنة. كيف نزهد في الدنيا؟! مما لا شك فيه أن معرفة العبد للدنيا على حقيقتها له دور كبير في زهده وانصراف رغبته عنها، وزيادة رغبته فيما عند الله عز وجل. والذي يقرأ الآيات والأحاديث التي تصف الدنيا يعجب من شدة هوانها على الله عز وجل .. فإن كنت في شك من هذا فتأمل معي هذا الحديث .. (إن الله تعالى جعل ما يخرج من بني آدم مثلًا للدنيا) (¬2). يقول المستورد بن شداد: " كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها) قالوا: ومن هوانها ألقوها يا رسول الله، قال: (فو الذي نفس محمد بيده الدنيا أهون على الله من هذه على أهلها) " (¬3). لقد خلق الله عز وجل الدنيا ولم يجعل لها قدرًا، ولم يثمنها بأدنى شيء كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها شربة ماء) (¬4). إذن فالدنيا حقيرة، لا قيمة لها .. كالجيفة النتنة التي يعافها الناس ويتحاشون المرور بجوارها، فإن اضطروا لذلك تراهم وقد أسرعوا خطاهم، وأداروا وجوههم عنها. ¬

_ (¬1) حسن، رواه الترمذي والدرامي، وابن عاصم. (¬2) حسن، رواه الإمام أحمد والطبراني، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح (1739). (¬3) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والسخلة: ولد معز أو ضأن. (¬4) رواه الترمذي وقال حديث حسن.

دار الكدر والأحزان

- دار الكدر والأحزان: ومع هذه الحقيقة العجيبة للدنيا، فإنها فوق ذلك لا تصفو لأحد، فهي مليئة بالأكدار، فالأفراح تلاحقها الأحزان، والعافية يطاردها السقم، والقوة يتبعها الضعف .. لايجتمع فيها شمل الأحبة، فإن اجتمعوا فلابد لهم من فراق .. فإن قلت: ولماذا خلقها الله عز وجل بهذا الهوان وتلك الأكدار؟ جاءت الإجابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى) (¬1). فلو كانت للدنيا قيمة معتبرة، ولو خلت من أكدارها وكانت صافية، لأحبها الناس وتعلقوا بها، فيؤدي ذلك إلى تنافسهم وتصارعهم عليها، وزيادة حرصهم على البقاء فيها، ومن ثم تزداد كراهيتهم للموت، وتقل رغبتهم في الآخرة ونعيمها، فتكسد تجارتها، وتُترك أعمالها .. معنى ذلك أن كون الدنيا بهذه الحقارة، وتلك الأكدار نعمة عظيمة من الله عز وجل على عباده .. فلو كانت الدنيا صافية لما شمّر أحد للآخرة، ومع ذلك فلقد استطاع الشيطان أن يخدع الكثيرين والكثيرين من الناس وينسيهم هذه الحقائق، ويزين لهم الدنيا، ويبهرجها أمامهم حتى يركنوا إليها ويتشبثوا بها، ويتصارعوا من أجلها، فينسوا المهمة التي خلقوا من أجلها .. - وسائل المعرفة: وكما قيل سابقًا، فلكي تكون هذه الحقائق دافعًا لتغيير تعامل المرء مع دنياه، وزهد فيها، لابد وأن تتمكن من يقينه، وتؤثر في إيمانه ... من هنا كان من الضروري وجود وسائل قوية ومستمرة تقوم بهذه المهمة. هذه الوسائل تنطلق - كبقية الوسائل السابقة - من محورين: محور وجداني يذكر دومًا بحقيقة الدنيا ويمزج الفكر بالعاطفة ويستثير المشاعر ويولد الطاقة الدافعة للعمل، ومحور عملي يؤكد على المعنى الوجداني مما يرسخ مدلوله في يقين الإنسان فتنطلق تصوراته واهتماماته ومن ثم أفعاله بسهولة وتلقائية تعبر عن زهده في الدنيا. أما المحور النظري القادر على التذكير الدائم بحقيقة الدنيا فهو الكتاب الخالد الذي أنزله الله عز وجل رحمة وهدى للناس: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه:113). والملاحظ في القرآن أن موضوع الدنيا وحقيقتها يحتل مساحة كبيرة فيه من خلال التعريف بها، وذم من يحرص عليها، وعرض قصص السابقين الذين اغتروا بها وندموا أشد الندم على ذلك بعد موتهم. ومع القرآن تأتي السنة كذلك وما تحتويه من أحاديث كثيرة تتحدث عن حقيقة الدنيا، وتدعو إلى الزهد فيها. وبالنسبة للمحور العملي فهو الاعتبار بأحداث الدنيا: فالناظر المتفحص لأحداث الحياة وما يحدث للناس يرى الدنيا على حقيقتها، وأنها دار أحزان وهموم وغموم وكدر وفراق. فأصحاب القوة بالأمس هم ضعفاء اليوم، والجاه والسلطان لم يدُوما لأحد قط. لا يكاد يخلو بيت من مريض، ومن النادر أن ترى شخصًا بلا هموم، ولا غموم .. الأحبة يفترقون .. الابن يفارق أباه ويتزوج، والأب يفارق أبناءه ويموت، و ... هذه المشاهدات عندما يراها العبد بعين الاعتبار فستتجلى أمامه دومًا حقيقة الدنيا. ومما يرسخ هذا المعنى في النفس: النظر إلى المزابل والجيف كل فترة وربط ذلك بحقيقة الدنيا وهوانها على الله، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام. فعن الحسن البصري قال: " مر عمر بن الخطاب على مزبلة فاحتبس عندها فكأنما شق على أصحابه، وتأذوا بها، فقال لهم: هذه دنياكم التي تحرصون عليها (¬2) ". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والبزار والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه. (¬2) الزهد للإمام أحمد / 118 - دار الكتب العلمية - بيروت.

كيف يتحقق الفهم الصحيح للدين؟!

كيف يتحقق الفهم الصحيح للدين؟! أما بالنسبة لصفات الاعتدال والتوازن، وما تثمر عنه من حكمة في التعامل مع أحداث الحياة، فما هي إلا نتاج طبيعي للفهم الصحيح للدين، قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين) (¬1). والمقصد من الفهم الصحيح للدين إدراك حقيقة شموله لجميع مناحي الحياة، ومعرفة مصادر الأحكام الشرعية ومراتبها، والتعرف كذلك على المصادر غير الشرعية التي يعتمد عليها البعض في تلقي الأحكام كالإلهام والرؤى ومدى خطورة ذلك. والفهم الصحيح للدين كذلك يستلزم معرفة فقه الأولويات وكيفية الموازنة والترجيح بين المصالح والمفاسد إذا تعارضت فكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين .. (¬2). ومع فقه الأولويات هناك فقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الخلاف .. كل هذه أمور من شأنها أن تكوِّن العقلية المتوازنة لأبناء الجيل الموعود بالنصر والتمكين. - وسائل تحقيق الفهم: من أهم وسائل تحقيق الفهم الصحيح للدين: القرآن الكريم، فهو كتاب يخاطب العقل، ويرسم فيه خريطة الإسلام بنِسَبِها الصحيحة، ويعطي لصاحبه تصورًا عامًا لكل ما هو مطلوب منه وعلاقته بكل شيء حوله، ولا يكتفي بذلك بل يضع كل أمر في حجمه المناسب له في شجرة الإسلام، فهو يرتب الأولويات، ويكوِّن العقلية المعتدلة المتوزانة، والتي تعطي كل ذي حق حقه .. قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة:269). قال ابن عباس: الحكمة: المعرفة بالقرآن (¬3). ومع القرآن فهناك دراسات للعلماء حول أصول الفهم، ولعل من أبرزها ما كتبه الشاطبي في كتابه: الموافقات والإمام الشهيد حسن البنا في رسالة التعاليم، حيث وضع فيها أصولًا للفهم .. هذه الأصول قام بشرحها العديد من العلماء، وتشكل بصورة عامة الشخصية العلمية المتوازنة للمسلم. ويحسُن كذلك دراسة فقه الأولويات والمقاصد، وفقه الخلاف، مع الأخذ في الاعتبار بأن تأصيل الفهم الصحيح للإسلام، وتعلم الحكمة في التعامل مع أحداث الحياة يحتاج - مع الوسائل السابقة - إلى معلم ومربّ يسقي هذا العلم إلى تلامذته ويتابعهم في تعاملاتهم مع مجريات الأحداث ليتأكد من حُسن تطبيقهم لصفة الاعتدال والتوازن. - الأخوة .. كيف تتحقق؟ الأخوة في الله ثمرة طبيعية من ثمار الإيمان به سبحانه، ولازمة من لوازمه، وكلما تمكن الإيمان من القلب ازدادت درجة الحب في الله، كما كان حال الأنصار مع المهاجرين، فلقد انعكست قوة إيمانهم بربهم على تعاملهم مع إخوانهم المهاجرين لدرجة أنهم آثروهم على أنفسهم مع ما كان بهم من فقر وحاجة. إذن فصفة الأخوة والترابط نتاج للمحور الأول وهو معرفة الله عز وجل وما يؤدي إليه من قوة إيمان وحب له سبحانه، ومع ذلك فلابد لهذا الحب أن يترجم في صورة أفعال ترسخ مدلوله في يقين الإنسان، فكما أن الإيمان قول وعمل، فكذلك الأخوة .. من هنا يصبح من الضروري وجود بيئة ووسط يتم فيه تطبيق وسائل وأعمال الأخوة من تكافل وإعانة، وإيثار، وسعي في قضاء الحوائج، و ... ولابد من وجود بيئة ومحاضن يتم فيها تنمية الأخوة والترابط بين أبناء الجيل الموعود بالنصر والتمكين وإلا جفت الروح بين الأفراد .. - الوسائل الإساسية: مما سبق ينبين لنا أن الوسائل التي تتحقق بها المحاور الأساية لتكوين الجيل الموعود تدور حول: حسن التعامل مع القرآن وكل ما يخدمه، حسن التعامل مع أحداث الحياة والاعتبار بها، الصحبة الصالحة. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية 20/ 549. دار الإفتاء - السعودية. (¬3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 283.

المربي

فالقرآن هو الوسيلة الفعالة للمعرفة .. معرفة الله عز وجل، ومعرفة النفس، ومعرفة الدنيا، ومعرفة الآخرة. وما تتميز به معارف القرآن أنها تتكرر في الكثير من السور بأساليب مختلفة، وتخاطب العقل والوجدان ليتم من خلال ذلك ترسيخ تلك المعارف في يقين الإنسان، وتوجيه مشاعره نحوها مما يثمر إيمانًا حيًا قويًا. أما أحداث الحياة: فكل ما يحدث للإنسان هو بمشيئة من الله عز وجل، وما من مشيئة لله إلا وراءها حكمة تصب في مصلحة البشر كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (البقرة:143). فما الحياة إلا رسائل متتابعات من الله عز وجل تعرفنا به سبحانه، وبأنفسنا، وبقيمة الدنيا، وبقيمة الآخرة .. نعم الكثير منا غافل عن هذه الآيات: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يوسف:105). ولكن من خلال حسن التعامل مع القرآن، والانتباه التدريجي الذي سيحدث للفرد كنتاج لهذا التعامل، سيكون من السهل عليه قراءة الرسائل الإلهية والاعتبار بها، وحسن الفهم عن الله عز وجل، وربط أحداث الحياة به، لتزداد المعرفة واليقين به سبحانه وبالدار الآخرة ويزداد الحذر من النفس والدنيا .. أما الصحبة الصالحة فهي تعد بمثابة البيئة التي من خلالها يمارس أبناء الجيل الموعود صفة الأخوة مما يثمر جيلًا قويًا مترابطًا كالبنيان يشد بعضه أزر بعض. ومن خلال الصحبة الصالحة والبيئة التربوية كذلك يتم ممارسة بعض الوسائل التي تعين على زيادة المعارف السابقة وربطها بالواقع ليزداد الإيمان والانتباه. وفيها يتم مدراسة كل ما يخدم القرآن ويؤكد على ما فيه من الحكمة والمعاني الإيمانية كالسيرة والتاريخ وأصول الفهم، ومن خلالها يتم التواصي بالحق وبالتواصي بالصبر، وتثبيت الأفراد لبعضهم البعض. - المربي: ومع هذه الوسائل الثلاث " القرآن - الاعتبار - الصحبة " يأتي دور المعلم والمربي ليربط الوسائل بعضها ببعض .. يأخذ بيد الضعيف حتى يشتد عوده ويدخله إلى عالم القرآن، حتى يرد موارد الإيمان فيه، ويستطيع أن يعتبر بأحداث الحياة ويقرأ الرسائل الإلهية ويقترب من ربه. ووجود المربي كذلك مهم لشحذ الهمم للتشمير للآخرة والزهد في الدنيا. ومن أهم أداواره: ضبط الفهم لدى الأفراد وتعليمهم الحكمة، والتأكد من حسن ممارستهم لها في مجيرات حياتهم.

الفصل الرابع الجيل الأول وأدوات التغيير

الفصل الرابع الجيل الأول وأدوات التغيير

منهج التغيير

الفصل الرابع الجيل الأول وأدوات التغيير إذ ما نظرنا للجيل الأول، جيل الصحابة رضوان الله عليهم، والذي يُشكل أمامنا النموذج الذي حقق شروط النصر والتمكين فأوفى الله بوعده معه ومكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء .. إذا ما نظرنا إليهم، وبحثنا عن الأدوات التي تعاملوا معها ليصبحوا بهذا المستوى الراقي، لوجدنا أن هناك ثلاثة أمور رئيسية شاركت في ذلك وهي: منهج التغيير وهو القرآن، والمربي المشرف على عملية التغيير وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، والوسط الذي تم فيه التغيير وتكوَّن من خلاله الجيل المترابط المتآخي. - منهج التغيير: إذا كانت أغلب صفات الجيل الموعود بالنصر والتمكين تنطلق من قوة المعرفة بالله عز وجل وباليوم الآخر، وتنطلق كذلك من قوة الزهد في الدنيا، والحذر من النفس، فإن القرآن يقوم بتحقيق كل ذلك بسهولة ويسر.

صفاء النبع

فمع الله: يقوم القرآن بتعريف العبد بربه إلى أقصى ما يمكن أن تتحمله قدراته العقلية، ويصل به إلى أقرب ما يمكن أن يكون عليه بشر بعد الأنبياء - عليهم صلوات الله وسلامه - ويقوم القرآن كذلك بربط تلك المعرفة بمجريات الحياة، فلا يرى العبد إلا حكمة الله وراء أفعاله ومشيئته سبحانه، فينعكس ذلك على تعامله حتى يصل إلى درجة الإحسان بأن يعبد الله كأنه يراه، فيناجيه من قريب، ويستشعر قربه منه، وقيوميته عليه، فيأنس به، ويزداد شوقه إليه .. ومع الآخرة: فالقرآن يكشف للإنسان حقيقة أصله الحقير، ومدى ضعفه وعجزه، وجهله وحجم احتياجاته المطلوبة للاستمرار في الحياة وأنه بالله لا بنفسه، ولو تخلى عنه طرفة عين لهلك. ومع بيان هذه الحقائق فإنه كذلك يعرفه بطبيعة نفسه المحبة للشهوات، المائلة للفجور والطغيان، الآمرة بالسوء ليشتد حذره منها، فلا ينسب لها فضلًا، بل يجاهدها، ويُروضها على الصدق والإخلاص .. فإذا ما ربط العبد بين هذه المعارف وبين ما يحدث له في حياته تأكدت لديه حقيقة نفسه، وعاش أبدًا عبدًا ذليلًا منكسرًا لله متحررًا مما سواه. - صفاء النبع: .. هذا الدور الخطير للقرآن لا يمكن أن يحدث إلا إذا تفرغ له العبد تفرغًا كبيرًا، وأعطاه وقته وقلبه وعقله، وأقبل عليه بكيانه ووجدانه، ولم يخلط معه غيره - وبخاصة في البداية - حتى يكون النتاج صحيحًا نقيًا مثمرًا .. وهذا ما حدثمع الصحابة رضوان الله عليهم، فلقد أدركوا قيمة القرآن وأن سبب نزوله الحقيقي هو هداية الناس إلى الله، وقيادتهم الآمنة إليه، فانكبوا عليه، وتفرغوا له، وساعدهم على ذلك أستاذهم ومربيهم، معلم البشرية محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام، حريصًا على وحدة التلقي وصفاء النبع الذي يستقي منه الصحابة فكان دائم التوجيه لهم بعدم الانشغال بغير القرآن حتى يستطيع القرآن أن يقوم بدوره كاملًا في التغيير الجذري دون تشويش من أي شيء آخر .. انظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد جاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقال: " يا رسول الله، إني أصبت كتابًا حسنًا من بعض أهل الكتاب "، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أمُتهوِّكون فيها ياابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيحدثوكم بحق فتكذبوا به، أو باطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًا لما وسعه إلا أن يتبعني) (¬1). إذن لم يكن القرآن وحده لديهم على الساحة بل كانت هناك كتب اليهود والنصارى، وكان هناك ميراث الحضارات المجاورة، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على صفاء المنبع الذي يستقي منه الصحابة مصادر تكوينهم ليصفو النتاج. ويؤكد الشهيد سيد قطب - رحمه الله - على هذا المعنى في تعليقه على هذه الحادثة فيقول: " إذن فقد كان هناك قصد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل في فترة التكوين على كتاب الله وحده، لتخلص نفوسهم له وحده، ويستقيم عودهم على منهجه وحده، ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستقي من منبع آخر". كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد صنع جيل خالص القلب، خالص العقل، خالص التصور، خالص الشعور، خالص التكوين من أي مؤثر غير المنهج الرباني الذي يتضمنه القرآن (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والدرامي، وحسَّنه الألباني في الإرواء (1589) والتهوَّك الكتهور وهو الواقع في الأمر بغير رؤية، والمتهوك: الذي يقع في كل أمر، وقيل التحُّر - ابن الأثير في غريب الحديث. (¬2) معالم في الطريق / 13، 14.

من ذاق عرف

- من ذاق عرف: لقد ذاق الصحابة حلاوة الانشغال بالقرآن، وأدركوا قيمته، وشاهدوا ثمرة ذلك في واقعهم الذي تغير تغيرًا جذريًا، وأصبحوا شخصيات أخرى غير تلك التي كانت قبل إسلامهم، وكأنهم ولدوا من جديد (¬1)، ومن هنا كان حرصهم الشديد على تبليغ هذه الرسالة إلى من بعدهم، وكانوا ينزعجون من انشغال الناس بشيء غير القرآن. فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يأتيه اثنان من التابعين بصحيفة يريدان منه أن يقرأها ويقولان له: هذه صحيفة فيها كلام حسن، فقال: " هاتها، يا خادم هاتي الطست فاسكبي فيها الماء، فجعل يمحوها بيده، ويقول {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ} (يوسف:3) ". فقلنا انظر فيها، فإن فيها كلامًا عجبًا، فجعل يمحوها ويقول: " إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره" (¬2). - المعجزة القرآنية: إذن فحرص الصحابة على تبليغ وصية نبيهم بالانشغال بالقرآن وحده، وبخاصة في فترة التكوين الأولى ناتج عن رؤيتهم لنتاج المعجزة القرآنية التي أحدثت فيهم تغييرًا جذريًا وأحيتهم الحياة الحقيقية: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (الأنعام:122). لقد أدركوا قيمة النور بعد أن عاشوا سنين طوالًا في الظلمات .. فإن قلت إن التغيير الضخم الذي حدث للصحابة، وانعكس على واقعهم كان بسبب وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم؟! نعم، إن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة له دور كبير في ضبط عملية التغيير وتجويدها، وترشيدها بصفته معلم ومربٍ - كما سيأتي بيانه - أما منهج التغيير والمصنع الذي دخله الصحابه فغيَّرهم هذا التغيير فهو بلا شك القرآن الذي قال عنه الله عز وجل: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21). ويؤكد على هذا المعنى سيد قطب رحمه الله فيقول: "لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتميًا لقيام هذه الدعوة، وإيتائها ثمراتها، ما جعلها الله دعوة للناس كافة، وما جعلها آخر رسالة، وما وكل إليها أمر الناس في هذه الأرض إلى آخر الزمان. " ولكن الله سبحانه تكفل بحفظ الذكر، وعلم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن تؤتي ثمارها، فاختاره إلى جواره، بعد ثلاثة وعشرين عامًا من الرسالة، وأبقي هذا الدين من بعده إلى آخر الزمان. إن النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن .. فما كان حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه إلا أثرًا من آثار ذلك النبع، فعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن) (¬3). - المدينة فتحت بالقرآن: ولعل من أوضح الأمثلة التي تؤكد هذا المعنى أن القرآن هو الذي فتح المدينة كما قال الإمام مالك وغيره، وذلك قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، فبعد بيعة العقبة أرسل صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى يثرب ومعه ما معه من القرآن .. فماذا حدث؟! ¬

_ (¬1) تم بفضل الله عرض تصور عن الكيفية التي يقوم من خلالها القرآن بتغيير عقل وقلب ونفس الإنسان في كتاب العودة إلى القرآن، وكتاب كيف نغير ما بأنفسنا؟ (¬2) فضائل القرآن لأبي عبيد / 73 - دار بن كثير - دمشق. (¬3) معالم في الطريق لسيد قطب / 11، 12.

مفهوم الانشغال بالقرآن

دخل النور قلوب أهل يثرب فامتلأت بالإيمان، وتغيرت التصورات والاهتمامات، وتوحد الفرقاء، واجتمعوا جميعًا على كلمة واحدة، وتمسكوا بحبل الله المتين وهو القرآن فكان منهم ما كان من المستوى العجيب في البذل والتضحية والإيثار .. كل ذلك حدث قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم إليهم، والدليل على ذلك ما فعلوه مع إخوانهم المهاجرين من تكافل وإيثار في الدوُّر والأموال والثمار مع فقرهم وشدة حاجتهم، وما كان هذا ليحدث لولا المستوى الإيماني الراقي الذي وصلوا إليه من خلال القرآن: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9). - مفهوم الانشغال بالقرآن: إذن فالانشغال بالقرآن والانتفاع بمعجزته والدخول في دائرة تأثيره هو العامل الرئيس الذي غيَّر الصحابة وصنع منهم ذلك الجيل الفريد الذي تفخر به البشرية حتى الآن. وعندما نتحدث عن انشغال الصحابة بالقرآن فإن هذا يعني أول ما يعني، انشغالهم بتلاوته حق التلاوة، فكما قال ابن عباس في معنى حق تلاوته: "أي يتبعونه حق اتباعه" (¬1). فقيمة القرآن الحقيقية في قدرته على التغيير وهذا بلا شك يستدعي فهم معانيه والتأثر بها والعمل بمقتضاها .. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لا يغرركم من قرأ القرآن إنما هو كلام نتكلم به، ولكن انظروا من يعمل به" (¬2). وإن أردت مثالًا لطريقة الصحابة في قراءة القرآن فإليك هذا الأثر: عن أبي ذئب - رحمه الله - عن صالح قال: "كنت جارًا لابن عباس - رضي الله عنهما - وكان يتهجد من الليل فيقرأ الآية ثم يسكت قدر ما حدثتك، وذلك طويل، ثم يقرأ، قلت: لأي شيء فعل ذلك؟ قال: من أجل التأويل، يفكر فيه " (¬3). ويقول عباد بن حمزة: "دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (الطور:27). فوقفت عندها تعيدها وتدعو، فطال علىَّ ذلك فذهبت إلى السوق، فقضيت حاجتي وهي تعيدها وتدعو بها" (¬4). - لا بديل عن التدبر: إذن فليس معنى الانشغال بالقرآن هو كثرة قراءته باللسان دون تدبر معانيه بالعقل، أو تحريك القلب به، فهذا إن حدث فلن يحقق مقصود القرآن، وما نزل من أجل تحقيقه. قيل للسيدة عائشة - رضي الله عنها - إن أناسًا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثًا فقالت: (قرءوا ولم يقرءوا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم ليلة التمام فيقرأ البقرة وسورة آل عمران وسورة النساء، لا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله تعالى ورغب، ولا يمر بآية فيها خوف إلا دعا واستعاذ" (¬5). وعندما قال رجل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إني لأقرأ المفصَّل في ركعة، فقال عبد الله: " هذًّا كهذّ الشعر؟ إن أقوامًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه، نفع". ويعلق النووي في شرحه لصحيح مسلم على قول ابن مسعود فيقول: " معناه أن قومًا ليس حظهم من القرآن إلا مروره على اللسان، فلا يجاوز تراقيهم ليصل إلى قلوبهم، وليس ذلك هو المطلوب، بل المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب" (¬6). ¬

_ (¬1) فضائل القرآن لأبي عبيد ص 130. (¬2) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي ص 71. (¬3) مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر ص 149. (¬4) المصدر السابق. (¬5) أخرجه ابن المبارك في الزهد رقم (1196) ص / 421. (¬6) صحيح مسلم بشرح النووي 6/ 345.

منبع الإيمان

- منبع الإيمان: لقد تعامل الصحابة مع القرآن على حقيقته ككتاب هداية وشفاء وتغيير وتقويم، لذلك لم يكن همُّهم منصبًا على سرعة الحفظ أو قراءة أكبر قدر من آياته ولم يكن من بينهم الكثير من الحفاظ، مع شدة انشغالهم وتفرغهم للقرآن .. لماذ؟ لأن شغلهم الشاغل كان منصبًّا على العمل به والتغيير من خلاله. لقد ذاقوا حلاوة الإيمان من خلال هذا الكتاب، فشغلهم ذلك عن حفظه، مع أهمية الحفظ كوسيلة يتيسر من خلالها تلاوة القرآن في أي وقت. يقول الحسن البصري رضي الله عنه: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفي وما استكمل حفظ القرآن من أصحابه رضوان الله عليهم إلا النفر القليل، استعظامًا له، ومتابعة لأنفسهم بحفظ تأويله والعمل بمحكمه ومتشابهه" (¬1). وفي هذا يقول ابن مسعود: "إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويعصب عليهم العمل به". فإن قلت: ولماذا كان يصعب عليهم حفظ القرآن مع أنهم عاصروا نزوله خلال ثلاثة وعشرين عامًا، وهم أهل اللغة العربية وأولى الناس به؟! فالجواب .. نعم، من الطبيعي أن يكونوا أكثر الناس حفظًا للقرآن ولكنهم لم يكونوا كذلك لأن اهتمامهم الأكبر كان منصبًا على العمل بالقرآن، وبخاصة أنهم أدركوا أن أهل القرآن هم أهل اتِّباعه، فإن صاحَبَ ذلك حفظ حروفه فذالك فضل من الله ونعمة كما قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "من جمع القرآن فقد حمل أمرًا عظيمًا، فقد أدرجت النبوة بين كتفيه، غير أنه لا يوحى إليه (¬2). والذي يؤكد على هذا المعنى أن الكثير من أكابر الصحابة قد ماتوا ولم يستكملوا حفظ القرآن .. أخرج ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سيرين قال: "قُتل عمر ولم يجمع القرآن" (¬3). ويقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا سورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يرزقون القرآن، منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العمل به" (¬4). - ليست دعوة لإهمال الحفظ: لا ينبغي أخي القارئ أن تفهم هذا الكلام على أنه دعوة لإهمال الحفظ، بل المقصد منه أن يراجع كل منا نفسه في طريقة تعامله مع القرآن، وأن يأتي أمره من أوله وليس من آخره، فأول أمر القرآن هو الانتفاع بمعجزته العظمى في الهداية والشفاء والتغيير، وما القراءة أو الحفظ إلا وسائل مساعدة لهذا الانتفاع، ومن الخطأ بمكان أن نجعل الوسائل المساعدة غايات مقصودة فيكون همنا قراءة أكبر قدر من آياته لا نجد فيه أي تغيير إيجابي ينتج من حفظ القرآن أو كثرة قراءته باللسان، فالقرآن ليس شربة ماء نشربها سريعًا لنرتوي، بل قول ثقيل يحتاج إلى روِّية وتأنِّ في تلاوته، وفي حفظه كذلك .. بل أشد، وهذا ما كان عليه الصحابة - رضوان الله عليهم - وهم أهل القرآن الحقيقيون، ومن أَوْلى الناس به .. يقول أبو عبد الرحمن السُلمي أحد تلامذة الصحابة: "إنما أخذنا القرآن من قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزهن إلى العشر الأُخَر حتى يعلموا ما فيهن من العمل، فتعلمنا العلم والعمل جميعًا وإنه سيرث القرآن من بعدنا قوم، يشربونه شرب الماء لا يجاوز هذا وأشار إلى حنكه" (¬5). ¬

_ (¬1) الحسن البصري لابن الجوزي ص 98. (¬2) أخلاق حملة القرآن للآجري ص 20. (¬3) طيقات ابن سعد 3/ 224. (¬4) الجامع لأحكام القرآن 1/ 30. (¬5) فضائل القرآن اافرياني ص 242.

مع عباد بن بشر

- مع عبَّاد بن بشر: مما سبق يتضح لنا أن الصحابة انتفعوا بالقرآن عندما تعاملوا مع أمره من أوله، وعاشوا مع حقيقته، ونهلوا من منابع الإيمان المتجددة فيه، فصاروا من أهله، وانجذبوا إليه فسيطر على مشاعرهم بصورة لم يمكن تصديقها، وإليك أخي القارئ مثالا عجيبًا لذلك: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة من غزوة ذات الرقاع، وبعد جهد جهيد جاء الليل وأراد الجميع النوم، وكان لابد من حُرَّاس يحرسون المسلمين عند نومهم، فقام بهذه المهمة الصحابيان عبَّاد بن بشر وعمار بن ياسر، وتناوب الاثنان على الحراسة، وبدأ بها عبّاد ونام عمّار، فلما رأى أن المكان آمن صلى، فجاء أحد المشركين فرماه بسهم فنزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بسهم ثان فنزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بثالث فنزعه وأنهى التلاوة وأيقظ عمارًا وهو ساجد، فلما سأله عمار لِمَ لمْ يوقظه أول ما رُمي؟ فأجاب: "كنت في سورة أقرؤها، فلم أُحب أن أقطعها حتى أنفدها فلما تابع علىّ الرمي ركعت فآذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفدها" (¬1). - السيطرة على المشاعر: فإن كنت في شك من قدرة القرآن على الهيمنة على مشاعر الإنسان والسيطرة عليها فسل نفسك: لماذا ظل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يردد قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه:114) في ليلة حتى أصبح؟ ولماذا استمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يردد في الفاتحة طيلة الليل؟! (¬2) وغيرهم وغيرهم. إنها حلاوة الإيمان، وخشوع القلب، ولذة القرب الحقيقي من الله، والشعور بالتغيير الذي يحدث لهم كلما رددوا الآية التي تحركت معها قلوبهم .. فهل من يعيش في هذه الأجواء، ويرى النور بعينه، يعود إلى الوراء، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فيقرأ القرآن بلسانه وهو غافل عنه؟! من هنا ندرك أهمية القرآن كمنهج أساسي لتتغير الذي حدث لجيل الصحابة رضوان الله عليهم. - المربي والبيئة: ومع المنهج العظيم المتكامل كان لابد من وجود موجه ومشرف ومتابع لسير عملية التغيير، ليتأكد من جودة النتاج وطيب الثمار، ولقد قام بهذا الدور المهم معلم البشرية، المربي العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الجمعة:2). لم يكن صلى الله عليه وسلم معلمًا فقط، يُعطي توجيهاته للناس ويتركهم، بل كان معهم يعايشهم، ويتابعهم ويوجههم .. يشرح القرآن، ويؤكد معانيه .. يربط أحداث الحياة بالله عز وجل، ويرغب في الآخرة، ويُزَهِّد في الدنيا، ويُزكي النفوس، ويضبط المفاهيم، وينظم الحركة، وإليك أمثلة تؤكد ذلك: في مجال ربط أحداث الحياة بالله عز وجل: نراه صلى الله عليه وسلم يؤكد لأصحابه على معاني الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، وعلى معاني العبودية له سبحانه، ويربط بين هذه المعاني وبين ما يحدث في الحياة، ففي الهجرة عندما دخل هو وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى غار ثور شعر أبو بكر بقرب المشركين من الغار وأنهم قاب قوسين أو أدنى من رؤيتهما فقال له صلى الله عليه وسلم كما جاء في القرآن: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة:40). ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لابن هشام، وزاد المعاد لابن القيم. (¬2) فضائل القرآن لأبي عبيد ص 147.

الترغيب في الآخرة

وهذا أنس بن مالك يقول: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قال لي لشيء فعلته ... (لِمَ فعلت كذا وكذا) ولا لشيء لم أفعله: (ألا فعلت كذا؟) " (¬1) ... وقال: وكان إذا لامني بعض أهله يقول: (دعوه فلو قُدِّر شيء كان) (¬2). ويقول ابن عباس - رضي الله عنهما - كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشئ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) (¬3). انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يربط ما يحدث في الحياة بالله عز وجل، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الريح من روح الله تعالى: تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها، واسألوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرها) (¬4). ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك، فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) (¬5). وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة والكثيرة التي كان يُوجِّه بها من حوله من أصحابه، وأمته من بعده، وهي تربط مجريات الأحداث بالله عز وجل، فيزداد بذلك التعلق به سبحانه، والتوحيد الخالص له. - الترغيب في الآخرة: أما ترغيبه صلى الله عليه وسلم لصحابته في الجنة وتخويفهم من النار فما أكثر الأحاديث التي وصلتنا لتؤكد هذا المعنى .. عن قبيصة - رضي الله عنه - قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: (يا أيها االناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه) " (¬6). وفي الصحيحين من حديث البراء رضي الله عنه قال: "أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فجعلوا يعجبون من لينه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تعجبوا من هذا، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا) ". وكان صلى الله عليه وسلم يشحذ همم الصحابة لدخول الجنة فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ": (ألا هل من مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وحبرة، ونعمة في حلة عالية بهية)، قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمِّرون لها، قال: (قولوا إن شاء الله)، قال القوم: "إن شاء الله" (¬7). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. (¬3) صحيح، رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7957). (¬4) رواه أبو داود وابن ماجه والإمام أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3564). (¬5) متفق عليه. (¬6) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. (¬7) رواه بن ماجه.

التزهيد في الدنيا

- التزهيد في الدنيا: كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على تزهيد الصحابة في الدنيا، وعدم تعلقهم بها .. عن جابر رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسوق والناس كَنَفتيه - أي عن جانبيه - فمر بجدي أسكّ ميت، فتناوله، أخذ بأذنه، ثم قال: (أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟) فقالوا: " ما نحب أنه لنا بشئ، وما نصنع به؟ " ثم قال: (أتحبون أنه لكم؟) قالوا: " والله لو كان حيًا كان عيبًا، أنه أسكُّ، فكيف وهو ميت! " فقال: (فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) (¬1). تخيل معي مدى تأثير هذا الموقف على الحاضرين من الصحابة، وكيف سيتعاملون مع الدنيا بعد ذلك؟! وفي يوم من الأيام امتلأ المسجد في صلاة الفجر بالصحابة - رضوان الله عليهم - فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكثير منهم جاء من أماكن بعيدة وذلك لعلمهم بأن أبا عبيدة بن الجراح قدم بمال من البحرين، فتبسم صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال: (أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء) قالوا: أجل يا رسول الله، قال (فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) (¬2). وعندما بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال له: (إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين) (¬3). - تزكية النفس: أما في مجال تزكية النفس من قابليتها للفجور، ومن الشح المجبولة عليه .. فنجده صلى الله عليه وسلم يوجه أصحابه للأعمال التي بها تتزكى أنفسهم، وتُروض على الصدق والإخلاص لله عز وجل، والأحاديث في هذا الباب كثيرة،،، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من تعظم في نفسه، واختال في مشيته، لقى الله وهو عليه غضبان) (¬4). وقوله: (من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله جهنم) (¬5). وفي الصحيحين أنه قد دخل عليه يومًا أبو موسى الأشعري ورجلان من بني عمه، فقال أحدهما: يا رسول الله أمّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا والله لا نولي هذا العمل أحدًا سأله، أو أحدًا حرص عليه). هذا من ناحية حماية أصحابة من أنفسهم وغلق أبواب الفتنة أمامها، أما دلالته لهم على أعمال تُقَوِِّي إخلاصهم لله عز وجل فكثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل) (¬6). وفي مجال علاج النفس من الشح المجبولة عليه، كان صلى الله عليه وسلم يستحث أصحابه دومًا على الإنفاق في سبيل الله .. انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يقول لبلال رضي الله عنه: (انفق بلال ولا تخشى من ذي العرش إقلالا) (¬7). ¬

_ (¬1) رواه مسلم، وأسك أي صغير الأذن. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه الإمام أحمد عن معاذ وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم (2668). (¬4) أخرجه الإمام أحمد عن ابن عمرو وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6157). (¬5) أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6158). (¬6) صحيح، أخرجه الضياء والخطيب البغدادي غن الزبير، وأورده الألباني في صحيح الجامع، رقم (6081). (¬7) أخرجه الإمام أحمد في كتاب الزهد.

ضبط الفهم وتعليم الحكمة

وعن عبد الله بن عبيد قال: "جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله ما لي لا أحب الموت؟ .. قال: (هل لك من مال؟) قال: نعم يا رسول الله، قال: (فقدم مالك بين يديك) .. قال: لا أطيق ذلك يا رسول الله، قال: (فإن المرء مع ماله، إن قدمه أحب أن يلحق به، وإن خلفه أحب أن يتخلف معه) " (¬1). - ضبط الفهم وتعليم الحكمة: كان صلى الله عليه وسلم حريًا على ضبط الفهم عند أصحابه، وتعليمهم الحكمة وفقه التعامل مع أحكام الدين واحتياجات النفس، فعندما بلغه تشديد عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - على نفسه قال له: (يا عثمان! أرغبت عن سنتي؟! فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكد النساء، فاتق الله يا عثمان! فإن لأهلك عليك حقًا، وإن لضيفك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، فصُم وأفطر، وصلِّ ونم) (¬2). انظر إليه وهو يعلم الصحابة الفهم الصحيح، وفقه الأولويات وذلك عندما رأوه يعطي للمؤلفة قلوبهم من الغنائم أكثر من بعض السابقين الأولين فيقول لهم: (إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلىَّ منه، خشية أن يكب في النار على وجهه) (¬3). ولما فتح الله مكة وصارت دار إسلام، عزم صلى الله عليه وسلم على هدم الكعبة وردها إلى قواعد إبراهيم عليه السلام ومنعه من ذلك - كما يقول ابن القيم - مع قدرته عليه، خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر (¬4). ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال للسيدة عائشة: (يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهُدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، بابًا شرقيًا، وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم). ومما كان يعلمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته بعده أنه نهى أن تقطع الأيدي في الغزو (¬5)، خشية أن يترتب عليه ماهو أبغض لله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبًا (¬6). - توظيف الطاقات وتوجيه الحركة: ومع تعليمه صلى الله عليه وسلم ودلالته لأصحابه على أبواب الخير، ومع متابعتهم والقيام بما سبق بيانه من مهام، فإنه كذلك كان يوظِّف الطاقات، ويُنظم حركة الأفراد، فلقد أمر مجموعة منهم بالهجرة إلى الحبشة كمكان آمن يحميهم ويحمي الدعوة من الإبادة، وكان مما قاله صلى الله عليه وسلم: (إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه). وبعد بيعة العقبة الثانية اختار صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ليرسله إلى يثرب يعلم ويدعو .. وفي الأحزاب اختار حذيفة بن اليمان - دون غيره - ليأتيه بخبر المشركين، وفي خيبر أعطى الراية لعلي بن أبي طالب .. وأرسل صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل لدعوة أهل اليمن وتعليمهم ... وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يُوظف الطاقات فيضع كل شخص في المكان المناسب لإمكاناته .. من هنا يتبين لنا أهمية دور المربي ووظائفه، والذي تجلى بوضوح في أعظم مربٍّ شهدته البشرية ... محمد صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد رقم (634). (¬2) صحيح، رواه أبو داود عن عائشة، وأورده الألباني في صحيح الجامع رقم (7946). (¬3) متفق عليه. (¬4) إعلام الموقعين. (¬5) رواه أبو داود والنسائي، والترمذي، وصححه الألباني في المشكاة (3601). (¬6) إعلام الموقعين 3/ 3.

المحاضن التربوية

- المحاضن التربوية: ومع المنهج والمربي يبقي العنصر الثالث في عملية تكوين الجيل الموعود بالنصر والتمكين ألا وهو الجو التربوي، والوسط الذي يتم فيه التكوين، والناظر لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والطريقة التي تم بها تكوين هذا الجيل الفريد يلحظ أنه صلى الله عليه وسلم، لم يكن يكتفي بإسلام الفرد بل كان يأخذه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم ليكون مع إخوانه يتعلم ويتزكى، ويتآخى معهم. يقول منير الغضبان: "أصبحت دار الأرقم مركزًا جديدًا للدعوة يتجمع فيه المسلمون ويتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جديد من الوحي، ويستمعون له - عليه الصلاة والسلام - وهو يذكرهم بالله ويتلو عليهم القرآن، ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم - عليه الصلاة والسلام - على عينه كما تربَّى على عين الله عز وجل" (¬1). وكانت المادة الدراسية التي قام بتدريسها النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم: القرآن الكريم، فهو مصدر التلقي الوحيد، فقد حرص الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم على توحيد مصدر التلقي وتفرده، وان يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج والفكرة المركزية التي يتربى عليها الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، وكان روح القدس ينزل بالآيات غضة طرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعها الصحابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فتُسكب في قلوبهم، وتتسرب في أرواحهم، وتجرى في عروقهم مجرى الدم، وكانت قلوبهم وأرواحهم تتفاعل مع القرآن وتنفعل به، فيتحول الواحد منهم إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره، وأهدافه، وسلوكه وتطلعاته. لقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم حرصًا شديدًا على أن يكون القرآن الكريم وحده هو المادة الدراسية، والمنهج الذي تربى عليه نفوس أصحابه، وألا يختلط تعليمهم بشيء من غير القرآن (¬2). - التربية في المدينة: وبعد الهجرة يتسع الوسط التربوي ليشمل الأنصار، فيتم التآخي بينهم وبين المهاجرين، وتستمر التربية في المجتمع المسلم الوليد، لتبدأ شيئًا فشيئًا تباشير فجر التمكين في الظهور. نعم قد تكون صورة التربية اختلفت عما كانت عليه في دار الأرقم بمكة لكن جوهرها استمر من خلال المسجد، ومن خلال توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة ومعايشته لهم، وتفقده لأحوالهم .. - الخلاصة: وخلاصة القول أن العناصر الأساسية التي ساهمت في تكوين الجيل الأول هي: القرآن، والمربي، والوسط التربوي ومن خلال هذه العناصر الثلاثة ظهرت في هذا الجيل الصفات المؤهلة للدخول في دائرة المعية والنصرة الإلهية، فأوفى الله بعهده معهم، ومكنهم في الأرض، وملكهم ممالكها. نعم، أهم هذه العناصر - بلا شك - هو القرآن، ولِمَ لا وهو المعجزة الكبرى التي نزلت من السماء، والتي يكمن سرها الأعظم في قدرتها على إحياء القلوب وتغيير الأشخاص تغييرًا جذريًا ... ليأتي بعد ذلك المربي والوسط التربوي كعناصر محسِّنة وضابطة للتغيير الذي يحدثه القرآن. ¬

_ (¬1) التربية القيادية لمنير الغضبان 1/ 198 - دار الوفاء - مصر. (¬2) السيرة النبوية للصلابي 1/ 148 - دار الإيمان - الأسكندرية - نقلًا عن دولة الرسول من التكوين إلى التمكين ص 225.

ومما لا شك فيه أن القرآن لا يمكنه أن يقوم بدوره في التغيير مع أحد من الناس إلا إذا أقبل عليه إقبال من يريد الانتفاع الحقيقي بمعجزته - كما فعل الصحابة - وهذا يستلزم منه أن ينشغل بالقرآن انشغالًا شديدًا، وأن يجعله المصدر الأول والرئيسي للتلقي وبخاصة في فترة التكوين الأولى، وأن يكون همه عند تلاوته هو فهم معانيه، والتأثر بآياته وتحريك القلب بها، وأن يحذر من الاهتمام بلفظه فقط، وأن يتأنى في حفظ آياته قدر المستطاع ليتسنى له العمل بها، وأن يعمل دومًا على ربط القرآن بأحداث الحياة، وعليه أن يصبر على هذه الطريقة في التعامل حتى يمكِّن القرآن من تغيير اهتماماته وتصوراته، والسيطرة على مشاعره، وتمكين الإيمان بالله واليوم الآخر منها ليكون النتاج بعد ذلك: عبدًا مخلصًا لله عز وجل يردد قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام:162، 163).

الفصل الخامس أين نحن من الجيل الموعود؟

الفصل الخامس أين نحن من الجيل الموعود؟

فلنبدأ من الآن

الفصل الخامس أين نحن من الجيل الموعود؟ بعد أن استعرضنا سويًا صفات الجيل الموعود بالنصر والتمكين، وعشنا مع الجيل الأول الذي تمتع بتحقق الوعد الإلهي له بالنصرة والمعية والاستخلاف في الأرض .. وبعد أن وضحت أمامنا الرؤية لكيفية تحقيق هذه الصفات، يبقي سؤال مهم ينبغي أن نطرحه على أنفسنا وهو: أين نحن من الجيل الموعود؟! الإجابة عن هذا السؤال تستدعي من كل منا أن ينظر إلى نفسه، ويرفع واقعه من حيث الاهتمامات والتصورات، والأحلام والطموحات، والأقوال والأفعال، والسر والعلانية، وأن يقيس هذا الواقع على صفات الجيل الموعود ومظاهرها المختلفة والتي تم استعراض الكثير منها في الفصل الثاني. وبعد هذه المقايسة بين الواجب والواقع سيعرف كل منا أين هو من هذا الجيل. ومما لا شك فيه أننا سنجد بعض الإيجابيات في واقعنا، وسنجد كذلك العديد من السلبيات. نعم، في القلوب إيمان وحب لله، وفيها كذلك هوى وحب للدنيا .. نريد أن نكون من أبناء الآخرة، ونود أن نكون كذلك من أبناء الدنيا. نخطط لمستقبلنا الدنيوي أكثر مما نخطط لمستقبلنا الأخروي. نريد أن نخدم ديننا ولكن مع الحفاظ على دنيانا ومكتسباتنا فيها. إننا بهذا الحال لا يمكن أن نصبح من الجيل الموعود، فكما ذُكر سابقًا أن المعية والتأييد والنصر الإلهي لن يكون إلا من نصيب من يستوفي الشروط، وطالما أننا لم نستكملها فسنظل نراوح في أماكننا .. لقد عاتب الله عز وجل الصحابة - رضوان الله عليه - عتابًا شديدًا لأن بعضهم كان لا يريد الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، بسبب شدة الحر من ناحية، وطيب الثمار من ناحية أخرى .. تأمل معي ما قاله الله لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ? إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة:38،39). فإن كان هذا العتاب للصحابة مع سابقتهم العظيمة في نصرة الإسلام، فماذا لو نزل القرآن علينا الآن؟ ماذا سيقول الله لنا فيه؟! - فلنبدأ من الآن: من هنا يتأكد لدينا بأنه إذا ما أردنا أن نكون من أبناء الجيل الموعود بالنصر فلابد من وقفة جادة مع أنفسنا، وإعادة ترتيب لأولوياتنا، وتحديد غايتنا بصدق.

انتبه

لابد من وضوح الرؤية لدينا تجاه طبيعة ودور هذا الجيل، وأنه ليس كسائر الناس في أحلامه وطموحاته، وفي سعيه وحركته. كلنا يقدر - بمشيئة الله - على أن يكون من جيل التغيير ... المطلوب فقط هو: همة وعزيمة وإصرار، وإلحاح على الله عز وجل بأن يجعلنا منهم، وإقبال على القرآن ومعانيه بشغف ولهفة وإسلام قيادنا له، وتفريغ الكثير من أوقاتنا للقائه، وكذلك لابد أن نضع أيدينا في أيدي من سبقنا ممن يسعون لإعادة مجد الإسلام من جديد. - انتبه: هناك نقطة لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار وهي أن بعضنا قد يرى الكثير من صفات الجيل الموعود وقد تمثلت فيه، فهذا - إن تم - لا يكفي، ولا يبرر له أن يسير منفردًا، فجيل التغيير ليس أفرادًا متناثرين هنا وهناك لا يشعر بعضهم ببعض، بل هو جيل مترابط متآخٍ يتحرك بخطوات موزونة، يقف كل فرد فيه على ثغر من ثغور الأمة الإسلامية .. يوقظ النائم، ويوجه اليقظان، ويوحد الجهود. لابد من تكاتف الجميع والتفافهم حول المشروع الإسلامي - مشروع بناء مجد الأمة من جديد - فيقوم كل فرد بدوره فيه - وهذا بلا شك يستدعي تجميع الجهود والتنسيق بينها. - ضرورة التخفف من الأثقال: إذا كان للجيل الموعود صفات خاصة - كما مر علينا - من تعلق تام بالله عز وجل، وإخلاص له، وخوف منه، وحب له، وتواضع، وزهد في الدنيا، ورغبة في الآخرة، وعمل وجهاد لا هوادة فيه، و ..... فإن أكثرنا تأهلًا لاستكمال تلك الصفات هم أولئك الذين لم يغرقوا في بحر الدنيا، ولم تُضع الأثقال في قلوبهم وتجذبهم إلى الأرض، وتمنعهم من حرية الحركة. تأمل معي - أخي القارئ هذا الحديث المتفق على صحته: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بُضع امرأة وهو يريد أن يبني بها، ولم يبن. ولا أخر قد بنى بنيانًا، ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنمًا و خَلِفَات، وهو منتظر وِلاَدها، قال: فغزا، فأدنى للقرية حين صلاة العصر، أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها لي شيئًا، فحبست عليه حتى فتح الله عليه .. الحديث) (¬1). فهنا اشترط هذا النبي - عليه السلام - شروطًا لمن يريده للخروج معه في الغزو .. محور هذه الشروط عدم انشغال البال أو تعلق القلب بشيء من الدنيا .. ويؤكد على هذا المعنى الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث فيقول - رحمه الله -: "وفي هذا الحديث، أن الأمور المهمة ينبغي ألا تفوَّض إلا إلى أولي الحزم وفراغ البال، ولا تفوض إلى متعلق القلب بغيرها، لأن ذلك يضعف عزمه، ويفوت كمال بذل وسعه فيه" (¬2). وهذا هو المطلوب توافره في الجيل الموعود. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومسلم، والبضع بضم الباء، وهو فرج المرأة، وأما الخَلِفات: الحوامل. (¬2) صحيح مسلم بشرح الإمام النووي 12/ 279 - دار المعرفة - بيروت.

الجنة هي الثمن

- الجنة هي الثمن: نفس المعنى حدث مع أصحاب بيعة العقبة، فعندما طلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حمايته ونصرة دينه لم يعدهم بشيء من الدنيا مقابل ذلك حتى لا تتعلق قلوبهم بها، بل جعل المقابل هو الجنة مع علمه صلى الله عليه وسلم بما سيُفتح عليه وعلى أصحابه .. قال جابر بن عبد الله: "فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطرد في جبال مكة ويُخاف، فرحل إليه منا سبعون رجلًا حتى قدموا عليه الموسم، فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يارسول الله نبايعك: قال: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة) ". قال: " فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو من أصغرهم - فقال: رويدًا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم جبينة، فبينوا ذلك فهو عذر لكم عند الله. قالوا: إمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدًا ولا نسلبها، قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة " (¬1). ولقد ظل الأنصار على بيعتهم يدافعون عن الإسلام، ويحمون حوزته .. يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع، واستمروا في كفالة إخوانهم المهاجرين بل وإيثارهم على أنفسهم .. كل ذلك طمعًا في الشرط الذي بايعوه عليه ... الجنة، أخرج البزار عن جابر رضي الله عنه قال: "كانت الأنصار إذا جزَّوا نخلهم قسم الرجل تمرة قسمين أحدهما أقل من الآخر، ثم يجعلون السَّعَف (¬2) مع أقلهما، ثم يخّيرون المسلمين، فيأخذون أكثرهما، ويأخذ الأنصار أقلهما من أجل السَّعف حتى فُتحت خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد وفيتم لنا بالذي كان عليكم، فإن شئتم أن تطيب أنفسكم بنصيبكم من خيبر، ويطب ثماركم فعلتم) قالوا: إنه قد كان لك علينا شروط ولنا عليك شرط بأن لنا الجنة، فقد فعلنا الذي سألتنا بأنَّ لنا شرطنا. قال: (فذاكم لكم) " (¬3). وهذا هو ما يريده الإسلام الآن. جيل لا ينظر لشيء من حطام الدنيا. جيل بصره معلق بالسماء، يسعى دومًا لرضا الله والفوز بجنته، يتمثل في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة:111). ومما لا شك فيه أننا جميعًا نستطيع أن نكون من أبناء هذا الجيل لو استطعنا أن نُزيل الأثقال التي تجذب أقدامنا وأجسادنا وقلوبنا إلى الأرض. وبما أن الشباب أقلنا أثقالًا فإنهم بلا شك أكثرنا استعدادًا لاستكمال صفات الجيل الموعود، مع ما يميزهم كذلك من عاطفة جياشة وعزيمة وقَّادة، وهمة عالية وهذا لا يعني بأننا لا نصلح لذلك، بل نصلح - والله - لو عقدنا العزم، وأخلصنا النية، وتخففنا من أثقالنا، وجعلنا الله عز وجل فقط هو غايتنا، عند ذلك نكون كالشباب في همته وعاطفته وعزمه الوقاد. ¬

_ (¬1) السيرة النبوية للصلابي 1/ 460. (¬2) أغصان النخل. (¬3) حياة الصحابة 1/ 292.

ليست دعوة للرهبانية

- ليست دعوة للرهبانية: ليس معنى ذلك أخي القارئ أن المطلوب من جيل الأمل ألا يتزوج أو يعمل أو ... ولكن المقصد أن يهيئ نفسه للدور العظيم المنوط به، وأن يستشعر أهمية هذا الدور وبأنه يسبق في الأهمية أي شيء آخر، وأن يعمل قدر جهده على استكمال ما ينقصه من الصفات السابق ذكرها، وذلك قبل دخوله إلى معترك الحياة وتعلق قلبه بالدنيا. فمما لا شك فيه أنه إذا ما دخل إلى معترك الحياة بعد أن يخطو خطوات كبيرة في مجال بناء ذاته، واستكمال ما ينقصه، واستشعار بثقل الأمانة الملقاة على عاتقه .. لا شك أنه سيُكيِّف حياته تبعًا لواقعه ووقته الذي أوقفه لله .. فهو ليس شخصًا عاديًا ينحصر دوره في الحياة أن يعمل ويتزوج ويكون له أولاد يسعى من أجل تأمين مستقبلهم الدنيوي، ثم يموت ..... كلا، فهدفه السامي في الدنيا هو إيقاظ أمته وتوجيه عاطفتها وقيادتها في الضراء والسراء. هذه الهدف يستدعي منه أن يُطوِّع كل ظروفه لخدمته. نعم، سيتزوج ولكنه سيختار زوجة تعينه على تحقيق هدفه، وسيبحث عنها كثيرًا حتى يجدها مثله، تسعى مثل سعيه وتفكر مثلما يفكر، ليبدأ معها في تكوين البيت المسلم القدوة، الذي يهتم بقضية واحدة هي قضية الإسلام .. لن يهتما بأن يكون مسكنهما واسعًا أو ضيقًا، وفراشه حديث أم قديم .. فمسكنهما ما تيسر، وملبسهما ما تهيأ .. يتحملان شظف العيش، والحياة الخشنة الناتجة من قلة دخل الزوج الذي ارتضى بأن يعمل بوظيفة بسيطة لا تستغرق منه وقتًا طويلًا بعد ذلك للمهمة الأعظم المنتدب إليها. أما أولادهما فسيعملان سويًا على تربيتهما على حب الله والتعلق به، والتشمير للجنة، والزهد في الدنيا، والحذر من أنفسهم، ليكونوا معهما بعد ذلك من أبناء الجيل الموعود. - محاور التكوين: هذه الأجيال الشابة الواعدة من المناسب أن يتم التركيز معها على المحاور الثلاثة التي تنطلق منها صفات الجيل الموعود وهي: أولًا: إيمان عميق بالله وباليوم الآخر .. يحرك القلب فيربطه دومًا بالله عز وجل، ويجعل صاحبه يعبد ربه وكأنه يراه .. ويريط أحداث حياته به سبحانه. المطلوب هو إيمان ينتج عنه تعظيم لقدر الله في النفس، ويدفعه إلى الحب والرجاء والإخلاص له سبحانه، كما يدفع إلى المساعرة في الخيرات. ومع الإيمان العميق يأتي الإيمان باليوم الآخر كدافع يدفع العبد للتشمير والسعي الدءوب لبلوغ الجنة والنجاة من النار .. ثانيًا: تزكية النفس مع الشح المجبولة عليه، وإزالة أي مظاهر لتضخمها والتي لو تُركت لأصبحت بمثابة الصنم الذي يشرك به الإنسان في عبادته مع ربه، وفي استعانته كذلك، وهذا أمر في غاية الأهمية، ويغفل عنه الكثيرون، فالإيمان وحده لا يكفي، بل لابد من أن يصاحبه جهاد للنفس على الصدق والإخلاص، وإلا استولت تلك النفس على الأعمال الصالحة، وحولت مسارها من مسار الإخلاص لله والعمل من أجل رضاه، إلى مسار يخدم حظوظها ويُعظَّم قدرها ... أمر يحتاج إلى شدة انتباه، وتركيز، وبخاصة في البداية - في مرحلة التكوين الأولى - لأن الخروج بالدعوة وسط الناس سيُعرض صاحبه للمدح والثناء والأضواء ... وهذا إن لم يكن يصاحبه تواضع واستصغار لشأن النفس، ورؤيتها بعين النقص والحذر فسيكون وبالًا على صاحبه. ثالثا: الفهم الصحيح للإسلام بشموله واعتداله وتوازنه، والتعرف على فقه المقاصد والموازنات والأولويات، وكذلك الواقع الذي يحيط بالداعية. - العودة إلى القرآن: هذه المحاور الثلاثة لابد وأن يكون منطلقها الأساسي هو القرآن، فالقرآن هو المصنع الرئيسي للتغيير - كما مر علينا - وبدونه لن يكون النتاج كاملًا، ولن تكون الثمار ناضجة.

القرآن هو نقطة البداية

نعم، لا بأس من استخدام أي وسيلة تخدم المحاور الثلاثة، ولكن ليكن منطلقها القرآن، فالسيرة النبوية على سبيل المثال لها دور كبير في تقديم النموذج الذي كان عليه الجيل الأول .. هذه السيرة لابد أن تُربط بالقرآن وأن تُدرَّس كنموذج عملي تطبيقي له .. والتاريخ الإسلامي كذلك، أما السنة فهي صنو القرآن، علينا أن نتعامل معها من هذا المنطلق ونعتبرها شارحة لما أُجمل بيانه في القرآن .. - القرآن هو نقطة البداية: إن الضامن الأكبر لاستمرار نمو الفرد وقيامه بتفيذ التوجيهات والتكاليف المختلفة، هو قوة إيمانه بالله عز وجل وتعلقه بالآخرة، وأفضل منبع مستمر ومتجدد للإيمان هو القرآن: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (الأنفال:2). فالقرآن له قدرة عجيبة على استثارة المشاعر، والسيطرة عليها، وتوجيهها لله عز وجل وليس ذلك فحسب، بل إن للقرآن خاصية عجيبة - لا توجد في غيره - وهي قدرته على جعل من يتعامل معه بطريقة صحيحة في حالة دائمة من الهمة والنشاط والتوقد والإيجابية، وذلك من خلال توليده المستمر للطاقة داخل نفس صاحبه كلما قرأه وتجاوب معه وتأثرت به مشاعره .. هذه الطاقة ستدفعه ليصرفها في أعمال البر المختلفة، والتي دلَّ عليها القرآن، مما يجعله أكثر الناس عملًا وإنتاجًا مع نفسه، ومع أهله، وفي محيطه الدعوي، لذلك ينبغي أن يكون الجهد الأكبر في البداية منصبًا على العودة الحقيقية للقرآن والانتفاع بمعجزته، والدخول في دائرة تأثيره وورود منابع الإيمان فيه، فإذا ما تم ذلك كان استكمال المحاور الثلاثة (الإيمان، التزكية، الفهم) من أسهل ما يكون. - مفهوم العودة إلى القرآن: ومما ينبغي الإشارة إليه أن العودة إلى القرآن لا تعني أن يضع الفرد لنفسه برنامجًا يحفظ من خلاله القرآن في مدة وجيزة، أو يختمه في أيام، بل المقصد أن يعود إلى القيمة الحقيقية للقرآن والتي أنزله الله من أجلها كأداة ووسيلة ربانية للهداية والشفاء والتقويم والتغيير .. قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء:9). هذا هو دور القرآن الحقيقي، وما قراءته أوحفظه إلا وسائل لتيسير الانتفاع بمعجزته، ومعنى ذلك أنه ينبغي على الجيل الموعود بالنصر والتمكين أن يقبل على القرآن بكيانه، وأن يُفرِّغ له أكبر وقت لديه، وينشغل به، ويجعله مصدره الأول للتلقي، ومما يعينه على ذلك أن يُخصص له وقتًا كل يوم، وأن يقرأه في مكان هادئ بعيدًا عن الضوضاء لتحسن استفادته منه، والتعبير عن مشاعره تجاه الآيات بالبكاء والدعاء، وعليه كذلك أن يهيئ قلبه قبل التلاوة بتذكر الموت والآخرة فقد قال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (ق:45). ومع هذه الوسائل، ينبغي أن تكون القراءة بهدوء وترسل وترتيل، وكذلك بتركيز وبدون سرحان، وأن يجعل المعنى الإجمالي للآية هو المقصود، ولا يتوقف عند تفسير كل كلمة، بل ينبغي عليه أن يسمح لآيات القرآن أن تنساب داخله ويتصاعد تأثيرها شيئًا فشيئًا حتى تسيطر على المشاعر وتوجهها لله عز وجل، وهذا هو المقصد الأسمى من القراءة، فالتدبر وحده لا يكفي، بل لابد من التأثر والذي من خلاله يزداد الإيمان، وتتولد الطاقة ويحدث التغيير القويم. وعندما يجد أحدنا قلبه ينفعل ويتحرك مع آية من الآيات فعليه أن يرددها مرات ومرات، لأنه كلما فعل ذلك ازداد الإيمان في قلبه .. هذا الترديد لا يوجد له حد أقصى، فطالما وُجد التجاوب استمر الترديد، فإذا توقف التجاوب، انتقلنا إلى ما بعدها من آيات.

مشروع النهضة

أما بالنسبة للحفظ فعليه أن يتبع طريقة الصحابة في ذلك، بأن يأخذ بضع آيات ويعيش معها ويقرأ تفسيرها، ويطبق ما تدل عليه من خلق وسلوك ولا ينتقل إلى غيرها إلا بعد أن يتأكد من أنه يعمل بها .. كل ذلك ليَحسُن انتفاعه بالقرآن، وتصبح آياته حجة له لا عليه. - مشروع النهضة: أخي المسلم .. أختي المسلمة: إن القرآن هو مشروع النهضة للأمة جمعاء، وهو الحبل الذي أنزله الله من السماء ليخلصنا مما نحن فيه .. فماذا نحن فاعلون؟ علينا أولًا: بالاعتصام بهذا الحبل والإقبال عليه، إقبال الظمآن على الماء بل أشد، وأن نُعطيه أفضل وأكثر أوقاتنا، فالحل - يقينًا للخروج من المأزق الذي نعيش فيه يبدأ بالتمسك بهذا الكتاب. فإذا ما تم لنا ذلك - وهو يسير لكل من أراده بصدق - فعلينا ثانيًا: أن ندعو الناس إلى القرآن، ونبث فيهم روحه، وننتشل من نستطيع انتشاله من جاذبية الأرض والطين لنربطه بحبل القرآن، وأن نستمر على ذلك حتى يأتي موعود الله. - من أين أبدأ؟!: فإن قلت: ولكني الآن بمفردي .. أرى ما يحدث لأمتي من ذل وهوان، ولا أملك إلا نفسي، وأريد أن أكون من جيل التغيير .. فماذا أفعل؟! الحل يكمن في العوة إلى القرآن والتمسك به، والعمل بما تدل عليه آياته، والاستفادة من الطاقة المتولدة عنه للقيام بأعمال البر المختلفة .. نعم، هذا لا يكفي، فجيل التغيير مترابط متماسك متآخٍ .. يكمل بعضه بعضًا، يقف أفراده على ثغور الإسلام، ويشد بعضهم بعض .. من هنا كان من الضروري البحث عنهم، والتواجد بينهم، فإن لم نستطع العثور عليهم فعلينا بالتمسك بالقرآن، والعودة الحقيقة إليه، لا العودة الشكلية، وعلينا أن ندعو من حولنا إليه ... الآباء والأمهات، الزوجات والأبناء، الأقارب والجيران والزملاء .. لنتحرك بهذه الدعوة - دعوة العودة إلى القرآن - في كل مكان، ولا نكتفي بذلك، بل لتكن لنا محاضننا التربوية مثل المحاضن الأولى التي كانت موجودة في دار الأرقم وفي بيوت الصحابة كذلك، ولنا في قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدليل على أهمية هذه المحاضن، فقد ذهب لأخته فوجد في بيتها خباب بن الأرت يعلمها وزوجها آيات القرآن ... إذن لابد من وجود محاضن تربوية في بيوتنا .. الزوج مع زوجته وأولاده، والأخ مع أخوانه، وعلى قدر صدقنا في ذلك وتجردنا له، سيأتي اليوم الذي نتقابل فيه مع من يسير معنا في طريق الله فنضع يدنا في يديه لنُشكل سويًا ... الجيل الموعود بالنصر والتمكين.

الخاتمة

الخاتمة وبعد قد يقول قائل: إن ما قيل في الصفحات السابقة من عودة مجد الإسلام من جديد، وعودة الخلافة، وأستاذية العالم، ضرب من ضروب الخيال وأحلام اليقظة التي يهدف بها إلى صرف الانتباه عن الواقع المرير الذي نحياه. لا والله، بل ستكون حقائق قد نشاهدها قريبًا، وبأسرع مما نتوقع لو أحسنّا الفرار إلى الله، والعودة إلى كتابه، وربطنا أنفسنا به. سنرى عز الإسلام بأعيننا لو تكاتفنا جميعًا في إيجاد الجيل الموعود .. أخي المسلم، أختي المسلمة: يقينًا سيعود مجد الإسلام من جديد، ولكن متى؟! هذا السؤال تتوقف إجابته علىّ وعليك، فبأيدينا إن أصبحنا من جيل التغيير أن نجيب عن هذا السؤال، فنصر الله قريب: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214). هذا النصر ينتظر من يستحقه .. ولا تسل عن الكيفية التي سيحدث من خلالها النصر والتمكين فهذا ليس من عملنا، بل من عمل الله عز وجل. إن الذي أخرج يوسف من السجن .. ورفعه على العرش من خلال رؤية رآها الملك وفسرها له يوسف - عليه السلام - لقادر على أن ينصرنا وبما لا يمكن تخيله، والذي نصر محمدًا صلى الله عليه وسلم وأعاده إلى مكة فاتحًا منتصرًا بعد أن خرج منها مطرودًا، ليستطيع أن ينصرنا ويعيد لنا مجدنا وعزنا: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (البقرة:106،107). نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وأزواجنا وأبناءنا من جيل التغيير الذين يحبهم ويحبونه، وأن يستعملنا ولا يستبدلنا، ونسأله كذلك أن يبلغنا آمالنا، ويغفر ذنوبنا، ويحسن خاتمتنا. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.

§1/1