الجوهر النفيس في سياسة الرئيس

ابن الحداد الموصلي

بسم الله الرحمن الرحيم

(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم) الْحَمد لله مانح الْمُلُوك رياسة الْبِلَاد، وموليهم سياسة الْعباد ومؤيدهم بالنصر على الأضداد، من أهل الشقاق والعناد، وواعدهم على المعدلة حسن الْعَاقِبَة فِي الْمعَاد: {إِن الله لَا يخلف الميعاد} [آل عمرَان: 9] ، أَحْمَده على مَا أنعم وَأفَاد وأشكره شكرا لَيْسَ لَهُ نفاد، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، شَهَادَة أخْلص لَهُ فِيهَا اللِّسَان والفؤاد، وَأشْهد أَن محمداُ عَبده وَرَسُوله النَّاسِخ الضَّلَالَة بالرشاد، صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الأمجاد وَأَصْحَابه الزهاد، صَلَاة لَا ينْحَصر لَهَا تعداد. أما بعد: فَإِن من وصف الرياسة الْعدْل فِي السياسة، لتعمر الْبِلَاد ويأمن الْعباد، ويصخ الْفساد، وتجري الْأُمُور على وفْق السداد، وتنتعش الرّعية، وتقوى على أَدَاء الْفَرَائِض الشَّرْعِيَّة، وَتلك رَحْمَة من الله أودعها قُلُوب الْوُلَاة والملوك، لينصفوا بَين الْمَالِك والمملوك والغني والصعلوك. والسياسة سياستان: سياسة الدّين، وسياسة الدُّنْيَا. فسياسة الدّين، مَا أدّى إِلَى قَضَاء الْغَرَض.

وسياسة الدُّنْيَا، مَا أدّى إِلَى عمَارَة الأَرْض، وَكِلَاهُمَا يرجعان إِلَى الْعدْل الَّذِي بِهِ سَلامَة السُّلْطَان وَعمارَة الْبلدَانِ، لِأَن من ترك الْفَرْض ظلم نَفسه، وَمن خرب الأَرْض ظلم غَيره. قَالَ أفلاطون الْحَكِيم: بِالْعَدْلِ ثبات الْأَشْيَاء وبالجور زَوَالهَا. وَلما كَانَ الْعدْل هُوَ ميزَان الله فِي أرضه، وَبِه يتَوَصَّل إِلَى أَدَاء فَرْضه، بادرت إِلَى جمع لمْعَة فِيمَا ورد من محَاسِن الْعدْل والسياسة لِذَوي النفاسة، وأرباب الرياسة وجعلتها كتابا ووسمته " بالجوهر النفيس فِي سياسة الرئيس "، وَكَانَ الَّذِي حداني على ذَلِك: مَا انْتَشَر فِي الْبِلَاد واشتهر بَين الْعباد، من حسن سيرة الْمولى الْأَمِير الْكَبِير الأسعد الأمجد، الْعَالم، الْعَادِل، الْكَامِل، الزَّاهِد، العابد، الْمُجَاهِد، أخص الْخَواص الْعَامِل بالإخلاص، كَهْف الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين، ملك الْأُمَرَاء والمقدمين، خَالِصَة أَمِير الْمُؤمنِينَ، سعد الدُّنْيَا وَالدّين ولي الدولة البدرية وصفي المملكة الرحيمية، خلد الله سلطانها وَأَعْلَى فِي الدَّاريْنِ مَكَانهَا وإمكانها، أحسن الله عاقبته وأبد ولَايَته فِي الْبِلَاد، وَجَمِيل سيرته ومعدلته بَين الْعباد، وَالْعَمَل بِالْعَدْلِ والإفضال وَالْفضل، وَحب الصَّدقَات وَفعل الْخيرَات والتنفيس عَن المكروبين، وَالْإِحْسَان إِلَى جَمِيع الْمُسلمين المقيمين بمقره والنازحين، وإغاثة الملهوف وتحبيس الْوُقُوف، وَإِعْطَاء الجزيل وإسداء الْجَمِيل، وتتبع فعل

الْخيرَات بِمَا لَا يُحْصى من جَمِيع الْجِهَات على دوَام الْأَوْقَات راجياً مَا عِنْد الله يَوْم الْفَصْل والميقات ثَوابًا موفوراً: {يَوْم تَجِد كل نفس مَا عملت من خير محضرا} [آل عمرَان: 30] . بلغه الله الآمال فِي الدُّنْيَا والمآل، وأدام دولته، وَحفظ مهجته، وأعز أنصاره، وضاعف اقتداره وَأحسن إِلَيْهِ بإحسانه إِلَيْنَا، وأنعم عَلَيْهِ بإنعامه علينا بِمُحَمد وَآله الطاهرين، وَأَصْحَابه المنتجبين. وَلما تمّ هَذَا الْكتاب كالدر والعقيان فِي نحور الحسان، حَملته خدمَة مني لمحروس خزانته العامرة وَنعمته الغامرة، لِيَزْدَادَ من حسن سيرته، وَجَمِيل معدلته، وَتلك نعْمَة أنعمها الله عَلَيْهِ، ليؤدي شكرها إِلَيْهِ. ثَبت الله قَوَاعِد سُلْطَانه وأيده بتأييد أعوانه، وتولاه فِيمَا ولاه بِمُحَمد وَمن اصطفاه. وبنيت أصُول هَذَا الْكتاب على عشرَة أَبْوَاب: الْبَاب الأول فِي فضل الْعدْل من ذَوي الْفضل

الْبَاب الثَّانِي فِي فضل السياسة من أَرْبَاب الرياسة الْبَاب الثَّالِث فِي فضل الْحلم والأناة من الْمُلُوك والولاة الْبَاب الرَّابِع فِي فضل الْعَفو المشوب بالصفو الْبَاب الْخَامِس فِي اصطناع الْمَعْرُوف إِلَى الْمَجْهُول وَالْمَعْرُوف الْبَاب السَّادِس فِي مَكَارِم الْأَخْلَاق من متوفري الخلاق الْبَاب السَّابِع فِي السؤدد والمروة من ذَوي الْفضل والفتوة الْبَاب الثَّامِن فِي حسن الْخلق من الْخلق الْبَاب التَّاسِع فِي فضل المشورة من ذَوي الآراء الْبَاب الْعَاشِر فِي فضل السخاء والجود الْمفضل فِي الْوُجُود وَالله تَعَالَى الْمَسْئُول فِي بُلُوغ المأمول، إِنَّه ولي الْإِجَابَة وَمَوْضِع الطّلبَة مِنْهُ، وَطوله وقوته وَحَوله.

الباب الأول

(الْبَاب الأول) (فِي فضل الْعدْل من ذَوي الْفضل) رُوِيَ فِي " الْخَبَر الْجَلِيّ " عَن الْجَانِب الْمُقَدّس النَّبَوِيّ أَنه قَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " الْعدْل ميزَان الله فِي الأَرْض فَمن أَخذ بِهِ قَادَهُ إِلَى الْجنَّة، وَمن تَركه قَادَهُ إِلَى النَّار ". وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " يَوْم من أَيَّام إِمَام عَادل أفضل من عبَادَة سِتِّينَ سنة ". قلت: وناهيك مِنْهَا حَالَة على كل الْأَحْوَال فاخرة، تزين دنيا وَتثبت آخِرَة، أوفت عبَادَة العابدين مقَاما، إِذا نَالَتْ محاولها أَفْخَر مَآلًا وأشرف مقَاما، وَذَلِكَ أَن الْعدْل صفة من صِفَات الْخَالِق، وَرَحْمَة مَوْجُودَة فِي الْخَلَائق، يقمع سَيْفه كل باغٍ وَعَاد، ويكنف ظله كل ملهوف وصادٍ، وَهُوَ غرس جناه أعذب خير، لِأَن خير الْأَعْمَال مَا تعدى نَفعه إِلَى الْغَيْر وَأَقُول: // (الْكَامِل) //:

(وَالله مَا حلي الإِمَام بحليةٍ ... أبهى من الْإِحْسَان والإنصاف) (فلسوف يلقى فِي الْقِيَامَة فعله ... مَا كَانَ من كدرٍ أَتَاهُ وصافي) وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " زين الله السَّمَاء بالشمس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب، وزين الأَرْض بالعلماء والمطر وَالسُّلْطَان الْعَادِل ". وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِن أفضل مَا يمن الله على عباده الْملك الْخَيْر الْفَاضِل ". وَعَن عبد الله بن عمر _ رَضِي الله عَنْهُمَا _ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " المقسطين عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة على مَنَابِر من نور على يَمِين الرَّحْمَن وكلتا يَدَيْهِ يَمِين، الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهاليهم وَمَا ولوا ". وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: " بالراعي تصلح الرّعية، وبالعدل تملك الْبَريَّة وَمن عدل فِي سُلْطَانه اسْتغنى عَن أعوانه، وَالظُّلم مسْلبَةٌ النعم، ومجلبة

النقم، وَأقرب الْأَشْيَاء سرعَة الظلوم وأنفذ السِّهَام دَعْوَة الْمَظْلُوم، وَمن سل سيف الْعدوان سلب من السُّلْطَان ". وَقَالَ أرسطاطاليس: " الْحَكِيم الْعَالم بستانٌ، سياجه الدولة، الدولة ولَايَة تحرسها الشَّرِيعَة، الشَّرِيعَة سنة يستنها الْملك الْملك راعٍ يعضده الْجَيْش، الْجَيْش أعوان يكفيهم الرزق، الرزق مَال تجمعه الرّعية، الرّعية عبيد يستعبدهم الْعدْل، الْعدْل مألوف وَهُوَ قوام الْعَالم "، وَكَانَ مَكْتُوبًا على خَاتم كسْرَى أنو شرْوَان: " عدل السُّلْطَان أَنْفَع من خصب الزَّمَان ". قَالَ الفضيل بن عِيَاض رَحمَه الله: " إِن الله تَعَالَى لَا يهْلك الرّعية، وَإِن

كَانَت ظالمة إِذا كَانَت الْأَئِمَّة هادية مهديةٌ: وَيهْلك الرّعية وَإِن كَانَت هادية مهدية إِذا كَانَت الْأَئِمَّة ظالمة، لِأَن أَعمال الْأَئِمَّة تعلو أَعمال الرّعية ". وروى جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق _ عَلَيْهِمَا السَّلَام _ يرفعهُ إِلَى النَّبِي _[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]_ أَنه قَالَ: " مَا من ملك يصل رَحمَه، وَذَا قرَابَته، ويعدل فِي رَعيته، إِلَّا شدّ الله ملكه، وأجزل ثَوَابه، وَأكْرم مآبه وخفف حسابه ".

الباب الثاني

(الْبَاب الثَّانِي) (فِي فضل السياسة من أَرْبَاب الرياسة) رُوِيَ عَن النَّبِي _[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]_ أَنه قَالَ: " أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة رجلٌ أشركه الله فِي سُلْطَانه فجار فِي حكمه ". وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من استرعاه الله رعية فَلم يحطهَا بنصيحة لم يرح رَائِحَة الْجنَّة، وَإِن رِيحهَا لتوجد من مسيرَة خَمْسمِائَة عَام ". وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " كلكُمْ راعٍ وكلكم مسئول عَن رَعيته "، قَالَ رجل للرشيد _ رَحمَه الله _ فِي بعض غَزَوَاته، وَقد ألح

عَلَيْهِم الثَّلج: " أما ترى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا نَحن فِيهِ والرعية وَادعَة؟ فَقَالَ: اسْكُتْ على الرّعية الْمَنَام وعلينا الْقيام، وَلَا بُد لِلرَّاعِي من حراسة رَعيته ". فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء فِي ذَلِك: // (الْكَامِل) //: (غضِبت لغضبتك القواطع والقنا ... لما نهضت لنصرة الْإِسْلَام) (نَامُوا إِلَى كنفٍ بعد لَك وَاسع ... وسهرت تحرس غَفلَة النوام) وَقَالَ بَعضهم: " طلب الرياسة صَبر على مضض السياسة " وَقَالَ زِيَاد: " جمال الْولَايَة شدَّة فِي غير إفراط ولين فِي غير إهمال ". وَقَالَ زِيَاد لحاجبه عجلَان: " قد وليتك بَابي وعزلتك عَن أَربع: طَارق ليل شَرّ مَا جَاءَ بِهِ أم خير، وَرَسُول صَاحب الثغر فَإِنَّهُ إِن تَأَخّر سَاعَة بَطل عمل

سنة، وَهَذَا الْمُنَادِي بِالصَّلَاةِ وَصَاحب الطَّعَام إِذا أدْرك، فَإِن الطَّعَام إِذا أُعِيد عَلَيْهِ التسخين فسد ". قَالَ أَبُو الْحسن: " لما ولي زِيَاد الْكُوفَة صعد الْمِنْبَر بعد صَلَاة الظّهْر، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: أَيهَا النَّاس إِنِّي قد رَأَيْت إعظام ذَوي الشّرف، وإجلال أهل الْعلم، وتوقير ذَوي الْأَسْنَان، وَإِنِّي أعَاهد الله لَا يأتيني شرِيف بوضيع لم يعرف لَهُ شرفه على ضعته إِلَّا عاقبته، وَلَا يأتني كهلٌ بحدثٍ لم يعرف لَهُ فضل سنة إِلَّا عاقبته، وَلَا يأتيني عَالم بجاهل لاحاه فِي علمه ليهجنه عَلَيْهِ إِلَّا عاقبته، فَإِنَّمَا النَّاس بأشرافهم وعلمائهم وَذَوي أسنانهم، ثمَّ تمثل بقول الأفوه الأودي: // (الْبَسِيط) //: (تهدى الْأُمُور بِأَهْل الرَّأْي مَا صلحت ... وَإِن تولت فبالأشرار تنقاد)

(لَا يصلح النَّاس فوضى لَا سراة لَهُم ... وَلَا سراة إِذا جهالهم سادوا) قَالَ أَعْرَابِي: " إِذا كَانَ الرَّأْي عِنْد من لَا يقبله، وَالسِّلَاح عِنْد من لَا يَسْتَعْمِلهُ، وَالْمَال عِنْد من لَا يُنْفِقهُ ضَاعَت الْأُمُور "، وَبلغ بعض الْمُلُوك حسن سياسة ملكٍ، فَكتب إِلَيْهِ: " أفدني بِمَا بلغت هَذَا فَكتب إِلَيْهِ: لم أهزل فِي أمرٍ وَلَا نهيٍ وَلَا وعدٍ وَلَا وعيدٍ، واستكفيت على الْكِفَايَة، وَأثبت على العناء، لَا على الْهوى، وأودعت الْقُلُوب هَيْبَة لم يشبها مقت، ووداً لم يشبه كدرٌ، وعممت بالقوت، ومنعت الفضول ".

وَلما أَرَادَ الاسكندر الْخُرُوج إِلَى أقاصي الأَرْض قَالَ لأرسطاطاليس: " أخرج معي قَالَ: قد كل بدني، وضعفت عَن الْحَرَكَة، فَلَا تزعجني، قَالَ: فأوصني فِي عمالي خَاصَّة قَالَ: انْظُر من كَانَ لَهُ مِنْهُم عبيدٌ فَأحْسن سياستهم فوله الْجند، وَمن كَانَت لَهُ ضَيْعَة، فَأحْسن تدبيرها فوله الْخراج ". وَقَالَ زِيَادٌ: " مَا غلبني مُعَاوِيَة فِي شَيْء من أَمر السياسة إِلَّا فِي شَيْء وَاحِد، وَذَاكَ أَنِّي اسْتعْملت رجلا على " دستميسان " فَكسر الْخراج وَلحق بِمُعَاوِيَة، فَكتبت إِلَيْهِ أسأله أَن يبْعَث بِهِ إِلَيّ فَكتب: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، أما بعد: فَإِنَّهُ لَيْسَ يَنْبَغِي لمثلي وَمثلك أَن نسوس النَّاس جَمِيعًا بسياسة وَاحِدَة،

وَأَن نشتد جَمِيعًا فنخرهم، أَو نلين جَمِيعًا فنمرجهم وَلَكِن تكون أَنْت إِلَى الفظاظة والغلظة وأكون أَنا أَلِي الرأفة وَالرَّحْمَة، فَإِذا هرب هارب من بَاب وَاحِد وجد بَابا يدْخل فِيهِ، وَالسَّلَام. سَأَلَ ملك من مُلُوك الْفرس موبذان: " مَا شَيْء وَاحِد يعز بِهِ السُّلْطَان؟ قَالَ: الطَّاعَة، قَالَ: فَمَا سَبَب الطَّاعَة؟ قَالَ: تقريب الْخَاصَّة، وَالْعدْل على الْعَامَّة، قَالَ: فَمَا صَلَاح الْملك؟ قَالَ: الرِّفْق بالرعية، وَأخذ الْحق مِنْهُم، وأداؤه إِلَيْهِم عِنْد أَوَانه، وسد الْفروج، وَأمن السبل، وإنصاف الْمَظْلُوم من الظَّالِم، وَأَن يحرص الْقوي على الضَّعِيف، قَالَ فَمَا صَلَاح الْملك؟ قَالَ: وزراؤه وأعوانه فَإِنَّهُم إِن صلحوا صلح، وَإِن فسدوا فسد.

قَالَ: فأية خصْلَة تكون فِي الْملك أَنْفَع؟ قَالَ: صدق النِّيَّة " وَقَالَ الإِمَام عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام: " يَنْبَغِي للْملك أَن يعْمل بخصال ثَلَاث: تَأْخِير الْعقُوبَة فِي سُلْطَان الْغَضَب، وتعجيل الْمُكَافَأَة للمحسن، وَالْعَمَل بالأناة فِيمَا يحدث فَإِن لَهُ فِي تَأْخِير الْعقُوبَة إِمْكَان الْعَفو، وَفِي تَعْجِيل الْمُكَافَأَة بِالْإِحْسَانِ المسارعة فِي الطَّاعَة من الرّعية، وَفِي الأناة انفساح الرَّأْي، واتضاح الصَّوَاب ". وَقَالَ أنو شرْوَان: النَّاس ثَلَاث طَبَقَات، تسوسهم ثَلَاث سياسات: طبقَة من خَاصَّة الْأَبْرَار، نسوسهم بالْعَطْف واللين وَالْإِحْسَان. وطبقة من خَاصَّة الأشرار نسوسهم بالغلظة، والشدة. وطبقة بَين هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء، نسوسهم بالغلظة مرّة وباللين مرّة، لِئَلَّا تخرجهم الغلظة وَلَا يبطرهم اللين. رفع إِلَى المعتضد _ رَحمَه الله _ أَن قوما يَجْتَمعُونَ ويرجفون ويخوضون فِي الفضول، وَقد تفاقم فسادهم، فَرمى بالرقعة إِلَى وزيره عبيد الله بن سُلَيْمَان، فَقَالَ: " الرَّأْي قتل بَعضهم وإحراق بَعضهم، فَقَالَ المعتضد: وَالله لقد بردت لهيب غَضَبي بقسوتك هَذِه، ونقلتني إِلَى اللين من حَيْثُ أَشرت بِالْقَتْلِ والحرق، وَمَا علمت أَنَّك تستجيز هَذَا فِي دينك، أما علمت أَن الرّعية وَدِيعَة الله

عِنْد سلطانها وَأَن الله تَعَالَى سائله عَنْهَا، أما تَدْرِي أَن أحدا من الرّعية لَا يَقُول إِلَّا لظلم لحقه أَو داهية نالته، أَو نَالَتْ صاحباً لَهُ، ثمَّ قَالَ: سل عَن الْقَوْم فَمن كَانَ سيئ الْحَال فَصله، وَمن كَانَ يُخرجهُ إِلَى هَذَا البطر خَوفه " فَفعل فصلحت الْحَال، قَالَ بعض الْحُكَمَاء: " من تغدى بسيئ السِّيرَة تعشى بِزَوَال الْقُدْرَة ". وَقَالَ آخر: " من ساءت سيرته لم يَأْمَن أبدا، وَمن حسنت سيرته لم يخف أحدا ". وَقَالَ آخر: " من أحسن فبنفسه بدا، وَمن أَسَاءَ فعلى نَفسه جنى، وَمن طَال تعديه كثر أعاديه ". وَقَالَ آخر: " أفضل الْمُلُوك من أحسن فِي فعله وَنِيَّته، وَعدل فِي جنده ورعيته ". قيل للإسكندر: " لَو استكثرت من النِّسَاء ليكْثر ولدك، فيدوم بهم ذكرك، فَقَالَ: دوَام الذّكر تَحْسِين السِّيرَة وَالسّنَن، وَلَا يحسن بِمن غلب الرِّجَال أَن يغلبه النِّسَاء ". وَقَالَ بعض الْعلمَاء: " مَا أعلم شَيْئا بعد الْإِخْلَاص بِاللَّه أفضل من نصيحه الْوَالِي لرعيته ".

الباب الثالث

(الْبَاب الثَّالِث) (فِي فضل الْحلم والأناة من الْمُلُوك والولاة) قَالَ الْهِلَالِي: بَلغنِي أَن جِبْرِيل _ عَلَيْهِ السَّلَام _ نزل على النَّبِي _[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]_ فَقَالَ: " يَا مُحَمَّد إِنِّي أَتَيْتُك بمكارم الْأَخْلَاق كلهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} [الْأَعْرَاف: 199] ، وَهُوَ يَا مُحَمَّد أَن تصل من قَطعك وَتَعْفُو عَمَّن ظلمك وَتُعْطِي من حَرمك ". قَالَ الشّعبِيّ: " قلت لِابْنِ هُبَيْرَة: عَلَيْك بالتؤدة، فَإنَّك على فعل مَا لم تفعل أقدر مِنْك على رد مَا قد فعلت ". قَالَ يزِيد بن مُعَاوِيَة لِأَبِيهِ: " يَا أبه هَل ذممت عَاقِبَة حلمٍ قطّ؟ أم

حمدت عَاقِبَة إقدام قطّ؟ قَالَ: مَا حلمت عَن لئيم، وَإِن كَانَ وليا إِلَّا أعقبني ندماً وَلَا أقدمت على كريم وَإِن كَانَ عدوا إِلَّا أعقبني أسفا ". قَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش: " اجْتمع أَرْبَعَة مُلُوك: ملك " الْهِنْد "، وَملك " الصين "، و " كسْرَى "، و " قَيْصر "، فَقَالَ أحدهم: أَنا أندم على مَا قلت، وَلَا أندم على مَا لم أقل، وَقَالَ الآخر: إِذا تَكَلَّمت بِالْكَلِمَةِ ملكتني وَلم أملكهَا، وَإِذا لم أَتكَلّم بهَا ملكتها وَلم تملكني، وَقَالَ الثَّالِث: عجبت للمتكلم إِن رجعت الْكَلِمَة عَلَيْهِ ضرته، وَإِن لم ترجع ضرته، وَقَالَ الرَّابِع: أَنا على رد مَا لم أقل أقدر مني على رد مَا قلت ". سَأَلَ عَليّ _ عَلَيْهِ السَّلَام _ كَبِيرا من كبراء " فَارس ": " أَي ملوككم كَانَ أَحْمد سيرة؟ قَالَ: أنو شرْوَان قَالَ: فَأَي أخلاقه كَانَ أغلب عَلَيْهِ؟ قَالَ: الْحلم والأناة، فَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: هما توءمان ينتجهما علو الهمة ". أُتِي الْحجَّاج بِرَجُل من الْخَوَارِج فَأمر بِضَرْب عُنُقه، فاستنظره يَوْمًا قَالَ: وَمَا تُرِيدُ بذلك؟ قَالَ: أؤصل عَفْو الْأَمِير مَعَ مَا تجْرِي بِهِ الْمَقَادِير، فَاسْتحْسن قَوْله وخلاه.

أُتِي بعض الْمُلُوك بِرَجُل قد أجرم فَأمر بِضَرْب عُنُقه، فَقَالَ لَهُ الرجل: يَا مولَايَ تأن عَليّ فَإِن التأني نصف الْعقُوبَة، فَعَفَا عَنهُ، أَخذ مُصعب بن الزبير رجلا من أَصْحَاب الْمُخْتَار بن أبي عبيد فَأمر بِضَرْب عُنُقه، فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير مَا أقبح بك أَن أقوم يَوْم الْقِيَامَة إِلَى صُورَتك هَذِه الْحَسَنَة ووجهك هَذَا الَّذِي يستضاء بِهِ، فأتعلق بأطرافك وَأَقُول: يَا رب سل مصعباً فيمَ قتلني؟ فَقَالَ: مُصعب: أَطْلقُوهُ قَالَ: اجْعَل مَا وهبت من حَياتِي فِي خفض قَالَ: أَعْطوهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم، قَالَ: بِأبي أَنْت وَأمي، أشهد الله أَن لِابْنِ قيس الرقيات خَمْسَة آلَاف، قَالَ: وَلم؟ قَالَ: لقَوْله: // (الْخَفِيف) // (إِنَّمَا مُصعب شهَاب من الله ... تجلت عَن وَجهه الظلماء) (يَتَّقِي الله فِي الْأُمُور وَقد أَفْلح ... من كَانَ همه الاتقاء)

فَضَحِك مُصعب وَقَالَ: فِيك مَوضِع للصنيعة، وَأمره بملازمته وَأحسن إِلَيْهِ وَلم يزل مَعَه حَتَّى قتل مُصعب. قَالَ الْمَدَائِنِي: " ثَلَاثَة لَا ينتصفون من ثَلَاثَة: حَلِيم من أَحمَق، وبر من فَاجر وشريف من دني ". وَكَانَ يُقَال: " لَيْسَ الْحَلِيم من ظلم فحلم حَتَّى إِذا قدر انتقم، وَلَكِن الْحَلِيم من ظلم فحلم حَتَّى إِذا قدر عَفا ". قَالَ خَالِد بن صَفْوَان التَّمِيمِي: " شهِدت عَمْرو بن عبيد، وَرجل يشتمه فَمَا ترك شَيْئا إِلَّا وأوسعه إِيَّاه، فَلَمَّا فرغ قَالَ لَهُ عَمْرو: آجرك الله على مَا ذكرت من صَوَاب، وَغفر لَك مَا ذكرت من أخطاء، فَمَا حسدت أحدا حسدي على هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ ".

وَكَانَ يُقَال: " إِن أفضل رِدَاء ارتدي بِهِ الْحلم، فَإِن لم يكن حَلِيمًا فيتحلم، فَإِنَّهُ قل لمن تشبه بِقوم إِلَّا أوشك أَن يكون مِنْهُم ". وَكَانَ يُقَال: " احضر النَّاس جَوَابا من لم يغْضب ". دخل جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث على الرشيد، وَقد استخفه الْغَضَب على رجل، فَقَالَ لَهُ: " يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك إِنَّمَا تغْضب لله، فَلَا تغْضب لَهُ أَكثر مِمَّا غضب لنَفسِهِ عز وَجل ". كَانَ أَسمَاء بن خَارِجَة الْفَزارِيّ يَقُول: " النَّاس إِمَّا لئيم، فوَاللَّه لَا أجعَل عرضي لعرضه خطراً وَلَا أجعله لي ندا، وَإِمَّا كريم كَانَت مِنْهُ هفوة، فوَاللَّه لَا أؤدبه، لِأَنِّي أَحَق من غفرها، وَقَالَ: // (الطَّوِيل) // (وأغفر عوراء الْكَرِيم ادخاره ... وَأعْرض عَن شتم اللَّئِيم تكرما) قَالَ بعض الْعلمَاء: مَكْتُوب فِي الْإِنْجِيل: " لَا يَنْبَغِي أَن يكون الْعَالم

الباب الرابع في فضل العفو المشوب بالصفو

سَفِيها، وَمن عِنْده يقتبس الْحلم، وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون الإِمَام جائراً، وَمن عِنْده يلْتَمس الْعدْل. (الْبَاب الرَّابِع فِي فضل الْعَفو المشوب بالصفو) قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " عَفْو الْمُلُوك بَقَاء للْملك "، وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِن الْعَفو لَا يزِيد العَبْد إِلَّا عزا فاعفوا يعزكم الله، وَإِن التَّوَاضُع لَا يزِيد العَبْد إِلَّا رفْعَة، فتواضعوا يرفعكم الله، وَإِن الصَّدَقَة لَا تزيد المَال إِلَّا نَمَاء فتصدقوا يزدكم الله ". لما أُتِي عبد الْملك بن مَرْوَان بأسرى بني الْأَشْعَث قَالَ لرجاء بن حَيْوَة: مَا ترى؟ قَالَ: " إِن الله أَعْطَاك مَا تحب من الظفر فأعطه مَا يحب من الْعَفو

فَعَفَا عَنْهُم ". وَلما ظفر الْمَأْمُون بِعَمِّهِ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي قَالَ لِأَحْمَد بن أبي خَالِد الْكَاتِب: يَا أَحْمد مَا تَقول فِي هَذَا الرجل؟ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن تقتله فقد وجدت مثلك قتل مثله، وَإِن تعف لم تَجِد مثلك عَفا عَن مثله، فَقَالَ الْمَأْمُون: لَا رَأْي لنا فِي الشّركَة، وَأمر بِإِطْلَاقِهِ وَعَفا عَنهُ. كَانَ مُعَاوِيَة يَقُول: إِن أولى النَّاس بِالْعَفو أقدرهم على الْعقُوبَة، وَإِن أنقص النَّاس عقلا من ظلم من هُوَ دونه ". قَالَ عِكْرِمَة: إِن الله تَعَالَى قَالَ ليوسف عَلَيْهِ السَّلَام: " بِعَفْو عَن إخْوَتك، رفعت ذكرك فِي الذَّاكِرِينَ ". وَقَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد: " لِأَن أندم على الْعَفو أحب إِلَيّ من أَن أندم على الْعقُوبَة ". كتب الْحجَّاج إِلَى عبد الْملك: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّك أعز مَا تكون أحْوج مَا

تكون إِلَى الله عز وَجل، وَإِذا عززت بِاللَّه فاعفو لله، فَإنَّك بِهِ تعز وَإِلَيْهِ ترجع غضب سُلَيْمَان بن عبد الْملك على خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الْقُدْرَة تذْهب الحفيظة، وَإنَّك تجل عَن الْعقُوبَة، فَإِن تعف فَأهل ذَلِك أَنْت، وَإِن تعاقب فبمَا كَانَ منا. كَانَ الْمَأْمُون يَقُول: لَيْسَ على الْحلم مؤونة ولوددت أَن أهل الجرائم علمُوا رَأْيِي فِي الْعَفو فَيذْهب عَنْهُم الْخَوْف، فيخلص إِلَى قُلُوبهم وَأنْشد الْحسن بن رَجَاء فِي الْمَأْمُون يَقُول: // (الطَّوِيل) //

(صفوح عَن الإجرام حَتَّى كَأَنَّهُ ... من الْعَفو لم يعرف من النَّاس مجرما) (وَلَيْسَ يُبَالِي أَن يكون بِهِ الْأَذَى ... إِذا مَا الْأَذَى لم يغش بالكره مُسلما) قَالَ: الْمَدَائِنِي: لما ظفر الْحجَّاج بأصحاب ابْن الْأَشْعَث فغدا يضْرب أَعْنَاقهم عَامَّة النَّهَار، فَأتي بِرَجُل فِي آخِرهم من بني تَمِيم فَقَالَ: يَا حجاج لَئِن كُنَّا أسأنا فِي الذَّنب مَا أَحْسَنت أَنْت فِي الْعقُوبَة. فَقَالَ الْحجَّاج: أُفٍّ لهَذِهِ الْجِيَف، مَا كَانَ فيهم رجل يحسن مثل هَذَا وَعَفا عَنهُ. قَالَ الشَّاعِر: // (الطَّوِيل) // (إِذا مَا امْرُؤ من ذَنبه جَاءَ تَائِبًا ... إِلَيْك فَلم تغْفر لَهُ فلك الذَّنب) قيل للأحنف بن قيس: مِمَّن تعلمت الْعَفو وَحسن الْخلق، قَالَ: من قيس بن عَاصِم الْمنْقري، فَقيل لَهُ: وَكَيف ذَلِك؟ وَمَا بلغ من حلمه؟ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ جَالس فِي دَاره، إِذْ جَاءَت خَادِم لَهُ بسفود عَلَيْهِ شواء فَسقط من يَديهَا فَوَقع على ابْن لَهُ فَمَاتَ، فدهشت الْجَارِيَة، فَقَالَ: لَا روع عَلَيْك أَنْت

حرَّة لوجه الله تَعَالَى. أُتِي الْمَنْصُور بِرَجُل ليعاقبه فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الانتقام عدل، والتجاوز فضل، وَنحن نعيذ أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يرضى لنَفسِهِ بأوكس النَّصِيبَيْنِ، دون أَن يبلغ أرفع الدرجتين، فَعَفَا عَنهُ. كَانَت جَارِيَة لعَلي بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب - عَلَيْهِم السَّلَام - تسكب المَاء على يَده، فنعست فَسقط الإبريق من يَدهَا فَشَجَّهُ فَرفع رَأسه، فَقَالَت: إِن الله يَقُول: {والكاظمين الغيظ} [آل عمرَان: 134] ، قَالَ: كظمت غيظي، قَالَت: {وَالْعَافِينَ عَن النَّاس} [آل عمرَان: 134] ، قَالَ:

عَفا الله عَنْك، قَالَت: {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} [آل عمرَان: 134] ، قَالَ: فاذهبي فَأَنت حرَّة لوجه الله تَعَالَى. قَالَ بعض الشُّعَرَاء فِي هَذَا الْمَعْنى: // (الْبَسِيط) // (تَمُوت أضغانه أَيَّام قدرته ... ومكنة الْحر تنسي فَاحش الخطل) (إِذا الجرائم هاجته تغمدها ... بالصفح مِنْهُ حَلِيمًا غير ذِي فشل) جنى عبد أسود على عمر بن عبد الْعَزِيز - رَحمَه الله - فِي عنفوان حداثته جِنَايَة، فشده ليضربه، فَقَالَ لَهُ: يَا مولَايَ لم تضربني؟ قَالَ: لِأَنَّك جنيت كَذَا، وَكَذَا، فَقَالَ العَبْد: هَل جنيت أَنْت جِنَايَة قطّ، فَغَضب عَلَيْك مَوْلَاك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَهَل عجل عَلَيْك؟ فَقَالَ لَهُ: قُم فَأَنت حر لوجه الله تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِك سَبَب تَوْبَته لأبي مُحَمَّد الْقَاسِم الحريري يَقُول: // (الْبَسِيط) // (أَحْمد بِحِلْمِك مَا أذكاه ذُو سفه ... من غيظك، وَاصْفَحْ إِن جنى جاني) (فالحلم أفضل مَا ازدان اللبيب بِهِ ... وَالْأَخْذ بِالْعَفو أحلى مَا جنى جاني)

قَالَ: بعض الْمَشَايِخ: جرى بَين شهرام الْمروزِي وَبَين أبي مُسلم الْخُرَاسَانِي كَلَام شَدِيد فَمَا زَالَ أَبُو مُسلم يقاوله إِلَى أَن قَالَ: لَهُ شهرام بالغيظ: كذبت، فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِك صمت أَبُو مُسلم وَنَدم شهرام، وَأَقْبل عَلَيْهِ معتذراً، وخاضعاً متذللاً، فَلَمَّا رأى ذَلِك أَبُو مُسلم قَالَ: لِسَان سبق، وَوهم أَخطَأ، وَإِنَّمَا الْغَضَب شَيْطَان وَأَنا جرأتك بطول احتمالي إياك، وَإِن كنت مُتَعَمدا فقد شاركتك فِيهِ، وَإِن كنت مَغْلُوبًا فالعذر يسعك، وَقد عَفَوْنَا عَنْك على كل حَال، فَقَالَ شهرام: أَيهَا الْأَمِير إِن عفوك لَا يكون غدراً، قَالَ: أجل قَالَ: فَإِن عظم ذَنبي لَا يدع قلبِي يسكن، ولج فِي الِاعْتِذَار فَقَالَ أَبُو مُسلم: يَا عجبي كنت تسيء وَأَنا أحسن، فَإِذا أَحْسَنت أُسِيء. قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: أُتِي النُّعْمَان بن الْمُنْذر برجلَيْن: أَحدهمَا قد أذْنب ذَنبا عَظِيما فَعَفَا عَنهُ، وَالْآخر قد أذْنب ذَنبا صَغِيرا فعاقبه وَقَالَ // (مجزوء الْكَامِل) // (تَعْفُو الْمُلُوك عَن الْعَظِيم ... من الذُّنُوب لفضلها)

(وَلَقَد تعاقب فِي الْيَسِير ... وَلَيْسَ ذَلِك لجهلها) (إِلَّا ليعرف حلمها ... وَيخَاف شدَّة نكلها) وَلأبي الفراس بن حمدَان يَقُول // (الوافر) //: (وأروع جَيْشه جَيش بهيم ... وغرته عَمُود من صباح) (صفوح عِنْد قدرته حَلِيم ... قَلِيل الصفح مَا بَين الصفاح) (وَكَانَ ثباته للقلب قلباً ... وهيبته جنَاحا للجناح)

الباب الخامس في اصطناع المعروف إلى المجهول والمعروف

(الْبَاب الْخَامِس فِي اصطناع الْمَعْرُوف إِلَى الْمَجْهُول وَالْمَعْرُوف) رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " صَدَقَة السِّرّ تُطْفِئ غضب الرب، وصنائع الْمَعْرُوف تَقِيّ مصَارِع السوء، وصلَة الرَّحِم تزيد فِي الْعُمر ". وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " خصلتان لَيْسَ فَوْقهمَا شَيْء من الشَّرّ: الشّرك بِاللَّه والضر لعباد الله، وخصلتان لَيْسَ فَوْقهمَا شَيْء من الْخَيْر: الْإِيمَان بِاللَّه والنفع لعباد الله ". وَقَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام: " إِن لله - تَعَالَى - وُجُوهًا من خلقه خلقهمْ لقَضَاء حوائج عباده يرَوْنَ الْجُود مجداً، والإفضال مغنماً، وَالله يحب مَكَارِم الْأَخْلَاق ". وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من عظمت نعْمَة الله عِنْده عظمت مؤونة النَّاس عَلَيْهِ، فَمن لم يحْتَمل تِلْكَ المؤونة عرض تِلْكَ النِّعْمَة للزوال ".

سُئِلَ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر: أَي الْأَعْمَال أحب إِلَى الله؟ فَقَالَ: إِدْخَال السرُور على قُلُوب الْمُؤمنِينَ، قيل لَهُ: فَمَا بَقِي مِمَّا يستلذ؟ قَالَ: الإفضال على الإخوان. قَالَ الْأَصْمَعِي عَن خَليفَة الغنوي: أَنه قدم " الْبَصْرَة "، فَأَتَاهُ نَاس من أهل الْأَدَب يسمعُونَ كَلَامه فَقَالَ لَهُم: يَا بني أخي اتَّقوا الله بِطَاعَتِهِ، وَاتَّقوا السُّلْطَان بِحقِّهِ، وَاتَّقوا النَّاس بِالْمَعْرُوفِ إِلَيْهِم، فَقَالَ رجل مِنْهُم لما خَرجُوا: وَالله مَا سمعنَا كَبِيرا، فَقَالَ شيخ مِنْهُم: وَالله مَا بَقِي من مصلحَة الدّين وَالدُّنْيَا إِلَّا وَقد أَمر بِهِ. قَالَ الشَّاعِر: [مجزوء الْخَفِيف] (إصنع الْعرف مَا استطع ... ت يَد الْعرف عاليه ... وَيَد الْعرف كَيفَ كَا ... نت على الدَّهْر بَاقِيه ... صن سؤالاً رجاك أَن ... يتقاضاك ثَانِيه) .

وَقد قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " رَأس الْعقل بعد الْإِيمَان التودد إِلَى النَّاس، واصطناع الْمَعْرُوف إِلَى كل بار وَفَاجِر ". قَالَ الْمهْدي رَحمَه الله: " مَا توسل إِلَى أحد بوسيلة، وَلَا تذرع بذريعة هِيَ أقرب إِلَى مَا أحب من أَن يذكرنِي يدا سلفت مني إِلَيْهِ أتبعهَا أُخْتهَا وَأحسن ريها لِأَن منع الْأَوَاخِر يقطع شكر الْأَوَائِل ". قَالَ الشَّاعِر: // (المتقارب) //: (وَإِنَّا إِذا تركنَا السُّؤَال ... وَلم نبغه فِيهِ يبتدينا) (وَإِن نَحن لم نبغ معروفه ... فمعروفه أبدا يبتغينا) قَالَ مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى عَلَيْهِم السَّلَام: " خير من الْخَيْر فَاعله وأجمل من الْجَمِيل قَائِله، وأرجح من الْعلم حامله، وَشر من الشَّرّ جالبه، وأهول من الهول رَاكِبه ".

وَقَالَ عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ: مَا رَأَيْت رجلا لي عِنْده مَعْرُوف إِلَّا أَضَاء مَا بيني وَبَينه، وَلَا رَأَيْت رجلا لي إِلَيْهِ إساءة إِلَّا أظلم مَا بيني وَبَينه ". وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام: استكثروا من شَيْء لَا تَأْكُله النَّار. قيل: مَا هُوَ يَا نَبِي الله؟ قَالَ: الْمَعْرُوف. وَقَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد لِسُفْيَان الثَّوْريّ إحفظ عني ثَلَاثًا: إِذا صنعت مَعْرُوفا فعجله فَإِن تَعْجِيله تهيئته، وَإِن رَأَيْت أَنه كَبِيرا فصغره، فَإِن تصغيرك إِيَّاه أعظم لَهُ، وَإِذا فعلته فاستره، فَإِنَّهُ إِذا ظهر من غَيْرك كَانَ أَكثر لقدره وَأحسن فِي النَّاس. وَقيل لجَعْفَر بن مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام: لم حرم الله الرِّبَا؟ قَالَ: لِئَلَّا

يتبايع النَّاس بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور: " لَيْسَ بِإِنْسَان من أسدي إِلَيْهِ مَعْرُوف فنسيه دون الْمَوْت ". وَعَن أنس بن مَالك - رَضِي الله عَنهُ - عَن عَليّ - عَلَيْهِ السَّلَام - أَنه قَالَ: " لَا يزهدنك فِي الْمَعْرُوف قلَّة شكر من تسديه إِلَيْهِ، فقد شكرك عَلَيْهِ من لم يسْتَمْتع مِنْهُ بِشَيْء، وَقد يدْرك من شكر الشاكر أَكثر مِمَّا أضاع الْكَافِر ". كتب أرسطا طاليس إِلَى الاسكندر: " إملك الرّعية بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا تظفر بالمحبة مِنْهَا، فَإِن ملكك عَلَيْهَا بإحسانك هُوَ أدوم بَقَاء مِنْهُ باعتسافك وَأعلم أَنَّك إِنَّمَا تملك الْأَبدَان فتحطها إِلَى الْقُلُوب بِالْمَعْرُوفِ، وَاعْلَم أَن الرّعية إِذا قدرت أَن تَقول قدرت أَن تفعل فاجتهد أَلا تَقول تسلم من أَن تفعل ". قيل للأحنف بن قيس: " من أحسن النَّاس عَيْشًا؟ فَقَالَ من حسن عَيْش غَيره فِي عيشه، قيل: فَمن أَسْوَأ النَّاس عَيْشًا؟ قَالَ: من لَا يعِيش مَعَه أحد ". قَالَ عبد الْأَعْلَى النَّرْسِي: قدمت على المتَوَكل - رَحمَه الله - " سامراء " فَدخلت عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَالَ: يَا أَبَا يحيى قد كُنَّا هممنا لَك بِأَمْر فتدافعت الْأَيَّام بِهِ،

فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ سَمِعت مُسلم بن خَالِد الزنْجِي يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن جَعْفَر يَقُول: " من لم يشْكر النِّعْمَة ... . . " ثمَّ أنْشد: // (الْبَسِيط) //: (لأشكرنك مَعْرُوفا هَمَمْت بِهِ ... إِن اهتمامك بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوف) (وَلَا ألومك إِذا لم يمضه قدر ... فالشيء بِالْقدرِ المحتوم مَصْرُوف) فجذب الدواة وكتبها ثمَّ قَالَ: ينْحَر لأبي يحيى مَا كُنَّا هممنا بِهِ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا، ويضعف لخبره. قَالَ رجل ليزِيد بن الْمُهلب: إِن فلَانا لم يعرف مَا أتيت إِلَيْهِ. قَالَ: لَكِن الله يعرفهُ، ثمَّ أنْشد: // (الْبَسِيط) //: (من يفعل الْخَيْر لَا يعْدم جوازيه ... لَا يذهب الْعرف بَين الله وَالنَّاس) وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء: (وَلَا تَمُدَّن يدا فِي غير مَا كرم ... تسديه أَو بذل مَعْرُوف وإنصاف) (فَسَوف تلقى غَدا مَا أَنْت صانعه ... فِي النَّاس إِن كدراً تولي وَإِن صافي) وَقَالَ ابْن أبي النَّجْم الشَّاعِر: // (الْخَفِيف) //: (إصنع الْخَيْر مَا اسْتَطَعْت على الْفَوْر ... وَإِن كنت لَا تحيط بكله) (فَمَتَى تصنع الْكثير من الْخَيْر ... إِذا كنت تَارِكًا لأقله)

الباب السادس في مكارم الأخلاق من متوفري الخلاق

وَقَالَ مُحَمَّد بن طَاهِر الرقي: // (الْخَفِيف) //: (لَيْسَ فِي كل حالةٍ وَأَوَان ... تتهيأ صنائع الْإِحْسَان) 5 - (فَإِذا أمكنت فبادر إِلَيْهَا ... حذرا من تعذر الْإِمْكَان) (الْبَاب السَّادِس فِي مَكَارِم الْأَخْلَاق من متوفري الخلاق) قَالَت: عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : مَا جبل ولي الله إِلَّا على السخاء وَحسن الْخلق. وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا يفخرن أحد على أحد، فَإِنَّكُم عبيد والرب وَاحِد ". وَقَالَ مُعَاوِيَة لِابْنِهِ يزِيد: إِن كنت بعدِي، فَكُن قائداً بِالْخَيرِ فَإِنَّهُ يعفي على الشَّرّ، وَمَا صنعت من شَيْء فَلْيَكُن بَيْنك وَبَين الله سر ترجوه لَهُ، وتأمله بِهِ، وَإِيَّاك وَالْقَتْل، فَإِن الله قَاتل القاتلين.

قَالَ الْمُهلب بن أبي صفرَة لِبَنِيهِ: يَا بني إِذا أتيتم قوما فأتوهم وعقولكم مَعكُمْ قَالُوا: فَكيف ذَلِك؟ قَالَ: أصيبوا من الطَّعَام شَيْئا، فَإِن الرجل مِنْكُم إِذا لم يفعل ذَلِك، ثمَّ أَتَى أَخَاهُ فَرَآهُ يسْأَل غُلَامه ظن أَنه من أجل الطَّعَام، فيظل مُتَعَلق الْقلب حَتَّى يطعم. وَدخل على الْحجَّاج صَاحب شرطته وَهُوَ يتغدى فَقَالَ لَهُ: هَلُمَّ. قَالَ: قد فعلت، قَالَ: إِنَّك لتباكر الْغَدَاء قَالَ: لخلال فِيهِ - أصلح الله الْأَمِير وَقَالَ: وَمَا هن؟ قَالَ: " أولهنَّ: إِن أَنا نَاجَيْت أحدا لم يجد مني خلوفاً. الثَّانِيَة: إِن شربت مَاء شربته على ثمل. وَالثَّالِثَة: إِن حضرت قوما، وهم على غدائهم حَضرتهمْ وَمَعِي بَقِيَّة فَلَا

تشرئب نفس إِلَيْهِ، قَالَ: لله دَرك " وَقَالَ سُلَيْمَان لِابْنِهِ: " لَا تكْثر الْغيرَة على أهلك من غير رِيبَة، فترمى بِالشَّرِّ مِنْك وَهِي بريئة ". وَكَانَ يُقَال: " إِن أنكاك لعدوك أَلا تريه أَنَّك تتخذه عدوا ". وَكَانَ يُقَال: " لَا يَنْبَغِي للوالي أَن يحْسد إِلَّا الْوُلَاة على حسن التَّدْبِير ". وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: " الفرص تمر مر السَّحَاب، فَإِذا مرت بكم فانتهزوها ". وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد: " الرِّجَال أَرْبَعَة: عَالم فتعلم مِنْهُ، وجاهل فَعلمه تؤجر فِيهِ، وَرجل كَانَ عَالما فَتلف علمه، فذاكره يَنْفَعهُ وتنتفع بِهِ، وجاهل يُرِيك أَنه عَالم فَلَا تناظره ". وَكَانَ يُقَال: " إِذا دخلت على قوم فاجلس حَيْثُ أجلسوك، فَكل قوم أعرف بعورتهم ". وَقَالَ عبد الله بن الْحسن بن الْحسن لِابْنِهِ: " يَا بني إحذر مشورة الْجَاهِل وَإِن كَانَ ناصحاً، كَمَا تحذر مكر الْعَاقِل وَإِن كَانَ عدوا، فيوشك أَن يورطك

الْجَاهِل بمشورته فِي إغراره فَيَسْبق إِلَيْك مكر الْعَاقِل، وَإِيَّاك ومعاداة الرِّجَال، فَإِنَّهَا لن تعدمك مكر حَلِيم ومفاجأة جَاهِل ". قَالَ بعض الْحُكَمَاء: لَيست الفتوة الْفسق، والفجور، إِن الفتوة طَعَام مَأْكُول ونائل مبذول، وَبشر مَقْبُول، وعفاف مَعْرُوف وأذى مكفوف ". كَانَت هِنْد بنت الْمُهلب تَقول: " إِذا رَأَيْت النعم مستدرة، فبادرها بتعجيل الشُّكْر قبل حُلُول الزَّوَال ". وَكَانَ يُقَال: " خَمْسَة تقبح من خَمْسَة: ضيق ذرع الْمُلُوك وَسُرْعَة غضب الْعلمَاء، وفحش النِّسَاء، وَمرض الْأَطِبَّاء، وَكذب الْقُضَاة ". وَكَانَ يُقَال: " شَرّ خِصَال الْمُلُوك الْجُبْن على الْأَعْدَاء، وَالْقَسْوَة على الضُّعَفَاء وَالْبخل عِنْد الْإِعْطَاء ". وَكَانَ يُقَال: " من ستر على مُؤمن فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهُ ". وَيُقَال: " السّتْر لما عَايَنت، أحسن من إذاعة مَا ظَنَنْت ". قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ لمعاوية: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تكونن بِشَيْء من أُمُور رعيتك أَشد تفقداً مِنْك لخلة الْكَرِيم أَن تعْمل فِي سدها والطغيان: اللَّئِيم أَن تعْمل فِي قلعه، واستوحش من الْكَرِيم الجائع واللئيم الشبعان، فَإِن الْكَرِيم يصول إِذا جَاع واللئيم إِذا شبع ". قَالَ الْمَدَائِنِي: قارف الزُّهْرِيّ ذَنبا فصاح، فاستوحش من أَهله، فَلَقِيَهُ

عَليّ بن الْحُسَيْن فَقَالَ لَهُ: يَا زهري لقنوطك من رَحْمَة رَبك الَّتِي وسعت كل شَيْء أعظم عَلَيْك من إكبارك ذَنْبك، فَقَالَ الزُّهْرِيّ: {الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته} [الْأَنْعَام: 124] . قَالَ بعض الأكابر لِبَنِيهِ: لَا يمنعنكم من الدَّوَابّ خوف مؤونتها، فَإِن الله لم يخلق دَابَّة إِلَّا خلق لَهَا رزقها، فَإِن جعلهَا لكم رزقها عنْدكُمْ. وَكَانَ يُقَال: أَربع يسود بهَا العَبْد: الْعلم، وَالْأَدب، وَالْفِقْه، وَالْأَمَانَة. وَكَانَ يُقَال: " جَالس الكبراء، وناطق الْحُكَمَاء، وَسَائِل الْعلمَاء، فَإِن مؤاخذتهم كَرِيمَة، ومجالستهم غنيمَة، ومحبتهم سليمَة ". وَكَانَ يُقَال: " أَربع لَا يَنْبَغِي لشريف إِن يأنف مِنْهُنَّ، وَإِن كَانَ أَمِيرا: " قِيَامه عَن مَجْلِسه لِأَبِيهِ، وخدمته للضيف، وقيامه على فرسه، وَإِن كَانَ لَهُ مائَة عبد، وخدمته للْعَالم ليَأْخُذ من

علمه ". أقبل كَعْب الْأَحْبَار إِلَى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فأدناه إِلَى جَانِبه، فَتنحّى قَلِيلا، فَقَالَ لَهُ عمر: مَا مَنعك من الْجُلُوس إِلَى جَانِبي؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لِأَنِّي وجدت فِي حِكْمَة لُقْمَان فِيمَا وصّى ابْنه أَن قَالَ: " يَا بني إِذا قعدت إِلَى ذِي سُلْطَان، فَلْيَكُن بَيْنك وَبَينه مقْعد رجل، فَلَعَلَّهُ أَن يَأْتِيهِ من هُوَ آثر عِنْده مِنْك، فَيحْتَاج أَن تنتحي لَهُ عَن مجلسك، فَيكون ذَلِك نقصا عَلَيْك وشيناً. وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار: مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة: " ليكن وَجهك بسطاً تكن أحب إِلَى النَّاس مِمَّن يعطيهم الذَّهَب وَالْفِضَّة، واشكر لمن أنعم عَلَيْك، وأنعم على من شكر لَك، فَإِنَّهُ لَا زَوَال للنعم إِذا شكرت، وَلَا إِقَامَة لَهَا إِذا كفرت، وَالشُّكْر زِيَادَة فِي النعم، وأمان من الْغَيْر ". قَالَ بعض حكماء الْفرس لِابْنِهِ: " يَا بني خير مَا تكون أَن تكون مَعَ من هُوَ خير مِنْك، وَإِن غنما حسنا أَن يكون عشيرك وخليطك أفضل مِنْك فِي الْعلم، فتقتبس من علمه، وَأفضل مِنْك فِي المَال فيفيدك من مَاله، وَأفضل مِنْك فِي الدّين، فتزاد صلاحاً بصلاحه ".

الباب السابع في السؤدد والمروءة من ذوي الفضل والفتوة

قَالَ مَكْحُول: التقى يحيى بن زَكَرِيَّا - عَلَيْهِمَا السَّلَام - بِعِيسَى ابْن مَرْيَم - عَلَيْهِ السَّلَام - فَضَحِك عِيسَى فِي وَجه يحيى وَصَافحهُ وَعَبس يحيى، فَقَالَ يحيى يَا ابْن خَالَتِي مَا لي أَرَاك ضَاحِكا كَأَنَّك قد أمنت؟ فَقَالَ لَهُ عِيسَى: يَا بن خَالَتِي مَا لي أَرَاك عَابِسا كَأَنَّك قد يئست؟ فَأوحى الله إِلَيْهِمَا: " أحبكما إِلَيّ أبشكما لصَاحبه ". قَالَ أَعْرَابِي: " من اسْتَطَاعَ أَن يمْنَع نَفسه فِي أَرْبَعَة أَشْيَاء فَهُوَ خليق أَلا ينزل بِهِ من الْمَكْرُوه مَا نزل بِغَيْرِهِ: العجلة، واللجاجة، وَالْعجب، والتواني. فثمرة اللجاجة الْحيرَة، وَثَمَرَة العجلة الندامة، وَثَمَرَة الْعجب البغضة، وَثَمَرَة التواني الذلة ". (الْبَاب السَّابِع فِي السؤدد والمروءة من ذَوي الْفضل والفتوة) قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " تجافوا عَن عُقُوبَة ذِي الْمُرُوءَة مَا لم يَقع حد، فَإِذا أَتَاكُم كريم قوم فأكرموه ".

وَكَانَت الْعَرَب تسود على أَشْيَاء. أما مُضر فَكَانَت تسود ذَا رأيها. وَأما ربيعَة فَكَانَت تسود من أطْعم الطَّعَام وَأما الْيمن: فَكَانَ تسود ذَا النّسَب وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة لَا تسود إِلَّا من تكاملت فِيهِ سِتّ خِصَال: " السخاء، والنجدة، وَالصَّبْر والحلم، وَالْبَيَان، والموضع، وَصَارَت فِي الْإِسْلَام سبعا بالعفاف ". قيل لقيس بن عَاصِم الْمنْقري: بِمَ سدت قَوْمك؟ قَالَ: " ببذل الندى وكف الْأَذَى، وَنصر الْمولى ". قَالَ مُحَمَّد بن عمر التَّيْمِيّ: " مَا شَيْء أَشد من حمل الْمُرُوءَة، قيل: أَي شَيْء الْمُرُوءَة؟ قَالَ: لَا تقل شَيْئا فِي السِّرّ تَسْتَحي مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَة ". قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد الْكَلْبِيّ: كَانَ سلم بن نَوْفَل الديلِي سيد بني كنَانَة، فجرح رجل ابْنه، فَأتي بِهِ فَقَالَ لَهُ: مَا أمنك من انتقامي؟ قَالَ: فَمَا سودناك إِلَّا لتكظم الغيظ، وَتَعْفُو عَن الْجَانِي، وتحلم عَن الْجَاهِل، وتحتمل الْمَكْرُوه، فخلى سَبيله " وَفِيه يَقُول الشَّاعِر: // (الطَّوِيل) //:

(يسود أَقوام، وَلَيْسوا بسادة ... بل السَّيِّد الْمَعْرُوف سلم بن نَوْفَل) قَالَ الْأَصْمَعِي: " جلس قوم فتذاكروا السؤدد بَينهم، فَقَالَ عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان: أما أَنا فمخبركم عَن نَفسِي من غير تَزْكِيَة لَهَا: إِذا الرجل أمكنني من نَفسه حَتَّى أَضَع معروفي عِنْده، فيده عِنْدِي مثل يَدي عِنْده، وَإِذا الرجل جَاءَنِي من خوف فَلم أبذل دمي دون دَمه فقد قصرت بحسبي، وَلَو أَن أهل الْبُخْل لم يدْخل عَلَيْهِم من بخلهم إِلَّا سوء ظنهم برَبهمْ فِي الْخلف لَكَانَ عَظِيما ". قَالَ عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا: " إِنَّا نعد الْجُود والحلم السؤدد، ونعد العفاف وَإِصْلَاح المَال الْمُرُوءَة ". سَأَلَ مُعَاوِيَة الْحسن بن عَليّ عَلَيْهِمَا السَّلَام عَن الْكَرم والمروءة والنجدة، قَالَ: أما الْكَرم: فالتبرع بِالْمَعْرُوفِ، والإعطاء قبل السُّؤَال وَالْإِطْعَام فِي الْمحل. وَأما النجدة: فالذب عَن الْجَار فِي المواطن، والإقدام فِي الكريهة.

وَأما الْمُرُوءَة: فحفظ الرجل دينه، وإحرازه نَفسه من الدنس، وقيامه لضيفه، وَأَدَاء الْحُقُوق، وإنشاء السَّلَام ". وَكَانَ يُقَال: " يسود الرجل بأَرْبعَة أَشْيَاء: الْعقل، والعفة، وَالْأَدب، وَالْعلم ". وَكَانَ عمر بن هُبَيْرَة يَقُول: " عَلَيْكُم بمباكرة الْغَدَاء فَإِن فِيهَا ثَلَاث خِصَال: تطيب النكهة، وتطفى الْمرة، وَتعين على المرؤة، فَقيل لَهُ: كَيفَ تعين على الْمُرُوءَة؟ قَالَ: لَا تتوق نَفسه إِلَى طَعَام غَيره ". وَقَالَ الإِمَام عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام: " سِتّ من الْمُرُوءَة: ثَلَاثَة فِي الْحَضَر، وَثَلَاثَة فِي السّفر: فَأَما الَّتِي فِي الْحَضَر: فتلاوة كتاب الله، وَعمارَة مَسَاجِد الله، واتخاذ الإخوان فِي الله. وَأما الَّتِي فِي السّفر: الزَّاد، وَحسن الْخلق، والمزاح فِي غير معاصي الله ".

الباب الثامن في حسن الخلق من الخلق

(الْبَاب الثَّامِن فِي حسن الْخلق من الْخلق) قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لن تسعوا النَّاس بأموالكم، فسعوهم ببسط الْوَجْه، والخلق الْحسن ". وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " خَيركُمْ أحسنكم أَخْلَاقًا، الَّذين يألفون ويؤلفون ". وَأَتَاهُ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله مَا أفضل الْأَعْمَال؟ فَقَالَ: " حسن الْخلق ".

وَيُقَال: " فِي سَعَة الْأَخْلَاق كنوز الأرزاق " وَحسن الْخلق اكْتِسَاب محمدةٍ، وَدفع ضغينة ". قَالَ خلف الْأَحْمَر وصف لي رجل أَخا لَهُ فَقَالَ: " كنت لَا ترَاهُ الدَّهْر إِلَّا وَكَأَنَّهُ لَا غناء بِهِ عَنْك، وَأَنت إِلَيْهِ أحْوج، وَإِذا أذنبت غفر وَكَأَنَّهُ المذنب، وَإِن أَسَأْت إِلَيْهِ أحسن، وَكَأَنَّهُ الْمُسِيء ". قَالَ الْمَدَائِنِي: كَانَ سُلَيْمَان بن عبد الْملك يَقُول: " أكلنَا الطّيب ولبسنا اللين وركبنا الْغَارة، وَلم يبْق لي لَذَّة إِلَّا صديق أطرح مَعَه فِيمَا بيني وَبَينه مؤونة التحفظ ". وَقد قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " حسن الْخلق يمن، وَسُوء الْخلق شُؤْم، وَطَاعَة الْمَرْأَة ندامة، وَالصَّدَََقَة تدفع ميتَة السوء ".

شكا بعض الْأَنْبِيَاء إِلَى ربه - عز وَجل - سوء خلق امْرَأَته فَأوحى إِلَيْهِ: " إِنِّي قد جعلت ذَلِك حظك من الْأَذَى ". وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: " ثَلَاث من لم تكن فِيهِ لم يَنْفَعهُ الْإِيمَان: حلم يرد بِهِ جهل الْجَاهِل، وورع يحجزه عَن الْمَحَارِم، وَخلق يُدَارِي بِهِ النَّاس ". وَسُئِلَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من السَّيِّد؟ قَالَ: " الْجواد حِين يسْأَل، الْحَلِيم حِين يستجهل، الْكَرِيم المجالسة لمن جالسه، الْحسن الْخلق لمن جاوره ".

الباب التاسع في فضل المشورة والرأي من ذوي الاراء

(الْبَاب التَّاسِع فِي فضل المشورة والرأي من ذَوي الآراء) قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " المستشار بِالْخِيَارِ، إِن شَاءَ قَالَ: وَإِن شَاءَ سكت فلينصح ". وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: " من استبد بِرَأْيهِ هلك، وَمن شاور الرِّجَال شاركها فِي عقولها ". وَكَانَ الْأَحْنَف بن قيس يَقُول: " لَا يشاور الجائع حَتَّى يشْبع، وَلَا العطشان حَتَّى يرْوى، وَلَا الْأَسير حَتَّى يُطلق، وَلَا المضل حَتَّى يجد، وَلَا الرَّاغِب حَتَّى ينجح ". قَالَ زِيَاد لحاجبه عجلَان: " أَدخل عَليّ رجلا عَاقِلا حَتَّى أشاوره فِي أَمْرِي، فَقَالَ: لَا أعرف من تَعْنِي، فَقَالَ: إِن الْعَاقِل لَا يخفى فِي شكله وَكَلَامه وهيئته قَالَ: فَخرج فلقي رجلا بهياً، حسن الْوَجْه، مديد الْقَامَة، فَقَالَ لَهُ: ادخل فَدخل

فَقَالَ لَهُ زِيَاد: إِنِّي أُرِيد مشاورتك فِي أَمر، فَقَالَ: إِنِّي جَائِع، وَلَا رَأْي لجائع، فَقَالَ: أحضروه الطَّعَام فَلَمَّا قضى حَاجته مِنْهُ، قَالَ لَهُ: هَات، فَقَالَ: إِنِّي حاقن، وَلَا رَأْي لحاقن فَقَالَ: " يَا عجلَان أدخلهُ المتوضأ، فَلَمَّا خرج سَأَلَهُ عَن أمره، فَمَا قَالَ لَهُ شَيْئا إِلَّا وَأحسن الْجَواب عَنهُ ". وَكَانَ يُقَال: " لَا تدخل فِي مشورتك بَخِيلًا فيقصر بفعلك، وَلَا جَبَانًا فيخوفك مَا لَا تخَاف، وَلَا حَرِيصًا فيعدك مَا لَا يُرْجَى، فَإِن الْبُخْل والجبن والحرص طبيعة وَاحِدَة، يجمعها سوء الظَّن ". وَكَانَ يُقَال: " مَا استنبط الصَّوَاب بِمثل المشورة وَلَا حصنت النعم بِمثل الْمُوَاسَاة، وَلَا اكْتسبت البغضة بِمثل الْكبر ". اسْتَشَارَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور سلم بن قُتَيْبَة فَقَالَ لَهُ: مَا تَقول فِي أبي مُسلم؟ فَقَالَ: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} . [الْأَنْبِيَاء: 22] قَالَ: حَسبك.

وَقَالَ الشَّاعِر مادحاً لبَعْضهِم: // (الْبَسِيط) // (يُصِيب بِالرَّأْيِ مَا يعيا العيان لَهُ ... فِي الْقرب والمنتأى والريث والعجل) (تَمُوت أضغانه أَيَّام قدرته ... ومكنة الْحر تنسي فَاحش الخطل) وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: " نعم وَزِير الْعلم الرَّأْي الْحسن ". وَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: " لِأَن أخطئ وَقد استشرت أحب إِلَيّ من ان أُصِيب وَقد استبددت بِرَأْي، فأمضيه عَن غير مشورة؛ لِأَن الْمُقدم على رَأْيه يزري بِهِ أَمْرَانِ: تَصْدِيقه رَأْيه الْوَاجِب عَلَيْهِ تكذبيه، وَتَركه من المشورة مَا يزْدَاد فِي أمره بَصِيرَة " وَقد قَالَ الشَّاعِر: // (المتقارب) // (إِذا الْأَمر أشكل إِنْفَاذه ... وَلم ترمنه سَبِيلا فسيحا) (فَشَاور بِأَمْرك فِي سره ... أَخَاك أَخَاك اللبيب النصيحا) (فيا رُبمَا فَرح الناصحون ... وأبدوا من الرَّأْي رَأيا صَحِيحا) (وَلَا يلبث المستشير الرِّجَال ... إِذا هُوَ شاور أَن يستريحا)

الباب العاشر

(الْبَاب الْعَاشِر) (فِي فَضْلِ السَّخَاء والجُودِ المُفَضَّلِ فِي الوُجُودِ) رُوِيَ عَن النَّبِي _[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]_ أَنه قَالَ: " أَشد الْأَشْيَاء ثَلَاثَة: إنصاف النَّاس من نَفسك، ومواساة الْأَخ من مَالك، وَذكر الله _ تبَارك وَتَعَالَى _ على كل حَال ". أوحى الله _ تَعَالَى _ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا تقتل السامري فَإِنَّهُ سخي ". وَقَالَ عَلِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِنَّمَا أمْهل فِرْعَوْن من دَعْوَاهُ لسُهُولَة إِذْنه وبذل طَعَامه ". وَقيل لِلْحسنِ الْبَصْرِيّ رَحمَه الله: " من الْجواد؟ قَالَ: الَّذِي لَو كَانَت الدُّنْيَا لَهُ، فأنفقها لرَأى بعد ذَلِك عَلَيْهِ حقوقاً ". قَالَ الشَّاعِر: // (الوافر) // (يرى حَقًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ حقٌ ... وَمهما قَالَ فالحسن الْجَمِيل) (وَقد كَانَ الرَّسُول يرى حقوقاً ... عَلَيْهِ لأَهْلهَا وَهُوَ الرَّسُول)

وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " مَا من صباح إِلَّا وملكان يناديان: وَاحِد بالمشرق، وَآخر بالمغرب: الله أعْط منفق مَاله خلفا وممسك مَاله تلفاً ". قَالَ المَدَائِنِيُّ: " تحمل الْهُذيْل بن زفر بن الْحَارِث دياتٍ، فَأتى يزِيد بن الْمُهلب، فَقَالَ: أصلحك الله إِنَّه قد عظم شَأْنك عَن أَن يستعان عَلَيْك وَلست تصنع شَيْئا من الْمَعْرُوف إِلَّا وَأَنت أعظم مِنْهُ، وَلَيْسَ الْعجب أَن تفعل، وَإِنَّمَا الْعجب أَلا تفعل، قَالَ: حَاجَتك فَسَأَلَهُ أَن يُعينهُ فِي الدِّيات الَّتِي تحملهَا، فتحملها عَنهُ كلهَا، وَأمر لَهُ بِمِائَة ألف دِرْهَم، فَقبل الدِّيات، وَلم يقبل الْمِائَة ألف، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا موضعهَا ". وَكَانَ يُقَال: " اعتذار من منع أحسن من وعدٍ ممطول ". وَقَالَ حُذَيفة بْنُ اليَمانِ: رب رجل فَاجر فِي دينه، أخرق فِي معيشته، دخل الْجنَّة بسماحته ".

دَعَا الْحسن الْبَصْرِيّ _ رَحمَه الله _ حجاماً بِالدَّار يُسَوِّي شَاربه، فَأعْطَاهُ دِرْهَمَيْنِ، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: لَا تدنقوا، فيدنق عَلَيْكُم ". قَالَ الأصْمَعِيُّ: " كتب الْحسن إِلَى الْحُسَيْن _ عَلَيْهِمَا السَّلَام _ يعيب عَلَيْهِ إِعْطَاء الشُّعَرَاء، فَكتب إِلَيْهِ: خير المَال مَا وقِي بِهِ الْعرض ". اسْتعْمل الْوَلِيد بن عبد الْملك عُثْمَان بن حَيَّان الْمُزنِيّ على غزَاة الْبَحْر وَأمره بِالنَّفَقَةِ، فَلَمَّا ولي أَخُوهُ سُلَيْمَان بن عبد الْملك عَزله، وأغرمه من ذَلِك المَال ألف ألف دِرْهَم، قَالَ: فاجتمعت رجال من قيسٍ لذَلِك الْغرم، فَقَالُوا: إِلَى أَيْن تذهبون؟ وبمن تستعينون؟ ، قَالَ: فَقَالَ لَهُم قَائِل: هَل لكم فِي يزِيد بن الْمُهلب قَالَ: وَيزِيد يومئذٍ على شرطة سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَمَا وَرَاء بَابه، قَالَ: فَخَرجُوا حَتَّى دخلُوا عَلَيْهِ، فَتقدم عُثْمَان بن حَيَّان الْمُزنِيّ صَاحب الْغرم فَقَالَ: زَاد الله فِي توفيقك، وسرورك إِن الْوَلِيد _ رَضِي الله عَنهُ _ استعملني على غزَاة الْبَحْر، وَأَمرَنِي بِالنَّفَقَةِ فأنفقت، وَإِن سُلَيْمَان أَمِير الْمُؤمنِينَ _ مد الله فِي بَقَائِهِ _ أغرمني من ذَلِك المَال ألف ألف دِرْهَم، وَالله مَا يَسعهَا مَالِي، وَلَا يبلغهَا أملي، وَقلت: يزِيد بن الْمُهلب سيد أهل " الْعرَاق " وَصَاحب الْمشرق، ووزير الْخَلِيفَة، وَأَتَيْتُك لتحمل عني من ذَلِك مَا سهل عَلَيْك، وَمَا يبْقى وَالله عَليّ ثقيل، قَالَ: ثمَّ سكت وَتقدم

فلَان الْقَيْسِي خَال الْوَلِيد بن عبد الْملك فَقَالَ: أصلحك الله إِنَّه مَا خص هَذَا عمنَا، وَقد أَتَيْنَاك فِي أَمر لم نجد أحدا ينْفَرد بِهِ، وَلَا يساعد من يعين عَلَيْهِ، فَإِن تكف فَلَيْسَ بِأَكْثَرَ مَا فِيك، وَإِن تدفعني فَمَاله سواك، قَالَ: ثمَّ سكت وَتقدم عمر بن هُبَيْرَة الْفَزارِيّ فَقَالَ: أصلحك الله إِنَّا وَالله لَو وجدنَا أحدا دُونك لاخترناه، أَو خَلفك لتخطينا إِلَيْهِ، وَالله مَا الدُّخان بأدل على أَنه من النَّار، وَلَا العجاج أَنه من الرِّيَاح من ظَاهر أَمرك على بَاطِنه، وَقد أَتَيْنَاك شُفَعَاء لِابْنِ حَيَّان فِي هَذَا المَال، فَإِن تستكثره فقد يطلع مَا هُوَ دونه، وَإِن تستقله فقد ترجى لما هُوَ أَكثر مِنْهُ، قَالَ: ثمَّ سكت وَتقدم زفر الْكلابِي، فَقَالَ: أصلحك الله إِنَّا وَالله لم نزنك بِأحد من الْمُلُوك إِلَّا رجحت بِهِ، وَلم نقسك بِأحد مِنْهُم إِلَّا ارْتَفَعت عَلَيْهِ، وَلَا غَايَة يبلغهَا أحد إِلَّا وَقد بلغتهَا، أَنْت فِيهَا مقدم وحقك فِيهَا مُعظم، وَقد أَتَيْنَاك شُفَعَاء لِابْنِ حَيَّان فِي هَذَا المَال، وَالله مَا الْعجب من أَن تفعل، وَلَكِن الْعجب من أَلا تفعل، وَأَنت أَنْت: قَالَ: فَقَالَ أَبُو خَالِد: مرْحَبًا بكم وَأهلا إِن خير المَال مَا وقِي بِهِ الْعرض، وَإِنَّمَا لي من مَالِي مَا فضل عَن النوائب، وَلَو علمت أحدا أملأ بحاجتكم مني لأرشدتكم إِلَيْهِ فاحتكموا قَالُوا: نصف المَال، قَالَ: يَا غُلَام ادْفَعْ إِلَيْهِم خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم قَالَ: فَأخذُوا وَخَرجُوا، فَلَمَّا كَانُوا على بَاب السرادق قَالَ لَهُم قَائِل: إِلَى أَيْن تذهبون، وبمن تستعينون، وَالله مَا يُبَالِي يزِيد أنصفاً حمل أم المَال، فَارْجِعُوا فَرَجَعُوا، فَقَالَ: مَه، قَالُوا: قُلْنَا _ أصلحك الله _ قَالَ: قد

أقلتكم، قَالَ: المَال كُله، قَالَ المَال كُله، قَالَ: فَبعث إِلَيْهِ ابْن الرّقاع العاملي بِأَبْيَات فِيهَا: // (الطَّوِيل) // (فَلم ترعيناي كَمثل حمالَة ... تحملهَا كَبْش الْعرَاق يزِيد) (وَقَالُوا: أقل يَا بن الْمُهلب زلَّة ... فَقَالَ: أقلتم إِن ذَاك العتيد) (تحمل عَنْهُم ألف ألف برسله ... وَلَو أَنهم سالوا الْمَزِيد لزيدوا) (رأى عمر أَن لَيْسَ يحمل ثقلهَا ... سواهُ وَمَا عَن قَول تِلْكَ يحيد) روى أَبُو هُرَيْرَة _ رَضِي الله عَنهُ _ عَن النَّبِي _[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]_ أَنه قَالَ: " مَا من رجل إِلَّا وَله صيت فِي السَّمَاء، فَإِذا كَانَ صيته فِي السَّمَاء حسنا وضع فِي الأَرْض، وَإِذا كَانَ صيته سَيِّئًا وضع فِي الأَرْض ". كَانَ عبد الله بن جَعْفَر يَقُول: " لَيْسَ الْجواد الَّذِي يُعْطي بعد الْمَسْأَلَة وَلَكِن

الْجواد الَّذِي يبتدى؛ لِأَن فِي بذل الْوَجْه أَكثر مِمَّا يصل إِلَيْهِ ". وَخرج رجل من بني جَعْفَر بن كلاب مُتَوَجها إِلَى عبد الله بن عَامر بن كريز، فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ الْحَاجِب: إِن الْأَمِير نَائِم، فأقم بموضعك حَتَّى ينتبه قَالَ: فَأَنْشَأَ الْجَعْفَرِي يَقُول: // (الْبَسِيط) // (لَا يحجب الْجُود عَن كف الْجواد وَلَا ... ترمى البوازي على أم الشواهين) (إِن الْجواد إِذا مَا جَاءَ سائله ... لم ينظر الْبَذْل أَفْوَاه الموازين) (لم ينفض المَال نفض الطل ينْقضه ... طير السَّمَاء بأعواد الْبَسَاتِين)

فَقَالَ عَبْدُ الله بْنُ عَامرٍ لخازنه: كم ورد عَلَيْك الْيَوْم من المَال؟ قَالَ: مائَة ألف من جندي " سَابُور "، قَالَ: ادفعها إِلَى الْجَعْفَرِي بِلَا ميزَان كَمَا قَالَ: فقبضها وَأَنْشَأَ يَقُول: // (الْكَامِل) // (لله عبد الله من رجلٍ ... ضخم الدسيعة طَاهِر الأثواب) (يهب المئين من الألوف وَلَا ... يرى لي العداة ودسعة الْحجاب) (بل بَابه أَعلَى الْبِقَاع مبرزاً ... للمرملين وَسَائِر الْخطاب) عوتب عبد الله بن جَعْفَر على كَثْرَة إفضاله فَقَالَ: " إِن الله عودني أَن يفضل عَليّ، وعودته أَن أفضل على عباده، فأكره أَن أقطع الْعَادة عَنْهُم، فتقطع الْعَادة عني ". قدم رجل من أهل الْمَدِينَة على عمر بن عبيد الله بن معمر التَّيْمِيّ " بِفَارِس "، فَأَقَامَ بِبَابِهِ لَا يُؤذن لَهُ، فارتحل وَهُوَ يَقُول: // (الطَّوِيل) //

(رَأَيْت أَبَا حَفْص تجهم مقدمي ... ولط بقول عذره ومواربا) (فَلَا تحسبني أَن تجهمت مقدمي ... أرى ذَاك عاراً أَو أرى ذَاك ذَاهِبًا) (ومثلي إِذا مَا بَلْدَة لم تواسه ... تيَمّم أُخْرَى واستدام العواقبا) فبلغت أبياته ابْن معمر، فَأرْسل فِي طلبه حَتَّى رد، فَأدْخل عَلَيْهِ، فَقَالَ: حَدثنِي عَنْك أتضربني برحمٍ ٍ بيني وَبَيْنك؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَهَل من يَد تَعْتَد بهَا عِنْدِي؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنِّي كنت إِذا دخلت مَسْجِد رَسُول الله _[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]_ تركت النَّاس يمنة وشأمةً، وجئتك حَتَّى أَجْلِس إِلَيْك، قَالَ: وَأَبِيك إِنَّهَا ليد، كم أَقمت ببابي؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَالَ: أعْطه أَرْبَعِينَ ألفا لكل يَوْم ألف دِرْهَم. كتب مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ إِلَى الْمَأْمُون _ رَحمَه الله _ يشكو غَلَبَة الدّين وضيق الْيَد، فَوَقع على كِتَابه: فِيك خلَّتَانِ: الْحيَاء والسخاء. فَأَما الْحيَاء فَهُوَ الَّذِي مَنعك عَن أَن ترفع إِلَيْنَا خبرك. وَأما السخاء فَهُوَ الَّذِي أنفذ مَا بِيَدِك، وَأَنت كنت حَدَّثتنِي وَأَنت على قَضَاء الرشيد رَحمَه الله: أَن النَّبِي _[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]_ قَالَ للزبير: " يَا

زبير إِن بَاب الرزق بِإِزَاءِ الْعَرْش ينزل الله على عباده على قدر نفقاتهم، فَمن كثر لَهُ، وَمن قلل قلل عَلَيْهِ ". وَقد أمرنَا لَك بِمِائَة ألف دِرْهَم، فاتسع فِي ذَات يدك، فَقَالَ الْوَاقِدِيّ: وَالله لمذاكرته إيَّايَ الحَدِيث، وَقد نَسِيته أحب إِلَيّ من جائزته. مدح ابْن حيوس الشَّاعِر نصر بن مَحْمُود بن نصر صَاحب " حلب " بقصيدة فَكَانَ مِمَّا قَالَ فِيهَا: // (الطَّوِيل) // (ثَمَانِيَة لم تفترق مذ جمعتها ... وَلَا افْتَرَقت مَا فر عَن نَاظر شفر) (ضميرك وَالتَّقوى وجودك والغنى ... ولفظك وَالْمعْنَى وعزمك والنصر)

(وَكَانَ لمحمود بن نصر سجية ... وغالب ظَنِّي أَن سيخلفها نصر) فَقَالَ: وَالله لَو قَالَ: سيضعفها نصر لأضعفتها لَهُ، وَأمر لَهُ بِمَا أَمر لَهُ أَبوهُ، وَهُوَ ألف دِينَار فِي طبق فضَّة، وَكَانَ على بَابه جمَاعَة من الشُّعَرَاء فَقَالَ أحدهم: // (الطَّوِيل) // (على بابك الْمَعْمُور منا عصابةٌ ... مفاليس فَانْظُر فِي أُمُور المفاليس) (وَقد قنعت مِنْك الْعِصَابَة كلهَا ... بِعشر الَّذِي أَعْطيته لِابْنِ حيوس) (وَمَا بَيْننَا هَذَا التَّفَاوُت كُله ... وَلَكِن سعيدٌ لَا يُقَاس بمنحوس) فَقَالَ: وَالله لَو قَالَ: بِمثل الَّذِي أَعْطيته لِابْنِ حيوس لأعطيتهم ذَلِك، وَأمر لَهُم بِنصفِهِ. قَالَ مُحَمِّدُ بْنُ أيُّوْبَ البَجَلِيُّ: اجْتمع النَّاس بِبَاب أبان بن الْوَلِيد البَجلِيّ، وَفِيهِمْ أَن بيض، فتذاكروا الْجُود وأجواد الْعَرَب، فَقَالَ بَعضهم: حَاتِم، وَقَالَ

بَعضهم: كَعْب بن مامة، وَقَالَ: فَقَالَ بَعضهم: طَلْحَة الطلحات أَجود أهل الْإِسْلَام، وَأَبَان مشرف عَلَيْهِم يسمع كَلَامهم، فَهَيَّأَ ابْن بيض أبياتاً، ثمَّ أذن لَهُم أبان فَدَخَلُوا فَقَالَ: فيمَ كُنْتُم تتحدثون؟ فقالم ابْن بيض فَقَالَ: // (الْخَفِيف) // (زعم النَّضر والمغيرة مِنْهُم ... وَكَذَا البخْترِي وَابْن عِيَاض) (أَن جود الْعرَاق بَاب فولى ... يَوْم بانوا بطلحة الْفَيَّاض) فَقَالَ لَهُ إبان: فَمَاذَا قلت؟ (كذبُوا وَالَّذِي يحجّ لَهُ الرك ... ب سرَاعًا منفضاتٍ عراض) (لَا يَمُوت الندى وَلَا مَادًّا ... م أبان مناخ ذِي الإنفاض)

(فَإِذا مَا المليك نَادَى أَبَانَا ... أذن الْجُود والندى بانقباض) فَقَالَ لَهُ إِبَانُ: احتكم، فحسده رجل فَقَالَ: أصلحك الله لَا تفْسد على الْأَمِير عطيته، يَعْنِي خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي، فَإِنَّهُ أعْطى رجلا على بَيْتَيْنِ عشْرين ألف دِرْهَم، فَقَالَ: لَوْلَا مَا قلت لأعطيته عشْرين وَعشْرين فَأعْطَاهُ عشْرين ألف دِرْهَم. كَانَ يزِيد بن عمر بن هُبَيْرَة الْفَزارِيّ سخياً، وَكَانَ بِخِلَاف أَبِيه، وَكَانَ أَبوهُ بَخِيلًا فَحَضَرَ مهرجان، فَجَلَسَ يزِيد فِي قصر الْحجَّاج، وَأمر بِطَعَام يتَّخذ لَهُ يطعمهُ أَصْحَابه ثمَّ جلس على سَرِير فِي وسط الدَّار فِي صحن دَار الْحجَّاج، وَأذن لأَصْحَابه فَدخل فِيمَن دخل خلف بن خَليفَة الأقطع، فَجَلَسَ حِيَال وَجهه يذكر بِنَفسِهِ، وَجَاء الدهاقون بوظائف المهرجان من المَال وآنية الذَّهَب وَالْفِضَّة واللباس والفرش فملئوا بهَا الدَّار، فَأقبل ابْن هُبَيْرَة يَقُول لأَصْحَابه: يَا فلَان خُذ يَا فلَان، ويومئ إِلَى الْأَشْيَاء ويعطيهم المَال، وَيفْعل ذَلِك بِمن إِلَى جنب خلفٍ، وَيَتَعَدَّى خلفا، فَأقبل خلف يرفع رَأسه إِلَيْهِ يرِيه أَنه يسبح، فَلَمَّا كثر ذَلِك عَلَيْهِ، وَنظر إِلَى مَا فِي الدَّار ينفذ ويولى قَامَ فَقَالَ: // (المتقارب) // (ظللنا نُسَبِّح فِي المهرجان ... فِي الدَّار من حسن جاماتها) (فسبحت ألفا فَلَمَّا انْقَضتْ ... عجبت لنَفْسي وإخباتها) (وشرعت رَأْسِي فَوق الرُّءُوس ... لأرفعه فَوق هاماتها) (لأكسب صَاحِبَتي صَحْفَة ... تغيظ بهَا بعض جاراتها) (وأبدلها بصحاف الْأَمِير ... قَوَارِير كَانَت لجداتها) قَالَ: فَضَحِك ابْن هُبَيْرَة، وَقَالَ: خُذ ذَاك الْجَام فَأعْطَاهُ جَام ذهبٍ كثير

الْوَزْن، فَأَخذه فِي يَده ثمَّ قَامَ وَقَالَ: // (الرمل) // (أَصبَحت صَحْفَة بَيْتِي من ذهب ... وصحاف النَّاس حَولي من خشب) (شفني الْجَام فَلَمَّا نلته ... زين الشَّيْطَان لي مَا فِي الجرب) (إِن مَا أنفقت باقٍ كُله ... يذهب الْبَاقِي وَيبقى مَا ذهب) قَالَ: فَضَحِك ابْن هُبَيْرَة وَقَالَ: خُذ خُذ فَأعْطَاهُ حَتَّى أرضاه. قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " اطْلُبُوا الرزق إِلَى الرُّحَمَاء من أمتِي تعيشوا فِي أَكْنَافهم، وَلَا تَطْلُبُوا إِلَى القاسية قُلُوبهم، فَإِن عَلَيْهِم تنزل اللَّعْنَة ". نزل بأعرابي ضيف فتذمرت امْرَأَته وضجرت، فَقَالَ لَهَا: اسكتي وَيلك، ثمَّ قَالَ: // (الْبَسِيط) // (من شَرّ أيامك اللَّاتِي خلقت لَهَا ... إِذا فقدت ندا صوتي وزواري) فَأَنْشد الْأَعرَابِي يَقُول: // (الْبَسِيط) // (إِذا تكرهت أَن تُعْطِي الْقَلِيل وَلم ... تقدر على سعةٍ لم يظْهر الْجُود) (أَوْرَق بِخَير ترجى للنوال فَمَا ... ترجى الثِّمَار إِذا لم يورق الْعود) (بَث النوال وَلَا يمنعك قلته ... فَكلما سد فقرا فَهُوَ مَحْمُود)

(إِن الْكَرِيم ليخفي عَنْك عسرته ... حَتَّى ترَاهُ غَنِيا وَهُوَ مجهود) كَانَ لبيد بن ربيعَة لَا يمر يَوْم إِلَّا هرق فِيهِ دَمًا، فَكَانَ يفعل ذَلِك إِذا هبت الرِّيَاح، قَالَ: وَرُبمَا ذبح الشَّاة إِذا ضَاقَ، فَبعث إِلَيْهِ الْوَلِيد بن عقبَة بِمِائَة نَاقَة، فَلَمَّا جَاءَتْهُ، قَالَ لابنته: أُجِيبهُ عني، وَكَانَ لبيد قد ترك نظم الشّعْر، وَكَانَ الْوَلِيد كتب إِلَيْهِ بأبياتٍ من الشّعْر يمدحه بهَا، ويحثه على فعل الْخَيْر. // (الوافر) // (أرى الْحداد يشحذ شفرتيه ... إِذا هبت ريَاح أبي عقيل) (أغر الْوَجْه أَبيض عامري ... طَوِيل الباع كالسيف الصَّقِيل)

(وفى ابْن الْجَعْفَرِي بحلفتيه ... على العلات وَالْمَال الْقَلِيل) فَقَالَت الصبية مجيبة لَهُ: // (الوافر) // (إِذا هبت ريَاح أبي عقيل ... دَعونَا عِنْد هبتها الوليدا) (طَوِيل الباع أَبيض عبشمياً ... أعَان على مروءته لبيدا) (بأمثال الهضاب كَأَن ركباً ... عَلَيْهَا من بني حامٍ قعُودا) (أَبَا وهبٍ جَزَاك الله خيرا ... نحرناها وأطعمنا الثريدا) (فعد إِن الْكَرِيم لَهُ معاد ... وظني بِابْن أروى أَن يعودا) فَقَالَ: أَحْسَنت لَوْلَا أَنَّك سَأَلت، فَقَالَت: إِن الْمُلُوك لَا يستحيا من مسألتهم، فَقَالَ: وَأَنت فِي هَذَا أشعر. قَالَ بعض الْعلمَاء: " أقوى النَّاس أعودهم بقوته على الضُّعَفَاء، وأبلغهم أنطقهم عَن أهل الغي، وأحقهم بِالنعْمَةِ أشكرهم لَهَا، وأجودهم أصوبهم بعطيته موضعا. وَقَالَ عَلِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام: " حسب الْبَخِيل من بخله سوء ظَنّه بربه، وَمن

أَيقَن بالخلف جاد بِالْعَطِيَّةِ ". وَكَانَ المَأمُونُ يَقُول: " سادة النَّاس فِي الدُّنْيَا الأسخياء، وَفِي الْآخِرَة الأتقياء، وَأَن الرزق الْوَاسِع لمن لَا يسْتَمْتع بِهِ بِمَنْزِلَة طَعَام مَوْضُوع على قبر، أُفٍّ للبخل، لَو كَانَ طَرِيقا مَا سلكته، وَلَو كَانَ قَمِيصًا مَا لبسته ". قَالَ أبُو مَعْيوفٍ الحِمْصِيُّ: " حَدثنِي أبي أَنه حضر الحكم بن الْمطلب حِين مَاتَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هون عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ وَكَانَ، قَالَ: فَذكرت محاسنه، فأفاق فَقَالَ من الْمُتَكَلّم؟ فَقلت لَهُ: أَنا، فَقَالَ: إِن ملك الْمَوْت يَقُول: إِنِّي بِكُل سخي رَفِيق، ثمَّ كَأَنَّهُ كَانَ فَتِيلَة انطفأت ". آخر الْكتاب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وصلواته على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ وَوَافَقَ الْفَرَاغ مِنْهُ على يَد جَامعه الْفَقِير إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى مُحَمَّد ابْن مَنْصُور بن جَيش الْوَاعِظ الْمَعْرُوف بِابْن الْحداد عَفا الله عَنهُ، وَذَلِكَ فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث عشر من جُمَادَى الآخر من سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة حامداً الله تَعَالَى، ومصلياً على نبيه مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا.

§1/1